237

577

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: 577
Page 2: 577

-١-

אא

Page 3: 577

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 577

-٢-

))١١(( في مؤخرة نهـار شـتوي، شمسـه م مساء آخر قاد …

. محتجبة خلف أقنعة رجراجة رصاصية مشوبة بزرقةة على قمة عمود بني اللون، ينتصب رالساعة تتربع باستدا

يمكن تمييز قرصها األبيض . في الطرف الشمالي من الميدان . قان الشجيرات العارية التي تحيط بالميدانعن سي

. توقفتان على الساعة الواحدة والربع معقرباها جامدتان، لعلهما توقفتا بعد منتصف ليلة شتوية، أو في ظهيـرة يـوم

. ربيعي بديعلكن ما جدوى معرفة ذلك؟ قالها وهـو يـدنو مـن

. الجدار القريب منه ليستذري من رذاذ السحاب ورخات المطر، وظلمة ما تبقى من أفق بين الريح باردة،

السماء وأسطح المباني، تفضي به جميعها إلى الكآبة، فيتعمق . عن اآلخرينثفي نفسه شعور بالغربة يدفعه إلى البح

Page 5: 577

-٣-

" مفتار"كان المقهى في الجهة المقابلة، عند ناصية شارع مقهى كمئات المقاهي التي . أكبر شارع يمر بمحاذاة الميدان

ادها طوال السنوات األربع التي مضت عليه في بـاريس ارت؛ "سـت "منذ أن وصل إليها في ذلك الصباح قادما من مدينة

حيث استقل يومها من محطة القطار عربة أجرة ليتجه علـى الفور إلى مقر منظمة حقوق اإلنسان، مخافة أن تلتقطه إحدى

. دوريات الشرطة قبل أن يصل إلى هناكالخطـوط . مقهى مترددا، كان بابه مقفـالً يتوقف أمام ال

المائية المتعرجة تنساب على واجهته الزجاجية، فتمنع النظر اإلضاءة الداخلية تعكس علـى شاشـة . ما بداخله عن تمييز

الواجهة المبتلة ظالالً وأشباحا ألشخاص على األغلب يقفون ينفتح الباب وتطل منه امرأة، توقفـت ". البار"أمام صندوق

مجعد منفوش فوق كتفيهـا، األحو عتبة المدخل، شعرها دنع . التفتت إليه بوجه دائري وحدقتين خضراوين

قالت بابتسامة طفولية خيل إليه أنها كانت علـى تقـاطيع : وجهها قبل أن تراه

! ـ يا لهذا الطقس المسعور

Page 6: 577

-٤-

عقلت لسانه المفاجأة، أراد أن يعلق بشيء ولـم تسـعفه حسبانه أن تخرج إليه من قتامـة هـذه بديهته، فلم يكن في

اللحظة المشحونة سأما امرأة مليحـة مرحـة، تبتسـم لـه . وتحادثه

رفع يديه مفتوحتين إلى أعلى، لعله أراد بذلك تعليقًا على ما قالته، أو أنها حركة غريزية للتشبث بلحظة واعدة ولـدت

. مع ابتسامة هذه المرأة، التي توشك أن تختفي خلف البابتراجعت المرأة إلى الداخل، وخيل إليـه أنهـا تـدعوه، فسارع خلفها، وأخذ يتمالها وهي تستدير مولية له ظهرهـا؛ طويلة، رشيقة القوام، ترتدي جبة قصيرة من الجلد األسـود وبنطلونًا رماديا مرتقًا بقطعتين من الجلـد البنـي، تغطيـان

. الجزء األسفل من ردفيهاالقوية، مشبعة " الجيتان"ئحة تبغ أقفل الباب فالتقته را

. بنكهة النبيذ األحمرألقى نظرة سريعة على داخـل المقهـى دون أن تحيـد . نظراته عن خط سيره الذي ترسمه له أمامه خطوات المرأة

بدا له المكان أكثر اتساعا مما كان يـراه فـي الخـارج، . على شكل حدوة حصـان " البار"مستطيالً يتوسطه صندوق

Page 7: 577

-٥-

حينما تجلس المرأة على الطاولة بمفردها، ويتقدم هـو ولكن نحوها؛ البد له من أن يقول لها ما يجعلها تحس بأنه شخص قد تكون مجالسته ممتعة، غير أنهـا توقفـت أمـام إحـدى الطاوالت، وانحنت على رجل يجلس بمفرده، ثم قالـت لـه

: بلهجة ساخرة ال تبدو أن ـ ال فائدة يا عزيزي دانيال، فسماء هذا اليوم

. لديها النية في التوقف عن الهذيانرغم المفاجأة واصل سيره فـي االتجـاه نفسـه، وراوده إحساس بأن كل الموجودين يرقبون المشهد، ولعلـه شـعور

. يساور كل عربي يدخل مقهى فرنسيا ألول مرةحث خطاه متجاوزا الطاولة التي توقفت بجانبها المـرأة،

ها، ثم جلس إلى طاولة شاغرة وجدها فـي متحاشيا النظر إلي . طريقه، كما يتصرف تلقائيا من يلجئه المطر إلـى المقهـى

هكذا دائما بدائلي، تأتي من وحي لحظة الفشل، وليس مفكرا . فيها من قبل

ينهض الرجل ويناول المرأة حقيبتهـا، يـداعب شـعرها ويترك يده تنزلق بين كتفيها عبر سلسلة الظهـر، ضـاغطًا

الجلد، حتى استقرت أصابعه عند نقطة التقـاء " جاكيت"على

Page 8: 577

-٦-

اقترب بوجهه منهـا حتـى . طرفها األسفل بخناق البنطلون تخلل أنفه خصلة شعرها، ولكنها لم تمل برأسها نحوه، بـل

أنفـه . اتجهت نحو الباب، فوضع يده على كتفها وسار خلفها محدوب قليالً، ترتكز فـوق أرنبتـه نظارتـان عدسـاتهما صغيرتان، جبهته ناتئة المعة، بينما يغطي جمجمتـه شـعر قصير أصفر أجعد، يلتصق بجلد رأسه، فيبدو وكأنه خطوط

. متعرجة مرسومة على سطح رأسه المخروطي الشكليحييان في طريقهما صاحب المقهى الجالس خلف خزانة

: البار، فيرد عليهما مودعا ومعلقًا . المطرمواجهة " جوهيل"ـ أخيرا قررت

قبل أن تخرج، فلمح على وجهها الطفولي " جوهيل"التفتت حس بخيبة أمل، . االبتسامة نفسها التي التقته بها عند دخوله

إنها ابتسامة لكل البشر وليست له وحده، فهذه امرأة ولـدت وعلى شفتيها ابتسامة طبيعية هدية إلى كل إنسان تعس فـي

. لحظة سأم مثلهيطلب منه أن ينتقل إلى طاولة أخـرى يأتي نادل المقهى ل

صغيرة مخصصة لفرد واحد، فينهض خلفه بلباقـة تاركًـا

Page 9: 577

-٧-

أسارير وجهه تنفرج بقدر ما يستطيع، حتى ال يـرى أحـد . عالمات الضيق والكدر التي اجتاحت كيانه

وجد نفسه يجلس في زاوية معزولة، ومعظم الطاوالت قد ، وفـي "البـار "صارت خلفه، على يساره تقع حافة صندوق

مواجهته أحد الجدران، بينما ارتفعت عن يمينه مرآة تشـغل حيزا كبيرا من الجدار، يستطيع بواسـطتها أن يشـاهد مـا

رأى نفسه في المرآة، فابتسم لها هـازا رأسـه . يجري خلفه هذه السحنة الداكنة، وهـذا الوجـه الـذي غـزت : بسخرية

نظر امـرأة مثـل أطرافه تجاعيد مبكرة من أين له أن يلفت ، هاته النظرات النهمة وراثيا، أال تكشف عن كل ما "جوهيل"

! بداخلك من رغبة همجية تثير لذة مشوبة بالحذر والتردد؟تنتابه سورة غضب مكتوم، وتساوره الرغبة في البصـق

لقد هربت منك بحثًا . على هذا الوجه الذي يطالعه في المرآة جالسا قبالتي في هذا الركن عن لقاء اآلخرين، فإذا بي أجدك اغرب عن وجهـي أيهـا . المعزول من مقهى غاص بالبشر

. التعس؛ فقد أصبتني بالمللعشرون عاما ونحن رفيقان، تجمعنا الزنزانات ودهـاليز التعذيب، تحملنا معا دروب الهرب من الموت، وتلقـي بنـا

Page 10: 577

-٨-

مراكب التيه في المرافئ المجهولة، فهل تضيق برفقتي فـي حظة االسترخاء، في مكـان مسـكون بالطمأنينـة وأشـعة ل

الشمس، ونفحات الهواء المضمخة برائحـة كئـوس اللـذة . وعطور النساء

يطلب قهوتين، فيعقد نادل المقهـى حاجبيـه مسـتغربا، : فيضيف مازحا

). مشيرا إلى المرآة(ـ واحدة لي وأخرى لهذا السيد نه وبين نـادل ينتهز فرصة جو االستلطاف الذي شاع بي

المقهى، فيسأله عن اسمه فيجيبه هذا األخيـر بـأن اسـمه ". باتريك"

…ـ اسمي عدنا يصيح مجيبا أحد زبائنه، ثم يتوجـه إليـه " باتريك"ولكن

دون أن ينتظر سماع بقية أحرف اسم زبونه الجديد، فيبتلـع . عدنان الحرف األخير من اسمه مع رشفة من فنجان قهوته

ب وتدخل امرأة مسنة، لعلها في العقد السـادس ينفتح البا من عمرها، تتهدل بعض خصالت شعرها األشيب من تحت طاقية الصوف البنية، تلتحف معطفًا أسود باليا لم يتبق فيـه سوى زرين، أحدهما في أعلى الصدر، واآلخر عنـد نهايـة

Page 11: 577

-٩-

البطن، يغطي قامتها المتوسطة حتى الركبتين؛ فيفسح مكانًـا أحمرين، ينتهيان عند رقبتي حذاءين يكسوهما وبر لجوربين

أسود، يخترق مقدمة أحدهما أكبر أصابع رجلهـا اليمنـى، فتبرز عبر الوبر عارية منتفخة، تتـدلى مـن رقبتهـا آلـة

قديمة، وبمجرد دخولها تبدأ في العزف مـرددة " أكورديون"مقطعا غنائيا حفظه عدنان لكثرة ما رددته في كل مرة تـأتي

. ها إلى المقهىفيانتظرته عمرا ولم يأِت بعد، ولوال شوق انتظاره لكـان "أنتظـره ولـيس بيننـا . ما فات من الزمن حتى اليوم قاسيا

موعد، ولكنه قد يأتي بعد رحيلي، فيكون حقًا قد جـاء فـي "! موعده، فقط أنا التي انتظرته قبل األوان

م الزبـائن حينما تنتهي من وصلتها القصيرة هذه، تمر أما فاتحة يدها في صمت، فيناولها بعضهم قطعا نقدية صغيرة ال

، وفي بعض الليالي ال تخـرج مـن "الفرنك"تتجاوز قيمتها المقهى إال بفرنكين، تعود أن يعطيها إياهمـا عـدنان كلمـا

وبعـد أن تكمـل . تصادف مجيئها مع حضوره في المقهى ة بـين األمـر بلهج" باتريك"جولتها بين الزبائن يصيح بها

: والطلب

Page 12: 577

-١٠-

. أخرجي…ـ فرانسواز إلى طريقها السـابق دون أن " فرانسواز"فتخرج العجوز

أو تنظر ألحد، ولكنها تسير نحو البـاب علـى غيـر تلتفتعجل، إلى أن تصل إلى الشارع، ويختفي خيالها خلف ميدان

". كونتر اسكارب"ينشب عراك بين كلب وقط، ويرتفع المـواء والهريـر، وينطلق صوت نسائي من خلف الباب المفتوح علـى يسـار

الذي يبدو أنه مدخل للبيت من داخـل المقهـى " البار"خزانة : ينادي

. ـ ها قد بدأت الحرب بين آل جورج وبين حيواناتهمفيرد عليه آخر متسائالً عن سبب تأخرهـا حتـى هـذه

أن يروي وقائع ما حدث فـي " باتريك"بينما يحاول ! الساعةلداخل، موضحا لبعض الزبائن الذين ال يعرفـون بـواطن ا

األمور بأن قط مدام جورج ال يروق له النوم إال فوق كنبـة قديمة عرجاء في مدخل الصالون، والكلب مسيو جـورج ال يأتيه النوم إال تحته، وعندما ينهض الكلـب يقلـب الكنبـة بظهره، فيسقط القط النائم علـى األرض، ويحـدث سـوء

. مالتفاه

Page 13: 577

-١١-

إلى مقعده، ويـدفن رأسـه فـي جريدتـه " جورج"يعود يجيل عدنان نظراته في المقهى، فال . المسائية، وتهدأ األمور

يرى بين الزبائن وجوها عربية، فيحس باالرتياح؛ فلم يعـد يرغب في ارتياد المقاهي والحانات واألماكن التي يرتادهـا

سـا فـي لقد أمضى السنوات األربع الماضية منغم . العربدوامة الجدل والخالفات بين المثقفين العرب، الـذين يعـيش معظمهم على تناقضات األنظمة السياسية العربية، كان مندفعا طوال تلك السنوات، ال تفوته ندوة أو تجمع أو تظاهرة، وال

. ينتهي من جدل إال لكي يذهب إلى جدل في مقهى آخرتوحـا أمامـه، اتجه إلى الصحافة فوجد أكثر من باب مف

فأفردت له إحدى الصحف صفحة كاملة يعبر فيها عن رأيـه جمهورية الشـمس العربيـة "المعارض للنظام السياسي في

، ولكنه فوجئ بعد مرور بعض الوقـت بالصـحيفة "الشعبيةــرى ــوعات أخ ــي موض ــب ف ــه أن يكت ــب من تطلال تمس هذا النظام، وعلم بعد ذلك بأن هذا التغيير قد حـدث

. تمت تسوية بين الصحيفة ونظام بالدهبعد أنانتقل بعد ذلك إلى مجلة أسبوعية، فأسندت لـه تحريـر صفحة ثقافية مقابل مبلغ سخي، وبعد مرور بضـعة أشـهر

Page 14: 577

-١٢-

تحسنت خاللها أوضاعها المعيشية، وتعود على هذا المبلـغ، استدعاه رئيس التحرير ليعرض عليه فكرة تخصيص صفحته

ناقـب النظـام السياسـي للمملكـة األسبوعية للحديث عن م ، الـذي يتعـرض لحملـة صـهيونية "الشخبوطية العربية "

ولكنه اعتذر عـن ! مغرضة، بدعوى خرقه لحقوق اإلنسان عدم قدرته على القيام بهذا الدور، رغم إدراكه بأن ذلك يعني

. عودته إلى الشارع والضياعبعد خروجه لحق به أحد زمالئه الصحفيين ليثنيـه عـن

ه، وليخبره بأن كل الصحفيين العـاملين فـي المجلـة عزميكلفون بكتابة مثل هذه الموضوعات، وأنه في حالة إصراره

. على موقفه سيستغني عنه رئيس التحرير منذ الغدغير أن عدنان أبلغه بأنه لم يهرب من نظام قمعي يسوق الناس إلى المشانق ودهاليز السجون؛ لكي يدافع عـن نظـام

. الشيء نفسه ضد آخرينمثله يفعليحاول زميله أن يقنعه بأن معظم المثقفين العرب الـذين يراهم في باريس وعواصم الغرب األخرى هم مثله هاربون ومشردون، ولكنهم مضطرون للعيش علـى حسـاب هـذه

Page 15: 577

-١٣-

التناقضات بين األنظمة، فيحتج عدنان على محاولـة زميلـه . تزقتبرير ظاهرة تحول المعارض العربي إلى مر

يغضب زميله الذي يعتبر التهمة موجهة إليـه؛ فيصـف وأن . عدنان بأنه ال يزال يعيش في عالم لـم يعـد موجـودا

موقفه من هذا لن يكون له أي أثر بين المثقفين، فيعترف لـه عدنان بأنه ال يستطيع أن يمنع أيا منهم من السقوط، ولكنه قد

فـي هـذه يستطيع إحراجهم، يحذره صاحبه من اإلغـراق المثاليات، ويؤكد له أنه لو علم بموقفه هذا أي مثقف عربـي

. في هذه الحقبة، لكان ذلك مدعاة لسخريته وليس إلحراجهفيرد عليه عدنان، وهو ينهض منهيا ذلـك الجـدل بـأن

. األجيال القادمة لن ترى في مثل موقفه ما يراه هـؤالء اآلن . وأنه ذاهب في اقتناعه إلى النهاية

: د زميله على يده وهو يقول لهيشـ أخشى يا صديقي أن تكون ذاهبا إلـى معركـة فـات

! أوانهامساء آخر يأتي لم تكن مساؤه غائمة، ولم يكـن المـارة

كـونتر "يهرولون في الشارع تحت المطر، مصابيح ميـدان . مضاءة، وباب المقهى مفتوح" اسكاب

Page 16: 577

-١٤-

ـ "دانيال"وخلفها " جوهيل"تدخل ي جيبـي ، يضع يديـه فالمعطف الرمادي، نظارته الصغيرة ومقدمة جبهته تلمعـان

. تحت ضوء المدخلمسلطة عليه، فال بد أنه لفت انتباهه " دانيال"وجد نظرات

بنظرات نهمة، ويبتسـم لهـا " جوهيل"هذا الرجل الذي يلتهم . دون سابق معرفة

يتجهان نحو أحد أصدقائهما، رجل يميـل إلـى السـمنة، هلتان، يختلط طرفاهما بأرنبة أنفه األفطح، يهـش وجنتاه متر

، بينما تناديه هـي "مدام دانيال "باسم " جوهيل"للقائهما مناديا في مكان ال تـولي فيـه " جوهيل"، تجلس "مسيو بينو "باسم

ظهرها لعدنان وال تواجهه، وبدت مشغولة طـوال الوقـت بالحديث مع جلسائها، تمتد بين الحين واآلخـر يـد دانيـال

زوجها لتعبث بلفائف شعرها األحو، ثم تهبط حتى تستقر في . منحنى الوادي الممتد بين كتفيها

االبتسـامة لـم تكـن "يا لهذا الوهم الذي صنعته بنفسك تخصك وحدك، ها هي ذي تجلس بالقرب منك منذ أكثر من

". ساعة دون أن تعيرك أدنى انتباه

Page 17: 577

-١٥-

تها، فهل لك أيها القهر، لقد ضاقت بك مسالك نفسي وأزق ينكفئ إلى الـداخل، تنـتفض . أن تخيم خلف أسوار المدينة

أطرافه، يقمع تمردا، يشب حريق، يلعن الزمن، يعـود إلـى الكتابة فيقلب صفحة جديدة، ويستدعي األلفـاظ والكلمـات، ينساق في لعبة ترتيب الحروف؛ فقد وجد في ذلـك وسـيلة

يدا سـاعات لصرف أنظار الناس عنه، وتبريرا لجلوسه وح . طواالً في أماكن تعج بالبشر واللقاءات والمصادفات السعيدة

يمسك القلم فتسقط يده على الورقة، يدخل الركب وتقفـل األبواب، تغرب الشمس خلف القلعـة، ويحتضـن الظـالم

. أسوارهايدخل عجوز تجاوز العقد السادس من عمره، رث الهيئة،

حيته البيضاء أكليل يجلـل لفائف شعر ل . يرتدي معطفًا مرتقًا ذقنًا، وعارضين لوجه مستدير، عيناه الزرقاوان تشعان تحت حاجبين ال تزال شقرة شعرهما تقاوم زحف المشيب، حـذاؤه الضخم المفتوح يتحكم في خطواته، فيبدو وكأنـه يجرجـر قدميه، قامته الطويلة لم تستسلم بعد للزمن، عجـوز وسـيم

. وهامشي متميز

Page 18: 577

-١٦-

بلقب " البار"من يمر بهم وهو في طريقه إلى يناديه بعض . وسيم باريس

يقبض على عنق كأس النبيذ األحمـر، ويظـل يتمالهـا عن أخبار العالم هذا المساء، فيجيبه " جورج"بشوق، ثم يسأل

هذا دون أن يرفع رأسه عن جريدته بأنه ليس فيها ما يهمـه شخصيا، فيبتسم وسيم باريس بسخرية من يعـرف اإلجابـة مقدما، ثم يشعل سيجارة، ويتناول جرعة من كأسـه فتـأتي

. على نصفهايمسح شفتيه بظهر يده اليسرى، بينما تظل كف يده اليمنى تتحسس الكأس صعودا وهبوطًا، وكأنه يداعب حلمـة ثـدي

. امرأةتحين منه التفاتة، فيرى وجها لم تسبق له رؤيته من قبل،

. عليه بإيماءة من رأسهيرفع كأسه محييا، فيرد عدنان يتوجه نحو عدنان، ويقدم نفسه وهو يضـع كأسـه بيـد

: مرتعشة على حافة الطاولة، ولكن أمي كانـت تلقبنـي بوسـيم "جان كلود "ـ اسمي

" بينـو "حينما يندمج االثنان في الحديث، يعلق مسيو ! باريسصديق جوهيل ودانيال بأن وسيم باريس قد وقع على شخص

Page 19: 577

-١٧-

مثله، سيريحهم منه هذه الليلة، فيجد دانيـال غريب األطوار في ذلك فرصة إلبداء رأيه، واشمئزازه من شخصية عـدنان الذي يحاصر جوهيل بنظراته النهمة منذ بداية السهرة، فيؤكد أنه فعالً غريب األطوار، وسمات وجهه تجلب النكد، غير أن جوهيل ال تجاريهما في ذلك، وال ترى في سمات هذا الرجل

وهو ينظر إلـى " دانيال"بما يقوالنه، فتحمر وجنتا ا يوحي مزوجته من خلف نظاراته الصغيرة بعيني غائمتين باالشتهاء

. والغيرةوسيم باريس بعد أن تعرف إلى عدنان، " جان كلود "يعود

. ووضع أسس عالقة ستدوم بعد ذلك المساء زمنًـا طـويالً بض مرتعشـة يتوجه إلى صندوق البار وهو يسعل، ويده تق

على كأسه الفارغة، يجر حذاءيه الثقيلـين فيجلبـان صـوتًا . يطغى على حديث من يمر بهم

استفزازه فيرد عليه بأنـه ال يشـتهي " بينو"يحاول مسيو الحديث مع مخلوقات من أمثاله، لوال أن كل حسناوات مقهى

. منشغالت بمداعبة عشاقهم هـذا المسـاء " تر اسكارب نكو"لم يكـن " جان كلود " النساء ضاحكات، ولكن تنفجر كثير من

التي يعشقها دون كل اإلناث في مقهـى " جاكلين"يعني سوى

Page 20: 577

-١٨-

، والتي كانت منشغلة عنه بمداعبات صديقها "كونتر اسكارب "تلتفت نحوه باسمة، فيدنو منها وهو يشـكو تعـب ". أوليفي"

" جـاكلين "نفسه من بحثها عن الجديد في عالٍم باٍل، فتواسيه اتبه على هذا التشاؤم، فيعترف وسيم باريس بأنه ما تزال وتع

لحسن حظه بعض األشياء التي تخفف عنه وطأة قسوة هـذا ، أو لقائه بإنسان يتجسـد "جاكلين"الواقع؛ كابتسامة أنثى مثل

الرقيق ) مشيرا إلى عدنان (فيه معنى اآلخر؛ مثل هذا الشاعر . الذي تعرفت إليه هذا المساء

جـان "بالحرج من هذا اإلطراء من جانـب يحس عدنان ، الذي لم يتعرف إليه إال منذ قليل، ولعله الحـظ مـن "كلود

خالل تصرفات بعضهم تجاه وسيم باريس بـأن آراء هـذا األخير وأحكامه ليست محل اعتبار من قبل الموجودين فـي المقهى؛ ولهذا فقد يؤدي هذا الرأي العلني فيه مـن جانـب

. تهزاء اآلخرين به وليس احترامهإلى اس" جان كلود"نحو عدنان رأت فيه رجـالً بـين " جاكلين"حينما التفتت

الثالثين واألربعين من عمره، يبدو وهو جالس طويل القامة قوي البنية، شعره األسود تنهدل خصـالته فـوق حـاجبين كثيفين، يظلالن نظرات متوثبة مشحونة بالغربة والظمأ؛ فبدا

Page 21: 577

-١٩-

بينما . غريبة، خليطًا من الجاذبية والنفور لها شخصية متميزة في العشرينيات من عمرها، رشيقة، شـعرها " جاكلين"بدت

أسود قصير متموج فوق شحمتي األذن، تنكسر موجاته على . عنق طري أملس أتلع

نظرت إليه بعيني بقرة وحشية في وجه مالئكة، ولكنهـا . شتهاءحين ابتسمت بدت له جنية تغتسل في نهر الشبق واال

، ويسرق عـدنان "جان كلود "حديثها مع " جاكلين"تستأنف المنهمكة في الحـديث مـع أصـدقائها، " جوهيل"النظر إلى

، "دانيـال "فتصطدم نظراته بالضوء المنعكس على نظارات يطأطئ عدنان رأسه ويختفي خلـف قلمـه . وجبينه المقطب

. وكراسته الصغيرةتقع في حصار " يلجوه"كلما اتجهت نظرات عدنان نحو

المنتقدتين اشمئزازا، ولعلها كانت تلك وسـيلته " دانيال"عيني لوضع هذا الصعلوك الغريب في دائرة اإلحراج المسـتمر،

. ليقلع عن مطاردة زوجته بنظراته الشبقة المتهتكةيا هذا العمر الذي فني ما مضى منه في دوامة االلتـزام

هب ما تبقى منـك فـي بمبادئ كالجمر في قبضة اليد، فليذ . البحث عن حب النساء

Page 22: 577

-٢٠-

ينكفئ عدنان على نفسه في الزاوية المنسية فـي مقهـى بعد هذه السنوات األربع التي قضاها فـي " كونتر اسكارب "

باريس، متنقالً بين الجمعيات والمنظمات، وال يسـتقر فـي واحدة منها حتى يتركها وينتمي إلى أخرى، بمجرد أن يجـد

ا بين ما تمليه عليه المنظمة مـن التزامـات، أن هناك تناقض . وبين ما لديه من قناعات ثابتة

عندما انضم إلى أولى هذه المنظمات، لم يكن يومها خبيرا بأساليب العمل والمناورات التي تجري في هذا النـوع مـن

. التجمعات التي تضم أجناسا مختلفة، وآراء متعددةاإلنسـان عـن طريـق انضم إلى رابطة األممية لحقوق

أعضائها من أصدقائه العرب، وكان استقبال أعضاء اللجنـة . المشرفة ودودا مؤثرا، فتآلف معهم منذ اللقاء األول

لكنه سأل أحد زمالئه من األعضاء العـرب بعـد ذلـك بأسابيع؛ لماذا كل األعضاء الفرنسيين والفرنسيات في اللجنة

، "بيرنـو "، و "سـارة "، و "دافيد"المشرفة يحملون أسماء مثل؛ غير أن زمالءه استهجنوا هذا السـؤال، واسـتنكروا عليـه حساسيته المفرطة ضد اليهود، وقال له بعضهم بأن هـؤالء هم فرنسيون تقدميون يناضلون من أجل قضايا إنسـانية، وال

Page 23: 577

-٢١-

ولم يشأ أن يدخل معهم في . يحفلون بهذه االنتماءات الضيقة اهد أو أدلة تؤيد وجهة نظره جدل حول مسألة ليست لديه شو

اندفع يشارك بحماس في نشاطات المنظمة، من أجـل . فيهاقضايا كثيرة؛ مثل تأييد رابطة التضامن في بولندا، ومناصرة الحريات في أمريكا الالتينية، والدفاع عن السجناء السياسيين والنقابيين العرب؛ فقد كان خارجا من مرحلة طويلة اتسـمت

مع والسجن، فوجد في هذه النشـاطات العلنيـة بالخوف والق متنفسا يعبر فيه عن مكبوتات مزمنة، غير أنه وجد نفسه في موقف محرج عندما طرحت اللجنة فـي أحـد اجتماعـات المنظمة موضوع التوقيع على عريضة احتجاج لنشرها فـي الصحافة العالمية؛ وذلك للضغط على الحكومـة السـوفييتية

الروس بممارسة حقهم في الهجـرة، كمـا لكي تسمح لليهود اقترحت اللجنة يومها أيضا القيام بمسيرة احتجاج إلى السفارة السوفييتية لمطالبة السلطات الروسية باالستجابة لرغبة أحـد علماء الذرة اليهود بالهجرة إلى إسرائيل، فالقـى االقتـراح موافقة جميع األعضاء باعتباره تطبيقًا لشعار تناضـل مـن

. أجله المنظمة؛ وهو حق اإلنسان في التنقل والسفر

Page 24: 577

-٢٢-

راعته موافقة كل األعضاء العرب الحاضرين دون إبداء مالحظات؛ فانسحب بهدوء مخافة أن يتهم بالفاشية ومعـاداة حقوق اإلنسان، وال سيما أن موقفه الضعيف كالجئ سياسي

. يجعله في حاجة لمظلة هذه المنظمة ئه بعد انتهاء االجتماع؛ أعرب لـه حينما التقى أحد أصدقا

عدنان ـ وحبال رقبته تتورم، وصوته يزداد بحـة ـ عـن دهشته لقبولهم الخروج في مظاهرة يطالبون فيها بحق يهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وطرد ما تبقـى فيهـا مـن

: الفلسطينيين، ولكن صديقه يرد عليه بلهجة تودد ا لمرحلة لم تعد موجـودة ـ يا عدنان أنت ما تزال أسير

إال في ذهنك؛ ولهذا فإنني مضطر ألن أوضح لـك أمـورا . كثيرة

يزداد عدنان تشنجا؛ وهو يعبر عن خجله مـن مـوقفهم المؤيد لمثل هذه المقترحات، وكأنهم لم يهربوا من بلدانهم إال

. لكي يناضلوا من أجل إسرائيل الكبرىن يخبره بأنهم لـم يتمهل صديقه حتى تخبو ثورته، قبل أ

يأتوا إلى هنا لكي يصارعوا اليهود، ولكنهم أتوا مثله هاربين بجلودهم من أنظمة ليس في حاجة إلى وصفها، وأن مثل هذه

Page 25: 577

-٢٣-

المنظمات تعد منابر يستطيعون من خاللها تأليب الرأي العام ضد هذه األنظمة؛ حتى تخفف من قهر وتعذيب ضحاياها في

. الداخل برد صديقه؛ ألن األنظمة السياسية العربية ال يقتنع عدنان

حسب رأيه ال تعير باالً لمثل هذه االحتجاجات الشفهية، بينما يتحول معارضوها بهذه الطريقة إلى دعاة لمزيد من الهجرة والتوسع اإلسرائيلي؛ فيسأله صديقه ساخرا ما إذا كان اليهود

. أو يتوسعوا في حاجة لدعوة من أحد لكي يهاجروايقاطعه عدنان مؤكدا أن العبرة لديه في مثل هذه الحاالت

. ليست بالنتيجة؛ إنما بالمواقفيوضح له صديقه أن مثل هذه المنظمات لم تقم خصيصـا ألجل الدفاع عن قضايا العرب؛ بل من أجل مبادئ إنسـانية عامة، وأنه بإمكانهم أن يستفيدوا منها، ثم يـذكره بموقـف

بتسليم السفارة اإلسـرائيلية عريضـة المنظمة عندما قامت احتجاج على سوء معاملة السجناء الفلسطينيين في السـجون

. اإلسرائيليةلكن عدنان يعتبر ذلك مجرد غطـاء للعمـل مـن أجـل إسرائيل الكبرى، على حساب الفلسطينيين والعرب، وال بأس

Page 26: 577

-٢٤-

من تحسين المعاملة لمن تبقى منهم على قيـد الحيـاة فـي ! السجون

: ضيق زميله به ذرعا، فيقول لهيـ إننا لم نفعل شيًئا سوى العمل في منظمات تدافع عنـا؛ فهل ترانا نتفاوض مع إسرائيل، أو نعقد معها اتفاقيات تعاون

. وحسن جواريلوح عدنان بيده معبرا عن عدم رغبتـه فـي اسـتمرار

: النقاش . ـ أنتم أيضا ستفعلونها حتما إذا صرتم حكاما

: رد عليه صديقه ضاحكًا قبل أن يفترق عنهي حكام هذه المرحلة لن يذهبوا حتى ينجـزوا …ـ اطمئن . هذه المهمة

بعد ذلك انتمى عدنان إلى منظمات وجمعيـات أخـرى، فكان يجد دائما األسباب نفسها التي تجعله يتركهـا، إلـى أن تخلى نهائيا عن ممارسة أي نشاط من خالل هذه المنظمات،

صار يتغيب عن التجمعات العربية، فال يحضر تظاهراتهـا ووندواتها إال نادرا، حتى انقطع نهائيا، وتوارى فـي وسـط زحام شوارع باريس، وكف عن ارتياد تلك األمـاكن التـي

Page 27: 577

-٢٥-

شهدت طوال السنوات األربع صوالته في حلقـات النقـاش؛ وذلك بعد أن يئس من جدواها، ومل من تكرار ما يقوله وما

سمعه، ولم يعد حريصا على بناء عالقـات شخصـية مـع يالعرب، فصار ال يلتقي أصدقاءه ومعارفه إال مصادفة فـي أنفاق المترو، أو عرضـا فـي الشـارع، فيسـلم علـيهم

وال يستبطئ الوقوف معهم، وكان تبريره لهذا الموقف أمـام نفسه هو أنه حينمـا كـان النشـاط السياسـي واالخـتالف

وى داخل الوطن؛ فإنه ألقى بنفسه في معمعته والصراع ذا جد وتحمل تبعاته، حتى صار يتعقبه الموت ويطارده السجن، أما وقد أصبح الجًئا يبحث عن مأوى وأمن لدى اآلخرين؛ فمـا جدوى أن يكون له أعداء وخصوم وحلفاء من بين المطاردين من أمثاله، ومن المرتزقة، أو من الباحثين عن لقمة العـيش

. موسة في االحتقار والمهانةالمغعن متجر العطور الذي " جان كلود "تحدث " جاكلين"كانت

تمتلكه، وتشكو من عدم إقبال الناس كالسابق علـى شـراء ينفجـر ضـاحكًا، ) وسيم باريس (ولكن جان كلود . العطور

ويرى في ذلك فأالً حسنًا؛ ألن معنى هذا أن الفرنسـيين قـد

Page 28: 577

-٢٦-

ولم تعد حاجتهم للعطور كبيرة ترسخت فيهم عادة االغتسال، . كاألجيال السابقة

صاحب المقهى على ترديـد مثـل هـذه " جورج"يلومه : قائالً له" مسيو بينو"الترهات، بينما يستفزه

. ـ إنك تبحث عن أسباب وراثية لعاداتك السيئةيحتد الخالف وتبادل التعليقات بـين ثالثـتهم، فتتـدخل

يارة محـل العطـور، وتعـده لز" جان كلود "جاكلين داعية بزجاجة عطر، ولكن وسيم باريس ال يرى ضرورة لزيـارة

. المحل، طالما أجمل قارورة فيه يراها كل ليلة هنا" جان كلود "صديق جاكلين ال يعير اهتماما لغزل " أوليفي"

وتعلقه بصديقته؛ ألنه ال يرى فيه سوى عجوز متصـاٍب، ال ى مشـاعر العطـف سـو " جـاكلين "يمكن له أن ينال من

. والمجاملةتستدير جاكلين نحو أوليفي فتلتقي نظراتهمـا، ويقتـرب وجه كل منهما من اآلخر، فيلتفت وسيم باريس إلى الناحيـة، ليتحاشى رؤية بدايات تشكل عالما من نسيج حسي، تتشـابك

. فيه نداءات الرغبة وإيحاءات االشتهاء

Page 29: 577

-٢٧-

ـ ارج لحظتهـا يحس بأن جاكلين لم تعد معه، وأنه يقع خالزمنية، ولم يعد له مكان في عالم ال يمكن أن تتزامن فيـه

. أكثر من رغبتين متبادلتينيتراجع وسيم باريس بهدوء متفحصـا كأسـه الفارغـة، متصنعا عدم االكتراث بمشهد العناق الذي يجري خلفه، حتى ال يبدو موقفه أمام اآلخرين شبيها بموقف من يحاول الخروج

. مفاجئمن مأزقيسكب باتريك نادل المقهى النبيذ في كأس جـان كلـود، وقبل أن يتوقف يمسك بيده وسـيم بـاريس، ويطلـب منـه االستمرار؛ ألنه يريد أن يرى الكأس مترعة، وسيدفع له ثمن

. النبيذ المسفوحينفجر بركان الكأس، وتقذف فوهته بسائل أحمر ينسـاب

. على منحدراته، ويغمر قاعدته جان كلود بقطعة نقدية، ينظر إليها باتريك، ثم يطالبه يلقي

. بثمن النبيذ المسفوحيبحث وسيم باريس في جيب بنطلونه، ثـم يخـرج يـده خالية، ويعد باتريك بأن يأتيه بالثمن غدا، ولكن هذا األخيـر يطلب منه أن يبحث في جيب البنطلون األيسر؛ فيجيبه جـان

Page 30: 577

-٢٨-

لجيب األيمن، أمـا األيسـر كلود بأنه يضع كل أمواله في ا ! فمعمول للتهوية فقط

يرفع جورج صاحب المقهى رأسه عن جريدته، ويـرى : باتريك وهو يجفف بقع الكحول، فيقول له

. ـ كان ينبغي أن تجعل جان كلود يلعقه بلسانه : فيرد عليه وسيم باريس

ـ ليس من عادتي أن ألعق النبيذ إال حينما يكون قطرات . ة فوق شفتي امرأة تشتهيني بجموح المهرة البكرندية متعنقد

من يعجـز : "يهز جورج رأسه باستهزاء، وكأنه يقول له ". عن فعل شيء يكثر من الحديث عنه

ينقض جان كلود على كأسه، فينال منها جرعـة كبيـرة، ويمسح فمه بظاهر يده، ثم يشعل سيجارة، ويـولي ظهـره

. للجميع الخاسـرة لغـزو عـوالم تراجع وسيم باريس من جولته

جاكلين، متحامالً على جراحه، وخيل إليه أنـه نجـح فـي ولكن جورج كان ينتظـره . انسحابه، ولم يلفت نظر أحد إليه

في آخر منحنيات المنعطف المفضي إلى السهل، ليجهز عليه . بسادية وبرود أعصاب

Page 31: 577

-٢٩-

يدندن جان كلود بكلمات ليست شعرا وال هي باألغنيـة، : تتحسس الكأس صعودا وهبوطًايرددها ويده

…تاهت قدماي بين سفر وسفر " أغراني شعاع الشرق فاختلست بواكيره

.وصنعت منها قالدة لجيد لم تشرق على مثيله شمس أغواني شعاع األصيل أرجوانيا

ربطتها بقوس قزح، يـداي .. واقتطفت منه باقة بنفسجية مثقلتان، وقدماي تاهتا بين سفر وسفر

ني بين الشعاعين لم ألتق شيًئا آخر غير هذا العالم فما ولكن ) …أروعه لو لم يكن سيًئا

لم يعره أحد انتباها، ولم يقطع أي من رواد المقهى حديثه لإلنصات إلى ترنيماته، ما عدا عدنان الـذي سـمعها ألول مرة؛ فقد تعود جان كلود على ترديدها في كل ليلة يحاصره

. يد بجانب صندوق البارفيها الصمت، وهو وحعندما يكف اآلخرون عـن مناكفتـه، وينشـغلون عنـه باألحاديث والهمس والمداعبة والمناجاة، وعندما يحس جـان كلود بأنه صار حيزا مفتوحا، تسافر فيـه كلمـات الغـزل،

Page 32: 577

-٣٠-

وقوافل الهمسات الحميمـة، وتعبـره الضـحكات المؤنثـة ـ ذة المداعبـة المكتومة، وتعبث فيه األرجـل المتشـنجة بل

والقبالت، فيستدعي من ذاته فعالً مبدعا ليهزم به عالم تلـك . اللحظة التي ليست له

تتدفق الكلمات عبر المسالك الموحشة، واألغوار المظلمة، حاملة بشرى عالم لم تره عين، ولم تسمع به أذن، بينما يتقزم عالم األشياء والنساء والرجال، ويجرده جان كلود مـن كـل

. ى ال يروق لهمعنال يلتفت إليه أحد بعد نهاية رحلته، عدا جوهيل التي تبتسم له مواسية إياه على عودته الخائبة إلى عالم األشياء والبشـر

. والموت والشيخوخة . يهز جان كلود رأسه بتأثر، ويبعث إليها بقبلة من بعيد

يفيق عدنان من رحلته مع جان كلود فيرى بقايا ابتسـامة جه جوهيل، ولكنها لم تكن تنظر إليه، بينمـا يخـتلس على و

وسيم باريس النظر إلى جاكلين، فيجدها مشـغولة بمداعبـة أوليفيي، تلتقي نظرات الرجلين بعد أن تراجعت كل منهمـا منكسرة عن مشهد ال يبعث على السرور، كالهما يبحث عن

. امرأة ال تبحث عنه

Page 33: 577

-٣١-

أن يخفـي يحس جان كلود بأن صديقه الجديـد يحـاول وحدته خلف قلمه وأوراقه، مثلما يحاول هو نفسه أن يخفـي

. األمر ذاته خلف هذا المقطع الذي يترنم بهيقترب مترددا من عدنان، فيهش هذا في وجهـه ويهنئـه بسالمة العودة من رحلة يلزمه أن يستريح بعدها قرنًـا مـن

. مما يرويه عنها الزمن، ولديه الكثير فرحة هذه الليلة بلقائه لشاعر يتمنـى يعبر جان كلود عن

أن تدوم صداقته، ويصبح زبونًا دائما فـي مقهـى كـونتر . اسكارب

ينتشي عدنان بهذا الترحيب، ولكنه ال يخفي نيته فـي أن يهجر المقهى إذا لم يجد فيه ما يشده ويسره، ولكـن وسـيم باريس يتمنى أال يفعل عدنان ذلك؛ ألنه ليس هناك أسوأ من

! وم يهجرهم شاعرحظ قيندفع جان كلود في تقديم بعض وجوه المقهى إلى صديقه

: الجديد دون علمهملـم " جـاكلين "ـ هذه الفاتنة التي تجلس في قبالتنا اسمها

. امرأة أجمل منهـا حتـى اآلن " كونتر اسكارب "ترتد مقهى كانت تعمل ممثلة مسرحية، ثم فازت فـي مسـابقة أجمـل

Page 34: 577

-٣٢-

محالً للعطور، ولكنها تبحـث عـن عارضة أزياء؛ ففتحت . فرصة في السينما

: وسيم باريس جبهته مستدركًا" جان كلود"ثم يعقد ـ إنني أشك كثيرا في موهبتها، ولكنني متيقن من أنهـا

. ستحصل على هذه الفرصةأما هذا الشاب األشقر القصـير القامـة، والـذي تراهـا

، وهـو فـي "يأوليفي"مشغولة به طوال الوقت؛ فهو صديقها الحقيقة ال يعمل شيًئا سوى انتظارها في المقهى؛ ألنـه لـم يوفق حتى اآلن في المسرح، وال يريد أن يعمل شيًئا آخـر،

. إنه مسكين وأشفق عليه دون غيرهيريـد أن يظهـر " جان كلـود "يحس عدنان بأن صديقه

كشخص يستثير شفقته، وليس كغريم يقف بينه وبين " أوليفيي"غير أنه يجاري صديقه في شفقته، متمنيا أن يجـد جاكلين،

له خير تعويض عن عدم استقامة " جاكلين"في حب " أوليفيي" . حظه في األمور األخرى

" أوليفيي"ولكن وسيم باريس يعترض على ذلك، وال يعتبر سيء الحظ؛ ألنه ـ حسب رأيـه ـ الـذي قالـه بصـوت

Page 35: 577

-٣٣-

و الـذي ال سيء الحظ ه : "منخفض، وكأنه يودع عدنان سرا ". تقع في حبه النساء

يزدرد عدنان ريقه بصعوبة، وهو يسأل صـديقه مـا إذا كان كل هؤالء الذين يراهم جالسين ومحاطين بالنساء هم من

. المحظوظينيلتفت جان كلود وكأنه لم يكن يراهم، ثم يرفـع طـرف

: قبعته بأصبعه ويهرش ما فوق أذنه قبل أن يجيبه . م فعالًـ هذا إذا كن يحببنه

لعل جان كلود أراد أن يشكك في حقيقة العالقـات بـين رجال ونساء المقهى؛ ألنه رجل معزول مهمـش، يريـد أن

ما يراه من وصل بين ذكور المقهى وإناثه يطمئن نفسه ألن وبـدا عـدنان . ليس إال نفاقًا أملته دوافع أخرى غير عاطفية

أنه وجد هو مستريحا لهذه الشكوك التي يزرعها صديقه، وك اآلخر في هذا التصور سلوى وتبريرا لوضعه الشاذ وسـط

. عالم ينسجه تناغم ثنائية الجنسين من حولهيعود جان كلود إلى تقديم بقية الوجوه التي يعرفهـا فـي

: المقهى

Page 36: 577

-٣٤-

، "جوهيل"ـ هذه القطة صاحبة العينين الضاحكتين اسمها طى الكتابـة، وهي سيدة جذابة كما ترى، رقيقة وذكية، وتتعا

" دانيـال "ما تفعل هذا في المقهى؛ ألن زوجهـا ولكنها نادرا إنهـا شـابة . متوله بها، فال تجد فراغًا لممارسـة هوايتهـا

متغنجة، تجذب أنوثتها كل الذكور المغامرين، فينبغي عليـه . أن يكون متيقظًا وحاضرا في كل لحظة

تـوترا يمط عدنان شفتيه وهو يقول في داخله إن وضعا م كهذا يصعب أن يتعايش معه اإلنسان كواقع يومي، إنه شبيه بوضع من يغتصب السلطة بقـوة السـالح، فيظـل دائمـا متخندق، ويده على الزناد، بينما يستمر وسيم باريس متحدثًا عن دانيال، فيقول عنه إنه رجل ذكي، يمتلك مكتبـة كبيـرة

على لعب يديرها مع جوهيل، ولكنه حريص في الوقت نفسه اليانصيب مرتين في األسبوع، ويفضل أن يدعوه أصـدقاؤه ويدفعوا عنه ثمن ما يتناوله معهم، غير أنه ال يصادق مـن

. يرى أنه قد يكون موضع اهتمام جوهيلأما هذا الرجل الذي يجلـس معهمـا، وال يتوقـف عـن الحديث، فال يرى فيه دانيال الذكر الذي قد يحـوز اهتمـام

، رسـام "مسيو بينـو " فهو صديقه الحميم، إنه جوهيل؛ ولهذا

Page 37: 577

-٣٥-

محترف يمتلك معرضا دائما للرسم، مهووس بالنساء، ولكنني أشك في قدراته، يعاني من عقدة التعالي على مـن حولـه، ويثرثر طوال الوقت، ولكن إذا استمعت إلى حديثه فال تنـدم

بعد أن يفرغ جان كلود من حديثـه عـن . ما فاتك منه علىوه المقهى يدعوه عدنان إلى شرب نخب صداقتهما بعض وج

التي بدأت هذا المساء، فينطلق وسيم باريس نحو البار بفرح .الطفل الذي حصل على ما يريد

يتناول جان كلود الجرعة األولى مـن نخـب الصـداقة، ويشعل سيجارة بعد أن يمسح شفتيه بظـاهر يـده، ويقـول

: لعدنان معتذرادم جلوسي إلى طاولتـك؛ فهـذه ـ أرجو أال يضايقك ع

أظـل واقفًـا وال . عادتي منذ أن دخلت أول بار في حياتي أجلس أبدا إلى تلبية لدعوة امرأة تشتهيني وأشتهيها؛ فعنـدما أقف على حافة البار أحس بأنني على صهوة جواد أطـوف الربوات والسهول، فال أترجل إال اللتقـاط الطريـدة التـي

.اختارتها سهامي : بت جان كلود على يد عدنان مضيفًاثم ير

Page 38: 577

-٣٦-

ـ إنني أجد في ذلك لذة ال أجدها في الجلوس، ألم تجرب أنت ذلك؟

فيرد عليه عدنان بأنه يتحاشى ذلك قـدر اإلمكـان؛ ألن رجله اليمنى ال تسمح له بالوقوف طويالً، ثم إنه ليس وسـيم باريس فيخشى أن تتركه بنات حواء فوق جـواده األعـرج

ينفجر جان كلود مقهقها، وكأنه يريد . من اإلعياء حتى يسقط أن يلفت انتباه الذين تناسوا وجوده بأنه هنا ولـيس وحيـدا،

. وأنه مشغول عنهم جميعا بمسامرة شائقةيحاول وسيم باريس أن يغير من نظرة صديقه السلبية إلى نفسه، فيؤكد له أن حضوره المميز يلفت نظر أي امرأة تدخل

ى؛ فهذه البنية القوية، والقامة الطويلـة، وتقـاطيع إلى المقه الوجه األسمر، وهذا الشعر األسود؛ كلها تجعله شبيها بـذلك الفارس الغازي، الذي يقتحم القلعة مقاتالً حتى يصـل إلـى خدر المرأة عنوة، فيجذبها إلى ظهر جواده بخشونة، فتقاومه

سـها فـي وتولول قليالً ثم تلتصق به، وتتمنى أن تمـرغ رأ . صدره، وتذيب أنوثتها بين ذراعيه

Page 39: 577

-٣٧-

طفق عدنان يضحك، وهو يسرق النظر إلى حيث تجلـس جوهيل، فتقع عيناه على نظارات دانيال الالمعة، وكأنهما في . انتظاره لترسال إلى حدقتيه شعاع الضوء المشيع باالشمئزاز

: يلتقط جان كلود كأسه وهو يسأل عنان مازحا في هذه المدينة؟ ـ أي ريح ألقت بك

يستدير بعد ذلك مغادرا، وهو يضحك ويسـعل، وبقايـا . كأسه ترتعش في قبضته

يظل عدنان ينظر إليه مبتعدا مجرجرا نعليه المفتـوحتين اللتين تحدثان ضوضاء مميزة، تعـودت عليهـا آذان رواد

. المقهىيتساءل عدنان في نفسه هل كان فعالً يبحث عـن أنـيس

أال يكـون جـان . د، أم أنه لم يكن أمامه غيره مثل جان كلو كلود هو أيضا معدوم الخيار؟

لقد كنا هامشيين نتبادل اإلطـراء فـي الـركن المهمـل . المعزول عن المقهى

ها هي سهرتنا قد انتهت، وعاد جان كلـود إلـى مـربط . جواده، يتلهى بمناكفة الرجال ومغازلة النساء

Page 40: 577

-٣٨-

أن يتوارى خلـف القلـم ينكفئ عدنان إلى نفسه محاوالً …والمذكرة، ولكن

". أي ريح ألقت بك في هذه المدينة؟"يعود سؤال جان كلود يطرق ذاكرة عدنان، فينهار جـدار النسيان الهش، ويبتلعه طوفان الماضـي، وتنـزوي لحظـة الحاضر الصغيرة، يلمح سردابا سيء اإلضـاءة مـنخفض

، يحنـي رأسـه السقف، ويظهر فيه فجأة شاب طويل القامة قليالً حتى ال يالمس السقف، عاريا تمامـا، يـداه ملتويتـان خلفه، يقبض على كل واحدة منهما رجل ضـخم، ويدفعانـه

. أمامهماتظهر أثناء حركة سيره كل تفاصيل هيكله العظمي تحت ستارة جلدية رقيقة، تنتشر فوقها بقع سوداء وخضراء كشاهد

مين، يتوكأ بصـعوبة علـى على التعذيب، يعرج من جهة الي . أصابع رجله اليمنى

حينما يصل ثالثتهم أمام أحـد األبـواب المفتوحـة فـي السرداب، يترك الرجالن يديه، ويدفعانه بخشونة إلى داخـل حجرة ينتظره فيها اثنان، فيقف أمامهما وهو يستر عورتـه

Page 41: 577

-٣٩-

بكلتا يديه، يقف أحدهما ويصفعه بقوة حتى يختـل توازنـه، . عن بعضهما، بينما يصيح به اآلخروتنفك يداه

ـ هل تبقى لديك ما تستره عنا أيها الكلب األجرب؟ يتراجع إلى الخلف مترنحا، فيعاجله أحد الـواقفين خلفـه بركلة تدمي من قفاه العاري، ويندفع على أثرها إلى األمـام،

يستند على مرفقيه . ثم يسقط تحت رجلي الرجل الذي صفعه يبدو كالبعير البارك، لوال أنه محروم مـن ويردف بركبتيه ف

. الوبر : ينهره الجالد الذي صفعه

باعد ما بين فخـذيك، . ـ ها أنت تعلمت شيًئا أيها الحقير هكذا يجب أن يكون وضـعك . واترك رأسك يتدلى إلى أسفل

.أثناء االستجوابثم يضع مقدمة حذائه تحت ذقن ضحيته ليرفع بها رأسـه

: عن اسمه فيجيبهقليالً؛ وهو يسأله . ـ عدنان

يسحب الجالد رجله من تحت ذقن عدنان، وينهال ركـالً على رأسه، بينما يقوم أحد اللذين يقفان خلفه ليلـوي رجلـه المعطوبة، فيصرخ عدنان متلويا وهو يحـاول دون جـدوى

Page 42: 577

-٤٠-

أو رأسه من تحت حـذاء تخليص رجله من قبضة الحارس : جالدالجالد حتى يغمى عليه فيأمرهم ال

! ـ أرجعوا الكلب إلى الزنزانة إنه ال يزال يتذكر اسمهترتفع قهقهات جان كلود وتعليقاته، فتنتشل عـدنان مـن مستنقع ذكرياته البعيدة، ويعود إلى لحظة الحاضر في مقهى

". كونتر اسكارب". لكن في هذه اللحظة تنهض جوهيل ودانيـال مغـادرين

ا تصدر منها لفتة أو تصرف يظل عدنان متحفزا مشدودا لعله . عفوي لدى مغادرتها، ينم عن إحساسها بوجوده

ملتصقًا بها، ويداهما متشـابكتان خلفهمـا، " دانيال"يسير المدورتين تحت خصرها " جوهيل"تتدليان فوق منحدر إليتي

. النحيلجـان "لبعض من تمر بهم، وتلتفت نحـو " جوهيل"تبتسم

يطمئن عدنان نفسـه . يلة سعيدة لتتمنى لهما ل " جورج"و "كلودبأن هذه االلتفاتة هي له دون غيره، وأن تحيتها لهؤالء ليست

. إال تمويها لكي تلقى إليه بنظرة محملة بالمعاني

Page 43: 577

-٤١-

ويـدها " دانيال"لعدنان وهي تسير أمام " جوهيل"بدا مشهد خلفهما مشبوكة في يده؛ شبيها بمشـهد السـجين والحـراس

. ر في ذاكرته قبل قليلوالجالد الذي كان يملكنه ينتفض متسائالً ومحتجا على تداعيات ذاكرته، التـي تقلب الوقائع السعيدة في حياة اآلخرين لجعلها شبيهة بأحداث

. تجربته الشخصية التعسةيشيح بوجهه إلى الناحية األخرى؛ فيجد نفسه في مواجهة

و يسـب مرآة الجدار التي يطالعه فيه وجهه؛ فيحيد عنها، وه : في صمت

أألنك عاجز عن جعل امـرأة . ـ اغرب عني أيها التعس تحبك تحاول تشويه أي لحظة حب يعيشها رجل مع امـرأة، وتصوره على أنه مخدوع، تمنحه شفتيها بينما عيناها تدعوان

ينسحب من المقهى، ويحيي باتريـك بابتسـامة . ذكرا آخر؟ ـ ائن عريضة، وصوت مـنخفض، تمامـا كمـا يفعـل الزب

. المخضرمون بعد قضاء سهرة ممتعة : يصيح به جان كلود مودعا

. ـ ليلتك سعيدة يا صديقي الشاعر

Page 44: 577

-٤٢-

يشق طريقه بتمهل بين الطاوالت، ويراوده أمل فـي أن يختم سهرته بنظرة من أنثى، تختلسها إليه فـي غفلـة مـن

. رفيقهاأحس بأن خروجه مثل بقائه، ال يعنيان شيًئا بالنسبة لهـم،

ا عدا جان كلود الذي ودعه؛ ففرق بين معنـى أنـه كـان م . موجودا هنا، ومعنى أنه اآلن يغادر

يلتقي لدى وصوله إلى الباب بسرب من الشباب؛ الـذكور . واإلناث، فيفسح لهم الطريق

يا رب هذا الزمان، لماذا أغادر دائمـا عنـدما يحضـر ! اآلخرون، وآتي حينما يذهبون

ناث، ضحكاتهم، مداعباتهم، تشـابك همسات الذكور واإل أيديهم فوق الطاوالت، وتماس أرجلهم تحتها، كل هذه األشياء تقذف به خارج المقهى إلى ميدان كونتر اسكارب، ومنه إلى شارع معتم، ينحدر خالله حتى يضع أقدامه علـى رصـيف شارع سان ميشيل الفسيح، العامر بالحركة طوال الليل؛ حيث

. من السهر الذاهبين إليهيلتقي بالعائدينهذه السنوات التي قضاها ليلة بليلة، صـاعدا مـع هـذا الشارع،أو هابطًا منه إلى بيته، مكنته مـن اسـتخالص مـا

Page 45: 577

-٤٣-

يعتقده قواعد عامة توضح أحوال الرجال والنساء، الذين يعج .بهم هذا الشارع حتى الصباح

أما إذا فإذا كانت أيديهم متشابكة؛ فهم ذاهبون إلى السهر، كل منهم اآلخر بذراعه، ومال إليه برأسه، فهم علـى أحاط

. األغلب راجعون من سهرتهميتوقف من حين آلخر ليتملى رجالً وامرأة يمران بجانبه؛

يمط شفتيه معترضا بأن هـذه المـرأة . وهما في حالة نشوة قـد تهـيج . ليست لهذا الرجل، ثم يهز كتفيه ويواصل سيره

تداعب عشيقها، وتتعلق به وهو يغذ خطـاه نفسه لمشهد أنثى متملصا منها، فيتساءل محتجا على تعلق بنات الكذا بـذكور

. باردي العواطف، قليلي االشتهاءيزفر بعد ذلك ويكتم غيظه، وتستدرجه رجاله المنهكتـان

في منتصف الشارع، وقبل . نحو مأواه في رحلة عودة خائبة ي مؤٍد إلى بيتـه، يلمـح أن يغادره لينعطف في شارع فرع

الشخص نفسه الذي تعود أن يراه كل ليلة يعود فيها في مثل لقد صار عدنان قادرا على تمييز هذا الرجل من . هذه الساعة

بين المارة الكثيرين، بمجرد أن يلمح خياله تحت المصـابيح . صاعدا شارع سان ميشيل

Page 46: 577

-٤٤-

ام يبدو على أعتاب الخمسين من عمره، نحيل الجسم، عظ وجهه بارزة، يحمل آثار جرح قديم تحت وجنتـه اليسـرى، عينه اليمنى حوالء، عموم هيئته تـوحي بشخصـية عامـل مهاجر منذ زمن طويل، يحمل تحت إبطه دائما صـحيفة أو مجلة؛ هي على األغلب رفيقه الوحيد الـذي يمضـي معـه

. سهرتهيقترب من عدنان سائرا في االتجاه المعاكس، وسـيجارة

نوقة دوما بين أصابعه، يمشي مطأطًئا رأسه، لعله لم يعد مخ . يعنيه ما يجري حوله

عندما يصير الرجالن بمحاذاة بعضهما، يرسل كل منهما : إلى اآلخر نظرة خاطفة، لسان حالها يقول

. ـ هذا أنتككل ليالي السنين السابقة، لم يتعد التواصل بينهما أكثـر

منهما يستطيع أن يقول مـن من هاتين النظرتين، ولكن كالً أعرف أنك عربي تعس، وأن سـهرتك هـذه : خاللها لآلخر

الليلة انتهت كغيرها في الليالي السابقة على غير ما تشـتهي، وأعرف أنك ستعاود الكرة غدا، وأنني سألقاك الليلة القادمـة

. في رحلة عودتك الخائبة؛ تعسا كسير النفس مكبوتًا وحيدا

Page 47: 577

-٤٥-

: ن عندما يبتعد عنهيتساءل عدنا ـ هل اخترع لي اسما مثلما لقبته أنا باألحول؟

ولكن بياض عينه اليمنى يطالعني من على بعد، أما هـو . فماذا عساه أن يقول عني كلما رآني

ولكنها صفة ال تلفـت . ها هو المنفوش الشعر : لعله يقول .النظر

ـ . ها هو الصعلوك : أو ربما يقول ع وهذه أيضا صفة يتمت . بها الكثيرون من رواد هذا الشارع

. ولكن من أدراه أنني كذلك. المهبول: وقد يقول . ها هو األعرج: لقد وجدتها، البد أنه يقول عني

فرغم أن ذلك ال يبدو سهل المالحظة أثناء سيري، ولكنه ما انفك يلقاني صاعدا هذا النهج، أو هابطًا منه منذ أكثر من

. كاٍف ليكتشف ذلكألف ليلة؛ وهذا زمن لعله يلقبني بالصعلوك : ثم طفق عدنان يضحك، وهو يقول

عذاب العودة وحيدا إلـى ! المنفوش الشعر المهبول األعرج البيت في آخر الليل عذابان؛ عذاب مغادرة مكان السهر مثلما دخله، فرغم الجهود التي يبذلها خالل ساعات طويلـة بـين

Page 48: 577

-٤٦-

خروج عـن دوره كمشـاهد رواد السهرة؛ فإنه يعجز عن ال لنشأة وميالد عشرات العالقات بين الرجال والنساء في كـل

يدخل محل سـهرته . ليلة دون أن يكون هو طرفًا في إحداها وحيدا، ويخرج منه على الدوام وحيدا، وال يحدث معه أبدا ما يحدث مع اآلخرين؛ فال يخرج برفقة أنثى إثر لقاء ومصادفة

. عد يخفف من وطأة رتابة الزمنسارة، وال يظفر بموأما عذابه اآلخر فيتمثل في خروجه من شارع سان ميشيل

ـ يئلينعطف نحو داره عبر شارع فرعي، معدوم الحركة، ساإلضاءة، فيحس بأنه قد انقطعت صلته بعالم الحياة النـابض بالبشر والخير والشر، واللذة واأللم، والمصـادفات السـيئة

. والمفاجآت السارةلعل هذا اإلحساس يساوره تجاه هذا الشارع بالذات؛ ألنه هو آخر شارع في المدينة يغادره، ليدخل بعده إلى سـردابه . الخاص المؤدي إلى طوايا نفسه وأعماقها المظلمة المجهولة

طوال هذه السنوات األربع، والخامسة التي كادت تنصرم؛ رتـه فـي يدفع عدنان باب حج . وهذا العذاب يتكرر كل ليلة

يمر بجميع . الدور السابع، بعد أن يصعد سلما خشبيا معرجا فقط يتبادل مـع . األدوار التي ال يعرف اسم أي من سكانها

Page 49: 577

-٤٧-

اسم . بعضهم تحية المساء أو تحية الصباح في بعض األحيان واحد فقط يعرفه في هذه العمارة رغم مرور هذه السـنوات؛

ألصل، التي تسكن حجـرة إنه اسم خادمة العمارة البرتغالية ا بالدور األرضي؛ وهي امرأة شابة تعيش مع طفلتها الوحيدة،

. حصيلة زواجها الفاشل منذ سنتينفي كثير من األحيان يجد عدنان الطفلة أمام باب الحجرة، فتبتسم له ابتسامة طفولية تختفي معها عيناها البريئتان خلف

. وجنتيها الصغيرتين المكتنزتينفترفعهـا " ماتينـا "يداعبها قليالً حتى تخرج أمها فيتوقف ل

عن األرض، وتظل مستندة على حافة الباب تثرثر مع عدنان أو عـن مخطـط . عن األحداث واألمور اليومية في العمارة

إجازتها في الصيف القادم، وعن الشمس والبحـر والريـف . والجبل وضوضاء المدن الكبيرة

مارة الذي يتبادل الحديث ماتينا هي الشخص الوحيد في الع مع عدنان، أما بقية السكان فهم بالنسبة إليه مجـرد وجـوه أخرى، دون أن يجمع بينه وبين أحدهم حديث، أو تنشأ بينهما

.عالقة، وكأنه ال شيء يحدث وال شخص يجيء

Page 50: 577

-٤٨-

يدخل عدنان حجرته؛ واسعة، ليست خالية مـن األثـاث، علـى السـماء، سقفها األحدب تحيط به نافذتان مفتوحتـان

. يتبادالن الشمس والقمرعندها تبدأ سهرته الثانية مع الجدار المالصـق لفراشـه، وهو أعز جدران الحجرة عليه، تزينه الصور والملصـقات،

. وبقايا األشياء القديمة، التي تذكره بمراحل مضتيحادث الجدار، ويختلف معه ويعاتبه، حتى أصبح بالنسبة

. تبقى من عالمه الليلي الخالي من البشرإليه كائنًا يمأل ما حينما يرجع عدنان في آخر الليل، ويتمدد علـى فراشـه بجانب الجدار؛ يحس بأنه شبيه بمحارب عائد مـن حـرب

. خاسرة، ولم يعد يهمه شيء سوى ما يجده في انتظارهغدا يا صديقي الجدار عندما أعود في نهاية المساء، وقـد

تي ظلت أيادي اآلخرين تزرعهـا فـي أينعت أزهار األلم ال نفسي طوال النهار، وحينما ينقطع كل اتصال بـين حاسـة سمعي وكل ما يجري في الشارع، وتنعدم فائـدة قـواميس الكالم، ويبلغ الصمت قمة من البالغة ال يحتاج فيها إلى آذان تلتقطه، فيتسامى في أفق المستحيل، وتعجز عـن أن تطالـه

Page 51: 577

-٤٩-

ندها أجدك تمأل الفراغ في مـواجهتي، بأجنحتها الكلمات؛ ع . فيرتمي كل منا في أحضان اآلخر

تحدث حركة في الحجرة، يعقبها وقوع شـيء يتـدحرج على البالط، يخرج فأر من إحدى الزوايا، فيتركـه عـدنان يمرح كما يشاء، يختفي ويظهر يقبل ويـدبر، يقتـرب مـن

شـارك الفراش ويبتعد بكل ثقة وطمأنينة ودالل؛ فهو أنيس ي عدنان في تحدي صمت الحجرة الذي ال يقطعه شيء سـوى حديثه إلى صديقه الجدار عن أحداث يومه، الذي يبتدئ فيـه العمل بعد الظهر، وأحيانًا في المساء؛ حيث يمضـي عـدة ساعات متجوالً في األمـاكن العامـة، والمحطـات، ليقـوم بإلصاق مئات من ملصقات الدعاية واإلعالن التي يتسـلمها

. من مختلف المؤسسات الصناعية والتجارية لقد وجد عدنان في هذا العمل استقاللية، ومصـدر رزق،

يجعله ـ رغم دخله المحدود ـ في غنى عـن المؤسسـات العربية في باريس، التي كانت له معها تجربة شخصية فـي بداية مجيئه إلى فرنسا، فخرج منها مقتنعا بأنها مجرد سـتار

ارات وأمن الحكام العرب، وأدوات صـراع ألجهزة االستخب

Page 52: 577

-٥٠-

واستقطاب فيما بينهم، لشراء األقـالم المرتزقـة، وتجنيـد . عصابات القتلة والمغامرين

لم يستسغ معظم زمالئه وأصدقائه وقتها هـذا الموقـف، والذي رأوه متطرفًا؛ مثل مواقفه األخرى، فصـار عـدنان

سسات العربية موضوعا لتندر الكثيرين منهم؛ فهو يقاطع المؤ ألنها مجرد أدوات في خدمة الحكام، ويرفض االنضمام إلى المنظمات، والجمعيات الدولية ألنها تسيطر عليها الصهيونية،

إشـراف ويهجر التجمعات السياسية العربية ألنها تعمل تحت الدول المضيفة، فيبدو للغالبية وكأنه آخر كائن على مخابرات

. نية منقرضةقيد الحياة من فصيلة حيوابعد أن ينتهي عدنان من رواية المفارقات اليوميـة، التي يصادفها في علمه، يحدث صديقه الجدار عن حصـيلة

" بريجيـت "األسبوع من مواعيده الخائبة مع النساء؛ فلم تأِت التي " كاترين"إلى موعدها معه بعد ظهر يوم االثنين، كما أن

لى موعد في اليوم التالي؛ التقاها يوم الثالثاء، واتفقت معه ع . تخلفت هي أيضا

التي تعرف عليها فـي معـرض الفنـون " دومينيك"أما التشكيلية يوم الخميس الماضي، وقضيا معا وقتًـا طـويالً،

Page 53: 577

-٥١-

وكان تعلقها به واضحا فافترقا على لقاء في مساء الجمعـة؛ فقد انتظرها ولم تحضر، ولكنه التقاها مصادفة مساء السبت

. شاب آخر، وتظاهرت بعدم معرفتهبصحبة يبدأ جسد عدنان يتراخى ويستسلم إلرهاق يـوم طويـل،

. فيغوص رأسه في الوسادة ويصرعه النومغدا يوم اثنين آخر، بداية أسبوع جديد حافل بالمفارقـات،

. ومليء بمواعيد النساء

Page 54: 577

-٥٢-

))٢٢(( شتاء يتلوه ربيع، ويأتي صيف بعده، وها هو ذا خريـف

أيامه مودعا سماء باريس، وعدنان بات زبونًا دائمـا تنصرم في مقهى كونتر اسكارب، يجده رواد المقهى في معظم ليالي األسبوع جالسا في زاويته المعهودة، بصحبة مذكرته وقلمه،

. ولكنهم ال يعرفون ماذا يكتبال أحد من الرجال يقيم معه عالقة، ما عدا جان كلود، وال

باسـتثناء العجـوز فرانسـواز عازفـة امرأة تقترب منـه ، التي تأتي إليه بعد أن تنتهي من وصلتها الغنائية األكورديون

القصيرة، فيلقي في يدها بقطعة من النقود، فتشكره بابتسـامة وهي تمر مسرعة، لتكمل جولتها بين الزبائن قبل أن يصيح

. باتريك نادل المقهى طالبا منها الخروج

Page 55: 577

-٥٣-

ية المساء إلى جاكلين، ويتبادل معهـا يلقي جان كلود بتح حديثًا عابرا، ويناكف صديقها أوليفيي، الذي يفضل دائما عدم

. الرد على تعليقاتهيتجه بعد ذلك نحو عدنان، كعادته دائما كلما ضاقت بـه

أو تطور نقاشه مع أحدهم إلى خصام، وكلما خـاب السبل، . مسعاه مع امرأة

ن ضياع ذلك الزمن؛ حيـث يشكو وسيم باريس إلى عدنا كان شابا، ودخوله إلى أي مكان عام كـان محفوفًـا دائمـا

. بنظرات كل من فيه من بنات حواءينطلق جان كلود عندما يغريه حسـن اسـتماع عـدنان، فيروي له أعز مراحل حياته إلى نفسه؛ فقـد كـان الطفـل

ونـه الوحيد لوالديه، مدلالً وسيما، تالطفه نساء الحارة، ويدع إلى منازلهن لرؤية حيواناتهن وقططهن فاكتشف سر المـرأة

. في سن مبكرةلم يكن والده يدري، حتى استفحل األمر، وصار يتغيـب عن المدرسة، فحاول أن يردعه ويرغمـه علـى مواصـلة دراسته، ولكن جان كلود ترك المدرسة نهائيا، وهرب إلـى

. المرأة والطبيعة

Page 56: 577

-٥٤-

ه أمام وجه عـدنان، وكأنـه ثم يرفع وسيم باريس إصبع : يحذره

ـ ولكننـي كنـت مهووسـا بـالقراءة، أختـار كتبـي وموضوعاتي، وكانت لي اهتمامات خاصـة باإلبـداع فـي المسرح والشعر، كما زاولت هواية الرسم الحر، ولو كنت قد استمررت في ذلك لما كانت لوحاتي أكثر سوءا من لوحـات

و الذي كان مستغرقًا فـي مشيرا إلى مسيو بين . (هذا الرجل ). نقاش حار مع دانيال وجورج حول قانون الضرائب الجديد

أما السفر فكان الكتاب الذي ال أمله، فاسـتغرق معظـم سنوات شبابي؛ فقد حملت حقيبتي وأخذت أطارد الشمس من غابات األمازون وشالالت نياجرا إلى سور الصين العظـيم

أدغال إفريقيا، إلى جبـال وتاج محل، ومن بحيرة فيكتوريا و تيبستي وصحراء الطوارق؛ حتى انحدرت شمس العمر نحو الغروب، فأقعدت قدمي الشيخوخة، وضاعت مـن سـمائي أسراب الطيور المهاجرة، يحتسي وسيم باريس ثمالة كأسـه، فيصدر صوتًا من حلقه، ويمسح شفتيه بظاهر يده، ويخـرج

: ثم يضيف. اسيجارة يبقيها بين إصبعيه دون أن يشعله

Page 57: 577

-٥٥-

ـ لم أمارس في حياتي أي مهنة، كنت أعلم أي شيء بين سفر وآخر، ولم أجد في األرض بقعة تغنيني عن الرحيل إلى غيرها، حتى أبتني فيها بيتًا، ولم تكن هناك امرأة تسـتحقني

! مدى الحياةلم يجد عدنان تعليقًا على حديث صديقه، فأشعل والعتـه

ود التي ال تزال تنتظر النار بـين وقربها من سيجار جان كل أصابعه، ثم يختلس نظرة معهودة إلى جوهيل، التـي كانـت

. تجلس بجانب مسيو بينو في قبالة زوجها دانيالالتقت نظرات االثنين، واستراحت حينًا كل منهمـا فـي قاعي اآلخرين، وأحس عدنان بأن وجنتي جوهيل تتوهجـان

ى خصـالت شـعرها برغبة عارمة تجتاحها من قدميها حت . اللولبية الحواء

يشعل جان كلود سيجارته، ولكن الوالعة تظل مشـتعلة؛ فيدرك وسيم باريس حقيقة ما يجري، وال يشـاء أن يقطـع مجريات الحدث، فينفخ الشعلة بهدوء لتنطفئ الوالعة، وينتبه عدنان فيرتبك متمتما، يرد عليه جان كلود مبتسما بصـوت

:منخفض وبلهجة مذنب

Page 58: 577

-٥٦-

ـ اعذرني لقد أطفأتها بنفسي؛ ألنني وجدت ذلك أسـهل من أن أبحث عن أجنحة أللحق بشاعر يحلق في آفاق فلكية،

. ال يستطيع أن يرتادها األرضيون من أمثالييطأطئ عدنان رأسه ويلتزم الصمت أمام إحساس جـان

. كلود المرهف، وشفافية كلماته جوهيل يدل لم يعرف ما إذا كان هذا التصرف من جانب

على أنها قد ملت المكابرة وكبت حقيقة مشـاعرها، أم أنـه تصرف تلقائي يفسره هو حسب أمانيه وشهواته؛ فهي تجلس في قبالته وال تستطيع أن تمنع طوال الوقت مسار نظراتهـا

من أن يتقاطع مع مسار نظراتهتساوره الشكوك فيما اعتقده رغبة تشـتعل فـي عينـي

. ر في كيانهاجوهيل، وشهوة تنفجيشعل سيجارة فيحس باإلشباع الذي يأتي بعد تالشي اللذة، يتهاوى جسده ويشعر بأن كل ذرة فيه تبتعد عـن األخـرى،

منـذ عـام . تتمدد ساقاه المتشنجتان وترتخي فخذاه اللزجتان وهما يرتادان مقهى كونتر اسكارب معظم ليالي األسـبوع،

لـة؛ فقـد حرصـت دون أن يجري بينهما ما جرى هذه اللي

Page 59: 577

-٥٧-

جوهيل على تحاشي كل موقف يجعلهـا مضـطرة لتبـادل . الحديث مع عدنان

يحدث في بعض الليالي أن تترك جوهيل جلسة زوجهـا وأصدقائه، لتذهب إلى جان كلـود الواقـف دائمـا بجانـب

: صندوق البار، فيستقبله وسيم باريس بفرح وهو يسألها ـ كيف خرجت من برجك أيتها اليمامة؟

رغم أن دانيال وجان كلود ال يحمل أي منهما مشـاعر واستلطاف لآلخر، بل إن جان كلود ليس مقتنعا بـأن دانيـال يستحق امرأة مثل جوهيل؛ إال أن كلمات الغزل والدالل التي يداعب بها وسيم باريس جوهيل ال تثير غيرة زوجهـا، وال

. يبدو عليه القلق مهما طالت غيبتها مع جان كلود دانيال يعرف طبيعة زوجته القلقة، التي تجعلها تمـل لعل

جلسة أصدقائه؛ ولهذا فال بأس أن تمضي وقتًـا سـارا مـع ال يعشق أنثى أخرى أحاديث جان كلود، الرجل المسن، الذي

اسكارب عدا جاكلين، فهذا الطريق قد يبـدو في مقهى كونتر ة لدانيال أكثر أمنًا من أي طريق آخر تسلكه زوجتـه الشـاب

. الشهية في مقهى يعج بالذكور الغرباء

Page 60: 577

-٥٨-

رغم ضوضاء المقهى يحاول عدنان أحيانًـا أن يصـيخ السمع إلى األحاديث التي تجري بين جوهيل وجـان كلـود، ويتمنى أن يشاركهما فيها، يختلق لنفسه عذرا فـي مـرات كثيرة للذهاب إلى البار لكي يمر بهما ويتوقف لتحية صديقه،

ب بهدوء لتفهمـه أنهـا ال ترغـب فـي ولكن جوهيل تنسح . التعرف إليه

يفسر عدنان هذا التصرف على أنه موقف مبدئي ميئوس من تبدله، وفي حين آخر تبدو له جوهيـل مشـدودة إليـه بعاطفة مشبوبة، وجسدها مشحون برغبة عارمـة، ولكنهـا تتحاشى اللقاء به لكي ال تتطور العالقة بينهما إلى مغـامرة

. ها الزوجيةتؤثر في حياتغير أنه سريعا ما يغير رأيه، ويعتبر ذلك مجـرد وهـم يستجيب لنفسية رجل مثله، خانت قدراته طموحاته، ووجـد نفسه غريبا وحيدا، وحظه تعس مـع النسـاء، فلـيس مـن المستغرب أن يتصور نفسه معشوقًا من قبل امرأة ال تستطيع

لتعقيـدات أن تكشف عن عواطفها نحوه، وهيامها به؛ نظرا حياتها الزوجية الخاصة، وضغوطات مجتمعها العنصـري، ولكنه يتخلى عن هذه التصورات والتفسيرات التي يضـطهد

Page 61: 577

-٥٩-

فيها ذاته، بمجرد أن تأتي جوهيل بتصرف كالذي حدث منها هذه الليلة؛ حيث خيل إليه أن رغبتيهما قد التقيتا صـراحة،

. وتشاركا في االشتهاء والنشوة جان كلود؛ فتنزع قبعته الرمادية لتضـعها تناكف جوهيل

فوق رأسها، حتى تختفي بين خصـالت شـعرها اللولبيـة . الحواء

تحدثه وهما يتناوالن كأسيهما واقفين عند آخر محاولة لها في كتابة القصة القصيرة، وعند آخر كتـاب قرأتـه حـول

.نظرية النص األدبيبه، رغم ما يحس عدنان باألسى وهو يراها تتحاشى اللقاء

بينهما من اهتمامات مشتركة؛ فهي ال تراه فـي المقهـى إال بصحبة قلم ومذكرة، كما أن جان كلود ال ينفك يناديه علـى

أفال يكفي كل هـذا إلثـارة مسمع الجميع بصديقه الشاعر، . فضولها، فتحاول التعرف عليه

يبتعد عدنان عن هذه التساؤالت، ويعود إلى الكتابة، فلعله وجود جوهيل وجان كلود ودانيـال، ومقهـى كـونتر ينسى

. اسكارب، وهذه المدينة اللعوب ولكن أي ريح ألقت بك في هذه المدينة؟

Page 62: 577

-٦٠-

يقع هذا السؤال كالمطرقة على شتات أفكـاره فـي تلـك اللحظة، فيمزقها وتتصدع بوابة الذاكرة، ثـم تنهـار أمـام

. تداعيات أحداث ماضية مأساويةرديئة، ورائحته نتنـة، وحارسـان ممر ضيق، إضاءته

يجرجرانه عاريا على أرضية الممر، يدخالنه إلى الحجـرة نفسها التي تعود أن يحمل إليها في نهاية كل وصلة تعذيبيـة ليبدأ معه هذا الشخص ذاتـه اسـتجوابا اسـتفزازيا مـدمرا

تقديره ـ عدة لألعصاب، رغم أنه قد مضت عليه ـ حسب ستجوبه مرات عديدة، وحسب تخمينه أسابيع وهذا الشخص ي

أيضا أثناء الليل والنهار؛ إال أنه لم يـر وجـه هـذا الـذي يستجوبه، فهو يتعرف عليه بواسطة صوته فقط؛ ألنه تعـود أن يلقي به جالدوه عند أقدام هذا الشخص، فيقعـي أمامـه عاريا، متخذًا وضع بروك البعير، فيسـتند علـى مرفقيـه

ا يضعون مصباحا كهربائيا قويـا فـي ويردف بركبتيه، بينم مواجهته، فيغمر عينيه ضوء شديد يغشى بصره، فال يستطيع رؤية هذا الشخص الذي يسـتجوبه؛ ألنـه يجلـس خلـف

. المصباح

Page 63: 577

-٦١-

يقف خلفه جالدان أثناء االستجواب، وفي كـل مـرة ال تروق إجابته لمن يستوجبه، يقوم هذان بالعبـث بمؤخرتـه

عض األدوات التي يحمالنها معها لهـذا العارية، مستخدمين ب . الغرض

:يسأله المستوجبـ أريد فقط أن تخبرني عن رتبتك في سلك مخـابراتهم،

ما أريده منك اليوم، فإذا أخبرتني بذلك فسأتركك تستريح هذا . طوال هذا اليوم والليلة أيضا

يفهم عدنان من ذلك أن تلك الساعة التي يقعي فيها أمـام وهذه أول مرة يحصل فيهـا . من ساعات النهار جالديه هي

على معلومة بخصوص تعاقب وحدات الزمن منذ أن دخـل هذه الدهاليز، ولكنه يسخر من نفسه التي تنشغل بموضـوع

. عبثي كهذافي هذه اللحظة يحس بأن شيًئا صلبا بدأ يخترق مؤخرتـه

. وسط تهديدات تستحثه على اإلجابةالً عضوا في مخابراتهم، وأنني ـ أتمنى لو أنني كنت فع

أتيت ألعمل ضد نظامكم السياسي، إذن كنت أعترف بـذلك منذ زمن طويل، واسترحت من هذا التعـذيب، الـذي يعـد

Page 64: 577

-٦٢-

ولكنني ـ كما تعلم ـ معتـرض للنظـام . الموت أرحم منهالسياسي في بالدي، وإن حكما باإلعـدام صـادر ضـدي،

حيتانيـة الديمقراطيـة ال"ولكنكم تفضلتم هنا في الجمهورية بمنحي حق اللجوء السياسي، وحرصا مني على عدم " العربية

إحراجكم لم أقم بأي نشاط مضاد للنظام السياسي في بالدي؛ ، واكتفيت بالعيش تحـت "جمهورية الشمس العربية الشعبية "

مظلة األمان هنا بين أشقائي، ومارست مهنة التعليم طـوال : ينهره…ن هذه السنوات الثالث دون أ

ال تحـدثني . ال ترو لي قصة خديعتك لنـا …ـ اخرس بصفة الالجئ السياسي؛ فما أنت إال عميل مدسـوس بيننـا للتآمر مع القوى العميلة في الداخل؛ من أجل تقويض النظام

. الثوري وتدمير منجزاته هل هناك دليل يا سيدي؟ …ـ لكن

ري، فيحس تهوي قطعة من الخشب السميك على قفاه العا بتصدع عظام إليتيه العجفاوين، فيقفز ملتاعا، ولكن حـذاءين ثقيلين يهرسان كعبيه، فيشعر بأن أصابع رجليه قد خلعت عن قدميه، ويصيح ملقيا بجسده إلى األمام ليعـود إلـى وضـع

: البروك السابق، بينما يصرخ الجالد في وجهه

Page 65: 577

-٦٣-

ـ رية ـ إننا على علم بكل عالقاتك مـع التنظيمـات السالعميلة، التي تتآمر مع القوى الحاقدة على الثورة وتوجهاتها

. التحرريةـ لم تكن لي عالقات من هذا النوع مع أحد، ولكن كمـا تعلم؛ فإنني أتعاطى الكتابة، وأهتم باألدب؛ ولهذا فإنـه قـد جمعتني لقاءات ثقافية مع كثير من المثقفين، الذين أصـبحوا

م أكن أعلم بأنهم يمارسون نشاطًا أصدقاء ومعارف، ولكنني ل . سياسيا محظورا ضد النظام

تنهال على قفاه ضربات قطعة الخشـب، ويصـرخ فـي : وجهه جالده

تتهمني بالغباء أيها الخسيس؛ فهل تعتقد أنني سأصـدق -أنك قضيت كل هذه السنوات في صداقة مع هـؤالء النـاس

. دون أن تفهم من آرائهم أنهم معادون للثورةكان ينبغي عليك أن تبلغنا بما لديك من معلومات عـنهم؛ وهذا أقل ما يجب أن تقدمه كعرفان منك بجميل هذا النظـام

. الذي أمن حياتكـ إنني مدين لنظام الجمهوريـة الحيتانيـة الديمقراطيـة العربية الثوري بمنحى حق اللجوء السياسي وإنقاذ حيـاتي،

Page 66: 577

-٦٤-

ي ولن يعطيني الحق ولكن وضعي كالجئ سياسي ال يسمح ل في العمل في أجهزة الدولة األمنية، كما أنكم منحتموني حق اللجوء السياسي، ولم تشترطوا علي التعـاون فـي كشـف

. المعارضين السياسيينيتلقى ركلة على أنفه وفمه، فيطأطئ رأسه لالحتماء مـن

. ركلة أخرى يتوقعهافـئ يلتصق ذقنه ببالط الحجرة، ويحس بجريان سائل دا

فوق شفتيه، ورغم أن األلم كان يمأل اللحظـة، إال أنـه لـم يستطع أن يمنع نفسه من الدهشة لوجود هذه الكمية من الـدم

! الدافئ في عروقه أتبلغ بك الجـرأة أن تسـمي الخونـة …ـ أيها الكلب

والعمالء بالمعارضين السياسيين، وأن تدعي لنفسـك صـفة . الالجئ السياسي

داد لمواجهة أي شخص مـنهم بـأنني ـ إنني على استع . اشتركت معه في نشاط معاٍد للسلطة، أو كنت على علم به

ـ إننا نعرف طريقتك في العمل، ودورك الحقير المرسوم لك، فأنت تتعرف على أمثال هـؤالء المتـآمرين، وتتـابع نشاطاتهم دون أن تشاركهم فيها، متظاهرا بأنها ال تعنيك، ثم

Page 67: 577

-٦٥-

ى المخابرات التي بعثت بك، فيقوم غيرك ترسل بتقاريرك إل أليس هذا هـو . بمهمة االتصال بهم، وتقديم المساعدات لهم

الدور المطلوب منك أداؤه؟ فمن الخير لك أن تعترف ولـك ! وعد بأن نحفظ حياتك

يحس بأنهم قد توقفوا عن العبث بجسـده مـن الخلـف، : يبفيسترد أنفاسه ببطء محاوالً إطالة اللحظة قبل أن يج

ـ المشكلة ليست خشيتي من المـوت، ولكـن مشـكلتي الحقيقية هي أنني ليس لدي ما أعترف به لك، ثم إنك تريدني أن أدعي بأنني عميل لنظام أناضل ضده، وقد أصدر ضدي

. عقوبة اإلعدام . ـ اخرس ابن الفاعلة

ينقض عليه اثنان، يرفعانه عن األرض قليالً، فتدخل آلـة ل فوهة الزجاج لتصبح خازوقًا يجلس فوقـه، ما بين إليته مث

. يصرخ ويغيب عن الوعيينتفض عدنان كمن يفيق من كابوس، فيرى جوهيل تغادر

. جان كلود عائدة إلى زوجها وأصدقائهيتابع بلهفة اهتزازات جسد . تمر بجانبه وال توليه اهتماما

يلتقط القلم ويترك يـده تعبـث . تتمايل ثماره المحرمة عليه

Page 68: 577

-٦٦-

األوراق، حتى ال يبدو لمن يراه عربيا هائجا مكبوتًا، لـيس بلديه ما يفعل في هـذا المقهـى سـوى التـربص بالنسـاء

. ومطاردتهن بنظراته البهيمية المحمومة . ليس هناك أسوأ من أن تكون متهما أينما حللت

تستولي عليه حالة من السرحان واإلصغاء إلى مـا فـي أنـت … أنت خائن …عارض أنت م …داخله، أنت متهم

. أنت همجي.. أنت سيء…عربي يصحو عدنان على عودة جان كلود من سهرته القصـيرة مع جوهيل؛ هذه المرأة التي ـ حسب قولـه ـ ينبغـي أن

. تكون رفيقة لشاعر وليس لرجل مثل دانيالينبري عدنان للدفاع عن دانيال واصفًا صديقه بأنه يبـالغ

ولكن جان كلود يؤكد له بأنه …لرجل في اإلقالل من قيمة ا ليس بينه وبين دانيال ما يتنافسان عليه في هذا العالم، وكـل ما في األمر هو أن هناك نوعا مـن البشـر كلمـا ازدادت معرفته بهم أحس بأنهم يوغلون في البعد عنه، ودانيال ينتمي إلى هذا النوع من البشر، ثم إنه من نموذج يصعب تصـور

". جوهيل"االنسجام بينه وبين امرأة مثل التوافق و

Page 69: 577

-٦٧-

يعترض عدنان على صديقه الذي ال يرى في الحب سببا كافيا للتوافق واالنسجام، غير أن وسيم باريس يصر على أن

تعيش مع دانيال بعقلها فقط، وليس بينهمـا شـيء " جوهيل" . مشترك سوى انتمائهما معا إلى طائفة دينية واحدة

لم يكن مقتنعا تماما بصحة مـا يقولـه ورغم أن عدنان وال سيما في مجتمع مفتوح؛ حيث العالقـات بـين صديقه،

الرجال والنساء تحكمها الرغبة المشتركة، ولـيس االنتمـاء متسائالً " جان كلود "الديني أو العرقي، إال أنه تظاهر بتصديق

عن الطائفة التي ينتميان إليها، ولكن جان كلود يهـز كتفيـه ا عن عدم معرفته لطائفتهمامعبر.

يجهل اإلجابة " جان كلود "لم يكن عدنان متأكدا ما إذا كان فعالً، أم أنه هو أيضا ـ والذي ليس لديه ما يخشى عليـه ـ

. يخاف من تهمة معاداة طائفة أو جنس مالم يسترسل عدنان في تساؤالته، كما أن وسيم باريس ليس

تى نهايته؛ فأي موضوع من عادته أن يتحدث في موضوع ح بالنسبة إليه ليس مهما في محتواه بقدر ما هو مناسبة للحديث والتواصل؛ ولهذا فإنه في معظم األحيان يتحدث في موضوع معين، ثم يعن له الحديث في موضوع آخر، فيتخلـى عـن

Page 70: 577

-٦٨-

األول ويدخل إلى الثاني دون مراعاة لالهتمام الـذي يوليـه .مستمعه إلى الموضوع األول

وسيم باريس ينتقل بسهولة في أحاديـث " جان كلود "هكذا . بين موضوعات الحياة، مثلما كان ينتقل بين بقاع الدنيا

من نقاشات أصـدقائه حـول قـانون " جان كلود "يسخر الضرائب الجديد، وارتفاع إيجار العقارات، وذكريات عطلة

وال يستطيع أن يتصور نفسه جالسا بيـنهم الصيف الماضي، . شاركهم هذه األحاديث المملةي

لقد كان بإمكاني أن أعمل وأدخـر، وكنـت فـي أسـوأ االحتماالت سأصبح مالكًا لمحل تجاري أديـره مـن فـوق

، الذي يقضـي "جورج"كرسي عاٍل، مثلما يفعل هذا المسكين إال لبضعة أسابيع في كل حياته داخل هذا المقهى، وال يغادره

. ياته طوال العامسنة، ثم يعود ليتحدث عن ذكرولكنني اخترت عكس ما اختاره هؤالء، وجمعت ثروة ال يحلمون بها، إنني أجر خلـف أقـدامي األنهـار والغابـات والضباب، وقمم الجبال العظيمة، ومـدن الحديـد والقمـح

. والبشر

Page 71: 577

-٦٩-

يخرج وسيم باريس سيجارة بإصبعين مرتعشتين من علبة : ددالمثقوبة من الجنب؛ وهو ير" الجلواز"

ولـو عـاد الـزمن …إنني لست نادما على هذا الخيار . لفعلته مرة أخرى

سيجارته، ويسحب منها نفسـا وعينـاه " جان كلود "يشعل مغمضتان، ثم يردف بصوت واهن، وسحب حلزونيـة مـن

صحيح أن خيبة ظني بهذا العالم كانت : الدخان تغادر منخريه ي كنت سأكون أكثر أكبر من فرحتي بلقائه، ولكني أعتقد بأنن

! حزنًا لو لم أفعل ذلكجـان "يتساءل عدنان في نفسه عن مدى صدق ما يقوله

؛ فهل بإمكانه أن يتراجع عن خيارات الماضي بعد هذا "كلودواآلخرين؛ أم أنـه " جورج"العمل، ويبني حياة مستقرة مثل

تورط في هذا الطريق ولم يتبق من حياته ما يغريه باستبداله ولذلك فقد وجد من األولى به أن يدافع عـن مـاٍض بغيره؛

يمتلكه من أن يتبنى حاضرا ومستقبالً يقعان خـارج دائـرة . زمنه وإمكانياته

أظنك قد : حوار عدنان مع نفسه متسائالً " جان كلود "يقطع دعوتني في بداية السهرة لتناول كأس من النبيذ، وأعتقد أنـه

Page 72: 577

-٧٠-

وهو يعد عـدنان بأنـه " ارالب"ثم يتجه إلى . قد حانت اللحظة سيدعوه ليلة عيد ميالده القادم لتناول كـأس وهمـا واقفـان

كم سـيكون عمـرك : ، فيسأله عدنان "البار"بجانب صندوق يومها؟

في منتصف الطريق، وهو يفتح أصابع " جان كلود "يتوقف يده اليمنى، وإصبعين من يده اليسرى، ويرسم رقم عشرة في

على فمه المفتوح بضحكة مكتومـة الفراغ، ثم يضع سبابته . مواصالً طريقه نحو البار

تنهج جوهيل مغادرة وابتسامتها تحتضن الجميع، ترحـل . وتناغي حلما،ردهااخلفها نظرات عدنان تط

مهرة أسـكرت رائحـة ينتصب واقفًا، تهرع إليه بجموح يضمها بلهفة، فتتبدى له من خلـف الكثبـان الذكر أنوثتها،

،ة مغزلية بيضاء المعة تحـت وهـج الشـمس الرمادية قب وتخرج منها أسراب الحمام الملون فتنشر أجنحتها الحريرية

. فوق رأسه ظالالً ندية مشبعة برائحة الزهر مسالكه جافة، يصعد تلة مستديرة فيتمطى أمام ناظريه وادٍ

. وأرضه بور عطشى : يرفع يديه إلى السماء عاليا فتنكشف خاصرتاه

Page 73: 577

-٧١-

وارزقه بالماء وبالضـرع ،بارك في هذا الوادي ـ اللهم . والزرع

يشاهد أفواجا من الناس صاعدة نحـوه مـن كـل فـج، يكتظ األفـق بالبشـر …يزحفون نحو التلة كطوابير النمل

حتى يرى لقاء قوس السماء باألرض دون أن يـرى نهايـة . لجموعهم المتدفقة

األذكـار تتردد في الفضاء الالمتناهي أصداء التراتيـل و واالبتهاالت، تسكره نشوة المشهد فيغمض عينيـه، ويلهـج

. لسانه بالثناء والعرفانيغيب عما حوله، تأخذه سنة من النوم، ربما كانت هنيهـة

: يفيق بعدها ضارعا يهمس في وهن…ولعلها طالت دهرا ا خمائليا تنحني فوق زرقته ـ إنني أرى في حديقتك شاطئً

جنيات البحر، يجففـن ذارىتحم فيه ع وتس ، قوس قزح مائهسجي، فتنساب من حلمات فنبأجسادهن تحت شعاع الشمس ال

يتـدافع نحـوهن الصـعاليك …نهودهن جداول نهر اللذة . والمغامرون وتجار النفط والجنراالت المهزومون

من زناراترتدي المساء فستانًا رماديا وتضع على جيدها . ين شفتيها ابتسامة واعدة فيلوح البرق ب؛السحب الفضية

Page 74: 577

-٧٢-

وترتعش فرائس الشـاطئ فتهـرب ،ينهار حائط الغضب جنياته عاريات إلى أعماقه اللؤلؤية، وتظـل المالئكـة فـي

. الكهوف ترتل أناجيلها الوثنيةجان "اللحظة، فيلتفت نحو البار ليجد يفيق عدنان وتغادره

وكأنـه ؛ ويده قابضة على كأسه المألى ،واقفًا يبتسم له " كلود . كان ينتظره ليهنئه بسالمة العودة

يختلس وسيم باريس نظرة إلى جـاكلين، التـي تحـيط بذراعها رقبة أوليفيي مندمجة في الحديث مـع شـلة مـن

بمحتوى كأسه داخل جوفه فـي جرعـة ، ثم يلقي أصدقائها ،واحدة، ويستند بعد ذلك على حافة صندوق، يغمض عينيـه

. ى جبهتهويتوالى بروز التجاعيد علويظل هذا الفارس على صهوة جواده ال يترجل عنه أبدا، يقاتل بعزيمة الواثق من النصر في معركة يعرف أنها خاسرة

. منذ البدايةت صدمة جرعة الكحول تهدأ أطراف جسمه وترتخي تح

سيجارة ويستدير مغـادرا، بعـد أن يتمنـى القوية، فيشعل . لصديقه ليلة سعيدة

Page 75: 577

-٧٣-

وصـخب ،صابيح في كل زوايا المقهـى رغم توهج الم أنه خيل لعدنان أنـه إال ؛اء والرجال نسوحيوية من فيه من ال

، وُأسدلت السـتارة قد أطفئت اإلضاءة " جان كلود "بعد رحيل . "اسكارب كونتر"في مقهى

لقاء تحية المساء الوداعيـة ويهم بإ ،ينهض عدنان بدوره منشغالً بالحديث مـع أنه يراه نادل المقهى، إال " باتريك"إلى

التي تحاصره بنظرات شبقة، فيبتلع جملتـه ،إحدى الزبونات . التقليدية ويخرج

يلفظه المقهى إلى الرصيف، يلتقيه سـرب مـن اإلنـاث والذكور، يتصايحون ويتقافزون نحو المقهـى فيحيـد عـن

. طريقهمأنا ذاهب وهم قادمون، يا رب هذا الزمان، كيف ال تكون

!! م الفرح كالمساواة أمام الموتالمساواة أما .يا هذا الشارع الضيق المعرج المنحدر، الباهت اإلضاءة

المتهاوي تحت ثقل كبريائه ،خذ هذا الجسد المعطوب الطرف . يبة حلمه، وزلزال رغباته المكبوتةوخ

خطواته تتردد أصداؤها في جنبات الممر المعبد بحجـارة م وتآكلت تحـت أقـدا سوداء، أضنتها مقارعة قرون الزمن،

Page 76: 577

-٧٤-

فمنذ عهد الرومان وهذا الممر ما انفك يقود أرجل العابرين، وما انفك الميدان يعيد ،اسكارب كونتر المنتصرين إلى ميدان

، فقد مشت عليه خيـول رومـا ؛إلى الممر مواكب الخائبين ورصفت حجارته بسنابكها وهي تمر إلى الميدان في موكب

. انتصارها على بالد غالة وتحمله رياح الغيب إلى زمن معلق في لوح ،تثاقل خطاه ت

: األبدية، فيجثو عند أقدام إحدى لحظاته معاتبا وشاكياكيف تتحامل على جـوادي ـ أال ترين يا نجالء الخالدية

األفق؟ أال ترين سيوفهم وبلطاتهم ي وتسد أمام خيول بيزنطة . اإلفرنجية فوق قامتي المكللة بعمامة حلبية

وس طالئعهم تتناثر تحت ضـربات تري يا نجالء رء ألمفلما خر خصاني ونبـا سـيفي . ساعد ومهند مسلول كالمنية

وغلبتني األكثرية، رقص أصحابي طربا، وتسابقوا يبشـرون ما بين بغداد ومكة، ومن حلب بالخبر السعيد كل من يلتقونه

. فريقيا المتوسطيةمهامة إحتى يا نجـالء الخالديـة الفـارس أنا رب السيف والقلم، أنا

. المشدود الوثاق في القلعة البيزنطية

Page 77: 577

-٧٥-

،أال ترينهم يفرغون خزائن ذهبهم فـي سـوق النخاسـة ، وقيـان بـالد الهنـد والسـند يويتبارون في شراء جوار

والروميات المطمومات الشعر، ويرغبون عن فديتي وفديـة صي ألنه مخ أال ترينهم يتحالفون مع كافور؛ . يسيفي وحصان

، ويبرمون ويصالحون الروم على دمي ،ال تطمع فيه نساؤهم . إذا شاب الغرابمعهم مواثيق ال تفنى إال

بـالطبول ـ ال تحزني يا نجالء عندما ترينهم يهرعـون ، يرمونهم بأكاليل النصر ،افل الروم حجواألهازيج فرحا بلقاء

وينقشون أسـماء قياصـرتهم ،ويرشون خيولهم بماء الزهر . فائح الذهبعلى ص

ـ ال تجزعي وهم يطرقون باب دارك كل ليلة ليعرضوا وتارة إلـى ،عليك أن تبيعي نفسك تارة إلى صاحب الشرطة

. كبير قوادي األمير مضت قـرون أنا، لقد ـ اقتربي أيتها األميرة الحلبية إنه

، تنتظرين فارسا خرج مـن دارك ذات ليلـة مقمـرة وأنِت هأنـذا … في شوارع حلـب وضاعت أصداء حوافر جواده

. أسير يحمل الماء على ظهره في أزقة مدن الروم

Page 78: 577

-٧٦-

أو ،في كل يوم يشتريني من سوق العبيد لكي أحفر له نفقًا أو أبني له جـدارا، وعنـد الغـروب ،أكنس أمام عتبة بيته

لظهر، ينهرني فأنصرف مهدود الحيل، كسير النفس، منحني ا نجـو مـن نظـرات كـي أ أتحاشى أماكن الطرب واللهو؛

ي من أبنـاء يبة التي يرجمني بها أقران االزدراء والحذر والر فإذا الليل طواني بجناحه وضمني التيه . الروم وبنات الفرنجة

. أذللت دمعا من خالئقه الكبر؛في األزقة والحواري المعتمة ،نساء الفرنجة فتزدرينـي أو تخـافني تمر بي يا نجالء

:ي لست القائل وكأنن،فتجمع بعيدا عني فلم يلقها جـافي اللقـاء …وساحبة األذيال نحوي لقيتها

. وال وعر؟ أقـول أيرضـيك يـا "الخالدية" "جوهيل"ـ أيرضيك يا

: هذا الذل وهذه المهانة ألست أنا القائلنجالء الخالدية لنا الصدر دون العالمين …نحن قوم ال توسط بيننا

. أو القبرقصيدة يا نجالء تنتظـرك منـذ " يةجوهيل الخالد "هذه يا

لم يروها أحد عني فـي مجـالس سـيف ،قرنين من الزمن ألنهم ال يـرون فـي ، ولم يسمعها أحد من الفرنجة؛ الدولة

Page 79: 577

-٧٧-

ومرمم الجدران، وحينما ، وحفار األنفاق ،سوى حمال الزبالة وسهم مجاملة أو لبعضهم بأنني شاعر فإنهم يهزون رء أفصح لهم كالم يصـلح شـعرا بغيـر ة بالنسب ألنه ال يوجد ؛إشفاقًا . لغتهم

كتنزتها في أعمـاقي طـوال هذه يا نجالء قصيدتي التي ا ؛قرون انتظارا للقائي بك، هذه الليلة أرجوك أن تقتربي أكثر

فلم يعد صوتي ذاك الذي عهدته يجلجل في مجالس قصـور . حلب

وقامة موصـلية ،تقترب منه ظبية حجازية وقدان حلبيان ان أصفهانيتان، وشفتان مطبوعتان بابتسامة مالئكيـة، وعين

ويبسط يديه متهيًئا إللقاء ،تنتفخ أوداجه وتبرز حباله الصوتية . قصيدته

شرطيان . تظهر دورية الشرطة من أحد منعطفات الممر ، السوداء تحت ضوء المصباح الخافت تلمع أزرار مالبسهما

ألنه يعرف …يعترضان طريقه فيخرج عدنان بطاقة إقامته . أنهما سيطلبانها منه

Page 80: 577

-٧٨-

ا بطاقة اللجوء السياسي الصفراء التي قدمها ميتناول أحده فيجيبـه ، ثم يسأله عن مهنتـه ، فيتفحص بياناتها ،له عدنان

. عدنان بأنه يعمل في مؤسسة اإلعالنات التجاريةيقوم الشرطي بتسليم البطاقة إلى زميله الذي يحمل جهازا

والتأكد من صحة ،لالتصال بمركز المعلومات وذلك ؛السلكياالبيانات، يعود بعد ذلك ليسأل عدنان ما إذا كان يحمل شـيًئا

فيمرر يديه من ،ال يقتنع بإجابة عدنان ولكنه ،مخالفًا للقانون ويخرج كل شيء يصادفه في جيوب ، الجسم إلى أسفله ىأعل

نـاول قبـل أن يت عدنان، يفتح علبة السجائر ويتفحصها بتأنٍ ! ما هذه؟: ويسأل عنها عدنان،المذكرة الصغيرة

: ، ويكاد يجيبه بسـخرية يحس عدنان باستفزازية السؤال غيظـه أال ترى خرطومه وأذنيه؟ ولكنه يكـتم …نها فيل إ

نني أسألك أال تسمعني؟ إ: بينما يكرر الشرطي سؤاله . نها كراسة صغيرة للكتابة كما ترىـ إ

! ـ ماذا تكتب؟ضحا لعدنان أن الشرطي يبحث عـن اسـتفزازه، بدا وا

.فأجابه بأنه ليس من حقه أن يعرف ماذا يكتب

Page 81: 577

-٧٩-

من حقي أن : با وهو يقول لعدنان يستشيط الشرطي غض وليس مـن حقـه أن ،سأل الشخص الذي أستوقفه أي سؤال أ

؟يمتنع عن اإلجابة أفهمتلم يجد عدنان من مصلحته االستمرار في لعبة عناده مـع

مستفزين من قبل عربي في ممر معـتم ،يين فرنسيين شرط : فيجيب بلهجة هادئة،معزول من حواري باريس القديمة

. ـ أكتب يومياتييهز الشرطي رأسه وهو يعيد إليه المذكرة قـائالً بلهجـة

: المنتصرك أن تجيب دون عنـاد وإضـاعة كان من األفضل ل ـ .للوقت

: ثم يضيف وهو يهم للحاق بزميلهنحن ال نرغم أحدا على البقاء في بالدنا، ولكـن مـن ـ

. يريد أن يبقى عليه أن يمتثل للقانوني ذريعـة يلتزم عدنان الصمت لكي ال يعطـي للشـرط

فهذا األخير لديـه المزيـد مـن االستمرار في استفزازاته؛ ـ ،الوقت مرار فـي ت وليس لديه مانع من تسلية نفسـه باالس

Page 82: 577

-٨٠-

الذي ال يعرف حجمه ، المغرور استفزاز وإذالل هذا العربي . الحقيقي ووضعه المتدني بين البشر

وهو يساوره شعور ،يقوم عدنان بإعادة أشيائه إلى جيوبه شبيه بشعور امرأة تهرع إلى ارتداء مالبسها بعد أن ذهـب

. عنها مغتصبوها فـيحس بثقـل خطواتـه، هـذه بـواكير ؛يستأنف سيره

. نني ما زلت في بداياتي ر، إ على رسلك أيها العم ،الشيخوخة هنـا ال …حقق شيًئا من قناعاتي، ولم تحبني امرأة بعد فلم أ

. وهناك ينتظرني الموت،أجد احتراما ديـوان هل يبقى ثمة شيء أخشـاه، سأنشـر ديـواني،

قد ،ت عن نشره طوال هذه السنوات الفضيحة هذا الذي تردد ي ثمنًـا كله فضيحة، وقد أفقد رأس شيًئا إلى واقع ال يضيف

وإن لم تكن أمامي غير ،صرختي لن أكتمها ولكن هذه لذلك، . الصحراء

، ليفضي به يصل عدنان إلى نهاية الممر الباهت اإلضاءة ، والصاخب العـابق، المتأللئ التدفق" سان ميشيل "إلى شارع

يتدافع الذكور واإلناث، يسـابقون رغبـتهم متلهفـين إلـى ،فيتناغم وقـع الخطـى يتمهل البعض في سيره ،مواعيدهم

Page 83: 577

-٨١-

يمتد بسـاط الوصـل . وتتوالى الخصور ،وتتعاقب األرداف بحة في أديـم فيعانق ذرات الضوء السا ؛وتجنح أطرافه باللذة وس األشجار المتسـامية علـى راء رء والفراغ الممتد فيما

. أطراف الشارع ـ يا هذا الشارع المتدفق أجسادا بشرية، عبر األجيال، لم

! أليس كالهما يمأل الفراغ؟لذة مع األلم؟ال تتساوى ال فيجد شـابا وشـابة ،يصحو بعد اصطدامه بجسم بشري

بينما تبتسـم لـه ، فينحرف عنهما قليالً ،متلصقين ببعضهما يلقي نظرة سريعة إلـى الـذكر . الشابة فيعرب لها عن أسفه

لماذا تفضل األنثـى : م يتمتم متسائالً ، ث الذي تحتضنه المرأة !عادة ذكرا ال ينال إعجاب الرجال؟الجميلة

؛ فيجد نفسـه يزفر وهو يشيح بوجهه إلى الجهة األخرى الـذي يشـغل جـداره ،القديم" لونيك"سائرا بجانب متحف

". سان ميشيل"لعتيق مساحة ليس قصيرة من شارع المرمم اصـورة المـرأة . يلمح بعض ملصقات الدعاية واإلعالن

يس كريم على شكل كـرتين، تقبض بيدها على قطعة من اآل ما بينهما وهي منتشية مغمضة العينين، وصورة تلعق بلسانها

. أخرى لرجل يصرع أسدا وخلفه زجاجة من الجعة الفارغة

Page 84: 577

-٨٢-

: تسقط نظراته على مقدمة حذاءيه فيحتضنهما الرصيفأنـا . أنا أروض نفسي على األلم، وهم يعانقون اللـذة ـ

. تنفسون القوةأتصالح مع العجز والخوف وهم ي ويختفي الرصيف فيصير النهج ،ينمو الضباب في حدقتيه

وتنفـتح فـي ، تتقوس أمام الزمن ،كله عالمة استفهام كبيرة ، ويقع أسـير غـربتين؛ وجهه هوة فتقذف به خارج اللحظة

. وغربة لحظته عن زمنهم،هولغربة عدم انتمائه إلى من حمـس، بالضـحك يعود الرصيف إليه ممتلًئا باألرجل واله

" سان ميشـيل "، وبإشارة عبور تقاطع شارع واألنفاس الحارة ". سان جيرمان"مع شارع

سـان "لى ميدان تقوده العادة وتلبي رجاله النداء، فيعرج إ أجيال كثيرة قبله رأته . الممتد بين ضفتي نهر السين " ميشيل

ومع ذلك فهو متحول أبدا ال يبقى علـى ،على هذه الصورة . حاللمغارة المخروطية الشكل تمتد كتجويف صاعد نحو قمة ا

التي تشكل عازالً بـين الميـدان ،الكتلة الصخرية الشامخة ". سان ميشيل" طول شارع وبقية المباني الممتدة على

Page 85: 577

-٨٣-

مسارات الضوء القادمة من جنوب الميدان وشماله تتقاطع ينساب على صفحتها الماء مشعشـعا ،فوق صخرة مرمرية

،فًا حول محيطهـا تل، فيصعد الزبد م الفسقية الكبيرة نحو قاع ، وما خطته علـى ويصير عمامة تخفي ما أصابها من ندوب

. فها أيدي البشرارأط يتسـامرون، ،ال يزال رواد الميدان، كأي ليلـة مضـت

ون، يهمسـون، ويتصـايحون، القـديس يتشاجرون، يتمازح الجميـع، يفرد جناحيه فوق قمة الصخرة، يهفو على " ميشيل"

يبارك شجارهم وسبابهم، يبارك همسهم وصراخهم، يبـارك ويبـارك ،الذكور واإلناث الذين ينتظرون مجيء من يحبون

ظرون شيًئا سوى ما يأتي به الغيب، أيضا أولئك الذين ال ينت جناحاه مشرعان يضمان إليهما كل ذكر يظفر بشفتي إحـدى

خائبا مكبوتًـا، إناث الميدان، ويبارك كل من يغادر الميدان حتـى ،يبارك أولئك الذين يتسلقون الصخرة ويكتبون أيضـا . أولئك الذين يتبولون أحيانًا في جنبات الميدان المعتمة

وقوفًا وجالسـين، ،ينتشر رواد الميدان جماعات وفرادى ن لعازف قيثارة أو لمهرج يعرب عـن يثرثرون أو يستمعو

. وجهة نظره على العالم

Page 86: 577

-٨٤-

في جولته حول المكان، يبحث عن فرصـة يتمهل عدنان لعلها هذه األنثـى التـي . عات الليل األخيرة اقد تجود بها س

متلهية بتملي الزبد الطافح على ، تدخن بشراهة ،تجلس وحيدة يقترب منها ولكن حالها يدل على أنها جالسـة . حافة الفسقية

هنا منذ مدة ليست قصيرة، فكيف يتـرك هـؤالء الواقفـون . ون فرصة كهذهالمتربص ولكنها ردتهم جميعـا ،بد أن الكثيرين منهم قد حاولوا ال

. على أعقابهم يشعل مغادرة المكان، فتنهض هي ،يجلس بجانب الفسقية

ثم يلقـي نظـرة ،سيجارة متصنعا عدم االكتراث بما يجري شاملة على الميدان، وجوه عربية كثيرة تعود علـى رؤيـة

. معظمها هنا منذ سنواتيقفون في أنحاء الساحة كمن ينتظر قدوم شخص أزفـت

وهكذا يتكرر مشهد االنتظار كل ليلـة منـذ . لحظة وصوله . وسفنهم أبدا ال تأتي،ال تهب ولكن رياحهم،سنين

،تلتقط أذناه تعليقاتهم وهم يخربطون بلهجـاتهم المحليـة . معربين عن تأسيهم ورغباتهم في نساء الميدان

. ة موجودين برشه، لكن صاعبين يا خوياـ البنات الليل

Page 87: 577

-٨٥-

يأتي تعليق من متربصين آخرين، خلينا أمريحين في بالك تحكملنـا مـع أزويـز ابنيـات ميـزانين، . هالبالصا

متربصون في ناحية أخرى يحتجون على عدم العدالـة فـي . قسمة النساء على الرجال

البنت عماله اتبوسو وهو . ـ بص للواد الخيخة اللي هناك أما صحيح يعطي الحلـق للـي بـال . ما يبوصلهاش خالص

. وداناثنان يجلسان على حافة الفسقية يعربان هما أيضـا عـن

: فراغ صبرهما ـ ليك اتركنا نروح يا زلمى هاذون نسوان قد ما اتحاول

. ما يطلع بيدك شيءمعا هون ومـا بـال ركيكـة، يا عكاظ هذه الليلة لم لغة معلقاتـك

. همون كالم بعضهم البعضال يف شعراؤك يا أنثى جبل التوباد وذلك الـزمن، لـم ،يا ليلى العامرية

حتى في زمـن السـاعات ،ال يزال ممتنعا مستحيالً وصلك "! سان ميشيل"ل األخيرة من لي

Page 88: 577

-٨٦-

تدخل إحدى دوريات الشرطة إلى الميـدان فـي جولـة وتستجوب من ال ، تتفحص خاللها وجوه الساهرين ،روتينية . أو سحنته وهيئته لها لونهيروق

ن ، تاركين الميـدان؛ أل ينسحب الكثير من الرواد العرب أو أن إقامتـه غيـر ،بعضهم قد ال تكون معه أوراق إقامة

وبعضـهم ، فيتعرض للمساءلة والترحيل عن فرنسا ؛شرعيةاآلخر من أمثال عدنان ليس لديه ما يخشـاه مـن الناحيـة

ستفسارات الشـرطة وأسـئلتهم ولكنهم ال يطيقون ا ،القانونية . االستفزازية

ففي مثل هذه األحوال التي تدخل فيها الشرطة إلى مكـانٍ فإن العربـي الـذي يش؛عام مسموح فيه باالستجواب والتفت

يكون بصحبة فرنسية أو فرنسي ال يتعـرض فـي الغالـب إذا تأكد هـؤالء بطريقـة غيـر ،للمساءلة من قبل الشرطة

نسي بالفعل، أما إذا كانت رفيقته شقراء مباشرة أن جليسه فر فإنه وال شك يتعرض في غالب األحوال إلى أسـئلة ؛أجنبية

وقد يقوموا بعملية تفتيش سريعة لـه ،الشرطة واستفساراتها لكي تفهم هذه األخيرة التي قد ال تكون تعلم بأنها ؛أمام رفيقته

Page 89: 577

-٨٧-

الذين ال يخلـون مـن ،وقعت في نوع من البشر المشبوهين ! وقد يغررون بها،وءس

من جهتـه " سان جيرمان "، ويصعد شارع ينهض عدنان سـان "يعبر تقاطع هذا الشارع مع شارع وقبل أن ،الشمالية فقد مضى أكثر ،لحو صاحبه األ لمح الشخص ذاته؛ ي" ميشيل

. "سان ميشيل"يال لم تتقاطع طريقاهما هنا في من ثالث لـ ف األشهب القصير، الجريدة المف المعط ة فـي اليـد لوف . دوما بين أصابع اليد اليمنى، وسيجارة مخلوقة اليسرى

وكأنهـا وطريقة سيره التي ال تتغير تبدو انتظام خطواته حركة آلية ال تتأثر بما يأتي به الطريـق مـن مصـادفات

فليس هناك ما يشده إلى ؛ال يتمهل في سيره . ومواقف وأشياء تظاره ثمة ما يشـتاق فليس في ان ، وال يسرع الخطى، المكان . إليه

وطريقانا تتقاطعان في هذا ،ها هي خمس سنوات بلياليها ولم يدفعه الفضـول إلـى ،الشارع، ولم يجد أي منا الرغبة

يهز عدنان كتفيه . محاولة االقتراب من صاحبه والتعرف إليه : وهو يواصل سيره

Page 90: 577

-٨٨-

ما يقوله لآلخر، وأكثر ممـا ـ لكن هل حقًا لدى أي منا عنه هذه النظرة المتبادلة بيننا كلما مر أحـدنا بجانـب تعبر

كالنا على يقين من أن خلف اآلخر قصـة ليسـت . صاحبه ولكن نسيجها خليط مـن إفـراز ،سارة، قد يجهل تفاصيلها

. الواقع هناك وهنابوابة شارع صغير " سان ميشيل "تنفتح في خاصرة شارع

؛"سان ميشيل "، فينعطف عدنان مغادرا شارع باهت اإلضاءة : وهو يخاطبه مودعا

ويستلمني منك ،ـ يقودني إليك ممر ضيق باهت اإلضاءة .ممر آخر باهت كأخيه

سلم الخشب اللولبي ترتعش أطرافه تحت وقـع األقـدام نحو حضن حنون دافئ ال يمـل انتظـار عـودة ،المسرعة

عدنان، يقفل نافذة السقف المفتوحة على رقعة السماء، فينفجر من أصداء ما تبقى في أذنيه ن حاد على أثر الصدام بين طني

. والصمت المسيطر على عالم الحجرة،الحياة في الشارع فيواجهه صديقه الجـدار، ينطلـق ؛يسترخي على سريره

: عدنان محدثًا صديقه

Page 91: 577

-٨٩-

ـ معذرة لقد تأخرت كثيرا هذه الليلة، ولكن هناك موضعا ألنني في ؛أحدثك عنه على قدر كبير من األهمية، أردت أن

حاجة إلى نصيحتك، فكما تعلم قد فشلت مع الكثيـرين مـن جيلي في تغيير أحوال بني قومي التي لم يسبق لسوئها مثيل

. بين األولين والمتأخرين وقلبته على كل الوجوه فوجدت أنه ،وفكرت في األمر مليا

كلهـا مكن فعله سوى زرع بذرة قد تؤتي أ ليس ثمة واهللا ما ي سان "المساء في شارع وبينما كنت أتجول هذا . بعد ألف عام

ي ذهني فكرة لعلها من فيض السماء؛ فقـد انبثقت ف ؛"ميشيل ،ك تجربة وخبرة بـأجواء هـذا الشـارع لتاكتشفت أنني أم

تجعلني قادرا على وضع كتاب مفيد لبني قومي يذكرون بـه ومن تلك اللحظـة قـررت أن . فضلي عليهم إلى يوم الحشر

ألنه لن ؛أتوقف عن كتابة ما تبقى من كتاب ديوان الفضيحة ولن يجد طريقه إلى القارئ في أي بلد ،يجلب إلي إال السوء . من أرض العرب

وحزمت أمري على التفرغ لفكرة هذا الكتاب الجديد الذي ألنه سيفيد الرعية ؛ ويتخالج في قلبي ،أخذ يتلجلج في صدري

بتغي سوى رفـع الغمـة ي ال أ ننإ. وينال رضا أهل السلطان

Page 92: 577

-٩٠-

كما أنني على يقين من . واستجالء غوامض أمور هذه األمة ،أن والة أمرها ـ أدام اهللا لواء سلطانهم معقـودا بالسـعود

وربط أطناب ممالكهم بأوتاد الخلود ـ لن يألوا جهـدا فـي االحتفاء بهذا الكتاب ونشره في كل األمصار، ليتـزود مـن

ــار وا ــه الكب ــدوات غار، لصــذخيرت ــه الن ــتقام حول وس . وستطور عنه البحوث والمجادالت،والمحاضرات

لقد أوحت إلي بهذه الفكرة أحوال العرب النـازحين إلـى . نفسي ضياعهم وهوانهم على النـاس هذه الديار، فشق على

ونظرت في مرتبتهم بين الملل القاطنة في ربوع هذه الـبالد ن الرجال، مزدرين فـي عيو فوجدتهم منبوذين، صغارا في أن أقدم لهم عمالً يصلح من يعيون النساء، فآليت على نفس

ما من يبقون في حالهم وأمور دنياهم في البالد الفرنساوية، أ أحرص مني هم أبد اهللا بقاءهم ـ هم ـ أمصارهم فوالة أمور

ى مصالحهم وال يحتاجون في ذلك إال النصيحة واإلرشاد؛ علحجاب عن كل المعارف وعلـوم الـدنيا فقد كشف اهللا لهم ال وهـم هم بنواصي الحكم دون بقية العباد، واآلخرة، واصطفا ،ل فرد فيهـا سـاهرون ، وعلى مصلحة ك لرعيتهم يفكرون

وعن كرامة األمة وعزتها يجالدون، فنالوا محبـة ورضـا

Page 93: 577

-٩١-

فال غـرو كت بأعتاب ملكهم وأعطافهم السنية، فتمس ،الرعية . مؤبدة ميمونة سرمديةبعد ذلك أن تكون واليتهم

ار عن أهله وذويه أما أنا ـ الفقير هللا ـ الذي نأت به الدي اشترطت على نفسي أن أقدم إلـى بنـي وعشيرته ومحبيه؛

جلدتي هذا الكتاب الذي أرجو ـ بعون اهللا ـ أن يسموا بـه فخرا وأن يكون لهم ذخرا، فيغدو بمثابة المتاع لكل مـن رام

لم أتوصل إلى فكـرة إنني . ه األصقاع منهم المغامرة في هذ . بعد تجربة كبيرة محفوفة بظـروف عسـيرة هذا الكتاب إال

ال العرب فـي فنظرت في األسباب الظاهرة والخفية لسوء ح وليسـت ،وجدت أن للمسألة علالً كثيـرة البالد الفرنساوية، ف

حلولها على من هم مثلي يسيرة، بيد أنني رأيت لموضـوع . األحوال والضياع واإلحباطسوءرتباطًا بالمرأة عالقة وا

وإنجاز ،فأحسست بأنني قادر على التصدي لهذه المعضلة هذا الواجب الخطير، بفضل ما أوتيت في هذا المجـال مـن

فعزمت بعد التوكل على اهللا أن أضـع . علم بإذن اهللا غزير ،لهم دليالً محكما في قواعد التعامل مع نساء هـذه الثغـور

. وأكشف لهم فيه خبايا األمور،ه على مسالك النجاحأدلهم في

Page 94: 577

-٩٢-

نيفًا لهذا الكتاب المأمول فـي جـزءين لقد تصورت تص ولكنني لست بصـدد الكشـف عـن كـل وعشرة فصول،

محتوياتها اآلن، وال الخوض في مسائلها العويصـات قبـل ك نبذة مختصرة عن الفصل التمهيدي األوان، فأكتفي بإعطائ

،"شـارع سـان ميشـيل "وضوعا لـه الذي اخترت م ،فقطن ذو أثرة في نفوس بني جلـدتي شـم ا وهو مك ؛المعروف . األنوف

فقمت بتقسيم الجهة الجنوبية من هذا الشارع العتيد إلـى . أربع مناطق صالحة للصيد

حسب ترتيب هذه ،بتدئ هذا الفصل بمثل الترشيد التالي ألجنوبية مـن إذا كنت تسير في الجهة ا . األماكن على التوالي

ن لك أن تجرب ، وع متجها نحو الجسر ،"سان ميشيل "ع شار فينبغي عليك معرفـة ات؛حظك مع النساء الغاديات والرائح

. وال تخطئة للعين فيهس ال لب،أمرين كالهما واضح معرفة في أي من هذه المنـاطق كانـت تقـودك ؛أولهما

هار كنت معرفة في أي وقت من الليل أو الن ؛قدماك، وثانيهما . تقوم بمسعاك

Page 95: 577

-٩٣-

غـي "لمنطقة األولى الممتدة مـن شـارع فإن كنت في ا اء قبل أن يصير الوقـت نسفال تحاول التقرب إلى ال ،"لوساكماء، أما بعد هذا الوقت وترى الشمس تتوسط كبد الس ،ظهرا

جهدا في سعيك ألجل غايتك حتى تختفي الشـمس، فال تألو ، فجهدك ضائع مع ك نفس فإن غاب الشفق األحمر أمسك عنك

! وليس لك بعد ذلك األوان في بابهن رجاء،النساءأما إذا وجدت نفسك في المنطقة الثانية الممتدة من تقاطع

فاصـرف ،"سوفلو"، حتى تقاطع شارع "غي لوساك " شارعى مدار السـاعة عنك التفكير في بنات حواء، فمحاوالتك عل

سباب فليس عندي وإن سألتني عن األ معدومة ضائعة هباء، . لك من جواب

الثالثة الممتدة من تقاطع شـارع فإن أصبحت في المنطقة ك أن يغريك زخم فإيا ،"ديزيكول"حتى تقاطع شارع " سوفلو"

فـإن ، بل انتظر حتى يأتي وقت الضحى ما به من الصبايا؛ مـن فانطلق ،رأيت شعاع الشمس قد غمر ميدان السوربون

. مكللة بالنجاحودك بعون اهللاساعتك للصيد المباح، فجه

Page 96: 577

-٩٤-

علـن منتصـف ، ت فإذا سمعت دقات ساعة الميدان الكبير فال فائدة بعد هذا الوقت من الكر ، فألجم حصانك األغر ،الليل . والفر

أما وقد صرت في المنطقة الرابعة الممتدة مـن تقـاطع فاعلم بأنك قـد ،"سان ميشيل "، وحتى جسر "ديزيكول"شارع

وال تلقـي ، فتشبث وتربص ،هذا الشارع أصبحت في صرة فأنت في إقبال وإدبار من مطلـع ، لتعاقب ساعات الزمن باالً

. ناء الليل وأطراف النهار، آالشمس إلى مطلع الشمس الفصـل حـاور هذه هي الفكرة التي سـتدور حولهـا م

ي نيل األوطار ف "أما الكتاب فقد اخترت له عنوان التمهيدي، ". طلع النهارالحي الالتيني قبل م

إنني على يقين يا صديقي من أن هذا الكتاب سيجد رواجا بي آخر أن حققه، كما بين قراء لغة الضاد لم يسبق لكتاب عر

مصادرة في طول بـالد منأى عن الرقابة وال أنه سيكون في وسأكون أنا أيضا في مـأمن مـن شـر العرب وعرضها،

ع ثروة ال يحلـم األنظمة العربية، وقبل كل هذا وبعده سأجم فوقـع ،بها أي كاتب عربي عدا تلك القلة التي حالفها الحظ

Page 97: 577

-٩٥-

ملك صالح أصـيل ختيار لتكتب عن السيرة الذاتية ل ليها اال ع . م أو قائد مغوار، أو زعيم ملهعظيم

ـ ما رأيك يا صديقي الجدار في هذا المشروع؟ . ها. ها. ـ ها

: ينفجر عدنان بدوره ضاحكًاا صديقي تسخر من هؤالء القوم وتستهزئ ـ أنت أيضا ي

! حتى الجماديا سبحان اهللا،.بهمتحدث حركة داخل الحجرة، يعقبها تدحرج بعض األشياء،

. طلق الفأر يعدو بين زوايا الحجرةني . ويتمنى لصديقه الفأر حظًا سعيدا،يطفئ عدنان الضوء

Page 98: 577

-٩٦-

))٣٣(( ثم يلقـي ،"يلهجو"دنان الجرأة فيقترب مترددا من يجد ع

ترفع رأسها فتلتقي نظراتهـا بنظراتـه، .إليها بتحية المساء ويحس بأن ابتسامتها المطبوعة على شفتيها أبدا، يملكها وحده

. هذه المرةتقرب وجههـا . كانت جالسة بمفردها منهمكة في الكتابة

: منه وصوتها يفيض أنوثة وهي تقول له . الشاعر الجرأة أخيرا أيهاتها أنت وجدـ

ـ لكن ما جدوى أن تكون شاعرا وسط أناس ال يفهمون . شعرك

: جوهيل بغمزة خفيفة من طرف عينها . ـ أسمعني أبياتًا وسترى أنني أفهمك

Page 99: 577

-٩٧-

ليهـرب مـن حصـار ،يطأطئ عدنان رأسه إلى أسفل هـو ثـم يبتلـع ريقـه و ،ابتسامتها ونداء عينيها الحوراءين يلقـي الشـعر إال ألنه ال يرجوها أن تعفيه من هذا الطلب؛

بصوت مسموع أمام جمع من المستمعين الذين يفهمون لغته، . وفي مكان ال يراهما فيه أحد،أو يلقيه همسا في أذن امرأة

أن تداري ضحكتها حتى ال تلفت انتباه زبائن " جوهيل"تحاول بيـد أنها تبدو طفلة بريئة وهي تبتسم، فيحس عدنان . المقهى

. شف عن أعماق أنثى متحفزة جامحة الرغبةأن ضحكتها تك : ينطلق واصفًا لها بيته الذي يدعوها لزيارته

ـ إنه ليس فخما وال كبيرا، ولكنه رومانسي، معلق فـي في الليالي الصيفية المقمرة، أفتح نافذة سـقف . سماء باريس

. حجرتي فتغدو مربعا طفوليا يلهو في جنباته القمر : المس يده وبلهجة عتابتقول ويدها تكاد ت

ـ إذن لن أسمع شعرك قبل أن يأتي الصيف ويقطن فـي . بيتك القمر

مس أطراف أصابعه المرتعشـة يترك عدنان يده تقع فتال ": جوهيل"معصم

Page 100: 577

-٩٨-

ـ ولكنك دائما حاضرة في بيتي، فحينما يتربع القمر في سقف حجرتي، يطالعني طيف ابتسامتك مع ذرات الضـوء

. لة الشعاع المتدفق عبر الفضاء الالمتناهيالسابحة في ها : وهي تنصت إليه متدفقًا" جوهيل"تتسع حدقتا

ـ لم أفصح ألحد عن مكنونات نفسي مثلما أفصحت عنها لهذا الطيف، أظل أحدثه حتى تتباعد أطراف الليل ويفترسني

وأطيـاف الحلـم ،النعاس، فتتجاذبني أطراف الشهوة الفتية رحم الغيب أفق أغبر، فيؤسرني الكبـت السقيم، وينبلج من . والعجز والحرمان

تدب مرتعشة فوق معصمه؛ " جوهيل"يحس عدنان بأنامل ،نهر من الرغبـة " جوهيل"يحتويها بلهفة، ويتدفق من عيني ف

وأضـناها طـول ،فيغمر حقالً تشققت تربته من قيظ الكبت . انتظار حدوث المعجزة

هشة الكثيـرين ممـن ينهضان ويداهما متشابكتان وسط د . يعرفونهما من زبائن المقهى

من صحة مـا جريدته ويخلع نظارته ليتأكد " جورج"يلقي نادل المقهى الذي يقف بدوره " باتريك"يرى، ثم يستدير نحو

أن يقفل حنفية الجعـة بعـد أن د نسي وق ،متسمرا في مكانه

Page 101: 577

-٩٩-

امتألت الكأس، فأخذت الجعة تتدفق وتنسـاب فـي بالوعـة ة ويهز كتفيه كإجابـة لصرف، ثم ينتبه فيقفل الحنفي حوض ا

. المتسائلة" جورج"على نظرات ل بصوت متهـدج موجهـا وهو يقو " مسيو بينو "ينهض ": جورج"حديثه إلى

يبقى شيء آخر أكثـر غرابـة ـ هل تعتقد أنه بعد هذا !دث في هذا العالم؟يمكن أن يح

": أوليفيي"ها ث بشعر رفيقويدها تعب" جاكلين" بينما تعلق ،ن زوجها مع هـذا الكـائن تخو، ـ يالصفاقة هذه المرأة يستشـيط . ها إلى المقهى بمفردهـا وفي أول فرصة تأتي في

: غضبا" أوليفيي" وأنت أيضا ستفعلين ذلـك . ة واحدة ـ كل النساء من طين

عندما تجدين نفسك في ظرف مناسب ومـع رجـل ترينـه . مناسبا

وهي تصفه بـالجنون، فيـدفعها تصيح في وجهه جاكلين : بعيدا عنه

امرأة عندما يواجهونها بحقيقـة مـا ـ هذا ما تقوله أي : يدور في داخلها

Page 102: 577

-١٠٠-

بصـيحات االسـتنكار التـي غير عابئ " أوليفيي"ينهض ويسود المقهـى جـو مـن الهـرج ،خلفه" جاكلين"تطلقها

. فتختلط فيه األمور وترتفع ولولة بعض النساء،والفوضىرة على المقهـى قبـل أن ير عدنان ليلقي نظرة أخي يستد

فيخيل إليه بأنه يرى أحد أحياء بني أسد ،"جوهيل"يختفي مع بعد أن جاست خيول بين ،وقد دب فيه الذعر والهلع والفزع

. ، وأخذت ابنة شيخه سبيةعبس خالل مضاربهقبلها حتى تخزه هي بأصابعها في بطنه يو" جوهيل"يضم

. فاسهاال يكتم أن لكين ذراعيه، يزدرد ريقه وهو ال يزال يهصر قدها النحيل بي

: ها جوهيلثم يتمتم بلغة ال تفهمـ ليس هناك ما يعادل نشوة االستيالء على المـرأة مـن

! اآلخرين سوى نشوة االستيالء على السلطة منهم لغزوة ستظل حديث النـاس فـي مقهـى إن أخبار هذه ا

. ادمةطيلة قرون ق" اسكارب كونتر" وأنفاسها تضرم ،وشفتاها تدبان فوق رقبته " جوهيل"تقول

: نار الشهوة في أوصاله . ـ دعنا نذهب إلى مكان آخر بعيد عن هنا

Page 103: 577

-١٠١-

: يحاول الهمس فيخونه صوته المتهدج . ـ لنذهب إلى جزيرة العشاق

تخبره بأنها ال تعرف هذه الجزيرة ألنها لم " جوهيل"ولكن . يسبق لها أن عشقت

تقع على نهر السـين فـي . إنها ليست بعيدة عن هنا ـ . مواجهة متحف اللوفر

يتمايل جذع كل منهمـا ،يغذان السير ويبطئان فيه أحيانًا على اآلخر، يريح كل منهمـا رأسـه علـى رأس اآلخـر،

زاويته الحادة هي ،فيغدوان على شكل مثلث متساوي الساقين . ملتقى كتفيهما

كثير من شوارع الحي الالتينـي، في يتعمد المرور معها ، "سـان ميشـيل "ليلتقي بشارع " ديزيكول"فيهبط إلى شارع

لينعطف بعد ذلك إلى " سان جيرمان "ويصعد منه إلى شارع يعرفونـه لكي يشاهده كل الذين " سانت أندري ديزار "شارع

الذين لم يسبق لهم أن رأوه ولـو من العرب والملل األخرى، هذه أول مـرة . امرأة في هذه األنحاء مرة واحدة مصحوبا ب

يعيش ليلة صيفية باريسية كما كان يرى اآلخرين يعيشـونها " جوهيـل "يطوف مع . طوال سنوات وحدته وبؤسه العاطفي

Page 104: 577

-١٠٢-

هـز أن رأى فيه مشهدا بين ذكر وأنثـى كان سبق مفي كل وفجر في أغوار نفسه المكبوتة زلزال الشهوة وبراكين ،كيانه

. الغيرة والحسد، يتعانقـان "سان ميشـيل "يتمهالن في سيرهما في شارع

تتقاذفهما األمـواج البشـرية حتـى ،"كلوني"بمحاذاة متحف ويستندا على جدار المتحف الذي تجـاوز ،يلتصقا ببعضهما

. عمر أحجاره الصلدة مئات السنين حيـث تعـود ؛"سان سولبيس "يذهبان إلى نافورة ميدان

ويجلس وحيدا علـى ،مضتعدنان أن يذهب طيلة سنوات ليكون خارج المنطقة ،أحد المقاعد في أقصى أطراف الميدان

التي يغمرها ضوء الشعاعات المنعكسة فوق صـفحة المـاء در ليغمر تماثيل ، فينح المنساب من الفسقية الرخامية الشاهقة

. ةرة النافودالقديسين والعذارى واألسود والمصلحين عند قاع وكأنه يحصي عدد الذكور واإلناث ،نهيبقى عدنان في مكا

ة عصر األنوار، وهم يتهامسـون رالذين يطوفون حول نافو ويتمايلون، يتعانقون وتذوب أجسادهم بعضها في بعض، بينما يظل هو مشدودا إلى هذه المشاهد، جاحظ العينين، تضـطرم في نفسه الرغبة وتغلي في عروقه الشهوة، تتشـنج أطرافـه

Page 105: 577

-١٠٣-

وتتخدر أعضـاؤه ،حضنه حتى تجتاحه اللذة وتتآمر يداه في . وتفشل ركبتاه

،"جوهيـل "لنفسه فيأتي متأبطًا ذراع لكن هذه الليلة يثأر يطوفان بالمكان ويجلسان على حافة النافورة، يضع يده خلسة

" جوهيـل "، ثم يتركها تتخلل خصالت شعر على سطح الماء صـابعه دة الماء، يمـرر أ حتى تنشف، وقبل أن تفقد يده برو

وترتمي على صدره فـي ،فتقفز ضاحكة " جوهيل"فوق عنق غنج، يضمها إليه واقفًا فيتثنى عودها الرخص وتتسلق يداها

وتختفي ضلوعها بـين ،ته حتى تقف على أصابع قدميها برق . راعيهذ

أحس بأن نافورة عصر األنوار وهذا الميدان الذي يقـام التـي " سولبيس سان"، وكنيسة فيه المهرجان السنوي للشعر

مع األمكنة األخـرى كلها تتشابه ،"بودلير"عمد فيها الشاعر . رفقتهب" جوهيل"عندما تكون

ويجعله مجرد حيز ممتلـئ ،حضورها يلغي تميز المكان ،األماكن متساوية في قيمتها هـذه الليلـة . بوجودها هي فقط

ولكن المهم أن يراه أكبر عدد ممكن من الذين لم يسبق لهـم . رأوه مع امرأةأن

Page 106: 577

-١٠٤-

لن يقضي ."سان ميشيل "إلى ميدان " جوهيل"بة يتجه بصح باحثًـا بـين ،وقته متجوالً في أنحاء الميدان كالليالي السابقة

. ال تأتي أبدا نساءه عن فرصة، وتلتصـق بـه "سان ميشـيل "يجلس على حافة نافورة

يمتد أمامها مشهد الميدان أخالط من البشر، ذكور ". جوهيل" . ناث، موسيقى وغناء، صراخ وثرثرة وهذيانوإ

نسمات صيفية تأتي من جهة النهر القريـب، صـعاليك، كلهم يجمعهم الميـدان هامشيون، فضوليون مختلفو األعمار؛

. وتفرق بينهم األغراض ولكـن ،"سان ميشـيل "يأتي زوار باريس لمشاهدة ميدان

اف فضوليتهم تتجه نحو ما يجري من حركة بين هذه األصـن من البشر، غير أن هـؤالء الـزوار يصـيرون بـدورهم

تسـأله . رواد الميـدان المخضـرمين موضوعا لفضـولية ": جوهيل"

وكـأن ،ـ لماذا كل من يمر بهما يتوقف وينظر إليهمـا فيجيبهـا . الميدان ليس مكتظًا بغيرهما من النساء والرجـال

: عدنان

Page 107: 577

-١٠٥-

لرجـال ـ بأنه ال يوجد في الميدان من يمثالهمـا بـين ا . والنساء

وهي تطلب منـه متغنجـة أن ،على كتفه " جوهيل"تربت فقـد وتخبره بأنها اكتشفت سبب فضـولهم؛ يتواضع قليالً،

تعودوا أن يروه كل ليلة مع امرأة مختلفـة عـن سـابقتها، ! رفقته هذه الليلةبفجاءوا ليروا المرأة التي

ثـل يحس عدنان باالرتياح عندما يكتشف بأن لديها عنه م : فيجيبها بتواضع،هذا االنطباع

يسبق لهم لم ـ إنك تبالغين في األمر، ولكن على أي حال وأتمنى أال يروني بعدها مع امـرأة أن رأوا مثل هذه الليلة،

. غيرها، ويطلـب أحـدهما سـيجارة مـن يقترب منهما شابان

ثم ينطلق يحدثها بعبارات ال تخلو من اإلعجـاب ،"جوهيل"دير من حين إلى آخر نحو عـدنان ليطمئنـه ويست ،والغزل : قائالً

. ـ أرجو أال يغضب هذا السيد معكفيرد عليه عدنان بابتسامة ال تعني سوى أنـه قـد نفـد

. صبره

Page 108: 577

-١٠٦-

ترغب في بقاء هـذا الشـاب " جوهيل"يحس عدنان بأن وتستلذ بالحديث معه، فيحـاول أن ،الجالس القرفصاء أمامها

هو مجـرد " جوهيل" من جانب م نفسه بأن هذا التصرف يوهمجاملة ستضع لها حدا بعد قليل، غيـر أن عينيهـا أخـذتا

هض الشاب لـيجلس بجانبهـا مـن تتآمران مع عينيه، ثم ين يـراود عـدنان . ة األخرى فيالمس جسـده جسـدها الناحي

اإلحساس بأن جسد جوهيل المسـكون بـالزوابع والشـهوة ر الجالس بجانبها، الجامحة بدأ يميل ويستجيب لمالمسات الذك

: فتشتعل الغيرة في نفسههذا المخلوق الذي رمتني به األقدار في ليلة فرحي ـ ما

الوحيدة في باريس، ليخطف مني هذه المرأة التي عشت على أهكذا يأتي عابر سبيل لم . أمل الظفر بها طوال هذه السنوات

قل ما كابدته من عشق لها، ولم ي ولم يكابد ،يسبق له أن رآها فيها بيت شعر واحد، فيستولي علـى مشـاعرها ويتركنـي

!كاألبله ضائعا في هذا الميدان؟ ،ليطبع على عنقها قبلة الهثـة " جوهيل"يميل عدنان نحو

: وينفث في أذنها أنفاسه الحارة قائالً بصوت حالم

Page 109: 577

-١٠٧-

هيا بنا إلى الجزيرة التي وعدتك ـ كفانا من هذا الميدان، . بها

ليسـمعها غنج وترد عليه بصوت عـالٍ تت" جوهيل"لكن : ولتزيد من حرج موقف عدنان،جليسها اآلخر

دعنا نبقى فيه لمزيـد . ـ إنني أحب هذا المكان وأجواءه . من الوقت

ـ ،يتمتم عدنان متراجعا عن اقتراحه أن وهو يزداد يقينًا بال يشدها في حقيقـة " جوهيل"معركته خاسرة ال محالة، وأن

. هذا المكان سوى وجود هذا الذكر بجانبهااألمر شيء إلى ماء وجهـي ـ كيف أخرج من هذا الموقف دون أن أفقد

لم يجد هذا العربي في هذا الميدان ودون أن أرتكب حماقة، أ تراه قـد تجـرأ . لمرأة التي معي الغاص بالنساء سوى هذه ا

ألنني عربي مثله؟ فنحن أكثـر علي دون غيري من الناس؛ . في مواجهة بعضناتحديا وجسارة

،يحاول أن يتدخل في النقاش ليخرجه عن طابعه الثنـائي ويجعله دردشة عامة بين ثالثتهم، ولكـن عبـارات الغـزل

وهـذا الفـارس " جوهيـل "الفاضح واالنجذاب المتبادل بين

Page 110: 577

-١٠٨-

فيتحامـل علـى نفسـه ،الجديد يوقع عدنان في حرج شديد : ويتحلى بروح الدعابة ليحذر خصمه بلباقة

نك لم تترك لي فـي قـاموس الغـزل أي كفى إ . ـ كفى ! عبارة يمكن أن أقولها لصديقتي بعد أن تنصرف عنا

: يرد عليه بجرأةـ لقد غدت فكرة االنصراف كابوسا بالنسبة إلـي، فـال

.تذكرني بها إذا كنت ال تريد أن تراني باكياالتي تحتضنها بشوق " جوهيل"لى بنظرات شبقة إ ثم يرنو

قـد " جوهيـل "تاها، فيخيل إلى عدنان بأن جسد ض به مقل تفي . سرت فيه رعشة جرعة الثمالة

نفجار البركان الذي صعدت حممه إلى قمة يسيطر على ا : ويفضل أن يحسم األمر بهدوء،رأسه

. أنت هناـ إذن سننصرف نحن ولتبقضاحكة ومعربة عن خشيتها من أنـه قـد " جوهيل"تعلق

. حالةيبكي حتى في هذه ال : بعينين مستجديتين" جوهيل"ينظر غريم عدنان إلى

Page 111: 577

-١٠٩-

أتمنى أال يكون قد أشـاع فيـك . ـ يا لقسوة صديقك هذا . شيًئا من روحه لتطمئنه ، ويدها تكاد تربت على كتفه ،"جوهيل"فترد عليه

. بأنها تحتفظ بروحها الخاصة ولـم ،يتأكد عدنان بأن المرأة تفضل البقاء مع هذا الرجل

يهمها أن يبقى هو أو يذهب، فيتشاغل بمشاهدة ما يجري يعد . في الميدان

مرأةكها، فلن أتقاتل مع شخص من أجل ا ـ يجب أن أتر التي تركتني منذ الليلة األولـى، هل هذه المرأة . ال ترغبني

هـي ؛"سان ميشـيل " بأول صعلوك تلتقيه في ميدان توتعلق . حظة واحدةالتي تستحق أن أتحسر على فقدانها ولو لل

يشعل سيجارة وهو يتظاهر بأنه مشـدود إلـى المشـهد البهلواني الذي يؤديه مجموعة من الفنانين الجـائلين، بينمـا

ـ ،قينييصيخ السمع إلى الحديث الحميم المتبادل بـين العش : يشتعل الدم في عروقه فيعود إلى مساءلة نفسه

ذي الحقي أن أثأر لكرامتي من هذا الصعلوك من ـ أليس بنساء في هذا من الرجال المصحوبين تجرأ علي دون غيري

الميدان، سأدافع عن كرامتي وليس من أجلها هي، فلن تكون

Page 112: 577

-١١٠-

، لكن قبل أن يستدير نحوهما يتريث .رفيقة لي بعد هذه الليلة : وتنهض في داخله أسئلة أخرى

ـ يا ترى هل سيفهم الناس األمر على هذه الصـيغة، أم ن من حثاالت العرب يتقاتالن من أجل امرأة؟ سيرون فينا اثني

ننا إلى نقطة الخيار بين السجن أو ثم ماذا لو تطور النزاع بي إلى شخص مثلي يعـد جـديرا فهل السبب بالنسبة المقبرة؛ أحد هذين االحتمالين؟ أليس من المهانة أن ينتهي هـذا بقبول

ية كهذه؟ الطريق المحفور باآلالم والمعاني الكبيرة بمأساة هزل ، فيسرق إليهما النظـر ،وجليسها" جوهيل"تستفزه قهقهة

فيجد رأسيهما يكادان يتالمسان مـن فـرط نشـوة التوافـق سمع غريمه يدعوها لتناول شيء من الشراب يواالنسجام، ثم

. في المقهى المقابل للميدان يقبـع ها قد صرت بسبب ترددي مجرد شـيء مهمـل

لكن لن أقبل بمثل هذه ،لميدان كأي حجر في هذا ا ؛بجانبهماالمهانة وهذا التحقير، كفاني ما قضيته من حياتي ألجل المثل

أما هذه الليلة فليس لي من قضـية سـوى . والقضايا الكبيرة . تصفية حسابي مع هذا الوغد الذي تطاول علي أمام الجميع

Page 113: 577

-١١١-

عقاب فسـأظل أضـحوكة إذا تركت هذه المهزلة تمر دون . إلى آخر الدهر" يشيلسان م"رواد ميدان

،يستدير عدنان نحوهما وقد حزم أمره فانتفخت أوداجـه لظ صوته وهـو يتوجـه بالخطـاب إلـى وغ ،وارتفع أنفه

":جوهيل" . ـ أعتقد أنه حان الوقت لننصرف من هذا المكان

فترد عليه متلكئة ومعربة عن عدم اعتقادها بوجود مكان . آخر بمثل جاذبية وألفة هذا الميدان

. سنذهب إلى الجزيرة التي حدثتك عنهاما بين حاجبيها فتبدو له امرأة غربية هـذه " جوهيل"تعقد : المرة

. فدعنا منهاـ ولكنها بعيدة،حالـة الكسـل ينهض عدنان مادا يده لها وساخرا مـن

ألن المسيرة لن تتعدى خمس دقـائق المفاجئ التي أصابتها؛ . عبر الجسرعوان عشيقها الجديد وعيناها تد ،ةئطأبمت" جوهيل "تنهض

": جوهيل"فيقف هو بدوره موجا حديثه إلى بأن يرافقهما؛

Page 114: 577

-١١٢-

ـ هل بإمكاني أن أشارك في هذه النزهة؟ فترد عليه مشجعة وهي تعلن عن سرورها بذلك، بينمـا

: يقاطعها عدنان مخاطبا غريمه ،ـ لقد سررنا بلقائك هنا، ولكن اآلن نريد أن ننصـرف

.ب في صحبة أحد نرغوال ثم يمد يده نحو الشاب قائالً له بلغة عربية حرصا منـه

: على التودد ! ـ ليلتك سعيدة يا أخي

: غير أن الشاب يبعد يد عدنان عنه بحركة عصبيةـ إنني لم أطلب مرافقتك أنت، بل طلبـت رفقـة هـذه

. فما دخلك أنت، وقد وافقت على ذلك،السيدة : لهجة هادئة وباللغة العربية مرة أخرىيرد عليه عدنان ب

ـ د ـ لماذا يا أخي تصر على مضايقتي واإلساءة إلي، لق ومع ذلك فقـد احتملتـك دخلت إلى جلستنا وأفسدت خلوتنا،

أما اآلن فأرجوك أن تبتعد عـن صـديقتي . وصبرت عليك . وتبحث عن امرأة أخرى

Page 115: 577

-١١٣-

التـي أخـذت "جوهيل"جيبه بالفرنسية لكي يحرجه أمام ي : تتساءل عن فحوى ما قاله عدنان بالعربية

ـ لماذا ال تقول ذلك بالفرنسية، لكي تفهم هذه السيدة أنك ! وليس كإنسان حر يختار ما يشاء،تعاملها كسلعة تمتلكها

: في وجه عدنان غاضبة"جوهيل"تنفجر ابتعد عني . ـ إذن هكذا كنت تعتقدني أيها الكائن المتخلف

. قتك منذ هذه اللحظةال أريد أن أرى خلك الشاب بمعصمها ويجرها نحوه ليقف بينهـا وبـين مسي

: عدنان ويهدئ من روعها . دعيه ليـ ال عليك،

: ثم يلوح بقبضته في وجه عدنانغرب عن وجهي بسرعة قبل ، وا ـ دع هذه المرأة وشأنها

. أن أحطم ضلوعكينفجـر . كان صوته عاليا يطغى على ضوضاء الميـدان

يتشـابكان، ، يديه إلى الـوراء دفع الشاب بكلتا ن وهو ي عدناعدنان أكبر سنًا ولكنه أقوى بنية، ورغم . يتراكالن، يتالكمان

أن رجله الضريرة ال تساعده على حركة التقـدم والتراجـع

Page 116: 577

-١١٤-

ويحطمان ، أن ساعديه الطويلين يوفران له الحماية ، إال بخفةرغم رشـاقته فلم تستطع ضرباته ،هجمات الشاب واندفاعاته

أن تصل إلى حيث يريد، بينما تتوالى لكمـات وخفة حركته عدنان وتتهاوى كالمطارق على جسم غريمه، فغذا أنفه ومـا

يتراجع الشاب . تحجب عنه الرؤية من الدم بين عينيه نافورة ف ليخرج من جيب بنطلونه شيًئا المعـا، فيعاجلـه لإلى الخ

. ه ليسقط في النـافورة ويدفع ،عدنان بركلة من رجله السليمة وسـهم شهد القتال عبر الميدان، يهـزون رء يمر الرجال بم

باشمئزاز ويمطون شفاههم بامتعاض، بينمـا تمـر النسـاء راكضات، مرعوبات وهن يضعن أيديهن على عيونهن لكي

تختفـي . ذا المشهد العربـي البشـع ال تقع أنظارهن على ه . النمن الميدان تاركة العربيين يتقات" جوهيل"

يتحامل الشاب على نفسه متشبثًا بحافة النـافورة ليخـرج ال تزال قابضة على السكين، فيهجم عليه عدنان ويفتكه ويده ويدفعه ليسقط مرة أخرى في النافورة، ثم يقوم بإخفـاء ،منه

وينسحب بسرعة مكتفيـا ، إحدى صفائح القمامة يالسكين ف ذي حضـر فـي بحصاد هذه الليلة، غير أن صديق الشاب ال

ويشتبك معـه فـي معركـة ،هذه اللحظة، يعترض طريقه

Page 117: 577

-١١٥-

أخرى، بينما يخرج الشاب من النافورة ويتجه نحو صـفيحة ة ليخرج منهـا يراه عدنان فيندفع بدوره إلى الصفيح . القمامة

ثم ينتصب وخلف ظهـره ،ليها غريمه السكين قبل أن يصل إ بينمـا كانـت مهددا من يقترب منه، ،الجدار ممسكًا بالسكين

أن اختفـت مـن عيناه تبحث عن الشرطة التي لم يسبق لها في مثل هذا الوقـت، وكأنهـا أرادت أن " سان ميشيل "ميدان

تعطي للعرب فرصة حتى يفرغ بعضهم من قتل بعض، ثـم ولتكبل يـدي القاتـل ،تأتي لتحمل جثة القتيل إلى المشرحة

. بالحديدفت نظر أحـد مـن مشهد الدماء والصراخ والشتائم ال يل

المخضرمين، فليس فيهم مـن لـم " سان ميشيل "اد ميدان رو ! يسبق له مشاهدة عرب يتقاتلون من أجل امرأة

فليس هناك عار أكبر من ،الشابان ال يخيفهما تهديد عدنان ، "سان ميشـيل "ع عربي أمام عربي آخر في ميدان أن يتراج

والعـار ما يهون األمر وال يصير الخوف مدعاة للخجـل بين !!أمام شخص غير عربييكون الهروب عندما

ويرى نهايته فـي عيونهمـا المشـحونة ،يندفعان نحوه فيطعن غريمه في يديه لكي يجعله يتراجع، ،بالغضب والثأر

Page 118: 577

-١١٦-

جم عليه الثـاني ، بينما يه ولكن هذا األخير يلقي بنفسه عليه فيستقر السكين ،ا عدنان ميقاومه. محاوالً نزع السكين من يده

. في صدر غريمه الذي سقط يجأر مكتوما على حافة النافورةفي تلك اللحظة دخلت إلى الميدان ثلة مـن رجـال

والعصـي والقيـود ،الشرطة المسلحين باألسـلحة الناريـة بينما يكبلون يدي ،الحديدية، يحملون الشاب القتيل على نقالة

ء عدنان بالحديد بعد أن أشبعوه ضـربا بـالهراوات السـودا نحا أمامهم ليحشروه داخـل عربـة الصغيرة، ثم دفعوه متر

فيسمع صرير بابها الحديد يقفل خلفـه، ينـتفض ،"البوكس" ولكنه يحس بثقل ما فوق ظهـره، ،عدنان ويحاول أن ينهض

فيفتح عينيه ليجد أغطيته قد سقطت على حافة الفراش، يرفع ثـم يتملـى جسـمه ،بصره ليتأكد من أنه نائم في حجرتـه

: المتصبب عرقًا وهو يتمتم . ـ يا لهذا الحلم الرائع الذي انتهى بكابوس مريع

Page 119: 577

-١١٧-

))٤٤(( ها نحن في شهر إبريـل . ما بال هذا الربيع ال يأتي أبدا . وهذا الطقس ال يزال على حاله

نادل المقهى بابتسامة وإيماءة من رأسـه " باتريك"يكتفي ويعود إلى مكانه ثم يضع القهوة ،كتعليق على ما قاله عدنان

ان كما فليس من عادته أن يثرثر مع عدن ف صندوق البار؛ خل مـا العالقة بينهما ال تتعدى تقديم يفعل مع الزبائن الدائمين،

، التـي يعنـي بهـا المتبادلـة يطلبه عدنان مع تحية المساء وليسـت ، ووجه تآلفوا معـه ،أن عدنان زبون دائم " باتريك"

كذلك األمر بالنسـبة إلـى .عنه هناك حاجة لمعرفة المزيد الذي يرد على تحية عدنان أحيانًـا ،صاحب المقهى " جورج"

غير أن هذا السلوك لم يتبعه . ا وأحيانًا لفظي ،بإيماءة من رأسه فظًا تجاه عـدنان حت مع عدنان منذ البداية، فقد ظل م "جورج"

Page 120: 577

-١١٨-

أراد أن يطبق القاعدة المتعارف عليهـا لعله . ألكثر من سنة والتي تعنـي أنـه ال ،صحاب المحال العامة الباريسيين بين أ

ينبغي أن تبتسم أو تظهر روح المودة لزبون عربي ما يزال في بدايات تردده على المحل، ولكن جـورج أطـال فتـرة

يضمن الحد األدنى من الثقة في تصرفات االختبار هذه حتى أما اآلن بعد هذه السنوات الخمـس، . وسلوك زبونه العربي

ألن ؛انفتاحا حذرا ال يلغي كـل التحفظـات " جورج "أظهرزبونه في نهاية األمر كبقية أبنـاء جلدتـه، مرشـح دائمـا

!. الرتكاب حماقات ال تخطر على بال أحدجـورج " عالقة عـدنان و ثر على لم يكن لعامل الزمن أ

بل كان له أثر أيضا على عالقته مـع رواد المقهـى ؛"فقطالمخضرمين من الفرنسيين، فبعد مرور هـذه السـنوات ال

ولكنه ال ،يستطيع عدنان أن يقول بأنه محاط بمشاعر عدائية يجرؤ على االعتقاد بأن بعضا من هذه المشاعر قد تتحـول

فهـو شيء من اإلعجـاب؛ عليها أو يطرأ ،إلى مودة خاصة بالنسبة إليهم ـ كما بدا له ـ شخص ليس جديرا باالهتمـام، ! ولكن مع مرور الوقت أثبت لهم أيضا بأنه شيء غير ضار

: يبتسم عدنان ساخرا من نفسه

Page 121: 577

-١١٩-

ـ لكي تكون مقبوالً بين هؤالء الناس ينبغـي أن يكـون : ثم يهز رأسه مهونًا األمرال وجود له، وجودك فاألمر ال يقتصر عليك أنت فقط، بل قبـولهم بأس؛ ـ ال

لوجود العرب على خارطة العالم هو أيضا مشروط بالتفاهة !وعدم الضرر

، فال يرى الوجوه يجول عدنان ببصره في أرجاء المقهى وزوجهـا " جوهيـل "المألوفة لديه؛ فقد اختفت هـذه الليلـة

كلهـم ". كلينجا"و" ومينيكد"و" ميسو بينو " ، كما غاب "دانيال"الوقت ففي هذا ازة الربيع التي بدأت هذه األيام؛ جذهبوا في إ

كـونتر "من األسبوع الثاني من شهر إبريل يقل رواد مقهى ويختفي معظم زبائنه المخضرمين، فال يبقى منهم ،"اسكارب

جازة معنى في حيـاتهم؛ لذين ليس لإل إال بعض األشخاص ا ، والعازفة العجوز باريس وسيم" جان كلود " و من أمثال عدنان

ي كـل ففال تتغير مواعيد مرورها بالمقهى، التي" فرانسواز"ى على صدرها تتدل" وكرديوناأل"ليلة تطل على المقهى وآلة

فيظل عدنان متوقفًا عن ،ها المفضلة تالتعزف بعضا من أغني ليها وهي تردد بصـوت أوبرالـي أوهـن ، ومنصتًا إ الكتابة

: نبراته الزمن

Page 122: 577

-١٢٠-

نتظرته عمرا ولم يأت بعدا ! ولوال شوق انتظاره لكان قاسيا ما فات من الزمن

نتظره وليس بيننا موعد، وقد يأتي بعد رحيلي فيكـون أحقًا قد جاء في موعده، ولكن فقط أنا الذي كان انتظاري قبل

. األوانال فـرق . ولتها المعتادة بين من تجده من الزبائن تقوم بج

وال سيما أن المقهـى ، وال بين األيام ،السنةلديها بين فصول ذلك ليلـة األحـد، بما في ،يظل مفتوحا طوال أيام األسبوع

تعد ليالي هـذا . "كونتر اسكارب "وتلك إحدى ميزات مقهى المقهى ملالً بالنسبة إلـى بريل أكثر ليالي األسبوع من شهر إ

ويخيم عليه جو ثقيل أقـرب إلـى ، حيث يقل رواده عدنان؛سأم منه إلى الهدوء، ورغم أن وضع عـدنان كمتفـرج ال ال

غـاصٍ إال أن وجوده في مكانٍ ،يتغير بتغير أجواء المقهى ، يجعله ينسى بعضا مـن همومـه ، ومائج بالحركة ،بالبشر

. ويتحول إلى فضاء تعبره الحركة والصور والكلمات ، فتستغرقه السطور ،يتلهى عدنان بتقليب صفحات مذكرته

. ت والجمـل أمام عينيه عربات الحروف والكلمـا وتتسابق

Page 123: 577

-١٢١-

وتتـوارى خلفـه ،"كونتر اسـكارب "يختفي تدريجيا مقهى : باريس ولكن فجأة

ـ أي ريح ألقت بك في هذه المدينة؟ تنقلب السطور إلـى المعـاني، بينمـا تنهـار نخطوط زرقاء متشابكة مفرغة م

، وتنفتح دروب الـذاكرة فتطـوي األسوار وتسقط الحصون . لزمنا

شمس الصباح يغمـر أثـاث ، وشعاع الفصل صيفًا يبدو تجـاوز ح الذي يجلس خلفه رجل قوي البنيـة المكتب الفسي

العقد الرابع من عمره حسب ما يبدو ظاهرا منه، تبدو تقاطيع وجهه الحليق قاسية بارزة، شارباه الخفيفان يتقوسان حـول

. زاويتي فمهفتنكشف أصابع يديـه ،يتكئ بمرفقيه على حافتي الكرسي

،الخشنة فيبدو ذلك متنافرا مع البدلة األنيقة والمكتب الفخـم . وما يوجد فوقه من أوراق وأقالم متنوعة

، ثم يسأله عن أحواله وأخباره ،يطلب من عدنان أن يجلس ا ويذهل عدنان وهو يكشف أن هـذ وكأنه ليس على علم بها،

تعذيبـه شرف علـى الصوت هو صوت الرجل نفسه الذي أ . طوال سنتين دون أن يرى وجهه

Page 124: 577

-١٢٢-

: يختلس النظر إلى وجه الرجل وهو يردد في داخله أو ، لم أكن أظن يومها أنه يحمل وجها بشـريا ـ يا إلهي

! أن أسنانه بمثل هذا البياض : يقطع عليه حديثه داخل نفسه

ـ هل تعرف لماذا استدعيتك؟ ـ أرجو أن ال تكون تهمة جديدة؟

أن أبلغك بأنه لم يعد بإمكانك ت يس هذا، ولكن أرد ل. ـ ال . البقاء على أرض الجهورية الحيتانية الديمقراطية العربية

: يتساءل عدنان بترددـ ألم تتم تبرئتي من التهمة السابقة التي قضيت بسـببها

سنتين في السجن، فما سبب هذا اإلجراء الجديد؟ قات بيننا وبـين وعودة العال ،ـ بعد رأب الصدع العربي

أصبح من غير الممكن أن ة الشعبية؛ جمهورية الشمس العربي . نأوي المعارضين لنظامها السياسي

. ـ ولكني ال أقوم بنشاط مضاد لنظامها السياسي فمجرد إقامة المعارضـين فـوق أرضـنا ـ مهما يكن،

التعاون من أجل وحدة سيعتبر دليالً على عدم حسن نيتنا في

Page 125: 577

-١٢٣-

تحتمها خطورة الظرف الذي يواجهـه ما تعلم الصف التي ك ! المصير العربي في هذه المرحلة

إلقـاء محدثه مـن يبتلع عدنان ريقه بصعوبة بعد انتهاء . مقطعه الذي حفظه عن ظهر قلب

وجه وحـدة ـ إنني ال أرضى لنفسي بأن أكون عقبة في الصف العربي، ولكن أرجو أن ال يتم تسـليمي إلـى ذلـك

. كما تعرف ينتظرني حكم باإلعدام هناك ألنه؛النظام : يستند محدثه بمرفقه على الطاولة ليصدع إليه باألمر

. انتهت إقامتك هناـ على أي حاليتدارك عدنان األمر قبل أن يستبد الغضب بمحدثـه، وال سيما أن لديه تجربة سنتين من التعذيب تجعله يستطيع التنبؤ

: عليه الغضبندما يستولي الرجل عبما يمكن أن يفعله هذابد لي أن إنني أقدر موقفكم جيدا، وال . لقد فهمت . ـ نعم

إننـي علـى . أشكركم على استضافتي طيلة هذه السـنوات ولكن هناك مشـكلة واحـدة . استعداد للرحيل متى رأيتم ذلك

وراق أرجو أن تساعدوني على حلها، فكما تعلم ليست لدي أ فهل لكم أن تمنحوني جواز ؛هوية منذ أن فقدت جواز سفري

. سفر حتى أتمكن من الخروج إلى العالم

Page 126: 577

-١٢٤-

ألن يمكن تلبيته بأي حال من األحـوال؛ ـ هذا طلب ال ذلك سيعتبر بمثابة منح تسهيالت للمعارضة لكـي تواصـل نشاطها في أماكن أخرى، ثم إن منحك جواز سفر من جانبنا

دولة بإبعـادك تزمون باستقبالك في حالة قيام أي يعني أننا مل . جديد معناه العودة إلى المشكلة من عن أراضيها، وهذا

، وال أن أذهب إلـى ـ إذا كان ليس بإمكاني أن أبقى هنا فهل معنى ذلك أنكم تنوون تسليمي؟ بلد آخر؛

ويلزم الصمت برهة تاركًا عدنان بـين ،يزم محدثه شفتيه : اليأس واألمل ثم يفاجئه

لى بلـد آخـر ولكـن دون أوراق ـ بإمكاننا أن ندخلك إ هوية، وهناك عليك أن تتدبر أمور نفسك، ولكن لتعلم بأنـه

عن الجهـة أن تخبرهم عليك ليس من مصلحتك إذا قبضوا وفي هـذه ، ألنهم سيعيدونك إلينا التي ساعدتك في الدخول؛

. الحالة سنسلمك إلى سلطات بالدكه إال وليس أمام ،يحس عدنان بأن هذا هو العرض األخير

فيعلن موافقته ،القبول بهذه المحاولة التي قد تنقذه من التسليم . على هذه الشروط واستعداده للقيام بهذه المحاولة

Page 127: 577

-١٢٥-

،تتسارع المشاهد واألحداث متحررة من زنزانات الزمن فتعدو إلى اللحظة الحاضرة عبر سراديب الذاكرة ومتاهاتها،

فز إلـى قـارب ويق ،ويرى عدنان نفسه يحمل حقيبة صغيرة صغير بصحبة شخصين، يتجه بهم فـي مواجهـة الشـمس

. الغاربة خلف اللجة المتالطمة فوق قوس األفق األرجـواني . يتوقف القارب تحت سلم إحدى السفن المهيأة لإلقالع

عدنان نظرة على السفينة التي يدخل إليهـا محاطًـا يلقيـ ،برفيقيه، فتبدو له سفينة لشـحن البضـائع ل وليسـت لنق

ويزداد يقينه بذلك حينما يهبطون به إلى باطنهـا ،المسافرين حتى يدخلوه حجيرة يقفلون خلفـه ،ويقودونه داخل ممراتها

ثم تتباعد األصـوات ،بابها الحديدي، فيسمع صرير المفتاح فيجـدها ،يتفحص تفاصيل الحجيـرة . ويتالشى وقع األقدام

ل إلـى فطولها يص ؛تختلف عن الزنزانة في بعض النواحي وارتفاعها ال يقل عن متر ونصف، بها سرير فوقه ،المترين

كومة من األغطية البالية، كما يوجد بها مصـباح كهربـائي يمكن التحكم به بوساطة زر مثبت بجانب السرير، كذلك كوة

كنهـا تسـمح ومحاطة بقضبان حديديـة، ول ،زجاجية مغلقة ،ا الحجيرة بالحقيبة في إحدى زواي بدخول ضوء النهار، يلقي

Page 128: 577

-١٢٦-

ويتمدد على السرير، يغمض عينيه، يتربص بكل تساؤل يطل . برأسه فيغتاله قبل أن يصل إلى عالمة االستفهام

هو الغريق فلم التفكير في لون وماهية الماء؟ عالم هـذه اللحظة سرير تتقاذفه األمواج، كان الزمن بالنسبة إليه زنزانة

اشًا ممـددا فـوق مغلقة تقع خارج المجتمع، فصار اآلن فر . سطح الماء منفيا خارج اليابس

يفيق فيرى شعاعا يختفي ويظهر على الجـدار المواجـه آخر، لقد مـرت ليلـة إذن هذه شمس يوم . للكوة الزجاجية فهـل إمكانهم أن يلقوا بي في هذا اليم؛ كان ب البارحة بسالم،

إنني أستغرب عدم إقدامهم علـى . ثمة ما يمنعهم أو يخشونه . لكذ

ثم يفتح الباب ويـدخل شـخص ،يسمع وقع أقدام تقترب وقبل أن يعيد قفل البـاب ، يضعه عند المدخل ،يحمل صحنًا

ينتهـز . يسأله ما إذا كان في حاجة للذهاب إلى المرحـاض وإن كان ذلك البديل هـو ،الفرصة ليغير مكانه بضع دقائق

فقـد رج ويعود من رحلته بمعلومة جديـدة؛ يخ. المرحاضنت عقارب الساعة التي رمقها في معصم مرافقه تشير إلى كا

. التاسعة

Page 129: 577

-١٢٧-

ها قد مضى علينا أكثر من خمس عشرة سـاعة ونحـن بد أننا ذاهبون إلى أرض بعيدة، كـم يصـير مبحرون، فال

د عندما تقتضي ذلـك صغيرا وضيقًا ال يتسع لمعارض واح !. هذا الوطن الذي نسميه كبيرامصلحة حكامه؛ ، فال ه على الكوة الزجاجية ليطل على الخارج يلصق وجه

بحرا هائجا يحد من رؤيته، يصاب بـدوار البحـر يرى إال النوم يعود إلى السرير فليس أمامه إال . فيتقيأ كل ما في جوفه

. ما حدث والجوع ليتحاشى تكرار وال يرى أحدا سوى هـذا ، ويعقبه صباح ،يأتي ليل آخر

ويصطحبه إلـى ،ليه الصحن الشخص الصامت الذي يحمل إ ويعود به إلى الحجيرة، وقبـل أن يقفـل البـاب ،المرحاض

يسأله عدنان دون أمل في إجابة عن الوجهة التـي يتجهـون . إليها، فيهز كتفيه بالنفي ثم يغلق خلفه الباب

يعود ليتكوم فوق سريره، فلم هذا االستعجال، لن تسـتمر . ااألرض الجديدة يوم في اإلبحار إلى األبد، سنصل إلى هذه

: يبتسم بسخرية مصححا لنفسه ألن سـلطات ل سنصل إلى هذه الزنزانة الجديدة؛ ـ بل ق

. ذلك البلد لن تجد سوى السجن مكانًا يليق بمتسلل دون هوية

Page 130: 577

-١٢٨-

ترى ماذا سيفعل بي السجانون الجدد؟ لقـد مللـت سـجاني الوطن الكبير، أتمنى أن يكون هؤالء الجدد من أقوام أخـرى

إيه يـا . غير العرب، فلعلهم أن يكونوا أقل عدوانية وتعسفًا وينتظرنـي ،هذا الوطن الذي يتربص بي الموت في شرقك

،السجن في غربك، يا هذا الذي غادرته دون رعشـة وداع . ودون أوراق هوية

شد فتكًا من لواعج النفس والمالمة، الهزال ودوار البحر أ يتمـدد كبر من الوطن، ؛ فأمسى أ صار السرير مأوى واتسع

ويسـتمر تقـدم ،الجسد المنهك وتغفو النفس المكلومة فوقه .الزمن

. هذا ظالم آخر يطبق على الكوة الزجاجية فيختفي البحر هل هناك فـرق بـين : ولكنه يتساءل ،يشعل ضوء الحجيرة

النور والعتمة في هذا المكان، فليس لدي ما أقـرأ، ولـيس ما يمكن مشاهدته سوى هذا ةعندي ورقة وال قلم، وليس ثم

فهل حقًا هناك حاجة لهذا النور؟ يضـغط علـى زر المربع؛الضوء يحد من . الكهرباء ويعود متحسسا طريقه إلى الفراش

ويحجب عنا كل ما ال يقع في دائرته مـن ،رؤيتنا لهذا العالم

Page 131: 577

-١٢٩-

األشياء، فكم تتباعد أطراف هذا العالم وتتوالد أشياؤه عنـدما . بين أعيننا الظالميحول بينه و

. فى وال يدري كم استغرقت من الـزمن نتمضي سفينة الم من الضوء يسقط على جدار الحجيرة عبـر حتى لمح شعاعا

. الكوة الزجاجية، فينهض متلهفًا لرؤية مصدر الضوء وفـي أي أرض ، الميناء الذي أدخل إليه اذما اسمك يا ه

! وبأي لغة يتكلم أهلك؟،تقع ولكـن الكـوة ،ينة بالقرب مـن الرصـيف تتوقف السف

ت مح له إال برؤية جزء صغير مـن منشـئا ال تس الزجاجية ،ينتهي ما تبقى من ساعات الليـل ويـأتي النهـار . الميناء

فيستيقظ على حركة شحن أو تفريـغ تجـري علـى ظهـر ، الرحلة ستطول تي ليل آخر فيساوره االعتقاد بأن السفينة، يأ

.وأن موانئ أخرى تنتظره يدخل هذه المرة ،يسمع خطوات تقترب من باب الحجيرة

.شخص آخر غير ذلك الذي تعود رؤيته في األيام السـابقة : يبادره بلهجة آمرة

فنحن اآلن في مينـاء . هناـ هيا خذ حقيبتك لتخرج من ". سيت الفرنسية"مدينة

Page 132: 577

-١٣٠-

سـيقودانك إلـى خـارج ،ينتظرك شخصان في الخارج . دبر أمرك بنفسكالميناء، ثم بعد ذلك ت

أنصـحك . ألن في ذلك نهايتك تعود إلى هنا؛ عليك أن ال توجـه إلـى محطـة ،بعدم البقاء في هذه المدينة الصغيرة

فهنـاك ، قاطرة ذاهبة إلـى بـاريس لأو واستقل ،القطارات . سيكون وضعك أفضل

يحمل حقيبته ويخرج في صمت، فيجد رجالً وامرأة فـي ن بوابــة المينــاء دون أن انتظــاره، يصــطحبانه ويعبــرا

شـارع فـي حـي لوبمجرد أن يدخلوا أو . يعترضهما أحد جيبه ورقة مـن فئـة الخمسـمائة نالميناء، يخرج الرجل م

: لها إلى عدنان وهو يقول لهوفرنك، يناـ من مصلحتك أن تستقل عربـة أجـرة إلـى محطـة

. القطارات بينما يواصل هو سـيره فـي ،يفترق عنه الرجل والمرأة

،ال بد أن الوقت قد صار متـأخرا . ال يعرف أين يقوده اتجاهوالمدينة صغيرة والشوارع خالية من الحركة، فلـو التقتنـي

يا لهذا االحتمـال . فإنها ستستوقفني ال محالة ؛دورية شرطة . المخيف

Page 133: 577

-١٣١-

طواته يتردد فـي فيخيل إليه بأن صدى خ ،يغذ من سيره ويطلون في هلـع ،نيامعما قليل سيستيقظ ال أنحاء المدينة، و

وستهرع دوريات الشركة في اتجـاه ،من الشرفات والنوافذ !! التنين في المدينة، التنين في المدينة: ر الصوتدمص

يخفف من سيره وكأنه صدق أوهامه وانثياالته، كمـا أن يلمح محطـة . رجله المعطوبة من جراء التعذيب بدأت تؤلمه

. الطمأنينةسيارات األجرة فيعود إليه شيء من وأذهب إلى محطة القطار ألتوجه ،ـ سأستقل واحدة منها

إلنسـان، حيث مكتب المنظمة الدولية لحقـوق ا ؛إلى باريس أجلي قبل أن أقع فـي يـد الشـرطة فلعلهم يفعلون شيًئا من

. الفرنسية" سـيت "لساعة في محطة القطارات بمدينة كانت عقارب ا يارة األجرة ودلف إلى عندما نزل من س ،ةدتقترب من الواح

. ته حركة المسافرين وضوضاء المحطةعل، فابتداخل المبنىكرديون فرفع رأسه ليجد العجـوز وأيقظه صوت آلة األ

فرانسواز واقفة تعزف وتغني كعادتها كل ليلة، وعندها أدرك ، وأن تلك األحداث قـد أنه جالس في مقهى كونتر اسكارب

. عليها أكثر من ست سنواتمضى

Page 134: 577

-١٣٢-

: اولها قطعتين من النقود فتنظر إليه باسمه وهي تستديرين ! ينجميلة يا بخصالت شعرك

ولم ،فوجئ عدنان بإفصاح فرانسواز عن إعجابها بشعره . تسعفه بديهته ليقول لها شيًئا

" فرانسـواز "ي المرة األولى التي تفصح فيها لعلها تلك ه تعـزف عن إعجابها بأحد زبائن مقهى كونتر اسكارب الذين

. لهم كل ليلة منذ سنوات بعيدة فهـذه ، وينهض مغـادرا ،يضع عدنان مذكرته في جيبه

المرة األولى التي يترك فيها المقهى مبكرا دون أن ينتظـر كما أن هذه أول مرة يسمع فيهـا ،مجيء صديقه جان كلود

. كونتر اسكارب كلمة إعجاب من أنثى في مقهى يصعد عدنان ،أرجاء العمارة رائحة مبيد الفئران تفوح في

: درجات السلم قفزا وهو يخاطب نفسهـ هذه حملة البلدية لمكافحة الفئران في المباني القديمة قد

فيا ترى هل صـديقنا الفـأر ،وصلت هذه الليلة إلى عمارتنا أم أنه نجا منها بأعجوبة كالسـنة ،كان من ضمن ضحاياهم

الماضية؟

Page 135: 577

-١٣٣-

فلعلـه يـراه ؛برهة من الوقت يفتح الباب ويظل متربصا قوم بتحريـك ي. يعدو في إحدى زوايا الحجرة كعادته كل ليلة

. فلربما يكون مختبًئا تحت واحدة منها ، من قطع األثاث بعضينكفـئ . يصيخ السمع ولكن ال صوت يعلو علـى الصـمت

: عدنان مخاطبا صديقه الجدارلثنـا وعاد الصمت ثا ،ـ لقد رحل صديقنا الفأر إلى األبد

لواجب الرفقـة إنه يستحق منا أن نرثيه وفاء . كسابق عهده . واأللفة التي ربطت بيننا في زمن التيه والخوف وقلة الزاد

. يفتح مذكرته ويكتب مرثية الفأرلقد كان صديقًا وفيا في زمن يفر فيه الحبيب من الحبيب،

عن وصلنا في زمن قطع فيه الخوف السبل يتوانىال دوداوال ينقطع عن زيارتنا حتى في ليالي الشتاء المملة ين الناس، ب

وساعات السـأم ، يقاسمنا فتات الخبز وقسوة الصمت ،الباردة ها أفرغت في ،الطويلة منذ سنتين، وذات ليلة مدلهمة بالتشاؤم

وس عديدة ، وتحطمت فيها أعناق كئ زجاجات كثيرة من السأم ليلة تـألق المكبوتة؛امرت فيها مئات الرغبات وتس ،من الندم

فيها الصمت وطغى على كل شيء، تسلل فيها إلينا من تحت كـان ب عالم تلك الليلة رأسا علـى عقـب؛ فتحة الباب فقل

Page 136: 577

-١٣٤-

ظهوره في تلك الليلة بالنسبة إلينا معجزة في زمن كف فيـه الناس عن النظر إلى السماء، ولم يكن في ظهوره ما يـدعو

ما هو أبشـع مـن ا على رؤية لخوفنا أو لريبتنا، فقد تعودن . صورته في كوابيسنا الليلية الكثيرة

لقد رأينا في حضوره تلك الليلة تحديا لذلك الصمت الذي لن يكون التعود . هيمن علينا بجبروته عشرين مائة ليلة وليلة

بعد ،مرة أخرى على صمت األشياء من حولنا باألمر السهل ها قـد . أبدا صديقنا الفأر أن اختفى من ليلتنا هذه ومن ليلنا

… ال يخرج عن سلطانه أحد ،عاد الصمت متألقًا جبارايعود عدنان بعد أن فرغ من كتابة مرثيـة الفـأر إلـى

. الحديث مع صديقه الجدار عن حصيلة يومه ،"سـان ميشـيل "ررت قبل العودة إلى هنا بميـدان لقد م

فراقت لـي ،فوجدته مكتظًا بعدد من الشباب، عامرا بالحركة فكرة الجلوس بجانب النافورة التي زاد من إغرائهـا وجـود

فجلست يحـدوني األمـل فـي ،الكثير من الجالسين حولها فتح فمي بـالكالم مع البعض منهم، فمنذ الصباح لم أ الحديث

حيث طلبت منـه علبـة ؛سوى مرة واحدة مع بائع السجائر . سجائر فناولها إلي دون أن يرد بكلمة واحدة

Page 137: 577

-١٣٥-

كذلك فإن جان كلود وسيم باريس لم يحضر إلى المقهـى هذا المساء، ولذلك فإن هذا الحشد من البشر الـذي وجدتـه أمامي حرك في نفسي رغبة قوية تضطرم في صدري منـذ

بينما كانـت ،الصباح، كان على يساري فتى وفتاة متعانقين فساورني األمل بأنها وحيدة ،على يميني فتاة تجلس بمفردها

حث عن جليس، وما كدت أستقر في مكاني حتى استدارت تبأفتح فمـي بشـيء لتسألني عن الوقت، ولكن قبل أن نحوي

قفزت فجأة وهي تكاد تطير من الفرح لتعانق صديقها الـذي ،كانت تنتظره، ثم أخذت تعاتبه على تـأخره عـن الموعـد

ألن صاحب بأن ظروف عمله قد أجبرته على ذلك؛ فأخبرها طلب منه أن يقوم هذه الليلة بتنظيف كل السيارات الورشة قد

وبعد أن اختفى االثنان وسـط . التي سيستلمها أصحابها غدا زحمة الميدان استدرت إلى يساري فوجدت الفتى والفتاة قـد

وجه الفتاة فُأصبت بالذهول؛ ، واستبان إلي فرغا من عناقهما ـ " ماتينا"ألنها هي ،ذ أسـبوعين التي أخبرتك أنني التقيتها من

ولكنها لـم تفعـل، ،ووعدتني أن تتصل بي في اليوم الثاني ما جعلها تصرف النظر فيبدو أنها وجدت في صديقها الجديد

Page 138: 577

-١٣٦-

لـي ولكنهـا أدارت قد تعرفـت إ . عن معاودة االتصال بي : سمعت صديقها يقول لها. وجهها إلى الناحية األخرى

محل أنـادي ـ هيا بنا فقد قضيت طوال اليوم واقفًا في ال حيـث يكثـر ؛على الزبائن، كما أنه يوم الغد يوم االثنـين

. هفوةبائن وصاحب المحل ال يغفر لنا أيالزعليهـا فرد ،فطلبت هي منه أن يترك هذا العمل المتعب

فترنحت إلـى ،ته بذقنها وهو ينهض فجأة حتى ارتطمت ركب : الخلف

ترك نني ال أستطيع ـ إنك معتوهة ال شك، لقد قلت لك إ ألنني لن أستطيع الحصول على غيره، ثم إنني ال ؛هذا العمل

وعرضها ،أجيد شيًئا آخر سوى إخراج المالبس في الصباح ودعوة الزبائن لمشاهدتها، ثم إعادة ما تبقى منها ،أمام المحل

! إلى الداخل في المساء ثم لحقت به صامته، أحسست بـأنني لم ترد هي بشيء، يها، فنهضت ووجدتني واقفًا دون نيـة مللت نفسي وزهدت ف

مسبقة لمغادرة المكان، ولكن ألنني متعود كثيرا على مثـل . هذا الموقف فلم أجد نفسي مترددا عن العودة إلى هنا

Page 139: 577

-١٣٧-

وترتخي أطراف جسده فتستسلم لجبروت ،يصمت عدنان النوم، وتنسدل رويدا رويدا ستارة سوداء بينه وبين ذكريات

غدا يوم اثنين آخر، بداية أسبوع جديد حافـل يومه الفائت، ف ! بمواعيد النساء

Page 140: 577

-١٣٨-

))٥٥(( كادت أن تكون هذه الليلة الصيفية كغيرهـا مـن ليـالي

فالمقاعـد مصـفوفة فـي ؛مضت في مقهى كونتر اسكارب تسـتقبل . الخارج على طول رصيف المقهى بمحاذاة الميدان

ون الجلـوس علـى زبائن الصيف من السواح الذين يفضـل ناصية المقهى، بينما يبقى الرواد الدائمون داخل المقهى فـي أماكنهم التي اعتادوا الجلوس فيها طوال السنة، ولعل بعضهم

؛ ال يجرؤ على الجلوس في المقاعـد الخارجيـة ،مثل عدنان يسـتهلك سـوى وال ،ألنه يقضي وقتًا طويالً وهو جـالس

يتجنب الجلوس فـي تلـك ولهذا فإنه مشروب أو اثنين فقط؛ الذين يسـتهلكون ،المقاعد التي تجد إقباالً من جانب السواح

. مشروبات كثيرة وال يطيلون البقاء

Page 141: 577

-١٣٩-

" جوهيل"لمقهى حاضرة هذا المساء ما عدا غالبية وجوه ا . اللذين انقطعا عن المجيء منذ بضع ليال،"دانيال"و

ه وجد في صحبة جيرار عوضا عن صـديقي " مسيو بينو "جيرار هذا الشاب النحيل العصبي المزاج . الغائبين هذه الليلة

ليس له أصدقاء مفضلون، فهو يجلس مع من يجده من الذين وتظل نظراته أثناء نقاشـاته المتشـنجة ،يعرفهم في المقهى

فيعيدها إلى مكانهـا فـي ،تنزلق حتى تصل إلى أرنبة أنفه " بينـو "ينصـرف مسـيو . حتى نهاية الجلسـة حركة دائمة

، ليتملى المرأة التـي دخلـت المقهـى ،باهتمامه عن محدثه فيسأله جيرار الذي لم يكـن ،وأخذت تبحث عن مكان شاغر

:يرى المرأة .يناك على صيد ثمينـ يبدو وأنك قد وقعت ع

وشفته السفلى تنهدل كعادته عنـدما ،"بينو" فيجيبه مسيو : يكون مستغرقًا في شيء ما !. سطورة منها إلى المرأةـ هي أقرب إلى األ ويعيد نظارته إلـى مكانهـا التـي ،يستدير جيرار قائالً

فيلمح المرأة وهي تهم بالجلوس، فتبدو له شابة ،انزلقت عنه . كة كراقصة باليه أو العبة تـنس رممشوقة القوام رشيقة الح

Page 142: 577

-١٤٠-

غدائر شعرها الفضية تتموج فوق وجنتين خمريتين وعينـين . دعجاوين

: ال يزال يحملق فيها كاألبلهفيعلق وهو .ـ هذه جمعت من كل أرض فاكهة

":بينو"سيو بينما يتحسر ميا إلهي انظر إلى أين جلست بجانب هـذا المخلـوق ـ

. الغريب األطوارهذا الكوكتيل سيشـربه ـ فـي : أنب" جيرار"فيرد عليه

.العربي الذي تزدريهـ هذا الظن أغلب : إيماءة من رأسهيعترض ب" بينو" ولكن مسيو

. ـ هذا ليس جديرا حتى بماء مجاري باريس . ـ هذا رأيك أنت

، ويتجه نحو البار ليبتاع علبة سجائر ،"بينو"ينهض مسيو . ويتملى المرأة عن قرب،ويثرثر مع جورج

رغم أن مقهى كونتر اسكارب ترتاده في معظم األحيان المرأة أخرى أن إال أنه لم يسبق ؛الكثير من النساء الجميالت

أثارت بين ذكور المقهى زوبعة من اإلعجاب واالهتمام مثلما

Page 143: 577

-١٤١-

ـ أثارته هذه الفتاة التي تجلس غير مكترثة بنظـرات ال ال رج . التي تفترسها

كانت تتفحص أشياء المقهى ووجوه من فيه بهدوء الواثق ،للصورها تتملى محتويات متحف أو معرض من نفسه، وكأن

. ى ردود أفعال لتلك الموضوعات تخشوال تتوقعفال إلى وجود لعل عدنان كان آخر رجل في المقهى لم ينتبه

فبالنسـبة . رغم أنها جلست إلى الطاولة المجاورة له المرأة،ما يستحق االهتمام داخل مقهى كونتر اسكارب إليه ليس ثمة

هذا إلى جانب أن المقهى فـي ، طالما جوهيل غائبة عنه … فكـل األحـداث ؛به مقفر من الـداخل فصل الصيف يظل ش

ت السارة تقع فـي والمفارقات والمصادفات والمفاجآ ةالطريف حيث تصطف الطاوالت التي يتزاحم حولها الرجال ؛الخارج . والنساء

منكبا علـى ،يمضي عدنان معظم وقته في داخل المقهى الذي يـروي فيـه ،"ديوان الفضيحة "إعادة صياغة مخطوط

مع بعض األنظمة السياسية العربية، من حكـم شعرا تجربته . اإلعدام إلى السجن إلى الترحيل والمطاردة

Page 144: 577

-١٤٢-

جدها جالسـة إلـى يمعن عدنان النظر في المرأة التي و قبـل أن تلتقـي ، ثم يخفض من نظراتـه ،الطاولة المحاذية

ورغـم . وتقليبهـا ، فيعود إلى قراءة أوراقـه ،عيناها بعينيه إال ،ور المقهى تتجه نحو جارتـه إحساسه بأن أنظار كل ذك ، وعدم مجاراتهم في اهتمامهم بها؛ أنه يحاول تجاهل وجودها

واقترابهم منهن ومغازلتهن يعد بالنسـبة ،ألن تعلقهم بالنساء م إليهم جريانًا طبيعيا لألمور بين الذكور واإلناث، أما إذا قـا

هو بمثل هذا التصرف فسيرون فيه عربيا محمومـا بعقـدة وهمجيا يقلق راحة هذه المرأة التي مـن حقهـا أن جنس،ال

. دون أن يضايقها أحد،ترتاد األماكن العامة بمفردها : ينكب على أوراقه وهو يعاتب نفسه

فقد مضـت يكفيك أن تجلس هذه المرأة بجوارك؛ ـ أال دون أن ،عليك أكثر من ألف ليلة في مقهى كونتر اسـكارب

تجلس بمفردهـا إلـى الطاولـة ترى ولو مرة واحدة امرأة ! المجاورة لك

وظننت أن رحـم ،يا هذا الزمان األغبر لقد خلتك عقيما . الغيب قد كف عن والدة المعجزات

Page 145: 577

-١٤٣-

لكن ما بال معجزات هذا الزمن تأتي فـي غيـر أوانهـا ما عساي . فتصير حدثًا عاديا ال يغير من مجرى األمور شيًئا

. أن أفعل بكثًا عابرا مر ذات ليلة من ليالي مقهـى كوني سرابا أو حد

. كونتر اسكاربويجيل نظراته في كل ما حوله كما تعود أن يرفع رأسه،

يفعل دائما، ولكنه يتوقف قبل أن تلتقي عيناه بعيني جارتـه فيعود إلى أوراقه، غير أنه يراوده اإلحساس بـأن نظـرات

أي شخص وأنها توليه اهتماما أكثر من ،المرأة مسلطة عليه وذلك من ؛آخر في المقهى، فيحاول التحقق من هذا اإلحساس

يسرق النظر إلى حيث يجلـس .خالل نظرات اآلخرين إليه فيلمح شيًئا مـن الحسـد ، واآلخرون "جيرار"و" بينو"مسيو

يخفض من بصـره وهـو .والغيرة في عيون البعض منهم ولكن بعـد قليـل ،مطمئن إلى صحة ما يساوره من إحساس

ويفسر غيرة اآلخـرين ،تسرب الشك مرة أخرى إلى نفسه يمنه على أنها بسبب المكان الذي يحتله بالقرب مـن المـرأة

. وليس هناك سبب آخر لذلك

Page 146: 577

-١٤٤-

يتململ في جلسته محاوالً التغلب على ما تلوح به اللحظة : من إغراء

ولـم ،ـ لقد طرقت باب مائة ألف امرأة في هذه المدينة أال تسـتطيع أن .مع أي واحـدة مـنهن تنته إلى أي شيء

وسوف لن تخسر شيًئا، فعمـا ،تتجاوز عن امرأة هذه الليلة قليل سترحل هي عن هذا المكان وتعود األمور إلـى سـابق

.ة المنسية مـن مقهـى كـونتر اسـكارب عهدها في الزاوي لجأت إليك منبوذًا طريدا من وطن ،يا هذه الزاوية المعزولة وخيوله معقودة على نواصيها ،لضياعمصلوب على سارية ا

فصرت لي أرضا تحمل قدمي الداميتين في زمـن ،الهزيمة …التيه، ومالذًا يدفع عني أعواد المشنقة وخوازيق الجـالد

وترفع عنـي ،فال عليك بعد هذا أن تحاشاني بعض من أهلك فلم تجمعنـي ، وتبرم من خلقتي بعضهم اآلخر؛ آخرون منهم

ولم نتقاذف كرات الـثلج عنـد أقـدام ،عبوإياهم مرابع الل ولم يروا فـي زرقـة أيام اآلحاد وأعياد الميالد، أمهاتنا في

. عيوني لون عيونهم وتحملينني ،ولكن ها أنت تصبغين لون الشفق بلون الفجر

غير أنني خائر العـزم، ،على جناحيك إلى زمن المعجزات

Page 147: 577

-١٤٥-

س تي كـأ ، فينكسر عند شف يحفزني الكبت ويزجرني الكبرياء . وتموت بين يدي األحالم السعيدة،الظمأ

،يتفحص مسيو بينو بعيني رسام تقاطيع المرأة عن بعـد . ويخبر جيرار بأنها تصلح موضوعا للوحة زيتيـة يسـميها

. الفتاة ذات الشعر األبيضفيستحثه جيرار بأن يبادر إليها بهذا االقتراح لعل الفكـرة

ه وعيناه الماكرتان تتلجلجان تستهويها، ولكن مسيو بينو يجيب ؛ليها بهذا العرض مباشرة ي التقدم إ في محجريهما بأنه ال ينبغ

. ألن ذلك سيزيد من غرورها فيلقي بتحية ،يدخل جان كلود وسيم باريس متثاقل الخطى

المساء على الجميع، ويتجه نحو البار كعادته فال يتوقف وال عتين من كـأس يتحدث مع أحد قبل أن يتناول جرعة أو جر

…النبيذ األحمر يستدير بعد أن تناول الجرعة األولى ليدير ظهـره إلـى

ويلقي نظرة شاملة على وجوه المقهى بعد أن ،صندوق البار تقع عيناه على . يحيي عدنان فيرد عليه هذا بإيماءة من رأسه : المرأة فينحني قليالً وهو يبتسم رافعا قبعته

. ـ أسعدت مساء يا آنسة

Page 148: 577

-١٤٦-

، مصحوبة بلكنـة أجنبيـة ،ترد عليه المرأة بلغة فرنسية د وشفتاها تنفرجان عن ابتسامة تبـد ،بينما تضرجت وجنتاها

واستقرت بقاياها على سحرها على تقاطيع وجهها الخمري، يحمل جان كلود كأسـه وينـزع . ضفتي عينيها الدعجاوين

قبعته مقدما نفسه إلى المرأة التي تخفض رأسـها ردا علـى . بينما يعلق مسيو بينو بصوت منخفض،مبادرته

ـ يا لسوء حظ هذه المرأة التي جلسـت بجانـب هـذا . ثم وقعت في مخبول آخر،المخلوق الغريب األطوار

ينتهز عدنان فرصة انشغال المرأة بالحديث مع جان . كلود ليمعن فيها النظر ويتمالها في غفلة من اآلخرين

فارسا وحيـدا " جان كلود "ى أن ير " بينو"لم يرض مسيو كـونتر "م يستقبل مقهـى يصول في ساحة هذه المرأة التي ل

مثلها من قبل، فيتدخل في الحديث مهنًئا المرأة على " اسكارب رغم أن لهجتها ال تـدل علـى أنهـا ،طالقة لغتها الفرنسية

الذي ،"بينو" المرأة، وقد فوجئت بتدخل مسيو تستدير .فرنسيةا يحاصرها بنظراته، فتشكره علـى تًت صام ظل طوال الوق . مجاملته السارة

Page 149: 577

-١٤٧-

ا يعلق يدفع بمقعده في اتجاه المرأة ليقترب منها أكثر، بينم بأن اللغة الفرنسية محظوظة في أن تجد حروفها " جان كلود "

. وكلماتها مكانًا بين شفتي مخلوق مالئكي مثلها ونظراتهـا تتجـه ،تنفجر المرأة ضاحكة بصوت مسموع

ي صمت، وكأنهـا تـدعوه فنحو عدنان الذي يتابع المشهد : ثم تقول متسائلة،للمشاركة في الحديث

ـ أال يعرف الناس في هذا المقهـى شـيًئا آخـر غيـر . اإلطراء

ولكن عدنان يلوذ بالصمت مترددا في قبول الدعوة إلـى يته، كما أنه ال الدخول في هذا الصراع الذي ال يزال في بدا

كـونتر "الوحيد في مقهى صديقه " جان كلود " يزاحميريد أن أن يحصر الحديث بينه وبينها " بينو" ، وحاول مسيو "اسكارب : فيسألها

ولكن من أي بقعة أنت؟ ،ـ لقد عرفت بأنك لست فرنسية : قبل أن ترد المرأة على سؤال خصمه" جان كلود"فيبادر

. جدوىـ أرجو يا آنسة أن تغفري له هذا السؤال عديم الحرجه بابتسامة سـخرية واسـتهزاء " و بينو مسي"يداري

عدام جـدوى هـذا بغريمه، بينما تتساءل المرأة عن سبب ان

Page 150: 577

-١٤٨-

مشيرا إلى عدنان -بأن صديقه " جان كلود "السؤال، فيجيبها .لديه اإلجابة –

لم يكن غافالً عـن اهتمـام "جان كلود "يدرك عدنان بأن المناسبة ليقيم بينهما جسرا من المرأة به، وأنه انتظر اللحظة

. الحوار عدنان الذي يجد نفسـه فـي موقـف تلتفت المرأة نحو

،"جـان كلـود " تأتي إجابته كما يأملها صديقه ال فقد ،صعب ؛"بينـو "فيخيب ظنه، ثم إن تدخله سيضعه في مواجهة مسيو

جـان "يعتذر عن عدم معرفة السبب، ولكـن ولهذا فضل أن يمـط . نيها على أنه يرى اإلجابة في عي يستحثه مصر " كلود

، "جيـرار "فتيه بامتعاض موجها حديثه إلـى ش "بينو"مسيو بالمخبول الذي يصر على إحـراج هـذا " جان كلود "وناعتًا

. الرجل الطيب بإقحامه في موضوع ليست له عالقة بهنـاه يتجاوز في مع ،"مسيو بينو "يحس عدنان بأن ما قاله

، ليكشـف "اربكونتر اسـك "في مقهى هذا الخالف الصغير ا لبني جنسه تجاه كـل مـا هـو ويجسد موقفًا حضاريا ثابتً

فرأى في عدنان ،عن ال وعيه " مسيو بينو "عربي؛ فقد كشف شريطة أن يقبل بأن يكـون كمـا مهمـالً دون ،رجالً طيبا

Page 151: 577

-١٤٩-

وال عالقة له بأي موضوع يجـري فـي مقهـى ،طموحات كما ،سه مستفزا بهذه الفكرة نفيجد عدنان ". كونتر اسكارب "

فيقول وهو يـداري ،أن نظرات المرأة تبحث عن حوار معه :تأثرههذا السؤال في غيـر محلـه؛ ألن ربما وجد صديقي ـ

أراد به أن يعرف ألي بقعة من العالم تنتمـين، " بينو"مسيو بينما ينظر إليك يرى في مالمحك وقسماتك تناغما فريدا بين

. الشرق والغرب وهي تداري عالمـات سـرورها ،تطأطئ رأسها باسمة

بذلك، بينما أخذ وسيم باريس يجيل نظراته في مـن حولـه وكأنه يتحداهم ويشمت فيهم، فقد كشف صديقه عن أناقة في

.، ونالت إعجاب المرأةالتعبير أغاظتهم جميعا كانت تلك هي المرة الوحيدة خالل كل هذه السنوات التي

ـ عـالٍ دنان يتحدث بصوتٍ سمعوا فيها ع ول موضـوع حكأسه " جان كلود "يتلقط ". كونتر اسكارب "مطروح في مقهى

ثم يغمز عدنان قائالً لـه بصـوت ، عائدا إلى البار ،الفارغة : منخفض

. ـ حظًا سعيدا أيها الشاعر

Page 152: 577

-١٥٠-

أن يتدارك الموقف ليوضح للمرأة بأنه " بينو"يحاول مسيو ولكنـه أراد فقـط ،ها العرقـي نتمائلم يقصد بسؤاله معرفة ا

؛ معرفة لغتها األم، فترد عليه المرأة بأنها لو تكلمـت لغتهـا . لى األغلب لن يفهمهافإنه ع

": مسيو بينو"يستحثها . لغة تشائين، فإنني أفهم كل اللغاتـ تكلمي يا آنسة أي

ثم يأتي بحركة من يده تدل على استصغاره لشأن اللغات : هاالتي يريد أن يستثني

! ـ ما عدا لغة الصينيين ولغة العربمن مكانه بجانب صندوق البار، موجها " جان كلود "يتدخل

ن الذي بدا مستنكفًا عن ومحاوالً دفع عدنا ،حديثه إلى المرأة ": مسيو بينو"منازلة

يشـكو " مسيو بينو "لم العربية إذا كان كـ لدينا مترجم يت . من عدم فهمه لها

وهي تنقل نظراتها بـين ،عن هذا المترجم تتساءل المرأة ا تعرف اإلجابة مسـبقًا، فيكتفـي وكأنه ،جان كلود وعدنان

، فتلتفت إليـه المـرأة ،باإلشارة بيده نحو عدنان " جان كلود " : وهي تقول بصوت مسموع بلغة عربية

Page 153: 577

-١٥١-

! كيف حالك. ـ مساء الخير، فلم يكـن أصيب بالذهول كل الذين كانوا يتابعون الحوار

يتوقع بأن هذه المرأة تتكلم " ودجان كل "يهم أحد بما في ذلك فالعربية، ولكن عدنان فهم من طريقة نطقها وتهجيتها للكلمات

وإنما هـي قـد ، وال تتكلم اللغة العربية؛ بأنها ليست عربية حفظت عن ظهر قلب بعض الجمل العربية التي تسـتخدمها

. في مناسبات كهذه المناسبة فتهـز رأسـها ، تحيتها باللغة العربيـة يرد عدنان على

ضبط، ولكنهـا فهي لم تفهم ما قاله بال؛ضاحكة دون أن تتكلم ال ليس على األغلب إ وه به عدنان ما تف فحوىأن خمنت فقط

.ردا على تحيتها له ،عن معنى الجمل التي تلفظـت بهـا " مسيو بينو " يسألها

ه بسؤاله فيتوج ا تستمر ضاحكة ومتصنعة عدم سماعه، ولكنه .ما قالته المرأة فيترجم له ،إلى عدنان

مسـيو " مرة يجري فيها حديث مباشر بين كانت هذه أول " كـونتر اسـكارب "وعدنان منذ أن جمع بينهما مقهى " بينو

طوال هذه السنوات، وال يزال عدنان يتذكر المـرة األولـى كـونتر "ا كل منهما وجود اآلخر في مقهى التي اكتشف فيه

Page 154: 577

-١٥٢-

منذ ست سنوات، وأحـس عـدنان يومهـا بـأن "اسكارب فأشاح كل منهما ، بل حدث بينهما تصادم ؛نظراتهما لم تلتقيا .ببصره عن اآلخر

لعل تشبث عدنان بمكانه في زاوية المقهى التي ال يتركها جعـل الكثيـرين أو ذهب إلى الحمـام؛ إال إذا غادر المقهى

قفًا انعزاليـا تتخذ مو ،يعتقدون بأنه شخصية غريبة انطوائية من اآلخرين، بينما يرى هو في نفسه شخصـية اجتماعيـة

تلتقي في منتصف الطريق مع كل من يشـرع فـي ،منفتحةاالقتراب منها، ولكنه في الوقت ذاته ال يبتذل نفسه باستجداء

. صداقة اآلخرين الذين لديهم أحكام مسبقة على بني جنسه : للغة الفرنسيةتعود المرأة إلى الحديث إلى عدنان با

،ـ لقد تعلمت أثناء علمي كثيرا مـن الجمـل العربيـة ي فرصة دراسة هذه اللغة الجميلـة، ولكنني لألسف لم تتح ل

: مضيفة" مسيو بينو"ثم تستدير نحو . ـ إنها لغة جميلة أليس كذلك؟

بطلب المرأة لرأيه في لغة ال يرى لها " مسيو بينو "فوجئ وليسـت ،بداع، كما أنه ال يفهمهـا قيمة في مجال العلم واإل

. قلبه، فيهز كتفيه ويمط شفتيه دون أن يقول شـيًئا نقريبة م

Page 155: 577

-١٥٣-

فتخبره بأنها كانـت ،يسألها عدنان عن عالقة عملها باللغات . تعمل بمتحف تاريخ القرون الوسطى

الذي ال يريد أن ينقطع حبل الحـديث " مسيو بينو "يسألها خاص بالرسم والنحت، فتجيبـه ما إذا كان لديها اهتمام معها

بينما يلفت نظرها عدنان إلـى أن ،رأسهاالمرأة بإيماءة من ،رسام ونحات، فتهز رأسها مع ابتسامة مجاملـة " مسيو بينو "

ولعل عـدنان أراد بـذلك أن . دون أن تبدي اهتماما باألمر يثبت للرجل بأنه ليس داخالً معه في خصومة عمياء تجعلـه

. قبهيخفي صفاته ومنايعرف في أي المتاحف كانت لبأسئلة " مسيو بينو "يالحقها

" أشـبيلية "خبره بأنها سبق لها أن عملت في تعمل، وعندما ت ": مسيو بينو"، يصيح "طليطلة"و

.سبانيةـ إذن أنت إ : وهو يشير بكأسه نحوه ساخرا منه،"جان كلود"يعلق

. لقد وجدتها يا لنباهتك. ـ أهنئك متطلعـا ،رأسه عن جريدته المسائية " ورجج"يرفع مسيو

؛ ألنه لم يكن يتصور أنها نحو المرأة، ومعربا لها عن دهشته . نظرا لمالمحها التي ال تدل على ذلكإسبانية،

Page 156: 577

-١٥٤-

صامتًا طوال الوقت يتابع ما يجري، ثـم " جورج"لقد ظل قرر أن يدلي برأيه في اللحظة التي تصور أنهـا مناسـبة،

جأته متسائلة عما تدل عليه مالمحها بالنسـبة ولكن المرأة فا . إليه

يده ويمط شفتيه باحثًا عـن إجابـة " مسيو جورج "يبسط فلما طالت حيرته وتردده، هـب . ةمقنعة تحوز إعجاب المرأ

: من ورطته" البار"المتكئ على حافة " جان كلود" إنها مالمح مالئكيـة . ـ ال تجهد نفسك في التخمين كثيرا

! مالئكية،"جورج" مسيو يا : رأسه موافقًا"مسيو جورج"يهز

. ـ هذا تقريبا ما كنت أبحث عنه ويعيد نظارته إلى عينيه ،بعد ذلك جريدته " جورج"يلتقط

ليستأنف القراءة، منسحبا من معمعة هذا الصراع الذي كانت . بدايته غير موفقة بالنسبة إليه

ـ مجربا حظه في " جيرار"يتدخل فيسـأل ،راعلعبة الص : ثمعلالمرأة بلهجة ال تخلو من ت

. ن حاولتي في ميدان المسرح أو السينماـ ألم يسبق لك أ

Page 157: 577

-١٥٥-

ثار دهشة حقيقية أو مصطنعة تبـدو علـى فترد عليه وآ يعـدل . يسبق لها أن فكرت في ذلك بأنها لم ؛تقاطيع وجهها

معتقدا أنه قد وقـع ،من جلسته ليكون في مواجهتها " جيرار" : هتمام المرأة على اوضوع سيحوزعلى م

. ت لتحاوليوقـ ال يزال أمامك التجيبه المرأة باقتضاب وكأنها ال تريد االسترسـال فـي

: الحديث عن هذا الموضوع . فال جدوى للمحاولة،ـ إنني واثقة من عدم قدرتي

هذا الحوار من مكانه الذي يتابع ،"جان كلود "يفرغ صبر : يح محتجا فيص،"البار"على حافة أال تجد مهنة أخرى ؟"جيرار"ا الهراء يا عزيزي ذـ ما ه

. ؟تليق بالحسناوات سوى التمثيل؛ ألنـه وسيم باريس شديد اللهجـة " جان كلود "كان تدخل

لالسـتحواذ " مسيو بينو "يتآمر مع صاحبه " جيرار"اعتقد أن . على المرأة من صديقه عدنان

طدم فيها جان كلـود يص لعلها هذه هي المرة األولى التي ، ويحدث بمثل هذه اللهجة العنيفة؛ فقد كان "جيرار"مع

ولـم يكـن . ، وال يخفي مودته نحوه "جيرار"دائما يستلطف

Page 158: 577

-١٥٦-

ويسـتفزونه؛ " جان كلـود "ن الذين يتعرضون إلى م" جيرار" ولكنه مسـكون ،فهو شاب حالم معدم الحال، وكثير الصمت

. بالسخط والتمرد؛ "جان كلـود "و" جيرار"دنان فرصة المشادة بين نتهز ع ي

مخرج سينمائي في بداية بحثـه " جيرار"ليوضح للمرأة بأن فتعلق المرأة بصوت منخفض . عن فرصة في ميدان السينما

: وكأنها تريد أن تحصر الحديث بينهما فقطـ إنني لمحظوظة هذا المساء، فقد وقعت علـى مقهـى

. مليء بالمواهب وهـو ، بالحديث ألول مرة إلى المرأة مباشرة يتجه عدنان

: يخطو أول خطوة داخل حلبة الصراعيحس بأنهرتاد مقهاهم مـن هـن ألنه ال ي ؛ـ هم أيضا محظوظون

. كل مساءكلثمتميل المرأة نحوه وهي تبتسم في وجهه ابتسامة انتشـلته من قاع سحيق مظلم إلى حيث الضوء والهواء، ثـم تسـأله

: من التكلفبلهجة خالية تقـديم ىـ وأنت، الذي لم تفعل شـيًئا حتـى اآلن سـو

. من أنت وماذا تفعل في هذه الحياة؟. اآلخرين والتعريف بهم

Page 159: 577

-١٥٧-

: يجاريها في عدم تكلفها . تلك هي مهنتي. ـ ها أنت تعرفين عني كل شيء

. ـ أتمنى أن ال تكون جادا فيما تقول . ـ أال تجدينها مهنة جادة

وتنتهز فرصة انشغاله بإشـعال ، رأسها بالنفي تهز المرأة سيجارته، فتمعن نظراتها بنهم في خصالت شـعره األسـود

تحت أذنيه، ثم تنتفض وهـي تـراه المجعدة المتدلية إلى ما ال تبـدو لـي : ع رأسه لتداري نظرتها النهمة، ولتقول له فري

. هذه المهنة متناسبة مع شخصيتك . نة التي تراها مناسبة لهفيسألها عدنان بدوره عن المه

: تنفجر المرأة ضاحكة وجبهتها تكاد تالمس جبهته .ـ إنني أنتظر منك إجابة وليس سؤاالً

ضحكاتهما صدى لرغبتين متبادلتين تصرخان في أعماق لك ما يصعب فهمه على رواد مقهى كل منهما، ولم يكن في ذ

. المخضرمين" كونتر اسكارب" وبقايـا سـحر ،د ريقها بلـذة تسأله عن اسمه وهي تزدر

. زال مبعثرة على وجنتيهاما ت ضحكتها

Page 160: 577

-١٥٨-

: يجد عدنان في المناكفة وسيلة لشد كل منهما إلى اآلخر . بإمكانك أن تدعيني المقدمـ اسمي مشتق من مهنتي،

ير ، فتغ تحس المرأة بأن شخصية جليسها ال تخلو من عناد : من لهجتها وهي تقدم نفسها

. "أماندا "اسميـ ـ قليلون أولئك الذين يستحقون األسماء الجميلـة التـي

ألن ولكن هذا االسم الرائـع محظـوظ ال شـك؛ . ملونهايح . جرسه الموسيقي يتناغم مع شخصية حاملته

، وهي تسأله بصوت حـانٍ ،ابتسامة مجاملة " أماندا"تبتسم : ال يخلو أيضا من عالمات نفاد الصبر ولكنه

. د عن اسمكـ ولكنك لم تخبرني بعيشك عدنان في أن معرفة اسمه تعني شيًئا بالنسبة للمرأة، وأن هذا اإلصرار من جانبها هو فقط بسـبب رغبتهـا فـي االنتصار على عناده، ورغم أن ما تريد الحصول عليه منـه

رأى في ذلك رمـزا ، إال أنه كعادته دائما ليس ذا أهمية عنده ورجل مكبوت ، وأنوثة للتحدي بين حسناء متغنجة تفيض رقة

كـونتر "ول في الزاوية المنسـية مـن مقهـى مهمش ومعز من مماطلة عدنان وحديثه عن أشياء " أماندا"تمل ". اسكارب

Page 161: 577

-١٥٩-

، فتقول له بلهجـة تهديديـة ،أخرى دون اإلجابة عن سؤالها : ولكنها مرحة

سأسـال عنـه . ـ لن تبقى طوال الوقـت بـدون اسـم . أصدقاءك

" جيـرار "و" مسيو بينو "ا حيث يجلس ير إلى يمينه ثم تستد : وآخرون لتسألهم بلهجة الواثق من الحصول على اإلجابة

. ـ ما اسم صاحبكم هذا؟ نتمر لحظة صمت ال يجيبها فيها أحد من الجالسين الـذي

بينما تشاغلت بقيـتهم بأشـياء ،ظل بعضهم ينظر إلى بعض ـ "؛ حيث يوجد فألقت بالسؤال نفسه إلى يسارها . أخرى يو مسيكن جان كلـود موجـودا لحظتهـا ، ولم "باتريك"و" جورجفاسـتدارت لكنها وقعت في المـأزق نفسـه، ،"البار"بجانب

بينما اتسعت حـدقتا ، وشفتاها مفتوحتان ،نحو عدنان " أماندا"ض حاد، ولم يعرف عدنان عينيها الحوراوين وغمرهما ومي

لقـت تبتسم أم كان ذلك عالمات دهشـة ع " أماندا"هل كانت . لسانها

في إصرارها إلى " أماندا"لم يخطر ببال عدنان أن تذهب ذلك الحد الذي أوقعهما معا في موقف حرج خيم بثقله علـى

Page 162: 577

-١٦٠-

" أمانـدا "لسة كان يسودها المرح والمناكفة؛ فقـد كشـفت ج، ووضعه بين رواد بتصرف عفوي عن حقيقة عالقة عدنان

يـدرك هـذه ، وبالرغم من أنه كان "اسكاربكونتر "مقهى نـه للحظـة وكأ حتاج الكتشافها إال أنه بدا له وال ي ،الحقيقة

ال يعرف اسـمه أحـد " جان كلود"باستثناء يكتشف فجأة بأنه بينهم قرابة ألفي ليلة في مقهـى آخر من هؤالء الذين أمضى

باتريك نادل المقهى الـذي يعـرف "، حتى "كونت اسكارب " لم يجد سببا ثرثرة معهم؛ ثر ال ويك ،أسماء كل الزبائن الدائمين

فـال يـزال ر معرفته السم هذا الزبون العربـي، وجيها يبر ) وذلك منذ سنوات (عدنان يتذكر بأنه في بداية ارتياده للمقهى

عـن اسـمه " باتريـك "قد حاول في إحدى المرات أن يخبر كان في " باتريك"أن غير ) وذلك كمبادرة من جانبه للتعارف (

نان فلم ينتظر حتى يكمل عـد ،من أمره تلك المرة في عجلة قد سمع فعالً بقيـة " باتريك"ولعل . نطق حروف اسمه كاملة

حال يستدير مغادرا، ولكن ذلك على أي حروف االسم وهو كما أنه ليس هناك ما هـو أصـعب ،قد حدث منذ زمن بعيد

. على الذاكرة الفرنسية من أن تحتفظ باسم عربي

Page 163: 577

-١٦١-

موقف ليعيـد جلسـتهما إلـى يحاول عدنان أن يتدارك ال فيميل نحوها، وهو يداري بابتسامة غضـة ،أجوائها السابقة : شابت صوته

ني أخبرتك عن اسمي بمجرد أن سـألتني عنـه لو أن ـ ؛ه بعد ذلك مباشرة، أما إذا أخبرتك به بعد هذه المشادة لنسيت

. فإنه سيبقى في ذاكرتك إلى نهاية السهرة ،بة في الخروج من هذا الموقف أكثر منه رغ " أماندا"تبدو

وتعاودهـا ، فتقول ووجهها يشع بابتسـامة ،ونسيان ما حدث :روح المرح والمناكفة

. أال يكون صعب النطقـ أتمنىإذن من المستحسن أال أخبرك عنه، فقد ال يكون مطابقًـا

. لتمنياتك وابتسامتها ما ،يدها على يده وكأنها تعتذر له " أماندا"تضع :وعة على شفتيها الشهيتينتزال مطب

. أرجوك كفاك من التهربـفي جسد عدنان لـدى مالمسـة أنامـل تسري قشعريرة

معصمه، وتجتاح اللذة كيانه الظامئ فيطأطئ رأسـه " أماندا"

Page 164: 577

-١٦٢-

وكبتًا وانكسارا، ثـم ى أسفل ليداري نظراته المترعة ظمًئا إل . تتخدر شفتاه وينطق اسمه

. طقًاسمع اسما أسهل منه نـ لم أ . ـ ولكنه سهل النسيان

وتسأله وهي تشير إلـى المـذكرة ،تعليقه" أماندا"تجاهل ت فضول تصعب مقاومته لمعرفـة مـاذا ـ لدي : التي أمامه

. تكتب بأنـه ؛يجيبها عدنان ويده تعبث بالمذكرة دون اكتـراث ، حينما يكتب بعض المشاهدات من حين آلخر لتمضية الوقت

يقترب منهما ثم يضع " جان كلود "كن ول. ال يكون معه جليس :يده فوق كتف عدنان

عن هذا وددت لو أستطيع قراءة قصيدتك التي ستكتبها ـ .المساء

:مضيفًا" أماندا" ثم يستدير نحو ، أليس من المؤسف أن يكون صديقك شاعرا مقـروءا ـ

. وال تستطيعين قراءة قصائده

Page 165: 577

-١٦٣-

جان "اله ينسحب أو عدنان على ما ق " أماندا"تعلق وقبل أن فقط أن يلقي بهذه المعلومة إلى إلى مكانه، وكأنه أراد " كلود

صديقه لدى هذه المرأة التي يحـاول ليرفع من شأن " أماندا" . اآلخرون أن يجتذبوها إليهم

بوجهها حتى تكـاد لفـائف شـعرها " أماندا "تقترب منه أعلم بأنك كنت تسـتقبل وحـي لم أكن : الفضي تمس جبينه

. فاعذرني إذا قطعت عنك وحيك هذا المساء،الشعركـونتر "ان أن اقتربت منه أنثى في مقهـى لم يسبق لعدن

أو سمع صوتًا أنثويـا بهـذه ، وأولته هذا االهتمام ،"اسكارب ولهـذا لـم يسـتطع كـبح س له وليس لآلخرين؛ الرقة يهم

المكبوت الذي تمرد في داخله لدى أول لمسة حنان أنثـوي، وتدفقت كلماته حارة رغـم ،تهدجا رغم خفوته فجاء صوته م

: تريثهـ لم يكن في انقطاع وحي القصيدة ما هو خـارج عـن المألوف، ولكن المفاجأة الحقيقية بالنسبة إلي هو أن يقطعهـا

. ما هو أروع منها وتنكسر نظراتها وهي تحـس بوجنتيهـا ،تطأطئ رأسها

لمتأججـة تلتهبان وتذوبان كالشمعة تحت نظـرات عـدنان ا

Page 166: 577

-١٦٤-

ثم تهم بصـوت ،بسعير رغبة جامحة انفلتت فجأة من عقالها : أوهنته النشوة

ـ هكذا أنتم معشر الشعراء، تلتقطون األشـياء والبشـر . وقيم فيصدقكم الكثيرون فتشحنونهم بمعاٍن،العاديين

يـه وقـد بنظراتها إل " أماندا"، فتعود ال يعلق عدنان بشيء وهي ،ها ابتسامة هادئة وغمرت وجه سيطرت على خلجاتها

. تسأله عن مكان المرأة في قصائده، باحثتين عـن متعلقتين بعينيه " أماندا"يترك عدنان عيني

ا، ولعله استاء باستبقاء مقلتـي سئلة أخرى لم تطرحه إجابة أل المترعتين شهدا ينتظران أطول زمن ممكن في براح " أماندا" أقصى أطـراف موحشة في " مترو"نيه القاحلتين كمحطة عي

جـأة يـدخلها أحـد باريس، في ساعة متأخرة من الليل، وف ليها دبيب الحياة إلى أن يرتعش القضـيب المسافرين فيعيد إ

محملـة باألضـواء والبشـر " المترو"الحديدي وتأتي عربة . واألشياء والضوضاء

بـأن فيخبرها ،يفيق عدنان وتسقط من بين شفتيه اإلجابة فيها أثر للمرأة بأي معنى من المعاني؛ القصيدة التي ال يوجد

. هي عنده أشبه بقصر رائع مهجور

Page 167: 577

-١٦٥-

فيجد سحر عينيها دروبا ،عن ابتسامة " أماندا"تنفرج شفتا . تفضي إلى وجنتيها الخمريتين

. ـ أنت إذن تعشق القصور العامرة بالنساءاللتـين تـدلت " أماندا"جنتي تسقط نظرات عدنان على و

من شعرها الفضي، بينما أخذت هي تستحثه فوقهما غديرتان . أو نفيا للمالحظة التي أبدتها عنه طالبة منه تأكيدا

: يقول عدنان ويده تكاد تالمس إحدى الغديرتين أما أنـا فقـد ،ـ من العادة أن يتملى المتفرج اللوحة فقط

واإلطار معا …كنت مأخوذًا باللوحة اتها تنحـرف إلـى ونظر ،تصدر عن أماندا همهمة خفيفة

جهة أخرى عندما أحست بأنه يعني بذلك الغديرتين المتدليتين ثم تمد يدها بحركة غريزية لتزيح إحداهن إلـى ،فوق جبينها

مسيو " الهمس بين االثنين مدعاة لضيق كان تواصل . الخلفة ساحة لفرسان مـن الذي لم يعجبه أن تغدو هذه المرأ " بينو

. غريب األطوار وصديقه العربي ال الهامشي " جان كلود "أمثال وجديلتـه الشـقراء المعقوصـة ،"البار"فينهض متمشيا نحو

، "جاكلين"وصديقته " أوليفيي"تتمايل على كتفه، ثم يتجه نحو ه إلى أسفل ويرفع يديه إلى يجلس بجانبهما وهو يخفض رأس

Page 168: 577

-١٦٦-

ه فـرغ الصـبر التي تعني أن ،أعلى على الطريقة الفرنسية وجـد " مسيو بينو "وقد فهم بأن " أوليفيي"تسم يب. وطفح الكيل

بنظراته نحو " مسيو بينو "يشير . يق المرأة مسدودا أمامه طر وهو يقول بأن المرأة قد وقعـت فـي ؛"جان كلود "عدنان و

. هذين المخلوقين، فلم يعطياها الفرصة للحديث مع أحد آخر يلتفت. ، وتهرب من المقهى ولكنها ستمل تفاهتهما وثرثرتهما

، فيراهما يتهامسان "أماندا"و إلى حيث يجلس عدنان " أوليفيي" : قائالً" مسيو بينو"فيسخر من

حال المرأة مع هذا الذي معها ال ينبئ بحـدوث ـ ظاهر . ما تتوقعه أنت

در عـن خر سخرية تص ابتسامة نصفها مكر ونصفها اآل وهو يلفت نظر صديقه إلى أن إنصات المـرأة ،"مسيو بينو "

بد أنه كـأي ال يعني إعجابها به، ولكن ال ا المخلوق إلى هذ عربي آخر يـروي لهـا اآلن عقـد الـنقص واالضـطهاد والعنصرية، وهي مضطرة في هذا الموقف إلى أن تسـتمع

. إلى هذه المعزوفة حتى تنتهي ثم تتخلص منه وتذهب، "مسـيو بينـو "رأسها موافقة على ما قاله " جاكلين"تهز

من رؤية األشياء كما محذرا صديقه " فييأولي"بينما يعترض

Page 169: 577

-١٦٧-

ألن المرأة في واقع األمر هي في انسجام تـام يتمناها فقط؛ مع هذا الرجل الذي سحنته وشكله يستهويان النساء بصـرف

. النظر عن رأيه الشخصي فيهشفتيها تعبيرا عن عدم رضاها عمـا قالـه " جاكلين"تمط : بلهجة استنكار" مسيو بينو"، بينما يرد عليه صديقها

فهل سبق لك أن رأيت هذا الوجه المنكود ـ أظنك تمزح؛ . مع امرأة قبل هذه المرة

جة ال تخلو من بـرود مـا إذا كـان بله" أوليفيي"يتساءل ـ " مسيو بينو " رة يزعجه رؤية هذا الرجل مع امرأة ولـو م

عن ضـيقه مـن " مسيو بينو "واحدة في هذا المقهى، فيعبر : قة فرنسية معتادةموقف صديقه بطري

فأنا ال أعير لوجوده اهتماما، . المسألة ليست هذه " باف"ـ نك ال تفهم مكـرر به أن يزعجني، ولكن المشكلة هو أ فكيف

. األشياء في أحيان كثيرةجارونه في آرائـه وتفسـيره من الذين ي " أوليفيي"لم يكن مر ال يعيـر اهتمامـا لمـا فهو شاب في مقتبل الع لألشياء؛ ،البعض ثوابت األمور، بل يهمه اليومي ويشده الجديد يعتبره

تكبـره ببضـع التي" جاكلين " عل هذا ما يجمع بينه وبين ول

Page 170: 577

-١٦٨-

لـم يحقـق " أوليفيي"فإن " جان كلود "سنوات، وحسب رواية بل اختار طريقًا آخـر أبيه المحامي الثري في مهنته؛ رغبة

مسـرحية ولكنه لم يجد فرصة في الفرق ال ،فدرس المسرح الكبيرة فأخذ يعمل في بعض المواسم مع فرق الدرجة الثالثة

ورغـم صـعوبة . المغمورة في الضواحي الباريسية النائية ن الحياة التي يعيشها فإنه يرفض طلب العون من أبيه، غير أ

ا من ظروفه الصعبة، فهي خفف عنه بعض " جاكلين"لقاءه مع ، ولكنهـا ت مثلـه فـي المسـرح لمـدة سـنتين لمأيضا ع

فتركته وأخذت تبحث عـن ،لم تجد فيه ما يحقق طموحاتها وتجرب حظها فـي مسـابقات الجمـال ،فرصة في السينما

غيـر أن . متجرا صغيرا للعطـور المحلية، كما أنها تمتلك والدها كان عسـكريا ف، "أوليفيي"ال تنتمي إلى طبقة " نجاكلي"

دنة بين فرنسـا برتبة صغيرة قتل في الجزائر قبل إعالن اله فجاءت إلى العالم طفلـة يتيمـة ،وجبهة التحرير بيوم واحد

ولكـن سـخاء ،تحمل مشاعر عدائية ال تخفيها ضد العرب ت الطبيعة جعل منها امرأة جميلة تختفي من أمامهـا عقبـا

مـن الزبـائن " جاكلين"و "أوليفيي"لم يكن . كثيرة في الحياة فقـد ؛"تر اسـكارب كون"لذين يترددون بانتظام على مقهى ا

Page 171: 577

-١٦٩-

يختفيان عدة أسابيع قبل أن يعاودا الظهور مرة أخرى لعـدة جودهما في هو أكثر من يفتقد و " جان كلود "لعل . متتالية لياٍل

غازالته التي ال تنقطع فرغم م ،"بجاكلين"المقهى نظرا لتعلقه إلى أن يرى ،نو ببصره إلى الباب أنه يظل دائما ير للنساء إال

حتضنها بعينين مترعتين فيبتسم إليها، وهو ي ،ادمةق" جاكلين" وتتركـه يطبـع ،تي هي إليه قبل أن تجلس لتحييه شوقًا، فتأ

كما جرت بذلك عادة التحيـة بـين ،على خديها ثالث قبالت ا رشفات ينتهز الفرصة ليجعله " جان كلود "، غير أن الجنسين

. نضرطويلة يغترفها من خد أسيلالليلة هي محط اهتمام زبائن المقهى، هذه " جاكلين"لم تكن

لمجهولة التي ألقت بهـا فكل األنظار تدور حول هذه المرأة ا تي يعج بهـا إحدى المصادفات ال " كونتر اسكارب "في مقهى كانت تحـاول أن تتجاهـل " جاكلين"ورغم أن . ليل باريس

إال أن بعضا من تصرفاتها كشف عن غيـرة ،"أماندا"وجود . داخلهاشديدة تضطرم في

بعـدم جال أيضا الذين كانوا يتظاهرون كثير من الر بما يجري بين عدنان وأمانـدا كانـت نظـراتهم االكتراث

ورغم أن مثل هذه . الخاطفة محملة بمعاني االستنكار والحسد

Page 172: 577

-١٧٠-

سمات الدالة على طبيعة البشـر، إال المشاعر هي من بين ال ستفزازا مـن أنه في واقع األمر ليس هناك مشهد آخر أكثر ا

بين ذكر عربي وأنثى شـقراء ،مشهد غرامي في مكان عام ! جميلة

برأسها نحو عـدنان حتـى تلفـح أنفاسـها " أماندا"تميل : وجنتيه

. نها جميلةـ انظر إلى تلك المرأة إ ،"جـاكلين "دنان دون أن يلتف بأن هذه تـدعى يخبرها ع

بـد ال فتبتسم وهي تقول له ،وهي زبونة معروفة في المقهى . أنه قد سبق لك وأن غازلتها

؛ فقـد "أمانـدا "دنان لهذا االنطباع الخاطئ لدى يستريح ع ليـين فـي المح" كونتر اسكارب "اعتبرته أحد فرسان مقهى

ساحة النساء، فال تعلم بأن هذه هي المرة األولى التي تجلس فيها معه امرأة منذ أن عرف المقهى، وأنه لم يسبق له طوال

". جاكلين" كلمة واحدة مع ات أن تبادلهذه السنو : بتساؤالتها ووجهها يكاد يالمس وجهه" أماندا"تالحقه

فهل هن أيضا يعشقنك؟ ـ إنك مسكون بعشق النساء؛

Page 173: 577

-١٧١-

نهـا بالسـقف ليفـادي وتتعلق عي ،يالزم عدنان الصمت ؛ فقـد وجـد صدمة سؤالها الذي ذكره بعزلته وكبته وهوائه

فإذا كانـت . جا كيفما كانت إجابته محر" أماندا"عدنان سؤال وإذا كانت باإليجاب فسـيكون ،بالنفي فذلك سيحط من شأنه

. مدعياتتحول نظرات عدنان نحوها ويداه تكادان تحتويان وجهها

: فوليالطـ سأعطيك مدينة باريس في مقابل عدم إجابتي عن هذا

. السؤال : فتوحتينووجهها يقترب من كفي عدنان الم" أماندا"تبتسم

. ـ ماذا أفعل بمدينة سأتركها بعد ساعات قليلة من اآلن ،لهذا الخبر صـدمة شـديدة لعـدنان " أماندا"كان إعالن

ولكن طفلـه ،فأحس بنفسه كمن يقضي عمره ينتظر مولودا . يولد ميتًا

ألنها أدت ؛ربما الم عدنان نفسه على طريقته في الحوار أيضا أرادت أن " مانداأ"ولعل مجيء هذه اإلجابة مبكرا، إلى

تلقي بحجر في مجرى هذا النهر الذي بدأ ينساب بين عينيها وتعـود عينـا عـدنان ،يمتد بينهما الصمت . وعيني عدنان

Page 174: 577

-١٧٢-

وقد أحسـت بـأن وطـأة " أماندا"، فتقول تحملقان في الفراغ : الصمت باتت شديدة

. ـ يبدو أنه قد حملتك أجنحة القصيدة بعيداال يوجد ان بأنه كان في رحلة معها إلى حيث يخبرها عدن

، فتزدرد ريقها في شرك عينيه " أماندا"تقع عينا . تقويم للزمن ها ن وتغوص عي ،تي همستها أقرب إلى الهمهمة بصعوبة، وتأ

: في قاعي عينيها فتستريح جبهتها على جبهته . إنك عربي. ـ حقًا

فيطفو ،سودلخصالت الفضية مع لفائف الشعر األ تتشابك ا ـ عل ه الهمسـات ى سطح الصمت جسر عجائبي تنساب تحث

ـ ادات والرغبات المحمومة واألحالم، وتعبـر فوقـه المتض ". كونت اسكارب"ونظرات الفضوليين في مقهى

لم يكن لمشهد كهذا بين رجل وامرأة أن يلفت نظر أحـد في المقهى، لو لم يكن أحد أطرافه هو هذا البعير األجـرب

هم طيلة هذه السنوات أن رأوه بصحبة أنثـى الذي لم يسبق ل . ولو مرة واحدة في زاويته المنسية

Page 175: 577

-١٧٣-

نقود فوق صندوق البـار، قطعتين من ال " جان كلود "يضع خاطفة على المشهد، ثم يهـز رأسـه مبتسـما ويلقي نظرة

. وينسحب بهدوء من المقهىمقهى " جان كلود "المرة الوحيدة التي يغادر فيها كانت تلك

الذي يقفل بابه عادة فـي السـاعة الثالثـة " اسكارب ركونت"بوجهها قلـيالً " أماندا"تتراجع . ، ويتناقص عدد رواده صباحا

،وهي تضع يدها على شفتي عدنان لتحول بينهم وبين شفتيها : ثم تقول له بصوت واهن

إنني مسـافرة فـي غضـون . ـ عدنان دعنا من الحلم . ساعات

ة التي يسمع فيها عدنان اسمه كانت تلك هي المرة الوحيد ، بـل "كونتر اسـكارب "يخرج من بين شفتي أنثى في مقهى

بأن اسمه لم يتلفظ لم يكن يعلم في السابق اكتشف أيضا وكأنه هى قبل هـذه الليلـة، فحتـى به أي إنسان آخر في هذا المق

يقول ". صديقي الشاعر "قب يناديه دائما بل " جان كلود "صديقه : هعدنان في داخل

أن يكون ال يحتاجك الناس في شيء فما جدوى ـ طالما ! لك اسم؟

Page 176: 577

-١٧٤-

فيهمس فـي أذنهـا ،تلتصق بجبهته " أماندا"يحس بجبهة متمنيا أن يسمع اسمه مرة أخرى من بين شفتيها في جملـة

تصـر علـى "أماندا"ولكن . كتلك التي سمعها من قبل ليست". كوبنهـاغن "توجه إلى أنها ستستقل قطار الساعة السابعة الم

يحاول عدنان أن يثنيها عن السفر إلـى كوبنهـاغن، ويـداه تحيطان بوجنتيها فتتملص منه بطريقة لبقة ثم تضـم وجهـه بين راحتي يديها، وهي ترجوه أن ال يجعـل مـن فراقهمـا صعبا، ألنها ستغادر باريس مهما كانت األحوال بعد ثـالث

بينما يـرى ،يترك وجهه محاصرا بين معصميها !. ساعات وحدقتيها تستقران فـي قـاع ،وجنتيها وشفتيها تتباعدان عنه

عينيه، ويحس بأن بعضا ممن تبقوا في المقهى يرقبـون رد عـن القيـام بـأي ع، وينتابه العجز ه فيستسلم لهذا الوض فعل

فتبدو على أثر ذلك وكأنها تقـاوم ،"أماندا"تصرف قد تقاومه وهـذا مـا يتوقعـه أولئـك إنسانًا همجيا وقعت في براثنه،

. ويتمنون حدوثهيا رب هذا الزمان لماذا ينكسر الكأس المآلن دائما عندما يصبح في متناول شفتي، ولماذا تـأتيني أشـياؤك كالغيـث

وتذهب كاإلعصار؟

Page 177: 577

-١٧٥-

نادل المقهى وهو يعلن إلى " باتريك"يتناهى إليهما صوت . ليلمن تبقى من الزبائن بأنه سيقفل باب المقهى بعد ق

وهو يجيـل ،بيدي عدنان وتنهض فينهض " أماندا"تمسك كان المقهى قد خال من جميع الوجـوه التـي . نظراته حوله

كانت تلك هي المرة األولـى . نفر قليل ، ولم يتبق إال يعرفهاالتي يمكث فيها عدنان إلى لحظة إقفال المقهى، كمـا كانـت

ـ أيضا هي الليلة الوحيدة التي يغـا كـونتر "ى در فيهـا مقه . بصحبة امرأة" اسكارب

، حتى يصال إلى ناصية شارع يخرجان ويداهما متشابكتان وتقطع الصمت ،"أماندا"، فتتوقف المتفرع من الميدان " مونج"

: الصاخب في داخل كل منهما . ـ يجب أن يتوقف طريقنا هنا

بينمـا ،يحيطها بذراعيه فتطوق هي رقبته بإحدى يـديها خرى على فمه، لتقطع عليه الطريق إلى تضع راحة يدها األ

يضمها إليه بقوة فيحس بأنفاسـها . ولتمنعه من الكالم ،شفتيهاالمتالحقة وهي تهمس في أذنه راجية منه أال يطيـل لحظـة

، "أمانـدا " قواه وينفك ساعداه من حول خصر تخور. الوداع

Page 178: 577

-١٧٦-

عـن فكيـف ،ويدب في نفسه العجز وينسى أنه يملك لسانًا . خلف عتبات الماضيظة أخذت تتوارىالتشبث بلح

التـي أخـذت ،"أماندا"يظل مذهوالً شاخصا ببصره نحو تتباعد وتتوارى حتى صارت شبحا ابتلعته ظـالل الشـارع

. الصغير الرديء اإلضاءة يلتفت صوب الميدان ليتأكد من أن ال أحـد مـن زبـائن

وذلك لكـي يطمـئن المقهى المخضرمين قد رأى ما حدث؛ نهم لم يعلموا بأنه قد عاد وحيدا حتى في هـذه الليلـة على أ . أيضا

كانت ساعة الميدان العتيقة قد تجاوزت الثالثة من صـباح يوم باريسي آخر، حينما استدار ليترك خطاه تقوده في طريق

مـدفوعا ،العودة، رافعا رأسه متصلبا متحامالً على نفسـه . بروح أبطال التراجيديا المهزومين

، يراوده إحساس نما يلملم أشالءه وينسحب من الميدان حي ألنه لم يحاول إطالة معركة لن ينتصر فيها أبـدا، ؛المنتصر

ولم يدر هل مثل هذا اإلحساس هو مجـرد صـفة عربيـة . ما يبرره أم أن له في الواقع،موروثة

Page 179: 577

-١٧٧-

ولكن خيل إليه وهو يسمع صدى وقع أقدامه فوق رصيف مقطع الشـعري الرة بأنها تردد تفعيلة الشارع الخالي من الما

.المعروف !. قطارنا أبدا يفوت…قطارنا أبدا يفوت

Page 180: 577

-١٧٨-

))٦٦(( يدخلها ،هي ثالث مطبعة عربية في باريس " أنتار"مطبعة

ديـوان "التوصل إلى اتفاق لطباعة مخطـوط عدنان محاوالً ، ، الذي أمضى أكثر من ثالث سنوات في كتابتـه "الفضيحة

أو االحتفاظ به لوقـت آخـر وسنتين ترددا بين فكرة نشره . ولظروف مواتية

عشر سنوات مضت على ذلك اليوم الـذي وصـل فيـه از سفر، قادمـا وبدون جو ،عدنان إلى باريس في قطار ليلي

في جنوب غرب فرنسا، بعد أن ألقـت " سيت"إليها من مدينة ن الجمهورية الحيتانية به تلك السفينة في ميناء المدينة منفيا م

الديمقراطية العربية، التي كان يعيش فيها كالجـئ سياسـي هارب من حكم اإلعدام الصادر ضده بتهمة الضـلوع فـي

Page 181: 577

-١٧٩-

مؤامرة لقلب نظام الحكم في جمهوريـة الشـمس العربيـة . الشعبية

ولم يعد اآلن ،بعد هذه السنوات العشر سئم عدنان الصمت ء نشر هـذه المخطـوط، الـذي يبالي بما قد يصيبه من جرا

ولهـذا فقـد . نشره أحجمت أكثر من مطبعة في باريس عن طباعة " أنتار"صاحب مطبعة " عواد الخلعي "توقع أن يرفض

ولكنه فاجأ عدنان بأنـه علـى ، مثلما فعل غيره ،المخطوط شريطة أن تكون التكاليف على نفقة ،استعداد لطباعة الكتاب

اسم المطبعة، وأن يتم تسـليمه المؤلف، وأن ال يحمل الكتاب فـال ،كل النسخ دفعة واحدة بعد االنتهاء من طباعتها مباشرة

. يبقى منها شيء في مخزن المطبعةيعبر عن دهشته مـن ولكنه ،يبادر عدنان بقبول العرض يسأله ما إذا كان قد وجد " عواد"بعض هذه الشروط، غير أن

طوط هذا المخ في باريس مطبعة عربية أخرى قبلت بطباعة فيعترف عدنان بأن جميع المطـابع حتى بمثل هذه الشروط؛

ولم تدخل معه فـي أي التي عرض عليها مخطوطه رفضته ولهذا قد اتجه إلى هذه المطبعة لعلمه بأنهـا ليسـت مناقشة؛

Page 182: 577

-١٨٠-

كتلك المطابع التي تمولها األنظمة السياسية العربية بطـرق . تها وتمارس رقابة على مطبوعا،غير مباشرة

ـ " عواد الخلعي "م يبتس ى وجنتيـه انكسـارات فتبرز عل يناهز الستين، ثم يخبر عدنان بعد أن يخلـع وتجاعيد من بدأ

بأن ان حمراوان على جانبي أرنبة أنفه، فتظهر نقطت ،نظارتهأموال األنظمة السياسية ته أيضا ليست مستقلة عن تأثير مطبع

. العربية إلى ذلك الحد البعيددنان أن يصحح رأيه السابق دون أن يقـع فـي يحاول ع

: تناقضـ لعله من حقكم أن تستفيدوا من هـذه األمـوال مثـل

ولكن دون أن تقبلوا بالشروط التي تقبل بهـا تلـك ،غيركم . المطابع عواد الفرق بين مطبعته والمطابع األخرى فـي أن ديحد

تي تلك المطابع تعتمد في عملها على المنشورات والمجالت ال ولهذا فهي ليست مسـتعدة ة؛تمولها األنظمة السياسية العربي

ع منشورات معادية لهذه األنظمة، للتضحية بهذه الموارد لتطب . ينما مطبعته تقبل في بعض األحيان بمثل هذه المخاطرةب

Page 183: 577

-١٨١-

باعة هذه المخطوط لم تعد فيهـا أي يطمئنه عدنان بأن ط فقا عليها، لكـن مخاطرة بعد هذه الشروط والتحفظات التي ات

ـ ا تـزال كبيـرة رغـم هـذه عواد يعتبر أن المخاطرة م ألن المخطوط يتعرض بشكل سافر إلى نظامين االحتياطات؛

في تصفية حسابتهما مـع معارضـيهما؛ معروفين بدمويتهما علهما مطبعته إذا علما بأنهـا ولهذا فهو يخشى أن يطال رد ف

. هي التي طبعت هذا الكتاب فيبتسم الرجـل ألمر من جانبه؛ مان هذا ا يعده عدنان بكت

: وقد بدا من نطقه لبعض الحروف بأنه مشرقيـ لقد ذكرتني بشيء حدث منذ أكثر من ثالثـين عامـا،

فكـانوا يسـتجوبوننا عـن أفعـال ،حينما كنا في المعتقـل وتصرفات قام بها الواحد منا في خلوة وبمفرده، كنا يومهـا

تفسيرا لهذا األمر شاعت بيننا وعندما لم نجد ،مندهشين لذلك المخـابرات دون نكتة تقول بأن كل واحد منا هو عضو في

ثم يضيف عواد ضـاحكًا دون أن ،ذلكأن يدري عن نفسه : تتوقف يداه عن مداعبة نظارته

ولكن في تلك األثناء كان الجواسـيس اإلسـرائيليون ـ . يعيشون كوجهاء في المجتمع دون أن يقلق راحتهم أحد

Page 184: 577

-١٨٢-

قد بلـغ ، ويعلم عدنان بأن عواد حينما يمتد بهما الحديث الستين من عمره، وأنه قضى منه ما يقارب عن نصفه فـي فرنسا يعلق على ذلك متشككًا في أن يستطيع عـواد العـودة

حتى لو تغيرت األمور إلى الحد الـذي كـان ،والحياة هناك أن يتمناه، فيبتسم الرجل وهو يطأطئ رأسه وكأنه ال يريـد

: يواجه عدنانـ أعتقد أن األمور وأنا متآمران، فهي ال تتغير وأنـا ال

. أستطيع الحياة هناكيضحك عدنان مجاريا محدثـه فـي إشـاعة روح

: الدعابة في موضوع جادـ لعله سيأتي يوم أجيب فيه أنا أيضا عن هـذا السـؤال

. بإجابتك نفسهانان بلهجة جادة يعيد الرجل نظارته إلى عينيه، ويواجه عد

: هذه المرة فثـق ،ـ إذا ربطت عودتك بتغير األمور إلى حد الرضا

!. هنا إلى نهاية العمرأنك باٍقتهمه بأنه نان هذا التشاؤم من جانب محدثه، في لم يحتمل عد

يحاول أن يجعل من قناعته الشخصية قانونًـا يطلـب مـن

Page 185: 577

-١٨٣-

سـجائره اآلخرين التسليم بصحته، ولكن عواد يمد يده بعلبة بلهجة يحرص أن تكـون هالمفتوحة إلى عدنان وهو يرد علي

: ودودة رغم أنـه ،ـ إنني أحسدك على ما تبقى لديك من تفاؤل

. ليس بإمكانك أن تبرره ألن قـوانين ؛يرد عليه بأنه ليس في حاجة إلى التبريـر

. التطور ستثبت ذلكفيهز عواد رأسه معربا عن شكه في أن قوانين التـاريخ

. تسري على تلك المنطقة : يعترض عليه عدنان بلهجة هادئة

ال ينبغي لها أن تحجـب عنـك ،ـ زحمة الواقع المؤقت . البديهيات

ويعيـد فنجانـه ،يرتشف عواد جرعة صغيرة من قهوته ثم يقول ،بسرعة إلى مكانه، وكأنه يخشى أن يضيع منه الرد

: ويداه مبسوطتان إلى األمام وكأنه يستجدي نفسه إنه واقع مزمن يعيد إنتاج . ا أخي هذا ليس مؤقتًا ـ ي

. ناس خانعونحاكم مستبد وأ. عبر األجيال

Page 186: 577

-١٨٤-

: يعلق عدنان وهو يخفي مشاعره خلف لهجة محايدة ولكنـك اآلن أغلقـت ،ـ لقد ظننتك في البداية متشـائما

. الدائرة تماما : يرد عليه عواد وكلمات من لهجته المحلية تتصدر حديثه

أخي ال تؤاخذني، أنا أيضا ظننتك في البداية متفـائالً ـ !. ولكن اتضح لي أنك تحلم توتره الداخلي في ضحكة خـرج نيفرغ عدنان شحنة م

: نصفها من منخريه . ف نلوم العامةيكـ يا إلهي، هذه هي النخبة ف

وهو يشير بإصبع االتهام إلى الفراغ الـذي ،يقاطعه عواد : أمامه

فهـل رأيـت ؛ة هي أحد مقومات هذا الواقع ـ هذه النخب نخبة أخرى تعمل مثلها بحماس وخضـوع للحـاكم دون أن

. تكون راضية عنه تبدو مبنية علـى دنان قليالً قبل أن يقول بلهجة ال يتردد ع

: قناعة . ـ ومع ذلك ال ينبغي التعميم

Page 187: 577

-١٨٥-

: يفاجئه عواد متسائالًصادموا مـع ـ هل تستطيع أن تقدر عدد المثقفين الذين ت

النظام السياسي في بالدك؟ : يهز عدنان رأسه مترددا فيقاطعه عواد

يكـاد يتجـاوز ـ ال أتغلب حالك أعرف أن عـددهم ال أما البقية أصابع اليد الواحدة، مثلما في أي قطر عربي آخر،

فتعيش حياة ديدانية تقدم في مقابلها إلى النظام كل مسوغات . استمراريته

ئك محاوالً الخروج من هذا الموضوع الشـا يقول عدنان مناقشة مع أي عربي حـول بأنه منذ سنوات لم يدخل في أي

. هذه الموضوعات : فيرد عليه عواد بعفوية

فالتفكير في قضايا هؤالء مجرد مضـيعة ـ حسنًا فعلت، . ألنهم قابعون على هامش التاريخ حيث النفايات؛للوقت

الدهشـة منهـا إلـى يعترض عدنان بلهجة أقرب إلـى : الغضب

Page 188: 577

-١٨٦-

ولكن مرارة الواقع هي التي ،ـ ال أظنك مقتنعا بما تقوله . تدفعك إلى هذه المبالغة

: ينظر عواد إلى عدنان من فوق نظارته قبل أن يسألهـ هل تجد وصفًا آخر أكثر مالءمة لهذا المكـان الـذي

. نهؤويتب إال ،ن مكانهم ال يحسدهم عليه ورغم أن عدنان يعترف بأ

، لم يقتنع بهذه الرؤيـة أنه ليس أبديا، ولكن عواد أنه يجزم ب : فيرد على عدنان

فهـؤالء وصـفهم ـ أخي ال تراهن على عنصر الزمن؛ فهم يحملـون ات ما تزال باقية فيهم حتى اليوم، الجاحظ بصف

نفسية العبد الذي في حاجة لسيد مهما كان أقل منه، وتسيطر . ضربت الفحل تتبعك بقية الشياه فإذا .عليه روح القطيع

: ثم يضيف عواد وهو يحك ساخراـ لم يطرأ عليهم أي تغيير سوى أن فحـولهم أصـبحوا

!. مخصيينتنفلت من بين شفتي عدنان ضحكة تتقلص معها تقـاطيع

: وجهه وهو يقول

Page 189: 577

-١٨٧-

. ـ هذه عالمة فناء : وهو يقول،ها أمامهعض، ويينزع عواد الخلعي نظارته

ما لـم يهجنـوا بون إليه حتما، هذا ما هم ذاه " ممعلو"ـ !. بأعراق أخرى

: يتساءل عدنان بلهجة اعتراض مبطنـ ولماذا تلومهم إذن طالمـا هـم خاضـعون لجبريـة

!.عرقية؟ وكأنه توقف لتوه عـن ،يرد عليه عواد وهو يتنفس بعمق

: العدوبد أنك ترى في إنسانًا عصبيا مصابا بعقدة اضطهاد ـ ال ولكن العقـود القريبـة ، وكل صفة أخرى تروق لك ،الذات

. ما قلته لك القادمة ستثبت صحةيبتسم عدنان ساخرا وهو يصف عواد بأنه قد تحول إلـى

فيبتلع عواد ريقه بصعوبة حتى تظهر حبال رقبته ثـم ،نبي : يقول بلهجة اليأس

ـ سيظلون دائما مخلوقات هامشية بين التـاريخ والـال . تاريخ

Page 190: 577

-١٨٨-

ألنه كان على يقين بحكم تجربتـه ؛لم يعلق عدنان بشيء مع لقاءات العرب ومجادالتهم، بأن عواد الخلعي قد قام على

ألنـه وجـد ؛األغلب بإبداء هذه اآلراء المتطرفة عن العرب أمامه من يدافع عنهم، فلو كان عدنان هو الذي بدأ بتجريحهم

. لقام عواد بالدفاع عنهملصمت القصيرة ليعود إلى الحديث عن يقطع عواد لحظة ا

فيخبـر ، وكأنه مل الحديث عن العـرب، طباعة المخطوط عدنان بأنه مستعد لبدء الطباعة منذ يوم الغد، ولكنه يحـذر عدنان في الوقت نفسه من أن كتابه يعري نظامين من أكثـر أنظمة المنطقة همجية ودموية، وقد يدفع رأسـه ثمنًـا لهـذا

ه هدرا بينهما كما يحدث عادة في تـاريخ ويضيع دم ،الكتابعدنان بأنه يدرك ذلك، ولكنه بعد ، فيرد عليه القبائل العربية

هذه السنوات العشر التي عاشها لنفسه في هذه المدينة لم يعد بد أن يفرغ مـا فـي جعبتـه يطيق مزيدا من الصمت، وال

ويسمعه اآلخرون مهما كان ذلك عـديم الفائـدة أو مجـرد ت يائسة، ثم يخبر عواد بأنه ينوي توزيع هذه النسـخ همهما

على األكشاك الموجودة في األحياء والمناطق التي يرتادهـا . علها تجد بينهم من يقرؤهال ف،العرب

Page 191: 577

-١٨٩-

: يتململ عواد الخلعي في مقعده وهو يقول لعدنانـ قطعا، سيقرؤها بعضـهم ويهـز رأسـه، وآخـرون

تـافهم، ولكـنهم وغيـرهم سـيهزون أك ،سيمطون شفاههم . سينسونها جميعهم في صبيحة اليوم التالي

يبسط عدنان يده في الفراغ معربا عن أمله في أن تبقـى . أو تحرك في نفسه شيًئا،في ذاكرة أحدهم

: يهم عواد واقفًا وهو يقول حال هم ليسوا في حاجـة لبـراهين وأدلـة ـ على أي

ه دائما وأبـدا لمعرفة ما هم فيه من سوء، ولكن ما يحتاجون .هي القدرة، فمن أين تأتي بها يا صديقي إليهم؟

الستالم النسخ في هض عدنان بدوره ويتفقان على موعد ين . غضون أسبوعين

الدالة على تعاقب الفصول بالنسبة إلى عدنان هو العالمة ، فتغير الفصول يجد "كونتر اسكارب "حركة الزمن في مقهى

خالل سلوك الزبائن ومالبسـهم صداه في ليالي المقهى من . وأمزجتهم

ففي فصل الصيف تجد النساء في المالبس أفضل وسـيلة بينما يحمل الشتاء رائحة العطور ،لحمل رسائلهن إلى الذكور

Page 192: 577

-١٩٠-

كـونتر "، فيبـدو ليـل مقهـى الممزوجة بنكهة التبغ والنبيذ عابقًا حميما مشحونًا بالرغبات والنداءات والنشوة، " اسكاربن أن في فصل الخريف يفتقد المقهى تلـك األجـواء، في حي

فيقـل عـدد ،ويكثر تغيب العديد من الزبائن المخضـرمين كما ويندر حدوث المفاجآت ومجيء الوجوه الجديدة، ،الرواد

،في ليالي المقهـى " جان كلود "أنه في هذا الفصل يقل ظهور ولكنه يجد دائما عدنان ،فيأتي في مرات متباعدة عن بعضها

ه تبدل وال يؤثر في ،قابعا في زاويته ال يطاله تعاقب الفصول . تغير مالمح وجوههالأجواء المقهى و

لعل عدنان يجد حبالً سريا يشده إلى هذا الفصل المنطوي يقربه من نفسه فيتمثل وضع الخريف الحرج بين ،على ذاته

كوضـعه ع وبهائه ورونق فصل الصيف تماما؛ روعة الربي حيث يحمل أوزار من أخطأوا ؛المريح بين اآلخرين هو غير

. ما أفسده الزمن وليس حرا في أن يصلح،قبلهي فصل الخريف أكثر مـن أي ينكب عدنان على الكتابة ف

ألنه ليس في أجواء المقهى مـا يشـغله عنهـا، فصل آخر؛ حيث يشده مـا يجـري فـي ؛بعكس ليالي الفصول األخرى

فهو ال ما يحدث من األمور؛ ا في رغم أنه ليس طرفً ،المقهى

Page 193: 577

-١٩١-

كمـا أن ،يستطيع أن يكون صـانعا أو موضـوعا لحـدث . المفاجآت السارة ال تأتي إليه

، منذ سنوات لم يمر شتاء مثل قسوة شـتاء هـذا العـام صـاحب المقهـى بعـد أن يفـرغ مـن قـراءة " جورج"و

فرانس "ية في جريدته المسائية المفضلة الموضوعات الرئيس ، "متفرقـة أحـداث "يلقي نظرة فضولية على صفحة ، "سوار

خبار الهامشية التي وقعت خـالل ليتعرف على الحوادث واأل . ولم تتناولها وسائل اإلعالم،ثنتى عشر ساعة السابقةاال

كلما جرى الحديث عن الطقس وهذه الموجة العاتية مـن وهو متكئ على حافة " جان كلود "يقول . الثلج والبرد القارس

: بالقرب من المدفأة" البار"ق صندو المدعين من خبراء األحوال الجوية؛ ـ ال تصدقوا تنبؤات فال تنتظروا نهايتها قبـل نهايـة ،فهذه الموجة عمرها شهر

. الشهر، وبعضـهم "جـان كلـود "رغم أن بعضهم يصيح مسفها

أنهم جميعا لم يكونوا يدرون بأن هـذا ، إال اآلخر يسخر منه د بعض الوجوه ب حتى تذهب وتختفي إلى األب الشتاء لن يذه

". كونتر اسكارب"المألوفة في مقهى

Page 194: 577

-١٩٢-

لكن رواد المقهى ال ينتظرون، بل يزداد ترددهم في مثل هذه الليالي الباردة أكثر من ليالي الفصول األخرى، وكـأنهم يتحدون هذه الظروف الجوية التي تريد أن تفـرض علـيهم

. البقاء داخل منازلهملم يسبق لعدنان أن تغيب عن المقهى في مثـل هـذا لعله

لتي انشـغل خاللهـا ا ،الفصل أسبوعا كامالً قبل هذه المرة وحينما عاد في هـذه الليلـة ". ديوان الفضيحة "بطباعة كتابه

الشتوية أحس وهو يقترب من المقهى بأنه قـد غـاب عنـه . دهرا، ولكنه عندما دفع الباب ودخل كان هناك حفل

يتحلقها عـدد ، وأجمل نسائه ،فتاة المقهى المدللة " نجاكلي" يتبادلون األنخاب والتعليقات فـي جـو ،من األصدقاء وقوفًا

جان "أما ". كونتر اسكارب "حتفالي لم يكن معهودا في مقهى ا مكانه المعهود علـى فقد كان متكًئا في ؛وسيم باريس " كلود

المحتفلـين " شمبانيا"، يحتسي نصيبه من "البار"حافة صندوق دون أن يدخل في حلقتهم، ولكنه عندما رأى عـدنان صـاح

: وهو يرفع كأسه نحوه . ـ لقد وصلت متأخرا يا صديقي وفاتك الحفل

: فيرد عليه عدنان

Page 195: 577

-١٩٣-

ـ لو كنت أصل دائما في الموعد لتغيرت أشياء كثيرة في . حياتي

م باريس يثرثـر وقـد أثقلـت لسـانه كئـوس أخذ وسي ":الشمبانيا"

ـ كنت أسأل نفسي عن سبب اختفائك طـوال األسـبوع فأقفلت عليك ، فظننتك وقعت أسيرا بين يدي حسناء ،الماضي

. أبواب قلعتك، وفقد مقهانا شاعرا رقيقًا مثلما فقد أجمل نسائه : آخر جرعة في كأسه وهو يضيف" جان كلود"يحتسي

في مسابقة نجمـة غـالف مجلـة " جاكلين"ـ لقد فازت ، وأسند إليها بطولة فيلم "جاني ديفيد "والتقت بالمخرج ،"فوغ"، وستسافر قريبا للبـدء فـي التحضـير "عاصفة الصحراء "

. لتصوير الفيلمألول مرة منذ أن " البار"يستند عدنان على حافة صندوق

كأسه " جان كلود "، بينما يضع "كونتر اسكارب "عرف مقهى ن هذه السنة سـتجري إ له الفارغة، ويمسك بيد عدنان ليقول

. خاللها تغيرات وأحداث لكثير من رواد هذا المقهى تكون سارة على غرار مـا يعرب عدنان عن أمله في أن

على شـفته السـفلى " جان كلود "، فيعض "جاكلين"حدث مع

Page 196: 577

-١٩٤-

دون أن يقول شيًئا، ثم يمسح بباطن يده لعابه الـذي انسـاب . على ذقنه

فلعله لـم يـذق طعـم بدأ يهذي أحس عدنان بأن صديقه فيستأذن منه ويجلس إلى طاولتـه منذ زمن بعيد، " الشمبانيا"

نـادل المقهـى " باتريـك "يستفسر منه . في الزاوية المنسية فيهـز ؟ هل يرغب في قهوته المعتادة :بحركة من يده تعني

،"جوهيـل "ول بينما كانت عيناه تبحثان عن عدنان رأسه بالقب . يراهاالتي مر عليه أسبوع دون أن

كان يسأل نفسه وهو في طريقه إلى المقهى ما إذا كانـت أم أنه بالنسبة إليهـا مثلمـا هـو ،قد افتقدته أثناء هذه المدة

مجرد وجه عربـي هامشـي ال ،بالنسبة إلى جميع أصدقائها كانـت ". كونتر سـكارب "معنى لوجوده أو غيابه عن مقهى

في مواجهـة " لدانيا"زوجها واقفة تستند على كتف " جوهيل"" دانيـال "، تلتقي نظراتـه بنظـرات "بينو"ومسيو " جاكلين"

وتحيـد ، فيحس بلوعة الصفعة ،المملوءتين مكرا واشمئزازا بعد أن يأستا من البقـاء عيناه الخائبتان إلى الناحية األخرى

. الممتلئتين ببهجة الحياة،الباسمتين أبدا" جوهيل"بعيني

Page 197: 577

-١٩٥-

وأفجـاج سـحيقة ،ن الظلمات بيني وبين عينيك محيط م بين . والقبائل الوثنية ،مسكونة بالسوس ونعيق البوم والسراب

، وخوازيق صـاحب الشـرطة ،عينيك وبيني سيافو الخليفة . وعشر مائة هزيمة،وألف عام من الكبت

: ثم ينكفئ على نفسه ،يتظاهر هو بتقليب صفحات مذكرته س فـي ها أنت طبعت ديوانك ووزعته على أكشـاك بـاري

. ولكن ماذا بعد؟،انتظار من يقرأونهلقوا فيهـا حجر في بركة آسنة سبق لغيرك أن أ إنه مجرد

، فلن بمئات األحجار، لقد ألقيت بنفسك إلى التهلكة دون مبرر ولن تتوحد القبائل ولن تتحرر يثور الناس ولن يسقط الطغاة،

إن الذين تتعرض لهم في ديوانك . فلسطين ولن يهزم الغرب وتذهب في صمت مثل كلب سيء الحظ يعبر ،سينتقمون منك

. الطريق العام أمام سيارة مسرعة ولكن لن أموت وفي نفسي صيحة ،يتململ في مقعده ليكن

ينسحب عدنان مـن . مكتومة ولو كان أمامها الفراغ والعدم لقي نظرة على ما حولـه فتبـدو لـه هذا الصراع الداخلي لي

لقة جذابة وتسكرها نشوة النجاح فيقول هذه الليلة متأ " جاكلين" : لنفسه

Page 198: 577

-١٩٦-

بد أنهم ينتشون ـ عن الذين تتحقق أحالمهم وهم أحياء ال ال يعرفها أولئك الذين يموتون علـى أمـل أن يحقـق بلذة

. أحالمهم من يأتي بعدهميسـألها " مسيو بينو "ويناكفونها، و " جاكلين"الجميع يسألون

معها صـحيفة لتي أجرتها ة ا يعن موعد نشر المقابلة الصحف المخرج السينمائي "جيرار"، بينما يطلب منها "فرانس سوار "

الذي مضى على تخرجه عشر سنوات دون أن يحصل على فرصته األولى، بأن ال تنسى أن تسند إليه إخراج أحد أفالمها

على هذا " دانيال"بينما يحتج . قدامها في السينما عندما تتوطد أ ق بهذا الحدث الكبيـر فـي حيـاة ال يلي الحفل الصغير الذي

. آخر قبل سفرها إلى أمريكـا ، ويطالبها بإقامة حفل "جاكلين" قلقًا وهو يدرك بأن عالقته مـع فقد كان صامتًا " أوليفيي"أما

. لن تكون بعد اآلن مثلما كانت عليه في السابق" جاكلين"فقد نجحت هي وحلقت بعيدا عنه إلـى عـالم الشـهرة،

ليها مجرد ذكرى من ذكريات مقهـى هو بالنسبة إ وسيصبح تتركهم جميعا وتذهب إلـى " جاكلين"لكن ". كونتر اسكارب " فيتبـادالن ،"الشـمبانيا "، وبيـدها كأسـان مـن "جان كلود "

". البـار " يضع وسيم باريس كأسه على حافـة ثم ،االنتخاب

Page 199: 577

-١٩٧-

فينطلقـان فـي رقصـة ،ويمسك بيدها ليدعوها إلى الرقص . اع بين صيحات الكثيرين وتعليقاتهمسريعة اإليق

كفارس عتيد قسمت ظهره سنواته السبعون " جان كلود "بدأ وهو يحاول ترويض مهرة جامحة ما تـزال فـي المشـوار

. األول من السباق آخر مرة يرى فيها عدنان صـديقه كانت تلك أول ولعلها

كـونتر "يحتوي بين ذراعيه أنثى فـي مقهـى " جان كلود " ". اسكارب

يتموجان بهدوء فـي هدأت العاصفة وطفق جسدا االثنين ، أطول منها قامـة )وسيم باريس (" جان كلود "مناجاة حالمة؛

شعره أبيض يحيط خصرها النحيل بساعديه، وقـد سـقطت نظرته في فتحة فستانها ما بـين نحرهـا وحتـى المنحـدر

،جـاكلين برقبتـه " إلى حلمتيها، بينما تعلقت يـدا المفضيا مشرئبة نحو خصالت شعره األبيض وكأنها تبتهل ونظراته

إلهان في أسطورة إغريقية يؤديان آخر رقصـة لهمـا . إليه . على األرض قبل أن يصعد كل منهما إلى سماواته األبدية

كان عدنان أكثرهم حماسة لهذا المشهد الذي يـرى فيـه ها الجميع في هذا المقهى، صديقه متألقًا مع المرأة التي يشتهي

Page 200: 577

-١٩٨-

ن ا أن تكون آخر ذكرياتها في هذا المك أرادت" جاكلين"لعل وه فارس هو هذا المشهد، مع الرجل الذي لم يكن أحدهم يتوقع

ان وقد تصور عدن ،"كونتر اسكارب "ليلتها األخيرة في مقهى قد يكون شبيها " كلودجان "هذه الليلة مع " جاكلين"بأن موقف

حيـث ؛ذ عدة أشـهر معه في المقهى ذاته من " أماندا"بموقف …اختارته جليسا لها دون كل الذين كانت محط أنظـارهم

أن المرأة تختار في أحيان كثيرة وتذكر قول صديق قديم من ،قل الرجال الموجودين أمامها، وليس ذلك عن جهل بحقيقته أ

ولكنها من دواعي سرورها دائما أن تفعل ما ال يتوقعه منها !. اآلخرون

إلى حذائـه " جان كلود "بسخرية منبها " ومسيو بين "يصيح يه، ولكـن م دائما بأنه يوشك أن يسقط من قد المفتوح الرباط ويسـتمر فـي تجاهل هذا النداء االستفزازي، وسيم باريس ي

فيضم رأسها بين راحتـي ،"جاكلين"الرقص إلى أن تتوقف يديه حتى تغرق أصابعه الحمراء المنتفخـة فـي تموجـات

ألسود الالمع، وتقع شفتاه الالهبتـان عنـد شعرها القصير ا التقاء وجنتها المتوردة بزاوية فمها المختوم بابتسامة مشحونة

.بالرغبة والتعالي

Page 201: 577

-١٩٩-

نسـمة ،"جان كلـود "بلباقة من بين يدي " جاكلين"تنسل معطرة طرية تعبر في فيض سنواته السبعين، وهـم مجـنح

. منمنم بخيوط الفجر في ليل شتائه الطويلإلى الوراء باحثًا عن صديقه عـدنان " جان كلود "راجع يت

أو يعود من غزواته ،كعادته دائما عندما ينتهي من خصوماته . النسائية

يداري رغبـة ، وزوايا عينيه مبتلتين ،كان وجهه محتقنًا عارمة انفجرت وتبددت فـي كـل زوايـا جسـده الهـائج

. المضطرب : ائرهقال بصوت متهدج ويده تبحث عن علبة سج

أنثى، لقد أعادتني إلى أطراف ذلـك الـزمن نـ يالها م . البعيد

يربت عدنان على كتفه مؤكدا بأنه ما يزال ذلك الفـارس . ال يقع عن جواده أبدا الذي

ويلـوذ ،كأسه فـي جرعـة واحـدة " جان كلود "يحتسي وأطرافه ترتخي وهـو بينما أخذت تقاطيع وجهه ،بالصمت

". جاكلين"رج لتوه من بين فخذي يدخن بشراهة وكأنه خ

Page 202: 577

-٢٠٠-

د صمت هذه اللحظة التي اقتطعهـا لم يشأ عدنان أن يفس يلتفت إلـى ف ،"كونتر اسكارب "من زمن المقهى " جان كلود "

يقفـان بجانـب " جـورج "و" جاكلين"الناحية األخرى ليرى وهما يرفعان كأسيهما إلى أعلى ليلتقط لهما أحـد ،بعضهماوهـو " جـورج "ثم علق بعد ذلك . صورة تذكارية األصدقاء

": جاكلين"يربت على كتف : ، ونكتب تحتها ـ سنعلق هذه الصورة في مدخل المقهى

دون " جان كلـود "يلتفت نحوهما ". جاكلين سولير كانت هنا "يقول بصوت عاد أن يعلق بشيء، ثم ينكفئ نحو عدنان وهو

وقد ال ،ستسافر خالل األيام القادمة " جاكلين"إليه الهدوء بأن ـ يراها في هذا المقهى مرة أخرى، ثم ي المرتعشـة د يـده م

فيسقط منـه متهشـما تحـت ،"البار"ليتناول كأسه من فوق ، ويصيح به باتريك نادل المقهى معنفًا له على فعلتـه ،قدميه

: ليسمعه الجميع عاٍلفيحاول الخروج من هذا المأزق بصوٍته تحـت قـدمي فألقيت ب ،ـ هذا الكأس لم يرق لي شكله

. وسأدفع لك ثمنه ": باتريك"وهو تقول إلى " جاكلين"تعود

Page 203: 577

-٢٠١-

وسـه هـذه الليلـة، عما يفعل بكئ " جان كلود "ـ ال تسأل يدها على كتف وسيم بـاريس ثم تضع .فسأدفع ثمنها جميعا

: مضيفة ؛ـ عندما أرجع من تصوير مشاهد الفيل في الصـحراء

. والرملسأحضر لك معي كأسا مصنوعا من الخزفشراح، فيسألها عن دورها فـي االن" جان كلود "يغمر نفس

، وكان عدنان أكثـر فضـولية مـن "عاصفة الصحراء "فيلم صديقه لمعرفة قصة هذا الفيلم الـذي تـدور أحداثـه فـي

: فأخذ ينصت من بعيد إلى رواية بطلة الفيلم،الصحراء يمتلك شـركات ،ـ أقوم بدور ابنة ملياردير من تكساس

وبمناسـبة . العربيـة لتنقيب عن النفط في إحدى الصحاري لتدشين أحد الحقول البترولية نذهب في رحلة سـياحية إلـى

فتهب عاصفة رمليـة هوجـاء، وتضـيع قافلـة ،الصحراء الملياردير في يد فتقع ابنة ، وتتبعثر في الصحراء ،السيارات

فيختطفها ويتزوجها بـالقوة، فيقـرر األب أحد شيوخ البدو عملية خاصة تقـوم بهـا مجموعـة مـن لملياردير تمويل االستعادة ابنته، ولكنه قبل أن يقوم بهذه العمليـة " الكوماندوز"

وإغراءهم بالتحـالف ،يحاول استمالة شيوخ القبائل والعشائر

Page 204: 577

-٢٠٢-

وأنهم ،معه ضد هذا الشيخ وقبيلته، فيجد أنهم جميعا طماعون لقضاء عليهم، كمـا ن ا ويتمنو ،يغارون من هذا الشيخ وقبيلته

ن األعرابي ال يأنف من قوة الغريب والخضوع أنه يكتشف بأ بينما ال يطيق رؤية أخ له أقوى منه، فيأتي المليـاردير ،لها

هم نورجاله ليستضيفه هؤالء الشيوخ فـي خيـامهم ويلبسـو لباسهم ويصدروا فتوى بين قبائلهم يعلنون فيها هدر دم هـذا

ولذا وجبـت ؛ األعراف والتقاليدالشيخ وقبيلته ألنه خرج عن بعد ذلك يذهبون معا في . مقاتلته بالتحالف مع غير أهل الملة

غزوة عبر مشهد صحراوي خرافي مهيب لم تشـهد مثيلـه فتبدو الغزوة بطبولها وأهازيجها الصـحراوية ،عين من قبل

وكأنها حملة تقوم بها عشائر البدو ضد عشـيرة تجـاوزت . حدودها

: وهي تضيف مختصرة بقية السيناريو" ينجاكل"تبتسم ـ بالطبع يتم القضاء على الشيخ وتأديب عشـيرته فـي

يخوضه الفرسان بين المضارب المشـتعلة ،مشهد قتالي بديع وولولـة النسـاء وصـراخ ،الجثثو وصهيل الجياد الهاربة

األطفال تحت حوافر الخيول، فالملياردير يريد من قسوة هذا عبرة لحلفائه من الشـيوخ حتـى ال يفكـر االنتقام أن تكون

Page 205: 577

-٢٠٣-

أحدهم في القيام بمثل هذه الفعلة، وتعود الفتاة حرة مرفوعـة !. ولكنهم يكتشفون أنها حامل،الجبين

: مقهقها" جان كلود"ينفجر ـ هذا ما كنت أتوقعه ولكن ماذا سيحدث لها بعد ذلك؟

طالبـة ،ضاحكة وهي تهز رأسها بالنفي " جاكلين"تجيبه . نه أن ينتظر حتى يشاهد الفيلم ويعرف النهايةم

ول حتى يعرف متأسيا بأن انتظاره سيط " جان كلود "فيرد تربت على كتفه قبل أن تنصرف " جاكلين"هذه النهاية، ولكن

: إلى شلتها . الشتاء القادم،"جان كلود"ـ في الشتاء القادم يا

ـ " جان كلود "يعود قـد انإلى عدنان وهو يسأله ما إذا ك رواية هذه الفانتازيا الصحراوية، فيجيبه عدنان بأنه في سمع

يال أقل غرابـة بعض البقاع وفي كثير من األحيان يكون الخ ـ " جاكلين"وكأنه يلوم " جان كلود "يقول . من الواقع ان بأنه ك

ل عدنان وتفهم منـه أشـياء بإمكانها أن تنتهز الفرصة لتسأ عدنان، ضـاحكًا هـذه فينفجر ،كثيرة عن الصحراء وأهلها

: المرة ومعلقًا

Page 206: 577

-٢٠٤-

ـ إنها ليست في حاجة لمثلي، فأمامها ألف شيخ عشـيرة " جـان كلـود "يقول . دليل ينتظرون قدومها بفارغ الصبر و

بأن أباها قتـل فـي حـرب " جاكلين"وكأنه يعتذر نيابة عن ال تخلو من حساسـية ولهذا ن أمها؛ وتركها في بط ،الجزائر

ــرب ــاه الع ــا،تج ــرية ولكنه ــت عنص ــدما. ليس وعنجان " أي تعليق حول هذه القضية يعود ال يصدر عن عدنان

بذاكرته إلى الماضي ليكشف لصديقه بأنه كان من بين " كلوداألعضاء األوائل لجمعية مناهضة حرب الجزائـر، ولكـن السلطات حلت هذه الجمعية واعتبرتها آنذاك عمـالً ضـارا

. دة شهر ثم أفرج عنـه ه لم العامة، وتم اعتقال المصلحةيمس ثقيالً لكثرة ما احتسى مـن الكحـول " جان كلود "وبدا لسان

الفاخر، ولكن شهيته أيضا بدت منفتحة هـذه الليلـة علـى ردف ويده المرتعشة تفشل عدة مـرات ، فأ ذكريات الماضي

قبل أن تفلح في إخراج سيجارة من علبتها، ثم يضيف بأنـه هـا الجزائريـون المقيمـون اشترك في مظاهرة ليلية قام ب

بـون "، فلما وصلت المظاهرة إلى جسر حينذاك في باريس وقبل أن تعبر نهر السين هاجمتها قوات األمن، وكان ،"ناف

، وأعـداد المتظـاهرين كبيـرة ،الفصل شتاء والوقت لـيالً

Page 207: 577

-٢٠٥-

، وقوات األمن شرسة ،والمكان جسرا ضيقًا معلقًا فوق النهر ين مـن علـى جـانبي الجسـر فشاهدت عددا من المتظاهر

، ولم ينتشلوا وتبتلعهم مياه النهر البارد ،يسقطونهم في الظلمة تالي، وبدا لي يومها وجه بلدي في صبيحة اليوم ال جثثهم إال

فحملت حقيبتي وخرجت منها ولم ،قبيحا مخيفًا " فولتير "دلوب . أعد إال بعد نهاية الحرب الجزائر

سمعها عدنان ال يسعه إال ا ي عندم ،مميزة" جوهيل"ضحكة أن يتلفت مهما كانت أشواق الحديث وأشـجانه تبـدو عنـد انطالقها مثل كركرة طفلة تداعب لعبتها الصغيرة، ولكنهـا عندما تقترب من نهايتها تنقلب إلى همهمة خفيفة كمثل مهرة

تتعرف فجأة إلى السائس الذي تعهدها بالرعاية منـذ ،شاردة . والدتها

ا المدللة تنطقها على الطريقـة الباريسـية حروف كلماته مطرزة بالنداءات المشبوبة، وارتسامات الجسد التـي تغـزو

كونـت "إمارة الزاوية المنسية في مقهى أعماق الصمت في ، فينتفض عدنان من لسعة اللهفة ليعدو خلفها فـي "اسكارب

. مجاهل مملكة الصدى

Page 208: 577

-٢٠٦-

مة فـي هـذه الليلـة الشـتوية موسـو " جان كلود "لهجة على عكس ما اعتاده منه عدنان طوال رفقة ليـل ،بالشكوى

فأخذ يشكو عدنان شدة البرد التي دفعته إلى ،السنين الماضية ة ليقضي بضع ساعات في دفء المقهـى؛ المجيء هذه الليل

ألن مسكنه عبارة عن قبو تحت مدخل عمارة وضـع فيـه ا يلتهم ولديه مدفأة غاز قديمة تخرج دخانً ،أشياءه منذ سنوات

ولهذا فال يستطيع تركها تعمل أثناء لداخل من أكسجين؛ ما با نومه ألنه أقفل في هذا الشتاء فتحة التهوية بسبب تراكم الثلج

ل ليالي هذه السـنوات التـي طوا. وسقوطه منها إلى الداخل كـان " كونتر اسكارب "وعدنان في مقهى " جان كلود "جمعت

دا مسكنه، ما ع ،ياتهوسيم باريس يتحدث عن كل شيء في ح ومحطـات ،فبيته الحقيقي هي باريس بحواريها وشـوارعها

فهو ال يطيق فراق ، ومقاهيها وميادينها العامة؛ أنفاق المترو بابـا يوصد وال ،الناس وليس لديه ما يدفعه لالختالء بنفسه

فـي : "جان كلود "يقول . ما عدا باب دورة المياه بينه وبينهم ألننـي والصـيف؛ أحن إلى الربيع قارس مثل هذا الشتاء ال

خاللهما أظل بين الناس حتى يصرعني النوم فوق رصـيف

Page 209: 577

-٢٠٧-

، فأغمض عيني وهم يمرون من حولي ،أو جانب جدار عتيق . وأفتحهما فأجد نفسي محاطًا بهم

،يقترح عليه عدنان أن يصطحبه معه لينام عنده هذه الليلة يعتذر عن " ان كلود ج"، غير أن وتتسع لهما معا ،فداره دافئة

ألنه لم يتعود أن ينام عند أصدقائه، وأنه ؛قبول دعوة صديقه شرب هذه الليلة ما يكفيه لينام بهدوء في قبوه دون أن يحس

ثم يضحك ويربت على كتف عدنان مشيرا في الوقت ،بالبرد : نفسه إلى النساء في المقهى

ـ إذا كانت غرفتك تتسع لشخصين فعليـك باصـطحاب من عجوز مقرور مثلي قد تجده ى أولئك المتغنجات بدالً إحد

س فيدخلك في دوامة تحقيقات البـولي ،في الصباح جثة هامدة . عربيالذي يجد فرنسيا ميتًا في دار

: يناكفه عدنانفلو كانت الدعوة موجهة إليـك . ـ دعك من هذه األعذار

. فلقبلتها بلهفة" جاكلين"من بإمكانـك أن لـو كـان )"كلودجان "قال (أنت أيضا ـ

لما فكـرت فـي ) مشيرا إلى جوهيل (تصطحب تلك اليمامة . دعوتي

Page 210: 577

-٢٠٨-

فيلتفت . عليه أن يدعوهما معا يضحك عدنان وهو يقترح ويزم شـفتيه ، حيث تقف المرأتان مع بقية الشلة ؛"جان كلود "

وهو يمرر سبابته بين زاويتي فمه، ثم يبتلع ريقه متغصصـا نبراته حو عدنان ليقول له بصوت منخفض، قبل أن يستدير ن

: حة بالمرارةطاف ! ـ أظنها ستكون دعوة أتت في غير زمانها

ويسحقه ثقـل تـداعيات ،يطأطئ عدنان برأسه إلى أسفل . المعاني

وهـي " جـاكلين "، وسمع سمع جلبة خروجهم وأصواتهم قـد " جوهيـل "، فرفع عدنان رأسه ليجـد "دجان كلو "تودع

بكلمـة، " جان كلـود "عن زوجها لتسري عن تخلفت عنهم و فـأحس ، فالتقت عيناها بعيني عدنان ،وتطبع قبله فوق جبينه

،ابتسمت له وتحركت شفتاها . بأنهما يقفان هذه المرة عاريين . ولكنه لم يسمع صوتها

فينهض ،راكضة خلف زوجها وأصدقائها " جوهيل"تخرج . ة في حلقهعلتعدنان وهو يبتلع كلمة تبعثرت حروفها المش . ولكنها كانت ابتسامة في غير موعدها

Page 211: 577

-٢٠٩-

))٧٧(( حينما وصل إلـى ،الدهشة تنتظر عدنان في اليوم التالي

،"ديوان الفضيحة "شك كان قد أودع فيه عشر نسخ من أول ك . فأخبره صاحب الكشك بأنها نفدت منذ اليوم األول

منها وقد ال يباع ،كان يتوقع أن تبقى أسابيع وربما شهورا يلتقطهـا ،في أحسن الحاالت سوى نسخة واحدة كل أسبوع

عربي فضولي من آالف العرب الذين تتقيأهم طوال النهـار ولكن دهشته تنقلب إلى فرح . والليل أحياء الضواحي البعيدة

عندما يخبره صاحب الكشك الثاني أيضا بأنه لم يعـد لديـه . نسخة واحدة

سلموا أنفسهم وخلتهم أ ،يقول في نفسه لقد أسأت الظن بهم . إليقاع حياة الغربة

ره بعـد فصاحب الكشك الثالث يقول له بدو ،لكنها معجزة . سخ بأنه لم يعد لديه منها شيءأن يلقي نظرة على مكان الن

Page 212: 577

-٢١٠-

، حيـث أكشـاك أخـرى ؛"سان جيرمان "نهج ط يهب . غاب عنه منذ زمن بعيدويراود نفسه زهو

ان الـذي اخترتـه قـد بد أن حرارة صدق هذا العنو الجذبهم، ألنهم مقتنعون جميعا بأن واقعنا ال يمكن نعته بصفة

ثم يخطو خطوة أخرى في . أخرى سوى أنه فضيحة تاريخية طريق هذا الزهو فيرى أن اسمه أيضا ليس مجهـوالً لـدى

دوائر "رءوا مقاالته وقصائده في جريدة القراء، فكثير منهم ق الباريسـيتين الواسـعتي " خطوط الطـول "، ومجلة "العرض

االنتشار، وما يزال يذكر الرسائل التي تصل إلى الجريدة أو عنـدما . المجلة موجهة إليه من القراء في عدة أقطار عربية

طاولة المفروشـة اليصل إلى الكشك الرابع يلقي نظرة على فال يجد أثرا لنسخ الكتاب، فيستدير نحو البائع ؛بالمنشورات

فيهز البائع ،بإشارة من يديه راسمة عالمة نفد مستفسرا منه ينطلق إلى كشك آخر وهو يحادث نفسـه . رأسه مؤكدا ذلك : بصوت خافت

أمر ال يحدث أحيانًا ،ـ أربعون نسخة تنفد في يوم واحد . حتى في معرض الكتب العربية

Page 213: 577

-٢١١-

ورغم أنه لم ير النسـخ فـي ،يقف أمام الكشك الخامس فيخبـره ؛و يكاد يعـرف اإلجابـة إال أنه يسأل، وه مكانها

. صاحب الكشك بأنه باعها جميعالعلني أكتفي . هذه حقيقة ال أستطيع أن أصدقها . ـ يا إلهي

وسأكمل البقية في الغد ألنني لم أعد ،بهذا العدد من األكشاك .قادرا على تحمل المزيد من األخبار السارة في هذا اليوم

فـي طريقـه ك يقـع يقرر قبل عودته أن يمر بآخر كش ، والذي يطلق عليـه اسـم "جيرمان"بالقرب من كنيسة سان

، ورغم أنها "روزا" صاحبته عجوز تدعى ألن ؛"كشك روزا "لعمل الذي تمارسـه أنها متمسكة بهذا ا بلغت سن التقاعد إال

وتعطيهـا ، ألنها تعشق الثرثرة مع الزبائن منذ ثالثين سنة؛ ة إحساسا بأنها تقوم برحلة سماتهم ولغاتهم ووجوههم المختلف

. حول العالم كل يومليها عدنان منذ بداية عمله فـي شـركة الدعايـة تعرف إ حيث يمر بالكشك مرة كل أسبوع، ليقوم بإلصاق ؛واإلعالن

ية على واجهة المحـل، ملصقات دعاية األفالم والسلع التجار ي له قصص عشقها لكثير من الغرباء ورت" روزا"بينما تظل

أنجبت منه طفلـة، ، كان أولهم شابا من أمريكا الالتينية نيالذ

Page 214: 577

-٢١٢-

ولـم تكتحـل عيناهـا ،ثم رجع إلى بالده منذ أربعين عاما تجربة اإلنجاب مـع ولكنها لم تكرر . برؤيته منذ ذلك الحين

الذي عاش معها عشر سنوات ثم ذهب إلى عشيقها العربي، . وعاد بزوجة من جبال األطلس،بالده

عدنان قادما نحوها تبتسم حتى يختفي طـرف كلما ترى : وهي تقول له،نظارتها في تجاعيد وجنتيها المصبوغتين

! ـ كم عشقت من الرجال ذوي السمات المتوحشةتبشـره " روزا"ينما وصل عدنان إلى الكشك صـاحت ح

فيتسـمر ،بأنها قد باعت نسخ الكتاب جميعها دفعـة واحـدة ": روزا"دفعة واحدة، فتجيبه ي مكانه مرددا عبارة عدنان ف . اشتراها شخص دفعة واحدة. ـ نعم

يستدير عدنان عائدا إلى الكشك السابق ليسأل صاحبه مـا فيجيبـه النسخ فرادى أم باعها دفعة واحـدة، إذا كان قد باع

: وهو مشغول بتصفيف الصحف ! ـ دفعة واحدة يا سيدي

ذي بعـده ويذهب إلى الكشك ال ،يتحامل عدنان على نفسه يعـود عـدنان . فيخبره صاحبه بمثل ما أخبره الذين قبلـه

بـل نسخ كتابه لم يشترها القـراء؛ أدراجه بعد أن تأكد بأن

Page 215: 577

-٢١٣-

مخابرات أحد النظامين السياسيين المعنيـين بمـا يحتويـه . الكتاب

ما إذا كانت تتذكر مالمح الشـخص الـذي " روزا"يسأل . اشترى منها النسخ

: ردددون ت" روزا"تجيبه ولقد حاولت الحديث معـه ولكـن ردوده كانـت . ـ نعم

،صغر منك سـنًا هو شاب أ . ةمقتضبة ولغته الفرنسية ركيك وشارباه متقوسان ، ولكن شعره قصير جدا ،وفي مثل طولك

كانت سيارته تقف على الرصـيف فـي . على زاويتي فمه وعندما تحركت يخيل إلي أنني رأيتها تحمل ،مواجهة الكشك

. ة تابعة لسفارة أجنبيلوحة فهـم ،قرر عدنان أن يذهب في هذه اللعبة إلـى نهايتهـا

أن يقلعوا عـن هـذه يشترون النسخ وهو يعيد طباعتها إلى لم يؤيـده " أنتار"صاحب مطبعة " عواد الخلعي "الوسيلة، لكن

: في هذا الرأي فقال لههم لن يستمروا معك في هذه اللعبة، بل أمامهم وسائل ـ إن

فقد يمارسون ضغطًا على الحكومة الفرنسية لتمنـع رى؛أخنشر الكتاب وتوزيعه، وكم حدث هذا لكتب تتعرض ألنظمة

Page 216: 577

-٢١٤-

ثـم ال تـنس إنـك . مصالح فرنسا اسياسية عربية ترتبط به وليس من حقك أن تمـارس نشـاطًا يضـر ، سياسي الجئ

وا ، ولكن ما أخشاه فعالً هو أن يلجـأ بمصلحة البلد المضيف أخرى أقرب إلى أساليبهم وطبيعة أنظمتهم، فلديهم إلى وسيلة

درين على القيام بذلك في اعصابات من القتلة والمأجورين الق . صمت

: يلوي عدنان رأسه بعنادالذين يطلبـون الحـج ويبتغـون أنا لست من . ـ فليكن

! السالمةيمط عواد الخلعي شفته السفلى وهو يخبره بـأن آخـرين

وذهبوا في صمت ليل صحراوي قاحل ،غيره قد فعلوها قبله . بهيم

ولكـن لـن ،يرد عليه عدنان بأنه ال يبحث عن المـوت . يصمت تحت التهديد

ربـاط ، فيبدو تمتد رقبة عواد الطويلة الملساء إلى األمام عنقه القصير يتأرجح وكأنه حبل مشنقة ينتظر ضحيته فـي

: ميدان عام

Page 217: 577

-٢١٥-

بالمائة مـن ـ ماذا يجدي صوتك إذا كان تسعة وتسعون . أقرانك يغنون في قافلة الحكام

: يقول عدنان بفتور من ال يرغب في مزيد من النقاش ولكن ما يهمنـي ،جدل حول نسبتهم ـ لن أدخل معك في

حذره مـن ورغم أن عواد . ة طبع هذا الكتاب اآلن هو إعاد خرى ألن ما حدث يعد بمثابة خطورة اإلقدام على طبع نسخ أ

فوافـق ، لم يستطع أن يثني عدنان عن قـراره إال أنه إنذار؛ ثم قـال وهـو ،على تسليمه النسخ الجديدة في خالل أسبوع

: يودعه . ـ إن جدوى ما تفعله ليست أكيدة . وينسل إلى الشارع،يهز عدنان رأسه متملصا من الرد ولم يعد بإمكان عـدنان ،شوارع باريس لم تعد كما كانت

وبـدأ . خلفه من حـين آلخـر تأن يسير فيها دون أن يلتف يساوره إحساس في هذه األيام بأن هـذه الشـوارع وهـذه المنعطفات واألزقة األليفة كلها تتربص به، لترميه بأحد القتلة

. في اللحظة التي يفلت فيها من حواسه زمام الحذر

Page 218: 577

-٢١٦-

هذا العربي الذي يسير خلفي بتمهل لماذا يتباطأ في مشيته عربي الواقف على ناصـية الشـارع وكأنه يتتبعني؟ وذاك ال

.يلتفت يمينًا وشماالً وكأني به ينتظرني ،"كاردينال ليمـوان " "محطة المترو " في يهبط عدنان ليالً

فتلتقي عيناه بعيني عربي يسير خلفه في ممـر ،ويلتفت خلفه يخرج عدنان إلى الشارع فيجـد . فيرتبك كل منهما ،الخروج

ن ملتفتًا وراءه مـن حـي صاحبه ما يزال يسير خلفه بتمهل ،حدى المكتبـات المقفلـة يتوقف عدنان أمام واجهة إ . آلخر

متظاهرا بتفحص الكتب، وهو يسرق النظر نحو العربي الذي . أخذ يقترب منه ويداه داخل جيبي معطفه الجلدي

ن سيره متنقالً إلى الرصـيف يترك عدنان مكانه ويغذ م وكالهمـا ،صـيف كالهما علـى ر ، فسارا متحاذيان اآلخر،

يسرق النظر جهة اآلخر، ولكن العربي مد خطـاه وأسـرع فرجعت إليه الطمأنينـة ،حتى خاله عدنان قد تباعد واختفى

وعاد إلى سيره المتثاقل، فلما وصل إلى تقاطع الشارع مـع آخر فرعي وجد صاحبه ينتظر في زاوية التقـاطع لـيهجم

يـه لكماتـه بينما أخذ الشاب يوجه إل ،عليه، وصعق عدنان : ويصيح فيه بلهجة مغربية دارجة

Page 219: 577

-٢١٧-

". يا عربي يا ساقط تشتغل مع الحنوشة"ـ فالشاب اعتقده أحد ،أدرك عدنان سوء التفاهم الذي حدث

اسـتطاع أن . العرب المتعاونين مع جهاز مكافحة المخدرات فهو أصلب عودا من الشـاب ،يحتوي المهاجم ويسيطر عليه

: بعد ذلك مهدًئاوأطول منه قامة، قال له ولكنني رأيتك تتبعني من مكان إلى آخر ،ـ أنا لست منهم

. فخفت منك وأخذت أراقبكن يسير أمامي وينتظرني كلما خففت م لذي ـ ولكن أنت ا

الخـوانين "، ويرقبني بطرف عينه، مثلما يفعل العرب سيري ". الحنوشة"، الذين يعملون مع "العطايين

: لخلفيدفعه عدنان بقوة إلى اـ أنا ال أعمل مع الشرطة الفرنسية، ولكن ما تقـوم بـه

. أنت أراه عمالً مشينًا : يمد الشاب يده إلى عدنان معتذرا

رآني قرفـان مـن . يا خويا ما تزعفش منيـ اسمح لي .الحنوشة

: يترك عدنان يده للشاب ليشد عليها وهو يقول له

Page 220: 577

-٢١٨-

. ـ ينبغي لمثلك أن يقوم بعمل آخر غير هذايمد الشاب علبة سجائره مفتوحة ليقدم إلى عدنان سيجارة مصالحة معلنًا له أيضا عن إعجابه بقدرته التي أبداها أثنـاء

: المبارزة ."أنا انحب الرجل الدبزة. يا خوياصحة لك"ـ

فلم يجد سببا قويا لرفض ؛يتناول عدنان السيجارة مقهقها سـبابه الخاصـة، هذه المبادرة، فكالهما عربي مطـارد أل

يسأله الشـاب . وكالهما مطرود من الوطن بكيفية أو بأخرى : بعد أن عرف كل منهما بلد اآلخر

". ويش راك تعمل في باريس " ـ . ـ الجئ سياسي : يصيح الشاب

تنـا ايا خويا بالد . "عرفت سبب حذرك " دوركه. أواه"ـ ". ماج واللي يعمل البوليتيك يقتلوهأ

رغم أنه ،عية وصاحب القضية روح الدا تعود إلى عدنان : يخاطب بائع مخدرات

Page 221: 577

-٢١٩-

،ألن حكامها سـيئون ليس فقط ـ بلداننا أوضاعها سيئة . ولكن ألننا نحن أيضا نهرب منها دائما ونتركها لهم

: يهرس الشاب سيجارته على الرصيفلما تقبض عليـك . يا خويا الناس ثمة خايبين بالزاف "ـ ". حالهم ويسيبوك وحدك ايروحوا علىالحكومة

ويتركه مذهوالً، فقـد ،يشد الشاب على يد عدنان مودعا . اختار الذهاب في اللحظة التي بدأ فيها عدنان يتمناه أن يبقى

فتحول غالالت ضبابية بين ،تعوي العاصفة وينهمر الثلج شعاع المصابيح وأرصفة الشوارع، وتلك لعلها هي اللحظـة

اب ليقوم بنقل بضاعته المحظورة مـن التي كان ينتظرها الش مكانها إلى مكان آخر، منتهزا فرصة هذا الظـرف الجـوي

. على مطاردة أمثاله والتربص بهم" الحنوشة" ال يشجع الذي ولم يكن يتوقـع حـديثًا جـادا ،يمضي عدنان في طريقه

وطويالً إلى هذا الحد في ساعة متأخرة من ليلة ثلجية علـى مبتل، مع بائع مخـدرات مرعـوب ناصية شارع ورصيف

. تطارده الشرطةنًا باحثًا عن بعد هذه السنوات العشر التي قضاها صامتًا آم

بتسامة امرأة تحضـر فـي غيـر وا ، أبدا لحظة حب لم تأتِ

Page 222: 577

-٢٢٠-

يجد عدنان نفسه هذه الليلة قـد عـاد إلـى دوامـة زمانها؛ين هذه الليلة بينه وب لم يعد الحديث . هة ودائرة الخوف المواجن الماضية عن غربته قه الجدار مثلما كان في ليل السني صدي

. وغزواته والمواعيد الخائبة مع النساء : ينصت متملمالً في فراشه إلى حديث صديقه الجدار

ولم يعد الحكام ،ـ لم يعد الزمن زمن مواجهة يا صديقي بشرا تجوز مخالفتهم، بل آلهة لهم ما فوق األرض وما تحت

وما من امرأة مـا ،لذكور يخافونهم واإلناث تعشقهم السماء، ا إال وندبت حظها، الذي لم يجعلها تزال بها رغبة في الرجال

زوجة لفحل القطيع الوحيد بدالً مـن هـذا الـزوج الـتعس . المنحوس

فما من ذكر أو أنثى يجيد القراءة والكتابة إيه يا صديقي، ق علـى بابـه إال ويحلم بطار ،أو حرفة أو ضربا على وتر

.يقول له بأن الخليفة قد اصطفاك حاديا في قافلتههذا ليس زمن المواجهة مع حكام بلغ تعلق الرعيـة بهـم وطاعتهم بأن يقولوا لرعيتهم أن هذه التي تمشون عليها هي

وسكم هـي األرض، فيجيبـونهم ، وتلك التي فوق رء السماءا العهـد يا سبحان اهللا كم كنا على جهالة قبـل هـذ :جميعا

Page 223: 577

-٢٢١-

أو يقولون لهم أن هذا الذي كنت تظنونـه عـدوكم . السعيديقتلكم ويسلب أرضكم هو خليلكم وعزيز عليه ما أصـابكم،

ربنا ال تؤاخذنا كم كنـا يكبرون بصوت واحد يا سبحان اهللا ف ! على ضالل مبين

وحباهم ربهم ،لقد بلغ الناس سن الرشد . يه يا قليل العقل إ ويتمنـون أن ،ون لهم بطول العمـر يدع ،بأئمة غر ميامين

والحق حقًا فيتبعوه، فـإن رأوه يريهم الباطل باطالً فيجتنبوه ضوا عنه الطرف فال راد لمشـيئتهم وال خـارج عـن وغ

عرضه مفضوح ودمـه ، مارق عن األمة واليتهم إال عاصٍ . مسفوح

،لم يا صديقي تكتب أشعارا فتفضح فيها أسـرار اآللهـة تغض الطرف عن أسرار العيون الخضراء وتسفه مشيئتها، و

واللوزية والحوراء التي تغشاها ليالً نهارا في هذه المدينـة، أم أنك فشلت في أن تنـال مـنهن ،دون أن تكشف لها سترا

فتقوقعت على ذاتـك وعشـت ، أو تقضي منهن وطرا ،شيًئا وتعصبت ألفكارك وقضـاياك المهجـورة ،حبيسا ألوهامك

. القديمة

Page 224: 577

-٢٢٢-

فتروي للنـاس أخبـار ،ك أن تقتدي بأقرانك هنا ما ضر غزواتك الوهمية لحصون نساء الفرنجة، ومغامرات هجرتك الشمالية مع أنسيات مجبوالت بالعشق والشبق على الشواطئ الالزوردية في لحظات األصيل المغسولة بـالعطر والمـاء

وفي المساءات الليلية بجانب جداول الماء المطوقـة ،الزهر . والطواحين الحمراءبالخضرة

أما كان أجدى أن تبيع الوهم والحكايات السارة إلى قـوم . يندر في أرضهم الماء والزرع واألخبار السعيدة

إيه يا طريد القوم لقد كان الذين سبقوك بقرون أكثر منك فتغنوا بظبية حجازية لم يلتقوا بهـا، وتشـببوا ،فطنة ودهاء

وهم وأيم اهللا لم يروهـا، ،ربعيون المها بين الرصافة والجس ولكنهم كانت تتراءى لهم ذبابة سـيف الخليفـة تلمـع بـين

وتغنوا بما لـم ،وسهم بين الجفنة والزق ، فدفنوا رء نواظرهم ! يروه ورآه الخليفة

فمـن ، وشاع الخبر ،إذا شم جيرانك رائحة جثتك المتعفنة أما هؤالء الذين لفظتهم بيروت فجاءوا يحملـون . يغضب لك

، فلن يحفلوا بـك ؛وراقهم وأقالمهم باحثين عن سوق نخاسة أوستنتصب سوقهم في مقهـى . شيًئا ولن يغيروا من عاداتهم

Page 225: 577

-٢٢٣-

قـونهم لح، ويأتي رسل أربـاب النعمـة فيت ككل يوم " يكلون" رغيد، وينفتح بـاب العـرض والصـفقات؛ كالذباب على ال

ومـن ، ومهن أخرى، صحفيين، كتبة، مستشارين، متعاونين فيهمسـون ،ضاعتهم يجدون ما يسرون به عن أنفسهم تبور ب ثـم يجتـرون ون ويسخرون من الذين حالفهم الحظ، ويلمز

وترنو أبصارهم إلى سيقان النساء الالئي يهـبطن ،ذكرياتهمساللم الصالة العليا من المقهى، ويشـتهون أكفـان الالئـي

سـالحهم الصـبر ،ولكنهم يظلون متربصين . يصعدن إليها . سوق يوم جديدوأملهم في

أم تراك تنوي التضحية بحياتك من أجل قوم يعيشون أبد إلى أن ينتصر عليه مغـامر ،الدهر مستسلمين لحكم طاغية

، آخر، فيصيرون غنيمة للطاغية الجديـد يهتفـون باسـمه وهل . إلى مغامر آخر ويدعون له بطول العمر إلى أن يئولوا

وبقاء كـل ،رببعد احتالل بيروت والقتال تحت رايات الغ فهـل ا في ذلك شرعية الحكام وألوهيتهم؛ شيء على حاله بم

بعد كل هذا ـ يا كثير النسيان ـ يستطيع أحـد أن يـراهن على هؤالء القوم دون أن يكون أحمق؟

Page 226: 577

-٢٢٤-

فيختفي وجـه الجـدار ،يضغط عدنان على زر الكهرباء خلف ستارة الظالم، ويغزو الحجرة الصمت في انتظار يـوم

وال مليًئـا بمواعيـد ،نه ليس بداية أسبوع جديـد ولك ،آخر . النساء

Page 227: 577

-٢٢٥-

))٨٨(( وعدنان يتجول في شوارع ،منذ بداية النهار وحتى المساء

ديـوان "ي توزيع نسخ الطبعة الثانيـة مـن باريس منهمكًا ف وهـو يقـوم ،"عواد الخلعـي "، فلم يأبه لتحذيرات "الفضيحة

. يان على مائتي نسخةبتسليمه صندوقين من الكرتون يحتو يرد عليه عدنان راويا له قصة لقائه مـع الشـاب بـائع

قبـل أن يتركـه " عواد"المخدرات، ثم يضع يده على كتف : قائالً

ـ إذا كان ذلك الشاب الذي يبحث عـن حـل لقضـيته الشخصية بوسيلة غاية في السوء والخطورة، لم يثنه الخوف

ا كبيـرة أن ال يحـول عما يريد، فاألولى بمن لديهم قضـاي . الخوف بينهم وبين ما يريدون فعله

: وهو يردد" الخلعيعواد"يودعه

Page 228: 577

-٢٢٦-

ني آدم رأسـه ناشـفة مثـل هـا أبعمري ما شفت ب " ـ ". الزلمى

عند منتصف الليل دائما يقرع الجرس الكبيـر فـي قبـة ه في الشوارع الخلفية يسة السوربون القديمة، فتتردد أصداؤ كن

، بينمـا "مفتار"، وشارع "البانتيون"، ما بين ئةالصغيرة الهاد تضيع بقية األصـداء وال تكـاد تسـمع وسـط ضوضـاء

سان "آالف السائرين على أرصفة شارعي السيارات، وأرجل ن يسـمعها غير أن عـدنان كـا ". سان جيرمان "، و "ميشيل

وذلـك ألن ليلـة ؛"سان ميشيل"بوضوح، وهو يصعد شارع ي الالتيني خاصـة أقـل ازدحامـا االثنين تبدو باريس والح

فالناس ال يفضلون الخروج والسهر في ليلة أول أيام ،وحركة . أسبوع العمل

انفك يلتقيه منذ يلمح عدنان عن بعد خيال الرجل الذي ما . كلما صعد هذا الشارع في مثل هذه الساعة من الليلسنوات

. إنه الرجل الذي يلقبه عدنان بالعربي األحولل يلتف في البالطو األشهب القصير طـوال هـذه ما يزا . ولعله منذ سنوات طويلة قبل ذلك،السنوات

Page 229: 577

-٢٢٧-

صحيفة ملفوفة في يده اليسرى التي يختفي منهـا ثالثـة بين سيجارته تحتضر على الدوام . أصابع داخل جيب البالطو

آلية ال تتغير حتى في هذه خطوات سيره . أصابع يده اليمنى مد ثلجها كالزجاج على طول رصـيف ي يتج الليلة الباردة الت

وال فـي ،، فليس هناك ما يشده إلـى المكـان "سان ميشيل " . انتظاره ثمة ما يشتاق إليه

يخرج عدنان من حقيبته واحدة من النسخ المتبقيـة مـن ثم يدنو من صاحبه معترضا طريقه، فيبدو على هـذا ،كتابه

إلى عدنان األخير االرتياب وهو يقصر من خطواته، وينظر الذي يبادره بإلقاء تحية المساء باللغة العربية، فيتوقف الرجل عن السير ويرد عليه تحيته، وعلى وجهه عالمات االستفسار عن السبب الذي دفع بهذا الصعلوك األعرج إلى الحديث معه

طريقهما مئات الليالي بعد كل هذه السنوات التي توازت فيها إليه عدنان يـده بنسـخة مـن يمد " سان ميشيل "في شارع

: الكتاب أن فـأرجو . الذي صدر منذ أيام ـ هذه نسخة من كتابي

. تقبلها

Page 230: 577

-٢٢٨-

ثم يلقي نظرة سـريعة علـى ،فيتناولها منه بتردد وحيرة وتنفرج زاوية فمه قليالً، فيعتبرها عدنان ابتسـامة ،العنوان بينما يضم هو الكتاب إلى الصحيفة في يد واحدة، ثـم ،رضا : بل أن ينصرفيقول ق

. ـ ال بأسيستأنفان طريقيهما ويتباعدان وفي نفسيهما أشـياء كـان

. يمكن أن يقولها كل منهما إلى اآلخر ولم يجـد أثـرا ،فليهز عدنان كتفيه وهو يلتفت إلى الخ

". سان ميشيل"احبه الذي غاب خلف تعرجات شارع لص

Page 231: 577

-٢٢٩-

))٩٩(( صفح صـحيفة فـي يت" جان كلود "لم يسبق ألحد أن رأى

" فـرانس سـوار "، غير أن صحيفة " اسكارب كونتر"مقهى نجمة فـيلم " جاكلين"ساء مقابلة مع نشرت في عددها لهذا الم

ن شاهد صورتها حتى تنـاول ، وما إ "عاصفة في الصحراء "ن يتناقشون حـول بينما كان اآلخرو ،الصحيفة وأخذ يقرأها

با صغيرا ضائعا كل" مسيو بينو "مشكلة هذا المساء؛ فقد وجد . فحمله معه إلى المقهى،مقرورا في الشارع

باللوم على " مسيو بينو "، وألقى اهتاج الجميع لهذه المأساة الحكومة التي لم تستصدر قانونًا حتـى اآلن يعاقـب الـذين

. يسيئون معاملة كالبهم بعقوبات صارمة

كان يخاطب الكلب المنبطح عند قدميه وهو ينظـر إليـه : ين تكادان تدمعانبعين

Page 232: 577

-٢٣٠-

ولكن ماذا بإمكاني أن أفعل ألجلـك يـا . ـ إنها جريمة . صديقيفي الحديث عن القوانين مناسبة للتعبير " جورج"ينما يجد ب

عن رأيه المعارض لسياسة الحكومة، التي يطلق عليها دائما الذي ال يصدر سـوى ،تسمية التحالف االشتراكي الشيوعي

ى الجريمة وعلى فتح أبواب فرنسـا القوانين التي تشجع عل . أمام كل الشرور

" جورج"آلراء جماعة تصديا أكثر أعضاء ال " جيرار"ولكن ة حكومة اليسار، المحافظة والمعارضة جملة وتفصيالً لسياس

يمر دون أن يسـخر منـه واصـفًا " جورج"ال يترك تعليق بأنه يعاني من عقدة حكومة اليسار؛ بحيث ال يتـرك صديقه

كاملة بما في ذلـك سـوء ويحملها فيها المسئولية اسبة إال من . الفرنسيين لكالبهممعاملة بعضيعيش في شبه بطالة منذ سنوات، ولـم " جيرار"رغم أن

يطرأ على وضعه أي تغيير حتى بعيد وصول اليسـار إلـى يـزال إال أنه ما يزال متمسكًا بموقفه المؤيد لهم، وال ،الحكم

المخضـرمين " كـونتر اسـكارب "قهـى الكثير من زبائن م ي االنتخابات الرئاسية؛ يتذكرون ما فعله ليلة أن فاز اليسار ف

Page 233: 577

-٢٣١-

، وخرج عـن حيث دعا الموجودين لتناول الجعة على حسابه ليلة مطيرة من شهر مـايو عـام شهرطوره من الفرح في أ

١٩٨١ . ، ويتأمـل صـورة من قراءة المقابلـة " جان كلود "ينتهي

عيد الصحيفة إلى مكانها دون أن يتصفح بقيـة ، ثم ي "جاكلين"حتى عندما كان " فرانس سوار "اء صفحاتها، فهو ليس من قر

لم يدل بصـوته فـي أي ورغم أنه . شغوفًا بقراءة الصحف إال أنه كثيرا مـا ،انتخابات منذ عشرين عاما حسب روايته

السياسية، غير أنه في هذه الليلة لـم " جورج"يتصدى آلراء ، فاسـتند في النقاش الذي يجري بين جيرار وجورج يتدخل

بعد أن ألقى نظرة على مكـان صـديقه " ارالب"على صندوق . عدنان الشاغر في الزاوية المنسية

أن عدنان لن يأتي على " جان كلود "وهذا يعني بالنسبة إلى األغلب هذه الليلة، فهو يعرف من تجربته مع صديقه طـوال

تأخر حتى هذه الساعة إذا كان في نيته هذه السنوات بأنه ال ي . المجيء

نخـب " جان كلـود "ما الليلة الماضية شرب أثناء سهرته : وهو يقول بصوت مسموع؛ديوان عدنان الجديد

Page 234: 577

-٢٣٢-

. ـ هذا نخب ديوان الشعر الذي أصدره صديقي ،نـادل المقهـى " باتريك"كن لم يكترث أحد بالنبأ ما عدا ل

ما إذا كـان " إلى جان كلود وهو يناول الكأس الذي تساءل، رأسه " باتريك"أنه بالعربية فيهز ، فيجيبه ب "الديوان بالفرنسية

وإن كانت هذه اإليماءة تعني أيضا في اللحظة ذاتها ،مجاملة . من األهميةبأن األمر خاٍل

سيكون هو األهـم بالنسـبة إلـى " جوهيل"كان رد فعل .ها كانت غائبة في تلك الليلة، ولكنعدنان

هاتفيا بمركز المعلومات الخاص بالكالب " جورج"يتصل ويقدم لهم المعلومات التي اسـتقاها مـن القطعـة ،الضائعة

المعدنية المعلقة في رقبة الكلب، فلعل صاحبه يتصل بـدوره ه على المكان الذي يوجد به كلبه، بينما تقـرر بالمركز فيدلو

ا إلى حين أن تصطحب الكلب معها ليبقى في منزله " جوهيل"زوجها لم يرق لـه هـذا " دانيال"ظهور صاحبه، ورغم أن

كلب مريضا أو لـه عـادات وحذرها من أن يكون ال ،القرار وسحبت الكلـب نحوهـا ، أنها لم تكترث بتحفظاته سيئة، إال

فهـدأت ،فتكوم تحت قدميها، وأخذت تداعبه وتمسد جبهتـه ، وعاد " اسكارب كونتر"لزوبعة واستقرت األمور في مقهى ا

Page 235: 577

-٢٣٣-

متلهيـا ،إلى تصفح ما تبقى من صفحات جريدتـه " جورج"مسيو " واألخبار المتفرقة، بينما أخذ بقراءة الحوادث الهامشية

بعد أن تخلص من مشكلة الكلب يجيل نظراته بين نساء " بينو . بحثًا عن فرصة مع إحداهن؛المقهى الكثيرات هذه الليلة

،"البـار " حافـة الصمت على " جان كلود "حينما يحاصر :قاطع أغنيتهوينشغل عنه اآلخرون يدندن بم . تاهت قدماي بين سفر وسفر

أغواني شعاع األصيل فأدركته قبل أن يصير أرجوانيـا . واقتطفت منه باقة بنفسجية ربطتها بقوس قزح

يداي مثقلتان وقدماي تائهتان بين سفر وسفر، لكنني بـين فما أروعه لـو . هذا العالم الشعاعين لم ألتق بشيء آخر غير

.! لم يكن سيًئا : وتمازحه قائلة" جوهيل"ي إليه تأت

جـان "ء يتغذى كالهما من اآلخر، فيهز ـ الروعة والسو : وسيم باريس رأسا باسما وهو يقول" كلود

. ـ إنها مجرد تخاريف عجوز هرم أيتها اليمامة

Page 236: 577

-٢٣٤-

له ، ثـم تسـأ تناكفه فتخلع عنه قبعته وتضعها على رأسها . التي قرأها هذا المساء" جاكلين"رأيه عن مقابلة

: وهو يرفع رأسه قائالً،عن القراءة" جورج"يتوقف . ـ هل هذا معقول؟

: متسائالً" جان كلود"ثم يلتفت إلى . ـ هل كان صديقك العربي هنا الليلة الماضية؟

بدهشة بأنهما شربا معا نخب ديوانـه " جان كلود "فيجيبه . وال يعرف لماذا تأخر هذه الليلة ،الجديد : وهو يعيد إحكام نظراته" جورج"ول يق

أطلق رجل مسلح الليلة الماضية : ـ إذن اسمع هذا الخبر ، فـأرداه قتـيالً ،عيارين ناريين على الجئ سياسي عربـي

وتقـول . وتمكن بعد ذلك من الهرب على ظهر دراجة نارية بدو ينتظر ضـحيته ما ي مصادر الشرطة بأن القاتل كان على

كـونتر "، بعد خروجه من مقهى "ليموانكاردينال "في شارع ". اسكارب

أنه، و ليقرأ الخبر بنفسه " جورج"الجريدة من " جان كلود "ينتزع : ولهجتها مشحونة بصدمة" جوهيل"، وتقول ال يثق في قراءته

Page 237: 577

-٢٣٥-

سحب راجعة إلى زوجها، بينمـا ـ يا لهذه الوحشية ثم ت فلـم يسـمع ، منشغالً بمغازلة إحدى النساء "مسيو بينو " كان

. الخبر أو لم يهمه فلم يعلق بشيء وهو يرمق زوجتـه ، فقال بلهجة باردة هادئة ؛"دانيال"أما

: التي احتضنت الكلب الضالولو كان هـو . ـ هؤالء قوم ال يتفاهمون بغير هذه اللغة !.الحاكم لفعل مع معارضيه هذه الفعلة نفسها

ويمط شـفتيه ،كتفيه بعد لحظة من الصمت يهز " جيرار"ما بينهما من هواء، محـدثًا صـوتًا علـى الطريقـة ة لينفخ

. ال يكون هناك ما يمكن قوله الفرنسية المعتادة عندما وتتبعثر صفحاتها ،"جان كلود "تسقط الجريدة من بين يدي

فيضع يديه في جيوب البالطو ويخرج متثاقالً ،على األرض مت، فلم يعد ثمة ما يدعو للبقاء هذه الليلـة يجر خطاه في ص

بعد أن أمسى صديقه خبرا هامشيا من بضـعة أسـطر فـي ها تحت أقدام الساهرين فـي صحيفة مهملة، تناثرت صفحات

". اسكاربكونتر"مقهى