177

296

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: 296
Page 2: 296

א א

نهاد:تصميم الغالف

Page 3: 296

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 296

٣

إهــــداء

أخوتيإلى

ايتيو لكم سوى حبي وعمري ورأقدمهليس عندي ما

بهيجة

Page 5: 296

٤

رائحة اللحظات

بهيجة حسين

ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ كيف أخذت القرار؟

جواز السفر، بطاقة . الغربة... الرحيل... الرحيل

الطائرة،

بالتوفيق، ودموع أجمع فيها أشيائي، وأمنياتئبحقا

محبوسة، وابتسامات دامعة، وكلمات تشجيع، ومطار

وطائرات، وصوت فتاة مل تكرار اإلعالن عن إقالع طائرة

تمتد أفاعي . صوت لزج لزوجة األفاعي. أو وصول أخرى

.الصوت وتلتف حولي

أريد أن أتراجع، أن أمزق جواز السفر وبطاقة الطائرة

أريد أن . أفرغ حقائبي وأضع محتوياتها في دوالبي الصغيرو

جهة إلى الطائرة المتإقالعال تعلني عن موعد : أقول للفتاة

.تونس

ترددت داخلي مبرراتي للسفر، تردد صوت المنطق

.والعقل، فانشطرت نصفين

Page 6: 296

٥

كالذبيحة سرت بينهم )). اقترب موعد الطائرة هيا بنا((

كمن ظل طوال حياته . وما خبرتهنسيت كل ما تعلمته. تائهة

قلبي وقع في قبضة يد حديدية شريرة يجري كان لهاثي،

ظلت تضغط عليه، ال تريد أن تخنقه وال تريد أن تخفف من

إحساس بالخوف يشل خطواتي، وكأني أسير إلى . قبضتها

.حبل المشنقة

. خرساء حملتني السيارة من بيتي إلى المطار الملعون

قبل . صرخت. داست على أجزائي. قرنقطعت المسافة في

ارتدت إلى قلبي تسحقه أن تخرج صرختي من بين شفتي

.تشبثت باألرض. وتسحقني

)).لن أترك مصر((

)).ما زالت أمامك إجراءات السفر، إلى اللقاء-

سور حديد خلفه سجلت غربتي وانتظرت إقالع

.الطائرة

وقع أقدامي فوق درجاته، . صعدت سلم الطائرة

، فرح خائف يزحف بدهشة ءجسدي الصغير يحتل الفضاو

.من تحت أقدامي، يعلن خوض التجربة

Page 7: 296

٦

وصلت مطار تونس في الواحدة بعد منتصف الليل

.بتوقيت القاهرة

. مرحبا بك-

ماذا؟-

كرر ضابط الجوازات ترحيبه، وابتسامة ودودة تمأل

.وجهه

.وقفت بجوار حقائبي ال أعرف ماذا أفعل

اب تونسي كان يشاركني هو وزوجته مني شاقترب

.الفرنسية مقعد الطائرة وسألني عن وجهتي

ال أعرف، معي عنوان صديقة تونسية يمكن أن -

.أذهب إليها ويمكن أن أبيت الليلة في فندق

.األفضل أن نذهب إلى صديقتك -

- ا مظلما تناثرت على جانبية ا قطع طريقركبنا تاكسي

م مكنني ضوؤها الخافت من تحديد معاليأعمدة اإلنارة التي لم

.الطريق

- ولكن ال .. بلدكم جميل.. ا في مصرقضينا أسبوع

.شيء فيه بال ثمن

: متحفزة ومستنفرة رددت عليه

Page 8: 296

٧

ماذا تقصد؟

أقصد أن األسعار مرتفعة، وفي كل مكان تجدين من

.لشوارع وفي المساجد والمتاحفايأخذ منك جنيهاتك في

.معذرة

هل أتيت زيارة إلى . حالةة على أيلست مسئول

تونس؟

.إنها محطة انتقال إلى الجزائر للعمل بها

ق رحلتي ورغم رغم تبادل الحديث بيني وبين رفي

بالخوف لم يتركني لحظة مساعدته لي إال أن إحساسي

.واحدة

ماذا سأفعل في بلد غير مصر؟ كيف سأواجه الحياة،

المجهول الذي قررت ا قادرة على مواجهة هذاوهل أنا حق

فاقتحامه؟ هل قررت اقتحامه بإرادتي أم أنني دتعا دفع

ا القتحامي هذا المجهول؟الختراقه؟ وكم سأدفع ثمن

-بصعوبة شديدة فهمت حديث حسينة وأمها وشقيقتها

وإن كان دفء -يةا من العربية والفرنسالذي كان خليط

مئنان جلب في كياني كله فشعرت باطاستقبالهم لي سرى

.النوم إلى عيوني

Page 9: 296

٨

بدلت مالبسي ودسست جسدي تحت الغطاء ورحت

هل هذا السقف وهذه الجدران بشر؟ . أتأمل السقف والجدران

أم هو البيت؟

الطيبة قطع تأملي وإحساسي باألمان بين هذه األسرة

انتين من كل مالبسهما، وكأنهما رؤيتي لحسينة وشقيقتها عري

اري تحت األغطية، وفي دي اندستا بجوا غير عالم تفعال شيئ

بات عميق، وأنا أبحث عن تفسير لهذا ا في سدقائق راحت

التعرى، وأبتعد بجسدي قدر اإلمكان عن جسد حسينة الراقدة

.بجواري

كما كنت أحلم . لم يكن السرير سريري وال البيت بيتي

.طوال الليل

.لم أجد ما أواجه به هذه الحقيقة سوى دموعي

ا لم أفهم منه ا كثيرني أم حسينة، وقالت كالماحتضنت

.اهللا معك: سوى

ا، حتى نخرج تناولنا قطع الخبز بالزبد مع القهوة سريع

لفحني الهواء . ينةمع والد حسينة في سيارته إلى وسط المد

ابتسمت أم حسينة التي نبهتني . رتدي المعطفالبارد فعدت أل

مستشهدة بالشمس لبرودة الجو ولكني أكدت أن الجو دافئ

Page 10: 296

٩

لحقتني بالمظلة وهي تحذرني من . الحمراء التي تمأل الغرفة

ي المكون من بيوت ذات عبرنا المربع السكن. خداع الشمس

.حيط بكل بيت حديقته الخاصةطابق واحد ت

تساقط المطر بغزارة، فاحتمينا بمظالت المحالت التي

ألطرش الحليم حافظ وفريد ادفاجأتني بغناء أم كلثوم وعب

شربت أصواتهم، وشربت اللهجة . والشيخ إمام وأحمد عدوية

المصرية التي احتفى بها كل من سمع صوتي من الباعة

.والمشترين في المحالت التي دخلناها

طال الصمت بيني وبين حسينة ونحن جالستان أمام

لم يقطع صوتنا سوى . بحيرة البط في حديقة الحيوانات

الصوت الوحيد في صمت .ي للتدخيندعوتي لها أو دعوتها ل

لم أكن أعرف هل . ا مني ومنهاا خافتالعالم حولنا كان نحيب

نفسي؟ كنت أعرف أنها تبكي خديعةكنت أبكيها أم أبكي

ه، هذا الحلم الذي انخطف وكنت أبكي. عالء لها، كما تعتقد

اسريعا قليلة بين ، جاء إلى تونس، التقي بها، أقام شهور

اطلين عن العمل من أبناء تونس وعاد إلى مصر آالف الع

في صندوق ومنها إلى السعودية ثم إلى مصر محموال

.للموتى

Page 11: 296

١٠

ى أنني سوف أعود إلعالء أم هل سألقي مصيرك يا

أجتر ابتساماتك التي مصر، وأتذكر طرقاتك على باب بيتي؟

أعيش تدفق عطائك لي، وأبحث عنه بين آالف مألت أيامنا؟

وماذا أقول لها؟ . تقي بهم فال أجده، فقد رحل معكالبشر، سأل

عالء لم يخدعك أنت : أأصرخ في وجهها وفي وجه الموت

خدعني بموته وأخذ معه . افقط يا حسينة، فقد خدعني أنا أيض

.إحساسي باألمان الذي مأل حياتي لمجرد أنه موجود

ألم يخبرك بموعد عودته لي؟،وماذا عن عالء

يأست من أن أبدأ أنا باإلجابة قطعت صمتها بعد أن

ماذا أقول لها؟ عالء لم يكن . التي انتظرتها منذ وصولي

مازلت أشعر بيده تمسح . مجرد صديق، كان صديقي األقرب

شعري، بدفء صدره يحتوي ألمي ودموعي، بفرح طفل في

.عينيه وهو يراقب فرحتي الداخلية

قة عالء بخير، سافر للعمل في السعودية ولكن في منط

ا إلى سوف يعود قريب. نائية، ومن الصعب اتصاله بك منها

.مصر

لم أفكر بكذبتي التي ألقيتها وتمنيت أن أصدقها أنا

تمنيت أن تكون هي الحقيقة. ا كما صدقتها حسينةأيض.

Page 12: 296

١١

قات حسينة وأشقائها وزوجاتهم يامتأل البيت بصد

اسجت سريعخيوط األلفة ن. جاءوا ليرحبوا بي. وأطفالهم

حتج لمساعدة أصدقاء أصدقائي لم أ حتى أنني،بيني وبينهم

من العاملين بجامعة الدول العربية أو الكتاب، فقد قدم لي

ونسي كل ما أحتاجه ولم أحتج سوى فقراء الشعب الت

.إلحساس باألمان في أول أيامي بعيدة عن مصرل

فقراء وعاطلون عن العمل وقسمهم رأس سي الحبيب

. عططول ولكن لم أستأ أن أبقى بينهم فترة تمنيت. بورقيبة

كان على أن أسرع بالذهاب للجزائر لكي أستلم عملي بها،

ما سأحصله من نقود، ربما أتمكن من العودة إلى مأللمل

ا يصلح لسكنى البشر يأويني أستأجر به بيتمصر بمبلغ

وألملم داخله ما تبقى لعالقتنا من إمكانية . وزوجي

في هذا الذي تبقى عله يقوى على ما أكلته أنفخ. االستمرار

.سنوات إجهاض الحلم

ا من جهزت لي أم حسينة ترموس شاي وبعض

ولم تنس أن تحذرني من االحتكاك بالشاوية، وهم ،األطعمة

لم تكن تدرك أن تحذيرها هذا . سكان المدينة التي سأعمل بها

فكرت معه أن أعود من حيث أتيت منقذة . يصيبني برعب

Page 13: 296

١٢

ا جاء معادالا خاطفولكن بريق. ي من مهانة الخوفنفس

لرعبي شدني لمواصلة رحلتي في القطار المتجه من تونس

.إلى الجزائر

قطار تأكيد . القطار ينهش لحمي وسنوات عمري

الغربة، صوت ارتطام العجالت بالقضبان الحديدية يعجل

.بإلقائي في المجهول

يتساقط على أواجه التجربة بدموع كاوية هي دمي

الذي يلفظ أنفاسه األخيرة تحت اليد يوجنتي، وعصارة قلب

.الشريرة التي تحاول خنقه

أنياب . أشباح الزيتون الخضراء على طول الطريق

الملونة جبال الرعب. في أعماق روحي تنغرس حادةزاألر

ني، تطبق على القطار، تقترب مباألخضر والبنفسجي تسبق

. قدرة لي على التماسكخرصدري، تضغط، تعتصر آ

نتخب، تسمعني فتاة يرتد صراخي إلى صدري، أأصرخ

.تجلس بجانبي

ماذا بك؟ -

.تركت مصر -

.ابتسمت بدهشة واستنكار -

Page 14: 296

١٣

.نها أول مرة أترك فيها بلدي وأهليإ -

ال ينبغي أن تبكي تماسكي حتى تستطيعي مواجهة

.حياة بمفردكال

ن األوطان التي تحدثت عن السفر وأهميته كتجربة وع

وضرورة البحث عن كسرة الخبز في . ال توفر كسرة الخبز

اقها اللتحن تركها ألهلها في تونس العاصمة وع. بالد أخرى

حديثها .خر الحدود التونسيةبالعمل في فندق بمدينة على آ

ا إلى الغرب، وبلدي طيب وصادق، ولكن القطار يسرع متجه

.بعيدة في الشرق

نزولها، تشبثت عيناي بها وكأن تركتني في محطة

أوصت ركاب العربة بي وحيتنا . كان بينناا طويالعمر

.وغابت

شربت وركاب العربة الشاي، وشاركوني طعامي

مصر وعبد : سكبوا وجدانهم. تحدثنا عن مصر. ا معاودخن

خيط بين الحب واأللم في أسئلة . االناصر محفوران عميق

ذاكرات . والرجاء واألملكثيرة وجهت لي تحمل اليأس

خصبة تستدعي الماضي الجميل لتأكيد الحسرة على

حاضرها القبيح

Page 15: 296

١٤

دخل العربة ضابط شرطة جزائري لمراجعة جوازات

تأملته بعمق . نحن إذن نقترب من الجزائر. سفر الركاب

محاولة اختراق حدود الجزائر اإلنسانية قبل أن أخترق

لخامسة والثالثين من شاب في حوالي ا. حدودها الجغرافية

رشيق بشرته سمراء وعيناه زرقاوان وشعره أصفر، . عمره

، قلبه،بغلظة مقبضة أخذ جواز سفري. عابس الوجه وفظ

.سألني عن تأشيرة الدخول

في سفارتكم بالقاهرة : لم أحصل عليها، قالوا لي-

.أنني أستطيع دخول الجزائر بدون تأشيرة

لير قائالا لراكب آخألقى الجواز متجه :

. لن تدخلي الجزائر-

قلت لهبتحد :

سوف أعود . لن يغير دخولي الجزائر مجرى حياتي-

.في نفس القطار إلى تونس

تذكرت ابتسامة ضابط الجوازات في مطار تونس،

حاولت أن أبرز تعامله العدواني معي بتبريرات ربما لم

تخطر له، فقد تصورت أنه موقف مني كمصرية كرد فعل

Page 16: 296

١٥

للمعاهدة التي وقعها السادات مع إسرائيل، أو ربما ألنني

.كنت أدخن

غادر تونس شاركنا الذي -ربت ضابط الحدود التونسي

: وقالا مبتسم على كتفى-العربة

هو ال ،هذه طريقة الرجل الجزائري في التعامل -

.يقصد اإلساءة لك

ربما، ولكن تونس والجزائر يكادان أن يكونا قطعة -

حدة، فلماذا هذا الفرق الحاد في شكل التعامل بينكما؟وا

ال أعرف، وال تفكري في هذا األمر، فقط انظري -

.العربة واستمتعي بمشاهدة الطبيعةمن خلف زجاج

كان الطريق من تونس إلى الجزائر بالقطار رحلة

الجبال مختلفة االرتفاع على الجانبين تقترب، . مستقلة بذاتها

حتى يتسع بالكاد للقطار في بعض المناطق، ويضيق الطريق

وفي مناطق أخرى تتباعد الجبال، فيتسع الكون كله في

.حضن الجبل الملون

وفي مناطق أخرى يتصل الجبل بجسر ضيق ضئيل

ا يحمل القطار، ويحملنا، وفي كل لحظة كنت أشعر أنه حتم

.سينقلب

Page 17: 296

١٦

وفي هذه اللوحة لم يختف لون واحد من ألوان

.لالمستحي

شاهدت كل هذا الجمال بعيون تقطر مرارة فرأيته

اقبح.

ا أعجزتا ا قويفجأة اهتزت بنا العربة، وسمعنا صوت

وفي اللحظة نفسها توقف القطار عن . لحظة عن الحركة

أصوات فزعة ألقدام الركاب الثمانية المتبقين في . السير

تجمعنا في . القطار بعد أن أفزع ركابه على طول الطريق

.عربة واحدة كبديل عن فهم ما حدث

جاء ضابط الحدود التونسي وأخبرنا أن القاطرة

األمامية خرجت عن القضبان، وأن بيننا وبين سوق أهراس

أول مدينة جزائرية حوالي خمسة كيلومترات فقط، وأنهم

سوف يتصلون بالمدينة إلرسال فرقة عمليات إلعادة القاطرة

.إلى القضبان

في صمت، تتطلع عيوننا إلى الباب، ا جلسنا جميع

نقاذنا من إ يحمل لنا خبر اأحدوتلتقط آذاننا دبيب األقدام لعل

خمسة كيلومترات تفصلنا عن الحياة وتقرر . حصار الجبل

الغد لثمانية أشخاص، والليل يقترب، فالساعة كانت الخامسة

Page 18: 296

١٧

مازالت . إنها الخامسة. ساعة فاصلة بين الليل والنهار. مساء

وبينها وبين السادسة ساعة تغيب هناك بقية ألشعة الشمس،

.فيها الشمس وال تبقى سوى ظلمة الجبل

. دبت الحركة في صمت الركاب وبقيت على صمتي

األمر وتركوني بمفرديا من العربة ليستطلعواخرجوا جميع .

واحدة النظر إلى نفسي ال أصدر سوى حركة انكمشت على

تقطعه العقارب متجهة إلى ساعتي حاسبة الوقت الذي

.ومع حركة العقارب يتحول قلقي إلى توتر. الظالم

حتى عبد الحكيم، الطالب التونسي الذي يدرس

. بالجزائر، تركني وخرج رغم أنه لم يتركني طوال الرحلة

.ليته يعود

جاء أخيربأنه ا عن خروجه، متعلالا عبد الحكيم معتذر

للخروج من العربة والسير أراد أن يعرف ماذا حدث ودعاني

. بجوار القطارقليال

أزهار الصخر . الجبال الشامخةموقفت حبة رمل أما

وراق ضئيلة وسيقان أ. البنفسجية تبتسم لي، تلمس أناملي

يف الصخور مانحة للحياة جمالها، ومانحة مغروسة في تجاو

.لنا جمال الحياة

Page 19: 296

١٨

ارب خنقت العق. اغتالت الساعة الخامسة كل الساعات

.وخنقني سجني في العربة. الشمس

بدأ جسدي يرتعش من لسعات البرد ثم من التعب

واإلعياء، ومن لهاث العقارب، حتى وصلت للحادية عشرة

.بقية الركاب إلى العربةولم يتحرك القطار، ولم يعد

وفي كل مرة كان عبد الحكيم يعود ليطمئن على ،

األخيرة وضع وفي المرة. يطلب مني أن أهدأ وأستريح

معطفه على كتفي، ووقف على باب العربة وطلب مني أن

ال تخافي : ((وبابتسامة طيبة مألت وجهه قال. أحاول النوم

)).سوف أقف خلف الباب لحراستك

أيقظتني حركة األقدام المتجهة للعربة من غفوتي، فتح

الباب، ودخل ركاب القطار معلنين جميعاا أنه سيتحرك فور .

.لواحدة بعد منتصف الليلكانت ا

. نزلنا جميعا إلى المحطة. وصل القطار سوق أهراس

توجه ركاب العربة لختم جوازاتهم، . دخلنا حجرة ضيقة

.ووقفت بعيدة حتى أعود للقطار ألعود به إلى تونس

.جاء ضابط الحدود التونسي بابتسامة ظافرة في عينيه

Page 20: 296

١٩

ع الضابط مهيا يا أستاذة لتنهي إجراءاتك، فقد تحدثت

. الجزائري وسمح لك بالدخول على أن تحولي مائتي دوالر

ولكن . نليس من المعقول أن تقطعي هذه المسافة ثم تعودي

.نك امرأة لما نجحت محاولتيلوال توقف القطار ولوال أ

وودعته خارجة من الغرفة ،شكرته، وأنهيت إجراءاتي

ن يإلى رصيف سوق أهراس، حاملة حقائبي ال أعرف إلى أ

.أذهب

د الحكيم يحمل حقائبي ويطلب مني أن فوجئت بعب

أسير معه، لم يكن أمامي بديل سوى االستسالم إلى ما سوف

انضم إلينا شاب أمريكي وصديقته كانا معنا في نفس . يأتي

عن بقيادة عبد الحكيم نبحث -نحن الثالثة-القطار، وسرنا

.نهاك الطويلةفندق نلقى على فراشه ساعات اإل

ق المدينة ا، في طرا وهبوطغوص في الجير صعودأ

البيوت والمحالت . من الصخرنحوتةالملتوية الضيقة الم

طرقنا . واألرصفة كلها بيضاء جيرية الملمس صخرية الروح

يمنع استقبال : عدة فنادق رفضت استقبالنا، فالقانون كما قالوا

سيارات الشرطة تجوب . النـزالء بعد العاشرة مساء

أوقف عبد الحكيم واحدة منها وتحدث .طرقات والشوارعال

Page 21: 296

٢٠

أشار لنا أن نصعد . مع سائقها ونحن على بعد خطوات منه

سيارة شرطة وجنود ولكن لذة الدفء تسري في . إلى السيارة

توقفت السيارة أما قسم . عروقي بددت حساسيتي من الشرطة

هل سنقضي ليلتنا في . للشرطة ودعانا الضابط للنـزول

قسم؟ال

أجرى الضابط عدة اتصاالت تليفونية، ثم دعانا مرة

السيارة أمام تتوقف. حملنا أجسادنا وصعدنا. أخرى للسيارة

طرق الباب الخشبي الكبير . زل السائق منهاأحد الفنادق ون

فتح الباب ونزلنا من . لمبنى قديم من الصخور البيضاء

ا طويالردخلنا مم. السيارة بقيادة الضابط متقدما موكبنا

ثم مساحة مربعة مكشوفة بال ا، انتهى بدرجات ثالثمظلم ،

.ربعتنالنا غرفة كبيرة بها ثالثة أسرة ألدخ. سقف

رائحة العفن والعطن تمأل المكان والرطوبة تنـز من

ا منه سوى شقوق الجدران التي تساقط طالؤها ولم يعد باقي

كية وصديقتها ودخلت األمريأغلق الباب علينا . بقع متناثرة

لم أستطع حتى الجلوس على . تحت األغطية الصوفية الخشنة

.اعترضت على المكان. إحساس باالشمئزاز منعني. السرير

Page 22: 296

٢١

منذ لحظات كنا نحلم بسقف : ((قالت األمريكية

وجدران، واآلن لدينا سقف وجدران وسرير وغطاء، هيا

ا رفعت الغطاء بأطراف أصابعي وكأني سأجد بقاي)). نامي

ن استخدموه قبلي تحتهم.

استيقظت على وقع الخطوات الثقيلة المقيدة بسالسل

نوم مجهد وغير مكتمل في المساحة المربعة المكشوفة خارج

. الغرفة

. طرقات على الباب تتعجل قيامنا وخروجنا من الغرفة

خرجنا . اكان صاحب الفندق يأمرنا بتركه قبل الثامنة صباح

ا من عشر درجات إلى ونزلنا سلمإلى المربع المكشوف

مربع مكشوف آخر به دورتان للمياه وعدة براميل للمياه

يمألها النـزالء مغطاة بقطع من الخشب عليها علبة صفيح

وا بها علب صفيح مماثلة في دورات المياه ليغتسلوا، ويملئ

رششت بعض الماء . التي يقف أمامها طابور من النـزالء

رجات العشر إلى الغرفة ألخذ على وجهي وصعدت الد

.حقائبي وأهرب من هذا القبو

سرت في شوارع المدينة الباردة شديدة البرودة،

ا أن يحمل حقائبي عبد الحكيم رافض. البيضاء شديدة البياض

Page 23: 296

٢٢

ا معي بعض الكلمات القليلة عن مصر المسأحملها متبادال

شرودي ودهشتي واضطرابي والمسا حبيسة الخجل ا دموع

منه، فهو في موضع أحد طالبي الذين درست لهم في مصر،

.والذين سوف أدرس لهم في الجزائر

سرت في مدينة الجير البيضاء، أبحث عن سنترال

ألتصل بزوجي في القاهرة، تليفونه في العمل ال يرد،

أعطيت عاملة . ال يردوتليفون صديقتي عفاف أيضا

سأجرب كل األرقام كنت . رقم تليفون صديقي هانيالسنترال

.ا من هناكالتي معي، أنتظر رد رقم منها لعلي أسمع صوت

. القاهرة معك-

. القاهرة معي-

. القاهرة معي. ارتعش جسدي وعال صوت قلبي

شوارعها النابضة بخطى أحبائي، عبق التاريخ في شقوق

الجدران، كنائسها، جوامعها، حواريها، رائحة األزهر

صري، األهرامات والقلب يسجد والحسين، المتحف الم

.ويصلي

Page 24: 296

٢٣

صوت هاني صديق العمر ولهفة السؤال ووجع

صوتي . الكلمات ورجاء أن أتوقف عن البكاء وأتحدث

)).أنا بخير ال تقلقوا((مخنوق بغصة الندم

دهشة . اكتشف مدينة جديدة تحت رذاذ المطر

الجميع يواصل . لم يوقف المطر المارة. االكتشاف أخذتني

استوقفني زي النساء األبيض . وأطفاال ونساءرجاالسيره،

والذي يغطي كل الوجه فيما ،)) المالءة اللف(( الذي يشبه

. معرفة الناس هنا. المعرفةأتعجل . عدا عينا واحدة للرؤية

كيف يفكرون؟وما نمط حياتهم؟ من هم؟

لم أتوقف عن طرح األسئلة على عبد الحكيم، حتى

توبيسات، الستقل األتوبيس الذي وصلنا إلى موقف األ

.سينقلني إلى مدينة خنشلة في الشرق الجزائري حيث سأعمل

راه فقط شكرته، وتمنيت أن أ. د الحكيمافترقنا أنا وعب

لم أستطع أن . ابق معي حتى خنشلة: أقل لهلم. مرة أخرى

ومن الطريق، نقل له خوفي من كل شيء من الناس حولي، أ

.ي خنشلةومما ينتظرني هناك ف

Page 25: 296

٢٤

الجبل على . السيارة تقطع الطريق الذي ال ينتهي

وطريق يضيق ويتسع وفقا . يسارها وواد عميق على يمينها

.إلرادة الجبل

أغصان األشجار الجافة المتشابكة المستقرة في القاع،

.متسلقة إلى أعلى ملتحمة بالطريق

الجبل يتحرك مع السيارة، والسيارة توغل في أرض

أين المدن والقرى؟ أين البيوت والناس؟ . وال آخرال أول لها

.أرض واسعة خضراء بال بشر تنقلنا إلى غيرها

كل شيء يغيب إال الجبل . تغيب الشمس ويظلم الطريق

.الراسخ في مكانه كالوحش يتوغل بظلمته داخل نفسي

د المدرسين كان في انتظاري األستاذ متولي أح

لت به قبل مغادرتي سوق فقد اتص. المعارين بمدينة خنشلة

فأنا وهو لم . ال أعرف كيف عرفني وكيف عرفته. أهراس

كل ما أعرفه عنه أنه ابن قريتي التي لم أعش . نلتق من قبل

ترحابه الشديد وتلقائيته الريفية أعاداني إلى . افيها كثير

.قريتي، إلى لهجة أهلها وأهلي

صحبني األستاذ متولي إلى مدرسة شيحاني بشير

المدرسين في طريقنا إلى مبنى اإلدارة التقينا بأحد . ثانويةال

Page 26: 296

٢٥

شعور باألمان بدأ . قدمني له. األستاذ متوليحياه. المصريين

.دفء الوطن يقترب مني. ا إلى نفسييزحف خفيف

تبدد شعوري باألمان وبالدفء عندما أشاح بوجهه

تجلى . أنني بمفرديفا بانشغاله بمجرد أن عرمعتذر

.ه في عينيه ومشىاستنكار

استقبلنا ناظر المدرسة بحرارة شديدة وبابتسامة فاضت

انتقل . الطفل الذي ال يستقيم مع ضخامة جسده.على وجهه

:من مكتبه إلى مقعد بجوارنا، وقال لألستاذ متولي

. تستطيع أن تترك األستاذة اآلن فهي معنا-

كيف يتركني وأين سأذهب، وأنا ال أعرف كيف أصل

يته؟إلى ب

رجل تجاوز . سرت مع الناظر إلى حجرة المدير

الخمسين، مالمحه هادئة وطيبة، أو هكذا كان انطباعي

العمل األول، الذي تبدل بمجرد أن تحدث من بين أسنانه عن

الطلبة وضرورة الضرب بيد من وقسوته وكيفية التعامل مع

ا عن مسئوليتي في حديد على رؤوس هذا الجيل، وأخير

ا أن المدرسة ليست مسئولة عن تسكين كن لي زاعمتدبير س

.معلميها

Page 27: 296

٢٦

عودي لوطنك، للحدود : ا وكأنه يقول ليتحدث كثير

. الجغرافية لمصر، خرجت من مكتبه أبتلع مرارة لقائي به

تعلمنا ونحن صغار . عالمة تعجب فرضت نفسها على عقلي

أن الوطن من الخليج إلى المحيط وجدان جيل بكامله

. الحدود الجغرافية األكبراستوعبته

. هيا لتوقعي باستالمك للعمل-

.قالها ناظر المدرسة ولم تغادر ابتسامة الطفل وجهه

كيف أعمل في بلد . سوف أعود إلى مصر. لن أوقع -

ليس لي فيها بيت؟

. بيوت الجزائر كلها بيتك-

استدعي أحد العاملين بالمدرسة وطلب منه أن يعد

.المكان المخصص لي

رغبتي . تصفنم أدخن منذ الصباح، وكاد اليوم أن يل

.في التدخين تحولت إلى احتياج ملح مع مرور الوقت

وأغلقت . ا حملت حقائبي إلى بيتي في الجزائرأخير

ا على نفسي تمددت على السرير الصغير وأشعلت سيجارة باب

.التهمتها

Page 28: 296

٢٧

غرفة واحدة بها سرير وترابيزة. تيتعرفت على بي

طبخ فارغ وحمام، وخلف البيت حديقة كبيرة ومقعد وم

وتتراص قبله عدة بيوت كلها من . مسورة بسور المدرسة

.طابقين خصصت للعاملين بالمدرسة

أشعلت سيجارة أخرى مستعيدة كل ما حدث، حاسبة

.المدة التي سأقضيها هنا

يا إلهي، كيف ستنقضي كل هذه الفترة؟ تكثفت الشهور

قها، وليس أمامي إال أن أعيشها حتى بأيامها وساعاتها ودقائ

.تنقضي

كان معي في كل . للمرة األولى أواجه الحياة بمفردي

أهلي وزوجي : مراحل حياتي من ألقي عليهم بحملي

وها أنا أحمل نفسي وسنوات عمري الثماني . وأصدقائي

.والعشرين وأخوض التجربة

ا، خرجت، ألطلب فتحت حنفية الماء، وجدته مقطوع

منه من البيت المجاور، وألكتشف العالم حولي، ا بعض

خترق حدود الجزائر اإلنسانية التي بدت لي على حدودها وأل

.الجغرافية عصية

Page 29: 296

٢٨

فتحت لي امرأة ترتدي . طرقت الباب المجاور لبابي

فستانا منقوشا بنقوش زاهية، تحيط وسطها بحزام الفستان بال

.أكمام، عليه جاكيت تريكو

.د أن تأكدت أنني الطارقواربت الباب بع

. منهالماء مقطوع أرجو أن تعطيني قليال

اعتذرت المرأة ألنها كانت بالخارج قبل أن ينقطع

.الماء ولم تخزن أي قدر منه

طرقت باب البيت . خرماذا أفعل؟ ربما أجد في بيت آ

.٨رقم

ال أعرف كيف حدثتها . فتحت لي امرأة أوروبية

لي يدها، ودعتني لدخول أول بالعربية؟ ابتسمت لي ومدت

.بيت أدخله في خنشلة

دات المتوهجة في عينيها جمعت كل مفراالبتسامة

لم أحتج للغة ألتحدث مع نادية . الكالم وعبارات الترحيب

فاإلنسان كائن فريد مبدع، قبضة يده ورعشة . السوفيتية

لغة راقية تتناسب . شفتيه وومضة عينيه لغة ليس لها مفردات

.إلنسانورقي ا

Page 30: 296

٢٩

تحدثنا بعدد الكلمات اإلنجليزية التي ال تتجاوز . تعارفنا

بابتسامة هادئة حياني . العشرين، والتي ال تعرف نادية سواها

ا بيننا منذ أن شد على إنسانيفالديمير زوجها وخلق تواصال

يدي ونادية تقدمني له أعاراني بعض أدوات المطبخ

.يواألطعمة حملها فالديمير إلى بيت

أغلقت باب غرفتي وتمددت على سريري أتطلع في

الشمس تغيب، تتركني وحيدة مع ليل . الفراغ والوحدة

مازالت الشمس هناك في الشرق، . الساعة الخامسة. الغرب

وبيتي الصغير يردد صدى صوتي ووقع خطواتي، لمساتي

لن يجدني في انتظاره، . في أركانه وزوجي عائدا عن عمله

ع طرقاته على باب البيت، لن يجد من يلقي لن يجد من يسم

لمن سيحكي رحلة يومه؟ تركني .في ابتسامتها مددا للغد

. أرحل، قبل أن نفقد ما تبقى من القدرة على االستمرار

لست معهم . األصدقاء يأتون. الطرقات تتوالى على الباب

الفرح الغائب في عيون عفاف، واأللم . اآلن وليسوا معي

فهو لن ،ب يوسف، وسؤال لن ينطق به عبد اهللالمكابر في قل

وميرفت تنتظرني في نفس الموعد، وفي نفس . يقبل اإلجابة

المكان على النيل، والحزن الجليل في بريق عيني ميرفت

Page 31: 296

٣٠

نمت في روحي، يدها الصغيرة أختي، صوت الطفلة التي

تشدني، تتشبث بي وأتشبث بها، الحبل السري في رحم األم

. بين القلب وبين الروحاانا ممتدلم يقطع شري

لم تكن المرة األولى التي أقف فيها ألشرح لطالبي

. الدرس األول في كل مقررات مادة الفلسفة. معنى الفلسفة

هم يريدون أن يعرفوا، أن أقدم لهم ما . كنت مضطربة

من . عندي، وأنا أريد أن أعرف، أن يقدموا لي ما عندهم

يف معنى الفلسفة، أم أدعوهم ليعرفوني يبدأ؟ هل أبدأ أنا بتعر

.بالشعب الجزائري؟

كانت موضوعات الفلسفة المقررة هي نافذتي األولى

الهي موضوعات عربية وال هي . للمعرفة في تجربتي

ة كما ترجمت القضايا الرئيس. هي خليط. موضوعات فرنسية

هي من الفرنسية بلغة عربية مهجورة وتراكيب ركيكة تطرح

سقراط حتى هايزنبرج بحياد علمي دقيق، يعقبها الرؤى من

ة، فالجزء تعليق وتدخل يلوى الحقائق لتصبح جميعها إسالمي

ونظرياتهما العلمية في التطور الفرنسي مع داروين والمارك

رة التعليم مع اوترجم بأمانة ليعقبه التعليق الموضوع من وز

Page 32: 296

٣١

دركه في ما قاله القرآن من النطفة إلى العلقة إلى ماال ن

.األرحام

كنت أقع في التناقض الموجود على صفحات الكتب

أنقل موقفي لهم، وهم سوف ينقلونه إلى المقررة فأنا سوف

ورقة اإلجابة محدد لها سلفا نموذج لن يخرج . ورقة اإلجابة

.عما في الكتاب

األيام األولى تمر بطيئة وثقيلة، وأنا حبيسة جدران

أقف . ا حتى الثامنة صباح مساءالمدرسة وبيتي من الخامسة

كتب الرسائل أ. ن نافذة حجرتي أتطلع إلى الجبلخلف قضبا

.إلى مصر وأحلم بالعودة

قررت الخروج لشراء طعام رغم البرد الشديد وعدم

. استقرار الشمس وتساقط المطر وتوقفه واشتداد الرياح

في كل . سرت في الطريق من المدرسة إلى وسط المدينة

ختالط أتذكر تحذيرات أم حسينة لي من االطوها خطوة أخ

ت أشعر أن خوفي يسبقني ويلتف حول كن. بسكان المدينة

انتبهت لسرعة خطوتي وعدم توازنها وكثرة تلفتي .قدمي

هدأت من روعي وبدأت أتأمل البيوت ذات الطابق .حولي

ن أمامها الرجال والنساء واألطفال جالسوالواحد المتالصقة، و

Page 33: 296

٣٢

إلى الفراغ الممتد أمامهم حتى تصطدم عيونهم يتطلعون

.بالجبل

وصلت إلى المعرض أو الجاليري بالفرنسية

مبنى مكون من ثالثة طوابق تباع فيه األطعمة . والجزائرية

وقفت في طابور طويل . فال والكتبواألقمشة ولعب األط

حتى اشتريت ما احتاجه نتظر دوري، ومن طابور إلى آخر أ

.ا فقد اكتشفت مبالغة أم حسينة فيما قالتءوعدت أكثر هدو

أغلقت حجرتي على وجلست على حافة السرير أقرأ

استولت على . شعور بالملل والسأم استبد بي. بنصف عقل

رغبة جامحة في أن أخرج من البيت إلى الشارع، إلى

أن أسمع طرقات بشر على البيوت، أن أتحدث مع إنسان،

كيف، . ي الساخن مع آخرينشرب الشاباب بيتي، أن أ

وال يتبقى من أثر لها والحياة تتوقف هنا في السادسة مساء

؟ وخلف سوى مواء القطط وهوهوة الكالب وزئير الرياح

أو ميتة ورياح تعصف ستقتلع الشباك فراغ ومدينة نائمة

ا على كل ما هو البيوت واألشجار والجبال، وستقضي حتم

.ستقضي على. ثابت باألرض

Page 34: 296

٣٣

واء الرياح يشتد، صوتها مخيف مرعب، والسماء ع

. نسكب للحظة في وسط الغرفة ويختفييتبرق فجأة بضوء

تهتز جدران المنـزل، تتفجر السماء . صاعقة تنفجر

.بالسيول

،أتجمد تحت أغطيتي،ليس من البرد فبالغرفة مدفأة

أسقط في بئر وحدتي، . أتالشى داخل نفسي. ولكن من األلم

بكل أعضائي على أجزائي، أستجدي الصوت، أتكور، أضغط

.صوت اإلنسان

الثلج . في الصباح فتحت باب بيتي على فرح الثلج

فرحت، .مرة أراه في حياتي ألول .يغطي األرض والجبل

غصت في . قفزت في الهواء، ضحكتي جلجلت في المكان

كورت الزغب بين يدى قفزات . الثلج تحملني أجنحة الفرح

. ا في اتجاه الشرقألقيت بكرة الثلج بعيدقوة ل وبك. عالية

.مازالت الطفلة في أعماقي حية

ة على منضدة كبيرة تتوسط حجرة الخطابات ملقا

أعرف أنه ليس بينها خطاب لي، ولكني مددت . ساتذةاأل

.يدي، لمستها، قرأت كل األسماء إال اسمي

Page 35: 296

٣٤

كاد ما معي من نقود أن ينفد ومازال أمامي وقت

راتبي، وما معي ال يكفي أليام، وال طويل حتى يصرف

أعرف متى يعود األستاذ متولي من الجزائر العاصمة حتى

ذهبت ألسأل سكرتيرة المدير عن موعد صرف . أقترض منه

بانت أسنانها المركبة فوق بعضها وهي تبتسم وتلوك . راتبي

لبانة في فمها، وكعادتها منذ أن رأيتها ال تقف ثابتة بحذائها

.وبمالبسها الفرنسية وجسدها الدقيق. في ارتفاعهالمبالغ

:قالت

مازال أمامك وقت حتى يصل إشعار بصرف راتبك،

.ولكن من حقك أن تطلبي سلفة من المدير

.تركتني لتستأذن لي منه في الدخول

..المدير في انتظارك

دخلت حجرة المدير من قبل ولكني لم ألحظ صورة

ا ا على األرض مرتديجالسابن باديس المعلقة على الحائط

جلباباا أبيض فاتحكما لمحت صورة معلقة . ا أمامه كتاب

لشاب شدني وهج عينيه وابتسامة ال تحس إال بالقلب وأنف

شيحاني بشير أحد شهداء ((حاد واسم مكتوب تحت الصورة

حمل السالح . في حضرة الشهيد كنت)). ثورة التحرير

Page 36: 296

٣٥

ا، أختا، ت يا بشير؟ أممن ترك.د إلى الجبلوالحلم وصع

هل حملوا جثتك . بين أيدي رفاقكحبيبة؟ وعدت لهم محموال

ماذا حققت من الحلم وماذا .. أم حملوا حلمك بالجزائر؟

تركت لرفاقك ليحققوه؟

ماذا تريدين يا أستاذة؟

.أريد سلفة من المدرسة حتى يصل راتبي

..آسف

..نتظر حتى يستكمل كالمه وتركته وخرجتلم أ

...وجدت فريدة سكرتيرته في انتظاري

هل وافق على السلفة؟

..رفض.. ال

هل أحضرت معك الشاي المصري؟.. أستاذة

.؟ نعم أحضرت..ماذا

!!شرب معك الشاي اليومانتظريني، سوف آتي أل

ا من إحساسي بالمهانة تركتها وقد أزالت عني بعض

..التي سببها لي المدير

وقع . ا سوف يطرق بابيائرانتظرت ز. انتظرت فريدة

أفتح ألول . دقات الباب أسمعها. الخطوات يقترب من بيتي

Page 37: 296

٣٦

أن وقبل. دخنا معا.تحدثنا. شربنا الشاي. زائر، وأسعد بها

ا وقدمتها ليتغادر البيت أخرجت نقود.

ا والشمس تشرق وتغيب في استمر سقوط الثلج أيام

ائر ترى في الجز: يقولون. اليوم الواحد أكثر من مرة

.الفصول األربعة في يوم واحد

أبدأ . في السابعة أسيتقظ. صرت جزءا من آلية العمل

ومن فصل إلى آخر حتى الثانية . حصتي األولى في الثامنة

أعود ويعود العاملون في الجزائر إلى بيوتهم . عشرة ظهرا

لتناول الغداء، ثم نواصل يوم العمل في الثانية بعد الظهر

. مساءحتى الخامسة

استغرقني اإلعداد اليومي للدروس ومتابعة طالبي

وفي يوم الخميس كنت أذهب إلى مكتبة . وتصحيح أوراقهم

. حالة مكتبة صغيرة وفقيرة ولكنها موجودة على أي.البلدية

ماذا خلف الجبل؟ وماذا بعد خنشلة؟ بدت لي المعرفة

.مستحيلة

كتبة قبل أن أستعد للخروج لزيارتي األسبوعية للم

هذا الباب الذي ال يقترب منه . سمعت طرقات على باب بيتي

Page 38: 296

٣٧

من يكون؟ كنت وأنا هناك أعرف من طارق . أحد سواي

.بابي

وجدته أحد المدرسين الفرنسيين العاملين معنا . فتحت

دعوته للدخول، . لم أتوقع أن يكون هو زائري. بالمدرسة

إلى وعالمات االستفهام عن سبب الزيارة تقفز رغما عني

.وجهي

وانتظرت أن يقدم تفسير )). ميشيل. ((عرفني بنفسه

باختصار شديد أبلغني دعوته للخروج إلى إحدى .. لزيارته

سوف أخرج من خلف أسوار ا أخير. الغابات القريبة

نها فرصة ال تعرف خارج حدود العمل الضيقة إ. المدرسة

رتدي سوف أ. لهوجاء داخليقفزت الطفلة ا. على زمالئي

رحبت بشدة وأنا أضغط . جينـز وألعب وأجري في الغابةال

: سألته. ال أقفز في الهواء وأصفق بكلتا يدي على نفسي حتى

من من المدرسين سيذهب معنا؟

..أنت وأنا وزميل جزائري وصديقته: قال

فقط؟ -

..نعم فقط -

Page 39: 296

٣٨

للدفاع ه ا بأكملانتزع مني الفرحة وحرك داخلي جيش

على مثل هذه الدعوة؟ وكيف وافقه كيف يجرؤ .. عن نفسي

ا له كفرنسي هذا التصرف ولكن الجزائري؟ قد يكون مبرر

كيف أقبله من الجزائري؟

تصورتها رحلة خاصة بالمدرسين جميعا؟ ولكن . آسفة

.رحلة خاصة بنا ال أستطيع قبولها

لماذا؟-

أنا ال أعرفكم وأنتم ال تعرفونني، ومثل هذه -

. بين األصدقاءالرحالت ال تكون إال

.وقد نصير األصدقاء.. إنها فرصة لنتعرف-

.ا قد ال يحدث ال أستطيع أن أفترض شيئ-

. هل أنت خائفة-

أخاف؟ لو كنت خائفة لما تركت بلدي وزوجي مم-

.وقطعت هذه المسافة وجئت إلى هنا

إنها شجاعة وجرأة منك، ولكن هل تاهت شجاعتك -

.ن حبيسة جدران المدرسةعند سلم الطائرة وهل ستظلي

ولكني امرأة عربية، وفي عرفنا . ال هذا وال ذاك-

.مرفوض أن تخرج المرأة مع رجل غريب

Page 40: 296

٣٩

أنت لست عربية، أنت مصرية، ولكم تراث -

.وحضارة وعادات وتقاليد تفصلكم وتميزكم عن العرب

! لست أنت الذي تقول إذا كنت أنا عربية أم ال-

نك روحة للنقاش، ثم ال تنس أ ليست مطومسألة عروبتنا

ضيف على بلد عربي له عاداته وتقاليده التي يجب أن

تحترمها، ومنها أن زيارتك لي سلوك مرفوض مني ومن

.اآلخرين

ا انتزعته من نور حضارته ا يلعن أيامخرج متأفف_

. لعنته ولعنت تعاليه. األوروبية وألقت به إلى ظالمنا العربي

يد لمثل هذه النـزهة وال أنكر احتياجي ال أنكر احتياجي الشد

. وال أنكر أنني ال أستطيع تلبية دعوته،لآلخرين

وبمروري أمام ،ارتديت معطفي متوجهة إلى المكتبة

لي ودعتني للدخول، كان فالديمير يغسل عبيت نادية نادت

ربتت . بانفعال شديد حكيت لها ماحدث من الفرنسي. األطباق

. نبيذعلى وجهي وقدمت لي كأس

في حجرة األساتذة)) رفيقة((ا على تعرفت سريع .

فهي طالبة في كلية الطب -وألنني ال ألتقي بها كثيرا

Page 41: 296

٤٠

وتدرس عددفقد فوجئت -ا من ساعات اللغة الفرنسيةا محدود

.بزيارتها وبدعوتها لي للذهاب للحمام التركي

شربنا الشاي ودخنا سيجارتين ثم انطلقنا إلى الحمام

.التركي

باب خشبي كبير وقديم يئز تحت أيدي رفيقة وهي

ا، ممر طويل وباب خشبي آخر أصغر حجم. تدفعه بقبضتها

تدخل منه إلى صالة كبيرة في أول أركانها بعد ،تدفعه رفيقة

الباب مباشرة تجلس امرأة خلف مكتب مرتفع ظهرت أسنانها

بمجرد أن ابتسمت مرحبة سقطت عيناي على .الذهبية

اصطدمتا بنصف ثدييها يبرزان من فتحة فستانها جسدها ف

مدت يدها المثقلة . األصفر الحرير المطرز بخيوط مذهبة

. قبلتها رفيقة القبالت األربع الجزائرية. بالذهب لتسلم علينا

وقبلتني المرأة القبالت األربع أيضا مرحبة بكالم كثير بعد

.أن قدمتني رفيقة لها

اء ملفوفة في قطع من انتشرت في الصالة أجساد نس

،فنالقماش الملون وبرانس حمام، جلسن على األرض يتنش

ذهب : خريات جالسات بمالبسهن يبعن بضائع مختلفةوأ

حيت . وأقمشة حريرية بألوان زاهية حلوي ومياه غازية

Page 42: 296

٤١

رفيقة بعضهن، وخلعت فستانها وبقيت بمالبسها الداخلية

.هيا: م قالت بحز،ترددت. وانتظرت أن أفعل مثلها

دفعت . خلعت فستاني، وسرت خلفها بمالبسي الداخلية

بابا آا خشبيخر قديمودخلنا إلى الحمام المعبأ ،ا بالماءا ومشبع

برائحة ما يلفظه الجلد مختلطة برائحة الصابون والماء

البخار كالدخان يمأل المكان، وذهبنا لملء . وعرق النسوة

. ينضب ماؤه المغليجرادلنا من البناء الدائري الذي ال

نساء عاريات مستغرقات في .بالقرب منه صنابير مياه باردة

يتعاملن مع أجسادهن كأجزاء . دعك أجزائهن بعناية واهتمام

القدم واليد والثدي . منفصلة، لكل جزء اهتمام خاص به

كل جزء له حميمية خاصة، ربما ال . والفرج والظهر والبطن

.نها تختلفتقل عن الجزء اآلخر، إال أ

ا بالماء المغلي وآخر بالماء واحد،مألت رفيقة جردلين

.البارد

هيا اخلعي مالبسك؟ -

.ال أستطيع -

.ليس لديك شيء زائد عن هؤالء -

Page 43: 296

٤٢

. خلعت كل مالبسي وأبقيت على ما يستر عورتي

رشت بعض . بدأت رفيقة ممارسة مراحل طقس الحمام معي

عة قماش الماء على جسدي المشبع بالبخار، ولبست قط

خشنة في يدها اسمها الكياسة، ودعكت لي جسمي سوداء

. من جلدي الذي أنهك تحت يديهاخرجت أجزاء سوداء. كله

.وفرغت لنفسها)) هيا اغسلي شعرك: ((انتهت مني وقالت

اختنقت من البخار ورائحة النسوة وجلدهن األسود

. رؤيتي لألجساد العارية أصابتني بالقرف.وجلدي

.ريد أن أخرجرفيقة أ -

.أنا أيضا تعبت -

جلسنا على األرض عاريتين، إال من .عدنا إلى الصالة

شربنا زجاجتين من المياه الغازية وأكلنا . مالبسنا الداخلية

هواء ال يحمل كل عرق تنفست ملء رئتى. بعض الحلوى

عدنا للحمام مرة أخرى . النسوة وإن كان يحمل بعضه

يقة جسدي بالصابون عدة دعكت لي رف. الستكمال الطقس

.مرات، وبدأت في دعك جسدها

انتهت بعض النسوة من كل مراحل الطقس وبقين

.للثرثرة

Page 44: 296

٤٣

. تحول الماء من البئر إلى الجرادل في سرعة شديدة

امرأة ال يغطي عظامها إال قطعة رقيقة من الجلد المشدود

لكزت .وال يظهر كونها امرأة إال ثديان متدليان إلى سرتها

.راهاقة لترى المومياء التي أرفي

يت إنها تعمل هنا وتب. هذه الكياسة،هبولةيام -

.س من تريد مقابل دينارهنا، تنقل الماء بالجرادل وتكي

جسدي كله تفكك بعد الحمام، وإلحاح كل احتياجاتي ال

.أريد أن آكل وأدخن وأنام. يقاوم

قينا وفي طريقنا الت. ذهبت رفيقة إلى بيتها لتناول الغذاء

وجميعهم بعد . بمن يعرفوننا من زمالء وطالبات وطلبة

فقد فضح احمرار وجهينا ،))بالصحة الحمام: ((التحية يردد

.وجلدنا أننا كنا في الحمام

. كدت أتوارى حتى من نفسي إلى أن وصلنا للبيت

الكبير فتح، ونفس الممر الطويل مررنا نفس الباب الخشبي

.فيه

الجدران مطلية . زاهية جلسنافي حجرة ملونة بألوان

سفنج الملقاة على األرض مكسوة بأقمشة باألخضر، وقطع اإل

حتى المدفأة المشتعلة بالكيروسين . منقوشة بكل ألوان الورد

Page 45: 296

٤٤

مطلية باللون األحمر، تخترق مدخنتها سقف الحجرة إلى

.سطح البيت

وتبعتها شقيقتها الكبرى التي . أتت أم رفيقة مرحبة بي

بر سنا حتى من أمها، وإن اشترك ثالثتهن في مالمح تبدو أك

بشرة بيضاء وعيون رمادية ووجوه هادئة . واحدة دقيقة

.بشوشة

على صينية نحاس وضعت فوق حامل خشبي أكلت

ستسغ لم أ. بالبرقوق المجفف وعسل النحلالكسكسي واللحم

. االحتفال بيلحم بالرغم من أنه أعد كمزيد منطعم هذا ال

ة وعي التعاليم اقترب طفل صغير من مليكبخجل من

ربتت على شعره . نهاذلكبرى، وهمس في أشقيقة رفيقة ا

.وصرفته بالفرنسية

.ابنك -

.نعم -

.ولكنه ال يشبهك -

.يشبه أباه -

:كالجرح المتقيح بدأت تنـز ألما -

Page 46: 296

٤٥

ا تزوجن. اطلقني غدر. لم يره أبوه منذ عام -

. ترا واليوناننجلسافرنا إلى فرنسا وأسبانيا وإ. سبع سنوات

واهللا ال أعرف ماذا . ا أثثناه كبيوت الفرنساويةاشترينا بيت

أطلق لحيته )). األخوة السنية((خاب أمله مع . حدث له

واعتزل في المسجد وأمرني بارتداء الحجاب، ثم أرسلني إلى

حاولت . هنا لزيارة أهلي وبعد يومين وصلتني ورقة الطالق

: معه، قلت له

واهللا حتى .ك، لكنه رفضأقبل كل شروط -

.خفاهما ال أعرف أينالراديو والتليفزيون أ

وأين تعيشين اآلن؟ -

.في بيت صغير في الجزائر العاصمة -

.لكنك لست محجبة اآلن -

. نعم أنا ارتديت الحجاب ألحافظ على بيتي -

وخلعته بعد الطالق، وأنا عندي عمل بالبريد يكفيني ويكفي

.ابني

ماذا يعمل زوجك؟ -

Page 47: 296

٤٦

ربنا . كان عاقال واهللا. تعلم في فرنسامهندس -

اهللا .. ستغفر اهللا العظيمأ. قاطعهم ألنهم كفرةحتى أهله. يهديه

.يهديه

أنت ((قطع استرسالها صوت من خارج الحجرة ينادي

إنه : ((قالت رفيقة. قفزت األم بمجرد سماعها الصوت.))يا

اسم أمي ال ينطق : ((واستطردت ضاحكة)). أبي ينادي أمي

كل ..أنت يا نحن نقول لها ماما وأبي يناديها . ي البيتف

أعتقد أن أمي نسيت . ماء زوجاتهمالرجال ال ينطقون بأس

.سمهاا

نهرهم بود وحنان . دخل األب مرحبا بابتسامة طيبة

.لتأخرهم عن تقديم القهوة لي وخرج

وأطباق بريق القهوة واللبنجاءت نفس الصينية عليها إ

تعرف عليه اليوم بعد طقس ي آخر أطقس جزائر. الحلوى

. قهوة الخامسة التي تعد وجبة بين الغذاء والعشاء. الحمام

مصنوعة بالطريقة الفرنسية، وتشرب مع اللبن وتقدم معها

.أنواع من الحلوى وشرائح الخبز المحمص والزبد

عدت إلى بيتي مرهقة، تمددت على سريري الموحش،

.قرأت دروس الغد ونمت

Page 48: 296

٤٧

حضن القاهرة .اهرة أشمها في السطوررائحة الق

تشعل حنيني . رسائلهم األولى لي تصلني. الدافئ يحتويني

.وشوقي إليهم وإلى قاهرتي، أحمل الرسائل وأغلق الباب

سطور تحمل شوقا لي، وسطور تحمل ذكريات حميمة،

رسائلهم . ا، وسطور تقوى من عزيمتيوسطور تشكو ألم

نفسي يعمقه وجودي الوحيد، ا في وتحفر جرح. تؤكد غربتي

.خلف الجدران وقضبان النافذة

كدت أفقد السيطرة على طالبي، وأفقد دوري المرسوم

كنت بكلماتي وأفكاري أحاول أن أهدم وأبني . لي كمدرسة

خر أواجه به خراب لم يكن عندي سالح آ. في نفس الوقت

.أربكتني المفاجأة. عقولهم

رقت إلى عمل وتط)). العمل((كان موضوع الدرس

:المرأة فانفجروا

خروج . المرأة خلقت لإلنجاب. عمل المرأة حرام((

المرأة للعمل أغضب اهللا علينا فأحل الخراب والدمار على

وعن الضلع األعوج وعن متعة الرجل )). أمة المسلمين

لغط وأصوات تنعق آتية من أزمنة الهزيمة التي : قالوا

األولى، فأنا للوهلةشعرت باإلهانة. مضت والتي نعيشها

Page 49: 296

٤٨

. بلدي وزوجي وجئت بمفردي إلى هناامرأة وعاملة وتركت

سلوكي ووجودي ومهنتي وتدريسي بكل أركان اإلدانة تحيط

.شعرت أكثر باإلهانة ألنهم مجرد طلبة. للفلسفة

انتبهت لذاتي التي قد تحرف المناقشة إلى وجهة أكثر

بي، تريد أن تطلعت عيون تلميذاتي إلى تستنجد .خطورة

تعرف الحقيقة، أن تعرف جدوى وجودهن هنا بين زمالئهن

تحدثت عن دور المرأة الجزائرية . يتعلمن معهم حلم المستقبل

في المجتمع، عن األسباب الحقيقية النهيارنا، عن االستعمار

واصلت حتى وصلت إلى المرأة الجزائرية . والحكام والتبعية

ماذا تبقى من .تحدثت. في حرب التحرير وجميلة بوحريد

ماذا هدم؟ وماذا بنى؟حديثي؟

ت بعضها نسي. عيدة ولكنها عميقة في نفسيالصور ب

تشد الحلم . ولكن مازلت أتذكر زنزانة التعذيب، وجميلة تقاوم

أجمل أطفال العالم ولدوا على يديها المعلقة . من بطن الجبل

ن لم رأتهم عيناها اللتاأجمل أطفال العالم . في السالسل

من وأد حملها؟ من قتل أطفالها؟ من قتلها؟ . تذرفا الدمع األليم

تمنينا في أحالمنا . سمها ونحن صغاراكم ركعت قلوبنا لذكر

وهم أطفالها . الصغيرة أن نراها، أن نصافحها، أن نكونها

Page 50: 296

٤٩

ريق عيونهم بمجرد أن بانطفأ . الذين حملتهم داخل أحشائها

.ذكرت اسمها

. أحالمها وأحالمي، وسرتحملت حسرتي ومصرع

ولزوجة الدم النازف من . وحملت ألم الجوع في الجبل

صوت طائرات . المطاردةرعب .الجرح الغائر في الصدر

حملت أنين الجسد الذي لم . العدو تبيد المواقع والرفاق

حملت سنوات تلتحم بسنوات لم يعرف . يضعف ولم يهن

شهيد وجميلة حملت مليون ونصف . اليأس طريقا إلى أيامها

بو حريد وحسرتي وألقيتها على األستاذ عبادة مدرس

.التاريخ

معه ومعهم عشت االستعمار والفرنسي، عشت

فتحت نوافذ . اغتصاب األرض والعرض، عشت قتل الهوية

عرفت االستعمار الناهش في لحم . جديدة لمعرفة الجزائر

رأيته يشيع . رأيت دمه ينـزف. الوطن سمعت الجبل يئن

وانفجر . اته للعهر والعار، وإن صرخ يصرخ بالفرنسيةبن

ومن كان موكال. الجبل ولكن ما كان ينبغي أن يكون لم يكن

من كان يحلم بالحرية عجز عن تحقيق . إليه القيادة لم يقد

الحلم، لم يحمل مع الحلم سالحه، كان عاشقا وسأل العاشق

Page 51: 296

٥٠

ضعفاء امن سأقتل؟ لن أقتل وقود الحرب، لن أقتل جنود

انتظر العاشق أن تأتي البشارة من .سيقوا إلى بلدي بال إرادة

هناك، أن تتحرر فرنسا بعشاقها النبالء فتتحرر الجزائر من

وفرض منطق المستعبد، وخار . تفجر الجبل. مستعمريها

. لم يخن ولكنه أخطأ. منطق العاشق النبيل فلم تحق له القيادة

نظم صفوفه، أسلم قيادة حاول تدارك خطئه، التحم بالثورة،

وعندما بدأت البشارات األولى النتصار الثورة كان . لآلخرين

. الحسابات واضحة، هو شيوعي. البد من تحديد من سيحكم

لم يقتل . جديد على القوى الجديدة، فكان البد أن يقتلخطر

سلم نفسه . ذبح بسكاكين رفاق الجبل. برصاص فرنسا

ودق مسامير الصليب بيديه صلب نفسه على صليبه. امسيح

أمام . في أعضائه، أمام السلطة والحكم ال وجود للمسيح

وانتصرت الثورة . قاتل وقتيل، وكان هو القتيل: السلطة

هل . ولم يحتضنه سوى الجبل. مات ولم يشيعه أحد.بدونه

ينطق الجبل يوما باسمه؟ هل يغفر له الجبل خطأه؟

عن ،ظامهصعدت الجبل أبحث عن أشالئه، عن ع

الصخور، قطعة من بينوردة نبتت. روحه، عما تبقى منه

Page 52: 296

٥١

لو وجدته سأمنحه . مالبسه، رائحته، حفنة تراب شربت دمه

.ا لي ولهم ولناالروح، سيعود عاشق

، تمنيته أقوى الرجال، استجديت ناديته حلما مستحيال

الوجوه صفراء . في الفصول،ةرؤيته في الشوارع، في األزق

العقول خاوية ال . القلوب مرتعشة غير مطمئنة ،هزيلة

.تعرفه، ال يعرفه سوى الجبل، والجبل صامت ال يتحدث

انتزعتني امتحانات الجزء األول من العام الدراسي من

سئلة لخمسة فصول، وأصحح كان على أن أضع أ.وحدتي

ا، وأرصد درجاتهم، وأشارك في أوراق مائتين وخمسين طالب

ا، استغرقني العمل تمام. وسلوك الطلبةلجان تقييم مستوى

.جازة أو عطلة الشتاء كما يسمونهاولم أفق إال على بداية األ

ا في أن أترك خنشلة إلى أي مكان لم أتردد كثير

كتشف العالم خلف ا عن المدرسة وبيتي، أن أخارجها بعيد

.الجبل، أن أعب من الحياة التي ذبلت في عروقي

بها على الذهاب للجزائر اتفقت مع رفيقة وخطي

لم أنم ليلة . العاصمة لقضاء يومين من العطلة مع شقيقتها

تحركت الطفلة الهوجاء . السفر، أعددت حقيبتي عدة مرات

داخلي تدبدب بقدميها الصغيرتين من الفرح، تتعجل

Page 53: 296

٥٢

الملونة، الساعات، تلح عليها أن تنقضي، تعد شرائط العيد

. رائحتهتحتضن الفستان الجديد وتتشرب

أتى صباح الخروج من خنشلة المدينة الصغيرة

المحاطة بالجبال من جهاتها األربع، والتي ليس بها سوى

البيوت ومحالت الطعام والحمامات التركية والمقاهي، تغتال

أعمار الرجال، يسبون االشتراكية وأيامها السوداء، والغالء

،ال الحزبالذي التهم األقوات، وسارقي القوت من كبار رج

وبين جدران المقاهي يسخن الحديث كلما سرت الخمر في

الدماء تصعد قطراتها إلى الرأس فتبطل العقل وتخرس الحذر

.من العسس والمخبرين الموجودين بال شك بينهم

والسخرية من األلم ،وبين جدران المقاهي يخرج األلم

ونكات تلعن وتسب بالفرنسية والبربرية كلمات وجمل

زجاجة نبيذ تعقبها أخرى . والخمر ال تتوقف. ربيةوالع

تسرى في عقولهم وأعضائهم فال تقوى يد مرتخية إال على

وبألسنة ثقيلة تالك . تحريك ورق اللعب أو قطع الدومينو

ون جراح الوطن لخيبة من المحيط إلى الخليج، ينكئا

فلسطين التي ضاعت، ولبنان التي مزقت، ومصر . وجراحهم

وينفس . والعرب الذين ال يستحقون إال اللعنة.التي خانت

Page 54: 296

٥٣

هزيمة فريق . سرؤوالحماس المخمور تلمع الكرة في ال

وماجر بلوميزو ومستوى الفريق القومي وانطالقةتيزي و

خر ينتهي كما انتهى سابقه، أو يبدأ حديث آ.في عالم الكرة

تختلط األحاديث التي تنتهي بتفجير ما تراكم من غضب بين

ن بلال ومؤيدي بومدين، مع عبد الناصر وضده، مع مؤيدي ب

فريق ورجلة وفريق تيزى وزو، بالعنف المالئم الذي يبدأ

.بالسب وينتهي باستخدام المطاوي ومقاعد المقهى

. مع دقات رفيقة على البابيتراقص قلب

.ه هيا السيارة خارج الليسي-

.مس أنا انتظركما منذ األ-

شمال تاركة قريتنا صعدت السيارة في اتجاه ال

.الصغيرة خلفها

تحولت بكل كياني إلى عينين واسعتين تشاهدان

المدن .كتشفه من خنشلة إلى الجزائرطريق جديد أ. الطريق

. الكبيرة أعشقها، تجذبني، أتحول إلى مندوهة وهي نداهتي

العاصمة تتألأل في أضواء . الحياة، والذوبان في البشر

طفولتي وجود عوالم أخرى وجداني، فلم أكن أتصور في

Page 55: 296

٥٤

غير القاهرة، أو أنني يمكن أن أحيا في مدينة أخرى غير

.القاهرة

ا بمجرد خروجنا ا خفيفكان المطر قد بدأ يتساقط رذاذ

كالندى على وريقات جافة استقبلته . من حدود خنشلة

فتحت زجاج السيارة ومددت يدي أتحسس المطر . عروقي

روحي حتى تشققت ولكنها لم مأل أمأل مسامي، أروي ظمأ

.ب، فمازالت تحس ملمس المطرتجد

الجبال على جانبيه . أشعلت سيجارة وتابعت الطريق

نبتت الزهور .شامخة تحمل أسرار الماضي وتتطلع لآلتي

ا وأن تنتزع كيف استطاعت أن تشق لها طريق.بين الصخر

حياة من بين هذه الصخور القاسية؟ مغطاة قمم الجبال بالثلج

.ا صغيرة على زجاج السيارةالذي بدأ يتساقط نتف

غابت الشمس فجأة وأظلم الكون الممتد حولنا، ال يقطع

الظالم إال ضوء سيارة قادمة من االتجاه المقابل أو مدينة

الجبل يقترب أكثر من الطريق، يكاد . تعلن عن وجودها

يطبق عليه واالنحناءات الحادة والوادي العميق يفتح أبواب

.الموت ألقل خطأ

Page 56: 296

٥٥

لم نتوقف عن الثرثرة والغناء حتى وقفت السيارة على

مشارف مدينة ليستريح سائق السيارة ويحضر لنا رشيد

وهي مجرد تعريشة . ا نأكله من االستراحةخطيب رفيقة شيئ

من الخشب تفوح منها رائحة لحم يقلى في زيت ونوع من

. يقلى أيضا في الزيت.أنواع الطعام

ئريون ال يستخدمون في طعامهم السمن إال فالجزا

لم نستطع النـزول في االستراحة لشدة الزحام ولقذارة .انادر

.المكان

لظملة في الظلمة، وبدأ اوأوغلت . صلنا رحلتناوا

شرق إلى رحلة طويلة من أقصى ال. التعب والوهن يدب فينا

ساعة تغلبنا عليها ة عشرأقصى الشمال، استغرقت ست

حيانا وبالكالم أحيانا أخرى، حتى بدأت أضواء بالغناء أ

.العاصمة تظهر

اخترقنا شوارع العاصمة النائمة، وفجأة صرخت

.نسيت عنوان مليكة: رفيقة

ا، وأجسادنا هدت من مشقة الرحلة، كانت الثالثة صباح

النوم الرقيق . والرغبة في النوم قضت على أية مقاومة داخلنا

Page 57: 296

٥٦

لم يكن أمامنا . أعضاءناتحول إلى وحش يدق رؤوسنا و

. نمنا في السيارة حتى الصباح.ممكنات لنختار أحدها

المطر يتساقط، تتسلل قطراته إلى جذوري، يوقظ حياة

يداعب جسدي النحيل، يتوحد مع دمي المتدفق، . لم تمت بعد

.يندفعان من قدمي إلى رأسي يشتعالن نارا تمأل كياني

.ته رئتاي، ابتلعتهالثلج المتساقط التصق بوجهي، تنفس

ولكني لم أدعه يسقط، ،تحت كفي الصغير، تخلل أصابعي

.خدر لذيذ يسري من يدي إلى عقلي. اعتصرته بين أصابعي

قطرات مطر، . الوجود األبدي األزلي،الشارع، الكون

وثلج أبيض يتساقط على امرأة تسير وحيدة في كون ال متناه

سارت آالف . دتحتمي باألرض والسماء وببحر أزرق ممت

الزلزال المتفجر بين . األميال وآالف السنوات حتى وجدته

البحر شريان ممتد بين اإلنسان . ضلوعي شق البحر

أمواجه القادمة من الشرق تمتص قطرات المطر .واإلنسان

.من فوق جلدي

ا وأدخن شعرت برغبة قوية في أن أشرب شاي

اف سيجارة، ولكن ال أعرف أين، بعد أن قررت اكتش

.العاصمة بدون رفيقة ورشيد

Page 58: 296

٥٧

.لبحر خلفي وسرتاتركت

العاصمة مدينة حلزونية، خمسة طوابق أو الجزائر

خمس مدن، تبدأ من أعلى قمة الجبل وتنتهي عند أول قطرة

أشجار . وبين الجبل والبحر غابات ال متناهية. في ماء البحر

. الصنوبر واألرز، ورائحة زهور الفاكهة تعطر الحياة

زهور البنفسجية تقفز بعناد وسط أشجار الخشب العمالقة وال

ومن رحم الثلج األبيض على . تتحدى الضعف بالوجود

.الجبال تولد الحياة ملونة ومعطرة

. وصلت وسط المدينة واخترت مقهى من المقاهي

ا لم أجد. ا فلم أجدطلبت شايفهم . طلبت قهوة تركية أيض

أي شيء ساخن في هذا ال بأس،. يشربون القهوة الفرنسية

.هت بكوب القهوة بين يدي ارتشفت دفأأمسك. الجو البارد

بنية قهى ضباب كثيف يغطي األمن خلف زجاج الم

أقدام مسرعة . البيضاء، وحركة ال تتوقف رغم البرد والمطر

تحمل أجسادا ورؤوسا لها مالمح قد تكون جميلة، ا ووجوه

وأنا ال .خلف الزجاجالوجوه ال تظهر من . وقد تكون قبيحة

: ارتعدت من الفكرة. نينأعرف منهم أحدا، وال هم يعرفو

مرة أخرى أسير . فكرة أال أعرف بشر المكان وأال يعرفوني

Page 59: 296

٥٨

رأيت .حتى الطرق غريبة عن بعضها. في طرق ال أعرفها

أحياء من القصدير تطفح الذباب واألطفال أشباه العرايا

حديقة، لم تسمح ورأيت أحياء مسورة، وخلف كل سور

رأيت سيارات أمام كل . أشجارها برؤية ما خلف الحدائق

وكالبا ضخمة تحرس السيارات والحدائق منـزل،حديقة

.والمنازل والسكان

صعدت إلى أعلى قمة في المدينة حيث النصب

.التذكاري للشهداء، وقررت الرحيل إلى مدينة أخرى

طريق . من خلف زجاج السيارةا أتابعهةطريق جديد

في )) بسكرة(( من الجزائر العاصمة إلى مدينة ا اكتشفهةجديد

الضباب يتالشى كلما توغلت السيارة جنوبا، .الجنوب

. ةالطريق صخري. تتضاءل مقاومته ويذوب في الشمس

. سماء، ومدينة تسلمنا إلى أخرىالجبل والوادي العميق وال

مد ل الجنوب أصم صخرى، لم يسمح لنبتة واحدة أن تجب

في لحظات . حياة إال للجبل ولصخورهوال . جذورها في جلده

كثيرة كنت أتوقع نهاية رحلتي مع الحياة من كثرة انحناءات

احذروا ((الطريق، ومع كل الفتة معلقة تحذر من الخطر

Page 60: 296

٥٩

لسرعة، منطقة صخور متحركة، منحنى خطير، خطره ا

)).مميت

من خلف زجاج السيارات وفي عمق الوادي رأيت

قد تلحق بهم . ام السيارات الساقطة ورأيت جماجم البشرحط

سيارتي وقد ترقد عظامي رقدتها األخيرة في هذا الواداي

تشبثت بمكاني وبالحياة التي أبحث عنها في الجبال . العميق

لم . شدهاعلى أقدامي أسير، تشدني وأن. لمدنوالشوارع وا

.أتصور للحظة أن أفقدها أو تفقدني

الجبل وبحر من . ف إلى الطريقبدأ الرمل يزح

لو انحرفت . الرمال، وأنا في السيارة أنظر من خلف زجاجها

ا افترسها السيارة يمينا ابتلعتها الرمال، ولو جنحت يسار

لم أر ،العالم الرملي تفجرت ينابيع المياه فجأة، في هذا.الجبل

،ينابيع الحياة تتفجر . نهافي مثل زرقتها وال صفاء لو

لصحراء، تتحدى حبات الموت األصفر، وصخور تتحدى ا

ال أعرف هل هو البحر؟ هل هي ينابيع؟ هل . الجبل الصماء

هو النيل في قلبي فاض حتى روى الكون كله وانتهى عند

بيني . صحراء الجزائر؟ تقترب زرقة الماء مني وأهفو إليها

.وبينها الرمال، لو أعبرها، لو أقطع الطريق الرملي إليها

Page 61: 296

٦٠

فجأة ظهرت الفتة تحذر من السراب هر الماء وكما ظ

.والرمال المتحركة

لبي بماء النيل، فاض لم يفض ق.إذن هو السراب

وهم الحياة التي أبحث عنها، الحياة التي تصورت بالسراب، ب

لعاصمة ذات الم أجدها في خنشلة ولم أجدها في . أني أعيشها

جوه سكانها لم أجدها في و. الطوابق الخمسة واألبنية البيضاء

لم أجدها في أحيائها . وال في لسانهم الراطن بالفرنسية

. القصديرية وعلبها الصفيح وال في شوارعها الثرية النظيفة

.لم أجدها في قاهرة المعز لدين اهللا الفاطمي

أين أذهب؟ أين أجد نفسي والحياة؟ عم أبحث؟

لتي أعيشها، اهي أيامي وأنا . سئلتي بتحدأوقفت أ

جدها وأجد نفسي، على األقل سأرى مدينة جديدة وسوف أ

.وسأتواصل مع ما تقدمه لي

دفء شمس بسكرة ودفء قباب بيوتها المبنية بالحجر

.أدفأ نفسي

ست تنف. يائي في دوالب حجرتي بالفندقرتبت أش

سرى .بعمق الهواء القادم من الحديقة حامال رائحة الزهور

لل مسامي، عطرها في جسدي الممدد على السرير، تخ

Page 62: 296

٦١

مررت بأصابعي . شعرت بملمسها الناعم يتحسس أجزائي

على جسمي أبحث عن اآلخر، أبحث عن نبض الحياة

قتربت أكثر من ا، شممت رائحتي.المتدفق تحت جلدي

.رائحة اإلنسان سرت في كياني كله. نفسي

أسبح في فضاء األمواج . رحت في نوم عميق

حلق تيور النورس ط. حريرها الناعم يلمسني. الالنهائي

توحد أطير، أرتفع في الفضاء، أ. جنحتهاحولي تحملني على أ

.مع الحلم

الشمس وزهور بجلست في حديقة الفندق مستمتعة

ناديت الجرسون، ودون تفكير . البنفسج ونسمات الصباح

ربما . ال أعرف كيف جرؤت على طلبها. طلبت زجاجة بيرة

لحقي كنـزيلة ماالشجعني وجود أجانب بالفندق وربما استع

على أية حال لم أطلب البيرة كحق لي في طلب ما . أجنبية

ا كامل استندت إلى مبررات أخرى غير كوني إنسان. أشاء

.األهلية وحر التصرف

هدف سوى أن أراها بال أو حواجز اأكسر أسوار

إحساسي بالنشوة تفجر داخلي قبل أن ارتشف . تتحطم أمامي

أطبقت كفي . الذي يتكثف عليه الزبدقطرة من كأس البيرة

Page 63: 296

٦٢

عليه وتركت أطراف أصابعي تتحسسه، رفعته إلى شفتي

نغما سرى في الكونا خفي.

سمعت . التحمنا. دقات قلبي تتصاعد، أنفاسي تتالحق

اقتربنا من . التحمنا أكثر. أحصيت أنفاسهم. دقات قلوبهم

اولنا حفر لخالص، أمسكنا الحقيقة بأيدينا، حا حاولنا .الحقيقة

. مألنا جدران الجامعة بمجالت الحائط. طريق للخالص

وقفنا نحمي أوراقنا المعلقة على . ا على الطلبةوزعنا بيان

أغنية . تشابكت أيدينا. زاد عددنا. الجدران بأجسادنا

.المستحيل غنينا

لم . ا حذريناقتربت خطواته مني بحذر ولم نكن يوم

ل. ا ويده تشد على يدييكن حذرا، وحملوه على م يكن حذر

مضتا، أعوام قليلة األعناق ليغني للوطن كان وكنا صغار،

ولم يبق إال أن . لم تعد أشياء كثيرة كما كانت. ا كبرناولكنن

.ننشد المستحيل في صدورنا لعله ينفجر بها يوما

أنت هنا بعد كل هذه السنوات، ماذا تفعلين؟-

. هشام-

أين كان الخطأ في . اهكم غنينا للوطن وكم عشقن

.ننا كنا صادقيناألغنية؟ وأين كنا؟ ال أعرف إال أ

Page 64: 296

٦٣

منذ متى أنت في بسكرة؟-

كنت سأتصل بك . منذ األمس ولي شهور في خنشلة-

.اليوم فقد حصلت على تليفونك من أصدقائنا في مصر

لم أعد . حدثيني عن مصر. وها نحن التقينا صدفة-

.منذ سنوات

ألم تشتق . ات دون العودة لمصر كيف تحتمل سنو-

للنيل وللشوارع ولألصدقاء؟

أشعر أن . ا، وحتما سوف أعوداشتقت لهم جميع

أنت كما أنت ما رأيك لو نذهب إلى بيتي . السنوات لم تغيرك

للغذاء؟

. ليس عندي مانع-

ا من سوق ا ونبيذاشترى هشام دجاجة وبطاطس وخبز

. إعداد الطعام وشرب النبيذبدأنا في. المدينة وذهبنا إلى بيته

. ثنا عن مصر واألصدقاءدتح. سمعنا فيروز وغنينا معها

صديق قديم أعرفه ويعرفني يتحدث اللهجة المصرية

وألما حاضرا ال نعرف . ويشاركني ذكريات حميمة مضت

.متى ينتهي

Page 65: 296

٦٤

ساعاته تقترب تنتزع حقها في الوجود . عام جديد مقبل

ع الفرح، كنت أزين الحياة، كالساعات المقبلة كنت أنتز

من حق ميالد العام الجديد ومن حقنا أن . حياتي وحياتهم

بيتي الصغير هناك يستقبل كان . نذوب في ساعاته األولى

ترى ماذا يفعلون اآلن؟.سنة جديدة ويستقبل األصدقاء بي

ارتديت مالبسي وتزينت ونزلت من غرفتي في الفندق

.في انتظار هشام

كيف ستقضي رأس السنة؟. ت بخير كل عام وأن-

، الليلة مع أسرة عراقية وأصدقائها اعتدت أن أقضي-

.وهم يوجهون لك الدعوة لالحتفال بالعام الجديد معهم

ستقبل أن أرفض الدعوة، وال أستطيع أن أال أستطيع

. فكرة الوحدة، مجرد الفكرة، ترعبني.العام الجديد وحيدة

ا يدفعني لقبول دعوة ممن ال الحياة وبأن أذوب فيهبتعلقى

تدفق مجنون يفور في كياني يلح علي كل لحظات . أعرفهم

.عمري كما لو كانت هي اللحظات األخيرة فيه

خلود . كنت مرتبكة وأنا أتعرف على أصحاب البيت

وزياد مدرسا رسم، وضيوفهما فاضل مدرس وشاعر، سعدي

ا جميع. مدرس، وطالب مدرس أيضا، ومصطفى طبيب

Page 66: 296

٦٥

هربوا من التعذيب في . بوا من المقصلة في العراقهر

هربوا من مواجهة . من صكوك االعتراف والتوبة،السجون

عيون الفقراء الذين انتظروا الخبز زادا وعدومن . ا بهو

هاربون منذ زمن الحجاج، همجميع. سياط الحلم بالحرية

.الذي أصبح زمنه بال زمن

غنينا أغاني . إمامغنينا للشيخ. وس النبيذشربنا كئ

مألني هذا . كنت سعيدة.رقصنا. عراقية للحب والثورة

.اإلحساس المطمئن الذي أحسه وأنا مع الشيوعيين

لم تفارقه ابتسامته الخفيفة وال الحزن العميق في

.انتظر فاضل لحظة من الهدوء ليسألني عن أمل دنقل. عينيه

.مات بعد رحلة مع المرض -

- الشعر أم بالوطن؟ا بهل مات مريض

أنت ماذا ترى؟ -

.وطن فماتالأصابه الشعر بعشق -

.ا بالسرطانلقد كان مصاب. رؤية شاعر -

خيط بين . كأسه وترقرق الدمع في عينيهىضغط عل

.القلب وبين العين ضغط على قلبي

منذ متى وأنت في الجزائر؟-

Page 67: 296

٦٦

؟.. منذ شهور قليلة وأنت-

. تركت العراق منذ ست سنوات-

امتد العالم أمامي، اتسع، عثرت على .. يا إلهي.. آه

نفس . وغل في البعد بعيدة ت،أجزائه إال مصر، كانت بعيدة

ألقتني . اليد الشريرة تكورت التفت على جسدي تعتصره

ا في بالد ال أعرفها وبين بشر ال أعرفهم وفي طرق بعيد

.ليس منها طريق العودة

!ت تحيا؟ كيف؟ ومازل!؟ ماذا، ست سنوات-

أو ،واإلعدام. عدت ينتظرني السجن ماذا أفعل؟ لو-

.التوقيع على االنسحاب من الحزب وإدانته

. زت كيانيعنيفة هارتعاشات . علت دقات قلبي

. في وجه النفي والمنفي،صرخت في وجهه في وجوههم

روحي، جسدي، أرض ،ا وأرفضكمقلبي وطن لكم جميع

أرفض . أرفض هزيمتكم. ما وأرفضكخضراء طيبة لكم جميع

، ضغطت على أصابعي.تحسست وجهي وشفتي. منفاكم

ولم يسمع أحد صراخي . يفركتها، وضعت يدي على ساق

. فتحت الزنزانة. جلدي، الملح يحشو جراحيالسوط يكوي

اقترب . أنشبت أظافري في األرض. احتميت بجدرانها

Page 68: 296

٦٧

ي، لم يبق على ما يسترن. يده مزق ثيابي الرجل مني، مد

رفعت فخذي . وضع ساقه على بطني. شدني من شعري

بال . حتمللم أ. رتي، داس فخذي بساقه األخرىألستر عو

هزيمتي وهزيمتنا وهزيمتهم في.

.لم ينفكم أحد من العراق. تم انتحرتم -

من إذن الذي فعل؟؟ذا تقولينما-

انتهازية . ولكنها انتهازيتكم،كمأخطاؤ: لن أقول

.د كان البد أن يؤدي إلى ما وصلتم إليهمنهج ممت. حزبكم

.إنها أخطاء قيادات الحزب

طفلي المجهض ينهش .ارتعش جسدي مرة أخرى

.لحمي يطالب بالثأر مني ومنهم

وأين كنتم حتى تقودكم قيادات الحزب إلى ما وصلتم

إليه؟

خيط الدم الممتد من قلبه . بريق عينيه يستجدي سكوتي

. حلم أمسكته بيدي وضاعيئن في صوته المسكوب على

.ضيعته وضيعوه وأضعناه

أوصلني هشام إلى محطة األتوبيس الذي سينقلني إلى

. عاودني خوفي وأنا أصعد السيارة إلى مقعدي. خنشلة

Page 69: 296

٦٨

قطعت الرحلة إلى . الخوف المهين من كل شيء محيط بي

.خنشلة ولم يغادرني خوفي لحظة واحدة

حيدة وقبع نتزع من ألفة من عرفت ألمرة أخرى أ

ع إطفاء نور في الليلة األولى لم أستط. حجرتيخائفة في

الحجرة من شدة الخوف وكأن وحوش العالم تترصدني وبدأ

في السابعة . األولالجزء الثاني من العام الدراسي كما بدأ

أنتقل بين الفصول . أدخل الفصل األول في الثامنة. أستيقظ

.وأقول نفس الكالم

أخرج لشراء . ى نفسي في الخامسةأغلق باب بيتي عل

وأزور نادية كلما . طعام أحيانا وتزورني رفيقة وفريدة قليال

وأكتب الرسائل إلى مصر، وأنتظر رسائل من مصر . تمكنت

.وأقرأ األدب الجزائري. لي

ألسنة اللهب تصعد من ساقي زاحفة على .. حلقي يجف

العرق يتصبب من كل جسمي . بطني وصدري ورأسي

أشعر بدفق . تتسعرأسي ينفجر من األلم، شراييني. عشالمرت

. ستطعي حاولت أن أتحرك، لم أالدم فيها كالمطارق في رأس

. الجدران األربعة تهتز.ساقي المرتعشة ال تقوى على حملي

Page 70: 296

٦٩

شفتي ولساني .أنيني ال أسمعه. السقف يطبق على األرض

هل الموت يقتحم وحدتي؟. جفا من العطش

. ناديةت إلى بيتال أعرف كيف وصل

صدرها . نتفض وأبكيارتميت في حضنها وأنا أ

ال أعرف منذ متى وأنا في المستشفى . الطيب احتضن ألمي

أدركت ما حدث عندما فتحت عيني . وال كيف وصلت

.ووجدت نادية وفالديمير بجواري على السرير

امرأة بدينة . جاءت الممرضة لتقيس درجة حرارتي

تحركت . لم تتحدث. بوغ بالحناءجلدها أحمر وشعرها مص

.حركة آلية منتظمة وخرجت

))..هل هذه الممرضة جزائرية((سألت نادية

ألمانية هربت من النازي، وجاءت إلى هنا، .. ال-

صعدت مع الثوار إلى الجبل ضمن عشرات من الجنسيات

.األخرى، وبعد انتصار الثورة أسلمت وتزوجت جزائريا

جاءت لقياس درجة حرارتي قتحمها عندماقررت أن أ

.وإعطائي حقنة

.ردت بالعربية.. سمهاسألتها باإلنجليزية عن ا

.سمي عائشة ا-

Page 71: 296

٧٠

.لمانية ولكني عرفت أنك أ-

.. غيرت اسمي بعد أن أسلمت-

منذ متى وأنت هنا؟-

عمر طويل ال أتذكره؟-

؟.. هل تركت ألمانيا أثناء الحرب أم بعدها-

يا عندما كان يجب أن تركت ألمان.. ال أتذكر-

؟..أتركها

لماذا لم تعودي بعد انتهاء الحرب؟-

.. لم أعد-

أنت من ألمانيا الشرقية أم الغربية؟ -

!! من ألمانيا-

اشتركت في حرب تحرير الجزائر، أليس كذلك؟

أجانب كثيرون حاربوا مع . لم أكن األجنبية الوحيدة-

.الجزائر، وأنا كنت أطبخ للرجال

حملي السالح؟ ألم ت-

ارتعشت شفتاها وهي تحاول إحكام إطباقهما . لم تجب

بسطت كفي وودت لو . مدت يدها إلى ذراعي لتعطيني الحقنة

. شم رائحة ما لم تقلهقد أ. بين ذراعيها نيفردت يدها واحتوت

Page 72: 296

٧١

لم تهتز . ت اإلبرة في لحميزصرخت من األلم عندما غر

بالمطهر فوق لةبنفس اآللية وضعت القطنة المبل. أللمي

ا أنا إذا أردت شيئ: ((موضع اإلبرة، وقبل أن تخرج قالت

)).موجودة

إلى أفراحهم . تحملني في كل مرة رسائلهم إلى هناك

وأحزانهم، وذكريات محفورة في عظام أعمارنا، هي ما تبقى

جذور الذكريات ممتدة حيث تقف، حيث . لنا وما نبقى عليه

منها نعيش وعليها . واءموضع أقدامنا، وكل ما حولنا خ

أعمارنا .تسبق كالمنا عن أي شيء)) كنا. ((نواصل الحياة

ت العجز لسنوات وما يليها أضاف)) كنا((غيرة ولكن ص

وأنا هنا ألملم ما . وقفنا عند حدود ما كانتوقفنا أو أ. الشباب

فالمقبل مجهول وال أنا وال . أستمد منه القوة. كان داخلي

فراغ . النتيجة واحدة. ردنا أو أجبرناهكذا أ. نحن جزء منه

كأننا تحولنا إلى ندابات وإذا عال صوت فبالنحيب و. وخواء

. النيلعلى ضفاف

عدت أجر قدمى وأتحامل على ما تبقى لي من قوة

كنت أشعر أن بيني . حتى أصل إلى بيتي بعد يوم عمل مجهد

Page 73: 296

٧٢

ني لم أخرج من تي مسافة ال أقدر على قطعها رغم أوبين بي

. وجدت رفيقة في انتظاري أمام باب البيت. ر المدرسةسو

يا رفيقة منتظرة منذ متى؟أهال -

شعرت بالبرد فقلت لن يدفأني إال . حاال وصلت -

.شاي المصرية

أهال بك، حقيقة سعدت ألنك نشدت الدفء فيما -

.حملته معي من مصر

وضعت إبريق الشاي على البوتاجاز ووضعت قطع

وأدارت رفيقة جهاز الكاسيت ووضعت فيه . الجاتوه في طبق

تمايلت معها أنفض أحمالي . شريط منوعات لبنانية راقصة

.عني

.. عندي لك خبر ال أعرف كيف سيكون وقعه عليك-

. قالت رفيقة وهي تأخذ كوب الشاي من يدي-

ماذا قولي؟-

-ا كان ما سأقوله أرجو أال يؤثر على صداقتنا أي.

وكل . ا يمكن أن يؤثر على عالقتناال أتصور أن خبر

..شيء قابل للمناقشة هيا تحدثي

Page 74: 296

٧٣

اقتربت منها أكثر وتربعت فوق السرير وأخذت كوب

..الشاي بين كفي

. أنا حامل-

ماذا؟ حامل؟-

لم أستنكر ولكن لم أكن . شهقت وأنا أردد الخبر

.أتوقعه

كيف حدث هذا وأنت ال تلتقين بخطيبك إال خلسة، -

. غير مسموح له بزيارتك فيهحتى بيتكم

هل تعتبرينني مخطئة؟-

ولكن كيف حدث هذا؟، إطالقا لست مخطئة-

وهذه المرة . نحن نلتقي في بيت أحد األصدقاء-

أجهضت في المرتين السابقتين . الثالثة التي أحمل فيها

اإلجهاد في الثالثة كما أنه سيكلفني السفر إلى نوأخشى م

.تونس ألنه هنا ممنوع

كيف ستواجهين الموقف؟-

.وعندما ألد سنقول ابن سبعة أشهر. سنعجل بالزواج-

.كتشفت الحكمة من الوالدة في الشهر السابعأخيرا ا

Page 75: 296

٧٤

رفيقة، هل ممارسة الجنس قبل الزواج أو في -

العالقات الخاصة أمر عادي؟

وأن يتم مع شخص موثوق بشرط أال يعرف أحد، -

.ن صديقته، إذا حملتر وال يتخلى عهفيه، ال يش

أنا لست ضد حدوثه، ولكن لماذا الكتمان إذا كان -

ا بشكل أو بآخراألمر قائم.

. نحن عرب ومسلمون-

. وفرنسيون فيما يمتع-

شعال سيجارة لي حكت ولم تعلق، وتشاغلت بإض

.وأخري لها

. لم أجد سوى عشرة طالب،دخلت أول الفصول

أين باقي زمالئكم؟-

. فقد سمعت نحيب الطالباتلم يرد أحد،

.. ماذا حدث؟ تكلموا-

)).كنا في المستشفى((بوجه جامد قال أحد الطلبة

لماذا؟-

. للتبرع بالدم لبو شوارب-

هل أصيب في حادث؟-

Page 76: 296

٧٥

.تشاجر أمس مع عالوة لشخب.. ال-

كانت تفوح . شوارب مني في حصة األمس اقترب بو

.من فمه رائحة الخمر

ا على االحتفاظ لم يكن قادر. أكثرابتعدت، فاقترب

كيف حالك يا ((:كان يلوك الكالم بصعوبة قال لي. بتوازنه

إذا كنت في حاجة ألي شيء أنا أخوك ال أستاذة في بالدنا؟

اتعولي هم.((

أشكرك أنا هنا : ((قلت له. فزعت رغم كالمه الطيب

)).بين أهلي وأخوتي

ت بأني أبعد تظاهر. كنت أتلمس ما لم يفسده الخمر

ذبابة عن وجهي بيدي التي تحركت لتربت على كتفه دون

.انتباه مني، ولكني تنبهت بسرعة

في . في مقهى القرية واصل سكره هو وزميله عالوة

يخرج من. المقهى كلهم يتحدثون، ال أحد يسمع إال نفسه

، في المقهى وعلى مقعد القمقم حبيس الدين والناس والعسس

انها تتراقص الفراشات، تحوم حول صغير في آخر أرك

يتوحدون . ةسها الناعم يتحسس األجساد المكدودملم. الوجود

في آخر . حيث ال توحد، ويتعددون حيث ال وجود ألحد منهم

Page 77: 296

٧٦

لسعات البرد تلفح وجهيهما، . المقهى الليل خرجا معا من

يلعن ربه، ويلعن ،يتمتم لشخب باسم. يلتصقان أكثر بثيابهما

ها إال جسد صاحبة سخونة جسده التي لن يطفئمه ويلعن أ

شوارب لصاحبته، فهي ترديد االسم نبه بو)). زبيدة. ((االسم

لم يستطع تحمل سماع أحالم صديقه التي عرت . ابنة عمه

ابنة عم، وتحسست جسدها األبيض الطري، صفعه على

شوارب أصيب بجرح بو. أخرج كل منهما مطواته. وجهه

صيب بجرح في ساقه لم تتحمله، مزق الكلى، ولشخب أ

.إنها البد أن تبتر: األطباءويقول

لم أستطع تحمل ما حدث أعرف أنه يتكرر في كل

ا على ورق الجرائد، مكتوبهولكنني كنت أعرف. بقاع األرض

بحثت عن جدوى وجودي بين طالبي، عن ،لم أواجهه

. جدوى ما أدرس، عن جدوى ما أحاول تقديمه لهم فلم أجد

دفنت رأسي في . ذرت لبقية الفصول، وعدت إلى بيتياعت

الوسادة، وكأني أدفن الرعب الذي يدهمني عندما أواجه

قد أواجه أشكال التخلف في كلمة أو . بالتخلف واالنهيار

ا بالدمموقف، لكنني لم أواجه التخلف معمد.

Page 78: 296

٧٧

أليام طويلة ال يفارقني الصداع، وال اإلحساس

. ي إلى كل أجزاء جسديبالضعف، ألم زاحف من قدم

وأصبح الوهن وفتور الهمة والرغبة الدائمة في النوم هي

.الحاالت المالزمة لي

ال أقبل أقل حركة . أصبحت عصبية بشكل ال يحتمل

في الفصل، حدتي في التعامل مع طالبي كانت تقلقني ألني

جزء من حلم . أحبهم، فهم جزء من عمري وأنا أحب عمري

وعمري وأحالمي دب. عشق أحالميأا أتمنى تحقيقه، وأن

.ورفضي لوهني عصبي وحاد. فيها الوهن

رسالة لم تكن ا على مظروفوجدت اسمي مسطور

فأنا لم أترك . قادمة من القاهرة، لم أتوقع أن تكون من فاضل

.عنواني ولم نتفق على المراسلة

حتى فكرت في الكتابة )تلمسان(ما إن وصلت إلى ((

في ذهني تلك األوقات الجميلة التي قضيناها اإليك، مستعيد

تلك األوقات المليئة بالصدق والفرح والحزن . في بسكرة

. إنها تبدو لي اآلن كرؤيا موغلة في العمق والبعد.. النبيل

ا أن ال نلتقي ثانية، فليس هناك شيء يؤلمني أشد سيكون مؤلم

Page 79: 296

٧٨

ما من فقدان إنسان نبيل ورائع في هذا الزمن الشحيح بكل

)).هو رائع

ا من القهوة وأشعلت سيجارة وتمددت أعددت فنجان

ا من السيجارة ورشفة من فنجان أخذت نفس. على السرير

القهوة وقرأت الرسالة أكثر من مرة تركتها ألبحث عما

يا فقد قفزت من فوق سريرلم أبحث كثير. تركته داخلي

.وذهبت إلى نادية

ن التقيت بهم في بسكرة أرسل إلي أحد العراقيين الذي-

.هل تذكرين؟ حدثتك عنهم. لة اليومرسا

. نعم أذكر أنك التقيت ببعض العراقيين-

-ا رسالة رقيقة جد.

كتبت الرد؟-

. ما أعود إلى بيتيسوف أكتب عند. لم أكتب بعد-

. أنني رائعةقال في رسالته

.هو لم يبالغ أو يجامل، أنت فعال رائعة -

رة واحدة ولعدة ساعات ليلة رأس لم نلتق سوى م -

.السنة

Page 80: 296

٧٩

تركتني وصعدت للطابق الثاني لتحضر الحلوى لنأكلها

.مع الشاي

.دعاني لزيارته في عطلة الربيع -

؟من -

.الصديق العراقي -

.شيء لطيف منه -

ال . لمعت عيناها وابتسمت وهي تقول جملتها األخيرة

..؟أعرف لماذا ارتبكت

على إما أن يوقع. سنواتترك العراق منذ ست -

.االنسحاب من الحزب أو يعدم

ما أن يوقعوا على أعرف أنهم تركوا العراق، وإ -

.االنسحاب من الحزب أو يعدموا

. أن يجبروا على ترك وطنهمشيء قاس -

نادية، لماذا يساعد االتحاد السوفيتي نظام البعث -

؟نالعراقيي نالشيوعييوهو يقتل

لماذا أصاب اهللا أمي بالمرض، كالطفل الذي يسأل

الذي لم أفكر فيه قبل أن أنطق به، فأنا أعرف يأخجلني سؤال

Page 81: 296

٨٠

القهوة، ويبدو أنها شعرت بارتباكي ا من طلبت فنجان. اإلجابة

.فلم تجب

خرجنا في موكب نسائي من منـزل أهل رفيقة إلى

جرادل وأطباق كبيرة .الحمام تحمل األواني النحاسية

لة فرح رفيقة، وقد أخرجت أمها أواني الحمام للياف. وأكواب

عرسها، ومرة مرة ألول حمام بعد : تخرج إال مرتين لمالتي

استقبلتنا . وها هي تخرج للمرة الثالثة. في عرس مليكة

فرحة . صحبة الحمام والنساء شبه العاريات بالزغاريد

العرس أطلقت غناءهن من حناجرهن، والدق على األواني

طلق النغم األفريقي دما فائرا من أرجلهن فتحركت ان.بأيديهن

ا أفخاذهن وصدورهن وبطونهن في رقص ساخن ينساب عرق

ذكرى الليلة األولى للعرس يتداعى وغنج. على جلودهن

ال يذكر كأنه لم حكايات على ألسنتهن، فما قبلها من غنج

فليلة الفرح هي الليلة الشرعية المسجلة في دفاتر ،يحدث

ية والتي تحمل بعدها المرأة لقب عائلة الزوج، يسجل البلد

.على دفاتر مكتوبة ومحفوظة

Page 82: 296

٨١

بعد . ة الشعربعد الحمام انتقل موكبنا إلى مصفف

تصفيف شعرنا جابت بنا السيارات المدينة قبل أن تنقلنا إلى

.بيت أهل رفيقة

وأباريق القهوة . ها أطباق الحلوىيامتدت صينيات عل

سفنج الملقاة على األرض في قطع اإل جلسنا على.واللبن

ا، بزيهن التقليدي استقبال النساء والفتيات الالتي أتين تباع

فستان حرير مشرق األلوان مطرز بخيوط مذهبة . للعرس

.وبدون أكمام ويحيط الوسط حزام من الذهب أو لفضة

دقت الطبول وعلت الحناجر بالغناء وتصاعدت

ى في دمائهن البربرية، تحرك الزغاريد، أفريقيا موسيقي تسر

تفجر . األقدام، تهز األرداف والبطن والصدر والخصر المائل

فقط تتحرك الموسيقى . ا كامنةقوة ليست كامنة ولم تكن يوم

،تقترب الواحدة من األخرى. اا ساخنتحت الجلد، تتفصد عرق

نار أفريقيا . تتالمس األكتاف وتتوحد األنفاس الالهثة

ح فتجذبني إحداهن ددقات الطبول تعلو وتصالمشتعلة في

فالنار داخلنا . ألدور في حلقة النار واحدة ممن يتعبدن داخلها

دغال النفس اإلفريقيةا جذور ممتدة في عمق أجميع.

؟))أين زوجك، لقد تأخر: ((سألت رفيقة

Page 83: 296

٨٢

. يحضر اآلن-

متى سيحضر، لنا ساعات ننتظره؟-

.لى بيت أهله سوف يحضر آخر الليل ليأخذني إ-

ماذا؟-

كما ترين الفرح للنساء في بيت العروس وللرجال -

اآلن أصدقاؤه . ولن يدخل بيتنا إال ليأخذني. في بيت العريس

.يحتفلون به كما تحتفلن بي

اهللا يلعنكم، كل هذه المساحيق والزينة والمالبس -

.والرقص ولن يرانا رجل

ارة إلى بيت جاء رشيد في ساعة متأخرة، وأخذتنا السي

سبوعين ثم ا للتقاليد أن يقضي عندهم أفالمفروض وفق. أهله

.ينتقل إلى بيته

ن فقدنا أثر العروسين، تجمعنا في صالة البيت بعد أ

علت . دماء حمراء فوق قطعة شاش أبيضاهموخرجت أثر

واحتضنت . الزغاريد، واحتضن الرجال أباها وأشقاءها

.النساء أمها

من أين أتت رفيقة : وأنا أتساءلعدنا إلى السيارات

بالدم الذي لطخ قطعة القماش البيضاء؟

Page 84: 296

٨٣

تعرفت على صبية تجاوزت العشرين من عمرها بقليل

تهللت لرؤيتها . بها تطرق بابيفوجئت. في فرح رفيقة

ا ال شدني الصفاء في عينيها يحمل حلم. حمر وجهها خجالفا

.يحتمل إال التحقيق

.نسيتني؟ أنا شهيدة -

:قلت لها..لم أتركها تواصل

-ا بك، لم أنسك، وتوقعت زيارتك لي؟ ولكنها مرحب

تأخرت أليس كذلك؟

لليسانس وأحضر أوراق ا كنت أستخرج شهادة -

.تعييني ألقدمها للمدرسة فسوف أدرس معكم الفرنسية

حسنا سأضمن . شيء رائع أن تكوني معي، مبروك-

ذكر الشاي ىوعل. أن أجد من يشاركني كوب الشاي

.. ماذا تشريين؟والقهوة،

.. ألجرب الشاي المصري-

. تهيت منه عدت لهاتركتها ألعد الشاي وبعد أن ان

.خرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارةأ

شهيدة هل يضايقك أن أدخن؟-

Page 85: 296

٨٤

. إطالقا هذا أمرك الخاص وأنت حرة-

ري منه شتولكني شعرت باستياء البائع وأنا أ -

على فالديمير في شرائها نني أصبحت أعتمدالسجائر، حتى أ

أيضا منذ أيام زارتني إحدى تلميذاتي وبمجرد أن . لي

.أخرجت سجائري شهقت واستنكرت بشدة

ون أن تدخن ب ال تهتمي، فالرجال هنا ال يستوع-

أكل الشمة وهي أيضا شكل من ،ويستوعبون أن تالمرأة

لسائد من التفكير، أما تلميذتك فهي متأثرة با.أشكال اإلدمان

ا ندخن وأحكامها ستختلف بمجرد ذهابها للجامعة، فنحن جميع

.في الجامعة، ولو على سبيل التسلية والتقليد

. إذن يمكنك أن تأخذي سيجارة-

ال بأس بشرط أن توفري لي قطعة لبان قبل أن -

.أعود للمنـزل

جامعة يا شهيدة؟ة خريجة أي-

. جامعة قسنطينة-

تقيمين؟ أين كنت-

. في الحي الجامعي-

.خر في هذا الجو الباردآ ما رأيك في كوب شاي -

Page 86: 296

٨٥

ال أعرف متى سيذوب الثلج الذي يغطي قمم الجبال

.وإن كنت أحب هذا المنظر

أغلق الجليد الطرق أول أمس حتى في قسنطينة-

.جاءت كاسحات الجليد وأزاحته

. هيا معي إلى المطبخ لنعد الشاي-

نفس ،معيايبة من حياتنا في الحي الج حياتك قر-

بنين ا؛منذ سنوات كان الحي الجامعي مشترك. البساطة

لكن األخوة السنية هاجموا هذا وكان أجمل بكثير،. وبنات

هل تأتين .خرا آاالختالط حتى فصلوا البنين وبنوا لهم حي

..ه؟نطينمعي مرة إلى قس

.الجزائر نعم، أتمنى فأنا أريد أن أتعرف على مدن -

. وجدت طفلة صغيرة تخبط على باب بيتي بإصرار

:بسرعة وكأنها تستنجد بي: بمجرد أن رأتني قالت

. يا مصرية أختي شهيدة تحتاجك هيا معي للبيت-

تبدد حلمي بالنوم لساعة أو ساعتين، فليس عندي

نصف يوم عمل أنتظره من األسبوع لألسبوع ألنعم بنوم

.الظهيرة الذي حرمت منه

. انتظري لحظة أضع كتبي وأوراقي وآتي معك-

Page 87: 296

٨٦

دخنتها . اختفيت من الطفلة في الحمام ألدخن سيجارة

.بسرعة شديدة حتى أصابتني بالدوار

استقبلتني أم شهيدة بترحاب شديد متخلصة من أيدي

هرولت للدخول تعلن عن قدومي . أطفالها العالقة بثوبها

. د األزهر الشريفلزوجها الذي أتى مرحبا بالقادمة من بال

.وجدتها ممددة على السرير تئن. أدخالني حجرة شهيدة

ماذا بك؟ حرارتك مرتفعة؟-

. ليلة األمسم أسناني تؤلمني، لم أن-

ولم تذهبي للطبيب حتى اآلن؟-

ال يوجد طبيب أسنان . هذا ما استدعيتك من أجله-

.بخنشلة فقد أغلقت عيادته ونقلت إلى متوسة

هذه؟ وأين متوسه -

ا من هنا، وأردت أن تأتي تبعد خمسة عشر كيلومتر

. حتى يهتم بي أكثرمعي ألن الطبيب مصري؛

. هيا بنا-

ا أخذنا السيارة من أمام مبنى البلدية، كان الجو مشمس

مع تساقط رذاذ خفيف من المطر، ولسعة هادئة لهواء نقي

انعكست الشمس على سنابل القمح . محمل برائحة الزهور

Page 88: 296

٨٧

. ترويه قطرات ندية من المطر،هجت تظللها سماء زرقاءفتو

:هي تضع يدها على فمها قالت شهيدة

بنينا ألف قرية . متوسة إحدى قرى الثورة الزراعية

عمتى تعيش . اشتراكية بمساعدة خبراء من الدول االشتراكية

.هناك، سوف نذهب لزيارتها

تى سرنا عدة أمتار ح. توقفت السيارة عند مدخل القرية

مررنا على غرف مغلقة، علقت على . وصلنا للوحدة الصحية

أبوابها لوحات معدنية كتب على كل لوحة تخصص الطبيب،

حكيم ((حتى وصلنا إلى حجرة على بابها لوحة كتب عليها

)).األسنان

سجل العامل الجالس بجوار الباب اسم شهيدة في دفتر

لنا الطبيب استقب.. بلهجة جزائرية ركيكة. ودعانا للدخول

رددت تحيته باللهجة المصرية فلم يلتفت لكوني .. مرحبا

)).األستاذة مصرية: ((قالت له شهيدة. مصرية

. بكمستحيل، أهال.. مصرية-

.تصورت، أنك ستعرفني من لهجتنا. بك أهال-

هنا يتحدثون معي باللهجة المصرية؛ ألنها سهلة، -

ن المصري بنجومه له وغزو التليفزيو. والجزائريون يحبونها

Page 89: 296

٨٨

كشف على أسنان شهيدة . سحر يدعو لتقليد اللهجة المصرية

تركتنا وذهبت . ا من صيدلية الوحدة الصحيةوكتب لها عالج

.لتصرفه

.لنقوم بالواجب؛ كيف تكونين هنا وال نعرف -

ا لكشكر..

يوجد معك مصريون بالمدرسة هل تعرفت عليهم؟

لذا . ا طيبلم يكن لقاءالتقيت بواحد منهم يوم وصلت، و

ا ال وتقريب. لم أحاول التعرف على أحد سوى األستاذ رفعت

.أراه إال في حجرة المدرسين

سوف نذهب لبيتي ألعرفك بزوجتي، سيسعدها أن -

.تلتقي بك

- ا، ال أريد أن أزعجكمشكر.

عيب، ال تقولي هذا، سوف أستعد حتى تعود -

.صديقتك

من طابق واحد ومحاطة بسور البيوت في القرية كلها

علقت فوق . خلفه حديقة، وجميعها ال تتجاوز العشرين بيتا

.أسطحها هوائيات التليفزيون

Page 90: 296

٨٩

فقد رأيت . اندهشت بدرجة شديدة حتى كدت أصفق

:الفته كبيرة كتب عليها بالعربية

))مكتبة ومسرح قرية متوسة((

)).متى تفتح المكتبة، أريد أن أدخلها((قلت لهما

..ا معا ولم يرداضحك

فعال أريد أن أدخل المكتبة وأن التقي بالمسئول عن -

.المسرح

:واصال ضحكهما وقال الدكتور عادل

كل ، يا أستاذة هذا المبنى مغلق، ال مكتبة وال مسرح-

المسألة إن خبراء الدول االشتراكية التي شاركت في إنشاء

بيوت والطرق طراز ال. القرى االشتراكية هنا نقلوا ما عندهم

المؤدية لها والحدائق والمسرح والحضانة وهي أيضا مغلقة،

.فالنساء هنا لسن عامالت ولسن بحاجة إليها

بجوار المكتبة والمسرح والحضانة وضعت الفتة على

)).الحمام((مبنى رابع كتب عليها

:ةقالت شهيد

هذا هو المبنى المستخدم فهو ما يحتاجونه هنا وما -

.يخصهم

Page 91: 296

٩٠

وصلنا البيت، فتح بوابته، دخلنا حديقة صغيرة بها

.نادى عادل زوجته. تكعيبة عنب وحوض نعناع

.. إيزيس-

يسكن االسم .. رددت االسم خلفه بيني وبين نفسي

وانتظرت أن تقبل . عميقا في نفسي ترديده حرك الساكن

شابة صغيرة سمراء ممتلئة، شعرها أسود يصل إلى ما قبل

. بصوت عال قدمنا لها. مة ومرحبةتسخصرها بقليل، مب

قال أنني مصرية، رفعتني أنخذتني بين ذراعيها بمجردأ

.ودارت بي

. أخيرا وجدت مصرية-

. يبدو أننا نبحث عن مصريين في الجزائر-

حدا إال جارتي، وال تتحدث إال ال أرى أ. الملل يقتلني

نتظر عودة تعبت من البقاء طول اليوم أ. لسورمن خلف ا

انتظرت أن أعين مدرسة للغة اإلنجليزية .. ل من عملهعاد

.هنا في المدرسة اإلعدادية، ولكن لم أوفق

رفضت إيزيس وعادل أن نغادر بيتهما قبل الغذاء،

.وأكدا على أن أزورهما، ودعوتهما بدوري لزيارتي

Page 92: 296

٩١

أشجار الفاكهة تتسلق أسوار حدائق المنازل، وأطفال

عارية ائق المغلقة، أجسادهم صغار يلعبون أمام بوابات الحد

هم ومؤخراتهم زرقاء من البرد، إال من جالبيب رقيقة وأفخاذ

وشعورهم ملبدة من كثرة ما علق بها من أتربة، وأنوفهم

يرفعون أيديهم الصغيرة ،يتدلى منها مخاط أزرق وأبيض

.يمسحونه بأصابع ملئت أظافرها باألوساخ

عب التي ح وجود الطين لصنع اللرذاذ المطر أتا

ل يجلس بجوار حائط يتبول، اطفونها كأنها الهدايا، طفيتخ

خر بحجر، يصرخ، يحتبس بوله، يتأوه ويتحامل على يقذفه آ

.نفسه حتى ينتهي

امرأة عجفاء منكمشة على .وصلنا منـزل عمة شهيدة

. سلمت على شهيدة وعلى ودعتنا للدخول. نفسها من البرد

. ة تغزل عليه صوف األغنامدخلنا حجرة بها نول كانت المرأ

نادت المرأة على ابنتها لتشعل المدفأة، وشكت من البرد الذي

بنة ونظرت في رحبت بنا اال. ظهرهافتت عظامها وأحنى

: خزينة وقود المدفأة وهمست لألم في أذنها بكالم، قالت بعده

:بنة بخجل قالت اال،))اهللا غالب يا ابنتي((

.مرحبا بكما -

Page 93: 296

٩٢

شعرت أن الدم سيتفجر . فرك أصابعهاوظلت واقفة ت

.من يديها من شدة الضغط بيد على األخرى

لمحت شهيدة تطبق بيدها على . قامت شهيدة مستأذنة

كانت كلماتها التي ودعتنا . ورقة مالية وتضعها في يد عمتها

)).سامحوني ما شربتم القهوة((بها

يدة، أين األرض؟ شه-

أية أرض؟ -

ليست هذه قرية؟األرض الزراعية، أ -

.بعيدة نسبيا عن البيوت -

من يزرعها؟ -

،يزرعها الفالحون، ولكنهم لم يحصدوا ما زرعوا -

كثيرة، أعتقد أن تسيير الذاتي والتعاونيات ألسباب فقد فشل ال

الفالحين وتباع ن الحزب وراءها، وسوف ننتزع األرض م

.سمعنا هذا. لمن يستطيع الدفع

من أين تعيش عمتك؟ -

عندها أرض كان زوجها يزرعها ومات منذ سنوات -

تصرف . ولم تعد قادرة هي على رعايتها وسوف تؤخذ منها

Page 94: 296

٩٣

هل تعرفين أنه لم يكن . عشرة أياملها منحة شهرية ال تكفي

.بالبيت بن ليضعوا لنا القهوة

والفتة ضخمة خلف ظهورنا .. سكتت شهيدة وسكت

.))قرية متوسة االشتراكية((كتب عليها

ألتلقى مكالمة اء أحد العمال بالمدرسة ينادي ج

.توقع أن تكون من فاضلتليفونية، لم أكن أ

كيف حالك؟-

كيف عرفت رقم تليفون المدرسة؟.. بخير-

.. من االستعالمات-

.. أشكرك على اهتمامك-

.. شوقي للعراق دفعني لالتصال بك وللبحث عنك-

تدفعني د أغمضت عيني حتى ال أواجه تجربة ق.لم أرد

صدى صوته يردد اسمي، . خرإلى غربة ال أول لها وال آ

يبحث عن منمن يبحث عن اآلخر؟. عني ليجد وطنهيبحث

بمن أحتمي وبمن يحتمي؟ بفهد المعلق في ساحة الوطن؟

بغداد، بالنيل الزاحف صوب الشمال كاألفعى، بالجدران

الصماء ما نشبت إال في صدورنا، بالعواء في صحراء لم

.نجمةتنبت

Page 95: 296

٩٤

امتد الشعاع . تسللت شمس الجمعة إلى حجرتي ناعمة

تخلل . تمدد بجواري،رفعت الغطاء عن جسدي. إلى سريري

ظل . رفعت جزءا من مالبسي. ا لمس وجهيخفيف. شعري

أزحت مالبسي ،أحمر انعكس على الجزء العاري من جسدي

تمدد الشعاع عليه اخترق ،عن الجزء اآلخر من جسدي

الذي لم أعره، دافئة تنساب خيوط العرق بين خصالت الجزء

جففت عرقي بيدي. شعري، وعلى وجهي، وبين ثديي .

.أشعلت سيجارة، دخنتها وذهبت للحمام التركي

ماء يحفر . تذيبه الشمس. مازال الثلج يغطي الجبل

قنوات في الصخر تسيل إلى األرض ترويها وتنبت أشجارا

.خضراء

. ق، على صدره وردة حمراءارتديت فستانا أزر

. مشطت شعري ووضعت بعض المساحيق على وجهي

. أخذت معطفي وأغلقت باب البيت وتوجهت إلى بيت شهيدة

.فرحت لزيارتي، صديقتي الطفلة شهيدة

كنت أفكر في زيارتك، ولكن أبي شغلني بكتابة -

.رسالة جديدة للحزب يطالبه فيها بتسوية حالته

. لم أفهم-

Page 96: 296

٩٥

ي في حرب التحرير، وصعد إلى الجبل شارك أب-

سالحه، وبعد االستقالل أعلن الحزب أن كل من قضي حامال

وعليه أن يقدم ، يوما فأكثر في الجبل فهو من المجاهدين٩٣

ما يثبت ذلك حتى يحصل على سكن وراتب شهري

ما . وسفريات له وألوالده مجانية، وقد يزوجونه من أخرى

.نا نرتاحرأيك عل

منيتك الدائمة اذا فعل؟ أكملي وتوقفي عن أوم -

.بالتخلص من أبيك أيتها الشريرة

ته في البلدية بعد أن نزل من الجبل عاد لوظيف -

كما كان، وبقى في منـزلنا هذا، ولم يخرج من ،))ساع((

وراتبه . نطينه أو العاصمة سوى مرات معدودةنشلة إلى قسخ

التي تعطيها لنا الحكومة لما لوال المنح الدراسية ،يكفينا بالكاد

.تمكنا من مواصلة تعليمنا

نه حارب حتى يغنم كما غنم ولماذا لم يقدم ما يثبت أ-

اآلخرون؟

يبدو أنهم وزعوا الغنائم . قدم الكثير لم يلتفت له أحد-

فنسوا البسطاء أمثال أبي، رغم أنه . قبل نزولهم من الجبل

.قضى سنوات يحارب الفرنسيين

Page 97: 296

٩٦

هبولة لنذهب إلى بيتك وكفانا من أبي ومن هيا يا م

.رسائله

ذنا من أبيها الذي استوقفنا بعض الوقت لنطالع أستأ

.مذكرته الجديدة

ا لفيروز في الكاسيت، وجلست علىوضعت شريط

ة كانت فوق كرسي مددت يدي لمرآ. سريري تحت أغطيتي

بجوار السرير، نظرت إلى وجهي، تأملت مالمحي الدقيقة

خجلت من . لبني المنساب ناعما رقيقا حول وجهيوشعري ا

قلتها )) كم أنا جميلة((تردد صوتي داخلي . إعجابي بنفسي

تحسست )). كم أنت جميلة: ((ألني أحتاج لسماعها، لمن يقول

عنقي وتركت يدي خلف شعري تتحسسه وتعبث بخصالته،

هكذا أجمل أم وهو هل: سألت نفسي. ا منه بيديرفعت جانب

با هكذا اس؟ ال يناسبني أن أتركه منا أكثر جماالماممرفوع ت

ا أرتدي البنطلون الجينـز وأضعه داخل غد. على وجهي

أرتدي المعطف فهو يخفيني تمامالن . البوت وفوقه الجاكيت

.تحته

ائي ذي الكعب العالي ربما كان من األنسب ارتداء حذ

م هي ك. لمحت طالء األظافر فوق المنضدة. وتبدال من الب

Page 98: 296

٩٧

جميلة أصابعي وقد طليت أظافري بطالء أحمر، أصابع

.بيضاء صغيرة زينها الطالء

شفتاي . ألجرب. اماذا لو وضعت بعض المساحيق غد

ا بالخط بالطالء األحمر وعيناي زادتا إشراقأكثر جماال

أطلت . نظرت في المرآة. األسود الذي وضعته بين جفني

حبت الغطاء فوق رأسي ا وس ألقيت بالمرآة جانب.النظر

.ونمت

خرجت في الصباح كالعادة أحمل كتبي ودفاتري

وحقيبتي المكتظة باألوراق واضعة معطفي على جسدي

أفكر في دروس اليوم وفي أيامي . وحذاء بال كعب في قدمي

. التي تتسرب من بين يدي، وأنا عاجزة عن إيقاف تسريها

وأسقط دروسأنهيت عمل اليوم متنقلة بين طالبي أشرح ال

.عليها ما أريدهم أن يعرفوه

خر فصل أجر قدمي ووحدتي وجسدي خرجت من آ

مررت على .المنهك الذي ال يتوقف عن األنين إلى بيتي

وجدت األستاذ مصطفى . حجرة األساتذة، قد أجد خطابات

في البحث عن خطاب لي بادرني بالتحية قبل أن أبدأ .اواقف

.لى المنضدةفي كومة الخطابات الموضوعة ع

Page 99: 296

٩٨

كيف حالك يا أستاذه؟-

.. بخير-

كيف تقضين وقتك؟-

.استنكرت السؤال ولكني أجبت

بين العمل والبيت والقراءة وزيارة بعض األصدقاء -

. والمصرييننالجزائريي

.تمنيت أن يتوقف عن الكالم لكنه استمر

الحياة هنا رتيبة ومملة، أليس كذلك؟-

ن غبي عندما يفقد إحساسه كم يتحول اإلنسان إلى كائ

لم أفعل سوى . باستجابة اآلخرين أو عدم استجابتهم لما يقول

أن فرجت شفتي فارتخت عضالتهما لترسم ما يمكن أن

:يسمى بابتسامة، وقلت له

وإن كان العمل يقتل ، هذه حال كل المدن الصغيرة-

.الملل والرتابة

. الحياة ليست عمال وفقط-

لضغط على عضالت وجهي لم أستطع مواصلة ا

لترسم االبتسامة اللزجة المناسبة لمثل هذه األحاديث التي

Page 100: 296

٩٩

تتجاوز حدود العالقة بيني وبينه، فليس بيننا أكثر من التحية

.الضرورية

أعرف ذلك، وقلت لك أني أقرأ وأتزاور مع بعض -

.األصدقاء

ألن يسعدني الحظ بزيارة مماثلة؟-

لو أصفعه وأزيحه رجفة سريعة هزت جسمي وتمنيت

.ودون أن أستأذنه تركته للبحث عن خطابات.. من أمامي

مازال يبحث عن العراق، . كانت الرسالة من فاضل

عن أهله وبيته، ووطنه، عن وجوه حبيبة وبعيدة توغل في

معهم آخذ مكاني في قائمة أحبائه الصغيرة ثم أوغل . البعد

ذكر مالمح وأنا أحاول ت. ظل الخطاب في يدي. في البعد

فاضل، فأنا لم أره سوى مرة واحدة، لم أتذكر منه سوى

بريق عينيه كأنه الدمع المخزون في عمق الزمن، وحزن

ووحدة . ووجود يحتوي كل من حوله. رائع يظلل ابتسامته

.طفل فقد أمه في زحمة الحياة

قد ال أشكال. التواصل الغريب بين البشريا لهذا

صوته الذي لم أسمعه إال لبضع . انستطيع تفسيرها أو تخيله

. لقاؤنا السريع مر أمامي بكل تفاصيله.ساعات مأل غرفتي

Page 101: 296

١٠٠

تالمس كأسينا لنشرب نخب لقائنا، ونخب أمنيات صغيرة لنا،

.أحاديث طفولية عن دجلة والفرات والنيل. ولمصر وللعراق

.وإصرار مني على أن النيل أجمل أنهار العالم

لم أتذكر كل . رية متعصبةأنت مص: ود عميق يقولوب

ا في ذاكرتي لقاء كان اللقاء عموم. هذه التفاصيل قبل الليلة

حضوره في هذا اللقاء هو األكثر طغيانا . اا وصادقحميم

.طوال ساعات الليل وحتى الصباح

استدعاني مدير المدرسة بعد انتهاء الحصة األولى إلى

يرجئه حتى ينتهي أثار هذا االستدعاء العاجل الذي لم . مكتبه

استقبلتني فريدة . الجزء األول من اليوم الدراسي تساؤلي

سكرتيرته باسمه كعادتها وفاتحة فمها الذي تظهر منه أسنانها

كنت أحب ابتسامتها هذه، فهي . المركبة فوق بعضها البعض

. ابتسامة منطلقة ال تشعر صاحبتها بأي عيب خلقي في فمها

بها إال أنها تعاملت معي بشكل وبالرغم من عالقتي الطيبة

.رسمي

. مرحبا يا أستاذه-

كانت تناديني باسمي .. لم تكن تناديني على اإلطالق

.مجردا

Page 102: 296

١٠١

وأين أنت؟؟أهال يا فريدة؟ كيف حالك -

.بخير تفضلي حتى أخبر المدير بقدومك -

أال تعرفين سر استدعائه المفاجئ لي؟ -

. سوف تعرفين بنفسكال أعرف، حاال -

وكعادتي في . ان واضحا أنها تعرف ولكنها تخفيك

مثل هذه المواقف أخذت أضغط بأصابعي على بعضها، حتى

خرجت فريدة من حجرة المدير وظلت ممسكة بباب الحجرة

ا حتى دخلت وغمزت لي بطرف عينها مما زاد مفتوح

.ارتباكي

جلس المدير على أحد الكراسي وليس على مكتبه،

يتجاوز األربعين واألصغر في حوالي األكبر. ومعه رجالن

الثالثين، األكبر ذو وجه محايد ال يثير أي انطباع، أما

األصغر فيبدو من البشر الذين يؤكدون على وجودهم

.الحاضر في الزمان والمكان

: مفتش الفلسفة بالمنطقة التعليمية، والثاني: األول

ست جل. مدرس الفلسفة بإحدى ثانويات مدينة عين البيضاء

.في انتظار معرفة األمر

Page 103: 296

١٠٢

كانت . تنحنح المدير وسمح لمن طرق الباب بالدخول

صب لنا المدير وقدم لي أوال. فريدة تحمل صينية القهوة

سلوكه المتحضر، خاصة أنه لم تعجبت من. فنجانا من القهوة

قدم للرجلين . ا إلى مصر وقوعها إلى ترحيلي فوريؤد

:كأ للخلف وقالقهوتهما وتناول فنجانه، وات

ترسيم((ا في لجنة األساتذة قبلوا ترشيحي لك عضو ((

األستاذ جلول، وسوف تصعدون اآلن إلى الفصل الذي

يحاضر فيه، لتقييم عمله وأدائه وإعطائه درجة بعدها إما أن

يثبت في عمله كمدرس للفلسفة أو ينتظر فرصة ترسيم

.أخرى في العام المقبل

.م المقبلوإن لم يرسم العا: قلت

ينقل للتدريس في اإلعدادي لمدة عامين يعود بعدهما -

.للتدريس في الثانوي ويعاد ترسيمه مرة أخرى

نظام صارم وكأن مدرس الفلسفة سيخرج جيال من

.الفالسفة

ولماذا أنا؟-

Page 104: 296

١٠٣

فقد تعلمنا ،نحن نثق في تأهيل المصريين: رد المفتش

م في مصر، في مدارسكم وجامعاتكم ونعرف مستوى التعلي

.كما حدثنا المدير عن كفاءتك وإتقانك لعملك

ومدى ،هو ال يعرف حال التعليم في مصر اآلن

.يبدو أنه يعيش في الماضي. االنهيار الذي أصابه

:لمفتشاثم استطرد

أرجو أن تنسى أن األستاذ جلول زميل لك، كل ما

أرجوه الموضوعية في التقدير، وعلينا أن نضع مصلحة

.فوق كل اعتبارالطلبة

:بسرعة شديدة وبدون تفكير قلت

هل أستطيع أن أعتذر؟-

ال يا أستاذة فقد حددنا اختيارنا منذ فترة وأبلغنا -

.المنطقة التعليمية بقسنطينة

..ولماذا االعتذار؟ -

.لست أكفأ من األستاذ جلول حتى أقيمه -

ا للموقف نهض المفتش وتبعه المدير والمدرس، وحسم

.ي أن أسير أمامهم بعد أن فتح بنفسه باب الغرفةودعان

Page 105: 296

١٠٤

ا باألستاذ جلول، فقد طلبت منه لم تكن لي عالقة تقريب

في بداية العام الدراسي بعض المساعدة في معرفة المقرر

تخبط حوالي تهرب مني وتركني أوالكتب المساعدة، ولكنه

شهر حتى تمكنت بكافة أشكال المحاولة والخطأ من مفردات

. وعرفت المكتبة العامة. قرر وتوزيعه على شهور السنةالم

وعرفت المطلوب مني كمدرسة من شرح للدروس المقررة،

كنت أشبه . حتى عمل األبحاث وتصحيحها وتوزيع درجاتها

نفسي بفأر كوهلر في المحاولة والخطأ، وكنت أنجح بشكل أو

.بآخر

.األستاذ جلول في حوالي الخامسة والثالثين من عمره

على منطو. ممصوص وأصفر كأنه مصاب بمرض خبيث

نه لم قيل أنه تعثر في التعليم، وأ. نفسه وبعيد عن الناس

يحصل على ليسانس الفلسفة، بل حصل على ليسانس في علم

االجتماع الصناعي، لذا كان أساتذة الفلسفة في المنطقة

. عليهم، وكانوا حريصين على إقصائهيعتبرونه دخيال

دير باب الفصل وما أن رآنا األستاذ جلول حتى فتح الم

قفز من أمام السبورة مرحبوكانت يده . اا ومسلم

خرج . ووجهه كالشمع المشدود ال أثر فيه للحياة.ترتعش

Page 106: 296

١٠٥

رصت ثالثة كراسي لنا . الكالم بصعوبة من حلقه الذي جف

ل هدوء المقابر ساعة صخيم على الف. تركنا المدير أنبعد

.القيلولة

الء الذين نستجدي سكوتهم ومتابعتهم للدرس وهؤ

يرفعون أصابعهم . جلسوا في مشهد تمثيلي لألدب الجم

وأبصارهم لإلجابة على األسئلة في هدوء، ويقفون لإلجابة

مخفضين رؤوسهم وأبصارهم مرتبين أفكارهم وكأنهم

نحن رجال، ها : ((يجاملون أستاذهم في محنته، ويقولون له

)).خذلكأنت تحتاجنا ولن ن

لم يقل جملة . أما األستاذ جلول فقد خذلنا جميعا

وتقرر تأجيل ترسيمه للعام . لم يقل فكرة متماسكة.واضحة

.المقبل

حاولت االعتذار للمفتش والمدير والمدرس عن تناول

أسعدني رفضهم وتمسكهم . بشدةالغذاء معهم، ولكنهم رفضوا

ش الحياة ها أنا أعي.حساس بالثقة في نفسي مألنيإ. بي

استأذنتهم لدقائق أضع فيها كتبي وأوراقي .بمفردي وأنجح

. انتهزت الفرصة كي أدخن سيجارة. مفي بيتي ثم أعود إليه

Page 107: 296

١٠٦

ما أن انتهيت منها حتى طرق بابي سليمان، أحد اإلداريين

. يتعجل ذهابي إلى مطعم المدرسةبالمدرسة،

وكانوا في . لم يتركني حتى وصلت إلى هناك

: ا ثم قال لنا جميع،ا ألجلسسحب لي كرسي. انتظاري

.بالصحة عليكم الغداء وانصرف

. استبدت بي نشوة إحساسي بذاتي وبتحققي ونجاحي

لم . أن تعكر صفو نشوتيورفضت ذكرى أي فشل عشته

. تكن المرة األولى التي أتناول فيها غذائي في مطعم المدرسة

المدينة هذا المطعم الضخم المخصص لتقديم وجبة لطلبة

تحدثنا. ووجبات للطالب المغتربين والمقيمين بالقسم الداخلي

وكنت أشعر . في أمور متعددة، في السياسة والتاريخ والفن

أمامي عندما أسمع عمري يشغل الحيز، وبسنوات بوجودي

.يريدون معرفة رأيي. األستاذةأحدهم يقول ما رأى

عادة على ا يعتد به، بل ويرسم السواكتشفت أن لي رأي

وجوههم

المفتش ساد بعض الصمت قطعه.بوجودي معهم

ا حديثه ليموجه:

. المدير يشكو منك يا أستاذة-

Page 108: 296

١٠٧

: بثقة شديدة قلت.هتز ولم أخفلم أ

يا أستاذ؟ مم-

وأنك تمنحينهم ، يرى أنك تعاملين الطلبة بلين زائد-

ن تقييمك لسلوكهم في ، وأمن الدرجات أكثر مما يستحقونه

.اء األول من العام كان متعاطفالجز

أي أنني متهمة بالالموضوعية؟: قلتضحكت، و

-ا لم أقصد عفو.

ليس هناك خطأ فيما أعتقد، فالحب والتعاطف -

وتقدير ظرف كل طالب وطالبة أهم أسس نجاح المدرس في

عمله، ثم عن ارتفاع الدرجات فهم يقدمون إجابات تستحق

سقراط أو كانط حتى أقسو وأنا ال أمتحن. هذه الدرجات

ستخدم معايير إعطاء الدرجات المقدمة لي من عليهم، وأنا أ

.المدير وال أخرج عليها

:اعلق المدير ضاحك

كل ما أرجوه بعض القسوة منك حتى ال يتمردوا -

.على زمالئك اآلخرين

ال أستطيع أن أقسو عليهم وها أنا أعلن فشلي أمامكم -

امقدم.

Page 109: 296

١٠٨

وعدت إلى بيتي بسعادة حقة تمأل جسدي انتهى اللقاء

.الصغير

الثلوج تذوب ببطء وراحت . ايببدأ الجو يتحسن نس

. وشغلت امتحانات النصف الثاني من العام كل وقتي

أرسلت برقية إلى . وفوجئت بعطلة الربيع دون أن أرتب لها

)).أصل تلمسان على طائرة الغد((فاضل

منتظرين عنه، النزلت من الطائرة أبحث في وجوه

ترى ما وقع زيارتي . خفت للحظة أال أعرفه وأال يعرفني

ئته بها وأنه كان من األنسب أن ربما أكون فاج. عليه؟

ا، ولكنه سبق أن دعاني لزيارته وفي رسالته تصل به تليفونيأ

.األخيرة أكد علي الدعوة

كني كنت لأليس في زيارتي لرجل وحيد جرأة مني؟ و

. اتخلفبيوتهم، وأعتقد أنه ليس لرجال في أزور أصدقائي ا

حيث أتيت؟نهل أعود م

اقطع حواري المتأخر مع نفسي صوته مرحب.

.بارتباك مددت يدي ألسلم عليه

. هيا بنا سيارتي خارج المطار-

Page 110: 296

١٠٩

.. نظرت خلسة إليه. حمل حقيبتي وسار بجواري

ا فتح باب السيارة، وظل ممسك، إلىاوجهه الهادي نقل هدوء

.به حتى ركبت ثم أغلقه وركب من الباب اآلخر

كيف حالك؟-

.. بخير-

كيف حال من في مصر؟-

-هل أستطيع . ا بخير كما يقولون في رسائلهم جميع

ا في فندق هنا؟أن أجد مكان

:قال بعتاب ودود

.لماذا؟ سوف تقيمين في بيتي.. فندق

ا؟ألن تسبب لك إقامتي حرج

.نذ أول مرة التقيناأنا في انتظار زيارتك م

ماذا حدث لي حتى . صعدت الدماء حارة إلى وجهي

تأتي استجابتي لمجاملته بهذا الشكل؟

قدم سيجارة لي وطلب مني وضع أحد الشرائط لفيروز

.في الكاسيت وانطلق بالسيارة

. الغرب الجزائري أجمل بكثير من الشرق وأقل حدة-

Page 111: 296

١١٠

ثابتة في يبدو هذا وإن كانت الخضرة والزهور ال-

ا في كل األماكن التي زرتها حتى ا مشتركرحم الجبل قاسم

.اآلن

أوقف السيارة بجوار أحد المحال التجارية وعاد حامال

وضعها في . حقيبة بالستيك خفيفة فظهرت زجاجات النبيذ

.المقعد الخلفي

هل أرهقتك الرحلة؟-

السفر من خنشلة إلى قسنطينه مرهق، ولكن الرحلة -

وإن كانت سعادتي . تلمسان ليست مرهقةائرة إلى بالط

.باكتشاف مدينة جديدة تبدد إحساسي باإلرهاق

.أوقف السيارة ودعاني للنـزول

. وصلنا، مرحبا بك مرة أخرى-

حاولت التغلب على ارتباكي بقول أي شيء لكني لم

دق جرس الباب ففتح لنا طفل حمل عنه ما اشتراه . أستطع

..ال أعرف لمنوجرى يعلن وصولنا

شعرت بحمل ثقيل ينـزاح من على صدري بمجرد

أن خرج الستقبالي أصدقاؤه سعدي ومصطفى وطالب وكنت

.قد التقيت بهم معه في بسكرة

Page 112: 296

١١١

. رحبوا بي بحرارة وصدق كنت في أشد الحاجة إليهما

:عرفني فاضل بمن لم ألتق بهم من أصدقائه

ا في جميعوقفنا . سامية وسعد، وبسمة وعماد وطفليهما

ال : ((بأشكال مختلفة: كلنا كنا نقول. مدخل البيت نتحدث

)).يوجد في العالم أجمل من لقاء البشر

جميعا سألوني عن مصر وأخبارها، وعن أهلي

وأنا أجيب على األسئلة ببساطة من يجيب على . وأصدقائي

.أسئلة أصدقاء قدامى

صينية من صخب اللقاء انسل سعدي وعاد حامال

ا زجاجة نبيذ وأكواب وقطع من الجبن والخيار عليه

والطماطم، وفي ركن من الغرفة فتح زجاجة النبيذ وصب ما

افيها في األكواب ووزعها علينا جميع.

. في صحتكم، في صحة المصرية-

رحه وسنا وشربنا النخب الذي اقتا كئرفعنا جميع

. وس التي لم يدعها تفرغتولى سعدي أمر ملء الكئ. سعدي

أو ؤلم يتوقف عن الغناء منذ أن جلسنا إال للرد على تسال

حضر النبيذ انسل أيضا وكما انسل وأ. توجيه سؤال ألي منا

وعاد بالصينية عليها أطباق األرز العراقي بالكاري ولحم

Page 113: 296

١١٢

ما أن رأيت البامية حتى شهقت وصفقت . الدجاج وبامية

:ا بفرحى لوجود الباميةمرحب: قال سعدي.بيدي

عيني، عرفنا بقدومك فقررنا عمل وحدة مصرية يه إ-

.عراقية، أرز عراقي وبامية مصرية، وهذا أضعف اإليمان

فرد )) إن البامية أكلة عراقية: ((اعترضت سامية قائلة

عيني إذا كان الخالف في حدود البامية تتنازل ((عليها سعدي

)).لكم عنها المصرية

البامية جزء األمر في حاجة إلى تفكير، خاصة أن-

.من تراثنا المصري فكيف أضحي بالتراث

فقدنا التراث كله، وهل سنبقى على البامية، في صحة

.التراث

.وشربنا في صحة التراث كما اقترح سعدي

ا بعد أن رقصنا وناقشنا كل زحف التعب علينا جميع

فافترش الرجال ،مشاكلنا القومية من الخليج إلى المحيط

ونمنا بسمة .. التي كنا نجلس فيهااألرض في الحجرة

وسامية وأنا في الحجرة المجاورة، واندس الطفالن بين أقدام

.الرجال

Page 114: 296

١١٣

ظلت أحداث الليلة تتخبط في رأسي بال ترتيب، حتى

نهضت . عصفت بالنوم الذي يمأل جفوني ورأسي وجسدي

من فراشي وخرجت على أطراف أصابعي من الحجرة إلى

لمعلقة على مسمار مدقوق في الحائط أخذت الكنكة ا. المطبخ

بحثت عن السكر والبن حتى . ووضعت فيها قليال من الماء

وضعت ملعقة سكر وملعقة بن في الماء وقلبتهما، . وجدتهما

ثم أشعلت البوتاجاز ووضعت الكنكة فوق النار وانتظرت

غسلته وصببت فيه . أخذت كوبا من الحوض. حتى نضجت

عدت على . منضدة بالمطبخالقهوة ووضعت الكوب على

وجدت علبة . أطراف أصابعي إلى الحجرة أبحث عن سجائر

أخذت كوب القهوة والسجائر وعلبة كبريت . أخذتها وخرجت

سفنج جلست على قطعة إ. الملحقة بالمطبخودخلت البلكونة

أشعلت سيجارة ورشفت أول رشفة . كانت ملقاة على األرض

لوال أنوار خافتة تظهر من الظالم يمأل المكان و. من القهوة

عالم . خلف زجاج نوافذ البيوت لما تبينت الغابة التي أمامي

بعمق نسمات الفجر البارد تسللت. فيه أحدصامت ال يتحرك

ا تشبعت بها جميع.رائحة المكان. رائحة الشمس. إلى رئتي

وعلى أطراف . أغلقت زجاج البلكونة. ونهضت من مكاني

Page 115: 296

١١٤

. األغطية بجوار بسمة وساميةأصابعي دسست جسدي تحت

.ني احتضنته وشعور بالرضا يمأل،شبكت يدي حول جسدي

ارتديت .. خلعت قميص نومي. قفزت من فوق السرير

بنطلون جينـز وبلوفر أحمر وخرجت من الغرفة التي لم

وانطالقة رائعة . ومنتشية كنتسعيدة . يكن بها أحد سواي

.ضللم يكن بالغرفة األخرى سوى فا. نيتمأل

صباح الخير، أين بقية األصدقاء؟-

كان . عادوا إلى بيوتهم، وسوف نلحق بهم-

.كنك كنت نائمةلالمفروض أن نذهب معهم و

لماذا لم توقظني؟-

نك لم تنامي إال في لم أشأ أن أزعجك خاصة أ-

.الصباح

.أخذت أحد الكراسي وجلست

كيف عرفت؟-

. شعرت بك؟ فأنا أيضا لم أنم-

ا لم تأت لتجلس معي؟ لماذ-

تصورت أن بك رغبة لالنفراد . خفت أن أضايقك-

.بنفسك

Page 116: 296

١١٥

ا وقلت لها عميقجذبت نفس:

أنت ال . أنا منفردة بنفسي منذ أن جئت الجزائر-

.تعرف كم أكره الوحدة وال أتصور نفسي إال ملتحمة بالبشر

نهض إلى المطبخ إلعداد الشاي واإلفطار، وذهبت أنا

الساخن المسكوب على جسدي وشعري أعطي اء للحمام، الم

تمنيت لو بقيت طوال اليوم . ا باللذة واالنتعاشلي إحساس

..مشطت شعري ووضعت بعضا من العطر. تحته

. أعددت اإلفطار هيا لنأكل-

.. شكرا أنك فعلت ما كان ينبغي أن أقوم أنا به-

ولم أنت؟-

؟ اعتدنا أن تقوم المرأة باألعمال المنـزلية-

من الذي اعتاد، بالنسبة لي منذ أن تركت بيت أسرتي

في الحلة أللتحق بالجامعة في بغداد وأنا أعد أشيائي بنفسي،

.وأنت ال أتصور أنك امرأة عادية وظيفتها األساسية البيت

ابتسمت لثقته الشديدة في طرح األمر، وكأنه يعرفني

ى كما لو كان يرد عل،منذ سنوات، ولجديته في الحديث

.قضية موضع نقاش

Page 117: 296

١١٦

ال تنـزعج بهذا الشكل فأنا أوافقك على ما قلت، -

استمتعت بأشعة الشمس الدافئة التي مألت .. دعنا نأكل أوال

.المطبخ وتجاوزته إلى غرف البيت

. ما رأيك في فنجان قهوة-

.ح رائع على أن نشربه في البلكونةا اقتر-

لك يء القهوة، تستطيعين الدخول حتى أج سوف أعد-

.بها

أشعر أني أعامل في بيتك ستصنع القهوة أيضا؟-

.كضيف فوق العادة

:بود قال

. أرجوك لست ضيفة، أنت صديقة، وصديقة حميمة-

.وبيتي هو بيتك

ولكن أردت أن أعبر عن سعادتي بوجودك حتى ولو

.بهذا الشكل البسيط

. وأنا أيضا سعيدة بوجودي معكم-

عيناه مصوبتين في اتجاه كانت. امتد الصمت بيننا

أن يخرج عن صمته، ولكنه لم ظرت أن يتحدث،انت. الشرق

يفعل، حاولت أن أتحدث، أن أقول أي شيء لكن صوتي كان

Page 118: 296

١١٧

وجهه الذي اكتسى بهدوء اختلست النظر إلى. ا داخليمحبوس

ستطيع أن أعرف فيما يفكر ومع من لو أ. وسكينة الحد لهما

.هذا التواصل

.كم عذبت أمي

.لم تكن لي ولم تكن ألحد. قال جملته وتوقف

ماذا فعلت لتعذبها؟-

-ا منها، أال يكفي كنت أحب أبنائها وأكثرهم اقتراب

هذا لتتعذب؟

أشعل سيجارة وقدم لي واحدة، وكأنه ال يتحدث مع

.أحد واصل كالمه

سندا حتى ما أن بدأت تلمس وجودي بجانبها رجال-

.فقدتني

لم يشغله عشق جارته الحسناء، لم . دأعرف ذلك الول

سخونتها جسده في ليالي لم تحتو. يتحسس يدها في الظالم

. لم يقطف ليالي القمر الساهرة أمام المنازل. الشتاء الوحيدة

. أعرف فزع أمه. أعرفه يقطف المستحيل ويعشق اآلتي

أعرف ليالي باتت فيها مسهدة تبحث عن تفسير لما أصاب

. بها يدعو في صلواته أن يهديه ويعيده إليهاأعرف قل. ابنها

Page 119: 296

١١٨

أعرف . أعرف عقلها القانع لوال الخطر القابع في انتظاره

خروجها األول من القرية إلى المدينة متشحة بالسواد تلتف

أقدامها حول بعضها ولكنها تشد ظهرها وتسير تبحث عنه

خلف األوراق المختومة وخلف كلمة ينطق بها صاحب

.أعرفها وأعرفه. وسمةالنياشين واأل

كان الطارق . دق الباب بسرعة، انتفضنا معا لنفتح

.سعدي

.. ماذا حدث لكما؟ تأخرتما كثيرا-

:قال له فاضل

.معذرة انتظرت أن تستيقظ صديقتنا -

ستطيع أن أصدقك، أعتقد أنك انتهزت فرصة ال أ -

.خروجنا وأكملت نومك

.ن أسمعكما رأيك في فنجان قهوة بعدها أستطيع أ -

أوافق بشرط السرعة عيني، فقد قررنا الذهاب إلى -

اا ونشرب نبيذا وسمكغابة بني صاف وسوف نشوي لحم .

ا في هذه األيام فلم يعد واهللا يبدو أن النبيذ أصبح مغشوش

يؤثر في.

؟))وكيف يكون تأثيره يا سعدي: ((قلت له

Page 120: 296

١١٩

.. عيني أسكر، وأي شيء أبغي سوى السكر-

..ان القهوة من يدي وهو يواصل السكرأخذت فنج

في العراق كنا نبدأ السكر في المساء في أي بار من

ا كنت أفكر في أحيان. البارات، وال ننتهي إال في الصباح

.كتابة عنواني على بار أبي نواس

وأنت يا فاضل أين كان عنوانك؟ -

ا بار أبي نواسأيض..

ولم . صباحيقتامة غريبة بددت بهجة. ستطع الردلم أ

تخف قتامتي على سعدي، بل يبدو أنها انتقلت إليه فقد

:أغمض عينيه لحظة ثم قال

عيني عندما تفقدين كل شيء كان بين يديك، عندما

عضاؤك في الشوارع وتنتهك، وقاتلك يقرع كأسه في أتغتال

هيا . كأس زعمائك، البد أن يحدث خلل ما ولو لبعض الوقت

ا أو على نقول تأخرنا؟ ألن نتقدم أبدبنا تأخرنا إلى متى س

في موعدنا؟األقل نصل

ظللنا . خرجنا إلى الشارع وركبنا سيارة فاضل

صامتين، بينما سعدي يدندن، بأغنية لم أتبين منها سوى

Page 121: 296

١٢٠

كان )) يا أمي التبك علي، أنا المناضل يا هنية((مقطع واحد

ا بينما الكلمات موجعةاللحن راقص.

)).؟توقف عن الغناء أبداأال ت: ((قلت له

ولماذا؟ أليس الغناء حقا مشروعا لكل مواطن؟ ثم

غانينا الحزينة التي تغني اسمعي قصة هذه األغنية، هي من أ

.ينللمعتقل

في العراق خباز اسمه أبو على، كان يحب الشيوعين

ويتعامل مع نفسه كصديق شخصي لزعماء الحزب، وأسمى

وفي إحدى . الم وعادلعنده فهد وس. أبناءه بأسمائهم

والمفاجأة أربكت . الهجمات المفاجئة علينا اعتقل عدد كبير

رد ولم ن. لتغيير أماكننا واالختفاءضطررنامن لم يعتقل فا

سريعا ببيان على حملة االعتقال تلك، فقام أبو علي بجمع

. شباب األحياء المجاورة وكانوا من العاطفين على الحزب

اق بيت يخلو من عضو في الحزب أو ا لم يكن في العرعموم

ا ضد االعتقال وكتب بيان. كنا منتشرين وفاعلين. عاطف

وضد النظام، وكلف الشباب بنسخه على المقاهي وفي

الشوارع وتوزيعه بالدراجات، واستخدام الدراجات في توزيع

ا ومعظمه كان البيان ركيك. البيانات طريقة كنا نستخدمها

Page 122: 296

١٢١

وبعد االنتهاء من توزيعه فرق . ه وزعباللغة العامية، ولكن

كان خبر . أبو علي الشباب، وجلس على أحد المقاهي يتابع

توزيع بيان الحزب قد وصل للداخلية فقامت قواتها بالبحث

دخلت قوة من المباحث المقهى التيوبالفعل. عنه وجمعه

يجلس عليها أبو علي للبحث عن البيان فأمسك بنسخة وأخذ

إلغاظتهم فلم يلتفتوا له، وهموا بالخروج يقرأ بصوت عال

أيضا )) يا أمي التبك علي أنا المناضل يا هينة((فأخذ يغني

.لم يلتفتوا وخرجوا

غيره يقسمون دخولهم مناصفة مع وكان أبو علي

كنا في . غير أعضاءالحزب، بالرغم من كونهم فقراء و

أذكر . دةة المختلفة نجدهم أول من يقدم المساعأنشطتنا الحزبي

في حمالت التطعيم وفي محو األمية وفي دروس التقوية

للطالب التي نقدمها، كانوا يقدمون كل شيء بداية من بيوتهم

.حتى قروشهم القليلة

. دائما حلمهم بنا أكبر من قدرتنا على تحقيقه-

. رجاء توقفا عن هذا الحديث-

أن نتوقف عن برجاء حقيقي طلب منا فاضل

.يؤلمه، فتوقفنالا يبدو لحديث أليمكان ا.الحديث

Page 123: 296

١٢٢

وشوينا . وصلنا غابة بني صاف على البحر مباشرة

اللحم والسمك وشربنا النبيذ وغنينا وقلنا نكات على حكامنا

ال . القردة وكأننا ننتقم منهم بآخر وسائل االنتقام المتاحة لنا

كما يعشقها ا في هذا لعالم يعشق الحياة أتصور أن هناك شعب

. بهجة حقيقيوناقيون، فهم صانعوالعر

..غربت الشمس وقرروا الرحيل

فاألرض تهتز .. ستطع النهوض بشكل متوازنلم أ

ا خفيفاهتزازا بي، كأنها موجة هادئة تحملنيا ناعم .ا أخير

نهضت وضحكت ضحكة عالية وقفزت في الفضاء وهبطت

جريت في اتجاه البحر، احتضنت . ثانية على األرض

داعب الهواء صدري وعنقي وشعري، زفرت ما في رائحته،

أعماقي أمأل نفسي بهواء البحر، وضع فاضل يده على كتفي

:وقال

. هيا، سبقونا إلى السيارات-

أبقي طالما أريد أن . ال أريد أن أغادر المكان-

.ستطيع الوقوفأ

ا أمسكت بيده وجلسنا على الرمل، وكأني اكتشفت جزء

.من نفسي لم أكن أعرفه

Page 124: 296

١٢٣

:قلت

لحظة واحدة هي التي تشعر فيها أن العالم كله -

لحظة دخول نسمة هواء ألعماقك، فكيف تضيع هذه . ملكك

.اللحظة

أمسكت بقطعة حجر في يدي وضغطت عليها، وبكل

.قوتي ألقيت بها إلى البحر

. كأنك تلقين بنفسك إلى البحر وليس بالحجر-

ر، أنا أسبح ومن قال لك أنني لم ألق بنفسي في البح-

أطلت . نظر إلى األرض وعبث بأصابعه في الرمل. فيه اآلن

فيما يفكر، في أي البحور ألقي بنفسه؟ . ((النظر إلى وجهه

. ظلل هدوء وجهه حزنه النبيل. عيناه صافيتان ووجهه هادئ

)).؟ما الذي استدعى حزنه((

فيم تفكر؟-

في أشياء كثيرة، وأنت؟-

. كنت أفكر فيك-

كيف؟-

. حزنك أكبر من أن تحمله بمفردك-

. قدري أن أحمله بمفردي-

Page 125: 296

١٢٤

مددت يدي وأمسكت بيده، وضعتها بين يدي.

لماذا تشعر بكل هذه الوحدة؟-

. ألني فعال وحيد-

-ا وأنا أحبك كيف تكون وحيد.

ماذا؟؟-

.. أحبك-

عدنا إلى . نهضنا، ولم نعرف كم من الوقت مضى

. لم يعلق أحد على غيابنا. قاءالبيت، وقد سبقنا كل األصد

.التحقنا بهم كأننا لم نكن غائبين

وذهبت إلى . طلبت أن يمأل لي سعدي كأس نبيذ

. غ الممتد أماميأتطلع إلى الفرا. البلكونة الملحقة بالحجرة

؟ هل أحبه فعال؟ متى أحببتهماذا فعلت؟ قلت أني أحبه؟

كل ما . يها يمكن اإلجابة علسئلة كثيرة وساذجة الولماذا؟ أ

من نني أحتاج له أكثر أحسه أنه أقرب إنسان إلى قلبي، وأ

خر، وأنه يحتاج لي أكثر من احتياج أي احتياجي ألي إنسان آ

نظرت . إنسان لي، قد يكون األمر مجرد رد فعل للغربة

. بعمق إلى نفسي، وجدتها انشطرت نصفين يتصارعان

Page 126: 296

١٢٥

ف نصف واهن ضعيف ال يقوى حتى على استسالمه، ونص

.عنيد يضغط على ضعفي ويواجهني به

.طلبت من سعدي أن يمأل لي الكأس مرة أخرى

.بقي معناا.. لماذا ال تشاركيننا-

. أنا معكم-

جلست بجوار مصطفى الذي أشعل لي سيجارة وهو

:يقول

. أسعدنا وجودك معنا-

.أخيرا تحدث مصطفى، فهو دائم الصمت

متى تعودين إلى مصر؟-

.وسألته. لعام الدراسي في نهاية ا-

ألم تفكر في زيارة مصر؟-

كلنا نتمنى أن نزور مصر، ولكن في هذه الظروف -

.أعتقد أن في السفر مخاطرة

لماذا؟-

. قد تسلمنا السلطات المصرية للسلطات العراقية-

. ولكن العالقات بين البلدين مقطوعة-

Page 127: 296

١٢٦

األساسي للنظامين هو الشعب، عندما يكون العدو-

.االعالقات تعود فورف

هل أنت متزوج؟.. مصطفى-

سألته ألني لمحت خاتم الزواج في إصبعه ولم أر

.زوجته

. نعم متزوج-

!! ال أعرف-

ماذا؟ كيف ال تعرف؟

بعد حملة االعتقاالت واالغتياالت األخيرة صدر -

خرجت . قرار من الحزب بخروجنا من العراق، بشكل فردي

ا ال فقد كان خروجنا يتم سر. ينهي أوال ال أعرف إلى أ

يعرف حتى المسافر إلى أين يسافر، خشية فشل الهرب في

آخر لحظة، وربما يؤدي الضعف مع التعذيب إلى االعتراف

فقط يعرف ويجهز . بالمكان وبمن ساعدوا على الهرب

ومنذ أن خرجت من العراق . مسئول بالحزب المهمة بكاملها

كانا به شيوعيون عراقيون إال لم أترك م. وأنا أبحث عنها

.ومازلت أبحث. وأرسلت لهم، أسأل عنها

إلى متى؟-

Page 128: 296

١٢٧

.أريدها أن تعرف أني لم أتخل عنها. حتى أجدها-

هل تشعر بالذنب ألنك تركتها تهرب بمفردها؟-

ا بالذنب، زوجتي مناضلة وليست طفلة ال ليس إحساس

.في حاجة لرعايتي، فقط ألنني أحبها

لقلب مكان للحب، مازال للقلب قدرة على مازال في ا

.العشق، مازال على القلب أن يتحمل االنتظار

.كان فاضل يتابع حديثنا دون أن يشاركنا فيه

كان يعبث ببقايا السجائر في المنفضة التي يطفئ فيها

سجائره، تابعت حركة أصابعه تمسك بأعقاب السجائر

امدة على وأعواد الكبريت، ترسم خطوطا مستقيمة ومتع

.الرماد المحروق

استأذنت منهم مدعية الرغبة في النوم، كنت أهرب من

ألم الراقصين كالديوك المذبوحة . مواجهة كل هذا األلم

ا، ألم الباحث عن تنتفض تشد الروح إلى الجسد فينهاران مع

معنى الستمرار حياته، ألم الصامت يبحث خلف صمته عن

.الوطن الضائع

Page 129: 296

١٢٨

فة سوى شعاع الضوء المتسلل عبر لم يكن في الغر

وصمت يتحرك . ا دوائر ومربعات فوق السريرالنافذة راسم

رة بين العقل وما ينبغي أن يكون، جسدي فيه، وأنا محاص

وبين أنين خافت لحلم لم تتضح معالمه بعد، وصراع بين

.العقل والحلم ال يهدأ

.سمعت طرقات، انتفضت لسماعها

من؟-

لي بالدخول؟ أنا، هل تسمحين -

.. نعم تفضل-

دخل إلى الحجرة دون أن يشعل النور، اقترب من

ا عنيالسرير، جلس على طرفه بعيد.

الزمن توقف . زاغت عيناي. توقف ذهني عن التفكير

.وأنا خارج حدود توقفه

. أرجو أال أكون قد أزعجتك-

.ال أعرف من أين أتى لي هذا الثبات وأنا أرد عليه

.ا لم أنم بعدا فأن إطالق-

أنا أيضا لم أنم، فقد رحل األصدقاء إلى بيوتهم ونام -

.سعدي وطالب ومصطفى منذ فترة

Page 130: 296

١٢٩

. ا، وأنا لم أجد ما أقولهلم يقل شيئ. امتد الصمت بيننا

سيجارة وأشعل لنفسه أخرىهارب أخذ . ا من الصمت قدم لي

تطلع إلى . ا من سيجارته المرتعشة بين أصابعها عميقنفس

:قال. خيط الدخان المتصاعد وكأنه يخاطبه وال يخاطبني أنا

ليس عندي وطن، وليس . ليس عندي ما أقدمه لك-

األمان المفقود . لي مكان في بلدان الوطن العربي الكبير

انتزع مني حق ممارسة الحياة، وأنت أصدق ما في حياتي،

لم ألم الغربة إلى آخر العمر، أ. اال أتصور أن أسبب لك ألم

انتظار طائرة في أي مطار في العالم، ألم البحث عن حجرة

ال أتصور أن أحملك . فارغة في فندق يقبل قروشنا القليلة

.ذنب لك في نتائجها المريرة بكاملها المأساة تجربة

اعتصر قلبي لم يكن هو الرجل الذي داعب قلبي

كان طفلي يضغط على أحشائي الراجفة أخشى عليه . بالحب

.خروج للعالم القاسي وأحلم له بعالم رائع ألده فيهمن ال

لست بعيدة عما يدور حولي . أعرف كل ما قلت-

أتمنى لي ولك ولكل البشر .. حتى تتصور أنك تفاجئني به

أصحاء، ولكن حتى ا وحدائق وأطفاالا آمنة وبيوتأوطان

يتحقق ما أتمناه لن أتوقف عن الحياة وممارستها وعيشها كما

Page 131: 296

١٣٠

قد أشعر باليأس أو بالندم أو . ى آخر لحظة في عمريهي حت

.ولكني لن أتوقف عن عشقي للحياة وهذا يكفي. الخيبة

كنت أشعر أني قوية أقوى . كنت أغوص بعيني داخله

.من أي وقت مضى في حياتي

أمسكت . نهضت من تحت الغطاء وقفزت إلى األرض

:يده الباردة المرتعشة، وقلت له

لنتجول بالسيارة في شوارع سوف أبدل مالبسي-

.المدينة وننظر الفجر في غابة بني صاف

تهدلت أغصان أشجار .. الغابة والبحر في انتظارنا

رائحة األرض المروية . األرز ناعمة إلى رحم األرض

توحدت معه . جمال احتواني واحتويته. بقطرات الندى البكر

تفتحت له سنوات عمري الذي مضى وسنوات . وتوحد معي

ابتلعت الهواء القادم من البحر حامال صوت . عمري المقبلة

حفيف أوراق الشجر وغموض األفق الممتد بيننا وبين

الشاطئ اآلخر الذي نعرف أنه موجود ولكننا ال نراه، ونهفو

لإلبحار والغوص بين األمواج، تطوينا، تحملنا إلى هناك،

.ال نعرف الرائع الذي لإلى ما ليس بين أيدينا، إلى المجهو

Page 132: 296

١٣١

أنشبت أظافري في األرض، اقتلعت العشب، فتتته بين

لملمت سنوات . نطف الحياة ولدت بين أناملي. أصابعي

.عمره المهزوم، وحملته في سفينتي ورحلنا

أعددت حقيبتي الصغيرة ووضعتها في ركن الغرفة

ا للرحيلاستعداد..

. سوف تعودين إلى خنشلة وأعود إلى وحدتي-

لرد عليه، فوحدته المتوحشة تهاجم أي لم أستطع ا

.منطق

ا وصلت الطائرة إلى قسنطينة كنت قد اتصلت تليفوني

بشهيدة لتنتظرني في المطار ولنقضي يومين قبل نهاية

ا في قسنطينهالعطلة مع.

ا كانت في انتظاري تتطلع في وجوه المسافرين بحث

عني، لمحتها من بعيد تحمل حقيبة صغيرة وجاكيت على

ا في وجهها وظالل إرهاق ربما من آثار لمحت شحوب. يدها

ت في اتجاهها، ، جريلوحت لها بيدي حتى تراني. الرحلة

.تعانقنا

اشتقت لك، أرجوك ال تغيبي عني طويال بهذا -

.الشكل

Page 133: 296

١٣٢

. أنا أيضا افتقدتك بشدة-

. إلى وسط المدينةحملنا حقيبتنا وسرنا، أخذنا تاكسيا -

أين سنذهب؟-

يمكن أن نقيم اليومين في المدينة الجامعية عند -

.صديقاتي

وماذا عن الفنادق؟ لماذا ال نقيم في فندق؟-

. ممكن كما تحبين، أردت أن نوفر الدراهم-

سوف نقيم في فندق . لن نوفر دراهم بعد اليوم-

ا كانت دراهمنا إنهما يومان لن نقضيهما ونأكل في مطاعم أي

يكفي ما ينتظرنا في . ي الحي الجامعيفي طابور الطعام ف

.خنشلة

)).التلفانة(( اتفقنا أيتها -

. توقف التاكسي أمام فندق سيرتا في وسط المدينة

نزلنا، حجزنا غرفة، ما أن أغلقنا بابها علينا حتى بدأت

شهيدة تدق علي المنضدة بأصابعها وتهز جزعها في حركات

.طفولية فرحة

-إنها مغامرة . في هذا الفندقا بالمبيت لم أحلم يوم

.بالنسبة لي

Page 134: 296

١٣٣

أيتها الساذجة ال يوجد فرق بين هذه الحجرة -

.وحجرتك في الحي الجامعي

إحساسي وأنا أدفع . أنا هنا بإرادتي. ال يوجد فرق-

الماء الساخن والبانيو أشياء . ثمن المبيت إحساس مختلف

.صغيرة وبسيطة ولكنها مفرحة

لبت فنجاني قهوة مع قطعتي رفعت سماعة التليفون وط

وما أن وضعت السماعة حتى صرخت شهيدة في . جاتوه

:وجهي قائلة

وهذا أيضا مختلف، وكأننا ملكات نطلب قهوتنا -

.بالتليفون

ا أنني أيضا منتشية ك سر إنه أمر جميل ال أكتم-

.وواثقة بنفسي مثلك، وكأنني أصنع معجزة

نا اآلن في أحد فنادق اذة فيما لو كولكن ما رأيك يا أست

.ال من القهوة طلبنا زجاجة نبيذنيا وبدأسبا

دعينا نستوعب أوال قسنطينه حتى يأذن لنا اهللا -

ا حتى خذ حمامسوف آ. نذهب إلى أسبانيا أو فرنسابالفرج و

.تأتي القهوة

Page 135: 296

١٣٤

غصة مألت حلقي ولوعة . تمددت على السرير

.آلناعتصرت قلبي، وكأن عودتي وتركي لفاضل حدثا ا

فتح للجرسون الذي حمل لنا القهوة وطلب قمت أل

الثمن بالفرنسية وألني لم أفهم قلت له ضع الثمن مع حساب

.الغرفة

خرجت شهيدة من الحمام تدندن بأغنية لعبد الحليم

.حافظ

-ا هيا لتأخذي حماما أنت أيض.

. بعد أن أشرب القهوة-

لبست .عندما استيقظت في الصباحهيدة نائمة شكانت

سرت بضع خطوات خارج . مالبسي وخرجت إلى الشارع

الفندق حتى وصلت إلى سلم صعدت درجاته حتى نهايتها إلى

واصلت سيري حتى وصلت إلى أحد الجسور . وسط المدينة

السبعة التي تربط الصخرتين اللتين أقيمت عليها المدينة فوق

ت هوة عميقة واسعة مكسوة بالنباتا. الجسر ونظرت أسفله

ا ستدفعني شعرت بدوار وأنا أنظر، وكأن يد. البرية الخشنة

تركت المكان خائفة . من الخلف ألسقط في هذا العمق

وإلى أين أعود؟ ؟من أتي بي إلى هنا؟ وكيف أعود. مرتعشة

Page 136: 296

١٣٥

ال مفر من المواصلة في هذا العالم الواسع، ال مفر من أن

ا، أحمل نفسي وأسير بها أشق الصخرتين وأعبر جسورهم

النباتات الجافة أتطلع إلى البيوت فوقهما وفي بطنها تتسلقها

لقد أتيت ولن أعود، . خر قطرة ماء فيهاكأن الصخر شرب آ

ف حولي األغصان الجافة تمتص تلعني الصخر ولن تلتبلن ي

. ة العاوية في رأسيالرجف. الوهن الداب تحت جلدي. مائي

سوف أحطم .ة بسالسل سوف أحطمها وأسيرأقدامي المكبل

وهني وضعفي ولن يبقى مني إال قوتي، وقدرتي على

.المواصلة

تركت جامع ابن باديس خلفي وسرت في شارع

بيوته . الشارع يتجه إلى أسفل بانحدار شديد. عكسي

وتكاد تلتصق واجهاتها لوال ضرورة . متالصقة على الجانبين

. ة يلعبون وال محالت تجاريلم أر أطفاال. وجود ممر للسير

غنية انبعثت من خلف جدران أحد أا، لوال صوت كان هادئ

ا واصلت السير سمعت همس. لتصورت أنه مهجوربيوته

. ا إليهالتفت سريع)) امرحب: ((خلفي وصوت رجل يقول لي

.لم أرد وتركته وواصلت السير

:واصل سيره خلفي وهمس بلزوجة

Page 137: 296

١٣٦

. تفضلي، عندي طلبك-

جهي، وارتبكت ارتعش و. اضطربت نبضات قلبي

بعد لحظة قررت العودة . فقدت قدرتي على التصرف. ساقاي

دت امرأة سمينة ما أن أدرت وجهي حتى وج. من حيث أتيت

قلة بالذهب تسد علي الطريق، واضعة مصبوغة الشعر ومث

زحفت . جذبتني إليها وهي تضغط علي. يدها على كتفي

ع أن لم أستط. شعر بدنيقا. أصابعها من كتفي إلى عنقي

اتركها : ((أمرت الرجل باالنصراف قائلة. نطقأتحرك أو أ

:ثم توجهت لي قائلة)). يلي طلبها عند

سالي عني في أي وقت ك، طلبك عندي، امرحبا ب

دوار رهيب . صرختي ارتدت إلى أعماقي. تحتاجينني فيه

ظللت أجري، . أزحت يدها عن عنقي، وجريت. أصابني

ت قلبي ووقع قدمي، ال ال أسمع سوى لهاثي وصو. وأجري

تقيأت . تقيأت كل ما في جوفي. أشعر إال بالدوار الرهيب

ادم.

خيوط الدم النازفة من جوفي إلى فمي قطرات تتجمع

خيوط الدم تتفجر من . في بؤرة على األرض، رفعت رأسي

الصخرتين وتزحف، تصل إلى بؤرة دمي، سقطت على

Page 138: 296

١٣٧

. بؤرة دمياألرض، خيوط الدم تزحف من البحر تتجمع في

يد الرجل تأخذ مكانها فوق . يد المرأة تزحف على جسدي

أبحث في األيدي الممدودة عن . وأياد كثيرة امتدت. جسدي

يده السوداء . يده السوداء تمسح الدم عن جسدي. أصحابها

امتزجت . مدالة بجوار جثته المعلقة في ساحات الخرطوم

يدي على قبضت . تشبثت بالنهر. قطرات دمه بماء النهر

.تشبثنا معا بماء النهر. أمسكت بيد معروفة. الماء

. توقف صوت محرك السيارة المتسللة ليال إلى بيتنا

صعدت . قفزات سريعة من داخلها وأبوابها تغلق بعنف

غليظة الكعب على األرجل داخل األحذية المرتفعة العنق

كوريده ليطرق الباب . التي تسبق باب بيتناالدرجات الثالث

انتفض .اندفعوا إلى الداخل. ولكنه انفتح أمامه، لم يكن مغلقا

سقطت . من على مقعده في أحد أركان الصالةا أبي واقف

. علم يستط. ها من يده حاول أن يسألالسيجارة التي كان يدخن

سأله كبيرهم . جلس على المقعد مرة أخرى. لم يتمالك نفسه

)).في القاهرة: ((قال. عني

. حذية على األرض تنطلق كالفئرانارتفع صوت األ

فقد كانت . صرخت بصوتها الصغير. دفع باب الغرفة بقدمه

Page 139: 296

١٣٨

احتمت بكفيها الصغيرين من الدناءة التي . تبدل مالبسها

. تحملها األحذية ذات األعناق الطويلة والكعوب الغليظة

دفعتها . دودةمامتدت يده إلى كتفها شعرت بلزوجة اليد الم

حجم الذي ظهر من جسدها وما كان يغطيه لم تعبأ ب. عنها

سألها عني وما أن ذكر اسمي حتى شعرت . كفها الصغير

كانت أصغر من أن تعرف أن هذه . بألف خطر يحاصرني

. حساس بالغثيانإانتابها . األحذية أضعف من أن نخافها

براص الزاحفة على األرض، بيدها أرادت أن تتقيأ فوق األ

.وبكت. الحجرةدفعتهم وبيدها أغلقت باب

مددت يدي إليه أتحسس . شعرت أن قلبي يتفجر

حرقة رائعة مألت. ادما، كان دموعلم يكن . النازف منه

عذوبتها ة، روت انسابت دموعي على وجهي حميم. صدري

ها في أزحت كل األيدي المدالة بجوار جثث. ضعفي وسقطتي

اتكأت على األرض شددت . الخرطوم وبغداد وقاهرة المعز

وقلبي سكب دمعه . جريت. قدمي وصلبت عودي ونهضت

على شفتي من روعة الحرقة داخلي، تطهرت روحي من

دنس الدم في شارع البغاء، من دنس الدم المسكوب تحت

Page 140: 296

١٣٩

خر سكبت آ. الدم المهزوم في الساحاتاألحذية، من دنس

.دموعي في صدر شهيدة ونهضت

ر في قلب ال أستطيع أن أقول أن الربيع قد أقبل، فالزه

كانت . الصخر لم يذبل طوال فصل الشتاء ولم يختف اللون

األلوان تمأل الفراغ المحيط بالمدينة والجبل، السحب الكثيفة

لم تستطع أن تلقي بوحشتها على أزهار الجبل ونباتات

، أيامه أشرقت مع الشمس التي لكنه الربيع قد جاء. األرض

.لم تذب الثلوج من فوق قمم الجبال بعد

تثاءب في كسل نهضت من نومي في نفس الموعد أ

كسل من تتخلل خالياها كل نسمات الحياة، وتقبض بين . لذيذ

فتحت شباك حجرتي أتطلع إلى . يديها على لحظة مولدها

ابتسمت . لى نفسيالجبل والشمس وشعاعها الدافئ يتسرب إ

. رئتي بالهواء المعطرفي رضا وأنا أمأل

. تقيت بنادية وفالديميرفي طريقي إلى الفصول ال

قفزت إلى . تبادلنا التحية، تمنيت لو أمسك بيديها وأجري

قطفت بضع وريقات . أعلى لمست غصن شجرة األرز

خضراء فركتها بين أصابعي ورفعت كفي إلى أعلى وتركتها

.تتساقط منه

Page 141: 296

١٤٠

عودتي غفوت وأنا بمالبسي ممدودة على سريري بعد

الظهر والساقين بعد ثماني الم من المدرسة فقد استبدت بي آ

هذا . ا والشرح المتصلساعات من العمل المستمر وقوف

أشعر معه أن خيوط األلم . لم وليد العمل يسعدنيألاالنوع من

. الزاحفة من ساقي إلى ظهري وكتفي خيوط تربطني بالحياة

تمنيت أن تكون . وأنا في غفوتي سمعت طرقات على الباب

نها لم تكن، فقد أصر الطارق أن ا حتى أواصل نومي ولكحلم

.كان رشيد زوج رفيقة. يوقظني

. مرحبا يا رشيد تفضل-

نتظرك خارج المدرسة لنذهب لن أدخل، سوف أ-

.للبيت

.خرجت مسرعة وانتابني القلق على رفيقة

ماذا هناك يا رشيد هل رفيقة بخير؟-

. نعم بخير وسوف ترينها بنفسك-

.وصلنا إلى بيتهماا طوال الطريق حتى ظل صامت

حاولت رفيقة أن تداري آثار البكاء بابتسامة مفتعلة

وترحيب مبالغ فيه لم أحتمله، فطلبت من رشيد أن يتركنا

ما أن . وبادرت بسؤالها عن أحوالها مع رشيد. بمفردنا

Page 142: 296

١٤١

. سمعتني حتى واصلت بكاءها الذي بدأته ال أعرف متى

.ربت على شعرها وأخذت رأسها في صدري

يقة ماذا حدث تكلمي؟ رف-

.جففت دموعها وطلبت مني سيجارة

هل تقبلين أن يضربني رشيد؟-

كيف حدث هذا؟ ومتى؟. ماذا؟ ال طبعا، ال أقبل-

. اليوم-

لماذا؟-

اسأليه لماذا؟-

. أريد أن أعرف منك-

دعا عددا من أصدقائه على الغداء اليوم، وأصدقاؤه -

أعددت . ئي في الدراسةهؤالء هم أصدقائي أنا أيضا وزمال

فوجئت به ينادي لي ويأمرني باألكل في . الطعام وقدمته

ال ينبغي أن تأكلي مع : سألته لماذا؟ قال. المطبخ بمفردي

انتظرت حتى غادر األصدقاء بيتنا وقررت مناقشة . الرجال

.األمر معه، احتد النقاش، صفعني على وجهي

شيئا سوى عادت مرة أخرى للبكاء لم أستطع أن أفعل

الضغط على يدها وقول كالم ال معني له، مثل ال تفعلي في

Page 143: 296

١٤٢

توجد مواقف أشعر بتفاهة ((اهدئي . أنت حامل. نفسك هكذا

)).أي كالم يقال فيها مهما كان صدقه

.جففت دموعها وواصلت حديثها

أعرف أن من عادتنا أال تأكل النساء مع الرجال -

ر، ولكني أكره هذه حتى وال مع أزواجهن وأبنائهن الكبا

.العادات

: ناديت رشيد وسألته-

لماذا استدعيتني يارشيد إلى بيتك؟-

وبين هذه المهبولة؟ي حتى تحكمي بين-

. وتريد حكمي الصادق-

.. نعم-

كيف تضربها؟. أنت مخطئ-

. استفزتني وأثارت غضبي-

-ليس هذا مبرر ما الخطأ .ثم إنها لم تخطئ. اا كافي

اركك وأصدقاءكما الطعام؟في أن تش

لن يقبل أي منهم أن تشاركنا . هذا ضد عادتنا-

.زوجته الطعام

Page 144: 296

١٤٣

. أرجو أن تعتذر لها وأن تحال مشاكلكما بشكل أهدأ-

.أال ترى أني لم أشرب القهوة حتى اآلن

كان البد أن ينتهي الموقف بشكل أو بآخر، وأن يظل

في أقصى كيف تمارس الحرية : السؤال معلقا دون إجابة

صورها ويمارس التخلف في أحط صورة، من نفس الشخص

الزدواجية فيهم وفينا اوفي نفس البيت؟ ومن خلق هذه

جميعا؟

دسست جسدي . أطفأت نور الغرفة وأخذت سجائري-

تحت األغطية واتكأت على وسادة خلف رأسي ألدخن

.سيجارة قبل أن أنام

فة كانت نارها هي مصدر الضوء الوحيد في الغر

شتعل في رأسي يبحث عن إجابة واضحةوكان سؤال م

إلى أين أنا ذاهبة؟ تتنازعني مشاعر مختلطة، . ومحددة

مشاعرى بالحب التي اندلعت من داخلي لفاضل، وكأنني لم

أحب من قبل، وهذه المشاعر الباهتة التي أحملها لحياة باهتة

.فقدت كل مقومات االستمرار استمرارها ولسنوات طويلة

. انت دوافع استمرارها من خارجها ومن خارجيك

وكنت أرى . كنت واعية لما وصلت إليه عالقتي بزوجي

Page 145: 296

١٤٤

وخيوط محكمة حولي . عمري يتسرب من بين أصابعي

أحالمنا التي . تمنعني من اتخاذ موقف وتصنع بي ما تشاء

ا وراء اآلخرانهارت حلم .ا، أو هكذا وكان السفر مخرج

ياهت يأتي معي ويتعمق إحساسولكن اللون الب. تصورت

ويأتي فاضل لينتزعني من عمق اللون الباهت ويفجر . به

.بصمته قدرتي على عيش المستحيل

أغمضت عيني، احتضنت العالم بين ضلوعي، ويد

.حانية تربت على شعري ورحت في نوم عميق

فتحت عيني لضوء الشمس الرائعة التي تسللت إلى

أزحت الغطاء . ها اللذيدغرفتي وتسللت إلى جسدي بدفئ

أنهيت . وقفزت إلى األرض وابتسامة متوهجة تمألني

كنت أغني وأنا . طقوسي الصباحية وخرجت إلى تالميذي

مررت )). من عز النوم بتسرقني((أسير إليهم أغنية فيروز

أخذت طباشير . ألقيت تحية الصباح عليهم. بحجرة المدرسين

.وصعدت للفصل األول

الحياة في وقع أقدامي، وأري صفاء سمع دبيب كنت أ

كان فاضل يسير ملتصقا بجسدي . البنفسج يمأل روحي

ابتسمت . شعرت أنه هذا النبض وتلك الحياة. وبنبض عروقي

Page 146: 296

١٤٥

اتسعت ابتسامتي عندما رأيت . بخجل من طفولة أفكاري

.عينيه تلمعان في قرص الشمس

استوقفني أحد المدرسين وأنا في طريقي إلى بيتي،

. وقدم لي نفسهحياني

.يوس مدرس اإلنجليزية وعراقي داود جرجر-

-ا مرحب..

لألسف أننا لم نتعرف من قبل وإن كنت قد سمعت -

نك ، ولم يختلف أحدهم على الرأي في أعنك من الزمالء هنا

.ين في خنشلةيمن أفضل الشرق

. أشكرك واشكرهم-

اليوم عيد ميالد ابنتي وأوصتني زوجتي أن أدعوك -

..حتفال معنالال

-ا، فقط أعطني العنوان هذا يسعدني جد.

سوف أمر عليك أنا وزوجتي بالسيارة في السابعة -

.مساء

..نتظركما سوف أ-

وكنت قد . في الموعد المحدد جاء داود وزوجته

.انتهيت من ارتداء مالبسي

Page 147: 296

١٤٦

انتبهت لمالمح داود التي تختلف عن مالمح العراقيين

نفه كبير فهو شديد البياض ووجهه ضخم وأ. همالذين التقيت ب

. ديدة الشبه بهأيضا وزوجته شديدة ش.معقوف وشعره أصفر

نها الطرف األقوى في عالقتهما وإن كنت قد شعرت أ

.الزوجية

هلل الطفالن كالرا وكارل بمجرد أن رأياني

))..المصرية جاءت((

رجال . كان في الحجرة أكثر من عشرة أشخاص

وكان بين المدعوين عادل . عراقيونونساء مصريون و

:وإيزيس التي صاحت كاألطفال وهي تأخذني بين ذراعيها

. أين أنت؟ وعدتني بالزيارة ثم اختفيت-

.انشغال في العمل.. معذرة-

وفي وضع . جلست بين الحاضرين وأنا منتبهة

.الكتشاف البيت وأصحابه وضيوفهماالستعداد

:تحدثلي نفسه قبل أن ي)) فالح((قدم

سعداء بوجودك بيننا يا أستاذة، وإن كان هذا الوجود -

نك قررت االكتفاء بتحية الصباح التي ويبدو أ. اقد تأخر كثير

.تلقينها علينا في حجرة المدرسين

Page 148: 296

١٤٧

راه منذ لم أشعر باالرتياح له ورغم أنني أرغم تودده

ننا لم فهو أيضا مدرس إال أ. ل بالمدرسةبدء قدومي للعم

ل أي حديث من أي نوع، إنه من الطراز الذي تنم نتباد

ونبرة صوته عن ثقة عالية تصل لحد ،نظراته عن جرأة

.الغرور حتى لو كانت تحمل بعضا من المجاملة

بتحفظ شديد شكرته وأنا أرسم على وجهي ابتسامة

.محايدة لزوم الموقف

في همة ونشاط رغم بدانة جسدها بدأت زوجة داود أو

تنادى في تقديم الطعام وأكواب فارغة أم كارل كما

وزجاجات النبيذ التي ما أن رأيتها حتى انتابتني حالة ارتباك

كنت أفكر . شديد زادت بوضع أم كارل كوبا فارغا أمامي

:بسرعة

هل أشرب؟ هل أرفض الشراب؟ هؤالء ألتقي بهم

. وضعت أكواب أمام جميع النساء. ألول مرة وال أعرفهم

كيف . هن أزواجهن، أما أنا فبمفرديولكن النساء مع

في صحتك يا : ((أتصرف؟ قطع تفكيري المضطرب داود

)).أستاذة

Page 149: 296

١٤٨

ورشفت . وس الممدودةرفعت الكأس وقرعته مع الكئ

. رشفة أعقبتها رشفات حتى أوشك الكوب على االنتهاء

ن عادة العراقيين أال يتركوا م. ومأله داود مرة أخرى

ارل شريط موسيقي شرقية وضعت أم ك. وس حتى تفرغالكئ

.في جهاز التسجيل وافتتحت الرقص

اقتربت من كل الموجودات مادة يدها داعية لهن إلى

وبقيت أنا . ا قاموا حتى الرجاللرقص، جميعامشاركتها

كنت في حالة دهشة من . معتذرة لعدم قدرتي على الرقص

هذه القدرة اإلنسانية على التحايل على الحياة وانتزاع ما

.مكن انتزاعه من بهجاتهاي

ا وهم يتمتمون بالدعاء قواهم وتصببوا عرقتانهد

ا أبا األمة ي واهللا هذا بيت–. فرج عنهمألبي كارل الذي

.كارل

ا ليقال أحد العراقيين، وواصل حديثه متوجه:

من العراق وجئنا إلى هنا وبيت أبي منذ أن رحلنا -

لشرقيين الا، ومفتوح لككارل مفتوح لنا جميع.

.. ماذا تقصد بالشرقيين-

Page 150: 296

١٤٩

كل القادمين من المشرق العربي يقولون عنهم هنا -

.شرقيين

أين باقي . ولكني ال أرى هنا إال عراقيين ومصريين-

.أفراد األمة المشرقية

ضحك ضحكة ودودة أضاءت وجهه وتحسس لحيته

.الكثيفة

-ا معذرة ما اسمك؟ عرفوني بك سريع.

خرجت من العراق مع . ن البيضاء عماد مدرس بعي-

.نتظر العودة كما ينتظرها كل العراقيينمن خرجوا، وأ

. قطع داود حديثي مع عماد بسؤاله عن مصر وأحوالها

..انتبه الجميع في انتظار ردي

. ال أعرف فأنا هنا منذ فترة طويلة-

.:بحدة وجرأة قاطعني فالح

كيف وافقتم على الصلح مع إسرائيل؟-

..ننا وافقنا قال لك أ ومن-

ألم يوقع الكلب ابن الكلب اتفاقية معهم وفتح سفارة -

.لهم في القاهرة

Page 151: 296

١٥٠

ا فوق جرح غائر في قلبي ال يريد وضع بكالمه ملح

ا كنت أضع بنفسي ملح. أن يندمل وال أريد أنا له أن يندمل

فوق جرحي كلما نظرت داخلي أتحسسه فأجده في زحمة

.ولالحياة أوشك على الذب

ربية التي كان يتحدث بها داود غأثارت دهشتي اللغة ال

والحظ هو الدهشة التي تعمدت إظهارها على . مع طفليه

.وجهي حتى يفسر دون أن أسأل

.شوريةآشوريون، وهذه لغتنا، اللغة اآل نحن -

كل هذه القرون ومازلتم تحتفظون بلغتكم األصلية، -

.ولم تنصهروا مع العرب

ا ا وال اجتماعيلم نختلط جغرافي. صهار قاومنا االن-

.شوريون يدينون بالمسيحيةبالعرب فاآل

فسر لي ذلك وجود إيزيس وعادل ورفعت وإيرين أن

.فهم أقباط؛أسأل

التي تعرضنا لها، قاومنا كل أشكال االضطهاد -

كان العرب يغيرون علينا . ذابتنا في العربوالتي استهدفت إ

فة أشكال التهديد والترغيب إلخراجنا في أرضنا مستخدمين كا

كانوا . ت العربوواصل األتراك محاوال. ين المسيحيعن الد

Page 152: 296

١٥١

. يغيرون على قرانا يبيدونها وال يبقى إال من استطاع الهرب

لوا زوجها في هجمة من تحكى لي جدتي أن األتراك قت

خفت أبي في سلة مغطاة بالخضر واألطعمة هجماتهم، وأنها أ

رحلوا أليام ال تذكر عددها حتى انتهى ورحلت مع من

الخطر، وعادت بابنها، لتبدأ دورة حياة جديدة بمن هربوا

لم نعرف االستقرار واألمان فانغلقنا على أنفسنا . وعادوا

وحافظنا على نقاء عرقنا وسنظل إلى أن تنتصر الشيوعية

.في العراق ويصبح لنا حق الوجود كإحدى األقليات

م من وجهه ومن عروقه النافرة في أن يتفجر الدكاد

.يده التي يحركها كأنه يخطب في حشد كبير

لم أعلق على ما قال، فقد قطع الحديث رغبة

وقام أبو كارل لتوصيلي إلى . الموجودين في االنصراف

.بيتي

ومع كل خطوة تبعده عن باب . وقع أقدام داود تبتعد

تفى وقع بيتي كان الخوف يحتل مكانه في نفسي، وما أن اخ

بقوة تدفعني للجري خلفه واللحاق به خطواته حتى شعرت

النوم في . العودة معه إلى بيته والنوم في سرير بجوار أطفاله

Page 153: 296

١٥٢

هلع مركب استبد بي بمجرد أن . بيت أشارك فيه آخرين

.سمعت صوت محرك السيارة

عدت إلى الباب تأكدت أنه مغلق، وإلى الشبابيك

سمعت خطوات تقترب من . ائفةمازلت خ. تأكدت أنها مغلقة

تكورت تحت الغطاء، تركت نور . ويد تحاول فتحه. بابي

ألغيت كل حواسي إال حاسة السمع التي . الغرفة مضاء

صوت القدم التي تقترب من بابي . تتحسس صوت القادم

هل أصرخ؟ هل أفتح الباب . واليد التي تحاول تحطيمه

ترب من الثالثة وأواجه الواقف خلف بابي؟ الساعة اآلن تق

بعد منتصف الليل لو صرخت من سيسمعني في هذه البلدة

التي ينام أهلها بمجرد غياب الشمس؟ هل أجر السرير

دة والكرسي وأضعهم خلف الباب؟ وهل أستطيع أن منضوال

أفعل كل هذا وأسراب النمل تنهش جسدي؟ والصوت ال

قفزت من فوق السرير وأنا أنتفض من. يتوقف خلف الباب

وجدت قطة . الرعب، بخطوات مرتعشة فتحت الباب بسرعة

أسندت رأسي على الباب بعد أن . تخربش في عتبة الباب

وكل خليه في جسدي ترتعش وجفاف الملح يمألني، . أغلقته

أخذت ألوك الجفاف بلساني لعله يرطب تيبس شفتي وحلقي

Page 154: 296

١٥٣

تحسست . وعدت إلى السرير، دسست جسدي تحت األغطية

.قد بجواري وبكيتالفراغ الرا

ال تتوقف الرسائل القادمة من القاهرة لي ألملم ما فيها

جمرة مشتعلة . وأغلق قلبي عليها.. من شوق ولهفة وحنين

داخله، وكأن الدم الجاري في لحمي ملح الدمع المسكوب من

أتشبث . وكأني الغريبة الوحيدة في الكون. عيون البشر

.ني بمصربرسائلي كما لو كانت آخر خيط يربط

غطى اللون الرمادي المشرب بالصفرة السماء فجأة

خرجت للسير في الحديقة المحيطة . وزحف إلى حجرتي

جلست على الحشيش وأسندت ظهري . المدرسينبمنازل

فشلت كل محاوالتي في منع نفسي من . لحائط حجرتي

التفكير في فاضل، وفي إبعاد وجوده الذي يشاركني كل

ت إلى األفق الذي انشق وأتى لي به تطلع. دقائق وجودي

ال . يشاركني جلستي فوق ركبتي وقد لففت ذراعي حولها

قبل أن تضع نادية يدها على .. أعرف كم من الوقت مضى

.وتنتزعني من حضن نفسي. كتفي

فيم تفكرين أيتها الطفلة الجميلة؟

-ا يا نادية كنت أفكر في نفسي مرحب.

Page 155: 296

١٥٤

.ل كتفيجلست بجواري ولفت ذراعيها حو

عتقد أ. وقت طويل وأنت تفكرين في نفسك مضى-

.أنه أطول مما ينبغي

ماذا تقصدين لم أفهم؟-

توقفي عن الغوص . أقصد أن في حياتك شيئا يعذبك-

انزعي نفسك من داخله وانظري له من الخارج حتى . فيه

.قد يكون أقل من أن تتعذبي به. تستطيعي معرفة حدوده

ا أثناء شرحي للدرس، عترضقاطعني أحد طالبي م

من هؤالء العرب يا : ((، قائال))نحن العرب: ((ألنني قلت

))..؟أستاذة

. نحن، من الخليج إلى المحيط-

. ولكننا لسنا عرب-

وماذا تكونون؟-

السكان األصليون للجزائر، أو نحن بربر،-

مازيج، لنا لغتنا وعاداتنا وتقليدنا وتاريخنا السابق على األ

.بةوخ العرتاري

جميعنا، لنا تاريخنا السابق على تاريخ دخول العرب -

..بالدنا

Page 156: 296

١٥٥

-ا، أما نحن فمازلنا مختفظين بلغتنا أنتم أصبحتم عرب

.األصلية القبايلية والشاوية

القبايل الجامعية ألم تسمعي عن مظاهرات الطلبة

ن بالحكم الذاتي والتدريس بلغتهم؟يطالبو

أو الشاوية مكتوبة؟ وهل اللهجة القبايلية-

نحن نبحث عن حروفها ويمكن استخدام الحروف -

.العربية حتى نكتشفها

ضيتكم، وليس من حقي أن أوافق أو عموما هذه ق-

.عترضأ

. ولكن من حقي أن أتألم:ستطع أن أقول لهلم أ

. نصف يردد درس اليوم. أنهيت اليوم بنصف عقل

لقبايلي والشاوي والنصف اآلخر يبحث في وجوه الطلبة عن ا

.والعربي

ا وأنا واقفة في المطبخ، وخرجت لزيارة أكلت سريع

على باب المدرسة، وجدت عادل وإيزيس مقبلين . رفيقة

لنذهب . علي، وفي انتظارهما وانتظاري رفعت في سيارته

. إلى مكان من خنشلة اقترحه رفعت اسمه حمام الصالحين

ثم هبطت اة نسبيأخذتنا السيارة في طريق يرتفع عن خنشل

Page 157: 296

١٥٦

وكلما اقتربنا اقترب منا . بنا مرة أخرى إلى أسفل الجبل

الجبل يفجر حمله من الماء الفائر ويصبه في . خرير المياه

جداول شقها ماء تصل درجة حرارته إلى الغليان، رغم أن

.الجبل مغطى بالثلج معظم شهور السنة

نت كا. شربنا قهوة في مقهى الحمام، ثم قمنا لنتجول

الشمس تتجه إلى المغرب تسحب آخر ضوء أحمر صمد أمام

ا على المكان وخرير ا شفافالظالم، وانسحب الظالم خفيف

الماء ال يتوقف ورياح رقيقة تداعب أوراق الشجر، تسقط

األضعف وتصمد لدغدغة أناملها األوراق الملتصقة بفرع لين

أقلق وقع خطواتنا . أخضر يمأل تجاويفه حليب أبيض

زقزقة متقطعة معلنة عن كانت . العصافير في أعشاشها

زغب أخضر نبت في تجويف ثديي شعرت به . وجودها

سيشقهما ويخرج، ضغطت على ثديي أوقف زحف الشيء

سرنا . الذي ال أعرفه تحت جلدهما وفي شرايينهما الصغيرة

عمرها من عمر . بين األشجار المتوحدة في توحش رائع

. ية بأحجار ضخمة للحمام الرومانيالجدران الهرمة المبن

عبرنا الجدران إلى المسبح الذي تصب فيه المياه الفائرة من

شعرت بغليان الماء يحرقني رغم أني لم . الجبل مباشرة

Page 158: 296

١٥٧

أحيط المسبح بأحجار ضخمة حاولت بصعوبة أن . ألمسه

الوصيفات والمحظيات والملكات . أصل إلى أحدها

والفرنسيون، على الحجارة الرومانيات والبربر واألتراك

.نقوش لنساء ورجال عرايا وفي أوضاع جنسية مختلفة

وأخذت . على المنضدةفرشت نادية أوراق الكوتشينة

تتأمل كل ورقة على حدة، ثم تجمعها مرة أخرى وتهمس بين

األوراق، ثم تخرج ورقة من بين الورق كيفما اتفق إلى أن

:ى المائدة وقالتخبطت عل)). البنت(( وصلت إلى صورة

زوجة مسئول العاملين )) فياريسما(( هذه هي -

هي من تكيد لي لدى زوجها؛ . السوفييت بالشرق الجزائري

هل أفتح لك الكوتشينة؟. ظريان. ألنها تغار مني

. نعم، فقط دعيني أودعها سرى-

وقفت في طابور شراء تذاكر العالج بالمستشفى العام

فقد كنت أشعر -جاني في الجزائرتقريبا العالج م-بالمدينة

كنت أشرح . أجرت الكشف على طبيبة سوفيتية. باإلرهاق

. وتترجم هي إلى الفرنسية للطبيبة. للممرضة ما أشعر به

طلبت من الممرضة أن . اكتبت لي بعض الفيتامينات وحقن

ترجو الطبيبة تغيير الحقن ألنني ال أعرف من يمكن أن

Page 159: 296

١٥٨

وترجمت . لطبيبة وعال صوتهاتغيرت مالمح ا. يعطيها لي

لي الممرضة والكلمات تتعثر في فمها أن الطبيبة ليست

ولم تكمل الممرضة فقد قاطعتها الطبيبة بإشارة من . مسئولة

سرت في . يدها تعني أن أخرج، شعرت بإهانة وألم شديدين

... واجهت نفسي بهشاشتي. الطريق أبكي حتى وصلت بيتي

عيف أو طفل معقم ما أن وكأنني قطعة من الزجاج الض

إنني اآلن . يتعرض للهواء الخارجي حتى يصاب بالمرض

في العالم بمفردي في ظروف طبيعية أنا والحياة، خرجت من

أسر قدرتي على . خرجت من دائرة األسر. الحضانة المعقمة

.الطبيبة لم تخطئ أنا التي أخطأت. التصرف والفعل

اب، فقد كنت أعرف أن حورية هي التي تطرق الب

فاضت ابتسامة عينيها وهي تقول . ا باألمسأعطتني موعد

:لي

.. هيا لتأخذي اإلبرة، فقد عقمتها قبل أن آتي لك-

. أال ننتظر حتى نشرب الشاي-

نك اإلبرة أوال ثم نشرب الشاي، أم أ ننتهي من-

خائفة؟

Page 160: 296

١٥٩

. كنت أتاملها وهي ترتب أشياءها في العلبة الحديدية

لتي تضئ وجهها األبيض الجميل وراء تخفت ابتسامتها ا

مسحت على شعرها األصفر بيدها . حزن وأسى دفينين

أنهت صمتنا . لتخفي ارتباكها عندما الحظت تأملي لها

تها لي بزيارتها في بيتها في يوم أحدده، شكرتها وبدع

. ووعدتها بتحديد موعد عندما تأتي لتعطين الحقنة التالية

.عن الحقنةتركتني رافضة تقاضي أجرها

ا للنوم مع صراعي استلقيت فوق سريري استعداد

، ماذا أفعل: المتواصل حول سؤالي الدائم الذي يطرق رأسي

ومحاسبتي لها من خارجها، بعد مواجهتي لحياتي مع زوجي

هل أطلب الطالق؟

أمامي . مرت ساعات وأنا أحملق في سقف الحجرة

. يدي قلمعلبة سجائري ومنفضة وفنجان قهوة وورقة وفي

امتألت الورقة بالخطوط المستقيمة المتعامدة والمتوازية

والمتشابكة، أخذت شكل مربع كبير بداخله مربعات صغيرة

كنت سأكتب على هذه الورقة رسالة إلى . متداخلة ومتقاطعة

.زوجي أطلب فيها الطالق

Page 161: 296

١٦٠

وسؤال جديد . بي الشفقةتاستبد بي الخوف كما استبد

ولكن . إنه يحبني)). االنفصال عن زوجيماذا بعد ((يمزقني

ا، ماذا فعل من أجل هذا الحب؟ ماذا قدم له؟ أيام قضيناها مع

ستيقظ في الصباح قبله أا. التحمت حتى أصبحت سنوات

أضعه على صينية، أدخل به . بنصف ساعة أعد له الفطور

يرفع جسده إلى أعلى قليال، أضع . إلى السرير، أوقظه

ه وأجلس بجانبه في انتظار أن ينتهي من صينية الطعام أمام

أعد طعام الغداء، يعود . نذهب ألعمالنا، أعود قبله. إفطاره

يصب نقمته على رأسي، يغرق في كنبه , ا على الحياةناقم

تحتل أحد جدران الحجرة الوحيدة في بيتنا مشعال التليفزيون

تسربت . إلى اليوم التالي، أو لحين حضور أحد األصدقاء

جموع التقينا في حلم كبير، التقينا في . منا من بين أيديناأحال

ا تصورنا أنفسنا صناع. ة للحياةالبشر، في خضم الحياة الخانق

تمزقت شرنقة الحلم الواهية وخرج . وكنا صادقين. للمستقبل

منها كثيرون، وبقينا نحن أسرى الفتات المتبقي من خيوط

ا ال ينفصل ه حديثوللحلم المجهض وجه قبيح عاش. الشرنقة

فقد توقف الزمن عند . لم يفكر فيما هو آت. عما فات

.االنهيار

Page 162: 296

١٦١

وماذا سيكون رد فعله؟ لم أكن أتوقع ؟ماذا أكتب له

كان رد فعله الدائم هو ارتفاع . وكنت أخافه. ردود أفعاله

صوته بالصراخ والتأنيب واإلطاحة بما يلقاه بيده ثم يهدأ

انت لديه قدرة على استالبي ك. ويبدأ في مناقشة األمر

مستخدما كل مفردات المنهج العلمي التي يعرفها لديه قدرة

فائقة على تطويع الحقائق لتصب فيما يراه، والهروب من

ا كنت ال أجد منطق. مواجهة الممكن وتحقيقه، إلى المطلق

لم يكن مسموحا لي . يعادل منطقة أدافع به عن وجهة نظري

أكتشف . ا عن سطوتهوها أنا أراه بعيد. يرىماأن أرى غير

... كتشف قدرتي على التفكير والتصرفأ. العالم بدونه

كتشف أنني لم أعش وأ. ة عنهوأعرف نفسي بحق ألنني بعيد

.سوى أكذوبة سرقت أجمل سنوات عمري

ا لعادل وإيزيس ورفعت فقد استيقظت مبكرة انتظار

كن الكنيسة لم ت. اتفقنا على حضور قداس في مدينة باتنة

طابق كنائسنا، فهي مجرد بناء قديم منمبنية على طراز

فتح لنا رجل يرتدي . طرقنا بابها الخشبي الضخم. واحد

ا بنصف كم، ويعلق في رقبته صليبابنطلون جينـز وقميص .

قادنا عبر ممر طويل إلى حديقة صغيرة مكسوة بأغصان

Page 163: 296

١٦٢

ها جلسنا تحت ظالل. وأدوات وثمار العنب في تكعيبة واحدة

. على مقاعد هي جذوع األشجار التي لم تمتد إليها يد إنسان

تركنا الرجل وعاج يحمل صينية عليها زجاجات النبيذ

ا بدأت األسر تتوافد علينا، كانوا جميع. وأكواب فارغة

وأنا المسلمة . حوالي خمس أسر من العاملين بباتنه. مصريين

ا الباب أحاديث أوقف الرجل الذي فتح لن. الوحيدة بينهم

ا أن نشرب نخب وجودنا وتعارفناالتعارف األولى مقترح .

:سألت الجالسة إلى جواري

من هذا الرجل؟-

. القسيس-

ماذا؟-

نعم، ولكنه بروتستانتي والبروتستانت ال يتقيدون -

.بالزي الكهانوتي

كان وجه القسيس يفيض سعادة ليست من هذا النوع

ل الدين عادة، ولكنها سعادة الذي يظهر على وجوه رجا

إنسان يجلس بين معارفه وأصدقائه في حديقة رائعة الجمال

هل أنت : سألته. وفي بيت قديم تفوح منه رائحة السنين

جزائري؟

Page 164: 296

١٦٣

ال، أنا أسباني ولدت بالجزائر وبعد االستقالل -

ولدت بهذه الكنيسة من أجل .. رفضت العودة ألسبانيا

.رعاياي

.زائريين مسلمون أعرف أن كل الج-

-رسمي ا ا ال يوجد مسيحي جزائري واحد، ولكن فعلي

ذائبون بالجزائر، ولكنهم نالمسيحيييوجد عدد قليل جدا من

فقد جاء الغرب بالتبشير ودخل الجزائريون . في المسلمين

فالبعض من خالل عملهم في . المسيحية من قنوات متعددة

ا في مساعدة الكنيسة بيوت ومزارع الفرنسين والبعض طمع

وكان الجزائريون . التي كانت تغدق على من يعتنق المسيحية

فقراء لحد الجوع الحقيقي، وعندما بدأت حرب التحرير رفع

أي الفرنسيين أي المسلمون المتشددون شعار مقاومة الكفار

، مما دفع الكثيرين من مسيحي الجزائر إلى العودة نالمسيحيي

ا وهم يمارسون العبادة سر. او اقتناعا ألإلسالم إما خوف

ويسمون بأسماء محايدة ويحتفلون بأعياد ومناسبات

.المسلمين

تمنيت أن ألتقي بمسيحي جزائري ولكن أمنيتي لم

.تتحقق

Page 165: 296

١٦٤

تناولنا . تراتيلهم الجميلةمامسةبدأت الصالة ورتل الش

لم يتناول معظم الموجودين؛ ألن القداس . دم ولحم المسيح

وهم مصريون عمدوا وفقا للطقوس انتي بروتست

.رثوذكسيةاأل

اعتبرت إيرين تناولي إهانة لدم المسيحي ألنني لم

أعمد، واستاءت من سلوكي، ولكن زوجها رفعت أكد لها أن

االرب لنا جميع.

دم هو أم معجزة . سرى الدم في عروقي وفي روحي

من و؟المسيح المصلوب من. النبيذ. المسيح األولى؟ الماء

هي العذراء؟

تمنيت أال تأتي حورية اليوم فرغبتي الملحة في النوم

ر عيد ميالد ابنتها، والخالص من إرهاقي أقوى من حضو

.ولكنها أتت في موعدها. خذ الحقنةوأهم من أن آ

استقبلتني أسرة حورية بفرح من يلتقي بصديق قديم

شقيقتها الصغرى النضرة كالفاكهة . غاب عنه لسنوات

شباب وفتيات . توافد علينا المهنئون. اؤها األربعة وأمهاوأشق

جلسنا معا في نفس الحجرة نحتفل . في عمر األشقاء الخمسة

...بالصغيرة

Page 166: 296

١٦٥

سألت حورية ونحن في طريق عودتنا إلى بيتي بدافع

من فضولي الذي لم يفارقني منذ أن اخترقت الحواجز

.الحديدية بين مصر ومطارها الدولي

هم شاركونا ظت أن أشقاءك وأصدقاء حورية الح-

طفلتك بينما أنتم ال تسمحون بهذا االحتفال بعيد ميالد

.االختالط

تقريبا نحن العائلة الوحيدة في خنشلة التي تمارس -

فقد تعودنا منذ طفولتنا على االختالط بأصدقاء . هذا السلوك

المرأة الحرة ال تخاف رجال، وال : أمي كانت تقول. أخوتي

.عليها من رجليخاف

لم يكن زوجك بين الحاضرين، أليس كذلك؟-

ي أم. نعم فأنا مطلقة، طلقت وعمر طفلتي شهر-

ا نعمل، شيء، فنحن جميعأيضا مطلقة، ومع ذلك ال ينقصنا

.ا حاجتنا للنعاجنوكفانا رب

لم أقل لزوجي في رسالتي له سوى أن عالقتنا لم تعد

صدقي مع نفسي ومعه وأنني بدافع من. تحتمل االستمرار

.أطلب الطالق

Page 167: 296

١٦٦

ضغطت على . تندى جبينها بالعرق وسخن جسدها

ضغطت على . خاصرتي بأصابعها وأنا أضمها إلى صدري

شفتها السفلى بأسنانها طالبة العون من العذراء مريم، ويسوع

لم يكن مع إيزيس أحد في حجرتها بالمستشفى سواى . الرب

سدها إلى أعلى متشبثة تشد ج. كانت تتقلص... أنا وعادل

بأحرف السرير مرة وبجسدي مرة أخرى، ثم تهدأ وتعود

أنفاسها التي زفرتها صارخة إلى االنتظام، وتمهد في لحظة

. ثم يعاودها مرة أخرى األلم معها. من السكون العميق

مسته في محلول، جاءت ممرضة ووضعت يدها في قفاز وغ

مازال أمامنا : ((ناة وأخرجتها وقالت لأدخلتها تحت المالء

ت إيزيس إلى متى، أريد أن أخلص، صرخ)) وقت

.رحمونيا

.ها الممرضة حقنة وخرجتأعطت

تركني عادل مع . نامت إيزيس والعرق يغطي جسدها

مرت . إيزيس وعاد إلى بيته إلحضار بعض الحاجيات

ساعات طويلة ال أعرف عددها وأنا جالسة بجوار إيزيس

اقتربت فترات األلم . لم ويهدأيعاودها األ. على السرير

Page 168: 296

١٦٧

مرة أخرى جاءت الممرضة فصحت . ولم يعد عادل. واشتد

)).هيا إلى غرفة الوالدة: ((إيزيس وقالت

أين عادل؟: سألت إيزيس

-ا ذهب إلى البيت وسوف يعود سريع.

قالت بصوت ضعيف . استندت على حتى غرفة الوالدة

أرجوك : ((وتوجهت لي)) دعيها تدخل: ((متوسل للممرضة

وقفت بجوارها طوال الوقت ممسكة بيدها في )). ال تتركيني

امتألت ذرات . يدي التي كانت تودعها ألمها بالضغط عليها

تصاعد . الغرفة بألم إيزيس وصراخها وندائها للسيدة العذراء

ا لتقص األلم حتى بلغ ذروته عندما مدت الممرضة مقص

ا حتى ا فشيئانزلق شيئا أوسع لرأس آدمي ملطخ بالدماء طريق

التي مسح )) ليليا((ت وكان. ا في فضاء الغرفةخرج صارخ

الم إيزيس ومأل وجهها بابتسامة تحمل أسئلة صراخها كل آ

.كثيرة ودهشة طفل هادئ

مع بخار متصاعد من كوب الشاي . أتوحد مع وحدتي

أملك المحيط الساكن الذي . والدخان المتصاعد من سيجارتي

ا فيه أحد سواي، أنا، بجسدي النحيل وبقلبي زال يشغل حي

. الساكن في دعة وهدوء أسير على سطح النيل الهادئ

Page 169: 296

١٦٨

أصابعي . مجنونة وصاخبة أعماقي، أضغط على كوب الشاي

ألقيه إلى الحائط يتهشم وتتساقط أجزاؤه . النحيلة ال تحطمه

أصرخ . على األرض، يقع الشاي تحتل أجزءا من الفراغ

دخان سجائري جزءا من . ءا من الفراغيحتل صوتي جز

صوت فاضل يحتل كل . صوت هادئ يلملم صخبي. الفراغ

.الفراغ

: وصوت خلفه. طرقات عنيفة على الباب تفزعني

)).تليفون من القاهرة((

األول مرة أحسه ضعيف. اجاءني صوته مهزوم .

ارتسمت مالمح الهزيمة على نبراته وعلى مخارج ألفاظه،

كان يضغط عليها ويفخمها ويضخمها يعلو بها هذه التي

تشبث بي هذا المستغني . ويهبط وفقا للظروف واألحوال

، ليس ألنه رجل كان دائما هو األقوى. بذاته عن اآلخرين

أعرف أنني أتحمل . ألنه هو هو وأنا أناولكن. وأنا امرأة

مسئولية ما وصلت إليه العالقة، ألنني قبلت أن أخافه، قبلت

ولكنني لم . ى وأقرر وفق ما يشاءى ويقرر هو، ثم أرأن ير

أعرف أنه يحبني وأعرف اآلن أنه . كتشف كل هذا في حينهأ

.ا له عقل وقدرةلم يحترم كوني إنسان

Page 170: 296

١٦٩

وأشعر أن فرحتها الداخلية . ماذا بها شهيدة؟ ال أعرف

كانت عندما بدأت العمل طفلة خلعت لتوها مريلة . عكرت

.ط ضفائرهاالمدرسة، وألقت بشرائ

ماذا بك يا شهيدة؟-

أصبح . ال شيء مشاكل أبي التي ال تنتهي-

ا ا أعطاني مهلة أسبوعوأخير. هياجه ال حد له. كالمجانين

لم أكن أتصور أن يتدخل أحد في . حتى أرتدي الحجاب

.أخص خصوصياتي بهذا الشكل

.جلسنا صامتين، كل منا تتجرع ألم الضغط عليها

انك في قائمة أحبائي الصغيرة، ثم أتيت لتحلي مك((

أبحث عن وجه أمي وعن وجه . اتوغلين في البعد مثلهم تمام

جميعكم وجوه . هانا، وعن وجهكأختي سهام وعن وجه

بعيدة تقترب من مسام روحي، تلمسها، ثم تبتعد، ممزقة

ا شرايين الحياة في جسدي، في كل خطوة تخطونها بعيد

شالئي المبعثرة بدجلة أبحث عنك كي تلملمي أ. عني

نماركية ؟ رفيقة دا))انها((ربما تسألين من تكون . لفراتوا

منيات صادقة كثير ولم أستطع أن أقدم لها إال أقدمت لي ال

أبحث عن الرحمة في قسوة أمي فال أجد إال . بالعطاء

Page 171: 296

١٧٠

لو كانت عنفتني يوما، لو تركت خناجر األلم تنطلق . الغفران

أنت تشقيني، أنت : لو قالت لي يوماعلى وجهها وفي عينيها،

لو صرخت شقيقتي سهام في وجهي قائله. نقمة الزمن على:

ارحل عنا فأنا نقطة الضعف التي أرادوا أن يقتلوك

أيام : قالت. بكت على صدري، تحسست جسدها الممزق. بها

خفت أن تتنازل لتنقذني، خفت أن تسمع . وتلتئم جراحي

. عي ألزرفها على صدركاحتفظت بدمو. صراخي فتنهار

قمة ستصيبك؟ ليس عندي ما أقدمه لك سوى نوأنت أية

منفاي الواسع وبعض القصائد الهزيلة وعمر خائب سوف

ليس عندي سوى حقيبة بها . يتكئ على عمرك وعلى أيامك

بعض المالبس الرثة، وبعض الكتب وجواز السفر أوشك

ولكنه ليس عندي إال حب عميق أحمله لك،. على االنتهاء

)). عن أي شيءليس بديال

كانت رسالة فاضل ضمن رسائل أخرى من أصدقائي

وأشقائي يناقشونني في طلب الطالق ويحاولون إثنائي عنه

.ويحذرون من عواقبه وكأنني مقبلة على الضياع

ة، ناستدعيت لتصحيح أوراق الثانوية العامة في قسنطي

لنا شهيدة وص. وكان قد انقضى من شهر رمضان عدة أيام

Page 172: 296

١٧١

انتظرنا حتى موعد اإلفطار وبعده . وأنا، إلى المدينة الجامعية

خرجنا، شهيدة وصديقاتها وأنا، إلى وسط المدينة التي

ازدحمت شوارعها وكأن كل سكانها خرجوا من بيوتهم بعد

ونساءرجاال. اإلفطار محطمين استكانة العام في البيوت

، جماعات يجلسون خرجوا يسيرون على غير هدىوأطفاال

رأيت هذه الجماعات . المحالتمفي الحدائق ويقفون أما

البشرية أيضا في شوارع خنشلة منذ اإلعالن عن رؤية هالل

.شهر رمضان

أنكان فاضل في انتظاري أمام مدرسة ابن باديس بعد

.سألني. أنهيت أعمال التصحيح

ماذا ستفعلين؟-

الطالق أوال، سوف أعود إلى مصر ألتمم إجراءات -

.ثم آتي أينما كنت

سوف أرحل إلى سوريا، فقد أوشك جواز سفري -

ألقي القبض على سعدي . على االنتهاء، والبد من تجديده

وهو محجوز اآلن بالعاصمة وسوف يرحل ال أعرف إلى

.أين، فقد انتهى جواز سفره

Page 173: 296

١٧٢

طريق طويل ومظلم من المدرسة إلى محطة

سرت عدة . ر تنخر عظاميلسعات برد الفج. األوتوبيس

ا عن المدرسة حتى فكرت في العودة، فالشمس لم أمتار بعيد

وقفت . نظرت خلفي وجدت الوحشة. تشرق بعد والناس نيام

السواد يغلف األبنية، . في مكاني فالوحشة خلفي وأمامي

والشجر الكثيف المتراص على جانبي الطريق يبدو

لسير في الطريق لم يكن أمامي إال مواصلة ا. كاألشباح

الصاعد نحو محطة األتوبيس في أعلى هضبة في المدينة

حيث البيوت ذات الحدائق المسورة تمنع رؤية ما خلفها

والتي كان يقطنها الفرنسيون، وكأنهم أرادوا أن يجثموا فوق

الصدور ببناء بيوتهم في المناطق المرتفعة بينما بيوت

.الجزائريين ترقد في المناطق المنخفضة

وصلت المحطة أجرجر أكياس الرمل والملح المعلقة

في أقدامي وأسمع رعشات قلوب كل الخائفين في نبضات

.قلبي

توبيس مقعد ألتقط أنفاسي في انتظار األجلست على

امتدت يد صغيرة تربت على . الذي سينقلني إلى العاصمة

. اا مسلوقا وبيضيد زرقاء من شدة البرد تحمل خبز. ركبتي

Page 174: 296

١٧٣

صفور يرتعش من لق صوت ضعيف صغير كزقزقة عانط

اهللا تفطري، خذي خبزه وبيضه: وقع المطر على ريشه

صوت ألربع أو خمس سنوات، استنطقه جوع البرد، . يعيشك

ال تشبعه كسرة الخبز الجافة الملقاة في سلة في ركن في

خلع قماطه وارتدى ثيابه الرثة وخرج يحمل . حجرة مظلمة

ما إن مددت يدي إلى حقيبتي . ن عمرهبضاعة أثقل من سني

حتى انفجرت األرض بأطفال آخرين يحملون بضاعتهم

اشتري مني اهللا ((وكلهم ال ينطقون إال جملة واحدة

األيدي الصغيرة التي لم تلمس إال الخواء أزاحت )). يعيشك

.بعضها، في صراع من أجل ما سأقدمه أنا

ن وصل األتوبيس وأصوات تنطلق من كل بقعة م

من هنا انطلقت الرصاصة األولى لتحرير . ((أرض الجزائر

)).الجزائر

كان فاضل في . وصلت العاصمة بعد منتصف الليل

أمسكت بيده وصعدنا الساللم إلى منتصف المدينة، . انتظاري

سرنا على شاطئ البحر، . التصقت به ألحتمي من البرد

تشدني أمواجه وروحي إلى . سبحت مع قمره ونجومه

ارتشفت أصابعه . إلى جوارهنى فاضل ألبقىق، ويشدالشر

Page 175: 296

١٧٤

لم تحمنا مظلتي . قطرات المطر المتساقطة على وجهي

سرنا . ا في المدينةولم نجد لنا مكان. الصغيرة من المطر

ضوء خافت خلف باب والفتة كتب . نحتمي بأسقف البيوت

)). بار((عليها بالحروف الالتينية

ها وكأني امتص قطعة ارتشفت قطرة النبيذ، استحلبت

ا في المكان، يتسرب من يسري النبيذ عطر. من السكر

. خالصاوس إلى الشفاه إلى خاليا الكون فيصبح جماالالكئ

تهدأ االرتعاشات . ا الرب تسري في العروق دفئمعجزة

الخفيفة لألجساد السابحة بين جدران البار األربعة، بين

ال يفصلها عن البار إال معجزة الرب . جدران الكون األربعة

. يدبابه الموصد والذي يفتح بمجرد هبة ريح أو لمسة

غناء خفيف مع دقات باألصابع على المنضدة

الحمام اللي ((صوت كموج البحر مضيء يعني . المجاورة لنا

)).يجي على أغصانيوالفته مشى ما عاد ي

يد تفرغ ما في الجيوب، تعد الدراهم وتضعها على

تمتد اليد إلى الفم . خرطلب صاحبها كأس نبيذ آالمنضدة وي

اره، وتسقط ابتسامة من بين الشفاهتجففه وتسقط إلى جو

.وهي تتطلع إلى كومة الدراهم

Page 176: 296

١٧٥

شفاه تتحرك على . أصوات ال تسمع. أحاديث هادئة

. والكل يتحدث والكل يسمع. أحمال. مسامع الجالس أمامها

لوجنات الغائرة، تنفرج ا. تتراقص االبتسامات فوق الشفاه

تتطلع العيون كلما فتح الباب . االطمئنان يمأل أرجاء المكان

عائلة لم . عائلة يعود أفرادها كل في موعده. للقادم مرحبة

أبدد توحدهم الجليل . تتسع ألفرادها سوى مناضد البار

التفتت عيونهم ناحيتي تحفل بضحكتي وبحقي . بضحكة عالية

وس عادوا إلى الكئ. باكيهم أزالت ارتنظرت. في الضحك

ترتفع . وإلى أطباقهم وإلى أحاديثهم الطويلة الهادئة الحميمة

ويخلو الشارع من . أمواج البحر، تتكسر على زجاج البار

.ويخلو الكون لي أنا وفاضل. المارة

في قبضته . لم يترك يدي، وكأنه يخشى أن يفقد لمستها

له وطنا، وفي قبضتي على يده كنت أخلق . يسكب حلمه بي

.به بحر وشمس مشرقة، وأنا وهو

سيارات . جريت أعبر الشارع. انتزعت يدي من يده

ألقيت بكل . جريت حتى وصلت إليهم. مسرعة تفاديتها

في . م رائحتيأللم في أحضانهم، في رائحة هي توءلحظات ا

كانوا صالح . سنوات هي جزء من سنوات عمري وأعمارهم

Page 177: 296

١٧٦

قاش، في طريقهم إلى عيسى ورضوى عاشور وفريدة الن

ضمتني فريدة إلى صدرها مرة . المطار عائدين إلى مصر

هل تحتاجين أي شيء من مصر؟: أخرى وسألتني

ال : سمعت صوت صالح وأنا مازلت في حضنها

. إلى مصرةتريد، هي عائد

٢٤/٤/١٩٨٩القاهرة