رواد الكلمة والنغم

خيري شلبي

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

عبقرية سيد درويش

ثورة الوجدان ووجدان الثورة عام ا بعد » سيد درويش « يزداد إيماني بعبقرية فنن الشعب

.عام سواء في أعقاب استماعي ألحد ، بل إنه ليزداد يوم ا بعد يوم

يكفي ألن فما ترسب في النفس منه ،الحانة أو بدون استماعيظل المرء يتأمله ويمعن في تأمله ودراسته ما بقى له من

وهو كلما أمعن في التأمل والدراسة البد يكتشف ما لم ،عمر ويضع يديه على مزيد من القيم ،يكن قد استكشفه من قبل

والمعايير والذري الفنية العالية التي توصل إليها ذلك العبقري فأ سراج عمره بعده مباشرة الشاب في بحر سنوات قليلة انط

ليبقى اللهب من عبده مشتعال يبعث النور والدفء في أفئدة .!القوم إلى ما ال نهايةلم يكن مجرد إنتاج فني » سيد درويش « ذلك أن ما خلفه

بل لقد خلف تراثا ،غزير يصلح للتداول في كل عصر وآوانهة شعل، يتغذى على وجدان الجماهير قدر ما يغذيها،لهبا

من وجدان بشر – مجرد االقتراب – أن تقترب ،بمغناطيسية

حتى تلتحم بمشاعره التحام النار بالحطب الجاف لترتفع السنة الوهج خضراء في لون الحشائش الصفراء في ولن السنابل

!.حمراء في لون الحقيقة التي تتدفق في عروق البشرزمنذاك يداك انه يضع » سيد درويش « ترى هل كان

.؟! س عصر غنائي كامل تتغير بموجبه األذواق تغير ا تام اأسهل كان يدرك ما يمكن أن يكون وراء هذا الدور الجلل من

!.جهود نظرية وعملية مضيئة؟ ،أم تراه كان مجرد فنان موهوب انطلق على سجيته

واتاحت له الظروف التاريخية فرض مسرح غنائي فراح يعطيه !ما لديه من فيض الكريم؟

حسب استقرائي لفنه ولما كتب وقيل عن –لرأي عندي ا إنه كان مدركا لدوره واعيا به تمام –حياته الفنية والشخصية

وإن تناقض ذلك مع نشأته الفقيرة في بيئة شعبية ،الوعيمهمومة بلقمة العيش ليس في حياتها هامش لممارسة الترف

.الفني والثقافيبالمعهد الديني » درويش سيد« وأنه لمن المؤكد أن التحاق

وانتماءه لعالم المشايخ بكل طبقاتهم ، وحفظه للقرآن،في صغره فلعله .وأنواعهم كان له أكبر األثر في جذبه نحو الفن الغنائي

لم تنقطع – منذ قرون بعيدة –من المعروف أن الوسط الديني صلته بالغناء والموسيقى منذ ما قبل أناشيد اخناتون الموقعة

حيث تستمد المعاني والحكم خاللها ، أنغام موسيقية شعريةعلىليس من ذاتها فحسب بل ومن الموسيقية التي تشيع فيها وتوقعها على أنغام معينة طبقات لإليقاع لحظات وجدانية معينة

.تصفو لها نفس المتلقي باإلشراقهذا فضال عن التراتيل المعبدية التي كان يرددها

وما الصلوات إال ،هم أثناء تأدية الصلواتالمصريون في معابدتوافق موسيقي متوازن بين إيقاع حركة الجسد وصوت جيشان النفس بما تحمله من ضروب المشاعر واألحاسيس واإلنفعاالت المحتدمة فيها نتيجة لعالقة اإلنسان منذ األزل بحقيقة كونية

تؤكد انه ينحدر من أصالب أب حجمه حجم السموات إال – خاصة في طابعها الديني –وليست الموسيقى ،واألرض

محاولة اإلنسان للتعبير عن حريته وضعفه إزاء هذه الحقيقة .الدامغة

ونشأت مزامير داوود وقام نشيد اإلنشاد وابتنيت كل االسفار في كل الكتب السماوية بنيانا موسيقيا خالصا وازدهرت

قرآن الكريم ببنائه الموسيقى الكنسية زمنا طويال إلى أن جاء ال

العظيم الذي ضبط إيقاع الكون كله بجميع سمواته الموسيقي وأراضيه باإلنسان ولسوف يكتشف الدارسون على مدى

–النظرية حينما تتقدم عندنا الدراسات الموسيقية –األزمان كيف يعكس القرآن الكريم حركة األكوان وموسيقاها اإللهية

.ع وأصل الشعور بالموسيقىالعظيمة التي هي أصل اإليقا وقد لعب مجتمع المشايخ في العصور الحديثة دور ا عظيم ا

جناح يتمثل في ،في االرتقاء بالموسيقى العربية على جناحين حيث طوروا كثير ا من ،المقرئين والمنشدين والمبتهلين

المقامات الموسيقية وطوعوها لمقتضيات المعاني القرآنية صحيح أن الموسيقى موجودة في داخل ،يديةواالبتهالية والتوح

األلفاظ القرآنية ولكن الشد والمد والوصل واالستفهام واالستنكار والوعد والنذير والبشير فضال عن الفتح والكسر والضم والجر والسكون وما إلى ذلك كل أولئك يقتضي عند

ولقد تطورت قراءة .النطق وعيا بالموسيقى وجدال خالقا معها تطورا مضطردا في العصور الحديثة – موسيقيا –ن القرآ

علي « والشيخ » أحمد ندا « بفضل مشايخ علماء كالشيخ وغيرهم من رواد القراءات في » رفعت « والشيخ » محمود

ومن قبل كان هناك ما يشبه التشريع ،أوائل القرن الماضي

ا الموسيقي ألنواع من القراءات كأنها المدارس الموسيقية يدرسهمن يجودون القرآن وخاصة من سيحملون مسئولية قراءته على

» حفص « وقراءة » وارش « مثل قراءة ،نحو غنائي وهي في األصل مدارس نحوية ولكنها موسيقية في ،وغيرهما

.األساس شأن ارتباط علم النحو بعلم األصواتأما الجناح اآلخر الذي تطورت الموسيقى العربية على يديه

حيث ،الموسيقى الدينية فإنه جناح الطريق الصوفيةمن خالل كانت جزء ا ال ارتبطت الطريق الصوفية منذ نشأتها بالموسيقى

يتجزأ من مجاهداتهم في طريق الوصول إلى الفناء في الذات .اإللهية

في » محمود فهمي عبد اللطيف « ويقول األستاذ المرحوم ي حفظت للموسيقى دراسة بديعة له أن الطرق الصوفية هي الت

تقاليدها الفنية وتراثها بل – وربما الشرقية بوجه عام –العربية لقد حررت الموسيقى العربية من طغيان التأثير التركي

ويقول آخرون من دارسي فن الموسيقى العربية أن .وااليزانيرجال الطرق الصوفية في عصور ازدهارها قد ساهموا بوضع

ذلك أنهم استخدموا ،امات أخرىمقامات جديدة وتطوير مق

لتصفية النفس – وال بديل لها –الموسيقى كأداة رئيسية وناجحة .من شوائبها والوصل بها إلى مرحلة الوجد التام

قد استفاد » سيد درويش « ولعله من نافلة القول أن الشيخ ليس ،حقيقة بدهية فهذه. .من هذا التراث الديني بالدرجة األولى

انتمائه لعالم المشايخ وإنما بحكم ولعه الشديد فقط بحكم .بالموسيقى في األساس كما هو واضح

..ولكن .هل هذا وحده كاف لخلق هذه العبقرية الكبيرة؟

.بكل تأكيد. .الإنما البد أن تكون هناك أسباب أخرى كثيرة ساهمت في

بعضها ذاتي وبعضها اآلخر ،خلق هذه العبقرية الموسيقية .ضها الثالث تاريخياجتمعي وبع

» سيد درويش « أما عن األسباب الذاتية فمن الواضح أن كانت تشغله هموم أخرى أكبر من حمله المباشر بأن يكون

. موسيقيا أو مغني ا مشهور ا من نفس – وبالدرجة األولى –موهي هموم نبعت ال شك

أدرك ،تنطوي في األساس على حس حضاري وتاريخي يقظ مصرية كانت أو –حفل به الشخصية القومية على ضوئه ما ت

من تراث موسيقي متنوع األشكال واأللوان حسب –عربية فاللصحراء ،تنوع البيئات االجتماعية من بقعة عربية ألخرى

موسيقاها التي تغناها العرب ناضحة بحرارة الشمس في حدة إيقاعاتها وتشوف الناس ال نتظار المطر العزيز وشعورهم

،وحماسهم للقتال والنزال واالغارة وصد الهجومبالفخر وللخليج موسيقاها التي يتغناها الصيادون حاملة عالقتهم بالبحر وتأثير البحر في حياتهم حيث تمتلئ أغانيهم بتموج األنغام ،المعبرة عن شجن انتظار الغائبين والحزن في وداع المسافرين

لعب مع الحظ وكل أغانيهم تستدر الرزق وتستجلب الخير وت وللبيئة الجبلية أغانيها الصادحة التي بعثها سحر ،لعبة التفاؤل

الجبال في السفوح والوديان فصدحت عاليا محالوة أن تطاول وللبيئة الزراعية النهرية أغانيها التي مصدرها الحلم ،قممها

ولربما تميزت البيئة المصرية منذ ،بالخضرة والنماء والحصاد ، تحاورت معه بالغناء،ها تعاملت مع الكون غناءقديم الزمن بأن

وحاولت أن تفهم هذا الكون وتقييم معه عالقات الود الحميم فنحن عندنا أغنيات لكل ،وجسوره ومعابرة باستخدام فن الغناء

شيء في الحياة تقريبا ولكل مناسبة من المناسبات الدينية أو اظ في عالقات لم يؤلفها محترف يوفق بين األلف،االجتماعية

إنما شاركت في تأليفها وتلحينها وتأديتها عقول ،جماليةوأحاسيس ومشاعر ال حصر لها فراحت تزداد متانة وعمقا

،كلما انتقلت من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة. .وصقالولم يكن هناك ثمة وسائل لالتصال االجماهيري كالوسائل

النفشات الفنية وترويجها المستخدمة يمكن أن تساهم في نقل هذه آنذاك كانت هي وسيلة االتصال الوحيدة بين البشر ،بين الناس

المشاعر الواحدة الموصولة بين الناس عبر معاناة واحدة .وأمنيات واحدة

وكل أغنية من تلك األغنيات الشعبية حملت في تكوينها حتى لنسمع في أغنية الشادوف ،جوهر طبيعة الغرض وإيقاعه

، ارتفاع الدلو بالماء ميله الندالق الماء في فتحة الزراقإيقاع ،وما بين اإليقاعات نحس بجريان الماء في األرض الشراقي

وأحالم ونسمع الفالح وهو يشرك الشادوف في همومه وأحالمه ويشهده على ما أصاب صحته من اعتالل وما بذله معه ،عياله

بة ألغنية نفس األمر بالنس.من جهد في ري هذه األرضالمحراث وإيقاع سنة إذ يغوص في باطن األرض زاحفا يفجر سطحها بمشاعر من التربة السوداء تتفتت معرضة كل ذرة فيها لحمام الشمس وحضن الماء كي تستقبل ابنتها البذرة العائدة إليها

بعد رحلة نمو قامت بها ربما عشرات الماليين من المرات وها مها من جديد حاملة زاد أمه إلى بنيها هي ذي تعود لتستأنف قيا

كل هاتيك المعاني التي يغنيها الفالح المصري للمحراث .البشر .أثناء قيامه بحرث األرض

أما عن أغنيات السبوع والطهور والخطوبة والزفاف فحدث أنها ليست فقط مشاعر وأحاسيس ناطقة من فرط ،وال حرج

ل هي مدن وبلدان ب،صدقها بأعذب األنغام وأقواها تأثيرا عصور من البهجة والتشوف ، أسرات كبيرات ناطقات،بكاملها

. .لما قالوا دي بنية « :تعكسها أغنية في تهنين طفلوالتطلع لما . .تماللي الميه. .تكنس لي وتطبخ لي. .قلت ياليلة هنية

وتعكسها أغنية عزل ،»إلخ . .انشد قلبي وانسعد. .قالوا دا ولد ،»يامركبة مليانه لوز . .ت البنات يا فوزس « :في الخطيبة

وتعكسها أغنية من أغنيات فض البكارة أو الدخلة حيث ترتفع المحرمة كالراية مبقعة بدماء البكارة واألغنية تصدح عبر جوقة عريضة من أصوات الفتيات تهدر بالبهجة والحبور

قولوا البوها . .قولوا البوها الدم الفرشه « :والفرح العظيم تقول األغنية هذا بهذا الفرح العظيم ،»روح بقى يتعشى ي

ليقينها أن األب قلقل على أحر من الجمر ينتظر نتيجة اختبار .شرفه

،وأنا البكائيات الشعبية فإنها عصور من المعاناة الشقية الذي يعكس حضارة يمكن تسميتها بحضارة ،ولحزن النبيل

عم ولكنها تطوي بكايئيات هي أي ن،الموت أن صح التعبير يبعث في المشاعر روافد جديدة ،على قدر عظيم من اإلشراق

موصولة بمنابع المعرفة والتجربة اإلنسانية الحافلة تصبح .والتجربة اإلنسانيةإضافة لرصيد المشاعر

ومجمل .واألمثلة على ذلك كثيرة تكاد ال تخضع لحصر بد أن يفتن القول أن هذا التراث الشعبي الحافل النابض كان ال

األمر ،منذ أن تحرك في قلبه وتر الموسيقى» سيد درويش « الذي شكل واحد من أهم الروح الشعبية ويستجلبها صور ا جديدة

.حاملة شكل العصر !فما شكل العصر إذن زمنذاك؟

إنه عصر تمثل في أغلبية مسحوقة تحت نعال الباشوات ت الصناعية وكبار المالك وكبار التجار وأصحاب التوكيال الناعمين في ،ورجال البنوك األجانب وقراصنة البورصات

السمحوقون بدورهم تحت نعال القصر ،بلهنية من العيش

وكانت هذه األغلبية السمحوقة ،الملكي واالحتالل اإلنجليزيالمشكلة لكل الطبقات التحتية تتكون من فئات الحرفيين

لمتجولين أي إنها هي والفالحين والموظفين والعمال والباعة ا ،الشعب القاطن في الحواري والشوارع واألزقة اآلهلية بالسكان

وحتى وقت قريب كانت هذه المناطق تسمى األحياء الوطنية أي التي يسكنها رهط من عموم الناس الذي ال فرصة ألجنبي

.بينهم شأن كل عصور االحتالل في كل إنحاء الدنيا –ومن أسف

المستفيدة من بقائه على ،حبة بوجود المستعمر أن الطبقة المر– من عادتها التبعية على طول ،حساب عموم الناس الوطنيين

فكل شيء يفعله أو يقوله أو يغنيه أو يلبسه سيدهم األعلى ،الخط وبالطبع لم تكتف هذه الطبقة ،هو قدوة ومثل يتبعونه ويمسخونه

ولم تقنع ،نجليزبارتداء الحلل اإلفرنجية والقبعة كأسيادهم اإل بل كانوا ،بتعلم لغتهم والرطانة بها بمناسبة وبدون مناسبة

يستجلبون أغانيهم البذيئة المائعة ويفرضونها على الشعب المصري استجالبا لرضاء أسيادهم من ناحية واستدارا للنقود

.التي في جيوبهم من ناحية أخرى

ضرورة والمعروف أن الطبقة ساحبة النفوذ المادي هي بال ،في مجتمعات التخلف والتخلف صاحبة النفوذ السلطوي والفني

من فجرها وفسوقها أصلت ، وفاجرة،فهي قادرة على دفع الثمنفي الشعب المصري أمثلة شعبية متداولة تصيب بنيان المجتمع بالتصدع وتصيب المواطن بالخور وتفتت العزيمة وتفقد

اللي تعرف ديته اقتله « : ل أمثلة من قبي،اإلنسان قيمه األخالقيةاللي « : أو،»اللي له ضهر ما ينضربش على بطنه « : أو،»

إلخ هذه األمثلة السلبية .. »يتجوز أمي أقول له يا عمي .الشائعة

وألن هذه الطبقة التابعة للمستعمر هي نفسها متبوعة من فإن كل ما تفعله يجد أصداء واسعة ،طبقات العامة في بالدها

فيما عدا قلة قليلة من المثقفين المستنيرين ،ار بين العامةاالنتش ولذلك فإن األغنيات األجنبية المائعة خرجت عن ،من ابنائهم

نطاق الكباريهات والنوادي والمالهي الليلية وانتشرت في الشوارع والحفالت الشعبية وأفراح بعض المتطلعين من أبناء

عن طريق أبناء الطبقة المتوسطة ووصلت إلى بعض القرى .الباشوات أصحاب العزب واالبعاديات

إلى سيادة مناخ – كما قلنا في مقام سابق –وقد أدى هذا نتيجة ألن المجتمع نفسه قد بات ،فني هابط إلى أقصى درجة

في حالة متدنية ومظاهر االنحالل شائعة إلى درجة تبدو ميؤسا من أبناء حتى أن نجوم التلحين في ذلك الوقت،من عالجها

شاركوا – غفر اهللا له –الوطن الالمعين كالشيخ زكريا أحمد وتتملق في تأليف وتلحين أغن هابطة تساير الذوق السائد

الغرائز الدونية والشهوانية إرضاء لنزوات جنود االحتالل .وتغذية لطيشهم وانفالت عياهم

» سيد درويش « كانت البيئة الجنائية المساندة في طفولة باه عبارة عن تكريس لالنحالل والتخلف واستمرار سيطرة وص

أغنيات ،األجنبي كلما ازدادت التبعية تعمقا وامتدادا في الزمن وهنك ورنك من أنغام تدور حول اللوعة ،فرانكو آراب

هي على التحديد وريثة ،والعذاب األجوف والمكابدة الفارغةنم حيث فرغت ،تراث الصوفية ولكن في غير موضعها

مضمونها الصوفي لتستبدل الذات اإللهية أو الحبيب النبي حبيب حتى لقد تم . !جلف قذر معقد ال يأبه بمحبة بل يتلذذ بتعذيبه

مسخ جميع التراث الديني الصوفي وابتذاله في مقامات دونية .ليس لها قيمة شعورية حقيقية

-» سيد درويش « والبد أن أكبرهم من الهموم التي حملها كان هم الخوف من ضياع –ق الهموم الذاتية للحرفة فو

– وبعمق – والبد انه كان يدرك ،الشخصية القومية وانقراضها ،أن ضياع الشخصية القومية مرهون بزوال الهوية الفنية

والشخصية التي ،فالغناء الذي بال هوية ال يعبر عن شخصيةالشخصية وهذا ما تتنزه عنه .بال غناء خاص بها ال هوية لها

إذ أننا كما أسلفنا القول شعب تمثلت شخصيته ،الوطنية والقومية كما قام غناؤه بتمثيل شخصيته في ،في غنائه من قديم األزل

.كل األمور وهذا شيء طبيعي ،هو هم وطني سياسي بالدرجة األولى

نشأ في مناخ وطني في حي » سيد درويش « إذا علمنا أن يه القضية الوطنية واقعا ساخنا وطني آهل بالسكان تتجسد ف

كان قد » سيد « ثم إن .تعجز أالعيب السياسة عن تبريرهأصبح جزءا من عالم المشايخ حيث كان األزهر صاحب نفوذ

األمر ،سياسي خطير ومعقل ثورة تذكر بأمجاده القديمة نوعا مثلما التهب ،بالحماسة» سيد درويش « الذي كان يلهب قلب

ات الشعبية والبكائيات الناشئة على شاطئ النيل وجدانه باألغني .وضفاف الخليج مردها الجبال وصحراء الجزيرة العربية

قد رد للتراث الصوفي الموسيقي » سيد درويش « نرى – بادئ ذي بدء – فنحسن أن الموسيقى عند تقوم ،اعتباره

لم تجئ المجاهدة والمكابدة ،بنفس الدور في تصفية النفس طريق الموسيقى وصوال إلى الفناء في الذات متحققة عن

فحماية الوطن والدفاع ،اإللهية المجسدة هذه المرة في الوطن .عنه غاية حض اهللا عليها واعتبرها جهادا في سبيل اهللا

ثم نرى بعد ذلك أن المضمون العملي الكامن في الغناء الشعبي الذي يسميه الدراسون بالفولكلور قد انصهر في بوتقة الغاية الوطنية وأصبح سبيكة فنية تعكس هموم جميع الحرفيين

وهي هموم تتجمع كلها ،المصريين وجميع الموظفين والعمال .الشعور اليقظ بقضية الوطنلتعكس

فارسا » سيد درويش « ومثل شعراء المقاومة العظماء جاء . المقاومة بالموسيقى والغناء،عظيما من فرسان المقاومة

مطلقا أن نستهين بهذا الدور أو نفضل عليه حمل وال ينبغي .السالح مثل والنزول إلى ساحة الوغي كما يقول البلغاء العرب

ليقاوم به لهو » سيد درويش « ذلك إن السالح الذي رفعه أن الزاد الغنائي الذي ،أخطر من أسلحة الحرب والفتك والقتال

لى حمل ها هنا هو الذي سيقود المواطن إ» سيد « يقدمه .السالح المباشر دفاعا عن أرضه وحماية لعرضه

ويصرف أن إزكاء روح الحماسة والوطنية لدي الشباب » سيد درويش « وهو دول لعبه ،عن طريق الغناء الحماسي

يلجأ إلى المقاومة عن » سيد درويش « فقد كان ،بكفاءة نادرة ،لعربيطريق اآلخر هو إعادة بناء الوجدان الغنائي الموسيقي ا

وتثبيت أسسه وترسيخ عمده ليستطيع هذا الوجدان مقاومة الفن .الغنائي األجنبي الدخيل

وقد جاءت كل أغاني العمال والموظفين والحرفيين التي وموشحاته وطقاطيقه ،للمسرح الغنائي» سيد درويش « لحنها

.بمثابة حقن دم جديد من نفس الفصيلة تجدد منه الخاليا وتتقوى ،توارت األغنية القومية الحقيقية» سيد درويش « وبموت

أعني به األغنية التي تحمل في كلماتها وألحانها مالمح بارزة من شخصية المصري وطابعه ومزاجه وحركاته كما تمثل في

.أغاني الحرفيين وعاد النفوذ ،وكانت الثورة نفسها قد أحبطت وتوارت مؤقتا

ه الفني واألدبي األجنبي يفرض سيطرته وسلطانه وذوق .واالجتماعي على المجتمع المصري

وكاد الغناء العربي يفقد هويته من جديد لوال أن » سيد درويش « هيأ له اهللا رجاال تمشي على منهاج

،وتستلهم روحه وذوقه وبصيرته النيرة في بناء األلحانمثل عبد الوهاب والقصبجي وزكريا أحمد والسنباطي

كان جسر .جيال التاليةوغيرهم وغيرهم من األقائما متينا في » سيد درويش« المقاومة الذي ابتناه

نفوسهم يبدعون في ظله ولن من حيث الحصيلة النغيمة ، أما المحتوى القومي األصيل،وأساليبها البنائية فحسب

الذي إن سمعته في أي مكان في العالم تعرفت على قد اختفى فإنه ،مصريته من جوهر الغناء ال من لغته

نوحل محله ذلك النحيب والتعذيب إزاء الحبيب الغريب المجهول الهوية المتميز بقدر من النذالة والقسوة

واختفت الحماسة ،والجفاء ال يمكن أن يتوفر لمخلوقبحسها الوطني األصيل من أغنيات الحماسة التي

. باألغاني الوطنية– زورا وبهتان ا –نسميها اليوم وطنية ليست تلك التي تتشدق باأللفاظ فاألغاني ال

إنما هي تلك ،والعبارات الحماسية والشعارات البراقةتحمل مضمونا اجتماعيا صادقا كأغاني الطوائف التي .»سيد درويش « عند

وربما كانت هذه هي جذور األزمة الحقيقية التي تحيق بالغناء العربي اليوم وتحوله إلى عواء أجوف

ها وجه اإلنسان وجسده كالمصاب بمغص وأنغام يتلوى ل .كلوي

ومهما يكن من أمر فإن الظروف التي يعيشها – من جميع الوجوه –الغناء العربي اليوم تشبه

سيد « الظروف التي كان يعيشها أيام ظهور نجم .»درويش سيد « هل نحن في حالة مخاض بميالد . .ترىنفسه ب-» سيد درويش « الواقع أن . ؟آخر» درويش

.فال يصح إال الصحيح. . عائد بالفعل ال محالة–

مجموعة وجوه نضرة متمازجة في حسن جور فكأنما قد سلطت عليه أضواء ،في إطار وجه واحد

عكسته إلى عشرات الوجوه المتجاورة المتداخلة أو كأنما تنظر أنت إليه من خالل ثقب صغير ،المتكاملة

درة الواسعة تتكاتف في فإذا بوجوه كل الجالسين في المن كل عضلة ليست تمثل نفسها فحسب من .وجه واحد

إنما كأنما ،مقاييس النسب بين بقية العضالت واألعضاءكل عضو يمثل إلى ذلك شخصية العائلة ويشمخ عن

فاألنف ليس انف ،تقدير لهذه المسئولية العائلية الجسمية وال محام المع أو أديب ،شخص اسمه فكري أباظة

حرير أو سياسي أو صحفي مرهوب الجانب أو ظريف ن ليس األنف بجدارة هذه ،حاد اللسان مر المذاق أحيانا

الحيثيات أنف كل حيثية على حدة بل مسئوليته العظمى كذلك العينان والجبهة ،أنه أنف العائلة األباظية على شدة حالوة واتساق .والنظرات والقوام والمنظار حدة إال أنها في مجموعها كل مقطع من وجهه على

تفقد ذلك االنسجام الذي يتفق مع الطبيعة األرستقراطية إال أن ذلك ،الرصينة التي جبل عليها صاحب الوجه

التكوين الكاريكاتوري بغير تطرف في التضخيم أو التجسيد أصبح له انسجامه الخاص ورصانته الخاصة

جه إنه و،وهيبته الخاصة بل وأرستقراطيته الخاصةاألرستقراطية الفالحية التي تعتقت في التربة الزراعية

،حيال ما أطرفها وأحالهاواكتسبت بذرتها اإلنسانية كان يؤدي زواج األقارب وهم على مستويات عالية من الجمال إلى انحرافه بسيره عن النظام المجالي المتبع

كأنما لتقول لك الطبيعة ،في العائلة منذ عشرات السنينفم المليان أن تزواج الساللة الواحدة مهما كان بال

منضبط الجمال فهو ليس بالضرورة مضمون االتساق وها هي تعطيك نفس البذرة بنفس ،على الدوام

الخصائص ونفس الروح ولكن بمالمح غير متسقة وإن وحقيقة األمر أن بصمة العائلة قد ،حملت بصمة العائلة

المساحات الطبيعية تفخمت فيها وصبغتها بكثافة شغلت !.بين الملح واآلخر

تلك كانت الفتة الظرف المعلقة بادئ ذي بدء على وجه هذه الشخصية الكبيرة الضخمة التي عرفتها

في أدوار متعددة مترادفة ،األجيال باسم فكري أباظةالتوفيق ما بين المحامي الذائع الصيت والصحفي

ة المليء واألديب الرشيق العبار،المرهوب الجانببالمشاعر الصاحية والسياسي النشط المتصدي للخصوم واألعداء والمناوئين وفوق ذلك وربما قبل ذلك الظريف الذكي اللماح ذو التعليق الالهب والتعبير الساخن الذي قد يجرح بقسوة ويقرص بألم رغم أنك في الحالين

ما رأيته يوما إال وتخليت .السأمتضحك ويذهب عنك ر ك الريفية المصرية حين تتحايل على أهل المالطبيعةساذجة الليل برجل عات جبار تضعه في هيئة وأشقياء

حتى لتتوهم أنت ألول وهلة أنك ،بريئة طفلية المالمحأمام فالح طيب ربما أمكنك التأثير عليه بكلمة أو

وهو من وراء .بحركة تمثيلية يجيئك من ورائها غرض وثق إنه لن يفعل ،شر أعمالكمالمحه يدير إليقاعك في

ولن تجد نفك ،شيئا يالم عليه أو يضطر إلى األسف له سيرد بتعليق أو ربما ،مستطيعا االستمرار في مالوعته

بحركة تعرف أنت على أثرها أنك أمام الجزء الناعم من جبل الدرهيب الذي حكى عنه صديقنا صبري

لجمع إذا تكلم نظر حواليه في مراعاة لخاطر ا.موسى ال غرو فهو قد تعود ،المحدق حتى لو لم يكن ثمة جمع

خطيبا سياسيا مفوها في أبناء ،على التحدث في جمع مرافعا مجلجل الصوت في المحاكم ،دائرته االنتخابية

أو حتى متحدثا في ، مستجوبا في البرلمان،أما القضاةالبيت فهو كأي باشا من الباشوات قد تعود على أن يأمر

أغلب ، ويطلب أما هو فقد تفرغ لشئونه الخاصةوينهياليقين عندي أن أحلى شئون خاصة بالنسبة له كانت

وإن أصفى لحظات كان يقضيها إنما ،القلم واألوراقفإذا كان فكري . .هي لحظات الكتابة واالختالء بالقلم

أباظة قد تمثلت في شخصيه وحده شخصية عائلية ي الخاص فإن عالقته برمتها على مدى تاريخها الزمن

بالكتاب والخطابة شابها شيء من تأثير العائلة كأنه يخشى عن هو كتب ،واإلحساس بمسئولية اسمها

حتى . . شيئ ا رديئا شيئ ا رديئ ا أن يقال أن أباظية كتبوانقداته الالزعة وسخرياته وقفشاته المبطنة بالذكاء

كانت الشعبي البلدي المنتشر بين عنقي الريف والمدينةبمعنى أنه لو لم يكن » بالعزوة « ال تخلو من اإلحساس

يشعر بسلطان العائلة وأهمية انتسابه إليها لما جرو على فكأنما ،قول هذه القفة بهذه الصياغة المفتوحة الحادة

سلطان العائلة وذيوع صيتها قد ميزه درجات عن انداد يح أن روحه المعنوية المرتفعة تت» عزوة « له من ذي

حرية السخرية إلى أبعد مدى وكلما جمح بها الخيال .ألهمها غريب التعبيرات وطريف األلفاظ واالشتقاقات

وثالثة أرباع ،موهوب مع ذلك موهبة ال شك فيهاموهبته ظرف وخفة ظل تغذيه الثقافة العصرية

المتطورة التي طرحتها بدايات القرن العشرين على حيث استفدنا ،من الغرباألمة المصرية وافدة علينا

باإلشعاع الحضاري واستنبتنا في األرض المصرية صحفا ومجالت ومسارح ودور خيالة وأشكاال فنية

.الجيل بكفاية وعملقة حقيقيةتعبيرية جديدة مارسها ذلك لقد كان جيال عمالقا بمعنى الكلمة إذ حرث في جميع دة األراضي الفنية واستنبتها فنا وعلما وسياسة وقيا

« كأديب منشئ تقرأ لفكري أباظة في رواية .وظرفاقطعا من األدب الرفيع الرصين » الضاحك الباكي

خاصة تلك الفترة التي كتبها تحت عنوان وبدأها يا رب ثم راح يستبطن شخصية بطله » اهللا «

،شكري بتجليات صوفية تهتز من صفائها األعماقكري نفسه يناجي ش– في لحظة شعور بالذنب –حيث هو اهللا وال أدري لم يبحث عنه الناس ! نعم:قائال

نعم !. صعودا للسماء وال يبحثون عنه هبوطا لألرضهو اهللا الذي نذكره زبدة الصباح ومربى الصباح وشاي

ونركع !هو اهللا الذي نصلي للدرجات. .الصباح وننساه ونسبح بحمد الرؤساء ! ونسجد للعالوات!للترقيات

،هو اهللا الذي نحج لكعبه الحكم. .نساهوالوزراء ونونقبل حجر الظوغلي ونطوف حول بيت الوجاهة

هو اهللا البعيد عن الخاطر في كل . .وبيت المال وننساه وكل سهرة والقريب ، وكل وليمة،،، وكل رحلة،ضحكة

. عند اآلهات والحسرات– فقط –من الخاطر على أن فكري أباظة ال يستمر على هذه الرصانة طويال وإن كانت الرواية كلها لم تنزل عـن مسـتوى

لكنه وقـد انضـبطت . األدب الجميل بكل معنى الكلمة بداخله الوسائل واألساليب وأصبح قادرا على السيطرة التامة على اللغة إذا به تمرد على رصـانة األسـلوب ويضحي ببعض الجزالة في سـبيل القفشـة العاميـة

جده أكثر صدقا من محاولة ي الحراقة أو التعبير الدارج . التفاصح الذي قد يحول بينه وبين الحيوية في األسلوب

والمرجع أن التحاقه بكل مـن الصـحافة والمحامـاة

علـى مؤثر جديد أسلوب والسياسة فرض عليه ابتداع وكانـت . جميع الناس سريع الوصول إلى كافة األفهام

فضيلة االنتماء الشعبي هي أعظم فضائل ذلك الـزمن حيث كان على جميع ، وما بعدها ١٩١٩ ابن ثورة سنة

طبقات الشعب أن تتضافر فـي مواجهـة االسـتعمار وكان شرفا كبيرا للمثقفـين أن يتكلمـوا بلغـة ، الجاثم

الشعب الدارجة وأن تجد أحاديثهم وخطبهم تجاوبا سهال لعل ذلك تمثل فـي . لدي معظم طبقات الشعب العاملة

ح سـيد درويـش غنـاء أروع صوره حين أتاح مسر عظيما لكل الطبقات والفئـات والمهـن فيـه صـوت

رغـم تفـاوت الـدخول ، شخصيتها وتاريخ معاناتهـا ومستويات الحياة في ذلك الزمان لم تكـن األصـوات مطموسة وال مالمح الناس غائبة عن وجـه السياسـة والمجتمع وكان صوت بيرم التونسي قد اكتشف عبقرية

يمة في تراثها الغنـائي وماثورهـا العامية وآدابها العظ ، الشعبي من أمثال وحكم ومقوالت وحواديـت وسـير

فاستلهمها في أزجاله التي بلغت أرفع مستوياتها الفنيـة ، والبالغية بدرجة هددت الفصحى في حراس قالعهـا

وليس من أديب كبير أو سياسي مغرم باألدب إال وكتب ة البلغيـة األزجال الشعبية مثلما كتب الخطب الفصـيح

وكان ثمة بـين ، المسجوعة المليئة بالمحسنات وبالبديع األدباء الالمعين من ترفع عن لغة الحياة اليومية وصار أسير اقتناع بأن الفصحى وحدها هي مجـال اإلبـداع

ومن ، األدبي والشعري ونبذ لذلك العامية وتعالى عليها اقتنع بعكس ذلك فأبدع بالهجتين ومن هـؤالء فكـري

فكري أباظة . ظة وأحمد شوقي وأحمد رامي وغيرهم أبا األصل باللهجة العايمة متمثال لتاريخهـا كان مشبعا في

وموروثاتها الفنية والحكمة باعتباره فالحا من الشـرقية أكثر محافظات مصر اشتهارا بالحكمة وبلورة للمـأثور

ذلك أن المأثور الشـعبي كـان يجـئ مـن ، الشعبي شاطئ المتوسط والبالد المنضغطة المحافظات المتاخمة ل

بين مناطق العمل والمعاناة الحافلة بعمـال التراحيـل

لكأنمـا محافظـة ، والصيادين واألجـراء والحـرفيين ، الشرقية باعتبارها بلد االسرات ذات الملكيات الكبيـرة

أو األرستقراطية الفالحية هي حاضرة الريف الدلتاوي ب العامة ومـواويلهم تفد إليها الموروثات الشعبية وآدا

وقافيتهم وفوازيرهم التي هي في ومطارحتهم الساخرة معظمها انعكاس لأللغاز غير المفهومـة فـي حيـاتهم

فإذا بكل ذلك حـين يترسـب فـي ، وواقعهم وتاريخهم النفوس الهادة غير المشغولة بالهموم تـروح تصـفيها تحولها إلى فنون تحمل كثيرا مـن االنضـباط الفنـي

الزلت حتى اآلن لـم أعثـر بـين . والمنطق واالتساق المثقفين بمختلف مستوياتهم على شخصية شاملة طاغية كالتي لقيتها في ريف الدلتا ال تعرف القراءة وال الكتابة وال تردد لغة المثقفين ولكنها مسـتنيرة مقنعـة جذابـة

ذلك النموذج الفالحـي العظـيم . موحية بالثقة المطلقة روف وتصاريف األيام فبات مـن ربما انحرفت به الظ

وربما صرا شخصـية عامـة لهـا ، الشطار الخطرين

سطالنها وسطوتها التي تضاهي أعظم السـلطات بـال سحال يملكه سوى أنه يجيد التفكيـر وأن تكلـم يجيـد

. الكالم به » تعلقت « فكري أباظة في الراديو أبكر حكاء

ر في حياتي والزلت حتى اآلن كلما استمعته صدفة عب وأصغيت بانتبـاه أن ، تسجيل قديم جلست إن كنت واقفا

وسيطر على ذلـك اإلحسـاس الـودود ، كنت منصرفا الذي طالما سيطر علـى فـي سـابق ، الجميل العذب

الطفولة حين كنت استمع إلى حديثه الـذي يـذاع فـي حتى حينما كبرت ، الراديو بوقت معلوم نعرفه وننتظره نه فكري أباظة فـي واكتشفت على سور األزبكية عنوا

الراديو سارعت بشرائه وجعلت التهم صفحاته فإذا هي مختارات من أحاديثه اإلذاعية الشهيرة وكنت أظـن أن طريقة أدائه للحيدث تلعب الدور األكبر في التوصـيل وربط إحساسه بأحاسيس المتلقي وإقامة جسـور الـود

لكنني اكتشـفت أن ، على حبال صوته الفالحي العتيق

ته هي أسلوب وهي لذلك ماثلة في األسلوب كان شخصي فهو يحكـي ، صوته اليني يرن في أذنيك عبر السطور

كأنما كان ذلك من تدبير قـدر ، بطريقة متفردة خاصة أن يتكامـل فـي ، حضاري النزعة محكم الرؤية الفنية

الراديو ذلك التشكيل البديع من الشخصـيات الكبيـرة خرى تنفرد بمالمح المتحدثة كل شخصية تتميز عن األ

ولكل منها الهاماتها وتجلياتها وقدراتها الهائلـة ، خاصة طه حسـين بجـالل اللغـة ، في التأثير على المستعين

يعلمــك كيــف تنطقهــا بفخامــة األســياد واســتنارة المراغـي باسـتنارت الدينيـة ، المتحضرين المثقفين

وتطويعه للنصوص كأنها أفكار معاصرة مألوفة لـدينا، حزين بثقافته الجغرافية والتاريخية يحدثنا عـن سليمان

العقاد بكبرياء الثقافـة وجهامـة التعبيـر ، الحضارات وجالل الرأي القوي المهاب يتأكد بالضغط على مخارج

الـذي . فكري أباظة ، األلفاظ إلحاطة بأبعادها المترامية حول الميكروفون إلى مصطبة تمتد في كل البيوت حتى

وتصب في األذهان سرادقا ، ية منها المغرقة في العصر » عن بكرة أبيها « كبيرا أو مندرة تجمعت فيها العائلة

، بتواضـع جـم يـتكلم ، وانبرى أكبر رأس فيها يتكلم هو صحيح انفق جل عمره في مجتمـع ، بالبلدي يتكلم

المدينة ودرس الحقوق وعرف األساليب وأتقن فنـون وإنه سياسي بل لكنه ها هنا ينسى أنه محام ، المخاطبات

فقـط بإحسـاس ويتكلم ، ينسى حتى إنه أديب وصحفي رب العائلة أو أحد كبرائها ووجهائها وذوي السـلطان

مثل عمي درويش في ، وهو الوحيد الذي من حقه ، فيها وهـو الوحيـد ، أن يتكلم بالطريقة التي تعجبه – بلدتنا

وهو ، » البستفة « المسموح له بحق التقريع والتوبيخ و ا عنف أو أسخط أو تطرف في الشتم واللعن فغنـه مهم

. على قلوب محبيه كالعسل في الريق يجري إلى الحلق التقريع والتوبيخ والبستفة لـيس الرغبـة فـي فوراء

المسرحي بلغة » اإلفية « السخرية أو التطرف أو أخذ إنمـا وراءه إيقـاظ للقـيم االجتماعيـة ، أهل المسرح

وعائلته تنسـحب علـى – ة المتعارف عليها بين العائل ووراء تسوية لألخـالق – العائلة الكبيرة عند الحديث

وتهذيب للكبرياء المتضارسة وتشذيب لألنفس المنبعجة حكاء هو من طراز فريد ال . المنتفخ بالغرور األجوف

تنجيه إال قرية مصرية سهرت عمرا طويال مع سـيرة واسـتعارت معـاركهم ، أبي زيد وعنتـرة والمهلهـل

قرية مصـرية ، مواقفهم ونقلت إلى أرضها خالفاتهم و أو تفـض ، سهرت تسلي نفسها بالحديث الذي ال ينفـذ

– بواسطة رجال البد أن ينبغـوا ، خالفاتها التي ال تنفد في الكالم الموهـوب المـؤثر – بحكم الحاجة الطبيعية

لعله من إبرز ظرفاء عصره الذي امتد ، واألداء المقنع الميكرفـون لغـة ، مختلفتين ن بأرضيي تأثيره في لغتين

والصحافة بلغة صحفية أدبيـة خاصـة ، إذاعية خاصة فلغة الحديث اإلذاعي عنده تحققت فيهـا أعلـى . أيضا

نسبة من الديمقراطية بين األلفاظ واللهجات في سـبيكة فاأللفاظ الفصيحة تتجاور مع العامية القح بل مع ، متقنة

ق الحـارات وأعـالي تعابير قد ال تسمعها إال في أعم الكفور والنجوع وحين تدرسها تجد وراءها معنى عميقا

وكانت خليطا من النثر الحـر ، ومدلوال اجتماعيا أعمق والنثر المسـجوع ، المتدفق بلهجة مطابقة للحياة اليومية

وإذا كانت العادة قد جرت بـين ، والزجل ، رغم عاميته بلوامع خطباء العصور السابقة أن يستشهدوا في خطبهم

األشعار إلعالم الشعراء فإن فكـري أباظـة يستشـهد وهي ، بأزجال من تأليفة سبق أن ألفها أو ربما ارتجلها

في ذلك حافلة بالصور الكاريكاتورية الصارخة التـي إنـه ، تفجر في النفـوس ضـحكات وأخيلـة موحيـة

على التقاليـد باسترساله الحر في الحديث يبدأ بالخروج عية فـي أسـاليب التعبيـر البالغيـة، الكالسيكية المر

لشجعك على التحرر من تتابعها التقليدي المحصور في كأنما ليشجع فيك ملكـة اإلبـداع ، تعايير وصيغ ثابته

التعبيري الخاص منتعقا من أسـار التعـابير المألوفـة ثم هو إلـى ذلـك ، الراكدة التي باتت تخلو من المدلول

باشرة باللهجة التي يستهدف جوهر أحاسيسك اليومية الم أما لغته في الصحافة . تفكر بها وتتخاطب بها وتحلم بها

فقـارئ ، فقد تميزت بلون من األدب الصحفي الساخر الصحيفة الذي بالكاد يفك الخط وال يحمل فـي جيبـه

سيجد لدي فكري أباظة أو باسـهل العبـارب ، قاموسا تنتسب اللفظة في أسلوبه إلى جنس األدب قدر انتسابها

إلى أكبر قاعدة ممكنة من العامـة أو جمهـور غيـر وال تتنـازل عـن ، لفظة ال تتقعر وال تسف ، المثقفيين

استفاد فيه من المامة الوافر بإمكانية ، مقاييسها الجمالية وفنـون الـتهكم ، األداء في اللغة العربيـة الفصـحى

من أهل األرستقراطية والطبقة » المقلتة « والتورية و القافية « وربما » السلخ « و » النادرة « و ، المتوسطة

له قـدرة ، من فنون العامة ورجل الشارع المصري » بارعة على صياغة المعنى الشعبي الميسـور صـياغة أدبية فيها كل بالغة الفصحى رغم أنـه مـن قـاموس

. الحياة اليومية

في الطور األول ،فنان شعبي بالدرجة األولى وما ١٩١٩ت ثورة سنة من حياته الصحفية في سنوا

بلغة » اإلفيه « بأخذ –الحق في–تالها كان مولعا هذه السمة التي استغنى عنها بعد نضجه ،أهل المسرح

ففي سبيل أن ،كمتحدث ذي شخصية وكاتب ذي أسلوبيضحكك ويكسب ودك وتعاطفك لم يكن يتورع عن الزراية بالمنطق ولوى عنق الحقائق ال في سبيل

استجابة لولع – فقط –ة شخصية بل غرض أو منفع ،بعوج الصورة لإلبهار بجانبها الكاريكاتوري الساخر

كأنه يعمد إلى قلب األمور على أوجه عكسية بغية سبتمبر٥ أثر كتب في جريدة اللواء في ،الظرف ليس

يرحب بالحزب االشتراكي الجديد الذي كان قد ١٩٢١ألن « :.. أعلن عن تكوينه ليقول ساخرا ومن مبادئه

ال يكتفي بأن يطلب – أدام اهللا بقاءه –حزبنا الجديد فهو –االستقالل التام لجميع األمم المستبعدة لوطنه

والحالة سمسار استقالل اليرلندا والهند والسند وجنوب بهذا الشكل يهجمون !!. أفريقيا ومراكش وتونس إلخ إلخ

!والتكبيرعلى الناس بمبادئهم المرنة لنقابلهم بالتهليل أما وظيفته .هذه هي وظيفة الحزب السياسية

« االقتصادية فتتلخص في أنه سيكون من اآلن فصاعدا إلى أن تسنح ،بين أصحاب األموال والعمال» موقعاتي

فتصبح .الفرصة فيقوم بتوزيع األمالك على الجميعفإذا . »إلخ !! مالية األراء كمالية الفقراء سواء بسواء

فهو يرد ،هذا التعليق أن هدفه فني محضتأملنا في على برنامج الحزب ال من خالل تحليل بنوده ونقدها ،بالحجة والمنطق بل من خاللها الهزء بها والزراية

ووضعها في صورة كاركاتورية صارخة تزرى حتى لكن الواحد ينبغي أن يشهد بوطنية !..بالمنطق نفسه

من الزوايا الفنية فكري أباظة وبأنه أيا كان الرأي فيه والفكرية والسياسية المختلفة فإنه معلم بارز من معالم

إلى ربيع ثورة ١٩١٩مصر الحديثة يمتد من ثورة سنة .يوليو عنصرا بالغ الحيوي والحضور

محمد عبد الوهاب النرجسي

الوجه بيضاوي في استطالة ؛ أشبه بحبه المانجو التيمور

.المكتنزة بالدم الوردي يعلوها شعر ناحل يأخذ شكل الهلب ،ة كرأس الجزرةجبه

.ويتسق عند الفودين كأنما الحالق البارع رسمه بسن القلم الفحم يفصل بين عينين ،أنف طويل نافر عريض المنخرين

حالمتين في تطلع ناعس سهتان؛ تطل منهما نظرة ذكية شيقة .مفتونة

صر الفم شهواني وساع مضموم الشفتين على أسرار ال ح ضمة تشي بالكياسنة والمكر وحب الصمت برغبة دائمة ،لها

رغبة في أن يعرف ويعرف إلى ما ال !في الشراء ال البيع .نهاية

– ربما –الرأس بالوجه أشبه بآلة البونجز اإليقاعية ولهذا . نكاد نسمع لمالمح الوجه إيقاعا في عمق إيقاع آلة البونجز

ألرستقراطية الرصينة ذلك اإليقاع الذي هو مزيج بين ا .والشعبية الصاخبة الشعنونة

كالدواوير ، رحبة كأبهاء البيوت القديمة،مالمح غنية .والمنادر الريفية كصحون الجوامع

مالمح فيها كهانة ونعومة وأريحية وانبساط وولع بالحياة .وبكل المتع

في زمن –تلك هي صورة الموسيقار محمد عبد الوهاب وما بعده أي في األربعينيات من هذا القرن الوردة البيضاء

وقد استطاع أن يحافظ على هذه الصورة ويحتفظ بها – تقريب ا .لزمن طويل

وحتى وهو في الثمانين من عمره وعلى مشارف التسعين كان أبرز ملمح فيه قدرة وجهه على قهر الزمن ونفى التجاعيد

لشبق إلى ا،واستقطاب الحيوية إنها قوة الرغبة في الحياة فإذا كان حب اإلنسان لنفسه يدمغه ، والنرجسية الجميلة،الحياة

بصفة األنانية فإن حب الفنان الموهوب لنفسه كثير ا ما يكون حيث تنشأ عند إرادة البقاء ألطول فترة ، نابع ا من شدة حبه لفنه

ممكنة ليعطي مزيد ا من الفن ويتعرف على مزيد من المعرفة ؛ وقد كان عبد .لخصوبة والتلقيح والطرح باستمرارإذ الفن دينه ا

ومثله توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب ،الوهاب من هذا النوع فما لم يتدخل القضاء والقدر لتنفيذ ،محفوظ وأم كلثوم وغيرهم

إرادة اهللا فإن الواحد منهم يظل حريصا على صحته قدر الطاقة كر ا ويصحو يأكل بانتظام ويمارس رياضة المشي وينام مب

ليس فيمن ذكرناهم واحد قليل اإلنتاج . مبكر ا وينتج فن ا غريز ا . كال وألف كال،متهافت المستوى قليل القيمة

عشق عبد الوهاب لفنه انعكس على سلوكه حب ا لجسده لقد ظل طول عمره يحنو على هذا الجسد ،وروحه على السواء

، الوسوسة إلى حد،المرض باتقاء كل ما يمكن أن يسبب له سقطت منه الصابونة على – كما قال بنفسه –لدرجة أنه

أما فيما ! ! فغسلها بصابونة أخرى جديدة،األرض في الحماميتعلق بالروح فإنه كان دائم االستماع للموسيقى العالمية

وكان من ،والشرقية والمصرية واإلفريقية والتركية واإليرانيةمد شوقي في مرحلة حسن حظه أنه تعرف على الشاعر أح

فنقل عنه الكثير من ، ثم أصبح مالزم ا له ليل نهار،الصبا انفتح على الثقافة فأصبح من ،العادات والثقافات ووجهات النظر

ق راء الشعر والقصة والرواية والمسرحية والكتب الثقافية بوجه ومن خالل شوقي تعرف على كبار الشخصيات في ،عام

ودخل ،السياسةوالثقافة ورجاالت عصره من أساطين الفكر ورأى كيف يعيشون ويفكرون .بيوت األرستقراطية المصرية

.ويتذوقون الواقع أن الحظ قد حالفه طوال حياته ولعب دور ا كبير ا في

وصحيح أنه على موهبة كبيرة .تكبير حجمه في زمن قياسي وال شك ، لكن ما أكثر المواهب في مصر؟ساطعة منذ طفولته

لبالد كانت حافلة بمئات المواهب مثله وربما أكبر منه إال اأن لم يحققوا ما حققه عبد الوهاب من – لسبب أو آلخر –أنهم

إنما الذي . رغم استعدادتهم الذاتية،شهرة ومجد واستمرارية

إضافة إلى –ساهم في تنجيم عبد الوهاب منذ البواكير األولى نفسه فيه دون أن يسعى هو المناخ العام الذي وجد –موهبته

لكن ذكاءه كان يخدمه في كل األحوال ؛ فما أن يتعرف ،إليهعلى شخصية المعة ويدرك مدى أهميتها حتى يلتصق بها ويالزمها في سبيل أن يأخذ عنها كل ما يستطيع الحصول عليه

فعبد الوهاب ،من علمها أو فنها أو نفوذها الطبقي والسياسي من ، شارك في صنعه الكثيرون،إذن هو صنيعة عصر كامل

سياسيين وشعراء وصحفيين ومستمعين من أهل التذوق، أضف قيل له ،إلى ذلك الدأب واإلصرار على النجاح وإثبات الجدارة ،ال: قال؟ذات يوم من أيام الشباب األولى هل غنيت في دمياط

مادمت لم تغن في دمياط فأنت ال تتأكد من نجاحك :فقال سائله ولربما كان السائل .يري ولم تتثبت من جدارتك بالنجاحالجماه

يقول كالم ا على سبيل المزاح واإلثارة ؛ وربما كان يقصد أن الشعب الدمياطي على درجة مرهفة من حسن التذوق والغرام

إال أن الكلمة سكنت دماغ عبد الوهاب وأصبح يشعر ،بالطربانت الحفالت أيا مذاك ك،بنقص كبير ألنه لم يغن في دمياط

وفي كل محفل يغني ، ربما في كل يوم حفلة،تترى في القاهرةفيه يتلقى الهتاف واإلعجاب بصورة تكفي إلقناعه بأن الجماهير

ولم ،تعشقه؛ لكنه مع ذلك ظل يدبر للغناء في دمياط بأي شكليسترح ويهدأ له بال إال بعد أن ذهب ليغني للشعب الدمياطي

.ت الهتاف واإلشادة بموهبتهفي دمياط ويتلقى صيحا

سأله أحد أصدقائه ، في حديث له نشر مؤخر ا في كتاب عنهعما إذا كان يتأثر بإعالن المستمعين عن إعجابهم أم أنه يندمج في الغناء وال تعنيه هذه المسألة خاصة بعد أن أصبح عمالق ا

فإذا به يقول بكل الصدق الجميل إنه يقيم ؟ملء السمع والبصر بل إن نوعية الجمهور المستمع لها ، المسألة ألف حسابلهذه

دخل كبير في توهجه عند الغناء أو عدم توهجه إنه يستمد من وهو قد يغني كيفما اتفق ،حماسة الجمهور طاقة إبداعية إضافية

إذا كان الجمهور منغلق ا متزمت ا، وليس معنى ذلك ا،ه يفرح أن يلمس رد – فقط – ال بل يطلب ،بصيحات الجمهور ويطلبها

ومن أقواله المأثورة عن هذه .الفعل عليهم ولو بصوت خافت أو يإسالم أو – المسألة أنه يفرح جد ا بالمستمع الذي ينطق اآله

أي صيغة إعجاب في اللحظة التي كان عبد الوهاب يريد أن ومعنى هذه العبارة أن عبد الوهاب حين ،ينطقها بنفسه لنفسه إنما يبقى ، مام ا في الغناء وإن بدا أمامنا كذلكيغني ال يندمج ت

هناك جزء كبير أو هامش كبير من عقله صاحي ا يقظ ا ليسيطر به على نفسه ويراقب تصرفاته وردود الفعل على المستعمين

عندما يغني يكون مدرك ا لما – يقول – فهو –في حضرته لحظتها يلهمه اهللا من تجليات مثيرة لإلعجاب لدرجة أنه يكاد

اهللا يا عبد الوهاب اهللا آه يا عيني ؛ فإذا ما :ينطق قائال لنفسهفوجئ لحظتئذ بمن يقولها من المستعمين فإنه يصير في الحال

. مستعد ا ألن يغني لهذا الشخص وحده حتى الصباح

المتنوعة ، المناخ العام في مصر كان غني ا بالنماذج المتألقة على العود يدي محمد فما أن تعلم عبد الوهاب العزف وأصبح يغني في الفرق ،القصبجي وانضم إلى نادي الموسيقى

حتى أصبح على عالقة وثيقة ،المسرحية فيما بين الفصول هناك الطبقات . بعديد من البيئات الفنية المتباينة طبقي ا وفني ا

األرستقراطية المتذوقة للغناء الرفيع والمستعدة الحتضان وهذه .الممكنةفتشجيعها بكل الطرق والوسائل المواهب الطالعة

،الطبقات كان يجول بينها عن طريق صداقته ألحمد شوقيوهناك الطبقات الشعبية التي ال تقل في مستوى التذوق وإن تحمست أللوان بعينها من الغناء الشعبي العامر بالمشاعر

وكان عبد الوهاب يتغدى أو يتعشى كل يوم،التلقائية المتدفقة ويرافقه في سهراته ،مع شوقي في أحد المطاعم الكبيرة الشهيرة

وحينما يتركه شوقي ،متأخر من الليل وجوالته حتى وقت يوصيه بأن يذهب من فوره إلى منزله لكي نام جيد ا حتى ال ،يتأثر صوته ويوهمه عبد الوهاب بأنه متوجه بالفعل إلى منزله

عماق األحياء الشعبية ثم يأخذ طريقه إلى أماكن يعرفها في أ ، في القلعة وباب الشعرية واألزبكية والسيدة زينب،والحواري

حيث يسهر مع الساهرين يقضي بقية الليل في استماع ونقاش .ودرس وتحصيل وتدريب واكتشاف لكل جديد ومثير

إذا كان الجناح األرستقراطي قد فتح وعيه على الموسيقات مما طور ذوقه ونقحه ، العقالنياألجنبية وعالمها الفني الواسع

فإن الجناح الشعبي قد ،لكثير من الروافد اإليجابية الخالقة فتشربه قطرة قطرة على ،ربطه بالتراث القومي أغرقه فيه

الجناح الشعبي كان ممثال في كثير من األقطاب ،مهل وتروالذين لهم باع طويل في تطوير الموسيقى المصرية وإثرائها

أمثال أمين المهدي أمهر عازف ،ناء الديني الصوفيبروافد الغ والشيخ درويش الحريري أقوى مبدع في ،للعود في زمنه

والشيخ علي محمود ،التلحين العصري النابع من أصول دينيةالمبتهل األعظم الذي يعتبره الدارسون أهم الروافد المؤثرة في

بي الحديث من عباءته خرج الغناء العر،الغناء العربي الحديث يطرق سكك ا ومقاومات لم يكن بطرقها من قبل بهذه البراعة

.وهذه القدرة على االكتشاف والتعرف والتلوينعبد إثنان من المشايخ كانا أقوى تأثير ا في تشكيل شخصية

درويش الحريري وعلي محمود :الوهاب الغنائية والموسيقيةلشيخ درويش يصف عبد الوهاب أستاذه ا.بخفة ظله المعهودة

بأنه – ذلك الضرير المتبحر في الموسيقى والتلحين –الحريري كان نمط ا مختلف ا من الشخصيات التي عرفها عبد الوهاب بحيث

في ،كان يشعر تجاهه بعمق النقلة التي انتقلها من نمط إلى نمط إلى ، من ناس غاية في النظافة والتأنق والرصانة،الليلة الواحة

الشيخ حيث كان ،الترهل والجالفة وسوء المظهرناس غاية في درويش الحريري يشرب الجوزة واليني يكح ويبصق في فوطة

مع . وزنها رطل– كما يقول عبد الوهاب –بجواره البصقة

لو : بل يقول بالحرف الواحد،ذلك ال يقرف منه عبد الوهاب كنت جالس ا مع الشيخ درويش الحريري وجاءت إحدى

متو جات تطلبني لمرافقتها لشوحت في وجهها قائالاألميرات ال :روحي في ستين داهية وسبيني قاعد مع الشيخ في العلم

ومدى ما كان يستفيده عبد الوهاب منه في مرحلة ،والموهبة تلك المرحلة التي كونت له أرض ا قوية راسخة ،التكوين األولى

ألجنبية وقف عليها طول حياته كأساس متين يتلقى التأثيرات اويهضمها ثم يصبغها بالصبغة المصرية العربية حتى لكأنها

.نابعة من أرض مصر وثمة رافد مهم جد ا من روافد مرحلة التكوين ساهم في بناء

وإن كان عبد ،عبد الوهاب على هذه البنية القوية الراسخة إال أنه معروف لكل ،الوهاب لم يشر إليه في مذكراته العجلى

ذلك هو رافد .د الوهاب في مراحله األولىمن عاصروا عب وفي ، المواويل الخضراء والحمراء،الغناء الشعبي الصرف

ذلك الزمان وحتى أواخر األربعينات كانت مقاهي القاهرة تتبع حيث لكل ، تقليدا فني ا لجذب الرواد وإغرائهم بالجلوس الطويل

يذهب الناس إلى المقهى خصيص ا ،مقهى مطرب خاص بها من هذه المقاهي مقهى عبده الدمرداش في حي ،ستماع إليهلال

–الدراسة التي كانت قائمة حتى وقت قريب في كفر الطماعين وكان عبده الدمرداش ، المتاخم لشارع األزهر–وقيل الطباعين

من أشهر المغنين الشعبيين حينذاك لدرجة أن مواويله كانت

ان هو نفسه تنتشر في جميع أنحاء مصر بسرعة البرق ك وفيما يقوم صبيانه بخدمة الوراد كان هو ،صاحب المقهى

وكان هو الذي يؤلفها .يصدح بمواويله التي تشنف اآلذان : ويلحنها ويؤديها ومن مواويله الشهيرة جد ا موال يقول

تبت يدا من يلمني فيك يا العربي يا فاتن الترك واألعجام والعرب

طلوبين مني رب فرض علي خمس أوقات دوال م بنا بنالي وال خدش الكرا مني

بنا الحواجب وعال الرمش ع النني مفاصلي فصلت عم تسل عني إلخ.. إلخ.. والنجم الح والرحمن يرحمني

وهذا الموال مسجل عندي بصوت الشيخ إمام بنفس اللحن وحينما استمع إليه يتأكد لي أنه أن ،الذي ابتدعه عبده الدمرداش

واستشفاف مشاعر أوالد البلد ، التلحين الحديثعبقرية فذة في الحراقة وكان عبد الوهاب يتردد على هذه المقهى مفتون ا

وذات يوم كنت .بصوت وأداء وتلحين وتأليف عبده الدمرداش سهران ا في حي الدراسة بصحبة رجل من أوالد البلد اسمه

صاحب مطعم الكباب الشهير في ميدان ،الحاج سيد الزغبي وفيما ، وهو رجل يتذوق الغناء رغم خشونة صوته،سينالح

نحن جلوس نستمع إلى عبد الوهاب في مواويله الشهيرة الحظت أن الحاج سيد الزغبي يحفظ هذه المواويل كلها من

تأليف وتلحين وأداء عبد الدمرداش وصدق على قوله عدد كبير أن وأكدوا ،من العجائز كانوا معاصرين لدمرداش في عز مجده وأن كل ،هذه المواويل كانت شائعة قبل أن يغنيها عبد الوهاب

جهود عبد الوهاب فيها ال تزيد عن طريقته الخاصة في أداء فما كان مني إال أن ،نفس اللحن بقليل من التصرف واالجتهاد

نشرته في مجلة اإلذاعة ،كتبت مقاال ضافيا عن هذا االكتشاف فإذا به ، لعبد الوهاب لكي يرد ثم أرسلته،في أواخر السبعينيات

.ال ينفي بل يتحدث عن عبده الدمرداش بإعجاب كبيريبقى الرافد األعظم في تشكيل عبقرية عبد الوهاب وتفتيح وعيه الموسيقي على ضرورة تحديث الغناء ذلك هو العبقري

.الفذ الشيخ سيد درويش وعلى وشك ،حينما كان سيد درويش في عز مجده

عبد الوهاب ال يزال صبي ا صغير ا لم يدرك بعد كان،الرحيلسر النقلة الهائلة التي أحدثها سيد درويش يف الغناء العربي

.بوجه عامثورة سيد درويش قامت بتخليص الغناء من الفضول

، والطرب المخدر للنفوس،والتكرار الممل، والبشارف التركية بمضامين وتضمين الغناء،واالتجاه نحو التعبير والتشخيص

إلى جانب –اجتماعية ذات دالالت عميقة تجعل نم الغناء . أداة تثقيف وتكريس للقومية العربية–اإلمتاع الطروب

والمعروف أن عبد الوهاب وقع عليه االختيار ليكمـل أداء إن – سيد درويش لمنيرة المهدية مسرحية كان قد لحنها الشيخ

كانت فاتحة اكتشاف عبد وأن هذه المسرحية – لم تخني الذاكرة . الوهاب لعبقرية سيد درويش وثورته الموسيقية الفذة

ومن المالحظ والالفت للنظر ال شك أن عبـد الوهـاب ♣ حين يتحدث عن نفسه وتجئ سيرة سيد درويش فـي الحـديث

ويتجنب االعتـراف بأنـه اسـتفاد ، نراه ال يتوقف أمامه كثيرا فلـيس ، تكاراتـه ب وا أعظم الفائدة من مكتشفات سيد درويـش

صحيحا أن عبد الوهاب هو أول من لحمن الجملة كاملة غيـر ، وليس صحيحا أنه ابتكر التعبير وقدمه على التطريـب ، مجزأة

إلى عبـد الوهـاب مـن ابتكـارات وليس صحيحا ما ينسب وتصرفات أكسبت التلحين المصري سيولة وقدرة على التـأثير

مـا الصـحيح أن سـيد إن . المباشر في جميع قطاعات الشعب استقطبها ، هو صاحب كل هذه االبتكارات ، درويش هو األساس

وألن الثورة االجتماعية والسياسـية ، عبد الوهاب بذكائه ومكره ، فشـلت قـد – ١٩١٩ ثـورة – التي كان يمثلها سيد درويش

وأصيب الناس باإلحباط واتجهوا إلـى البحـث عـن الترفيـه ام بتجديد بضاعة سيد درويـش فإن عبد الوهاب قد ق ، والفرفشة ونقلها من األغنية الباعثة علـى األمـل والعمـل ، ومبتكراته لإلمتـاع ، أغنية الغنـاء للغنـاء ، إلى أغنية الصالون ، والثورة

فاإلنصات يقتضينا االعتراف بأن عبـد ، ومع ذلك . والمؤانسة

، عصـرا بأكملـه ، كان مدرسة ، كان جديدا ، الوهاب فيما فعل يل الذوق الحداثي ووسع رقعة المستمعين وفـتح ساهم في تشك

. وعيهم على الشعر الرفيع

صورة

. عقال ونفس ا، جسد ا وروح ا، رجل متين البنيان حق اتجلس إليه فكأنك جالس إلى شخصية مصر الفالحة بكل

مصر التي ،خبراتها الزراعية وميراثها الحضاري القويمالرجل بتها وأولدتها رجاال كهذا احتضنت الثقافة العربية فاخص

الذي يشعرك ملمسه انه ينحدر رأسا من أصالب خالد بن الوليد يقنعك حين تتعمق فيه انه ذو وجدان ،وعمر بن الخطاب

ومن تعاليم موسى وعيسى ، ثورة اخناتون الدينية،منسوج وتكوين شخصي ، وجدان غاية في الثراء والعمق.ومحمد

العزة ، والكبرياء والتواضع،الشموخمجبول على السيادة و . الفخامة واالعتدال،واإليثار

مع اعتدال قد وامتالء الوجه مربوع ممتلئ ،ربعة القوائم كرغيف العيش الفالحي المقدد ترتفع ،المالمح راسخ التقاطيع

تكاد أنت تعشر ،له قبة عالية مسلوعة باللهب في بقاع متعددةاف أناملك فلسوف تلسعها بأنك لو لمست صفحة وجهه بأطر

سخونة هذه المالمح التي تبدو طازجة على الدوام يتصاعد منها عبق يحمل رائحة الدقيق رائحة الخبز الساخن رائحة اإلدام

مالمح شبعانة قنوعة .المقدوح رائحة اللبن المسمار والقشدة عينان باسمتان تشعا بساطة وسماحة ورقة ،على كرسي الخدين

ونظرات وادعة مسربلة الحياء تعكس حب ا ،قلبحاشية وطيبة ففي الكون نفس إنساني هو ذلك الذي ، شديد ا للحياة للبشر للكون

تعك النظرات أيض ا شعور ا قوي ا .يتردد في صدر هذا الرجل .بالمسئولية

أينما ذهب تسبقه استنارته لتفسح له ،إنه كائن مشعقة إلى العلم والمعرفة تجذب إليها النفوس الرقيقة التوا،المكان

ما أن يحل في مكان حتى يتخلق في الحال مجلس علم وتالميذ وأنداد ومناظرون وتخلق في محيط المجلس أفكار كبيرة كالنجف يبعث الضوء والبهجة فإن لم يكن هناك من يتتلمذ عليه

وإن لم يتوفر من ، تتلمذ على نفسه،في لحظة من اللحظات .إنه مولع بالجدل علما وممارسةيجادله يجادل نفسه ذلك

،معنى الجدل هو تبادل التأثير والتأثر عبر حوار فكريحوار مجرد من العصبية والتحيز حيث تتولد األفكار من تالطم الرأي بالرأي وتتخلق المعاني الكبيرة وتتضح لتدفع الحوار إلى

وهذا يؤكد أن هذا الرجل كان عالمة بارزة في ،أعلى وأعمق وعالمة بارزة على طريق ، العقالنية العربية المصريةبواكير

وفتح روافد لها على كل ،تحديث العقل العربي والثقافة العربية لتجديد دمها تعريضها للشمس وللهواء ،الثقافات العالمية المتاحة

النقي مما جعل الثقافة العربية تسترد فتوتها في أوساط هذا .لثقافي األوروبيالقرن فتقوى على مواجهة الغزو ا

حبه لجدل قرب إليه تالميذه فضوعف عدد أصفيائه ؛ وضوعف عدد األساتذة الذين أسهم هو في بناء عقلياتهم

: مستخدما في ذلك أعظم المناهج على إلطالق،وشخصياتهم وحرية البحث – واستقالل الرأي –منهج بناء اإلرادة البحثية

فس ومع الحقائق مع الن– والصدق – واألمانة –العلمي قد شكل بعلمه أو . والتجرد من الغرض الشخصي،العلمية

عطفه ليس فحسب تالميذه في مدرجات الجامعة وهم ألوف بل عبر مجلته الشهيرة وهم –تالميذه في اآلداب المقروءة

.عشرات األلوفكثير عدد تالميذه وقل عدد كتبه ومؤلفاته ليس لحبه

،الشخصية مجبولة على روح المعلمالمباشر وإنما ألن تركيبته مهمته أن يضيء عقول ، إنه المصباح والزيت واللهب،القدوة

يرشدهم إلى الطرق الصحيحة يكشف لهم مسالك ،اآلخرينالسكك الوعرة والمناطق الشائكة يشجعهم على اقتحامها بكل جرأة واستعداد ألنهم حتما يعودون بخير وفير ولو أنه تفرغ

ت لتدوين جدلياته ومناظراته وأفكاره وبحوثه قليال من الوق

ألثرى المكتبة العربية بكم هائل من الكتب واالسفار القيمة لكن عزاء في أنه خلف طائفة غير قليلة من – ولنا بالطبع –له

الجهابذة في العلوم واآلداب قامت على أمجادهم حياتنا العلمية وف نظل واألدبية ما يزيد على نصف قرن من الزمان وس

إن أردت عينة من .نستمد من ينابيعهم المدد إلى ما ال نهايةنوعيات تالميذه بين األجيال العديدة فيكفي أن تعرف أنهم من طراز صالح عبد الصبور وفاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل ومصطفى ناصف وعبد الرحمن فهمي وعبد المنعم

.شميس ومحمد أحمد خلف اهللا وغيرهم وغيرهم ولهذا فإن بيته فـي . لجدل يقتضى مجلسا مستقرا رحيبا ا

مصر الجديدة يقف على ناصية الشارع العمومي بـارزا فـي يكاد يشير بذراعيه للمـارة أن تفضـلوا ، شموخ وسماحة معا

شرفونا بالحضور رغم أن المدخل محفوظ بالمهابة ما عليك إال أن تدفع باب السور وتمضي بضع خطـوات علـى الحصـباء

عد بضع درجات في حضن بوابة انيقة مهيبة كبوابة المعبد وتص تضغط على زر الجرس فتفتح لك البوابة عـن ردهـة أشـبه بحوش الدار الريفية يشار لك على صالون في الضلع الشـمالي وأنت داخل فإذ هي غرفة واسعة تماما كالمندرة لكنهـا حافلـة

يف؛ بمقاعد وفروشات أرستقراطية كالسيكية بذوق عصري ره ذوق تفوح منه الموسيقى الساحرة بسمفونية من األلوان الهادئة الرصينة تحس أنت أن هذه المقاعد المريحة المضـيافة التـي تفترض إنك البد ستجلس عليها لساعات طويلة قد سبقك إلـى الجلوس عليها عماليق من طراز سعد زغلول واإلمـام محمـد

الشـيخ السـنهوري عبده وجمال الدين األفغاني وأحمد أمين و الغرفة وأركانها أصداء تؤنسك في جنبات . وعبد الوهاب عزام

مناظرات ومناقشات حامية الوطيس دارت هنـا علـى امتـداد سنوات طويلة تحس إنك لو تحركت الستائر فلسـوف تتسـاقط فوقك أصوات عالقة بحناياها تمأل رأسك بدرر األفكار والمعاني

بيت عربي الهوى مصـري تحس ألول وهلة أن صاحب هذا ال الهوية تطالعك صورته على الحائط بشوشة شرحة كأنه بلحمـه

مالمح وجه علم مـن األعـالم يعرفهـا ، ودمه حاضر أمامك لسوف تعـر فمـن منظـر . ويعرفه حتى الذي ال يفكون الخط

العمامة المحبوكة في إتقان على رأسة والنظـرات الصـبوحة لى كتفيه إنك فـي حضـره الطازجة في عينيه والجبة الثمينة ع

اللقب الوحيد الـذي حـرص ، الشيخ أمين الخولي شيخ األمناء عليه والتصق به رغم استحقاقه لطائفة مـن االلقـاب الرنانـة

والرتب العلمية العالية ولسوف تعرف بالبداهة أنه كعربي مـن وأن أوالده الدكاترة ، أصول قلبية بعيدة جدا يحرص على نسبه

ل وسمحة ومن لم نعرفهم من غير المشهورين أدهم وأكتم وأكم : يحفظون نبسهم حتى الجد الخامس على األقل ويقول لك أحدهم

اسمي أكمل أمين إبراهيم عبد الباقي عامر إسـماعيل يوسـف . الخولي

شدة ولعه باألمانة والصدق نبع منه ولع بأن يكون كـل أن ، تالميذه وأصدقائه على نفس الدرجة من الصدق واألمانـة

يكونوا مثله في أخذ األمور بجدية واتساع أفق بل أن يكون كل صديق ينضم إليه اسمه هو اآلخر أمين وهكذا عاملهم جميعـا

كل منهم اسمه أمين وكل من ينضم إلى الصحبة ، باعتبارهم هو يسمى تلقائيا بأمين وهكذا تكونت جماعة األمناء وأصـبح هـو

شهريا فجعلها لسـان ) األدب ( شيخ األمناء كان يصدر مجلة حال األمناء وفتح صفحاتها لكل شبان األدب في جميع أنحـاء

، مصر من أقصاها إلى أقصاها وكان يرد على البريـد بنفسـه معلما وصديقا حميما لكل من يراسل المجلة حتى ولو كان فكان

صبيا صغيرا يرد على كل رسالة بقوله جاءنا من األديب فالن هذه العبارة كم أدخلت البهجة على . . إلخ . . الفالني من قرية كذا

قلوب محبي األدب من شبان القرى والمـدن اإلقليميـة الـذين حرصوا على متابعة مجلة األدب بانتظام واآلن حينما أنظر في

أشعر بحسرة كبيـرة ، األدب التي تحتل رفا كامال أعداد مجلة ـ ر على توقفها وفي نفس الوقت أشعر بامتنان كبير وتقدير أبك

لهذا الرجل الذي ظل يصدر هذه المجلة على نفيتـه الخاصـة لسنوات طويلة جاعال منها معمل تفـريخ لألدبـاء والشـعراء

دون أن يفكر في عائـد مـادي أو ينتظـر ، والنقاد والدارسين مساعدة من أية جهة رسمية ومن المعروف بين األمناء انه انفق

مجلـة تتمتـع على استمرار المجلة كل مدخراته لكي تظـل ال بالحرية واالستقالل وقد لعبت المجلة في الواقـع األدبـي دورا

سـاهمت فـي ، ساهمت في خلق ذائقة أدبية جديـدة ، مشهودا االرتقاء باألداء األدبي في الشعر والقصـة والمقالـة وعلـى صفحاتها ناقش األستاذ عددا ال يحصى من القضـايا المتعلقـة

. باألدب والفن الخولي إلى ذلك الجيل الذي تربى في ينتمي الشيخ أمين

أمثـال ، أحضان الجيل األول من تالميذ جمال الدين األفغـاني اإلمام محمد عبده وسعد زغلول فحمل نفـس الهمـوم ونفـس

تحريـر ، تحرير الوطن من قبضة المحتل األجنبي : المسئوليات

الفكر العربي من الخرافات ؛ تخلـيص تفسـير القـرآن مـن دية وتأويالت المعتزلة وغيبيات المتصوفة من المدخوالت اليهو

الباطنية ومن ثرثرات النحويين والبالغيين التي تثقـل كاهـل النص وتحجب معطياته الحقيقة عن المسلمين؛ النهوض بالثقافة القومية في مواجهة الثقافات األجنبية الغازية إثبات أن اإلسـالم

وأن . رض دين لكل العصور لكل الناس في جميـع أنحـاء األ تخلف المسلمين ليس سببه اإلسالم كما يرجف المرجفون مـن

بـل سـببه األول عـدوان الغـرب ، المستشرقين المغرضين االستعماري على المسلمين؛ إثبات الثقافة العربية ثقافة أصـلية قابلة للتطـور وأن اللغـة العربيـة قابلـة السـتيعاب كافـة

. المصطلحات وكافة العلوم الحديثة في أن هذا لجيل الذي ينتمي إليه الشـيخ أمـين ال جدال

الخولي قد نهض بهذه المسئولية على أكمل وجه فحينما تتـذكر أمين الخولي وأحمد أمين وبعد الوهاب عزام وفرج السنهوريي،

. ننحني إجالال وتقديرا أبان طفولتهم نشطت الدعوة إلى إصالح وتطوير العقلية

، عليم في األزهـر الشـريف الدينية عن طريق إصالح نظام الت بحيث يتزود رجال ، واالستفادة من نظم التربية والتعليم الحديثة

األزهر بالعلوم الحديثة ليكون خط الدفاع األقوى فـي تطـوير القومي وفي مواجهـة التعلـيم علـى النسـق وحماية التراث

األوروبي الذي تبنته المعاهد الدراسية المدنية الحديثة في البالد؛ األمل هو أن بكون خريج األزهر مساويا بالخريج الجامعي كان

بذلك وحـده نقضـي علـى ، ومضافا إليه دراسة العلوم الدينية ازدواجية التعليم التي تمزق عقل األمة بين جامعي وأزهـري بين تعليم ديني وتعليم مدني تنبه العظيم علي مبارك إلى خطـر

ـ ئت دار العلـوم هذه االزدواجية منذ وقفت مبكر فكان أن أنش لتكون بوقفة تنصهر فيها علوم التراث القومي بالعلوم الحديثـة

وأنشئت كذلك مدرسة القضاء الشـرعي علـى نفـس . الوافدة الخولي المنهج لنفس الغاية وفي هذه المدرسة تخرج الشيخ أمين

من عظماء جيله وقد اجتمعت عوامل كثيرة لتخلق من الشـيخ . المصرية العربية الفذة أمني الخولي هذه التركيبة

ولد الشيخ أمين الخولي في قرية شوشاي مركز أشـمون ألب من أصول عربية ، ١٩٨٥ بمحافظة المنوفية في أول مايو

بعيدة ربما عادت إلى زمن الفتح العربي لمصر وكـان أبـوه فأقام ، الشيخ إبراهيم الخولي أزهريا سابقا لكنه آثر حياة الفالحة

رض بنفسه وكان صلب اإلرادة قويا جبـارا في القرية يفلح األ

وذات يوم أغار عليها جمع من . يهوى اقتناء األسلحة والعصى وبعد أن أثخنـوه بـالجراح ، األعراب بالنبابيت فواجههم وحده

وأدى ، انحنى على بئر الساقية يتوضأ والدم يسح على وجهـه صالته في العراء بشجاعة وأصر على العودة إلى البلـدة مـن

وقـد . ق ماشيا على قدميه حتى ال يظن خصومه به الظنون احل وحينما رحل ، ورث الشيخ أمين الكثير من صفات أبيه الحميدة

أبوه وهو في مرحلة طلب العلم قاد سفينة األسرة بنفسه وصار . يفلح األرض ويقوم بكل شيء

ليقيم في بيت جده ، وفد إلى القاهرة وعمره خمس سنوات وجده ألمه ، وبيت خالته في الدرب األحمر ، ألمه في المغربلين

ذاك هو في نفس الوقت عم أبيه وكان أشهر عـالم فـي علـم وكان ابنه علي إماما وخطيبا لمسجد إينال ، القراءات في عصره

اليوسفي وقد حرم من الولد فتبنى أن أخته وعنـى بـه عنايـة فبفضل جده حفظ القرآن وجوده ، ناهيك عن عناية جده به ، فائفة ذلك أنه أحب التعلـيم . والتحق بمدرسة مدني ، ي شهور قليلة ف

. المدني ألنه كان متفتحا على الحياة وأسرار الكون والطبيعـة اتاحت له عالقات كل من جده وخالـه مناخـا علميـا نشـيطا

في اثنين من أعـرق ومعلمين مخلصين كذلك أتاحت له الحياة

معايشـة دقيقـة ، األحياء الشعبية ؛ المغربلين والدرب األحمر للروح الشعبية المصرية والتقاليد الشعبية العريقـة والفولكلـور

إضافة إلى حياة القرية من مجتمع الفالحين إلـى ، الشعبي الفني مجتمع العلماء إلى مجتمع الطالب الذي يضم أشكاال وألوانا من

استطاع الصبي أن يلـم بمجمـل تفاصـيل الشخصـية ، البشر أنماط حياتهـا ، وهمومها ومشاغلها حالمها القومية؛ تطعاتها وأ

. المشبعة بالحكمة والذكاء الفطري من مدرسة المرحوم عثمان باشا ماهر تأهل الشيخ أمين الخولي لاللتحاق بمدرسة القضاء الشـرعي الحديثـة اإلنشـاء

« وفيها تلقى ، م ١٩٠٧ بإغراء من أحد أصدقائه كان ذلك عام كما شـاءت مدرسـة » جتماعية التجربة السياسية والعلمية واال

، اإلصالح الديني التي قادها اإلمام محمد عبده وسعد زغلـول درس باللغة ، تلقي العلوم القديمة ؛ ثقافة الشرق مع ثقافة الغرب

العربية الجبر والهندسة النظرية والفراغية وعلم الهيئة مبـادئ نون الفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا وأصول القـا

والئحة المحاكم الشرعية ونظام المرافعات والتفسـير والفقـه كان ناظر هذه المدرسة هو . والتوحيد والنحو والصرف واألدب

أما المدرسـون فخلـيط مـن األزهـريين ، عاطف بك بركات

وكان المدرسة نظيفـة أنيقـة ذات ، وخريجي جامعات أوروبا المثل حديقة غناء وبفضل عاطف بك بركات صار يضرب بها

في نجاح الفكرة والمنهج الجديدين وأسلوب التدريس لدرجة أنها وقد جهد عاطف بك بركات . أصبحت مزارا للكبراء والوجهاء

في تربية الروح الرجولية في طالبه األربعمائة وبناء أخالقياتهم وعقلياتهم ليكونوا بالفعل رجـال االسـتقالل وحريـة الـرأي

م نوعـا مـن التكامـل الخلقـي فأحدث فيه ، والشجاعة األدبية . والعلمي واألدبي

في مدرسة القضاء الشرعي كون بعض زمالئه جمعيـة عبد الوهـاب عـزام ضمت ١٩١٧ – ١٩١٥ ( إخوان الصفا

ومحمد السمالوطي ومحمود أبو بكر وحلمي خـاطر وغيـرهم األدبية والفنية وتعلموا اللغات األجنبيـة شغلوا أنفسهم بالقضايا

ية ببـاب اللـوق وكـانوا يقيمـون النـدوات في مدرسة فرنس األسبوعية في منزل واحد منهم وفي تلك األثنـاء ظهـر ولـع

ويحكى الشـيخ ، الخولي بالتجوال بين المكتبات التي تبيع الكتب فرج السنهوري أن صديقه كان يغرق به في مكتبة أشبه بـالقبو في درب الجماميز يظل ساعات طويلة يقلب في تـالل الكتـب

ار منها فيدفع آخر مليم معه في كتـاب ويشـتري بغيـر ويخت . حدود

ظهر كذلك ولعه الشديد بفن المسرح فقام بتأليف مسرحية وقامت جمعية إخوان الصـفا فـي » أسيرة عمورية « بعنوان

نادي المدرسة في حفلة نهارية ويظنها اآلخرون مجـرد نـزوة ـ ، طارئة سرعان ما تزول بة ولكن هواية المسرح كانت مترس

في نفسه عن اقتناع فقد كان يذهب إلى المسرح أربع مرات في ظل طـول « األسبوع وتقول زوجته الدكتورة بنت الشاطئ فقد

حياته يحب المسرح وقلما كان يذهب إلى السينما إال أن يكـون الفيلم ذا قيمة على حين لم يكن يدع فرصة خاصة في رحالتنـا

حيثما عرضت هنـا و ، لشهود المسرح ، إلى أوروبا كل صيف . » بمصر مسرحية هامة بادر إلى مشاهدتها

وحينما سأله تلميذه الدكتور كامل سعفان عن سبب اشتغله « ، بهذا الفن مع أن الهيئة التي تحيط به انذاك لم تكن تهيء له

كان االبتداء بالمسرحية صدى لحب المسرح وأول مرة دخلـت أبـيض فـي ورأيت جورج ، م ١٩١١ فيها المسرح كان سنة

واستولى على ، تياترو األزبكية القديم يمثل لويس الحادي عشر هذا الممثل الكبير بإجادته الفائقة مما لفتني إلى أهميـة العمـل

األدبـي وإن العمل ، تأليفا وإخراجا وتمثيال ، المسرحي وعظمته . وبخاصة أن القصة لم تكن شيئا يذكر ، فيه أبرز منه في القصةواالحترام في نفس الوقت أن شيخا دهشةوكان من المثير لل

فاضال كالشيخ أمين الخولي يرتدي الجبة والعمامة ويحمل أعلى الدرجات العلمية ويشغل مركز ا ديني ا مرموق ا ؛ يختلط بالمشخصاتية وأهل الفن فيقدم لفرقة جوق عكاشة مسرحية من

ثم ال ،بقلم كاتب متنكر» الراهب المتنكر « تأليفه بعنوان من حضور جلسات التدريب والمشاركة – وال يخجل –تورع ي

بل يقوم بنفسه بكتابة عقد القران بين ،في حل مشاكلهم العاطفيةبطل الفرقة وبطلته مع مالحظة أن فئة الممثلين لم تكن انذاك

كانت النظرة .تتمتع بما تتمتع به اآلن من احترام المجتمعبكثير من التحفظ المتحجرة المتخلفة ال تزال تعاملهم

وهذا يرينا إلى أي حد كان هذا الرجل متطورا ،واالستخفاف وقد كان لي شرف تناول هذه ،مستنيرا سابقا لعصره بكثير

المسرحية بالنقد والتحقيق في أوائل السبعينيات وأثناء ذلك بل كانت هناك أعمال اتضح لي أنها لم تكن المسرحية الوحيدة

وكان من المنتظر أن يصبح ،ريخيةأخرى كثيرة ذات صبغة تاالشيخ أمين الخولي أحد أبرز كتاب المسرح المصري لوال أن ظروف حياته طرأ عليها تحول مفاجئ أبعده عن الحقل الفني

.في مصر

م صدر المرسوم الملكي ١٩٢٣ نوفمبر سنة ،ففي السابعبتعيين أئمة للسفارات األربع المصرية المنشأة في لندن وباريس

أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الوهاب : وما وواشنطن وهمور والشيخ أمين الخولي ، والشيخ محمود البنا لباريس،عزام للندن

.لروما والشيخ محمد حلمي طمارة لواشنطن وبها قرأ ودرس الكثير من ،تعلم اللغة اإليطالية وأجادها

.القضايا الدينية والسياسية والثقافية واألدبيةسادس والعشرين انتقل إلى برلين للمهمة نفسها وفي العام ال

فدرس اللغة األلمانية وأجادها وقرأ بها الثقافة األلمانية واألدب .األلماني والفلسفة األلمانية ودرس الكثير من القضايا

أثناء هذه الرحلة قام بعمل جليل هو وضع الئحة ألعمال فقد ، وحيث كان معظم موظفي سفارتنا من األتراك،القناصل

وحينما استقال أحد اللمحقين ،أشرف على التحرير العربي وقام هو بعمله شهورا طويلة وتدرب ، قبلت استقالته،احتجاجا

.على األعمال الدبلوماسية على يد عبد الخالق حسونةوحينما ألغت حكومة الوفد نظام األئمة ذاك في العام السابع

صر ليعمل أستاذا عاد الشيخ أمين الخولي إلى م،والعشرينبمدرسة القضاء الشرعي فصار يدرس لطالبه مذكرات في آداب البحث والمناظرة وكذرات في األدب العربي وتاريخه بمنهج متحرر من التقسيمات السياسية التي درج عليها مؤخر

كبحث - كذلك درس لهم تاريخ العقيدة اإلسالمية .األدب آنذاك .اجتماعي ديني تاريخي

للتدريس باألزهر الشريف فدرس لطالبه مذكرات ثم انتدبوصفه بأنه » كتاب الخير « فلسفية في األخالق تحت عنوان

دراسة موسعة في الفلسفة األدبية مطبقة على الحياة الشرقية .والتفكير اإلسالمي

وفي العام الثامن والعشرين عين مدرسا بالجامعة يرة في بنيانها وبدأ فأصبح منذ ذلك التاريخ دعامة كب،المصرية

.دوره الحقيقي في تربية األجيال بعقول متحررة ناضجة .شيخ فرج السنهوري طرفتان عن صديقه الحميميروى ال

األولى انهما في زمن الصبا تعاهدا على أنها إذا جاوز أحدهما الثالثين من العمر ولم يكن له عمل نافع وجب على اآلخر أن

!!يقتله ،يخ أمين الخولي كان يساوم في القليلالثانية هي أن الشأليست لك : فلما راجعه في ذلك قال له،وينفق الكثير بال مباالة

أسوة في عبد اهللا بن جعفر إذ قال أنا رجل أسخو عن طيب !خاطر وال أرضى أن أغلب ألحد؟

صورة

من تحت جبهة عريضة كأنه واجهة بيت كقصر الشوق إلى بعيد عينان كأن نظراتهما تريد تنقد .مثال أو قصر بشتاك

فهذه النرة وهاتين . أن تعانق القمة أيا ما كانت وأنى تكونالعينين وهذه الجبهة العريضة المرتفعة كل لك يقول أن

ال وال من الوجود جسد ،صاحبها ليس يقنع بالقليل من الصعودوجه ضخم . عمالق يمتلئ برغبة فتية في الحياة المثمرة الخالقة

بارز المالمح غليظها تقف .كوجه تمثال شيخ البلد الفرعوني .على أشعتها إيماءات وإيحاءات هي مزاج من النبالة والشيطنة

على الحدود الفاصلة بين راسبوتين والقديس تقف وراء هذه .المالمح قدرة فنان هائل ذي إمكانية فاجرة ال حدود لها

،صيلللنجومية على وجهه وهيكله تاريخ عريق وأ كأنه لو لم يكن ممثال رائدا تعرفه ،كأنه ولد نجما

األراضي العربية والمشرقية من أقصاها إلى أقصاها لكان ثمة في وجهة ذلك الشيء السحري الذي يجذبك

قد ال ،نحوه ويلقى في روعك إنك أمام شخص مهممقدارها ولكنك تعرف على التحقيق بين نوع األهمية أو

يزه في المعاملة، البد أن تشعر البد أن تبادر بتميبحضوره يطفي عليك تماما ويحولك إلى مجرد متلق وأنت بعد ال تعرف من هو، أن حضوره في الحق قوي وعميق حتى إنك لو عرضت صورة له على طفل لم يدخل السينما في حياته ولم يشاهد أي مسرحية أو

تليفزيون وقلت له صورة من هذه لنطق على الفور لقد توارثنا صورته على !. نه يوسف وهبيقائال أ

حوائط الدور وعلى صفحات أجيال عديدة من المجالت واذكر أنني رأيت صورته أول مرة في بيت . الفنية

ناظر الزراعة الخاصة بالضيعة المجاورة لقريتنا، فلما سألت أبناءه عنها قالوا لي إنه يوسف وهبي، فظننت أنه

لم يكن يزين الحوائط في أحد السياسيين الكبار، حيث دورنا في ذلك الوقت سوى صورة من قبيل سعد زغلول والنحاس باشا وما إلى ذلك كان ذلك الناظر . ينتمي إلى الطبقة المتوسطة التي تعرف كل شيء

فعرفت أن يوسف وهبي أحد الشخصيات البارزة في المجتمع وأنه ال يقل أهمية عن الشخصيات التي

تب المطالعة والتاريخ في المدرسة يدرسونها لنا في كمن يومها إلى اآلن بقى يوسف وهبي في . األولية

نظري أكبر من مجرد ممثل يلعب األدوار في األفالم والمسرحيات ظل في نظري صرحا كبيرا هائال لعل

.التمثيل أحد ابنياتهعرفه التاريخ الحديث ممثال فنانا، وكتبت عنه األجيال

به كما استمعت بعبد الوهاب وأم كلثوم المتالحقة واستمعت عرفوه كممثل . وأحمد رامي ورياض السنباطي وطه حسين

عمالق وعرفته كأحد الظرفاء الذين عرفهم عصرنا، وربما كان

غريبا وطريفا معا أن يكون ممثل الدراما والتراجيديا والمليودراما هو في حقيقة أمره ليس فقط ظريفا من الظرفاء بل

بكثير جدا ممن يحترفون الظرف ويتاجرون به في إنه أظرف .حقل الكوميديا

معظم األخبار المنشورة عن يوسف وهبي في مجالت الزلت أذكر ما أثير حول . ذلك الوقت كانت تشي بظرفه

قال أنه » كيادنتوني « اختالقه لشخصيته ممثل إيطالي اسمه فنية بأن تتلمذ على يديه، وكان ثمة اعتقاد راسخ في األوساط ال

إنما هي من خلق يوسف وهبي أراد أن » كيانتوني « شخصية يضفي بها على نفسه شيئا من األهمية في بداية حياته الفنية، أيام كانت عقدة الخواجة ليست عقدة بقدر ما هي تمثيل للتبعية الثقافية المحضة، فالمسرح نفسه الذي انتمى إليه يوسف وهبي

ة المعاصرة نقلناه عن الغرب والذي هو من وسائل الثقافوبالتحديد نتيجة ال حتكاكنا بالثقافة الفرنسية من خالل االحتالل

قد تعلم هذا » جورج أبيض « ورائد المسرح األول . الفرنسيالفن في الغرب على نفقة الخديوي وجاء ليعرض علينا ما قد

ولعل يوسف وهبي أراد أن يدعم وجوده . شاهده بالفعل هناكبشهادة غريبة دامغة تحمل حتى اسم األستاذ الذي تعلم الفني

على يديه هذا الفن الوليد العظيم وأطلق عليها كيانتوني العظيم، فهو يعترف بعظمة األستاذ لكي نتسحب عليه العظمة أيضا

.بالتبعيةعلى أن يوسف وهبي قد حسم هذه المسألة في مذكراته

» توري كيانتوني الكوامندا« التي نشرت مؤخرا فعرفنا أن « ممثل كبير وصاحب فرقة وأن زوجته كانت ممثلة بل

« ولربما كان . فرقته أي بطلتها األولى» وبيريمادونا حقيقة، ولربما كان بالفعل نجما كبيرا » الكوامنداتوري كيانتوني

في المسرح اإليطالي، بل ولربما تتلمذ عليه يوسف وهبي حقا لمهم في نظرنا خاصة وإننا غير بشكل أو بآخر، ليس هذا هو ا

ملمين بتاريخ التمثيل اإليطالي، ولكن المهم والطريف أن يهتم يوسف وهبي كل هذا االهتمام بشخصية كيانتوني كأنه أكاديمية رسمية معترف بها دوليا، وكان مجرد االنتساب إليه شفاهة فيه

ثم أن الشعور بأهمية هذا األمر عنده !.. شفاعة وجواز مرورصل إلى أقصى مداه في مذكراته بأهمية هذا األمر عنده يصل ي

إلى أقصى مداه في مذكراته حين نعجم عودها فنلمس إشعاع الخيال الخصب يضيء صفحاتها وأحداثها وال ينس هذا الخيال

الملحق أن يتوقف عند كيانتوني فيتحدث عنه بإفاضة حديثا .عاما قد يصدق على عشرات من نجوم الفن العالي

المؤكد أن يوسف وهبي شخصية قامت بتأليف نفسها وفق ما تهوى، نقصد وبكل وضوح أ،ه تميز عن بقية الخلق في إنه استطاع في لحظة الحلم البكر أن يرى ويشعر بالشخصية التي ينبغي أن يكونها، فقرر، ال أن يسعى لتحقيقها أو يجاهد بالعرق

رر أن يؤلفها كأنه والكفاح إلنجاز بعضها كما نفعل عادة، بل قيملك كل العناصر التي ستتكون منها هذه الشخصية ويملك القدرة على السيطرة عليها ووضعها في اإلطار المناسب في الوقت المالئم لتصير شيئا جديد ا معروفا سلفا في لحظة معينة

فهو في األصل ابن سعادة الباشا عبد اهللا وهبي، ابن . قادمةخوت واألصياف األوروبية والسهرات النوادي الراقية والي

والترف المقيم، وكانت ثقافة الطبقة المتوسطة قد أصبحت درعا واقيا يحميها من احتقار الطبقة األرستقراطية والمالك واإلقطاعيين الكبار، وكان معظم نجوم الحياة في المجتمع والسياسة والوطنية والفنون واآلداب من أبنائها، وبهذه الثقافة

إال أسرة –تطورة انهارت الحواجز الطبقية بين شباب األسر الم ولم يعد شباب األرستقراطية الباشوية يحسون –الخديوية

بغضاضة من فعل أشياء من قبيل ما يفعله أبناء الطبقة المتوسطة وما دونها، كأن يشتغل اإلنسان مسخه إلضحاك

–ؤكد ومن الم. الناس أو مسخصاتيا أو مغنيا أو ما إلى ذلك أن يوسف وهبي أحس بنجوميته منذ وقت –وفقا لمذاكراته

مبكر جدا قبل أن يكتشف الطريق إلى الفن، فدون أبناء باشوات الوسط الذي نشأ بفيه كان محط األنظار ومثار الشغب ووجع الدماغ ووجع القلب بالنسبة ألبيه، تعرفون بالطبع ذلك النموذج

الولد المشاغب : ه وندرتهالظريف رغم تكراره يحتفظ بأصالت الممتلئ حيوية ونشاطا وذكاء يريد أن يحقق وجودا مبهر ا وعميق ا في زمن قليل، كأنه يريد أن يحيا حيات كلها في لحظة واحدة، يرتع في بحبوحة من العيش وال تأكل الهموم شيئا من صحته وال المشاغل بعضا من ذهنه، فكيف يحقق ذلك، كيف

ة وهو ليس بالرياضي وليس بالمجرم إنما ينفس عن هذه الطاقهو فنان بالسليقة لم تمتد مواهبه إلى المنافذ الطبيعية بعد، فهي تنفس عن نفسها في فصول خبيثة مضحكة يجريها ويدبرها لآلخرين فإذا هي رغم قسوتها الشديدة تميت كذلك من الضحك، في أفعال شاذة في ردود طلقة جريئة وربما صفيقة، في

ت غير طبيعية في خواطر جنوبية قدر ما فيها من ثقة حركا

طائشة، ال يتورع أن يضاجع أم صديقه وال يتورع كذلك عن االعتراف بها في مذكراته المنشورة ولكن في نبل حقيقي يكشف صدقه عن حقيقة الداء في بنية المجتمع النفسية

راطية والطبقية؟ يريد له أبوه الباشا أن يسلك مسار أبناء األرستق –المتعلمين، الذين يحوزون العلم ال باالنتفاع به وممارسته بل

فمجرد وسام يعلقونه على صدورهم، لكن االبن الشقي –ربما المشاغب يتمرد على المدرسة االبتدائية أول ما يتمرد وهذا في

أن يقل نفع الولد في –حد ذاته في نظر الطبقة من قبيل العار ا بمصاريف باهظة ويتلقون الدرس فيها المدرسة التي يدخلونه

ترى هل كان ذلك تمردا على .. على أيدي األجانب المتحضرينالتعليم في حد ذاته أم على الوسط المدرسي أم على الطبقة

المرجح عندي بعد استقراء مذكراته أنه تمرد على .. برمتها؟العلم والوسط والطبقة، ذلك أن طفولته الواردة في : كل ذلك

ذكرات تشي بغرور هائل وغاية في الظرف، حيث كان المأعلى من الجميع وفي السهرات » مكانة « يضع نفسه في

وحفالت السمر يقوم بتقليد علية القوم بشكل كاريكاتيري ساخر يستخدم فيه عضالت وجهه المرنة البليغة وصوته العريض

ويقول أستاذنا الكبير فتحي غانم في واحد من أجمل . الدافئ

« التحليالت التي كتبت عن شخصية يوسف وهبي أن يوسفا كان يشعر بأنه شخصية بارزة في هذه المجتمعات، فقوامه المعتدل، وحديثه اللطيف، وإجادته النطق بالقيل من كل لغة أجنبية، وأناقة ملبسه، كل هذه األشياء رصيد ضخم يكسبه

ف بين الشجاعة والجرأة، وكان يوسف جريئا وال شك عندما وقأصحابه يغني منولوج هتكشوك، وتسرب النبأ إلى والده فهاج وثار وأخرج يوسف من مدرسة مشتهر الزراعية، التي ألحقه بها بعد أن فشل في المدارس الثانوية، وبعث به إلى أوروبا، ليبعده عن أوساط الممثلين وهواية المسرح التي ستجلب العار

.»موقر له وستسيء إلى مركزه االجتماعي الالرأي عندي أن يوسف وهبي لم يكتشف المسرح دفعة واحدة، بل أقول بضمير مستريح أنه حين كشف المسرح كفن جديد وليد في بالدنا ومبهر له يكتشفه من الزاوية المحضة أو

هو – المسرح –الفنية المحضة، بال اكتشفه أو أحبه، ألنه ي أنه يتيح له المجال الحقيقي الوحيد الذي اكتشف يوسف وهب

كبيرا في المجتمع العربي، » نجما « فرصة أن يصنع من نفسه أن ينفس في رواياته عن الطاقة الفنية المختزنة بأعماقه، أن يعيش أحداثا وشخصيات طالما طافت بخياله ومواقف طالما

إن صح -» المعننة الفنية « تقمصها وجدانه، ليس من قبيل ة العديد من الحيوات التي يهواها التعبير، بل من قبيل ممارس

أن يراه فيها المجتمع، أن يصبح ذلك –بتوق عجيب –ويحب األب المكلوم في أوالده، ذلك الزوج المطعون في شرفه، ذلك الرجل األبهة من رجال األعمال الالهين عن غفلة، ذلك

باختصار ذلك .. المحامي الكبير الطبيب النطاس األستاذ العاليلذي يحمل صفة العمومية ويحتوي على إمكانية أن النموذج ا

يكون محط األنظار ومثار االهتمام ومحور الحديث ومرفأ وهكذا قرر يوسف وهبي أن يكون . الدموع ومنبر الموعظة

رجل مسرح وليس مجرد فنان مسرح، إنه يتصرف بأحساس األرستقراطية المستعلية عن قدره، لقد أحب الولد السيارة

سيارة، وأحب الولد الخيل فنلشتري له جوادا، فلنشتري له فليشتري هو لنفسه – يا عيب الشوم –وأحب الولد المسرح

مسرحا يمتلكه ويستأجر الممثلين والفنيين بمرتبات مجزية تليق بابن الزوات ولكنها رغم ذلك تحمل شقاوة ال حد لها وشيطنة

د يشتريك في إلباس طاقية هذا لآلخر عند األزمات المادية، وقبلقب أو عبارة أو إطار محترم يضعك فيه ويظل بكياسة ولباقة

بهذا االحترام رغم أن األبعد ربما – عدم المؤاخذة –يحتفظ لك

ال يكون جدير ا بذلك، دورن أن تفلت منه حركة أو عبارة تفضح رأيه الحقيقي، منتهى األدب ومنتهى الكياسة وفي

. ومضئ األعماق مع ذلكاألعماق مارد جبار ناعم الملمس يشيعون أنه كثيرا ما تالعب بالغير ووضع اسمه على مسرحيات كتبها آخرون ويروى المرحوم فتوح نشاطي في مذكراته كثيرا من هذه األخبار مدعمة بالوثائق واألسانيد باعتباره مترجما لكثير جدا من المسرحيات، على أن القارئ

بار أو المعلومات موقف والنقاد ربما ال يقف عند هذه األخالدهشة، كأنه يتقبل ذلك كشيء طبيعي بالنسبة لشخصية يوسف وهبي، أو كأنه ال يجد غضاضة في ذلك مع رجل كذلك، وربما كانت حقيقة األمر أننا نتقبل من شخصية يوسف وهبي كثيرا من هذه األفعال لو صدقت في ذلك أنها تشي عن جوانب متعددة

در من الظرفاء العلماء بحق، بمعنى في شخصيته كنموذج ناأنني ق اصدق أنه وضع اسمه على مسرحية من ترجمة شخص آخر بعد أن دفع له ثمن الترجمة، ولكن ظرف يوسف وهبي هنا أنه تعامل مع المترجم تعامال حرفيا، أنت ترجمت وهاك أجرك ومع السالمة، ثم إنه لن يقدم ترجمتك بحذافيرها،

– كمعبر إلى مواقف يوسفية وهبية – فقط–إنه سيستخدمها

سوف يعيد صياغة مواقفها وحوارها بشكل يتالءم مع مواهبه مع قوامه الفارع، مع صوته العريض الدافئ، مع . الخاصة

.وجهه الممتلئ المرن ذي العضالت البارزةحكي لي المرحوم حسن فايق في حديث نشرته مجلة

مطلع حياته الفنية كان اإلذاعة قبل موته بشهور قليلة أنه في يلقي المنولوجات في الصاالت واألماكن العامة الحافلة وبعض الحفالت، وقد طلع على الجمهور بمنولوج ال أذكر اسمه ولعله

مونولوج شم الكوكايين، ولقى – إن لم تخني الذاكراة –المونولوج رواجا كبيرا وشهرة ذائعة على السنة العامة في

وكان يوسف وهبي يجرب حظه في الشوارع والحواري،حفالت السمر فغني هذا المونولج باعتباره شهيرا، فنجح، فغناه في حفالت أوسع، فأوسع، ثم سجله باسمه، فذهب إليه حسن فايق ليمنعه من غناء المونولوج، فإذا بيوسف وهبي يزعم إنه صاحبه األصلي بدليل أنه قد أصبح عالمة على شهرة يوسف

ألمر إلى القضاء فقال القاضي بعظمة لسانة أنه وهبي، ووصل اطول عمره يسمع هذا المونولوج مقترنا بحسن فايق، وحكم الصاحبة، ولكن العجيب أن يوسف وهبي استأنف الحكم وعارض، بل أنه أعفى نفسه من المحاكم ووجع دماغها وترك

األمر الواقع يغذي نفسه بنفسه، وبهذا عجز حكم المحكمة عن .لواقعتغيير ا

وحين قرر يوسف وهبي أن يكون رجل مجتمع عن طريق فن المسرح حركته أصالته لدراسة فن المسرح على الحقيقة، فشذ عن الخط الذي رسمه أبوه لمسيرة حياته والتحق باألوساط الفنية في إيطاليا وغيرها ليلم بأسرار هذا العالم

لتي يسمونها وكان يفتنه في رجل المسرح الفنان حياته ا. الفاتنالجدير بالمالحظة أن هذا اللفظ ظل حتى وقت قريب « بوهمية

جدار يفتن بعض المثقفين خاصة حين يطلق عليهم بل أن بعضهم كان يطلقه على نفسه حتى لو لم يكن ملما بجوهر الحياة

لست أدري بالضبط من السمئول عن . »البوهيمية على الحيقية خر من حياة بعض الفنانين شيوع هذه الفرية عن الجانب اآل

والعظماء منهم على الخصوص، ربما كانت بعض التراجم والسير التي بالغ فيها الرواة، وربما كان خيال المتلقي هو الذي يمأل هذا الجانب اآلخر من حياة الفنان بما يتمنى هو نفسه أن يفعله بكل حرية وانعتاق من أسر التقاليد والكبت، على اعتبار

نان بما أنه يظهر أمامنا بكل هذه التجارب اإلنسانية إذن أن الف. فهو قد عاشها على األرجح ولو بذريعة االستفادة بها فنيا

الثابت أن يوسف وبهي في صباه وشبابه كان خياله حافال يمثل هذه التصورات عن حياة الفنان، وإن الفنان ربما ال يكون فنانا

وة بالبوهيمية، على األقل حقا إال إذا عاش هذه الحياة المدعوهكذا . استخدام هذا اللفظ عن حياته– عن جدارة –ليحق له

قرر يوسف وهبي أن يؤلف هذه الحياة، ال أن يألفها، فنراه في شبابه ومرحلة البعثة الفنية يخوض غمار الحياة الجنسية دون تهيب وال ولج، ونراه في مذكراته مفتونا برواية عشرات من

لمغامرات مع عشرات من الفتيات واألرامل مثل هذه اوالزوجات والشريدات والمحتاالت، وكيف كان يباريهن في

مهما -تدبير التعامل وحبك المواقف حتى ال تستطيع إحداهن أن تستهلبه باعتباره أميرا شرقيا بطربوش أحمر –عالم ذكاؤها

وهو كثيرا ما يستخلص الحكمة . وجسد فتى وقلب مندلقظة من أمثال هذه الروايات بشك لقدير ومفحم، ولكن بعد والموع

كأنه يعيشها من جديد، أو . أن يكون قد أشبع افتتانه بروايتهاأتذكره في مشهد من فيلم غزل . كأنه يعيشها اآلن على الحقيقة

البنات حين لجأت ليلى مراد صدفة إلى قصره، وكيف ظهر في يته الشخصية الفيلم ال بشخصية دور آخر تذوب فيه شخص

وتفنى، بل يظهر بشخصيته هو كيوسف وبهي الفنان الالمع

الكبير، وإنه لشيء مثير أن ترقب الرجل وهو يمثل نفسه في ! أحد األفالم، أن يتقمص يوسف وبهي شخصية يوسف وهبي! أن يكون الحقيقة والفن معا في لحظة واحدة في لقطة واحدة

سال نفسه على السجيه؟ أتراه يلجأ إلى التمثيل أم يكتفي بإرحقيقة األمر أن يوسف في هذا الفيلم كان يمثل شخصية يوسف وهبي، كان يضع لنفسه اإلطار الذي عرفه عن نفسه وعرفه المجتمع عنه، فبروزه بحرفنة المثال يضع تمثاال لنفسه بعد أن يخرج من نفسه ليرى نفسه من خارجها محاوال تجسيد انفعاالته

وقد دهل هذا على افتتان . مجسدة ملموسةاألصلية في حركاتأليس هو ذلك الذي قام بتمصير . يوسف وهبي بيوسف وهبي

أليس مسرح رمسيس هو أول فرقة ذات نهج .. المسرح حق ا؟علمي مدروس وتخطيط يشبه تخطيط المصانع التي ستنتج

أن الكفاءة وحدها والذكاء وحده . مسرحيات على الدوام؟ا من ذلك لم يكن قادرا على تحقيق ما حقيق والقدرة المادية أي

ما حققه يوسف وهبي لو لم يكن على هذا القدر العظيم من الظرف وخفة الظل، إنهما أقوى أسباب حضوره والفن بعدهما

.وإن كان على شيء عظيم الخطر منه

صورة

لو أن قلمي هو ريشة الفنان جمال كامل لرسمت وجه ينبغي، فليس غير الريشة المذكورة قادرة الكابت لطيف كما

على هذه المهمة الصعبة، دابت ريشة فناننا العظيم على رسم الوجه باعتباره مجموعة من جزئيات تفصيلية محددة، كل جزئية تستقل بذاتها استقاال مهيبا محددا وال تذوب في األخرى

ذلك كأنما . إال بمقدار ما تباريها في تحديد التفاصيل والظاللالفنان يرسم كل جزئية وحدها فيجسدها مهتديا في ذلك بقدرة الخالق األعظم، الذي جعل من وجه الكابتن لطيف مجمعا لكل العضالت الرياضية التي كونها جسمه الرياضي طوال سنوات

.عمره المديد بإذن اهللاليس هذا الرأس رأسا بل هو مدينة رياضية كاملة تسكنها

وليست هذه الجبهة . مالعب والمدارسعشرات النوادي والجبهة بل هي إطاللة شراع سفينة مقبلة على بعد عشرات األميال تنهب المحيط نبه، وليست هذه العين عينا بل هي عواميد من الخيوط اإلشعاعية متصلة بالكرة تالحقها أينما

وليس هذا الصوت صوتا بل . ذهبت صعودا أو هبوطا أو زحفاكلها يصب في قلوبنا أنباء الحروب هو هدير المالعب

..والغزوات

فظرفه وحده هم .. أظرف ظرفاء عصرنا بال منازعالسمئول األول عن نشر الوعي الكروي في بالدنا من أقصاها

وقد عرف األثير معلقين كثيرين . إلى أقصاه عبر موجات األثيرأدرك . غيره ولكنه لم يعرف من طرازه أحدا غيره حتى اآلن

ت مبكر أن عملية نقل مباراة كرة القدم بين فريقين منذ وق بمنطق مذيع –أنها . عملية ال شك سخيفة إلى أبعد الحدود

عمل جاف جدا، وليس يعطي أي فرصة لإلبداع، –الراديو فالمذيع أمام كرة تتناقلها األرجل ال أزيد وال أقل، والمذيع مهما

منتهى إبداعه كان أديبا بارعا في الوصف دقيق المالحظة فأنأن يصف حركة الكرة بشيء من لمسة الخيالة والتعابير

– دون أي احتفال آخر –الجميلة، ثم إن مباراة كرة القدم نفسها ليس من : وفي األمثال السائرة يقولون. تقوم أساسا على الفرجة

وهذا المثل ينطبق بأدق حذافيره وأبلغ معانية . رأي كمن سمعدم بالذات، إذا أن جمالها وسحرها يكمن على مباريات كرة الق

في رؤيتك رؤية العين لالعبين بأجسادهم وكيف يتحاورون بها على أرض الملعب وكيف تتحرك الكرة بين أقدامهم يتحاورون بها على أرض الملعب وكيف تتحرك الكرة بين أقدامهم، فلغة اللعب وضرب الكرة لغة ال يمكن استبدالها بالوصف الكالمي

ا، أذ أن لعبة قد يجيد الواصف وصفها بدقة ومع ذلك ال أبدتدخل دماغك وال تقنعك بأنها أصابت الهدف، ولعبة أخرى قد

أن لذة المشاهدة تكمن في . ال تقبل الوصف مع أنها ملعوبة جيداحالوة رؤية اللعبة قدر ما تكمن في حالوة اللعبة نفسها، وذلك

رؤية الالعب وكيف : لقدمهو االحتفال الحقيقي في مبارة كرة ايلعب، ناهيك عن لذة التجمع وما يشيعه من دفء حقيقي عبر

.ردود الفعل المباشرةأشهد بضمير مستريح أن كابتن لطيف استطاع أن يلغي كل ذلك من الذهن وان يقيم المباراة كاملة في أذهاننا ونحن نيام

كله في فراشنا نستمع إلى الراديو، بل أقول أنه نقل الملعبولقد تواتر على الراديو كثير من المعلقين . بحذافيره إلى مخيلتنا

كلهم محبوبون من الجمهور ولهم أرصدة من النجاح الرياضي ولهم أيضا مراكزهم الرياضية الكبرى، وعلى الرغم من أنهم ال يقلون عن الكابتن لطيف إلماما بأصول اللعب وقواعد اللعبة

ة وكبيرة وعلى الرغم من أنهم وكل ما يتعقل بها من صغيرينتقلون المباريات بأستاذية كبيرة إال أن ثمة شيئا جوهريا يظل

ومن ثم يظل شعور المتفرج بالمباراة قليال إلى . غائبا عن اآلذنأغلب اليقين أن ذلك الشيء الغائب هو ذلك المهرجان . حد ما

لمباراة االحتفالي الكبير الجميل الذي يضيفه الكابتن لطيف على ا« وهذا الجانب االحتفالي ليس مجرد . بأسلوب عرضه لها

صناعية يعمد إليها » هيصة « أو » أونطة « أو » همبكة الكابتن لطيف لكي يبث الحماس في أعصاب المشاهدين، أنما هو الظرف، هو تلك الموهبة التي أن توفرت في إنسان حظي

نته فضال عن بلقب الظريف وانظم إلى قائمة الفنانين في مهإن موهبة الظرف هي تلك الموهبة الخالقة . كونه أحد علمائها

التي تجعل من الشيء العادي فرجة تستحق أن توليها أنظارنا فاإلنسان الظريف اسنان فنان بالسليقة ذو نفس مبطنة . واهتمامنا

ببطانة نفسية خاصة تجعل لألشياء أصداء كبيرة في نفوسهم احتفالي ضاحك ساخر أو ناقد فيضاعف يعكسونها لنا في مظهر

من إحساسنا بها، كان روحه الظريفة الفنانة هي المجهر الذي إن سلط على الشيء، رأيناه كبيرا، ليس من قبيل المبالغة المجموجة بل نراه كبيرا بمعنى أن تتضح معالمه الدقيقة في

..أنظارنا من ثم نستطيع الحكم عليها حكما معبراي كابتن لطيف هي التي وضعته في قائمة طاقة الظرف ف

فناني الكرة مع أنه من علماتها االفذاذ، وهي أيضا السر الذي يضفي على أداته سحرا ينقل المباراة بحيوية دافقة، فيغلي

الحماس الساخن في أعصاب المشاهدين وتتحول المباراة في وجدانهم إلى شيء شديد المهابة، إلى شيء قومي علينا جميعا

:ن نوليه اهتمامنا ونأخذه مأخذ الجد الذي ال هزل فيهأظرف الظرف في كابتن لطيف أنه يحاول أن يلغي من أذهاننان كونه رجال طريفا، ويسعى جاهدا وفي كل خطوة أو كلمة إلى تثبيت شخصية المعلق الرياضي الجاد، وكل همه أن لى ينقل إليك الجدية بأي طريقة حتى ال تقوم أنت بتحويلها إ

شيء هازل، خشية أن يهبط حماسك لحظة أو تهدأ أعصابك، إذا لو حدث أنك عدت إلى كوميدية األداء لضاع منك مناخ اللعبة وفوجئت بالهدف وقد تم تسجيله في برهة وجيزة تكون قد ضاعت عليك أكبر لذة تسعى إليها من وراء الفرجة على

لية بين الموقعين أنه يضع نفسه مكانك، وهو بهذه التباد. المباراةموقعك وموقع الالعب ينبيئ عن تقدير عظيم إلحساس المشاهدين ومشاعرهم الكروية والذا فهو يطمح إلى إمتاعك بكل ذرة في كيانه، حتى ليكاد ينزل الملعب بدال من الالعب ويكمل

يعز عليه أال تكتمل الفكرة . هو اللعبة كما تريدها أنت وترجوها. العبين، يتابعها بحساسية القطة ويقظة مذهلةالفنية بين أقدام ال

ويعز عليه أن تضيع عليك همزة وصل بين قدم وأخرى، أو

. نقله سريعة مفاجئة، فيتشبث بالدقة كأنها أمر ال خيار له فيه وكثير ا ما تكون الحركة أسرع، وصفه فال تنازل عن دقته ويظل يالحقها بكل ما أوتى من قوة وسرعة حتى يلحق باكرة

..أينما استقرت كثير ا ما ينتابنا اإلحساس بأن ثمة من سيحاسبه على المباراة بعد انتهائها حسابا عسيرا ويؤنبه على نسيانه للحركة

ولهذا فالكابتن لطيف يسجل الحركات . الفالنية والحركة العالنيةومالبساتها تسجيال حرفيا، ليس هذا فسحب، بل يضفي عليها

ا تستقر في ذهنك استقرارا ثابتا، يقرن من الحيوية ما يجعلهالحركة بتعليق ما، بحركة من داخل الملعب، كأنما ليقول لك إذا

لقد .. ال: ما حاسبته أو أخذت عليه عدم انتباهه للعبة الفالنية ..رصدتها بأمارة كذا وكيت

ما شاهدت مباراة يذيعها كابتن لطيف إال وقد زادت وكثيرين –حقيقي، بل أنني حيويتها أضعاف أضعاف حجمها ال

قد أحببنا المباريات، خالله وأدمنا متابعتها في شغف، –غيري وأنني لزعيم بأن نسبة كبيرة من جمهور الكرة كانت في األصل وال تزال، جمهور الكابتن لطيف نفسه، يعجب به كما يعجب

وال غرو فإن الكابتن لطيف لم يحظ . بأي العب داخل الملعب

ة لمجرد طرفه في نقل المباراة بعباراته وتعليقاته بهذه المكانالمعروفة وأسلوبه المتميز، بل ألنه في األصل العب كبير

وهو ينقل المباراة ليس باعتباره مذيعا . عرفته المالعب الدوليةأو معلقا رياضيا بل باعتباره العب كرة حريفا، ولهذا نستطيع

مر ال نديع المباراة أو الكابتن لطيف في واقع األ–التأكيد بأن ينقلها أو يعلق عليها فقط بل أنه يلعبها كذلك فوق البيعة أو من داخل البيعة، أنظر إليه يتابع أسماء الالعبين واحدا واحدا، يعطينا فكرة ضافية عن كل واحد منهم، ليس بشكل جاف جفاف المعلومات المجردة بل يشكل يقربنا من الالعبين ويقربهم إلى

ا خاصة الالعبين األجانب الذي يرورون بالدنا ألول نفوسنمرة، حتى الذي لم يزورونا تراه يقحمهم في الحديث . ويستحضرهم في الملعب بطرائق غاية في الظرف واللباقة

وإنك لتتقبل منه ما ال يمكن أن تتقبله من غيره من المعلقين أنك مثال تتقبل منه كلمات متقاطعة غير .. بكافة أنواعهم

خاضعة ألي منطق لغوي لمدة تزيد على ساعات، لو قالها غيره لكانت مجرد هذيان محموم، أنما هو قادر بقوة سحرية

الكثير » بلضمته « و » هلضمته « خفية أن يجعلك تفهم من والكثير، بل قد تفهم من صحية واحدة يصيحها ما تعجز عن

ه لهفي عليه وصوت. التعبير عنه عشرات الجمل المسبوكةيجري بالدفاع وقوة خارقة تفوق قوة الالعب وراء الكرة، يصف العبا وهو يحمل الكرة في قدميه ويمضي بها في فكرة معينة، يتابع اللعبة بحماسي خارق ألنه يكون لحظتها واضعا نفسه مكان الالعب، وإذ هو يذيع ويلعب في نفس اآلن يحدث

تطيش اللعبة التناقض الحتمي الحاصل، وجود لعب ومذيع، وإذينفصل في نفسه إحساس الالعب عن إحساس المعلق فيكمل المعلق بصيحته المعهودة مغطيا بها على إحباط الالعب فيه

.»...! ها ها ها« : قائالالذي ال شك فيه أن جهدا كبيرا جدا بل هائال يبذله الكابتن لطيف في أي مباراة يذيعها ربما فاق جهد أكبر

ال تكون مبالغين إذا قلنا أنه جهد يوف جهد الالعبين، بل قد المباراة كلها ألنه يتقمص ليس فقط شخصيه نجم المباراة بل كل شخصيات نجومها بل هو يتقمص المباراة برمتها ويعطيها من إحساسه وأعصابه قدرا مضيئا، ناهيك عن صيحاته وصرخاته

إنما المتواصلة بال توقف، لحظة أن تبدأ المباراة حتى تنتهي، قف بنا أمام هذه الدرجة من التركيز الذي يصل إلينا في قالب مشوش تماما حتى أننا لو فرغنا نقله لمباراة ما على ورق ثم

قدمناه للجنة تقرأه لحكمت عليه بالرسوب في أي امتحان يعقد ألننا على الورق سنفاجأ بكلمات متقاطعة . للمذيعين أو للمعلقين

.واضحليس ينتظمها سياق محدد إذ قد شرفت منـذ ، اصطدمت أنا شخصيا بهذه الظاهرة

بضع سنوات بأن يزاملنا الكابتن لطيف كمحرر رياضـي فـي وعهد إلى األسـتاذ سـعيد عثمـان . مجلة اإلذاعة والتليفزيون

رئيس التحرير في ذاك الوقت بأن أتعاون مع الكابتن لطيف في ياضية الحظ وبروحه الر . صياغة تعليقاته بلغة صحفية مقروءة

الكابتن لطيف أنني عاجز عن فهم لغته التي تتشكل منهـا لغـة : فنحى مقاله جانبا وقال في هدوء ، خاصة كلغة الجبر والهندسة

أنا حاقول كل على اللي أنا عايزه . . شوف بقى يا أبو خيري « الفحصـى قصدي بالعربية . . بالبلدي كده وأنت تكتبه باإلفرنجي

تدل الكابتن وراح ينثر علـى سـمعي فاع . » ماشي « : قلت . » وشيئا فشيئا كان يدب فيه الحماس واالنفعـال . تعليقه الرياضي

وتكاكـا حولنـا كافـة » فورم « والحيوية حتى دخل في الـ الزمالء وبدا من الصعب تحديد ما إذا كان يتكلم فـي الـزمن اآلني أم أنه في زمن مضى يصف مبارة حامية الوطيس أم هو

فهمت بقى يا بو « : فلما انتهى نظر إلى قائال . ه ودمه بيننا بلحم

شوح بذراعه في ود . » كده فهمت . . جدا جدا « : قلت » خيرو؟ .. ما اعـرفش « : ، فقلت زانغ النظر » يا سيدي أكتب « : قائال

معنديش لغة تقدر تعبر عن اللي أنت قلتـه .. أهوه ده المستحيل سم قائال فـي همـس فيبت . » بنفس الدرجة من الحيوية والتأثير

ودخلنا معا . ال عمل : قلت . » والعمل يا أبو خيرو؟ « : مبحوح إلى رئيس التحرير وقلت له أن العبقري الذي يسـتطيع إعـادة صياغة تعليقاته رياضية للكابتن لطيف وتعليقاته هـي جمـاع مالمح شخصيته وليس في مكنة أي كاتب أن يغير مالمحه وإال

يع الكابتن لطيـف، وأن علـى أعطى مالمح شخص آخر بتوق المجلة أن تنشر تعليقاته كما هي دون حذلقة بل دون أن تعتدي

. عليها ظالل اللغة أيا كانت طالما أنها لغة شخصي أخر غيره ما يبدو أمامنا كلمات متقاطعة غير منضبطة في سـياق محدد هو في الواقع ناتج عن ازدواجية المهمة واشتمالها علـى

: إذا هو يقوم بأكثر من دور في لحظـة واحـدة أكثر من رافد، الناقل والمذيع والمعلق والالعب، فهو يقوم بدور المذيع في أنه يبلغنا كل ما في المباراة من كبيرة وصغيرة ويجيب على كل ما قد يطرأ على أذهاننا من أسئلة حول ما قد تتضمنه المباراة من

ملعب وما يحيط معلومات، ويصف لنا جو المباراة وظروفها وال

به والجمهور وما يعتوره من مفاجآت، ويعرفنا بعلية القوم من الحضور، ويداعب المسئولين بظرف جميل وكياسة، ويسـتدل بخبراتهم ويسنحث هممهم نحـو بعـض المشـاريع ويسـتثير مشاعرهم تجاه بعض المشاكل الرياضية مهما كانت على درجة

. يجـب الحساسـية من الحساسية ألن الظروف يدرا الغضب و وهو إلى ذلك يقوم بدور ناقل المباراة الـذي تجـاوز قـدرات المذيع إلى لغة أخرى تمام ترصد حركة الكرة بدقـة مرتبطـة بحركة الالعب ونافذة إلى جوهر الفكرة في اللعبة، لدرجة أنـه

ثم هو يقوم بدور . يرى الهدف ويعلنه قبل تسجيله بعدة ياردات ظهر الميزة العظمى التي تميز الناقل عن المعلق، المعلم، وهنا ت

المفكر، أن لكل لعبة ال تعجبه البد لها من تعقيب يظهر عيبها، وأخرى تجبه البد لها من تعليق يضـئ جوانـب عبقريتهـا،

ضمن – ويا للعجب – كل ذلك . مستشهدا في ذلك بأمثلة عديدة قوم األكثر مدعاة للعجب أنه خالل كل ذلك ي . سياق نقله للمباراة

أيضا بدور الالعب أي الحلول في إحساسـه ولربمـا يضـيع الهدف المحقق من الالعب فال يحزن إال قليال أما الكابتن لطيف فقد يتفجر من الغيظ ألنه وقد وضع نفسه في مكـان طـرفين أصليين هما الالعب والمشاهد يجئ إحباطه مزدوجا فيه صدمة

ومن هنا فـأن الالعب صاحب الهدف الطائش وغيظ الجمهور، تنطلق كأنما لترد الصـدمة » ها ها ها ها « : صيحته الشهيرة

. والغيظ إلى الصدور كأنها نابت عنهما وامتصت شرورهما ألسنا نرى بعد كل ذلك أنه ساهم بقدر عظيم فـي نشـر التقاليد الرياضية الكروية؟ ألسنا نرى أنه خلق نوعا من مـزاج

نت سخونة المباراة؟ ألسـنا الفرجة ال يكتمل إال بصوته مهما كا نرى أنه بكل ذلك قد أصبح شخصية كبيرة الحجم في مجتمعنـا يعرفه جميع أفراد الشعب المصري فردا فردا كأنه واحد مـن

كاتب هذه السطور يظن أن كل ذلك لـم .. العائلة في كل بيت؟ يكن ليتحقق لو لم يكن الكابتن لطيف على هذا القدر العظيم من

. المعرفة والحماس وخفة الدم الظرف المشع ب

! أم كلثوم شخصي ا

قوة الصوت وقوة الشخصية، : توازنت في أم كلثوم قوتان

وقد لعبت الشخصية أدوارا هامة وخطيرة في خدمة الصـوت، ولعب الصوت أدوارا هامة وخطيرة في خدمة الشخصية، ولـو أن هذا الصوت القدير الكبير كان بدون شخصية في مستواه أو شخصية دونه بقليل لتحولت أم كلثوم إلى مطربة فقـط، إلـى مجرد أداة إلمتاع القوم في سهراتهم لقاء ما يغدقونه عليها مـن مجرد المطربة، أن تكون شخصية قومية كبيرة تلعب أدوارا في السياسة وتشارك في أحداث قومية بل تصبح علما علـى أمـة

ية القادمة من إحدى بأسرها من المحيط إلى الخليج، وهي الصب مركـز » طمـاي الزهـايرة « قرى مصر الكثيـرة اسـمها

. السنبالوينولو ألقينا نظرة على الواقع الذي نشأت خالله أم كلثوم ألنبأنا أن هذه الصبية الصغيرة ال يمكن أن يكون لها مكان تحت سماء القاهرة، ألسباب عديدة، فأين ستذهب مثال أمام

دية يجتمع مجلس الوزراء في عوامتها، مطربة مثل منيرة المه

وكيف يتأنى لصبيه كهذه أن تفتعل في صوتها بحة جنسية ثتير السكارى من المستعين، بل كيف يتأنى لها أن تتقن أساليب فن الغناء التي كانت سائدة عصر ذاك، وهي كلها ألوان مبتذلة

بالطبع !!غاية االبتذال تعمد إلى إثارة الغرائز الجنسية الحيوانية.. لم يكن يتاح لها شيء، هذا كله ألنها نشأت نشأة مختلفة تمام ا

نشأة تؤكد أن مصر كانت مجتمعين ال مجتمع ا واحد ا، مجتمع المدينة ويحكمة التجار األجانب والجاليات والسماسرة، ومجتمع الريف وتحكمه الطبقة المتوسطة الزراعية التي اتسمت

رسل أبنائها للتعليم في المدينة بالوطنية، وهي التي كانت تواستمر أبناؤها ألجيال طويلة يقاومون في نفوسهم طبائع المدينة ويتمسكون األحياء البلدية في المدينة ومعظمهم وافد من الريف قديما، ومن هذه الطبقة تكونت جبهة وطنية ورأى عام وطني بدأ يسود المدينة، وبفضلها قام في القرن األخير في

الث ثورات عظيمة قام بها أبناء الطبقة المتوسطة مصر ث .الزراعية ذوي أصول ريفية محضة

ربما يقودنا البحث في شخصية أم كلثوم إلى البحث عن مضمون الطبقة المتوسطة الزراعية التي نجحت في مقاومة المستعمر حتى طردته نهائي ا في مطالع الخمسينات ونجحت في

سيام التام وراء األذواق األجنبية حماية الذوق العام من اإلنالمتعددة التي كانت تغرق البالد وتشوه معالم الشخصية القومية وتطمس تراثها القومي، كذلك نجحت في حماية اللغة العربية وتطويرها إلى أعلى مستويات اإلبداع، فعلى أيدي عمالقة من

الحالي ردت الروح إلى اللغة بحق، أبنائها على طوال القرن . واتسعت دائرة الفنون العربية كما ازدادت عمق ا واستثارة

وحينما كانت أم كلثوم صبية صغيرة تشترك بالغناء الديني في فرقة أبيها الشيخ إبراهيم المكونة منه ومن آل منزله، ن تلف القرى واألقاليم في الموالد والمناسبات الدينية، لتقرأ القرآ

كان مستوى .. وتغني التواشيح واألناشيد في مصاحبة الذاكرينالغناء العربي قد هبط من قصور الطبقة الحاكمة المتشيعة لألجنبي القوي المتكورة في أحضانه، هناك ورنك دلع وميوعة طراوة واسترخاء، ونوع من فراغ الغنم، مطرب يردد اآلهات

ى نغم جديد، بل كأنه فعال يدغدغ المشاعر ال لينبهها علليرقصها ويرنحها فحسب، ومنتهى قدرة المطرب على الخلق واإلبداع أثناء الغناء هي التالعب بالمقامات والدوران حول . لحظة مفرغة من المضمون، أي ال تترك في النفس أثرا يبقى

وكانت األغاني المعبرة عن الشعب وعن روحه ال توجد إال في

ة المتاخمة للريف، مثل أغاني القرى وبعض األحياء الوطنيالطهور وأغاني الزفة وأغاني الصباحية وأغاني التخمير وأغاني تهنين األطفال وأغاني الحصاد وأغاني الشادوف والمواويل الحمراء والخضراء، كل هذه األشكال الغنائية كانت تعبر عن روح الشعب وعن معاناته الحقيقية مع الحياة والمناخ

لشعب وعن معاناته الحقيقية مع الحياة والمناخ تعبر عن روح اوالتاريخ، حتى لتصبح نصوصها الغنائية بمثابة صفحات فنية

ولذا فهي وثائق أكثر إقناعا من . من التاريخ االجتماعي للشعب .صفحات التاريخ المباشر

وقد عرفت قرانا نموذج المغنية والمغني على مستويين، ح من طهور وزفة حيث مستوى يتخصص في إحياء األفرا

تتوسط المغنية جمهور العروسة وتغني عديد ا من األغنيات التي تعكس كل أحالم الفتيات تجاه العرسان المنتظرين وتصف العريس وتعدد أوصاف العروسة ومحاسنها وأسباب غلوها،

وحيث .. بصورة تعكس األوضاع االجتماعية على حقيقتها ي عديد ا من المواويل يتوسط المغني جمهور العريس ويغن

الحمراء والخضراء التي يصف بها غدر الزمان بأبناء األصول ويندد بالظروف التي تجعل النذل – الذين هم الشعب يعني –

يتحكمم في األحرار وما إلى ذلك، أو مواويل تحكي قصص أهل الغرام وما ال قوة في سبيل غرامهم من عنت وكيد وأحقاد

وكل من المغني والمغنية يبتدع . إلى ذلكيشيب لها الولدان وماأنغاما مالئمة لمقتضى الحال مطابقة لمعنى الكلمات كأنها

أما المستوى اآلخر . األصداء التلقائية لصيحات األلم االجتماعيةنم المغني والمغنية فهو يتخصص في إحياء الليالي الدينية، حيث ينشد هو أن هي بعض األناشيد والتواشيح وبعض

وكال النموذجين . لمنظومات التي تحكي السيرة النبويةاالمستويين، شائع في القرى والمدن أيضا والبد أن أم كلثوم قد حفظت تراث مغنيات األفراح وتراث المغنى الشعبي بوجه عام

وقد أورثها هذا .. الذي يتردد في الحقول وفي كافة المناسبات يخفق في أغانيه التراث إحساسا حقيقي ا بنبض الشعب الذي

التلقائية، ولذلك فإن أباها الشيخ إبراهيم حين قام بتحفيظها شوامخ التراث الديني الصوفي لكي تغنيها في الليالي كان في الواقع يدخل بها إلى مرحلة أعلى وأعمق، وامتزج في نفسها

المطربة الشعبية التلقائية التي : منذ الصغر ذوق من النموذجين الفرح والبهجة دون قيود من صنعه أو تكلف يعبر صوتها عن

المحترفين، والصييتة التي يعبر أداؤها عن معان ومشاعر جادة

في إطار من الوقار الساحر، ولهذا فإن أصعب األلحان وأكثرها . جهامة لم تكن تخفي بسمة صوتها

وأكبر معين فني شربت منه أم كلثوم هو التراث الديني م الشيخ أبو العال محمد والشيخ زكريا عن طريق أبيها أوال، ث

وهذا التراث هو في الواقع ثمرة جهود الفرق .. أحمد وغيرهماالصوفية التي انصرفت إلى العبادة على طريقتها واستخدمت الموسيقى في محاولة التأثير على نفسها والوصول بها إلى

وفي سبيل الوصول إلى هذه اللحظة الوجدانية . مرحلة الوجدرانية قدموا مستويات موسيقية على درجة عظيمة من الثراء النو

والعمق والقدرة على تحريك المشاعر اإلنسانية وتصفيتها وتطهيرها، وهي مستويات ال تزال موسيقانا الغنائية تنهل منها

والذي ساعد . حتى اليوم وسوف تظل تنهل منها إلى ما ال نهايةه ليس فقط وجود أم كلثوم على استيعاب هذا التراث وهضم

أبيها بجوارها على الدوام بل حفظها للقرآن الكريم الذي حفظته طفلة صغيرة وجودته واستقرت في أعماقها موسيقى القرآن واكتسبت من موسيقاه الداخلية قدرة على الفصاحة والبيان في

إنها : النطق، حتى لقول محمد عبد الوهاب في حديث له عنهاى أنها حين تنطق جملة فإن الجملة كانت فصيحة النطق بمعن

تبلغ أذنك حرف ا حرف ا كل حرف قائم بذاته له موسيقاه الخاصة رغم التحامه ببقية الحروف حتى أنك ال يمكن أبد ا أن تستوضح

ذلك أن حرف ا !.. إيه: أم كلثوم عما قالته، ال يمكن أن تقول لهادية فما من الحروف ال يضيع تحت لسانها، هذا في حياتها العا

يقول أنها لفصاحتها فإن معنى الجملة اللغوي ! بالك بالغناءيصل إلى أذن المستمع مع معناها اللحني مؤجال فهم معنى الكلمات إلى ما بعد، ألن معنى الكلمات يصلك مع اللحن

.متعانقينولم تكن أم كلثوم تعد نفسها لتكون مغنية كأولئك الالئي

ألحان مبتذلة، بل كانت تعدها يغنين الحب الرخيص بكلمات ولتكون صييتة يحتشد لها السرادق بالساهرين المصلين على

وحتى حين أتيح لها زيارة القاهرة والتعامل مع . النبي وآل بيتهشريحة من جمهورها لم تقبل أن توضع في مقام المغنية حسب

فقد حدث أنها كانت محل . النموذج السائد في ذلك الوقتيان منطقتها وكان بعمل على األخذ بيدها إعجاب أحد أع

وتقديمها إلى المجتمع القاهرة العريض، وعن طريقه تعرفة ببيت آل عبد الرازق في القاهرة العريض، وعن طريقه تعرفت ببيت آل عبد الرازق في القاهرة الذي استضافها عند زيارتها

فمكثت فيه لبعض الوقت، وتصادف إن كان فريق للكشافة يقيم فال على مقربة من البيت ودعيت للغناء فيه فغنت أحد ح

الموشحات القديمة الرصينة، التي كانت تعتبر مستوى من الغناء وغريبا على جمهور ذلك الوقت في القاهرة حيث كان قد تعود

وما كانت ترفع عقيرتها بالغناء حتى . على السطحية والخفةناءها ولكنها بكت علق أحد الحاضرين تعليقا سخيفا، فلم تقطع غ

ومن المؤكد أن هذا الصدام لم يكن آخر صدام لها مع . بشدةجمهور المدينة، ولكن المؤكد أيضا أنها صممت على نفي نموذج المغنية التقليدية من حياتها نفي ا تام ا حتى ولو لم يتقبلها

وكان من الواضع أنها واثقة من سالمة موقفها، بقدر . الجمهور مع نفسها، ذلك أنها لو جارت ذوق جمهور ما كانت صادقة

المدينة وقدمت له اللون الذي يوافق هواه لدخلت في منافسات رخيصة ال تجيدها وليست مؤهلة لها بأي درجة ولكنها أصرت على، تكبر وهي من نفس النوع، وأن تعيد إلى التراث الديني

ي من حسن الحظ أن كان للتراث الدين. الصوفي أمجاده القديمةالصوفي أبناء من العمالقة الذين شربوا هذا التراث وتمثلوه خير تمثيل، وكانوا هم زبدة ما فيه من حيوية وتدفق، أبناء من قبيل

زكريا أحمد السنباطي اللذين كانا أعظم قنطرة معاصرين بين .التراث الديني الصوفي والذوق المعاصر

نفسها وقد اسمتدت أم كلثوم قدرتها على التماسك وحفظبعيدا عن الهبوط إلى المستويات السائدة من اتصالها ببيت آل عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق، ومما ال شك فيه أنها عن طريق هذا البيت تعرفت على النخبة المثقفة واستمدت منها زاد ا ثقافي ا وطني ا تستعين به على تفسير ما طرأ على حياتها في

ذه العالقات بدأت تنتبه إلى أهمية وبفضل ه. المدنية من جديدالثقافة بوجه عام والثقافة الوطنية بوجه خاص وهكذا تكونت

.شخصية أم كلثوم من مضمون مرى خالص وطاقة اإلصرار في نفسها كانت قوية جد ا ألنها تكونت عبر طريق شاق غير معبد، وكانت تعرف أن جمهور المدينة

ه ما يستهويه، ولكن إصرارها لن يستقيم بين يديها إال إذا غنت لعلى التمسك باللون الديني ضرب المثل على قوة اإلرادة التي هي جزء من قوة الشخصية، لقد صممت على أن تتحدى هذا الجمهور الذي تعرف أنه غير رشيد فيما يختص باألذواق

ونجحت في التحدي وفرضت عليه لونها الذي تجيده . الغنائية .بالشعب إذ هو تراث هذا الشعبوتعرف أنه هو األليق

إن : ويحضرني تعبير لطيف لعبد الوهاب يقول فيهصوت أم كلثوم كان صوتا زعيما، بمعنى أنه حين يتكلم أمامك فالبد أن تنصت وبدقة خوف ا من أن يفوتك شيء هام مما ينطق

!به هذا الصوت، فما بالك حين يغنيتب الكبير وفي دراسة ضافية له عن أم كلثوم يقول الكا

ولكنها صاحبة الموهبة الفذة وابنة الشعب « : فتحي غانمالحقيقي من الفالحين الفقراء، أولئك الذين اكتشفوها وكانوا أو من منحها حبه، استطاعة أن ترتفع فوق الطموح الضيق ألفراد . الطبقة المتوسطة، وخاضت غمار االلتزام الفني للمبادئ

وبة وحيوية متجددة وارتفعت إلى والمثل العليا فمنحت فنها خصأعلى القمم مع كل خطوة تتقدمها مصر كطليعة عربية للثورة

وهي تعلم أن « : ويقول أيضا. »وقاعدة التقدم والنضال جمهورها قبل كل شيء بشخصها هي، ممثال في صوتها، قبل

ولذلك فرضت أم كلثوم صوتها . أن يهتم بكلماتها أو بألحانهاكان لها الحق األول واألخير في اختيار على اللحن، كما

وتعديلها مهما كان الشاعر الذي يؤلف » الكلمات التي تغنيها أغانيها، شوقي أو رامي أو بيرم التونسي، ما ال نعدو الحقيقة إذ قلنا أنها شاركت في تلحين وتأليف أغانيها بما أحدثته فيها من

ألم كلثوم تغييرات مختلفة، وليس أدل على ذلك من سماعك وهي تغني اللحن الواحد، فتطيل فيه لمدة ساعتين إذا أرادت أو تختصره لربع ساعة إذا أرادت، فوصتها أهم عندها وعند المستمعين إليها أيضا من اللحن ذاته، وما يكاد صوتها يرتفع بالغناء حتى تخفت اآلالت الموسيقية، لذلك تشهد في غناء أم

من ناحية والموسيقى من ناحية كلثوم معركة فذة بين الصوت .»أخرى

وكان األستاذ فتحي غانم قد أخذ عليها اهتمامها بصوتها أكثر من الالزم حتى أنها ابتعدت عن المشاركة في المسرح

من أيام أم كلثوم ترد . الغنائي ومحاولة خلق األوبرا المصرية : عليه رد ا منطقي ا يكشف عن ثقافتها الفنية العميقة، قالت

إن لي رأي ا فيما كان عليه الغناء المسرحي في مصر، « إنه لم يكن أوبرا وال أوبريتا وال غناء مسرحي ا بالمعنى المفهوم، كان مجرد أغاني فوق المسرح، وال تنسجم مع القصة المسرحية، بل هي تقطع سباق القصة، وتقف المغنية أو المغني

لموسيقى في جانب ليؤديا دورهما، فتصبح األغنية في جانب واوالقصة نفسها في جانب ثالث، وال يربط بين هذه العناصر الثالثة، األغنية والقصة الموسيقية، أية صلة غير اجتماعيا

ولم أرض عن . بالصدفة في مكان واحد فوق خشبة المسرحهذا األسلوب في الغناء، فإما أن تكون لدينا أوبرا وأوبريت

عن الظهور على المسرح ال غنى بطريقة فنية سليمة، أو إمتنع .»خالل مسرحية أعتقد أن الغناء ال يتفق معها

وتحدد هذا النموذج األوبر إلى الواجب تقديمه في مصر نحن نستطيع بالموسيقى الشرقية واآلالت الشرقية أن « : فتقول

نقدم أوبرا صادرة من تراثنا وحياتنا وتبهر العالم كله، وفكرتي :تلخص في النقط التاليةعن هذه األوبرا ت

االعتماد على التراث الموسيقي القديم وال أقصد به -١.. األلحان القديمة بذاتها أنها تستلهم روحه وتربطها بواقع حياتنا

وهو يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص في األندلس وفي أيام العباسيين وإخراج تابلوهات تستمد أصولها من هذا التراث

. قصة مناسبةوتؤلف لها إعداد أصوات مختلفة لتشترك في الغناء وإعداد -٢

.كورس غنائي مدرب المحافظة على اآلالت الشرقية والمقامات الموجودة -٣

في الموسيقى الشرقية وال توجد في الغربية، وأن نصنع آالتنا الموسيقية في مصر ألن اآلالت النحاسية والخشبية التي تصنع

لو تحققت هذه .. يع أن تؤدي الربع مقامفي الخارج ال تستطأما . الظروف كلها فستري مولد األوبرا المصرية كفن حقيقي

إن غامرت بالمال في سبيل فني، : كالمك عن المال فأقول. غامرت بالمال يوم قررت أن أغني المعاني الدينية والوطنية

لقد نصحني الكثيرون بأن أعدل عن هذا النوع من الغناء، يظنون أن الجمهور ال يهتم إال باألغاني العاطفية أو وكانوا

الخفيفة، ولكني صممت على تقديم أشعار شوقي وفيها ريم على القاع بين البان والعلم، وفيها االشتراكيون أنت أمامهم وهي معان وألفاظ بعيدة عن معاني تعاليلي يا بطة يا شاطر نروح

قيم ا دينية ووطنية إن ما قدمته لجمهوري كان يحمل.. القناطروكان من الممكن أال أنجح في إقناع الجمهور بأن يستمع لمثل هذه األغاني، ولكني نجحت في ذلك، وهذا هو أعظم انتصار لي، وكم كنت سعيدة في إحدى الليالي وأنا خارجة من مطعم في الشاطبي، فسمعت وأنا أركب عربتي صوت ا يغني أبا

من كباريه على الكورنيش، الزهراء وكان الصوت صادر ا وأحسست أن وصول هذه المعاني إلى ذلك المكان وانتشارها على هذا النحو دليل على ارتقاء الغناء في مصر، فما كان أحد

يتصور منذ زمن قريب أن تنتشر بين الناس غير األغاني .الخليعة المبتذلة

تكتشف هذه الكلمات عن أن أم كلثوم لم تكن مجرد الصوت أو حسنة الحظ، إنما كانت شخصية قوية مطربة حسنة

تعلم وفق تخطيط مدروس وثقافة عالية، وبها ارتقى فن الغناء العربي حقا، وبها أصبح المطرب شخصية اجتماعية بارزة لها احترامها ومكانتها في المجتمع بل أصبح أقوى من الزعماء

.والساسة والحكامأمامي رأيها في وفي ذكرى هذه الفنانة العظيمة يقفز

األوبرا واألوبريت فأتمنى أن ينتبه الموسيقيوم إلى كلماتها السابقة وأن يقدموا على محاولة خلق األوبرا واألوبريت العربية، فقد مللنا من الغناء الفردي الذي يبد أن عصره قد

.انتهى

صورة

الشارب األبيض فوق الشفة العليا كحزمة من الفل، . ر في الفوذين كلمسة من الضوء كانعكاس القمروبياض الشع

البسمة فوق الشفتين وبين المالمح من تحت الشارب تتسرب لتغرق بقية الوجه بزيتها، فتنبسط لها كافة األسارير حتى

المالمح ساذجة والنظرة فيلسوفة مآلنة . أسارير وجه الرائي بالذكاء واألسى، ربما من كثرة ما رأت وترى، الرأس صغير

دقيق رغم عظم ما فيه من معلومات وآراء وفلسفات وعصور لو نظرت في وجهه لخيل إليك أنك أمام . تنوير وحضارات

إحدى عجائب الكون السرمدية الغامضة، قد ال تعرف ما هي على وجه التحديد ولكن شعاعا من التقدير والشعور باألهمية

الفالح البد أن يظل عينيك نحوه، ربما خيل إليك إنك أمام المصري القديم الجديد، بهدوء مالمحة وإنسياب أعصابه في منحدرات، كتلك المنحدرات التي تنزلق عبرها المياه بكل حنان دافق إلى المناطق السفلي من األرض لتعطيها حقها من الرواء

طويل كشجرة الجزورين، خصيب . واالرتواء والبهجةل، أسمر كظل الفروع كأراضي المنوفية، عذب المذاق كمياه الني

على األرض ضاحك على الدوام كجدة عجوز استحالت في عينيها الدنيا بكل عقدها وآالمها ومشاكلها إلى مجرد حدوتة من

أن – بلذة عظيمة –الحواديت التي بال حصر يتعين عليها الحدوتة الطويلة ال تنتهي وان . تحكيها لألحفاد وأحفاد األحفاد

كل مرسى واآلخر طريق جميل تقطعه حفلت بالمراسي، بين بين حقول وغابات وطرق مرصوفة ومصانع ومناحل ومزارع، تماما كالثقافة الكامنة في خلفية الجدة العجوز مزاج هي من

من . موردات الشرق ومستحدثات الغرب ومنجزات المتفوقينبين المتفوقين هو لكنه ال يقيم وزنا لذلك بل يمضي في ركب

حد خلق اهللا العاطلين من كل موهبة، كأنه يكره الحياة كأنه أالتميز ويخشاه ويتجنبه، أبدا ال يحب أن يحيط نفسه باألهمية وأن استسلم للذين يحيطونه بها، يتابعهم بنظرة فالحية فيلسوفة محبة تدرك أن المحيطين ربما قصدوا أنفسهم بالتكريم واألهمية

ا أنهم طيبون قبل أن يقصدوه هو على التحديد، يدرك أيضمحبون مقدرون، يدرك كذلك أنهم وهو أحوج ما يكون إلى التقدير والرعاية فينضوي تحت لواء التمثال الذي ينبغي أن يضع نفسه في جوفه وإال عبثت به يد البلى غير آبهة وال

كاتب وصحفي وفالح وفيلسوف وعظيم وامسه توفيق . مقدرة .الحكيم

فعالم –في كل وقت وآن والبد أن أتذكره –إن اتذكره البيريه « حافل مترامي األطراف تزين واجهته الفتة مكونة من

والعصى العوجاية والحمار، فال يمكن أن اتخيل توفيق الحكيم » إال والبيريه الجميل يمد على جنبه الصغير مظلة صغيرة تضيع في ظل ابتسامته، وال يمكن أن أتذكره إال مفكرا بل مستغرقا

كير العميق، وال يمكن أن أراه مفكرا إال وذقنه مرتكنة في التفعلى العصا العوجاية تتابع الكون العريض في نظرة حانية

وال يمكن أن أتذكر الفيلسوف الحكيم إال . عريقة هي األخرىوتذكرت الحمار، بل لقد انعكست اآلية في نظري وأصبحت ال

شيال أرى الحمار إال وأتذكر الفيلسوف الحكيم الصبورأشهد أن توفيق الحكيم خلد شخصية الحمار في أدبنا . الحمول

الحديث كما خلده في وجداننا، لقد حول إحساسنا تجاهه وفرض علينا أن نتعامل معه ليس باعتباره ذلك الحيوان الذي نستخدمه في نقل السباخ ونقل مؤخراتنا، بل باعتباره شخصية ربما كانت

وأكثر مدعاة للتقدير وأكثر جدارة أعمق من الشخصية اإلنسانيةتحدث توفيق الحكيم على لسان الحمار فجعله فيلسوفا . باالحترام

عميق الرأي نافذ البصيرة، جعله يقول الحكم واألمثال والمواعظ التي يرتدع من سالمة معانيها البشر، ويدلي برأيه

في البداية اكتشف توفيق . في القضايا السياسية والبرلمانيةحكيم شخصية الحمار كرواية وفيلسوف بعد قصة طريفة ال

–جميلة كتبها بعنوان حمار الحكيم، وهي قصة مستوحاة من ارتحاله في قرى مصر أيام كان –كمعظم قصصه الجميلة

يعمل في سلك النيابة، وكان الحمار يظهر فيها كأحد أبطالها من البشريين ويتبادل الحوار مع صاحبة ومع اآلخرين كغيره

ثم إذا بتوفيق الحكيم يكتشف بد ذلك عبقرية الحمار . بني البشرفيقرر أن يفيد بها القراء، فيتستر وراءه ويقدم كتابات عميقة

.حماري قال لي: جدا تحت عنواننفس الشيء حدث بالنسبة للعصا، فقد اكتشف توفيق الحكيم عصاه فتحدث أيضا على لسانها حديث الفلسفة واألدب

عصا « وقد جمع كل ذلك في كتاب اسماه . والمجتمعوالسياسةتحولت فيه العصا إلى صوت » في الحكيم في الدنيا واآلخرة

كالمأثقور الشعبي يستخدم لغة رغم شدة فصاحتها وثقافتها تبدو بدائية كلغة المأثور الشعبي تستهدف كافة العقول بكافة

دليال إلى المستويات فتلجأ إلى الرمز الميسور غير المبتذل تحدثه العصا مثال عن لعبة الكرات في . المعاني العميقة السامية

يد الحاوي كمعادلة للعبة الحياة في يد القدر، وكيف أن اإلنسان

المال والجاه وراحة البال : ال يستطيع أن يحتفظ بالكرات الثالث في يديه لمدة طويلة أن استطاع أن يحتفظ بها أصال، إذ البد –

حدى الكرات ويفقد اإلنسان جانبا طالما استهواه وتمناه أن تقع إ غير أن عصا الحكيم لم تصل أبدا إلى ما وصلت إليه –

شخصية الحمار، حيث ظل حمار الحكيم أكثر فلسفة وأعمق نظرة وأشد ظرفا، ربما ألسباب فنية محضة هي أن توفيق الحكيم في األصل فنان حتى النخاع قبل أن يكون شخصياتها

فكارها غائصة في تراب الواقع المحسوس مهما بدت وأتجريدية، وإن المسرحية الذهنية إن كانت تسميتها على شيء من الحلل فإنها مسرح لألفكار خصيب، ألن المسرح في النهاية يختلف عن الفن الروائي والقصص في أن التجريد مستحب فيه ال إلى درجة كبيرة إذ أنك ككاتب مسرحي تخاطب جمعا هائ

انتقل من بيوته خصصا وقطع تذاكر ومسافات لكي يتفرج عليك، فعليك أن تنجح في نصب سامر الفرجة بإطار فني يستوعبه هذا الجمع الهائل التنافر، ثم عليك بعد ذلك أن تهرب من التخصيص والتفصيل قدر اإلمكان وتلجأ إلى التعميم المبني

ويحسه على تخصيص سابق وتفصيل سابق يفهمه الجميع الجميع لكن هذه الخصيصة في المسرح تضخمت كثيرا لدي

المفكرين الخل ص الذي اقتحموا ميدان المسرح ونقلوا إليه أفكارهم ومعاركهم الخاصة، مستفيدين بإمكانياته الفنية في تحويل قضاياهم الفكرية ونظرياتهم إلى شخصيات تروح وتجئ

نيا قد ال يحسها وتتحرك وتحيا لكن جمهورها إن استوعبها ذهوإن فهمها قد ال يقتنع بها، هي على أي حال لها جمهورها

وقد درس توفيق الحكيم فن المسرح في فرنسا أحد . الخاصمهاد المسرح الالمعة، واجتذبه هذا الفن اجتذابا عظيما ليس لقيمته الدرامية بل لقيمته الجدلية الخالصة، فمعنى الجدلية هي

يكون ثمة حوار خصيب مثمر يأخذ أن تتأثر تؤثر، هي أن .ليعطي فيأخذ ليعطي وهكذا

توفيق الحكيم اجتذبته القيمة الجدلية للمسرح قبل القيمة الدرامية ألسباب خاصة على رأسها أنه قادم من بلد تضطرب أرضه بالقالقل، من مجتمع يتأهب لمناهضة المستعمر، وتنبت

لمجتمع بدرجة فيه شخصيات وطنية تريد أن تكون مؤثرة في اكبيرة، عن طريق السياسة أو العمل الحزبي أو الخدمات

وقد سيق .. االجتماعية أو عن طريق الصحافة واألدب والفنتوفيق الحكيم في صغره إلى سلك التعليم النظري الذي يؤدي

القوم ومن .. إلى النتيجة التي يطلبها أبوه، أن يكون من عليه

يكون في األصل محاميا متخرجا رجال السياسة األفذاذ، أي أن من مدارس القانون األجنبية، تقديس الشعب المصري في ذلك الوقت لشخصية المحامي ليست تدل على كثرة الخصومات أو رواج القضاء إنما تدل في األصل وبالدرجة األولى على ما كان للمحامين من دور ملموس في مناهضة المستعمر ورفع

والقومية، من مصطفى كامل ومحمد فريد راية الوطنية والثقافةإلى سعد زغلول وغيرهم، وقد حفلت ثقافتنا الحديثة بكتابات أدبية قصصية روائية ونقدية وصحفية متأثرة إلى درجة هائلة جدا باألساليب المحامية ولهجات الدفاع والتنفيذ والخطابة والتأثير وما إلى ذلك، بحيث أن الدارس لهذه الظاهرة في

اباتنا طوال القرن الماضي يستطيع أن يلمس في األساليب كتوكان طموح توفيق الحكيم يتجانس مع . دالئل كثيرة تؤكدها

طموحات أقرانه من شباب طبقته في ذلك الوقت بصرف النظر األدب والفن، أنه يهوى الفن واألدب إلى حد » هواية « عن

ن ينسى ولكنه ليس ينسى بل ليس يملك أ.. التقديس أي نعمطموحه االجتماعي الوطني المتأصل، أن يكون محاميا يصول

مدافعا عن . ويجول في ساحات المحاكم وساحات السياسة معاالناس ضد الظلم، ومدافعا عن الوطن ضد المستعمر، ذلك أن

مرتبة االستعمار وقتها قد وصلت إلى أسلوب ذي مظهر رك متحضر روضت به الشعوب المغلوبة حتى جعلتها تت

السالح في مواجهتها وترفع الرأي وسالح الثقافة وما إلى ذلك .مما يطيل عمر المستعمر فوق األراضي المغتصبة

على أن الصراع لم يستمر طويال عندما سافر الحكيم إلى باريس وأغرق في بحر الثقافة المعاصرة وخلبته آللؤها،

الق، فاضمحل الطموح القديم وبقى في وجدنه طموح الفنان الخوكان يعرف أنه يتحدى ليس فقط أباه وتقاليد أسرته بل يتحدى طبقة هائلة ترى أنه البد لك من اختيار شيء من اثنين أما أن تكون محاميا أو مشتغال بالفعل، فليس من المنطقي وال من المقبول في نظرهم أن تكون محاميا يلجأ الناس إليك للدفاع

نفس الوقت تمشي مع أهل عنهم أمام القضاة، ثم يرونك في الفن من الشخصاتية والراقصات وهم في ذلك الحين من حثالة

إال أن توفيق الحكيم احتفظ في أعماقه بشخصية . المجتمعالمحامي مع تطعيمها بشخصية الفنان والظهور أمام المجتمع بشخصية الفنان بعد أن يوطن النفس على إشاعة االحترام للفن،

التمثيل المسرحي بالذات نوعا ال يمارسه فإذا كان الفن وفن أحد أبناء – وقد تعلم في باريس –أبناء عليه القوم فليكن هو

علية القوم الذي يرفعون من قدر هذا الفن باالنتماء عليه وممارسته علنا، والكشف عن أسراره الحقيقية ودوره الحقيقي

ة سوف لذوي الكعوب العالية، وكان مدركا أنه بعد سنوات قليليكون محل احترام وتقدير ليس فقط من علية القوم بل من أعلى

أما شخصية المحامي التي . رأس في الدولة بل من العالم كلهكانت باقية في وجدانه فإنها تطورت وتحولت من موقف الدفاع إلى موقف العرض البليغ المؤثر، فعرض القضية عند أهم

ال يخرقها الماء ولكنها ال بكثير جدا من مذكرة قانونية مستوفاةتقنع بالبراءة، ولربما كان عرضا ساذجا أمينا ولكنه أحفل

ضاعت شخصية المحامي . بحيثيات الحكم بالبراءة بكل اقتناعفي شخصية الفنان وبقيت منها تلك الرغبة الجدلية في الحوار، ولذلك فالحوار عند الحكيم رغم أنه مرتب كنظرات القانون

والرياضة إال أنه طازج وساخن والذع كالمشمش والمنطق بل .كالبرقوق فواح باألفكار كالنعناع ينعش الدماغ والحواس

أعجب كيف وصل توفيق الحكيم وصوال كامل المعنى في قرية صغيرة من » الخزنة « إلى حجرة ضيقة يسمونها

قرى مصر في شمال الدلتا، وأصبح أسما يردده أفراد أسرة من تلك هي . جراء ليس يربطهم بعالم الثقافة سببالفالحين واأل

« حجرة ابن عمتي الذي كان قد استعار من أبي كتابا اسمه ، فظل يقيم حوله الليالي الساهرة »يوميات نائب في األرياف

في حجرته حيث يتحلقه جميع غفير من أصدقائه وجيرانه يستمعون بشغف أفواههم دهشة من شيء لعله بدا غريبا في

في « رهم في ذلك الوقت، هو أن توجد أشياؤهم الخاصة أنظاأشياؤهم الخاصة « و . يتداوله الناس» كتاب مطبوع بالمطبعة

هذه هي تفاصيل من حياتهم وأسرارها وتعبيراتهم ونوادرها » ومعاناتهم ومرارتها آرائهم في الحكام ولذعها رغم سذاجتها،

القوم أو وعهدهم بالكتب المطبوعة أن تتحدث عن علية الفرسان كعنترة، وأبي زيد الهاللي أو األبطال كعرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل كما يرون في كتب المطالعة

هو » يوميات نائب في األرياف « كان كتاب . والمحفوظاتأعظم مناسبة تعرفت فيها على توفيق الحكيم، وكل ذكريات

مختلفة تعرفي باألدباء والمفكرين يحكمها على حدة ظروف وأحاسيس مختلفة، واذكر أنني حين تعرفت على توفيق الحكيم من خالل يوميات نائب في األرياف أحسست أنني أتعرف على

رجل من أهل منزلنا الغائص في إحدى » قريبي « رجل الحارات في إحدى القرى البعيدة، وسر ذلك هو أن يوميات

في أدبنا نائب في األرياف من عالمات يقظة الضمير األدبيالمعاصر حقا، إذ أننا بإزاء شاب ذهب إلى الريف كواحد من

فإذا به ينضم إلى صف األبرياء – وكيال للنائب العام –الحكام .ويصور معاناتهم وظلم القانون لهم وسوء حظهم األسود

الرأي عندي أن ما حول توفيق الحكيم إلى أسطورة ليس عم البعض، فالواقع أن هو انتماؤه إلى عالم الصحافة كما يز

توفيق الحكيم لم ينتم إلى الصحافة إنما انتمت إليه الصحافة، نعكم هي التي خطبت وده وأقامت له في رحابها عشا هادئا، صحيح أن تواحده في عالم الصحافة كان دائما مصحوبا بأشياء تشاع حوله وترسم له في الذهن خطوطا معينة وهاالت معينة،

لكن هذا . العاجي وعداوته للمرأة وما إلى ذلكمثل مسألة البرجهو شغل الصحافة وهذه جبلتها والحكيم ليس مسئوال عنها وإن كان ال يعفي من االسترسال معها في لعبة الدعاية ومسايرتها

على أن من يدرس . في بعض األفكار والتقاليع وما إلى ذلكذلك ليس توفيق الحكيم في إنتاجه الغزير المتنوع يجد أن كل

إال من قبيل ظرف الفيلسوف الذي يعترف جيدا بأن الوقوف في وجه القطار ليس من العقل، وإن السباحة ضد التيار ليس من البطولة، إنما ألنه فيلسوف فنان فهو يستطيع أن يخلق حوارا

بين األشياء يجمع فيه شتيت المستحيالت ويحولها إلى شيء لسنا بسبيل . معن في الغرابةطريف قابل للتصديق بقدر ما هو م

تقديم دراسة في أدب توفيق الحكيم أو فلسفته أو مسرحه أو استجالء – مجرد محاولة –حتى شخصيته، إنما نحاول

شخصيته التي جرت في حياتنا كاألسطورة المصرية خارقة .التفاصيل مقنعة في مجملها أيما إقناع

صورة

مخ تطل من علياء ترتفع معه عين الكبرياء األخضر الشا من بين غابة كثيفة من الشعر .قامتك تلك هي العلياء النبيل

الكث الطويل ؛ وجبهة عريضة كفخد أبي الهول وقامة عمالقة العين اليمنى أضيق من اليسرى بشكل .كأنها جبل المقطم

كأنما قد دربت اليمنى على الضيق لتساعد ،واضح الفت. .نحو هدف منشود محكمة النشاناليسرى على االنطالق

فالنظرة تطل من هاتين العينين تبدو كأنها في حالة نشان وإنها تنعكس عليها ذبذبات بللورية خاطفة تستقطب ،مستمر

وإن نظرتك لو غاصت في نظراته ،نظراتك إلى داخلهاالمتجددة على الدوام فستنفذ من خاللها إلى عوالم أكثر رحابة

الوجه مستطيل . .رونة وصفاء وكبرياءوثراء وأريحية ومممتلئ تتجسد مالمحه النبيلة في ابتسامة ساخرة مريرة تنعوج

يخرج ،بها الشفتان كأنما تنطويان على سر األزل الرهيبصوته من بينها على استحياء كصوت عذري لم يرتكب فحشاء اللفظ كأنه ال يزال ملفوفا بغالف المصنع تلمع من خالل اللفائف

نيقة بوارق من معدنه األصيل وتنسرب اللفائف عنه حين األينبر في إلقاء أشعاره فيبدو حينئذ كفيلسوف يتعبد في محراب

كتوم صموت هادئ األعصاب .الكون العظيم بصلوات عظيمة

مصطخب األعماق بدفق حيوي جبار ،كصفحة النهر الخالدو تمور في موجاته الدسمة أنبل األحاسيس وأغرب الرؤى وحل

يقضي الساعات الطوال في محبته ، صديق كان للنهر.التجليات حيث ،بال ملل في ليل قمري مصري السمات واإلشعاعات

يتحضر جسد النهر بين خيمتين من ضوء القمر أحداهما في عن رأيته .أرضه البعيدة الغور واألخرى في سماته الالنهائيةاألعماق الذي صدفة هكذا فاعلم أنه ذلك الشاب الفتى النفس و

ضيعت . شابت على فوديه الليالي فما زادته إال وهج ا ووضوح ا ولربما ،الجبال عمرها وأبدا ال ينتهي الحوار بين الشاعر ونهره

توحد كالهما باآلخر من فرط ما امتد بينهما من جدل مثمر .خالق

النهر الخالد لمحمود حسن إسماعيل البد أن تنتشر كلماتها لم أكن قد رأيت .الوجدان ففيها عذوبة الطمىوموسيقاها في

النهر رؤية العين ولكن الصور الشعرية المتدفقة في هذه األغنية العظيمة كانت تتهادى على صفحة المخيلة كالقوارب

فأحس في مسراها بعمق النهر ،والزوارق الملونة الساحرة لقد نقلت النهر إلى مخيلتي كأنني ،وانسيابه وشموخه وعظمته

فلما رأيت النهر وعشقته لم .مولود على إحدى ضفافه مباشرة

تتضاءل األغنية العظيمة بل ظلت كأنها وثيقة تدل على هوية .النهر

وكما ، تشملك رهبته فيما أنت مقبل عليه،وكالنهر كنأنك ال تستطيع أن تلقي بنفسك إلى النهر دفعة واحدة وأنت ال

قتحم محمود حسن تجيد السباحة فكذلك ال تستطيع أن ت ليس سهال على اإلطالق أن يعطيك نفسه بله أن ،إسماعيل

.يعطيك صداقته فإنك البد شاعر بنشوة ،أما أن أجدت السباحة في نهره فالح صعيدي هو في .بالغة وأنت تتهادى بين أمواجه العذاب

األصل قبل أن يجئ من بلدة النخيلة حيث النيل في أشد مناطق لتحق بكلية دار العلوم ويصبح في سنوات اتساعه وروعته لي

يلقي بإحدى قصائده ، قليلة جد ا شاعر الدراعمة دون منازعفينتزع اإلعجاب ويثير الحماس والرعدة في أفئدة الطالب

حتى لقد احتضنه حزب األحرار الدستوريين حتى ،والمسئولينالحذرة ولكن طبيعته الفالحية،كاد أن يصبح شاعرهم الخاص

ال تأمن ألهل المدنية ابتعدت به عن التيارات السياسية وما التي ثم أن طبيعته ،قد تجره عليه من مشاكل هو في غنى عنها

الشعرية أيض ا ليست من النوع الذي يستخدم في تهييج الجماهير

، إنها طبيعة وجدانية غنائية خالصة،وإثارة الحماس األجوفلوظيفة يستعين بها وهكذا هرب من سرداق السياسة واحتمى با

على سد الرمق والجوس خالل أحشاء الطبيعة البكر يستنطقها تنعكس طبيعته كفالح .وتستنطقه بأروع الصور والمعاني

أن تعجبه الفكرة ،صعيدي على طبيعته كشاعر مغرم بالطبيعةأو الصورة يلبد لها في حقل الذرة ويظل يترصدها حتى إذا

أوقع بها في قبضة خياله مرت عليه بليل أحكم النشان و . وبصبر شديد يظل يسويها وينميها ويحجم عودها،الخصيب

.هو الفالح والقصيد شجرة باسقة تتفرع بالعناقيدانتقل بالشعر انتقالة جريئة قامت عليها أبنية معاصرة هو

وكانت المدرسة الكالسيكية قد ،أب الشعر الحديث بال جدال كبار بلغوا ذروة النضج في أفضت بكل ما لديها من أساطين

وجاءت ،األداء الشعري العمودي عند كل من حافظ وشوقيمدرسة الديوان التي تزعمها عباس العقاد والمازني وشكري لتحرث أرض الشعر العربي وتعرض باطنها لضوء الشمس

ونادت بوحدة ،الالهبة حتى تتطهر من كثير من األوهام الفنية وقدمت نماذج ،ة القافية والعامودالفكرة والموضوع ال بوحد

وكان من حسن الطالع أن تعانقت ،يعتد بها للعقاد وشكري

طليعة عربية تعيش في المهجر يتزعمها ميخائيل نعيمة ونسيب التي ، ثم جاءت مدرسة أبوللو،عريضة وجبران خليل جبران

قدمت نماذج من شعراء كان لهم دورهم الطليعي الرائد من وكان محمود .د طه وأحمد زكي أبو شاديطراز علي محمو

حسن إسماعيل يقف نسيجا وحده بين الرومانسيين من أبناء خياله مختلف عن خيالهم وصورة مختلفة عن صورهم ،عصره

كان غريبا حينذاك أن يصدر ديوان شعر .وقاموسه متفردذلك أن عالم الشعر الرومانسي كان » أغاني الكوخ « عنوانه

ر الحياة الواقعية الصرفة ويعلو عليها يترفع عن مظاه ولكن محمد حسن إسماعيل بنضج ،باعتبارها من سقط المتاع

مبكر ووعي عميق اكتشف أن الرومانسية ليست أبد ا انفصاال وإنما هي في النفاذ إلى جوهر هذا ،عن الواقع األرضي المعاش

وعل هذا فإن عناصر الواقع الواقعي في شعر محمود ،الواقعن إسماعيل تتحول إلى واقع فني شديد النصاعة يبدو كأننا حس

أنه يتيح لنا أن ، نكتشفه ألول مرة رغم أننا نغرق فيه واقعي ا أنه قادر على أن يعيرك ،نحيا الواقع برؤية جديدة ووعي جديد

وحينئذ ترى في الواقع صورا ،بصيرته الناقدة لكي ترى بهاداليلها وإيحاءاتها ما يثرى وتدرك من م، وأبعاد ا ال نهاية لها

أغاني الكوخ « .وجدانك ويضاعف من حجم تجربتك الشعورية« و » نهر الحقيقة « و » ابن المفر « و » هكذا أغني « و »

ليست مجرد ،»موسيقى السر « و » السالم الذي أعرف دواوين تضم قصائد بل هي أبنيه شامخة في مدينة الشعر

.العربي الحديث والمعاصر فهو كفالح .الصدق مع النفس ومع الطبيعة دينه وديدنه

صعيدي عشق الطبيعة وعشق النهر لم تستطع ثقافة المدنية وال فظلت رموزه الطبيعية قد ،رموزها أن تفصله عن الطبيعة

والبد أن يقشعر بدنك ويقف شعر ،نطقت بصوت الطبيعة نفسهار أو رأسك كأنك تستمع إلى خرير جدول أو شقشقة عصافي

لكأنك تستمع ،زئير الرياح أو حفيف األشجار أو هطول المطرإلى صوت الضمير الكوني الرهيب يهزك من أعمق أعماقك ويملؤك بالحنين إلى الطبيعة والرغبة في العودة إلى المنابع

قرأت مرة كلمة للشاعر المرحوم صالح عبد الصبور .األصليةالجنون والرفات والهشيم أن قاموسه هو التهاويل و « :يقلو فيها

عالم . .والهياكل والرهبان والبوم والدجى والصخور والضجيج .»ملئ برقة كأنها العنف وموسيقى كأنها الصخب

عاش مغبون ا ومات . أبد ا لم تعطه الحياة شيئ ا مما يستحقمغبونا ولكنه مات رافع الرأس شامخ الهامة لم يحنها ألي

وكان حاد ا قاسي ا مع العمل كأنه .اعتبار مهما ألم به العوز ال يعرف المجاملة وال التدليس وال التهاون في ،الضمير اليقظ

ومكان يعرف ويدرك أنه . وال يتراجع عن قوله الحق،الواجبلكل هذه األوصاف النبيلة ربما يكون مكرها من بعض ،المدنسين أو المجاملين أو المتهاونين أو المفترين على الحق

وكان ،ما كان غير مرغوب فيه من مثل هذه األوساطوإنه رب ذلك يسبب له شقاء عظيم ا ولكنه كان يستعين على شقاء الحياة

.وغدر الزمن بسالحين قويين هما الظروف والعزلة وعضو ا بلجنة ، كان مسئوال كبير ا بهيئة اإلذاعة ذات يوم

وكان في كل اجتماع ،النصوص التي تقرر األغاني أو ترفضها يوافق على نصوص معروضة يعرف جيد ا أنها أقل من أن

ولكنه يضطر جيدا أنها أقل من أن تستحق ،يستحق موافقته ولكنه يضطر إلى الموافقة عليها باعتبارها أفضل ،موافقته

ولكنه ال ينسى أن يضمن موافقته رأيه الحقيقي ،الموجود المتاح .ةفي النص بجملة أو ربما كلمة تفيض سخرية ومرار

وألنه مسئول فقد آلي على نفسه أال يقدم للجنة أيا من ومعظم قصائده التي ، ومعظم قصائده الشعرية،قصائده الشعرية

حدث ذات يوم أن .لحنت وغنيت أخذها الملحنون من الجرائد وحين دخل ،جاء المذيع أحمد حمزة ليقرأ نشرة األخبار

وسارع ،ته فثارت تائر،االستديو لم يجد كرسيا يجلس عليه ،بسحب ورقة وانبرى يكتب مذكرة عصبية تندد بهذا الوضع

وطرق مكتب محمود حسن إسماعيل وقد م له المذكرة ووقف منتظرا أن يهب الشاعر الكبير غاضبا لهذا الوضع وأن يأمر بالتحقيق فور ا ولكن الشاعر الكبير نظر في ساعته فوجد أن يأم

فعاد ينظر ،دقائق معدودةموعد النشرة لم يبق عليه سوى بضع ولكنه ، إلى المذيع جاحظ العينين يريد أن يقول له كالم ا كثير ايؤدي « :بكل بساطة سحب القلم وأشر على المذكرة قائال

وحين نظر المذيع في . ثم أعادها إليه.»المذيع عمله واقفا فعاد أدراجه ، عيني الشاعر الكبير وجدها قد انصرفتا عنه تمام ا

.االستديو وتصرفإلى بحـي » عبـد اهللا « الذين كانوا يجلسون معه في قهوة

الجيزة في المساء لتمتد بينهم المناقشات والمحـاورات الفنيـة كانوا جميعا من المقربين إليه، ألنه لم يكن من السهل أن يجلس

من بينهم أنور . غير مقرب إليه – أيا كان مركزه – مع شخص اوي ونعمان عاشور وغيرهم، إال أنهـم المعداوي وزكريا الحج

جميعا لم يكن أحد منهم يعرف على التحديد مقـر سـكنه وإن . كانوا يعرفون أنه من سكان حي الجيزة

ومن الطريف أنه صديق لنعمان عاشور وكان يختصـه بساعات من الصفو يقضيها معه على شـاطئ النهـر جلسـته

يصطحبه إلى البلـد المفضلة، بل كان أحيانا يزوره في منزله ل حيث كان مقر عملهما متجاورا، وكان نعما عاشور يعـرف أن مبدأ العزلة أحد مكونات شخصية الشاعر الكبير فلم يحـاول أن يفرض نفسه عليه ويسأله عن مسكنه، والطريف أنه بعد سنوات طويلة اكتشف نعما عاشور أن الشاعر الكبير يسـكن بجـواره

. مباشرة عن الدنايا بل كان مترفعا حتى عـن عفوفا كان ومترفعا

طلب حقوقه الشخصية، وليس استهانة بنفسه أو بحقه بل تقديرا لهما واعتزازا، فطول عمره يؤمن بأنه يجب أن يكـون محـل تقدير وإعزاز، ويشعر أنه إذا سعى في طلب التقدير الواجـب فكأنه ترخص ونزل من قمته العالية إلى حضيض ال يرضـاه

كن عدم التقدير يصيبه بشـيء مـن اإلحبـاط أو ولم ي . لنفسه

التراخي في العمل بل يدفعه إلى مزيد من التجويد واالجتهاد في العمل حتى ولو كان هذا العمل بعيد عن مجال مواهبه، لدرجة أن إحدى الحكومات ألقت به في وظيفة التدريس وكانت أبعد ما

مـن تكون عن طبيعته، لكنه احتملها بصـبر يفـوق الحـد، و يروى صديقنا األسـتاذ – عالمات ظرفه في مثل هذه الحاالت

أنه كان موظفا بإحدى المصـالح – سامي محمد والعهده عليه ولم تكن هذه المصلحة تعطيه من مظاهر سوى كرسـي قـديم مهزول، وذات صباح أشتد عليه البرد القارس في الغرفة فجاء

بكل كبيـراء بدلو وكسر الكرسي واشعل فيه النار وجلس يتدفأ . وشموخ

يروى صديقنا األستاذ نعمان عاشور أن الشاعر الكبيـر أحس ذات يوم بالضائقة المالية تشتد عليه أكثر ممـا ينبغـي، لدرجة أنه عجز تماما عن عالج ابنته في الوقت الـذي كـان اسمه يرن فيه كالجنيه الذهب، وقصائده المغناة تمأل األسـماع

وقصـيدة » الشرق بأعذب األلحـان سماء « ليل ونهار وتعبق النهر الخالد تطوف جميـع أنحـاء العـالم فتصـل مبيعـات اسطواناتها إلى مائة ألف نسخة وهو رقم مهول بالنسبة لمقاييس ذلك الوقت، في حين أن شاعرها الكبير قد حصل في مقابلهـا

على بضعة جنيهات معدودة ال تساوي ثمن القهـوة والسـجائر مه ليكتب هذه القصيدة العظيمة، بل ال تساوي التي أحرقها في د

أن يمد يده الكريمة ليقبضها، لكنه قبضها ولم تطاوعـه نفسـه األدبية على المساومة في األجر ألن الشعر في نظـره شـيء يفوق مبدأ المساومة ويعلو عليه، الشعر مبدأ وغايـة، ومهمـا

ثمنا قبض الشاعر من نقود جزاء شعره فإن هذه النقود ال تسمى » المكافـأة « لهذا الشعر وان لم يقترب حجمهـا مـن حجـم

صحيح أن القصيدة تدر دخال ينافس جريـان النهـر . الواجبة الخالد ولكنه ألتزم بموقفه تجاه هذا التفكير الرخيص، بل لـيس هو بالذي يعرض مأساته الشخصية على أصـدقائه وأن كـانوا

ه الذي يتحمـل مقربين، إن أحزانه هي متاعه الخاص وهو وحد . ثقله وليس على اآلخرين أن يشاركوا فيه بأي قدر

على أن الضيق حين يؤدي إلى االختناق تعلـن المأسـاة وهكـذا قـرر خلصـاؤه أن . عن نفسها بنفسها وفي نبل عظيم

فراحوا يزينون له .. يتدخلوا وإن أدى ذلك إلى اتهامهم بالتطفل اله قانوني في أداء فكرة االتصال بعبد الوهاب وأن يطالبه بحق

علني مقرر، وكان من بين األصدقاء واحد من كبار المحـامين فشرح له األمر من الوجهة القانونية وقال له أن عليه أن يبتعـد

غيـر أن . بالمحاولـة – فقط – تماما عن المواجهة ويأذن لهم الشاعر الكبير ثغارت ثائرته واجتاحه الغضب لمجرد تصـور

ه المكانة التي ال تليق به أبدا وأكـد أنـه نفسه موضوعا في هذ يفضل الموت جوعا وعريا من أن يوضع فـي هـذا الموقـف

أال أن خلصاءه قاموا بتجريب المسألة بشك لدبلوماسي . الشائن لطيف ولبق، ومن حسن حظهم أن عبد الوهاب لم يكن محتاجا لمثل هذه المحاولة بل أن كبرياء الشاعر هو الذي كان يمنعـه

ا من التكم معه في أي مسائل مادية، ودفع عبـد الوهـاب دائم . بعض ما كان يستحقه الشاعر الكبير عن أغنية النهر الخالد

متواضع ذلك التواضع الذي يكون عادة أعظـم بطانـة للشموخ والكبرياء، والتواضع المبني على حقيقة ذاتية ورؤيـة

لبه كـل فلسفية واسعة نافذة، وتواضع األب الكبير الذي وسع ق شيء واحتضن آالم البشرية وعذاباتها وغفر لها كل شـذوذ إال الجرائم، ولعله كصعيدي من أخمص قدميه إلى أعلى شواشـي شعره فإنه يؤمن بمدأ القصاص كسبب إلقامة الحياة الحقة، هذا

ولكم في القصاص حيـاة يـا أولـي : هو قوله تعالى . دع ال تستقيم الحيـاة ال تسـتمر فبدون قصاص ور األلباب

الشعر تبعا لذلك رسالة والقصائد تكتب بلغة الكتـب المقدسـة،

فأنت حين تستمع إلى شعره تحس إنه مكتوب من عهد القـرآن الكريم واإلنجيل والتوراة والزبور وأن كانت صـورة العصـر

القيتني بين شـباك : الحاضر نابضة فيه بكل وضوح وحضور نزعته .. ولك ما يشجي حنين الرباب .. ي نحن وقلت ل .. العذاب أبدا لـم يعتبـر نفسـه . إلخ القصيد الرائع .. أواه يا فتي .. مني

شارعا محترفا يكتب في المناسبات وينشر بانتظام في الجرائـد والصحف السيارة، بل أن شعره ليس سلعة قابلة للنشر فـي أي

لصـلوات مكان، إنما هناك نوع من الشعر يكبته كالمناجـاة كا كالترانيم كالتعاويذ السحرية الغامضة، وهناك نوع آخر يكتبـه

المحظـورات « يعبر فيه عن نفسه النفسية خير تعبير ويسميها ويروى الشاعر فاروق شوشة قائال أن الشاعر الكبير فـي .. »

أواخر أيامه في غربته بأرض الكويت كان قـد أخـرج ملـف يدا النتقاء ما يمكـن المحظورات وشرع في اإلطالع عليه تمه

نشره منه، ولكن يبد أن قدر الموت عاجلة قبـل أن يـتم هـذه وهذا . المحاولة التي يبدو أنه كان راغبا عنها في حقيقة أعماقه

نابع من إحساس شديد بالمسئولية، بمسـئولية الشـاعر تجـاه البشرية والتاريخ وتجاه ضميره الذي تميز عـن بقيـة الخلـق

لى الرؤية والنفاذ واإلدراك والتنبـؤ وأكثـر بكونه أكثر قدرة ع

وهذا يفسر ظاهرة عدم اهتمامـه . على التأثير – من ثم – قدرة بجمع قصائده التي نشرت في دواوين، كأنه كان يعتبرها مجرد شيء عابر في حياته الفينة أما الشعر الحقيقي هو سر مكنون لم

دواوينه ينشر ولم يكتشف عنه بعد، ويروى األصدقاء أن معظم التي نشرها كانت بتحميس من األصدقاء، بل إنه كان حين يقتنع بنشر ديوان يلجأ إلى بعض األصدقاء يستعير منهم نسخا مـن الجرائد التي نشرت بها قصائده، ألنه لم يكن يحـتفظ بنسـخة

! مخطوطة منها رحم اهللا محمود حسن إسماعيل وعوضنا عنه خيرا فـي

. ذاكره العطرة

صورة

منذ أن انتشر الراديو في القرى في أوائل الخمسينات بدأ الغناء الحقيقي يعرف طريقه إلى اإلفهام، ولـم تكـن القريـة المصرية تعرف من الغناء إال لونا معينا من المواويل، ولم تكن تعرف أن ثمة فروقا بين التلحـين واألداء، وكانـت شخصـية

ا فقط وينسب إليها الغناء الذي المطرب أو المغني تشتهر بنفسه ومع ذلك فقـد . تغنيه حتى لو كان هناك من قام بتأليفه وتلحينه

اشتهر في قرانا اسم رياض السنباطي دون أسـماء الملحنـين جميعا، اشتهر كعلم على فن جديد تعرف القرية ألول مرة عبر الراديو اسمه التلحين، فكل تلحين جميل ينسـب إلـى ريـاض

والسبب في ذلك ليس هو صوت أم كلثوم وما . تلقائيا السنباطي . أعظمه، بل األلحان التي كانت تغنيها وما أعظمها

– أي الجرامفـون – وكان في بيننا ما يمسى بالحـاكي ولوال ما دون على أغلفة أسواناته من بيانات لما عرفنا أن ثمة من يسمى بالملحن وآخر يسمى بالمؤلف الغنائي وهما يعمـالن

إله يكون سـامحني أنـا « وكان أغنية . عا في خدمة المغني م التي يغنيها السنباطي بصوته مـن ألحانـه وكلمـات » حيران

حسين السيد قد انتشرت وكشفت عن شخصية مطـرب كبيـر عظيم في شخصية السنباطي ومع ذلك بقى السنباطي في أذهاننا

فيا علما على فن التلحين الدعائية، وفكرت بـأن حـديثا صـح محترما يجريه أحد الشبان المتفهمين حول فن الغناء والتلحـين قد يقنع السنباطي بقبول الحديث، وهكذا يـدفعني الغـرور أن أكون هذا المحرر، ودفعني الخوف من جبروته وقوته الفنية أن التقى بكثير من دارسي الغناء والموسيقى والتلحـين ألتوصـل

ناقش فيها ريـاض السـنباطي معهم إلى أسئلة هامة يمكن أن أ . يحترمها ويجب عليها

ثم أنني بدأت مرحلة البحث عن رقم تليفونه الذي تبـين لي أنه يغيره كل بضعة شهور هربا من أصـوات المتطفلـين، فلما نجحت في الحصول عليه تلفنت له فإذا بالسـيدة العظيمـة

ترد علي في رفق شديد وتستوعب » كوكب عبد البر « زوجه الرجاءات الحارة التي ألقيتها على مسـامعها لكـي تقبـل كل

ويبدو أنها أشفقت علي فقالـت . توصيل أذني بصوت السنباطي أنها سوف تحاول إقناعه وأنني إذا عاودت االتصال بعد يوم أو

وخـالل .. يومين فربما استطعت الحصول على موعـد منـه عات فـي انتظاري ليوم أو يومين استمعت إلى عديد من اإلشا

الوسط الصحفي تقول لي أن السنباطي إذا خضع إللحاحي وقبل مبدأ إجراء الحديث فإنه سوف يطلب نقودا على ذلك وحكوا لي

حكاية طالب يمني جاء من لندن خصوصـا لمقابلتـه ووضـع ! ظروفه الصعبة تحت سمعه ولكنه رفض مقابلته

وتصورت أنني أستطيع التغلب على هذه الناحية الماديـة فتفتق ذهنـي عـن . التي قيل أن شخصية السنباطي مصابة بها

حل تصورته عبقريا؟ إذا اتصلت بإحدى جهات النشر الصحفي وكانت مزدهرة في ذلك الوقت من أوائل السـتينيات، واتفقـت معها على إجراء حوار مع السـنباطي ولمحـت فـي عيـون

خر سهم فـي المسئولين اعتقادا بأن هذا االتفاق لن يتم، فألقيت أ جعبتي واقترحت عليهم أن يرصدوا ميزانية رمزيـة معقولـة بعض الشيء يمكن دفعها لرياض السنباطي مقابل موفقته على إجراء الحديث، وفوجئت بأن هذا االقتراح وهو غريب وجديـد في ذلك الوقت يلقي بعض الترحيب من جانبهم، وقال المسئول

أن يقرأ نص األسئلة التي أنه لكي يوافق على هذا االقتراح البد سيدور حولها الحوار، وأن يكون لهم الحق في إضافة بعـض األسئلة يرونها موضوعية وضرورية في الحوار مع السنباطي، ووافقت على ذلك، ووافقوا بدورهم أن يرصدوا للسنباطي أجرا

وبنـاء عليـه . يوازي أجر لحن في مقابل هذا الحديث الهـام ورجـت علـي السـيدة . نباطي بجرأة اتصلت من جددي بالس

زوجته وما كادت تعرف اسمي حتى ابتسمت وقالـت أن كـل جهودها أثمرت في أن يوافق السنباطي على الرد علـي فـي

. التليفون، فاعتبرت هذا كسبا كبيرا ثم جاءني صوت السنباطي بكل رفق وبساطة يـدعوني

يين حيـث أنـه للمقابلة أوال، وحدد لي موعدا في نقابة الموسيق وذهبت . كان ذاهبا إليها في غرض ما ويستطيع مقابلتي لدقائق

أجري من الفرح، ولقيته هناك فإذا بي أرى عمالقا طويل القامة رفيعها، طويل األصابع يرتدي منظارا، كلنه يمشي كما يمشـي

ثم جلس أمامي قائال فـي حنـو . الناس ويتكلم كما يتكلم الناس إلدالء بأي حديث ال في الصـحف وال فـي شديد أنه ال يجب ا

قلت له ببـراءة أن هنـاك . اإلذاعات حتى ولو كان ذلك بأجر لنفرض أن أجر الحـديث سـيكون : فابتسم وقال . أجرا للحديث

. قـال أرنـي أسـئلتك . أجر لحن مثال أليس كذلك؟ قلت نعـم فألقى عليها نظـرة . فعرضتها عليه في حوالي خمس صفحات

ن كل سؤال من هذه األسئلة ال تصلح اإلجابـة إ : سريعة ثم قال عليه في أقل من ساعة مع استحضار الـذهن والمراجـع، وأن اإلجابة التي ترضيه تحتم عليه أن يأخذ هذه األسئلة ويدرسـها ويجيب عليها في هدوء وروية، ولسوف يمنعه من ذلك أسباب،

اسـخ أهمها أنه ليس لديه الوقت الذي يعطيه لهذا، واعتقاده الر بأن الجهة التي ستذيع الحديث أو تنشره لن تتركه في حاله بـل ستغير فيه وتعدل وهذا ما لن يقبله أبدا مهما تلقى من الضمانات

إننـي ال : ثم أنه طلب لي فنجانا من القهوة وقال لي . الشخصية يجب أن أصدق كل ما سمعته عنه من إشاعات بأنه مادي وأنه

ك، فحقيقة األمـر أنـه ال يسـتطيع متكبر ومنعزل وما إلى ذل التوفيق في شخصه بين الفنان والدعائي، أن الكثيرين يمـألون أعمدة الصحف واألثير باألحاديث، ورأيه أنهم على قـدر مـا لديهم من إمكانيات فنية فإنهم يحرقون هذه الطاقة في األحاديث الفارغة، ورأيه أن التحدث في الصحف كثيرا يجعلـه دون أن

يلتزم أمام القراء أو المستمعين ببعض القضايا ووجهات يدري النظر الفنية التي يطرحها في حديثه وهو ال يحب أن يفعل هذا، إذ أنه البد أن يطرح كثيرا من وجهات النظـر، وإن طرحهـا فسيلتزم بها، وقد تثير بين الملحنـين زمالئـه مـن المشـاكل

اماته وربما إفسـاد والردود ما يساهم في شغل وقته وتبديد اهتم أعصابه، ثم قال كذلك أنه قد وضع لنفسه مناخا صالحا للتلحين ساعات طويلة، وهذا المناخ يتضمن سلوكا فكريا وذهنيا وفنيـا معينا ال يحب أن يجري فيه أي تعديل وإال كـان ذلـك علـى

ثم إذا به ينهض فجأة ويتجه نحو التليفون ويطلب . حساب الفن من المحادثة أنه بيته، وكان ينبه علـى السـيدة أن رقما فهمت

تحتفظ بالشريط الفالني فال تسلمه لفالن كما اتفق ألنه غير رأيه فجأة، وحين عاد إلي لم ينتظر تطفلي لمعرفة موضوع المحادثة فقال إنه اآلن فقط خطر له أن يغير جملة موسيقية معينة سـبق

وأنه اآلن اقتنع بتعديلـه أن صاغها بعدة صياغات مناسبة كلها بمجرد استماعه لواحد ينادي في الشارع هل سمعته؟ قلت لـم أسمع شيئا، قال أما أنا فقد سمعت رجال يتكلم في الشارع اآلن بطبقة معينة وانفعال معين ألهمني أن االنفعال الصـحيح لهـذه الجملة الموسيقية يمكن أن يستفيد بمثل هذه اللهجـة الواقعيـة

ثم أنه استأذنني في االنصراف لموعد هام في منزله، . الصادقة وفي الطريق إلى السلم كان قد شرد تماما وانفصل عني وأخـذ يدندن في غموض، وانتهزت فرصة انتهائه من الدندنة وقلت له ما رأيه لو اعتبرنا هذا اللقاء السريع حديثا ونشرناه؟ فقال باسما

ا كغيـري مـن الـذين نصـاب – عدم المؤاخذة – أنني أكون يدردشون مع الفنانين في التليفـون أي دردشـة فارغـة ثـم ينشرونها اعتمادا على أن صوتهم قد خاطـب صـوت الفنـان

. بصرف النظر عن جوهر المخاطبة

وكنت أهدف من خالل حديثي المقترح معه أن أعـرف لماذا هو عظيم ولماذا هو قد أصبح شخصية اجتماعية كبيـرة،

ت قدمي أرض الشارع وحدي حتى أدركت مـن وما أن صافح خالل هذا اللقاء السريع الخاطف كم هو عظيم، ذلك أن مقومات العظمة في شخص تبدأ أول ما تبدأ باحترامه لنفسـه وسـلوكه وتقدير الكلمة التي تخرج من لسـانه أن العمـل الفنـي لـيس

ومن يومها . مسئوليته وحده، بل أن سلوك الفنان ال ينفصل عنه أحقد على السنباطي ولم تصبني النقمة عليه بسـبب رفضـه لم

. لألحاديث وقد حدث أنني شرفت بالحصول علـى جـائزة الدولـة التشجيعية في نفس العام الذي حصل هو فيـه علـى الجـائزة

وجاءت جلستي في الحفل بجواره، فملت عليه هامسا . التقديرية عمر لم يعد فيـه غ، ال : بطلب حديث بهذه المناسبة، فابتسم قائال

بقية للكالم النظري الفارغ، وأنه يفضل أن يشـغل نفسـه اآلن . بأعمال فنية يسد بها الفراغ الضارب أطنابه في حقل التلحـين

قلت له ولكن أم كلثوم العظيمة ماتت وهي التي كانت تسـتطيع إبراز قوة ألحانك فهل ترى أن موتها كان السبب في أنـك لـم

بيرة باستثناء لحن القصيدة التي غنتها وردة؟ تقدم ألحانا جديدة ك

إن هذا صحيح ولكن التلحين يشبه الكتابة الروائية، : قال مبتسما إنك قد تكتب رواية دون أن تعرف أين ستنشـرها أو متـى أو كيف؟ صحيح أن جهة النشر مهمة في سرعة اإللهام واإلنجـاز

لكي يغنـي ولكنك البد أن تكتب مهما كان األمر، أنني ألحن ال ألحاني أحد، بل لكي أكون قد تركت أبنية متينة تقـف بجـوار

. الهرم األكبر قلت له كان الغناء كفن شعبي قد جعـل مـن أم كلثـوم شخصية اجتماعية كبرى، فما تفسيرك ألن تصبح أنت كذلك من خالل التلحين مع أن التلحين يعتبر فنـا برجوازيـا والملحـن

مجتمعات مثقفة واعية؟ لحظتها شرد شخصية ال تشتهر إال بين إن المجتمع هو الذي تغير وأصبح : قليال، وبصوته الخفيض قال

. يستوعب كثيرا من األدوار التي لم تكن شائعة فيه مـن قبـل وأحسست أن التواضع وحده وراء هذا القول المبتسر فطلبـت

فقال أكثر لطفا أن العقل المصري مـن . إجابة أخرى في لطف ولقد كـان . قول تقبال للتطور واحتواء لظواهره المتفتحة أشد الع

الغناء قبل عبده الحامولي والشيخ أبو العال محمد وزكريا أحمد وسيد درويش مجرد رفع العقيرة بالصوت وتلوين النغم حسبما اتفق مع لحظة االنفعال الوقتية، ونحن جميعا أسـاتذة وتالمـذة

وسيقية العربية مـن خـالل حين اكتشفنا إمكانيات المقامات الم كتاب سفينة الملك وسفيرة الفلك لمؤلفه شهاب الـدين، حاولنـا

عليـا، » مقامـات « استظهارها، فارتفعنا بهذه المقامات إلـى وبحث الشعب كعادته عمن يكـون وراء الكشـف عـن هـذه اإلمكانيات فعرف شخصية الملحن المتخصص غير المطـرب،

. تليق به فرفع الملحن إلى الدرجة التي ثم قطع االحتفال خلوتنا ودخل السـيد الـرئيس لتوزيـع الجوائز ونودى على السنباطي فصعد إلى المسرح عمالقا كبيرا وتسلم الجائزة ثم عاد، وكان يرتدي بنطلونا وسترة عادية كأي

ثـم لمـا . شخص أقل من عادي، ثم جلس صامتا لبرهة طويلة عني، فلما رأتي غمزنـي انتهى الحفل فوجئت به يبحث بعينيه

نسيت أن أقول لك شيئا هاما يتعلق بالمجتمع : في ذراعي قائال المصري والشعب المصري، ذلك أنه شعب يرتفع بمن يحـاول االرتفاع به، وليس كما يشاع عنه مياال إلى السطحية واالبتذال،

في مجتمع فني تسود فيـه – أم كلثوم وأنا وغيرنا – لقد ظهرنا بتذلة رخيصة تجد شـهرة ورواجـا ال قبـل ألحـد أغنيات م

مقاومتهما، وكان االعتقاد بأننا إن لم نحاول تقليد هذه األغنيات الرخيصة فإننا لن نجد ألنفسنا مكانا في عالم التلحين والغنـاء،

أدركت أن ذوق الجمهور المصـري – أو أنا بالذات – ولكننا سـود الـذوق ليس مطبوعا على المستوى الرخيص، وإنمـا ي

الرخيص ألن القيادة الفنية للمجتمع تميل إلى الرخص وإنحدار وأنا شخصيا فكرت في مثل شـعبي يـردده المجتمـع . الذوق

المصري منذ عشرات القرون وهو مثل شعبي يردده المجتمـع المصري منذ عشرات القرون وهو مثل بسيط جدا، لكنه شـديد

، وحقيقة معنـى هـذا » ع اللباني طال « : العمق، أن المثل يقول المثل أن كل من يعمل عمال بنائيا متقنا فإنه يرتفع مع جدرانـه إلى القمة التي تصل إليها الجدران، والمعنى رمزي طبعا، ولما اقتحمت ميدان القصيد الشعري الفصيح لم يكن فـي ذهنـي أن نسبة قليلة من المثقفين هي التي ستستطيع استيعاب القصيد ومن

لحن، إنما كان في ذهني شيء وواحد فقط هو أننـي أقـوم ثم ال ببناء ذوق جديد رفيع المستوى، وأن هذه المحاولة البنائية ستجد قبوال رحبا لذي الجمهور حتى ولو كـان ذلـك علـى المـدى الطويل، غير أن المدى لم يظل، بل حدث االحتكاك المباشر بين

الحضـاري القـوي األعمال الفنية التي قدمناها وبين التـراث وحدثت العالقة الجدلية العظيمة . الراسخ في نفوس حتى العامة

. بين رغبتنا في البناء وبين حب الجمهور لألبنية العالية المتينة . قال هذا، ثم سلم علي وانصرف

صورة

يتكور الوجه يأخذ شكل خريطة الدلتا، مالمـح بـارزة لباهتة الحجم من بعيد ربما وأخرى مضغمة، ومضمرة، النقطة ا

كانت بلدا، والخط ربما كان طريقا أو جسر سكة حيد كـل أذن أما الجبهـة فصـخرة عاليـة . من األذنين تشبه بحيرة المنزلة

تلكمها أمواج البحر المتوسط منذ عشرات القرون حتـى نبـت . فوقها العشب واخضر سطحها

الخـدان كرسـيان تتربـع . صدغان مدوران بيضاويان صـرتان . قهما عينان حانيتان منضبطتان على ورع وتقوى فو

. من الحنين الدائم لالرتحال بين ربوع البالد وفي أعطاف العباد أنف كفيونكة الشعر، برزت مقدمته وضاعت بقيته فـي رجابة المالمح المتضـخمة المكتنـزة بـالعواطف اإلنسـانية

. الجياشة حة شـبع حنك كبير واسع عريض الشفتين، تفوح منه رائ

هو أقرب إلى القناعة لو أكل طبق الفول المـدمس والـرغيفين وفحل البصل والباذنجانة المحدقة لبدأ كأنه أكل لتـوه خروفـا

. مشويا ظل من شهوانية بدائية قمعتها روح حضارية حكيمة على أديم الوجه سمت تراثي الطابع، وكأنه وجـه مـن

رية ثمينة ال تقدر بمال التراث القديم ينبغي الحفاظ عليه كتحفة أث

ترى فيه اإلنسان على لونه األصلي، قبل أن تزخرفه المدنيـة ظالل . الزائفة وتختصر ظالله وتحوله إلى سخطه أدمية براقة

المالمح ال تزال كثيفة تماوج فيها ألوان االنفعـاالت بـدرجات متباينة، تشف عن صدق المشاعر، عن حـس يقـظ بالحيـاة،

يه من مثيرات ومغـامرات ومخـاطرات عنحب عارم لكل ما ف . وتناقضات

طرح للرجولة في أجلى وأكمـل – مع ذلك – ظالل هي معانيها تشع فيها بوارق مـن الشـعور بالمسـئولية، والقـدرة الخارقة على احتمال المصاعب والمشقات واألعباء، مشـبتعة

إنه آدم، األب األكبر للبشـرية ابـن . بروح اإليثار والتضحية عاشق الطين، الذي اجتزأ على اقتحام المعرفة حتى لو الطين و

. كان ثمنها طرده من الجنةإنه زكريا الحجاوي سخي كالماء مبذول كالهواء غامر كالضياء على وجهه قنديل من البهاء لو كنت من أبناء جيلنا السعدك الحظ برؤيته والتعامل واإلفادة من علمه الغزير وقلبه

.وعالقاته الواسعةالكبير وحنانه الوفير بمجرد وقوع بصرك عليه تدرك في الحال إنه مصري ولو كنت من جيلنا أيضا لربطت بينه وبين تلك الصورة

المصري افندي : الكاريكاتورية التي شاعت في صحفنا وإسمهاشخصية فنية ابتدعتها ريشة رسام كبير أظنه صاروخان، جسد

الصميم الذي في مالمحها ومظرها شخصية المواطن المصرييتغابى بمزاجه ليرى كل شيء وهو في حقيقة أمره بالغ الذكاء حكيم ذو رأي صائب في قضايانا السياسية واالجتماعية يكشف

.كل أالعيب الساسة والحكام والمتاجرين بمصيرهال بالطويل وال بالقصير، ربعة، ممتلئ الجسد ذو كرش

ل ويمنع تزرير صغير بارز فوق حزام السروال الواسع المتهدالسترة المتدلة ورغم أن البذلة والقميص ورباط العنق والحذاء كل ذلك من أنواع ثمينة فإن المظهر بوجه عام غير متسق وإن

. تناسقت األلوان في ذوق رفيعمهما كانت ثيابه جديدة حتى ولو كان قد ارتداها لتوه

.فالبد أن تبدو عليها وعثاء السفر – البس على جسد زكريا الحجـاوي العجيب حقا أن الم

تكتسب من جسده عراقة – حتى ولو كانت بسيطة زهيدة الثمن فبرغم تهدلها تبدو ثمينة وعلى درجة كبيرة من األصالة، بل أن التهدل والترهل يكسبانها هذه األصالة المستمدة ال شـك مـن البسها وبدرجة يحسده عليها االنقاء فكم من أنيق الملبس تمنـى

حقيقة األمر أن . ان مترهال هكذا كزكريا الحجاوي بالذات لو ك األناقة داخلية في األساس فالرجل ذو نفـس متسـقة متناسـقة

. األفكار والمبادئ في إطار أخالقي متين البنيان ال يتزعزع القيمة الجمالية لزكريا الحجاوي شخصية محضة فجماله

ثقافتـه ينبغ من شخصه من تربيته مـن – الفني والسلوكي – الموسوعية المهضومية جيدا من ربطة للثقافة بالوطنية، الثقافة

في أرض الـوطن – أوال وقبل كل شيء – عنده يعني التغلغل في فهم تاريخه في استيعابه لجذور الشخصية القومية ووقوفـه

. على جوهرها الثمين وامتالك مفاتيحها السحرية بفلسفة أخالقية والثقافة عنده ليست مجردة إنما هي مبطنة

تحميها وتحمه من أي ابتذال أو ترخيص وحين نتذكر المجـال الذي كان يتحرك فيه زكريا الحجاوي لتأكدنا أن رجال غيره لو قدر له الدخول في المجال بغير الفلسفة األخالقية المبطنة للثقافة

. ألصبح ظاهرة سلبية شديدة الخطر د فنان بـل لم يكن زكريا الحجاوي مجرد مثقف أو مجر

كان إلى هذا وذاك معلما حقيقيا بمعنى الكلمة أخذ على عاتقـه مهمة اإلسهام في تعليم الشعب العربي كله تعليمه، ليس القراءة والكتابة على الورق بل قـراءة الحيـاة السـتيعاب دروسـها

واكتشاف جماليتها وقيمها اإلنسانية الخالدة وتبصير المـواطن حتى يتملكها عـن صـدق ووعـي بجوهر الشخصية القومية

وعلى هذا الجانب ركز جهوده العلمية واألدبية وكـل . وجدارة نشاطه الفني الغزير، في هذا الصدد كان مصريا بمعنى الكلمة عربيا كأعمق ما تكون العروبيـة مصـريته الخالـة ال تنفـي عروبيته الصرفة بل تؤكدا، فمبدأ القومية اإلحساس بالوطنيـة

يتسع مفهـوم – وبه – بمسقط رأسه الذي منه اعتزاز اإلنسان الوطن الكبير وألن مصر هي قلب العروبة النابض فإن فكـرة

. الوطن األكبر تكمن أساسا في القلب بدأ حياته كأديب يكتب القصة والمقالة األدبيـة والبحـث العلمي وينشر في جريدة المصري بشكل خاص وبقية الجرائـد

اهتماماته واتسـعت رقعـة والمجالت بشكل عام من تطورت همومه األدبية والفنية باتساع هموم المجتمع المصري والعربي في ذلك الزمان أعني بدايـة الثالثينيـات واألربعينيـات ثـم الخمسينيات والستينيات من هذا القرن هو أبرز النهضة الثقافية الحقيقية التي انتعشت في تلك الفترة حيث شهدت مصر أثناءها

نبض بالحرية والنشاط الثقافي الناضج الكبير الوحـدة مجتمعا ي الوطنية في ذروة تالحمها وتضافرها ألن هناك قضية كبـرى

تستحوذ على الجميع وتشغل بال الجميع هي قضـية التحريـر . الوطني

دقهلية، قبل – بالمطرية ١٩١٤ ولد زكريا الحجاوي عام عـم بخمس سنوات والبد أن صوت الثورة الذي ١٩١٩ ثورة

جميع القرى الدساكر قد طرق وجدانه الصغير آنـذاك فشـرب مفرداتها وشاهد أوارها الملتهب فتكونت تركيبتـه االجتماعيـة

حصل على الشهادة االبتدائيـة مـن . بمضمونها الثقافي والفني مدرسة بور سعيد بتفوق حيث كان ترتيبه األول على مديريـة

مدينة السويس ومنهـا التحق بمدرسة الصنايع البحرية ب . القنال إلى مدرسة الفنون والصناعات الملكية التي تحولت بعد ذلك إلى كلية هندسة عين شمس وألنه مولود في مهد الثورة كـان مـن الطالب الوطنيين دائم النشـاط السياسـي يقـود المظـاهرات المطالبة بإنهاء الحكم الملكي كخطورة أساسية إلجالء المستعمر

. شا وحدد إقامته في قريته ال يبرحها فاعتقله النحاس با كتب عددا – وهو دون العشرين بعامين – أثناء الدراسة

كبيرا من األوبريتات والمسرحيات الغنائية بفرقة أوبـرا ملـك وفرقة أحمد المسيري وتم تنفيذها كله على المسرح بنجاح كبير وحينما حيل بينه وبين المؤهل الدراسي اتجه إلـى الصـحافة

لها من المنزل حتى استقر به المقام كسـكرتير لتحريـر يكتب جريدة المصري فاستمر بها حتى العام الثاني والخمسين في تلك

التـأليف القصصـي، : اآلونة كان نشاطه يمضي في شـعبتين والبحث العلمي في المجال الفنـي وبخاصـة فـي الموسـيقى

« في منتصـف األربعينيـات صـدرت مسـرحيته . والغناء في كتاب وفي مطلع الخمسينيات أصدر كتابا عن » ون بيجمالي

وفـي أواسـط » ملك ضـد الشـعب « الملك فاروق بعنوان « الخمسينيات جمع معظم قصصه القصيرة في كتاب بعنـوان

. ضمن سلسلة الكتاب الذهبي » نهر البنفسج من منجزاته المهمة جدا ككاتب صحفي في جريدة سيارة

مصري أضطالعه بمهمة التنبيـه واسعة االنتشار هي جريدة ال إلى عبقرية سيد درويش الموسيقية ذلك أن ألحان سيد درويـش وإن كانت ذائعة إال أنها كانت في أشد االحتياج لذائقـة نقديـة واعية تكشف عن الجوانب اإليجابية الخطيرة في هذه الثـورة الموسيقية الجديدة وتفسرها للجمهور العريض وتؤصـلها فـي

تكشف عن جذورها وأبعادها، تخلق رأيا عامـا . ام الوجدان الع حولها يؤدي إلى احتضانها وهذا ما فعلـه الحجـاوي بأصـالة واقتدار جعل من موسيقى سيد درويش موضوعه األثير الحميم

يواصل الكتابة فيه في جميع الصحف والمجالت ثم ألف كتابـا مستقال عن سيد درويش ال يزال مخطوطا حتى اآلن لـم يـر

. ور بعد الن انشغاله بموسيقى سيد درويش وبحثه الدائم في جـذورها المصرية ومحاولة ربطها بالوجدان المصـري أدت بـه إلـى دراسة الوجدان المصري والعربي بوجه عام وكان بـذلك أول مثقف مصري دارس يهتم بما عرف بعد ذلك في الثقافة العربية

لقـد أدرك . باسم الفولكلور، أي الفن الشعبي مجهول المؤلـف الحجاوي منذ وقت مبكر أن اإلبداع العربي الحقيقي الذي يعتـد به ليس هو ما كتبه المثقفون ونشروه في الكتب، إنما هـو مـا أبدعه يراع رجل الشارع العربي تعبيرا عن آالمـه وهمومـه . وقضاياه الحيوية البعيدة كل البعد عن اهتمامات الطبقة الحاكمة

وثائق الوجدان العربـي ومسـيرة إن . بساستها ومثقفيها المعاناة والشقاء التي عاشها الشعب المصري وملحمـة كفاحـه ضد الطغيان واالستبدال من حكامه األجانب المغتصـبين إنمـا

. تكمن في اإلبداع الشعبي بجميع فروعه وأشكاله عندما قامت ثورة يوليو تزامن قيامها مع زمـن نضـج

كان على عالقة وثيقة بمعظم الحجاوي فتدفق عطاؤه سيما وأنه

قادة الثورة قبل ظهورهم مع الثورة، وهو يعتبر أستاذا ألنـوار السادات بغير جدال وأكبر المؤثرين فيه لدرجة أن السادات كان حين يخطب وهو رئيس الجمهورية يسـتعير صـوت زكريـا الحجاوي، ولهجته وقاموسه بكل مفرداتـه حتـى مصـطلحات

لعائلة وما إلى ذلك هي من ابتداع زكريـا أخالق القرية وكبير ا الحجاوي ومن المعروف أن لزكريا الحجاوي دورا كبيرا فـي تهريب أنور السادات ذات يوم حين كان مطلوبا للمحاكمة فـي

وبعد قيام الثورة لم ينتظـر زكريـا . قضية مقتل أمين عثمان الحجاوي منصبا وال مغنما ألن ذلك لم يكن في حسابه قط إنما

رس حياته الفكرية والفنية والصحفية كواحد من عامة الشعب ما اختار مجلة أدبية من . ال يحصل على ربع ما يستحقه من تقدير

المجالت التي أنشأتها حكومة الثورة هي مجلة الرسالة الجديـدة وراح يواصل على صفحاتها رسالته الثقافية العظيمة قام بعملية

ها من مراقدها وفتح عيـون مسح جغرافي للفنون الشعبية فبعث الرقص، الغناء، المواويل، البكائيات، األرجواز، : المثقفين عليها

خيال الظل السامر، األلعاب، الحواديت، األسـاطير، الموالـد، األفراح إلخ وكانت تلك مواد ثقافية طازجة وأرضا بكرا فتحها للمثقفين هو، الذي جعل للفنون الشعبية حضورا حقيقيـا علـى

احة هيأ لها مناخا ثقافيا مالئما أزال عنها النظرة االستعالئية الس . المقيتة من عيون مثقفي الطبقة الوسطى الكبيرة

لزكريا الحجاوي أكبر وأهم دور فـي تأسـيس الفنـون الشعبية التي لم يكن لها من قبل أي وجود، في سبيل القيام بهذه

دبية نبذ حيـاة المهمة استغنى عن الكثير من حقوقه المادية واأل كـان عليـه أن . النجومية واختار حياة صاحب الرسالة المعلم

يختار بنفسه العناصر المكونة لفرق الرقص والغناء وأن يرتحل في جميع األقاليم المصرية والعربية ليضع يده على العناصـر البشرية الموهوبة فيأتي بها إلى مناطق الضـوء يضـعها فـي

يشرف عليه بنفسـه وأن يجمـع معمل التدريب والصقل الذي وثائق الوجدان الشعبي بجميع فنونه وأشكاله فيسـجل أغنياتـه ومواويله ومدائحه وأمثاله وحكاياته الشعبية ومالحمة وسـيره بألحانها البدائية بأصوات بقايا أصحابها قبل انقراضـهم، وقـد أدلى يحيى حقي بشهادة حق حين سجل دور زكريا الحجـاوي

حيث وصفه بأعظم األوصاف » يا ليل يا عين « هذا في كتابه . وتحت له تمثاال خالدا

هذا الفنان المتعدد المواهب كان مـن أمتـع المتحـدثين وأكثرهم لباقة وأنسا وإشاعة للبهجة تأصلت فيه هذه الموهبـة

بحكم اتصاله الوثيق بنماذج غنية من بيئات شعبية مختلفة كـان تلهف على لقائه شخصـيات يصادفها ويخلص لها الود وكانت ت

. من جميع أنحاء األقاليم المصرية من أقصاها إلى أقصاها إنه الوحيد بين جميع مثقفي العالم يستطيع أن يبيت كـل يوم في بلد دون أن يحمل هم أي شيء على اإلطالق وهو واثق أن كل بد ينزل فيه البـد واجـد صـداقات حميمـة تشـرف

. لليالي باستضافته ما يشاء من األيام وا ال غربة إذن أن كان على علم ودراية بجميع اللهجـات المصرية بدوية كانت أو صـعيدية أو نوبيـة أو بحراويـة أو سويسية أو دمياطية وما وراء هذه اللهجات من أنساب وتواريخ وأصول عريقة ناهيك عما تنطوي عليه هذه اللهجات من فنون

. قول وحكمة األنسـاب والعالقـات كذلك هو على علم ودراية بجميع

والعائالت في أنحاء الوطن العربي الكبير ويستطيع أن يكشـف جنسية المثل الشعبي أو الغنوة أو البكائية وإن يكتـب شـهادة ميالد هذا القول أو ذاك بوثائق لهجته وحروف مفرادتـه وقـد رشحته موهبته كمتحدث ألن يتحدث في الراديو فأصـبح لـه

ره المستمعون بشغف مع طه حسين حديث ثقافي أسبوعي ينتظ

والعقاد وفكري أباظة والواقع أن اقتناعـه بالحـديث والنشـاط العلمي الميداني وعشقه لدور المعلم، كل ذلك فوت عليه وعلينا أعماال أدبية عظيمة كان من المنتظر أن يكتبها للقـراء ولكـن اكتشافه لجهاز الراديو كوسيلة لمخاطبة الجماهير الغفيرة كـان بعيد النظر إذا اتسق هذا االكتشاف المبكر مـع طبيعـة دوره

. كقطبان لسفينة الفن الشعبي اتجاهه للراديو في أوائل األربعينيات كان مـن محاسـن

. الصدف لكليهما له وللراديو معا وللجمـاهير بطبيعـة الحـال . فبرزكريا الحجاوي تكاملت للراديو شخصيته الشعبية الحقيقية

زكريا عبقريته في الدراما اإلذاعيـة بجميـع وبالراديو اكتشف في البداية كتب سهرة إذاعية عن ملك فرعوني ظـالم . ألوانها

فيها غمز ولمز واضحان وفيها تعريض بالملك فاروق أخرجها والطريـف . السيد بدير فما أن أذيعت حتى قدم بسببها للمحاكمة

أمـين أن وكيل النائب العام الذي حقق معه بشأنها كان محمـد حماد الذي أصبح فيما بعد رئيسا لإلذاعة في عهد الثورة وكان الحجاوي مهددا بالحبس من جراء هذه التمثيلية لوال أن اهللا ألهم

لم تكن – مخرجها سيد بدير فكسر االسطوانة التي سجلت عليها

وبذلك عجزت النيابة عـن وضـع – الشرائط قد اخترعت بعد . يدها على جسم الجريمة

– ألول مـرة – د زكريا الحجاوي عرف الراديو على ي المسلسل اإلذاعي ذا الحلقات اليومية وكان أول مسلسل وضـع

مـن تـأليف » العقد اللولي « على خريطة اإلذاعة هو مسلسل األرملة « الحجاوي ثم تبعه بعديد من المسلسالت لعل أشهرها

ـ » الحب األسير « و » العذراء ة وغيرهما مما تحفل به مكتب . اإلذاعة

وإذا كان الحجاوي هو أول من اخترع المقدمة والنهايـة الغنائيتين للمسلسل اإلذاعي فإن األهم من ذلك انه أول من كتب المسلسل الغنائي االستعراضي الذي عرف بالملحمـة الشـعبية وهو نوع من التمثيليات تلعب فيه األغنيات دورا رئيسيا إلـى

الصوتية حيـث تقـوم األغنيـة جانب الحوار وبقية المؤثرات بالحكى والتمهيد للمسمع الـدرامي والتعليـق علـى المواقـف واألحداث وقد حفلت مالحمه هذه بأجواء وبيئات متعـددة مـن الصيادين إلى الشيالين والنشـالين إلـى الفالحـين والبحـارة والمراكبية والمشايخ إلى األحياء الوطنية القاهرية فلم يحدث أن

. ة من مع األخرى تشابهت بيئ

الجدير بالذكر انه كان يؤلف المسلسل ويؤلـف أغانيـه ويلحنها ويشرف على تحفيظ األلحان للمطربين وعلى تـدريب الفرقة الموسيقية وعلى التسجيالت كمـا أنـه يحـرص علـى حضور جميع جلسات تدريب الممثلين علـى الترابيـزة لكـي

ة التي يدور فيها يصحح لهم نطق اللهجات تبعا للبيئة االجتماعي كذلك هو أول من ابتدع أشـكاال فنيـة للـدراما . العمل الفني

وراء « اإلذاعية بعيد عن االطر التقليدية الموروثة، فمسلسـل مثال قدمه على شكل صندوق الدنيا الـذي يحملـه » األسوار

صاحبه على ظهره ويلف به الشوارع ليعـرض مـن خاللـه ومـن » اتفرج يا سـالم « الصور والحواديت بواسطة الغناء

سـعد « ، » كيد النساء « ، » أيوب المصري « أشهر مالحمه أنـس « ، » عزيزة الفرشـوطية « ، » ابن عروس « ، » اليتيم

. » الوجود

صورة

الجبهة عالية تسعى إلى ارتفاع مستمر كلما اضـطرمت بها األفكار والخواطر جنحت تجاعيدها إلى التصـاعد طبقـات

ات كأنها حبل البكرة المربوط في الدالء يلفـت علـى فوق طبق البكرة عائدا صاعد بالدلو، والذي امتأل من بئر الوجدان عذوبة

المنظار األسود فوق أنفه السمتطيل يبدو على اتسـاع . وزالال مجرد شريط أسود يفصل في جبـال الجبهـة بـين – عدستيه

للسـان منطقة الجبهة ومنطقـة ا . منطقتين عظيمتين في وجهه الصداح، الذي أن لعب ف يلحق ينبعث من الفم أصوات وأنغام تنحني لها القلوب والجباه على الفور فما بالك لو استطرد، ولو استمعه أحد في أي بقعة في األرض حتى لو لم يعـرف لغـة اللسان فإنه البد أن ينجذب ويتحول إلى آذان صـاغية تطلـب

م يصب في الصدور صفاء المزيد والمزيد من هذا الهدير العظي وطفولة وإنسانية، أصوات وأنغام على بساطتها وتلقائيتها بـل وجالفتها في بعض األحياء تمتزج بالمشاعر في الحال وتقـوم

. بتصفية األحاسيس من كل الشوائب ليس في حاجة إلى أن يتعلم أي لغة يخاطب بها األقـوام

فهام بال حاجة في غنائه، فلغة الغناء عنده مفتوح على جميع األ وهكذا قدر للضرير المصري ابن حـي السـيدة . إلى قواميس

زينب أن يملك القدرة على التأثير في كافة الوجدانات اإلنسانية . مع إنه في األصل شيخ واسمه سيد مكاوي

موهوب حتى النخاع، تنتسب موهبته إلى عالم المشـيخة األمر أن عـالم قدر انتسابها إلى عالم المغنين المحترفين حقيقة

المشيخة هو نفسه بئر ال ينضب من الغنائيات، ذلك أن موسيقى القرآن الكريم لعبت دورا عظيما في ترقيق اإلحساس بأداء اللغة العربية بجميع لهجاتها المتعددة ما بين البطون والصدور فـي القبائل واألقاليم، وربما كانت هذه الموسيقى العظيمة هي أحـد

ية التي تعد من بين معجزات القرآن الكريم إذ أنها األسرار اإلله أصبحت بتحديدها الموسيقي لأللفاظ تلزم جميع األلسن بتحديـد الحرف من خالل موسيقية الحرف نفسه الذي هو فـي حقيقـة

ومـن قـراءة . األصل تجسيد صوتي لمعنى متفق عليه أبجديا ن القرآن الكريم خرجت معاطف موسيقية خرجت من تحتها ألوا

متعددة من األداء الغنائي المحـض كاالسـتغاثات والتواشـيح واإلنشاد ونده المدد وما إلى ذلك من ألوان خلقت لنفسـها بـل

من هذه المعـاطف الموسـيقية الغنائيـة . والمقامات الموسيقية التراثية الدينية خرجت أجيال عديدة من الموهوبين انتموا بعـد

ا ثوب المشيخة الغنائية أو ذلك إلى مصاف المغنين بعد أن خلعو

الغنائية المشيخة وارتدوا ثوب المغنى المستفيد مـن التراثـات ولعل أوضحهم وأبرزهم بصمة على صفحة التـاريخ . األخرى

كل من الشيخ سيد درويش والشيخ زكريا أحمـد فضـال عـن مشايخ سابقين والحقين كالشيخ أبـو العـال محمـد والشـيخ

. المسلوب ر شرب كذلك الشيخ زكريا أحمد لكنـه من كل هذه األنها

كان إلى عالم المشيخة أميل، ولم يكن هذا نقصا فيه أو تحديـدا لموهبته، لكننا نقول أنه حصل على إمكانيات هائلة جـدا مـن

وإذا كانت الشيخ زكريـا . طرائق قراءة القرآن الكريم وتجويده نبتـي أحمد قد استفاد بطرائق وأساليب الغناء التراثي القـديم وا

بيوتا لحنية جديدة على نفس الطراز وبنفس األساليب على شيء كثير من التطور واالستنارة، فإن الشيخ سيد مكاوي قد اسـتفاد نفس الفائدة ولكنه ابتنى بيوتا لحنية من طـراز آخـر يحـاكي طراز األشكال التي اخترعها الشعب بفطرته ولكن على شـيء

الفرق بين فنـان كزكريـا كثير جدا من التطور واالستنارة، و أحمد وفنان كسيد درويش هو أن األول يصـل عـن طريـق المشاعر إلى الوجدان الخالص أما الثاني فيصل عـن طريـق المشاعر إلى الوجدان والعقل معا، والمستمع لدي زكريا يجهش

بالبكاء وتفيض عواطفه، ولدى أبو درش يلوي شفته من عمـق . التماع األفكار في ذهنه التأثر وتلتمع الدموع في عينيه

من صلب هذين األبوين انحدر إلينا سيد مكاوي يحمل في أصالبه الموسيقية دماء سيد درويش وزكريـا أحمـد، جمـاع الوجدان الخالص المنفتح مع ذلك على الذهن مباشرة، يقولـون أنه في مطلع صباه وشبابه كان يشتغل بقراءة القرآن الكـريم،

في الواقع، فكر ضرير فـي بالدنـا وهذه سمة مصرية أصلية ينتسب مباشرة إلى قراءة القرآن كأنما الشيخ من إحدى عالماته المميزة أن يكون ضريرا، ولربما كان ذلك راجعا إلـى ذكـاء العميان وتبحرهم في أمور الفقه والدين تبحرا ال تصرفهم عنـه

وتفوق العميان بوجه عام أمر في غير حاجـة . مثيرات بصرية ويقولون .. دليل أكثر من المعري وطه حسين وسيد مكاوي إلى

أيضا أن قراءته للقرآن في صباه كانت مؤثرة إلى حد كبير جدا رغم أنه لم يكن ينسب نفسه إلى صف المقرئين ذوي األصوات الجميلة، ولسنا نعرف بالضبط كيف تحول مجرى حياة الشـيخ

كبـار سيد مكاوي من قارئ للقرآن الكريم إلـى واحـد مـن الملحنين في العالم العربي، ذلك أن الشيخ ضنين بالمعلومـات عن حياته الخاصة، كتوم، ربما ألنه ال يحب الحديث عن حياته

الخاصة، وربما ألنه يعرف أن حياته الخاصة الماضية يعرفهـا نحن . عدد كبير جدا من الناس إلى حد يكفيه مؤنة الحديث عنها

بقدر ما ينقـي الضـوء علـى أيضا ال نحب الخوض فيها إال مواهبه حتى نفهمه حق الفهم ونتيح للدراسين فرصة تقييمه على

. النحو الصحيح ولقد عرفت من بعض مصادر وثيقة الصلة به أن موهبة سيد مكاوي نشأت بشكل قدري محض بمعنى أن القدر هو الذي لعب في حياته دورا عظيما، فلو لم يكن قد جـاء إلـى الحيـاة

التحق بالموسيقى القرآنية، ولو لم يكن قـد التحـق ضريرا لما بالموسيقى القرآنية لما انفتح على عموم الموسيقى، ووراء ذلك أم رءوم أدت بدافع خفي أن تصنع له حظا عظيما في الحيـاة دون أن تكون واعية على الحقيقة بهذه اإلدارة، إذ يقولون أنهـا

لهـا ويحفظهـا لما رأته وقد تمعشق الموسيقى وبات يستجيب بسرعة فائقة ويعيد ترديدها بسرعة فائقة، فرحت لـذلك غايـة

وفرحت أكثر حين رأته يتعلم العزف على آلـة العـود . الفرح ويترنم على أوتارها بحلو النغم وفنون التالحين المشهورة فـي

.. ذاكرة المجتمع القديم والجديد

وفيما كانت تسير ذات يوم لبعض شأنها في أحد شوارع المدينة استوقفتها عربة الروبابيكيا يقف خلفها بـائع، والنـاس عادة تقف أمام عربة روبابيكيا لتلتقط شيئا قديما نادرا تسـرب من أهله األصالء، أو تساوم على شيء يمكن ارتداؤه لـبعض الوقت بشكل الئق، أو أي شيء يمكن االنتفـاع بـه، ذلـك أن

ين من شتى األشـياء، الروبابيكيا هي كما نعرف مخلفات اآلخر ولكن، أن تقف سيدة من حي السـيدة زينـب ترتـدي الملـس والطرحة وتنتعل الخف األسود، أمام عربة الروبابيكيا محملـة باالسطوانات الموسيقية البلدي، التي ال تعرف شيئا عـن هـذه االسطوانات وال تعرف حتى كيف تفك الخط أو تديرها توقفـت

ب فيها والبائع يبرم شاربيه وينظر أما االسطوانات، وراحت تقل إليها في صبر منتظر أن يسفر تقليبها عن شيء يضحكه، لكنها

» بكام دول يا عم؟ « : بكل بساطة نظر ت إليه قائلة في براءة .. البتـوع دول « قالت السيدة » دول أيه يا حاجة « : قال البائع

كلهـم أيوه « : قالت » كلهم كلهم؟ « : قال البائع » االسطوانات فعاد البائع ينظر نحوها في استغراب شديد، لك أن العربـة . »

وليس بمعقول . كانت تمتلئ بما ال يقل عن ألف اسطوانة تقريبا « : أن تكون هذه الحاجة جادة في شرئها، لكنه هز كتفيه قـائال

وضرب رقما، فظلت تحاوره وتساومه وتستحلفه بالنبي » بكذا « : منها إلـى أن شـوح قـائال ويحلف لها بالطالق ما جبت ث

وكانـت . » هاتي فلوسك .. خالص يا ستي اهللا يمالهم له بركة صرة المنديل في سيالتها تحتوي على مبلغ مدخر لشراء شـيء ضروري، فما كان منها إال أن دبت يدها في سيالتها وأخرجتن الصرة وأعطت كل ما فيها للبائع، ثم صنعت من المنديل حواية

فبحرص شديد جدا رص .. شيلني يا عم .. سها و برمتها على رأ لها البائع تال بل جبال من االسطوانات وتأبطت بقيتها ثم انطلقت

. إلى الدار ال تلوي على شيء يمـارس – وهو طفل صغير ضـرير – أيامها كان سيد

حتـى أن ! الشقاوة في حي السيدة زينب بل ويركب الدراجات لته كثير ما حدثنا عـن صديقا لنا اسمه يسري كان صديق طفو

شقاوة سيد مكاوي وهو يركب الدراجة، إذ يجلس فوقها ممسكا ورجاله فوق الدواستين وقـد أجلـس علـى » جادون « بالـ

ماسورة الدراجة شخصا مبصرا يقوم بحفظ التـوازن ويوجـه أوعى يا جدع وسع يا جـدع، : الدراجة وسيد يصيح في المارة

ن حيث يبدو أنه هو الـذي فإذ ينظر الناس يتصايحون ضاحكي ولربما كانت صفقة األسطوانات السالفة الـذكر . يقود الدراجة

هي التي اقعدته في الدار تماما، حيث استقضى جهازا يسـتمع عليه، ويقولون أنه بعد شهور قليلة كان يحفـظ معظـم هـذه

لسنا نعرف مـا إذا كانـت تلـك . االسطوانات عن ظهر قلب ية لكنها كانت بالتأكيد مخلفات إحدى االسطوانات غربية أم شرق

يقولون كذلك أنه كان . األسر السمعية، والبد إنها كانت متنوعة يعاشر إحدى األسر المستريحة وكان يطربهم بصوته حين يقرأ القرآن الكريم أو يغني بعض األذكار واألناشيد الدينية، وأن هذه

يـة األسر كانت تملك عـددا هـائال مـن االسـطوانات الغنائ على هذه االسطوانات » يسوق الشقاوة « والموسيقية وإنه كان

فيظل يداعبها على آلة الجرامفون حتى حفظها ولما سئل عـن سر قدرته الهائلة تلك على حفـظ األنغـام علـى كـل هـذه االسطوانات كأن رأسه مكتبة حافلة بالنوت الموسيقية المدونـة،

ـ طوانات أو آلـة أجاب بأن إحساسه بأنه لن يكون مالـك األس الجرامفون جلعه يحتفظ باالسطوانات فـي دماغـه ليسـتطيع

هذه العالقة الحميمة الجادة بالموسيقى . االستماع إليها وقتما شاء الجدير بالذكر كما الحظ أصدقاء . البد أن تخلف عبقريا حقيقيا

صباه وطفولته أنه لم يكتشف ذاته الموسيقية الحقيقية إال حينمـا بحر االسطوانات الهائل على كل مـن سـيد تعرف في خضم

خالل هذين األستاذين العظيمين وضـع . درويش وزكريا أحمد يده على السر األعظم إال وهو سر التأثير في البشر بواسـطة األنغام واألوتار، فإن تؤثر في البشر ليس معنـاه أن تجعلهـم يهزون رءوسهم أو أكتافهم أو أردافهم طربا، فذلك نـوع مـن

غة األعصاب والمشاعر ال يليق بفنان، إنما الفنان الحق هو دغد من يملك القدرة على التأثير على النفس بواسطة التغم، ومعنـى التأثير أن يترك فيك معنى جديدا يضاف إلـى رصـيدك مـن المعاني، أن يوقظ فيك حسا كان غافيا، يلفتك إلى مشـاعر لـم

صوتية ويزيـدك تكن قد مارستها من قبل، يوسع من مداركك ال ارتباطا بسيمفونية الكون العظيم، يجعلك قادرا على – من ثم –

لعمـه .. تحديد األصوات على الحقيقة وتدوينها فـي ذاكرتـك زكريا أحمد فنون من التالحين تحفر في الوجدان إلى أعماق ال

ولعمه سيد درويش فنون من التالحين يستضـئ بـه .. نهائية فكون لنفسه مـن مزاجهـا .. نهائية الذهن والخيال إلى أبعاد ال

أسلوب يخاطب العقل والوجدان معا فانضم بذلك إلى صـفوف . الفنانين المفكرين

أبدا ال يمكن إدراجه بين الملحنين المجردين، إذ أنه يعول درجات كبيرة جدا فوق درجة الملحن، ألنـه ملحـن مفكـر،

فنية والمفكر ليس بالضرورة ذلك الذي يؤلف الموسيقى السـيمو أو يكتب في نظرياتها، إنما المفكر هو ذو النظرة الشاملة الملمة

واللحن عنده ليس مجرد بناء . إلماما دقيقا بكافة التفاصيل الدقيقة عن وجهـة » التعبير « لحني نغمي إنما هو بناء مركبة يهدف

خير مثـل » الليلة الكبيرة « . نظر معنية رغم تلقائيته الشديدة فنان وشمول نظرته، فهو في هـذه الصـورة على سعة أفق ال

الغنائية العبقرية لم يقدم لحنا واحدا، بل لم يقدم مجرد مجموعة من األلحان المتنوعة التي تختلف كل لحن منها عـن اآلخـر

غنائيـة » بيئات « اختالفات لحنية كثيرة، إنما قدم لنا مجموعة كـل هـذه متفردة، كل لحن يمثل بيئة فنية واجتماعية كاملة، و

البيئات الغنائية تنصهر في شكل غنائي واحد هو شكل المولـد، مـن – دون اصطكاك – وإنها لسالسة عظيمة أن تنتقل اإلذن

إلى بيئـة مغنـى » ليلتنا انس وجلجلة « بيئة اإلنشاد الفالحي الطهور إلى بيئة مغنى باعة الحمص إلى الباعة الجائلين إلـى

لعظـيم صـالح جـاهين، آخره، وصحيح أن ريشة الشـاعر ا وضعت الرتوش البارزة في تجسيد هذه الصورة تجسيدا شعريا

هـذه » مثلـت « واقعيا، ولكن ريشة سيد مكاوي هي التـي الرتوش أي صنعت لها تمثاال بأزميل حاد مبصر ودقيق حتـى

لتستطيع صورته اللحنية تلك أن تكون عنوانا على الشخصـية . المصرية

ي الذي اكتشفه شـاعر مصـر أرأيت إلى ذلك المسحرات وكتبه كما لم يشعر به أحد من قبـل؟ إن » فؤاد حداد « األكبر

وسيقية والغنائيـة المسحراتي ها هنا نمط مصري له لوازمه الم لكـن . المحددة، بل وعباراته الشائعة بصياغاتها الشعبية العتيقة

تعالوا بنا نرى أي مضمون النيام ال ليتسـحروا هـذه المـرة، دا للصيام بل ليفيقوا إلى مضمون الحياة والعمل واإليمان استعدا

الحقيقي، إنه دعوة إلى الحلول في الغد المأمول، أيظن أحـدكم أن ملحنا غير سيد مكاوي كان يستطيع تقريب هـذا النمـوذج المصري األصيل إلى ذاكرتنا؟ أنا شخصيا ال أظن، فالواقع أن

اء قام خاللـه بتـأليف سيد مكاوي قد ابتدع لونا جديدا من األد شخصية المسحراتي كما يقوم الروائي بتأليف شخصـياته، إن الروائي إذا كان يؤلف الشخصية من عديد من الشخصيات التي عاشها وعرفها في حياته بحيث يختار من كل واحد شيئا مـن الطبع، أو المالمح يضيفه إلى الشخصية المؤلفة ويسويها كلهـا

ـ يد مكـاوي قـام بتـأليف شخصـية في سبيكة واحدة، فإن س المسحراتي من عشرات النماذج من المسحراتية الذين قابلنـاهم

وعرفناهم في حياتنا، بحيث أنه اختار من كل نموذجـا ملمحـا طريقا، نبرة صوت مثال، طريقة نطق، طريقـة مـد، تجويفـا صوتيا مقصودا حتى جاءت شخصية المسحراتي علمـا علـى

ثر مدعاة للدهشة والتقدير معا أن سـيد ظرفاء الميكرفون، األك مكاوي لم يصرف جل اهتمامه في خلق هذه الشخصية الفنيـة المتميزة األداء اإلنساني، بل إنه طوعها ألداء أعلى المضامين الفكرية المحسوسة، وكان شكل األداء الكاريكـاتوري متناسـقا تماما التناسق مع المضمون الجاد العميق وهـذه هـي القـدرة

. واعية المفكرة وراء موهبة التلحين في الفنان سيد مكاوي ال إذا كان سيد مكاوي قد تالزم فنيا مع الشـاعر صـالح جاهين في خطوات غنائية ناجحة ومثيرة فإنه قد تـالزم مـع

األرض « الشاعر فؤاد حداد في خطوات عبقرية، انسبت أغنية من نور « ما أظنك تنسى ذلك البرنامج الكبير ، » بتتكلم عربي؟

الذي كتبه فؤاد حداد ولحنه سيد مكاوي » الخيال وصنع الخيال طوال شهر كامل في إذاعة البرنامج العام، إن هـذا البرنـامج ليس فقط من مفاخر البرنامج العام بل هو من مفاخر مصـر، ألن مصر بأرضها وتاريخها قـد لحنـت وغنيـت فـي هـذا

سألني كيف ذلك ألنني البرنامج، هذا هو كل األمر ببساطة وال ت ! ال أستطيع اإلجابة

وهبه اهللا ظرفا في األداء بل وفي الصوت نفسـه، هـو ظرف غارق في الحالوة، فإذا كانت حالوة األصوات المصقولة تشبه عصير القصب في األكواب فإن حالوة صوت سيد مكاوي هي القصب نفسه، الذي تفوق لـذة ارتشـاف األكـواب عنـد

وهو حين يغني ال يغني من . على السواء المستمعين وخاصتهم قبيل الشعور بالترف أو إمتاع المستمعين بل يغني بطبيعة ودقة الحرفي صاحب الدكان الشهير في إحدى حارات مصر يركـب األقطنة للجلباب مثال غرزة غرزة بإبرة صغيرة فـي اليـد أو يحفر رسوما ونقوشا دقيقة على صينية من الفضة فـي خـان

عمل دءوب ومضن تصحبه لذة فائقة نابعة من حبـه الخليلي، الشديد لهذه المعاناة الخالقة، وإذا غنى فكأنه امتلك في صـوته كل الخيوط المتصلة بالمشاعر اإلنسانية يروح ويشدها ويرخيها

. ويداعبها برقة وعذوبة فائقة الظرف في شخصيته يوصله إلى مراتب أسطورية كأنـه

لعامة، إذ إنك ما أن تتوجـه فـي أي جحا أو أبو النواس عند ا مكان في األوساط الفنية أو غيرها إال وتجد من يحكي لك ظرفه

عن سيد مكاوي تضحك حتى تسيل دموعك، وسواء كانت هذه الظروف والنوادر قد حدثت بالغفل من كبـار الظرفـاء لهـا حضورها الخاص في بعض المواقف العامة حتى وهي غائبة لم

نين على أم كلثوم في موعد طـول حياتهـا إال يتأخر أحد الملح سيد مكاوي تأخر عن موعده وقتا طويال ألمر عارض، لكنه ما

معلش يا ست « . أن رآها على وشك الغضب حتى اعتذر قائال وكان في إحدى الجلسـات . » أصل أنا إلي كنت سايق العربية

بين خلصائه وصحابه قد انتعش وصـهلل بالغنـاء واالنـدماج » عايز أرواح دورة المياه « : ن، وفجأة نحي العود قائال النشوا

فلم يكذب خبرا، ونهض واقفا ثـم » تفضل « : فقالوا له ببساطة مشى في اتجاه دورة المياه وحده في سالم، لكنه عنـد الحـودة

إحنا .. اهللا اهللا « : فوجئ بنفسه يصطدم في الحائط، فصاح قائال أن أعطـاه أحـد المـؤلفين وقد حدث . » اتعمينا تاني وال إيه؟

» يقرؤها « الهواة بعض أغانيه ليلحنها، ووعده سيد بأنه سوف ويدرسها، لكن المؤلف الهاوي طارده ليل نهار بغلظة سـخف حتى ضاق به سيد إيما ضيق، وبينما يطلع له من تحت األرض

فقال لـه األسـتاذ . » أخبار األغاني إيه يا أستاذ سيد؟ « : قائال « : فقال المؤلف الصفيق . » لمؤاخذه .. ا في البيت نسيته « : سيد

.. حلـو « : ، فصاح سـيد فـي مـرح » معايا نسخة منها أهه ففتح المؤلف حقيبته وأخرج نسخة من األغاني . » وريهالي كده

قدمها للشيخ سيد، فتناولها الشيخ وقربها من عينيه ثم نظر فيها بتها لقيتها ما قر .. ما تنفعش « : برهة وردها إليه قائال في جدية

وقبل أن يفيق المؤلف من دهشته كان السـائق قـد . » تنفعش . انطلق بالعربة

صورة

الجبين وضاء كنجفة من البللور النقي الحر، تـرى فـي انعكاساته الضوئية ثغر اإلسكندرية وصفاء بحرها القديم في يوم صحو صافي األديم، ترى صيدا وبيروت وحلب وحيفا وعكـا

ترى موقعة حطين، ترى صـفوفا مـن . ال لبنان الساحرة وجب ترى . األرض الطيبة ة الجند يعزفون بالبنادق والسيوف سيمفوني

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، تـرى : عرائس الشعر يغنين وأرض كنعان وإبراهيم الخليـل ويوسـف ن الشوام والفلسطينيي

مياط وبور الصديق نوغنوة برهوم، وصيادي حلب والمطرية ود سعيد والمنزلة، وبائعي الطرح والمناديل في أسـواق القـاهرة القديمة ترى مدن ألف ليلة وليلة والسـندباد، وصـناع خـان الخليلي ورائحة المعسل الزكية في القاهرة المملوكة، ومـدائن األزهر والحسين والسيدة زينب وعائشة ونفيسة والمؤيد شـيخ

ب األحمر والفجالة واألزبكيـة وقايتباي، وبرقوق وشوارع الدر وشارع محمد علي ومصانع المحلة الكبـرى وكفـر الـدوار وسفاجة، ومعابد فيلة وأبا سنبل والـدير البحـري، والكنيسـة

. المعلقة ودير سانت كاترين الجبين وضاء كجبهة الهالل يسطع فوقه قنديل الكبرياء،

لعينـين الجبهة البارزة المقوسة . إشاع الشموخ وشموخ اإلشاع

لؤلؤتين منصهرتين في بوتقه من الحنين الجارف إلـى نبالـة األنبياء، إلى االلتحام بالتاريخ القديم بكل فرع كل جـزر كـل

. شريان عينان نبيلتان تترقرق فيهما أصـول األشـياء ومشـاهد

من بريق األصالة فيها يولد صـالح . األبطال ومعامل تفريخهم بن الوليد وطارق بن زيـاد الدين وقطز والظاهر بيبرس وخالد

وعنترة بن شداد والهاللي وحمزة والبهلوان والملك سيف بـن ذي يزن، واألميرة ذات الهمة، وأدهم الشرقاوي، ومحمد علـي وجواد حسني ومحمد كريم وأحمد عرابي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر وعب المنعم رياض، وزكريا أحمد والشيخ محمـد

عبـد اهللا النـديم وأم كلثـوم وعبـد رفعت وأحمد شوقي بك و الوهاب، ورفاق الزنازين في األوردي وأبي زعبـل والـوادي

عينان كالبحر األبيض المتوسط، بينهما أنف شامخ ممتد . الجديد كقناة السويس يربط بين المتوسط واألحمر على ثغرة ابتسـامة

. هي في شكل مرئى اسمه الشعر، والشعر اسمه فؤاد حداد لى شاي النيل بيضة كبيرة مارونية شامية باضت مصر ع

شربت الطمي حتى اتخمت، وفقست على الشطآن شعرا مصريا . خالصا

إذا كان بيرم التونسي من أصول تونيسية بعيدة، وفـؤاد حداد من أصول شامية بعيدة، فإن كالهما تجسـيد وتشـخيص للمزاج المصري الخالص كالهمـا تشـخيص لسـر مصـر

لم المصري الشاهق باألرض التي تـتكلم الحضاري العظيم، للح . إن الفجر لمن صاله : بالعربي، بقول اهللا

أول كالمي سالم، وتزقفيني الكالم أيام في حضنك أنان، القلب األبيض هنا، مصر يا أمنا، واطلع فـي نـور األدان، إذا

واإلنسانية هنا، يا مصـر يـا . دعا الوالدان، المدرسة والميدان . أمنا

.. اد بتمصير الشعر قام فؤاد حد تلك عبارة ليست من قبيل الحماسـة أو التالعـب ! نعم

. باأللفاظ، لكنها من الحقيقة وقد يندهش الكثيرون من هذه العبارة، ربما ألن معنـى الشعر في أذهانهم هو النظم الموزون المقفي والبـد أن يكـون

. باللغة العربية الفصحى طويلة فـي جميـع والواقع أن هذا المفهوم قد ساد أزمنة

أنحاء الوطن العربي، مما ظلم فن الشعر ظلما فادحا، ذلـك أن عصور النظم الفصيح البارع قد أفرخت أخياال كثيرة من ذوي

المهارات الفاتقة في النظم على جميع األبحـر وفـق العمـود الخليلي، وبلغة عربية تباري في فصاحتها أهل البادية وتبحـث

تجتهد في ما يسمى بالبيان والبديع عن كل غريب من األلفاظ و والمحسنات وما إلى ذلك من فنون بالغية، لكننا لو بحثنا عـن الشعر الحق في هذه األطنان المكدسة من عصور النظم الفصيح

. فسوف نجد المحصول بائسا لقد وقعت أجيال طويلة من المحدثين في أسر البضـاعة

مشهورين قد اقتصر القديمة، فإذا كان بعض الشعراء القدامى ال دورهم في الشعر على البراعة الفائقة في نظم المعارف العامة، وما تمتلكه اإلنسانية من رصيد معرفي وحكيم وطقسي، بشـكل مبهر تجعله يبدون جديدا طازجا، فإن أجيال الشعر العربي قـد أصبحت تعيد نظم مخزونها الشعري مما سبق أن جمعته مـن

في أحسـن حاالتـه أصـداء باهتـة قراءاتها، فأصبح الشعر ألصوات شعرية قديمة، أصبحنا نحرث في المحروث بالفعـل، نكتب في المكتوب بالفعل، قتلت روح المغامرة قلـت التجربـة

. الجديدة التي تفتح في الشعر أرضا جديدة ولم يكن الشعر في مصر أحسن حاال منـه فـي بقيـة

وتقنيات عتيقـة األقطار العربية، ألن الجميع أسرى نظام واحد

شائخة لم تعد قادرة على تلبية احتياجـات العصـور الحديثـة . واتساع رقعة الحياة وتجددها المستمر

ومنذ عصر سامي البارودي وإسماعيل صبري مـرورا بعصر شوقي وحافظ شهد الشعر في مصر والعـالم العربـي محاوالت عيديدة للخروج من سجن التقنيات العتيقة والرغبة في

شعر جديد وفي مصر نجحت محاوالت كثيرة فـي حقـن خلق الشعر بدماء جديدة وصلت إلى ذروتها النهائية عند صالح عبد الصبور وجيله وأيا كانت قيمة المنجـز الشـعري فـي هـذه المحاوالت األخيرة فإنها كانت تفتقر إلى الخصوصية الفطرية،

نـت بمعنى أن التجربة المصرية كانت باهتة وغير متميزة، فأ تقرأ صالح عبد الصبور والشرقاوي وحجازي فال تجد فروقـا تستحق الذكر بينهم وبين أدونيس والبيـاتي والسـياب وخليـل حاوي وغيرهم، بل إنك تستطيع أن تميز شعر العراق وشـعر فلسطين وشعر لبنان والسودان بسهولة حتى لو رفع اسم الشاعر

لشعر في مصـر، عن القصيدة لكنك قلما تستطيع هذا بالنسبة ل . مما أدى بالكثيرين إلى القول بأن مصر فقيرة في الشعر

على أن مالمح التجربة المصرية الحقيقية، بـدأت فـي فحين تقرأ بيرم التونسي . السطوح شيئا فشيئا عند بيرم التونسي

فأنت تدرك، أول حرف أنك تقرأ شعرا مصريا خالصـا بكـل الشارع المصـري، لغـة معنى الكلمة ذلك أن بيرم كتب بلغة

الحياة المتداولة بين الناس، التي بها يتكلمون ويتألمون ويحملون وهي لغة أشد ثراء من الفصـحى بكـل المقـاييس . وينفعلون

بالنسبة لعموم الشعب المصـري، ذات تـاريخ طويـل حافـل . بالمشاعر والتجارب اإلنسانية الحية الغنية

بين الشعر والزجل وإذا كان نتاج بيرم التونسي قد توزع كما هـو – إن الزجل . فإن األمر قد حسم تماما عند فؤاد حداد

هو فن االنتقاد االجتماعي الصـارخ، فـن الهـدف – معروف المباشر الواضح، فن السخرية، أما فن الشعر فهو هدف في حد ذاته، من خالله يضئ الشاعر وجدان الناس، ويضـيف إليـه

طازجة، يرقق مشاعرهم، يثـري رصيدا متجددا من المشاعر ال تجاربهم اإلنسانية يقيم بين البشر جسورا ومعابر من األحاسيس المشتركة، يربط اإلنسان بجذوره القومية بهويته، يمأله بعناصر تقاوم الخور والتبلد توقظ فيه قواه الخفية الخالقة، وهذا بالضبط

. ما فعله فؤاد حداد كـل الشـعراء تجمعت في عبقرية فؤاد حداد مواهـب

العربية قدامى ومحدثون، كما استفادت مواهبه مـن المفهـوم

الحضاري الحديث المتطور لفن الشعر مدعوما بمنجزات كبار شعراء العالم الذين قرأتهم بإمعان واستيعاب تبلورت في شعره كل خصائص الشعر العربي قديمه وحديثه، وعند قصائد مـن

ليل معاصر وقوي علـى أن الشعر الكالسيكي يمكن تقديمها كد . العمود الخليلي كان وال يزال يحمل إمكانية التطور الخالق

هذه حقيقة أثبتتها قصائد ابن الحداد التي برغم شـعبيتها وحداثة أخيلتها تبدو من الكالسيكيات النـادرة، كـأن المتنبـي والمعري والبحتري وأبو نواس قد أصبحوا يعيشون في عصرنا

المصرية أشعارا تحمل الهم المصري والمزاج ويكتبون بالعامية . المصري الصرف

ذلك أن فؤاد حداد ليس يدخل على القصيدة من باب النظم بل من باب الشعر الذي يملي عليه مسارا شعوريا معينا يمضي فيه تحت وابل من الصور المتدفقة في رخات تشـبه رخـات

. اص المطر وإن احتفظت في كل قطراته بإيقاعها الخ عاشق هو لمصر، عشقها، خالل ناسها البسـطاء بـيض النفوس والقلوب من أنماط حياتهم التي تمثلت فيها حضـارات قديمة راسخة وضع يده وقلبه على عمق التاريخ المخضوضـر على ضفتي النيل، وساح في بحر الحب المصري غاص فـي

أعماقها إلى آخر المدى، عشـق حـواري القـاهرة ومآذنهـا ا ومشربياتها، قرأ في كل ذلك صورة البعث الوشـيك وكنائسه

لفجر الضمير اإلنساني الممتد عبر جبال سامقة من الشخصيات الفذة المؤثرة لمس بكل جارحة في كيانه معنى أن يكون اإلنسان جزءا ال يتجزءا من الوطن، ومعنى أن يكون الوطن إطارا من

. ه أحاسيس ومشاعر كل هؤالء الذين يستظلون بظل حين تنكشف له أبعاد الشخصية المصرية وما تركته فيه تقلبات العصور التاريخية من بصمات إيجابية ال تزال صـالحة كأساس إلقامة البنيان الحضاري الحديث، وحين استشعر فـي فؤادها ذلك الدفء اإلنساني العظيم قرر أن يقف مـع جمـوع

ـ يس الشعب على حرف واحد، وهو حرف العامية المصـرية ل عجزا منه عن استخدام الفصحى وهو فيها يطـاول الجهابـذة الضخام، بل بدافع من ضرورة وحتميـة أن يعـانق الشـاعر وجدان األغلبية الساحقة من عموم الناس، بحثا عـن األغنـى ووصوال إلى األرقى واألصدق واألشد حرارة، فاستطاع بكفاءة

ـ عبية ضـفافا منعدمة النير أن يجعل من المفردات العامية الش . للشعر في أعالي بحاره

نجح في ذلك ألنه كان وراءه تراث كبير من حضـارة شـعبية عريقة عميقة استوعبتها اللغة العامية المصرية وقدمت تجلياتها المبهرة في البكائيات واألغنيات واألمثال واألحـاجي والسـير والمالحم الشعبية والمواويل والحكايات واألساطير والتواشـيح

. الدينية واإلنشاد عند فؤاد حداد تنسى تماما أنك تقرأ بالعامية المصرية، بل

.. تنسى أنك تقرأ أصال ذلك أن كثافة الشعر وعظمة صوره ونبل إشعاعها يضـفي

. على المفردات العامية سموا وفصاحة وسموقا سوف يتضح لك أن اللغة المصرية في هذا الشعر ليسـت

على هذا النسق – يضا لها، بل إنها ضد الفصحى العربية أو نق مجرد طريـق يسـتدرج – العظيم في هذا االستخدام العبقري

اللسان العامي ويدربه على نطق الفصحى شيئا فشيئا سرعان ما يكتسب من هذا الشعر قدرة علـى التوفيـق يـبن المفـردات

ولربما كانت أشعار فؤاد حداد كلهـا . الفصيحة في جمل معربة فصحى ال ينقصها إال القليل من اإلعراب خرجـت لغة عربية

هي عن حدوده بعض الشيء بهدف إزالة الرهبة مـن اللسـان العامي التي هي في األصل رهبة ناتجة عن الخوف من صحة

اإلعراب، ويكفي الشاعر جهدا وقيمة أن يسهل علـى اللسـان العامي نطق األلفاظ الرصينة المفخمة حتى أصـبحت مألوفـة

. صبح من السهل بعد ذلك عالج مشكلة اإلعراب سلسة وأ أزال : مهمة جليلة قام بها فؤاد حداد في بساطة دون طنطنة

فالثقافـة . حاجز الغربة بين المتلقي والثقافة العميقة المعاصـرة العميقة تغترب دائما في المجتمعات النامية نتيجة لحذلقة لمثقفين

علـى البـث وعجزهم عن إيجاد لغة جيدة التوصـيل قـادرة وقد نجح أن حداد في إزالة هذا االغتراب، بان أعـاد . المباشر

تصفية اللغة التي نمارس الحياة بها، أعاد ترتيبها من جديد في انساق جديدة تتبنى رؤية جديدة وصورا جديدة ومشاعر طازجة

. تترسخ منها ثقافة جديدة عالية القيمة أنا كنت ماشي أقول أيوب لما ابتلى

ن بيوت األصول والعلم بالمسألة ما بي أالقي تحت الحمول نفسي في عرض الخال

أفضل أنادي على صبر وأماني وقافية خير مالزماني وياما نفسي اشترت مني وباعت لي

في تلتمية سنين الحكم عثمان

وما كنتش أقدر أكمل لوال إيماني ولوال طول الليل إلخ .. إلخ .. والفجر باعت لي

حداد قد استخدم كافة األشكال الكالسكية التي وإذا كان فؤاد ابتدعها الشعراء القدامى واستحدثها الحـدثون مـن مدرسـتي الديوان في مصر والمهجر اللبنانين في أمريكا، فإنه إلى ذلـك استخدم كافة األشكال الشعبية التي ابتدعها الفولكلور المصـري

، ومنظومـات من شكل البكائية، إلى الرقي والتعاويز، والقومة شاعر الرباب، واألهزوجـة والطقطوقـة والـدور والمـوال والموشحة والحكاية المنظومة، تطور عنده فن القومة في ديوان المسحراتي الذي يعتبر سفرا عظيما من أسفار الحب والثـورة، حيث تحولت شخصية المسحراتي بكل تراثهاك الديني والشعبي

جدان القومي العام يـوقظ إلى صوت للبعث يسعى بين خاليا الو . األفئدة والعزائم كي تهب النفوس تصنع فجرها الجديد

أبدا أبدا ال يستخدم الشعارات البراقة الجوفاء التي يرددهـا مدعو الثورات، إنما هو بكل بساطة يرينا أن اليقظـة الحقيقـة للشعوب تتمثل في انتباه الناس إلى الصالت الحقيقية التي تربط

ماء واحدة فوق أرض واحدة بدين واحـد وثقافـة بينهم تحت س

إن صوت البعث المسمى بالمسحراتي يوقظ في النـاس . واحدة إحساسهم باتساع نطاق شخصيتهم القوية، يدعوهم إلـى قيـام

إن هذا الفجـر الـذي يـدعونا . التآخي لمالقاة الفجر الصاعد الستقباله بعد تناول السحور إنما هو فجر مختلف، فجر مكلـل

لنور الروحاني اإلنساني نستقبله بنفس صـافية خالصـة هللا، با وهذا اإلخالص لن يتمثل بأجلى معانيه إال في التآخي والتـآزر

الرجل تـدب مطـرح مـا .. من الدقهلية إحنا أهلية : والتحنان كل شبر وكل حتى من بلدي حتة من كبدي حتـة مـن .. تحب . إلخ .. موال

وان المسحراتي وحده هـو لسنا نبالغ إذا أكدنا ها هنا أن دي كتاب الديوان المصري الذي البد أن ننصفه بتقريره على جميع المدارس ليتعلم األبناء حب الـوطن وكيـف يكونـوا رجـاال

إن المنجز الشعري في المسحراتي وحده يتفوق علـى . حقيقيين جميع العصور الشعرية في مصر، ناهيك عن ثالثين ديوانـا أو

جبروته أقوى الـدواوين العربيـة مـن أكثر كل ديوان ناطح ب . عصر المعلقات إلى يومنا هذا

وإذا كان ابن الحداد قد سجل االنتفاضة االجتماعية الثورية المصرية في دواوينه األولى، وسجل تاريخ الضمير المصـري

الحديث في ديوان من نور الخيال وصنع األجيال فـي تـاريخ تمثـل فـي قممـه القاهرة، وسجل قضية الشموخ المصري الم

التاريخية واألدبية والسياسية واالقتصادية والعسكرية في ديوان كلمة مصر، مستخدما في ذلك اللغة العامية التي قام بتطويرها، فإنه قد بلغ حدا من النضوج الفني والفكري واللغوي واإلنساني جعله يبدأ مرحلة جديدة تعتبر طفرة بارعة ال مثيل لهـا مـن

. ما وحديثا، تلك هي الحضرة الزكية شعرنا كله قدي في هذه الحضرة الزكية سـجل قصـة النبـوة المحمديـة والدعوة اإلسالمية برؤية مستنيرة تكشف لنا عن عمق مـا لـم نكن تكشفناه من القرءة التقليدية للتاريخ، تكشـف الكثيـر مـن

. أسباب سموق الحضارة اإلسالمية ية في اللغة العربية ما أروع أن تتغزل اللغة العامية المصر

: الفصحى لتكشف جمالياتها تزيدنا حبا لها وارتباطا به كان يا ما كان ليل الظالم والوجوم لغة العرب كانت بترعى النجوم . قامت إلى ضي النجوم تحلب

طلت عينيها من القمر تحلم بالفل األبيض والريحان األسمر تحلم تلوف بالزرع وتعمر

لهمة هي الحبيبة الشاعرة الم فارس يحامي عن شعار الملحمة قال النبي حبيت أشوف عنتر

وبتحفظ الرؤيا وبتعبر أعدل، المية إللي متقسمة

وفي طيبة األم اللي بتصبر إلخ .. في بنتها الموءودة المولودة

كل الحروف فيها اتزان األلف لما يحاول قمة العلياء

وداللة لما ينحني ع الياء ف والكل لما بيختلف يأتل

إلخ .. سكنوا الشجر في حدائق األحياء هل هناك أروع أو أجمل أو أعمق من هذا؟ هل شعرنا بأننا نقرأ لغة عامية يتداولها الناس على المقاهي؟ ال أظن أننا شعرنا إال بالشعر وحده، ومن خالله وصلنا الكثير والكثير مـن والـد

. الشعراء فؤاد حداد