63
1 ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺒﺭﺘﻘﺎل ﻟﺤﺯﻴﻥ ﺇﻟﻰ ﻤﻥ ﺍﺴﺘﺸﻬﺩ ﻓﻲ ﺴﺒﻴل ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺒﺭﺘﻘﺎل ﺍﻟﺤﺯﻴﻥ... ﻭﺇﻟﻰ ﻤﻥ ﻟﻡ ﻴﺴﺘﺸﻬﺩ ﺒﻌﺩ.. ﻏﺴﺎﻥ ﻜﻨﻔﺎﻨﻲ ﺃﺒﻌﺩ ﻤﻥ ﺍﻟﺤﺩﻭﺩ ﺼﻌﺩ ﺍﻟﺭﺠل ﺍﻟﻬﺎﻡ ﺍﻟﺩﺭﺠﺎﺕ ﺍﻟﻘﻠﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺒﻴﺘﻪ، ﻓﺘﺢ ﻟﻪ ﺍﻟﺒﺎﺏ، ﺃﻟﻘﻰ ﻤﺤﻔﻅﺘﻪ ﺍﻟﺠﻠﺩﻴﺔ ﻓﻭﻕ ﺍﻟﻁﺎﻭﻟﺔ، ﻗﺒل ﺯﻭﺠﺘﻪ، ﻨﻅﺭ ﺇﻟﻰ ﻁﻔﻠﻪ ﺍﻟﻨﺎﺌﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺭﻴﺭ ﺍﻷﺯ ﺭﻕ، ﻓﻙ ﺭﺒﺎﻁ ﻋﻨﻘﻪ، ﺴﺎﻋﺩﻩ ﺍﻟﺨﺎﺩﻡ ﻋﻠﻰ ﺨﻠﻊ ﺤﺫﺍﺌﻪ، ﺃﺨﺫﺕ ﺯﻭﺠﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﻁﻑ، ﻋﻠﻘﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺸﺠﺏ، ﻓﺭﻙ ﻴﺩﻴﻪ ﻤﺴﺘﻤﺘﻌﺎﹰ ﺒﺎﻟﺩﻑﺀ.. - ﺃﺘﺭﻴﺩ ﺃﻥ ﺘﺘﻨﺎﻭل ﻋﺸﺎﺀﻙ ﺍﻵﻥ؟- ﺃﻭﻩ ﻨﻌﻡ، ﺃﻨﺎ ﺠﺎﺌﻊ ﺠﺩﺍﹰ.. ﺍﺴﺘﺩﺍﺭﺕ ﺯﻭﺠﺘﻪ ﺫﺍﻫﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺨﺎﺭﺝ ﺍﻟﻐﺭﻓﺔ، ﺭﻏﺭﻍ ﺍﻟﺼﻐﻴﺭ ﻓﻲ ﺤﺭﻴﺭﻩ ﺍﻷﺯﺭﻕ، ﺃﺼﻭﺍﺕ ﺍﻟﺼﺤﻭﻥ ﺘﺄﺘﻲ ﺇﻟﻴﻪ ﻤﺨﺩﺭ ﺓ ﻤﻥ ﻭﺭﺍﺀ ﺒﺎﺏ ﻏﺭﻓﺔ ﺍﻟﻁﻌﺎﻡ، ﺜﻡ ﺼﻭﺕ ﺯﻭﺠﺘﻪ: - ﻫل ﻤﺴﻜﺘﻤﻭﻩ؟- ﻤﻥ؟- ﺍﻟﺸﺎﺏ ﺍﻟﺫﻱ ﻗﻔﺯ ﻤﻥ ﺍﻟﻨﺎﻓﺫﺓ ﺃﺜﻨﺎﺀ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻕ.. - ﻟﻴﺱ ﺒﻌﺩ ﻭﻟﻜﻥ ﺃﻴﻥ ﻴﺭﻴﺩ ﺃﻥ ﻴﻔﺭ؟ ﺴﻴﻜﻭﻥ ﻤﺂﻟﻪ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﺒﻴﻥ ﺴﺎﻋﺔ ﻭﺃﺨﺭﻯ.. - ﻤﺎﺫﺍ ﻜﺎﻨﺕ ﺠﺭﻴﻤﺘﻪ ﺒﺎﻟﻀﺒﻁ؟- ﻤﻥ ﺃﻴﻥ ﻟﻲ ﺃﻥ ﺃﺩﺭﻱ؟ ﻟﻘﺩ ﻁﻠﺏ ﻤﻘﺎﺒﻠﺘﻲ ﺜﻡ ﻫﺭﺏ..

أرض البرتقال الحزين

Embed Size (px)

DESCRIPTION

 

Citation preview

Page 1: أرض البرتقال الحزين

1

لحزيناأرض البرتقال

...إلى من استشهد في سبيل أرض البرتقال الحزين

..وإلى من لم يستشهد بعد

غسان كنفاني

أبعد من الحدود

ألقى محفظته الجلدية صعد الرجل الهام الدرجات القليلة إلى بيته، فتح له الباب،

رق، فك رباط فوق الطاولة، قبل زوجته، نظر إلى طفله النائم في الحرير األز

عنقه، ساعده الخادم على خلع حذائه، أخذت زوجته المعطف، علقته على

..المشجب، فرك يديه مستمتعا بالدفء

أتريد أن تتناول عشاءك اآلن؟-

..أوه نعم، أنا جائع جدا-

استدارت زوجته ذاهبة إلى خارج الغرفة، رغرغ الصغير في حريره األزرق،

:ة من وراء باب غرفة الطعام، ثم صوت زوجتهأصوات الصحون تأتي إليه مخدر

هل مسكتموه؟-

من؟-

..الشاب الذي قفز من النافذة أثناء التحقيق-

..ليس بعد ولكن أين يريد أن يفر؟ سيكون مآله إلينا بين ساعة وأخرى-

ماذا كانت جريمته بالضبط؟-

..من أين لي أن أدري؟ لقد طلب مقابلتي ثم هرب-

Page 2: أرض البرتقال الحزين

2

تعل شحاطته ذات الفرو، اجتاز الباب إلى غرفة الطعام، قام عن الكرسي الوثير، ان

جلس في كرسيه المفضل، قرب وجهه من صحن الحساء واستمتع بالبخار

..المتصاعد منه

.هذا الحساء ساخن جدا، سيحرقني-

..عليك أن تنتظر برهة-

أنا مرهق جدا اليوم-

لق بعنف، تراخى في كرسيه وأحس بثقل يتمدد في جفنيه، سمع صوت شباك ينغ

أحس برغبة جامحة في .. زوجته تنسى دائما شباك الحمام مفتوحا فتلعب به الريح

؟ كلهم ن بأن يؤذي نفسهكيف استطاع ذلك الشقي أن يثب من الشباك دو.. النوم

..شياطين مجرمون

"سوف ألقي خطابا أمامك"-

بالدفء سمع هذه الجمالة بوضوح فحاول أن يرفع رأسه، إال أنه كان مستمتعا

تراه من يكون؟ : والنعاس، سأل نفسه

!"الشاب الذي هرب من النافذة، عاد من النافذة يا سيدي"-

كان بخار .. ومرة أخرى لم يشأ أن يرفع رأسه رغم أنه أحس بشيء من الرعب

ال شك "دافئة، قال لنفسه الحساء ما زال يتصاعد فيحمل إلى وجهه نكهة رطوبة

أنا أفكر به اآلن ألن حاستي السادسة نامية، أنا أثق ..أنهم أمسكوا ذلك الشاب

"..بها

"لن تقاطعني يا سيدي، أليس كذلك؟ أريد أن ألقي خطابا-

"ال، لن أقاطعغك" -

إنها اللحظات .. لم يعد بوسعه، اآلن، بأن يفتح عينيه ورغم ذلك فهو لم ينم بعد

يعرف جيدا هذه اللحظات، القليلة العائمة التي تسبق النوم مباشرة، هكذا فكر، إنه

..ويمتصها، نصف واع، حتى الثمالة

اسمح لي يا سيدي أن أرتجف أمامك ريثما يبرد الحساء، أنت لن تمنعني " -

شيء .. من االرتجاف، أليس كذلك؟ إنه حق ما زال متوفرا لي حتى اآلن

إن رجالك ال يستطيعون أن يمنعوني من ذلك، .. مؤسف ولكنه حقيقة واقعة

Page 3: أرض البرتقال الحزين

3

أليس االرتجاف حركة؟ ولكن كيف يتعين .. أنهم يرغبون في ذلكأعتقد

"عليهم أن يفعلوا؟ أيعطوني معطفا؟ كيف، يعطون الخنزير معطفا؟

هز رأسه في محاولة عنيفة إلبعاد الصوت الحاد إال أن الحروف كانت تتكلب في

..صدغيه كالعلق

الذي يحتوي ال تحاول أن تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف/ ال يا سيدي"-

تريد أن تعرف شيئا عني؟ .. على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي

لي أم ماتت تحت أنقاض بيت : هل يهمك ذلك؟ أحسب على أصابعك إذن

بناه لها أبي في صفد، أبي يقيم في قطر آخر وليس بوسعي االلتحاق به وال

مدارس الوكالة، لي رؤيته وال زيارته، لي أخ، يا سيدي، يتعلم الذل في

أخت تزوجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي، لي

تريد أن .. أخ آخر، يا سيدي، في مكان ما لم يتيسر لي أن أهتدي إليه بعد

تعرف جريمتي؟ هل يهمك حقا أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي؟

أس موظف لقد سكبت دون أن أعي، كل محتويات وعاء الحليب فوق ر

في لحظة جنون أم لحظة عقل، ال أدري .. وقلت له أنني ال أريد بيع وطني

.. لقد وضعوني في زنزانة سحيقة العمق لكي أقول أنها لحظة جنون..

ولكنني، في تلك الزنزانة، تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت

..لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها

شدة البرد يا سيدي، ال تخف أنا ال أحمل سالحا إذا هذا صوت أسناني تصطك من

كنت تعتقد أن أسناني ليست سالحا، إن ساقي عاريتان ممزقتان ألنني قفزت من

نافذتك، وقد خطرت لبالي فكرة صغيرة وأنا أمعن في الركض مبتعدا عن غرفتك

وهي أن هذا الدم الذي سال من ساقي قد تفجر من جروح هي أول وحرسك

وال أريد أن أخفي عنك شيئا، . وحي، وإن ذلك، للعجب، ال يحدث على الحدودجر

لقد بعث ذلك في شيئا يشبه الخجل ولكنه كان خجال حزينا بائسا ما لبث .. يا سيدي

ذلك الخجل هو الذي دفعني ألعود إليك من النافذة، أم نويبدو أ..أن صار دمعا

سمعتها وأنا أثب من النافذة وكانت آخر ما تك األخيرة، التيتراني عدت ألن كلما

Page 4: أرض البرتقال الحزين

4

كلمة ناشفة انهمرت ورائي وأنا : سمعت منك، ما تزال تنخر في رأسي كالمثقب

"!امسكوه.. الخنزير: "أقفز

أتسمح لي أن أكونه؟ .. يا سيدي، أنا إذن خنزير حقير

ولكن لو قلت الصدق هذا، بصوت أعلى، .. أنا لست أشعر ذلك إذا أردت الصدق

وإذا أغلقوا وراء ظهري المزالج فمن يستطيع أن . ن لزجوا بي في السجنإذ

أتعرف لماذا يا سيدي؟ .! يفتحه؟ أنت؟ وال حتى من هو أعلى منك قيمة ومركزا

ألنني، في الواقع، لست إال تجارة من نوع نادر، فأنت ستسأل نفسك إذا قدر لك أن

!" ال شيء: "لجواب بكل بساطةوا" وماذا سأستفيد من إطالقه؟: ".. تسمع بالخبر

فأنا لست صوتا انتخابيا، وأنا لست مواطنا، بأي شكل من األشكال، وأنا لست

وأنا ممنوع .. منحدرا من صلب دولة تسأل بين الفينة واألخرى عن أخبار رعاياها

وماذا ستخسر إذا .. من حق االحتجاج، ومن حق الصراخ فماذا ستربح؟ ال شيء

خذ هذه "إذن لماذا التفكير الطويل؟ ! المزالج؟ ال شيء أيضابقيت أنا وراء

أرأيت؟ مشكلة ال أبسط وال !" األوراق يا ولد وال تزعجني بمثلها مرة أخرى

!أسهل

أنت تعرف، ال بد، أن .. لقد فكرت في األمر مطوال في المدة األخيرة يا سيدي

لقد كنت ماشيا في . .الواحد منا ما زال يستطيع أن يفكر بين الفينة واألخرى

الشارع وفجأة سقطت الفكرة في رأسي كلوح زجاج كبير ما لبث أن تكسر

" ثم ماذا؟.. أوف" : قلت لنفسي.. وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل

وأنت ترى، إنه مجرد سؤال صغير، يمكن للمرء أن يطرحه ولو بعد خمسة عشر

إذ .. ؤال كان صلبا وناشفا وأكاد أقول نهائياولكن العجيب هذه المرة أن الس.. سنة

" : وقلت لنفسي.. أنه، فور أن سقط في رأسي، انفتح خندق مظلم طويل بال نهاية

لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكر في .. ال بد أن أكون موجودا رغم كل شيء

ني ما ولكن.. ، يشهد اهللا، جهدا عجيبا من أجل ذلك..وبذلوا.. فنجان شاي ساخن

هذا " ثم ماذا؟: "إال أن السؤال كان ما يزال يعوي" ت..أزال موجودا رغم كل شيء

النوع من األسئلة با سيدي عجيب للغاية، ذلك أنه إذا ما أتى لن يكون بوسعه أن

!يبرح قبل أن يروي ظمأه تماما

Page 5: أرض البرتقال الحزين

5

ثم دعني أقول ذلك، " ثم ماذا"يبدو أن ليس ثمة : نعم، ثم ماذ؟ دعني أقول همسا

ليس بوسعي أن ! قولوا عني حتى إنني خائن.. قولوا عني أنني يائس جبان هارب

إن الحقيقة يا سيدي مروعة، وهي تملؤني بغزارة حتى ألحس .. أكتم الجواب أكثر

ثم "أتسمع يا سيدي؟ ليس ثمة .. بأنني، ذات يوم، قد أنفجر من فرط ما عبأتني

نا كلنا، خطا مستقيما يسير بهدوء وذلة وتبدو لي حياتي، حيات.. على اإلطالق" ماذا

..ولكن الخطين متوازيان، ولن يلتقيا.. إلى جانب خط قضيتي

!يا سيدي

ألقرر هذه الحقيقة، فإن إن كنت أنا قد جمعت طوال فترة قاسية شجاعة خارقة

.. الشرف كله ليس لي، أنا لي شرف القول فقط وأنتم تحتفظون بكل شرف التأليف

م أنتم الذين أعددتموني ساعة إثر ساعة ويوما إثر يوم وعاما إثر ألست ترى أنك

عام لهذه النتيجة؟

. لقد حاولتم تذويبي يا سيدي؟ حاولتم ذلك بجهد متواصل ال يكل وال يمل يا سيدي

أفلحتم إلى حد بعيد وخارق، ألست ! هل أكون مغرورا فأقول بأنكم لم تفلحوا؟ بلى

لست .. رة قادرة، من إنسان إلى حالة؟ أنا إذن حالةترى أنكم استطعتم نقلي، بقد

وألنني حالة، أننا حالة، فنحن نستوي بشكل .. أعلى من ذلك قط، وقد أكون أدنى

، إنه عمل رائع يا سيدي، عمل رائع جدا رغم أنه احتاج إلى فترة طويلة! مذهل

يس عمال ولكن يا سيدي، إن تذويب مليون إنسان معا، ثم جعلهم شيئا واحدا ل

لقد افقدتم أولئك .. سهال، ولذلك أعتقد أنك تسمح له إن احتاج ذلك الوقت الطويل

ولستم في حاجة، اآلن، إلى تمييز وتصنيف، أنتم .. المليون صفاتهم الفردية المميزة

خيانة؟ كلهم، .. فإذا خطر لكم أن تسموها لصوصية، فإنهم لصوص.. أمام حالة

والتعب والنظرات البشرية المعقدة؟فلماذا اإلرهاق ! إذن خونة

ال تتعجل على فهمي البيطيء، أنا أريد أن أقول أيضا إنهم من ناحية .. سيدي

إنهم، أوال، قيمة سياحية، فكل زائر يجب أن يذهب إلى ".. حالة تجارية"أخرى،

المخيمات، وعلى الالجئين أن يقفوا بالصف وأن يطلقوا وجوههم بكل األسى

ثم .. ة على األصل، فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور، ويحزن قليالزيادالممكن،

ثم إنهم، " زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أن ينقرضوا: "يذهب إلى بلده ويقول

Page 6: أرض البرتقال الحزين

6

ثانيا، قيمة زعامية، فهم مادة الخطابات الوطنية واللفتات اإلنسانية والمزايدات

ة من مؤسسات الحياة السياسية وأنت ترى، يا سيدي، لقد أصبحوا مؤسس.. الشعبية

! التي تدر الربح يمينا ويسارا

لقد .. هذه حقيقة مروعة، ولكنها حقيقة على أية حال"! ثم"سيدي، ليس هناك أي

مجرد خنزير، وأنا، كجماعة، حالة / تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم، أنا كفرد

طويال قبل أن أصرح لقد فكرت .. ذات قيمة تجارية وسياحية وسياحية وزعامية

هذا خائن جبان متخاذل : بهذا االكتشاف، وأنا أعرف بأن المنابر ستمتلئ بمن يقول

هارب، ال بأس، لن ينالني العار أكثر مما نالني، وبعد خمسة عشر عاما ال بأس

أن تكونوا زعماء اإلخالص ورجال المعركة واألبطال الصناديد الذين ال ييأسون

..وال يهربون

نحن مثال أكثر جماعة ... إن مؤسستنا تقدم خدمات أخرى ال يحصيها العد! سيدي

األحوال السياسية مستعصية صعبة؟ .. مالئمة من أجل أن تكون مادة درس للبقية

أعط ! اسجن بعض الالجئين، بل كلهم إن استطعت! إذن، اضرب المخيمات

كان لديك جماعة ولماذا تؤذيهم إذا .. مواطنيك درسا قاسيا دون أن تؤذيهم

مخصصة تستطيع أن تجري تجاربك في ساحاتها؟ أريد أن ألفت نظرك يا سيدي

إلى أمور كثيرة أخرى، أنت تستطيع أن تؤكد والء مواطنيك عن طريق اإلدعاء

بان المتذمرين إنما هم بعض الفلسطينيين، وإذا فشل مشروع من مشاريعك فقل أن

ه أمر ال يحتاج إلى تفكير طويل، قل إنهم الفلسطينيين سبب ذلك الفشل، كيف؟ أن

أو أي شيء آخر، إذ ما من .. أو أنهم رغبوا في المشاركة.. مروا من هناك مثال

ولماذا ينبري؟ من يملك، بعد خمسة عشر عاما، جرأة .. أحد سينبري لمحاسبتك

التطويح بنفسه في القضاء دون هدف؟

تستطيع أن تشنق واحدا منا فتربي أنت .. يا سيدي، أنت ترى، نحن رحمة أحيانا

إال أننا .. بجسده الميت ألفا من الناس دون أن تحمل هما أو خوفا أو تأنيب ضمير

يا سيدي، نقمة في كثير من األحيان، نحن لصوص، نحن خونة، نحن بعنا أرضنا

..ونحن طماعون، طماعون نريد أن نمتص كل شيء هنا، حتى التراب.. للعدو

Page 7: أرض البرتقال الحزين

7

ولكن، يا سيدي، .. وعلينا أن نقوم به شئنا أم أبينا.. ر الذي رسم لناهذا هو الدو

إن كثيرا من الناس، .. هنالك مشكلة بسيطة تؤرقني واشعر أن ال بد لي من قولها

وأبشع ما في " ا1ثم ماذ"ما شعر أنه يشغل حيزا في المكان، يبدأ بالتساؤل، إذا

يشبه الجنون، فيقول يصاب بشيء .. اأبد" ثم"األمر أنه لو اكتشف بأن ليس له حق

والصراخ، يا سيدي "الموت أفضل منها!. أية حياة هذه: "لنفسه بصوت منخفض

!.أية حياة هذه: "عدوى، فإذا الجميع يصرخ دفعة واحدة

وألن الناس عادة ال يحبون الموت كثيرا فال بد أن يفكروا بأمر " الموت أفضل منها

.آخر

.. سيدي

!"ساؤك قد برد فاسمح لي أن أنصرفأخشى أن يكون ح

1962

Page 8: أرض البرتقال الحزين

8

األفق وراء البوابة

-1-

ال، ال يمكن أن يكون مرهقا .. قبل أن يصل إلى رأس السلم وقف ليلتقط أنفاسه

لقد أنزلته السيارة على باب .. إنه يعرف جيدا أنه ليس مرهقا أبدا.. إلى هذا الحد

..ى سلة صغيرة والسلم لم يكن طويال كما تصورالفندق، ثم إنه ال يحمل سو

ولكن هذه الدرجات الثالث األخيرة هي التي تحطمه دائما وتذوب ركبتيه وتهدم

..إصراره

هل يعود أدراجه؟ بدا له السؤال .. وضع السلة على السلم واتكأ بكتفه إلى الحائط

هل أعود؟ .. ناقوسعجيبا ولكنه لم يستطع أن يتخلص منه، كان يدق في رأسه كال

وفي دوامة التردد الذي أخذت تطوف في عروقه تذكر فجأة أنه كان قد وقف نفس

هذه الوقفة قبل عامين وسأل نفسه ذات السؤال، وبعد لحظة واحدة كر عائدا إلى

هل يعود أدراجه اآلن مرة أخرى؟ مد كفه إلى السلة .. السيارة، ثم غادر القدس

واندفع إلى فوق كأنه يقتلع نفسه اقتالعا من بحيرة فقبض على ذراعها بعنف

..طين

لقد حملت .. إنه من العار أن أكون جبانا إلى هذا الحد! هذه المرة لن أعود! ال

وعلي اآلن أن أغسله في .. على كتفي قدرا قميئا ثقيال طيلة عشر سنوات طويلة

ألرض المحتلة واألرض ظل بوابة مندلبوم، التي ترتفع فاصال من حجارة بين ا

..الباقية

ا للكذب الطويل الذي مارسته مختارا يجب أن أضع حد.. ال، هذه المرة لن أعود

..طوال عشر سنواتأو مرغما، لست أدري،

حين وصل قبل عامين إلى القدس كان قد عقد عزمه على أن يقابل أمه ويقول لها

شعر أنه لن يستطيع أن يمسح ولكنه في لحظة وقوفه على سلم الفندق .. كل شيء

Page 9: أرض البرتقال الحزين

9

أنا ودالل : "الكذب الطويل الذي ساقه على أمه عندما كان يراسل اإلذاعة قائال

فظا حتى انه لقد نمت الكذبة طيلة هذه السنوات العشر نموا .." بخير، طمنونا عنكم

.. لم يجد مبررا ليقول هذه الحقيقة مرة واحدة حاسمة وقاسية وربما قاتلة أيضا

وما من .. لك فضل يومها أن يكف عن صعود السلم، وكر عائدا إلى السيارةولذ

شك في أن أمه قد قضت طيلة ذلك الصباح واقفة في حلق البوابة تتطاول بعنقها

ولكن .. وما من شك في أنها أصيبت بخيبة أمل مريرة وفاجعة. باجثة بين الجموع

ك، بعد عشر سنوات، ليقول لها ذلك كله يبقى أسهل بكثير من أن يقف أمامها، هنا

..الحقيقة القاتلة

بسط كفها كانت العتمة قد بدأت ت.. استلقى في سريره وصالب ذراعيه تحت رأسه

ال بد من : فوق المدينة النائمة ولم يكن ثمة في الغرفة إال فكرة واحدة حاسمة

.!الذهاب غدا إلى مندلبوم

دفع إليه بشعرها األشيب ووجهها تلوح له بكفها المعروقة وسوف تن وغدا سوف

العجوز المبتل بالدموع، سوف تنهمر فوق صدره

وترجف كما يرجف طير صغير على وشك أن يموت، سوف تمرغ رأسها المكدود

نها بحبها المخذول فماذا عساه أن تجد الكلمة التي تستطيع أن تشحعلى وجهه دون

ي صدره؟ من أين يتوجب لها وهي تخفق فوق صدره كالقلب الذي يخفق ف يقول

عليه أن يبدأ؟

تقلب في فراشه وخيل إليه أنه يسمع وجيب قلبه يضرب في جسده كله كالوتر

المشدود، سوف يبدأ من البدء، منذ أن غادر يافا إلى عكا ليرى الفتاة التي كانت

إنه يذكر تلك اللحظة بكل دقائقها، كيف وقفت أمه على : أمه تزمع أن تخطبها له

تدعو له بالخير والتوفيق، وكانت خالته تقف إلى جانبها تشير له مطمئنة، هو السلم

يعرف أنها ستالزمها طيلة فترة غيابه، وكان يشد على ذراع أخته دالل التي

رغبت في مرافقته، فتاة غضة في العاشرة من عمرها تغادر الدار مع أخيها ألول

.مرة في حياتها

تهى وغير ما اشتهت فبعد أن غادر يافا بأيام ولكن األمور جرت على غير ما اش

العودة، لقد عانى كثيرا من القلق في تلك األيام قليلة انقطع الطريق واستحالت

Page 10: أرض البرتقال الحزين

10

السوداء التي أمضاها بعيدا عن أمه، ليس بسببه هو ولكن بسبب دالل التي تعني

وت ألمه كل شيء في البيت، هي التي تعطي العجوز نكهة الحياة حين يكون الم

.في الجوار، وهي التي تعني الحياة كلها حين تعني األشياء كلها الموت

م يهم بأية حالة، إنها تريد بال شك أن تعرف أمورا هذا القسم من القصة ل.. ال

.أكثر غموضا من هذا الجزء من القصة

ومرة أخرى تقلب في فراشه محتارا، كانت الغرفة تنوس بضوء شاحب مريض،

مثل شيء حي، لماذا ال يبدأ بالقصة من الصغيرة تتكئ على الجدار وكانت السلة

نهايتها؟ لماذا ال يحكي لها كيف دخل عكا وكيف جرت األمور بعد ذلك؟

ارتد مع من ارتد حين بد الظالم .. كان في الغرفة حين تفجرت جهم في وجهه

مجرد يطوي عكا، قاءت بندقيته القصيرة كل ما في جوفها ثم تحولت إلى عصا،

عصا ناشفة ال تصلح لشيء، ذهب إلى غرفته وعانق دالل، كانت تبكي في ظل

الرعب الذي خيم فوق المدينة، وقبل أن يعي، كانت األكتاف قد انهدت فوق الباب،

طر، ثم انكشف الدخان عن رصاصا كالموانفتح رشاش ثرثار فزرع في الغرفة

بي، ولكنه لم يتحرك، كانت دالل أربعة رجال يسدون أمام عينيه باب الغرفة الخش

ترتعش في دمها بالخفقات األخيرة من أنفاسها، وعندما شدها إلى صدره كأنه يريد

أن يسكب فيها قلبه ودمه، حدقت إليه ثم رفعت حاجبيها لتقول شيئا ولكن الموت

.سد الطريق أمام الكلمة

خته القتيل بين ذراعيه هل بكى؟ إنه ال يذكر شيئا اآلن، كل الذي يذكره أنه حمل أ

ارة ليستجدي دموعهم كما لو أن دموعه إلى الطريق يرفعها أمام عيون الموانطلق

الجسد الميت من بين وحدها ال تكفي، ليس يدري متى تيسر للناس أن ينتزعوا

ذراعيه، ولكنه يعرف أنه حين فقد أخته الميتة، حين ضيع جسدها البارد

أرضه وأهله وأمله، ولم يعد يهمه أن يفقد : يءبأنه فقد كل ش المتصلب، أحس

حياته ذاتها، ومن هنا مضى يضرب في الجبال، تاركا أرضه، هاربا من القدر

.الذي الحقه كالسوط

كذوبة الكبرى التي بناها في عشر سنوات، ستصير لو قال ذلك يكله النمحت األ

وان ابنها قد كذب أمه في تلك اللحظة تعرف أن دالل قد ماتت، منذ عشر سنوات

Page 11: أرض البرتقال الحزين

11

أنا ودالل : "طويال حين دأب على تكرار تلك الجملة الباردة عبر أسالك اإلذاعة

".بخير طمنونا عنكم

يجب أن يحررها .. نهض إلى النافذة ففتح الستائر القائمة وأخذ يحدق إلى الطريق

ن يجب أن يقول لها أمن الكذبة ويحرر نفسه من القدر األسود الذي حمله وحيدا،

دالل مدفونة هناك، وأن قبرها الصغير ال يجد من يضع عليه باقة زهر في كل

.عيد، وأنها، أمها، على بعد أشبار من قبر عزيز ال يتيسر لها أن تزوره

كان اللقاء في ظل البوابة الكبيرة باكرا صباح اليوم التالي، لم ير علي أمع فيما

لم يعرفها بادئ األمر، لكنها عرفته كان يتفرس بالوجوه، خالته فقط كانت هناك،

واستطاعت أن تدله على مكانها بين الجموع، وفي غمرة اللقاء سألته السؤال الذي

:أتى خصيصا ليجيب عليه

أين دالل؟-

وفي العينين الصغيرتين المترقبتين ذاب كل اإلصرار الذي حمله معه، كأن قوة

:حفية تمسكت بحلقه وأخذت تهزه بال هوادة

لم تقولي لي أين أمي ولكنك-

وتالقت العيون مرة أخرى، نقل علي السلة من يد إلى أخرى وحاول أن يقول

شيئا، ولكن حلقه كان مسدودا بغصة فوق ذراعه، وأتاه صوتها مشحونا بأسى

:ال يصدق

أين دالل-

دالل-

ومرة أخرى أحس بالضعف يأكل ركبتيه وبدا كأنه يدفع عن نفسه إحساسا

: ة باتجاه خالته1يده ومد السل رفع باإلغماء،

..خذي هذه السلة ألمي، فيها بعض اللوز األخضر-

ولم يستطع أن يكمل، كانت نظرة فاجعة قد انسكبت من عيني المرأة العجوز،

:وبدأت شفتها ترتجف، نظر وراء كتفها وأكمل بوهن

.كانت تحبه.. -

Page 12: أرض البرتقال الحزين

12

قبر أحس برغبة هائلة تدفع وفي فترة الصمت الواسعة التي انفتحت بينهما كألف

به إلى الفرار وكانت خالته تدور أصابعها في الحقيبة الصغيرة التي وضعت فيها

رداء دالل األخضر، كان إحساس مباشر يصل بين صدريهما، هي واقفة هناك

تأتلق عيناها بدمع صامت وهو يحس النصل الالمع يجرح حلقه، مد يده ورفع إليه

:بسؤال خافتوجهها ثم انتشل نفسه

كيف تركت يافا؟-

حاولت خالته أن تقول شيئا ولكنها لم تستطع، تزاحمت سيول من الكلمات في

حنجرتها فسكتت وابتسمت ابتسامة باهتة ال معنى لها، ثم مدت يدها الراجفة تمسخ

على كتفه بحنو كسيح فيما أخذ هو ينظر بهدوء إلى األفق الذي يقع خلف بوابة

.مندلبوم

1958- ت الكوي

Page 13: أرض البرتقال الحزين

13

السالح المحرم

-1-

كان أبو علي عائدا إلى داره، لقد أقفل دكانه قبل المغيب : يليالقصة كما بدأت

بسبب توعكه وأراد أن يذهب إلى البيت فيستريح على الكرسي الصغير أمام الباب

بما قبل أن يتناول عشاءه ويأوي على الفراش، ليس يدري سببا لتلك الوعكة، ر

كان الغداء الذي حمله معه في الصباح بعد أن وضعته ام علي في طاسة نحاسية

كبيرة قد فسد، ألنه من طبخ أمس، ربما كان الطقس الذي يتباين بين ساعة

وأخرى هو السبب، وعلى أي حال فضل أبو علي أن ال يبقى في الدكان، وإذا كان

ن بين األهل، بين ذراعي أم سمح اهللا، فليكن إذال بد من حدوث أي حادث، ال

.علي، وعلى مرأى من علي

هذا هو السبب الذي جعله يمر بساحة القرية في ذلك الوقت بالذات، ولو لم يصبه

..التوعك إذن لما كان مر من هناك، وإذن لما حدثت القصة كلها

على بعد خطوات منه في الطرف اآلخر للساحة المبلطة، كان بعض شباب القرية

يلتفون حول شيء ما بصورة دائرية ملتحمة، لقد حاول أبو علي أن ورجالها

يخمن الحقيقة من مكانه، إال أنه لم يفلح، لو كان األمر عاديا إذن لما وقف عبد اهللا

إلى جانب فاروق، فإنهما يكرهان بعضهما كراهية مقيمة، ال بد إذن أن يكون

ضول، لما حدثت القصة كلها، األمر خطيرا، وهنا أيضا، لو لم يسيطر عليه الف

ولكنه غير اتجاهه وسار، رغم توعكه، إلى حلقة الرجال يستطلع الخبر، وقبل أن

يصل إليها تماما شاهد، من بين األكتاف المتمايلة، سيارة جيب يقف إلى جانبها

.جندي أجنبي بلباس الميدان الكاملة معلقا على كتفه بندقية جديدة

ان قد أتى مرارا على القرية بغية أن يقيم فيها، إال أن أهل وتذكر أن هذا الجندي ك

القرية كانوا يرفضونه دائما، ليس لشيء آخر إال ألنه كان يحمل معه سالحه،

وكان أهل القرية يقولون أن السالح بيد اإلنسان إغراء للقتل، ومن الذي يستطيع

الناس، أن يضمن هذا الجندي فال يطلق الرصاص يجب أن ال يطلق على

Page 14: أرض البرتقال الحزين

14

الرصاص يجب أن يطلق على الضباع، كانت هذه هي الفكرة التي قادته إلى

الحلقة، وفي تلك اللحظة بالذات فهم كل شيء، ورغم ذلك، فقد بادر أقرب الناس

:كأنه يريد أن يبرر انضمامه إلى الحلقة لإليه بالسؤا

ماذا يحدث هنا؟-

:قال الرجل الواقف إلى جانبه

.ى بيت المختار وبقي الجندي واقفا هنالقد ذهب الضابط إل-

إذن لقد حضر الضابط معه؟ --

..عله يقبل هذه المرة.. نعم، ذهب يتحدث إلى المختار-

وأنتم؟-

.الرجال يريدون خطف بندقيته-

اندس في الصف الرابع فوسع له الرجال موطئ قدميه، إال أنه خطا إلى األمام

صف األمامي، وصار الجندي أمامه حتى صارفي ال وكفيهودافع الرجال بكتفيه

مباشرة على بعد ثالثة أو أربعة أمتار، ومن مكانه ذاك استطاع أن يقيس البندقية

، وتبدو جديدة ال مجروحة وال لثماني طلقات يتسعإنها من طراز حديث، مشطها

.صدئة، وقال في نفسه أن ثمنها ال بد وان يكون فوق المئة جنيه

:انبهقال للرجل الواقف إلى ج

من الذي يريد خطفها؟-

لم يقرر أحد بعد، انظر إلى عينيه الزرقاوبن كيف تغزالن، إنه ملعون حذر ككلب

.الصيد

داويا في رأسه فنسي لقد هبط العزم هبوطا. علي قليال ثم قر قراره فجأة أبوفكر

فحسب، هو أن الجندي المسلح يجب أن ال يبقى هنا، وعكته وتذكر شيئا واحدا

إذا ما خطفت البندقية منه، فال بأس أن يبقى، ألنه، عند ذاك، لن يختلف عن و

إذن، يجب أن تخطف البندقية، لقد كان القرار .. البقية ولن يكون ذا ضرر قط

..نهائيا

ولكن األمر لم يكن سهال، صحيح أن السكين الطويلة غير مثبتة في ماسورة

الجندي وإذا أراد أن يصل إليها فإنه ال البندقية إال أنها تتأرجح هناك على حزام

Page 15: أرض البرتقال الحزين

15

ولذلك .. يحتاج إلى وقت طويل، ثم إن الضابط قد يرجع بين لحظة وأخرى

وإذا أراد المرء أن يقوم بعمل ما فيجب أن يحسب .. فالقضية ليست قضية لعب

.لألمور حسابها من كل الزوايا

اعة، فصاح بأعلى وقبل أن يسوي أبو علي األمور في رأسه، قرر أن يستشير الجم

:صوته كي يسمعه كل الرجال

؟..يا شباب من الذي سيتقدم-

إال أن أحدا لم يجب، وكل الذي حدث هو أن بجميع العيون صوبت إليه، بما فيها

كان خائفا ألنه كان .. تلك العينين الزرقاوين للجندي الواقف في وسط الدائرة

يدي أولئك الرجال الملتفين حوله يعرف أن أية حماقة تسبب له نهاية عاجلة على أ

.كاألسورة

:صاح أبو علي مرة أخرى

.سآخذها أنا يا شباب-

:وأتاه صوت من طرف الحلقة المقابلة

.أنت سيدها يا أبا علي-

:كأنما ليبعث الحماس في نفسه أعلىكرر بصوت

..منه سأخطفها-

:قال نفس الصوت

..إنها حاللك-

:صاح مؤكدا

..إنها حاللي، سآخذها-

:وفكر قليال، ثم نظر حواليه وقال بصوت خفيض

يلحقحين تصير البندقية في يدي وسعوا لي طريق الهر، وإذا حاول أن -

.بي سدوا الطريق بوجهه

.معقول يا أبا علي، اعتمد علينا-

..سأعتمد عليكم-

Page 16: أرض البرتقال الحزين

16

، وحين نظر إلى الجندي وجده يحدق به، "واآلن إلى العمل: "ثم قال في نفسه

انحنى وخلع نعليه ثم : واحدة ما لبث أن عبرت بسرعة فوكانت لحظة خو

سلمهما إلى رجل كان يقف إلى جانبه دون أن يقول له حرفا واحدا، لقد بدأ الجد

اآلن، والنعل ال شغل له غال بعرقلة الركض حين يكون الركض في أوجه، شال

خاصرتيه، الكوفية والعقال عن رأسه ثم أسقط العقال في عنقه وربط الكوفية تحت

وانحنى فرفع طرف ردائه وثبته تحت الحزام في وسطه، ذلك حري بأن يعطي

اتساعا لمدى ساقيه حين يبدأ العدو، أما السروال األبيض الطويل الضيق عند

.رسغي الساقين فإنه لن يعيق شيئا

على بعد ثالثة أمتار أو أربعة أمتار كان الجندي الواقف مع بندقيته قد فهم كل ما

وكان أبو علي .. يجري، إال أنه بقي يحدق، دون أن يقدر على عمل إيما شيء

لقد كان واقفا .. يعرف بأنه لن يستعمل سالحه الذي، ربما لم يكن محشوا أيضا

غير قادر على اكتشاف ماذا يتعين عليه أن يفعل .. هناك بشكل ال يحسد عليه أبدا

داد العدة على أكمل وجه، وحين شبك مكتفيا بالنظر إلى أبي علي وهو يقوم بإع

أبو علي طرف قنبازه إلى وسطه رفع الجندي بندقيته على كتفه، وثبت كتفها على

حول ساقه لفتين محكمتين، األرض، أمامه مباشرة، ثم لف حزامها الجلدي الخشن

.وصفق كعبي حذائه الضخم ببعضهما متفرغا لمراقبة أبي علي من جديد

الواقف إلى جانبه والذي كان قد وضع النعلين تحت إبطيه قال أبو علي للرجل

:وشبك أصابعه وراء ظهره

الملعون يريدني أن أخطفه مع ! لقد أفسد األمور هذا النحس، انظر ماذا فعل-

!.البندقية

:قال الرجل بهدوء-

..فكها من حول ساقه-

كيف؟-

..اطرحه أرضا-

Page 17: أرض البرتقال الحزين

17

قطع نصف الطريق تقريبا، ومن إال أن أبو علي لم يعد بوسعه أن يغير رأيه، لقد

العار اآلن أن يفك قنبازه عن وسطه ويستعيد نعليه، وكان الجندي ما زال يحدق

..إليه وشفتيه ترتجفان والخوذة تلمع فوق رأسه المحروق

فرش أبو علي ذراعيه على وسعهما ودفع الرجال الواقفين حواليه إلى الوراء

ط الساحة، كان الجندي قد أدرك أن خطوة، ثم اندفع بخطوات ثابتة إلى وس

ينزعالمعركة قد بدأت فشد كفيه على ماسورة البندقية وأدناها من صدره دون أن

بصره عن وجه أبي علي الذي صار أمامه مباشرة، على بعد خطوة واحدة

رجففحسب، وقف، ونظر إليه مباشرة في عينيه وخيل إليه أن صوتا باهتا قد

:وراء ظهره صائحا

!ه يا أبا علي يا سيد الرجالآ-

صلبتين مستقيمتين، وشد كفيه حول ماسورة البندقية فوق كفي الجندي : مد ذراعيه

ثم جذب جذبيتن خفيفتين ليقيس قوة الجندي، وحين لمس تشبثه بسالحه شد بعنف،

إال أن الجندي قاوم الشد بأن قرب البندقية إلى صدره وقد تصلب جسده أكثر فأكثر

هه، وحين شد أبو علي بكل قوته انزلق حذاء الجندي على بالط الساحة واحمر وج

ووقع على ظهره، وبسرعة شديدة دور أبو علي البندقية دورتين فانفك حزامها عن

الساقين الملوحتين في الهواء، وتلقف البندقية بكفيه الكبيرتين الخشنتين، وبسطها

:أمام صدره محدقا إليها بجذل، ثم صاح بصوت عال

!شبابوسعوا الطريق يا-

ومن خالل الفرجة الضيقة التي انفتحت في المكان الذي كان يقف فيه انسرب أبو

، ثم انغلقت الفرجة بأكتاف الرجال من جديد، فيما كان أبو علي ورشاقةعلي بخفة

.يطوي األزقة الموحلة متجها إلى داره

-2-

.أبا علي لم يصل إلى دارهولكن

البندقية ضاعت، ولو كان أبو علي رجال عاديا والحادث حادثا أخباره وأخبار

عاديا إذن لما اهتم أحد قط، ولكن الموضوع هو أن أبا علي ليس رجال عاديا،

Page 18: أرض البرتقال الحزين

18

فبيته مترع بزوجه وأوالده، وهو رب عائلة مستقيم، ليس ذلك فحسب، بل إن بيت

الغربية، فوق تلة أبي علي هو البيت األول في القرية، إنه يقع على الحافة

مزروعة بالزيتون، ولقد كان هناك، منذ وعي الناس هناك، قبل أن يولد أبو علي،

، ولقد توارثوه واحدا عقب اآلخر بصمت وانتظام، وارثين بل قبل أن يولد جده

.معه كل تلك الواجبات التي التصقت بالبيت منذ أن وعي الناس البيت

تحت تل ا الغربي، وفي األحراش الممتدة كان بيت أبو علي باب القرية وحده

الزيتون كانت تكثر الضباع التي كانت تزحف إلى القرية إذا ما اشتد البرد في حمأ

دون أن يكلف -الشتاء بحثا عن الطعام وربما الدفء، وكان بيت أبو علي قد حمل

مهمة صد الضباع في كل شتاء ذلك ألن الحد الفاصل بين -من قبل أي إنسان

حراش وبين القربة وقد سلم سكان القرية بذلك ألنهم ال يعون متى لم تكن األ

..األمور كذلك

واآلن تأتي قصة البندقية من جديد، لقد ارتاح الناس لتلك الصدفة التي جعلت من

أبي علي صاحب بندقية جديدة، لقد أن األوان ألبي علي أن يمتلك بندقية يستعيض

في محاربة الضباع كل شتاء، فالشتاء اآلن صار بها الفاس الذي كان يستعمله

.على األبواب، والبد ألبي علي أن يمتلك تلك البندقية

ولكن األمور لم تسر كما اشتهوا واشتهى، فبعد يومين من الحادث تمكن بعض

، وفي لمحة خاطفة الضباع من الوصول إلى البيت والتحويم حوله طوال الليل

.تغير كل شيء

لى أوالدها فأرسلتهم على القرية ليكونوا بعيدين عن ذلك الرعب خافت عأم علي

وبقيت هناك تنتحب على زوجها وعلى مصيرها، وكانت الضباع تتكاثر ليلة بعد

ليلة محومة حول البيت مرسلة هواءها الحاد في صمت القرية، باعثة فيها

..الرعب

في الدواوين -ها،على أن لغز أبي علي لم يكن أقل وطأة، وكانت األحاديث كل

أين ذهب؟ ماذا حدث له؟ تراه : تدور حول أبي علي -وفي بيت المختار المغلقة

ذهب إلى قرية أخرى فباع بندقيته وتزوج امرأة أخرى؟ أم تراه قتل ودفن دون أن

يعرف الناس؟

Page 19: أرض البرتقال الحزين

19

بقيت األسئلة تدور في أجواء المدينة بال كلل وال توقف، حتى أن األمور األخرى

في حمأ الشك والتساؤل، لم يعد أحد يهتم بموضوع البيت أو عائلة كلها ضاعت

أبي علي التي توزعت في أزقة المدينة، وحين ذهب علي إلى بيت المختار يسأله

النصح وجد القاعة مليئة بالرجال الذين كانوا يتصايحون ويناقشون قصة أبي علي

الرجال يسدون عليه بكل دقائقها، وعبثا حاول أن يصل إلى المختار، لقد كان

.طريقه كلما خطا خطوت، وأخيرا لم يجد بدا من أن يعود أدراجه إلى الطريق

-3-

. ضم أبو علي البندقية إلى صدره وأخذ يعدو في األزقة الموحلة متجها إلى داره

كان العرق قد بلل ظهره وصدره وكان يحسه يصفعهما بالبرودة كلما اصطفق

ابه، إال أن ذلك لم يقلل من عزمه على المضي بها إلى البيت، الهواء بينهما وبين ثي

كانت ثقيلة، وكان يحس ثقلها يزداد بين ذراعيه كلما دار حول منعطف أو عبر

قنطرة، وحين بدأ صدره يخفق بسعال مجروح عميق تذكر انه مريض وأنه أغلق

: ذراعيهدكانه مبكرا كي يستريح من عناء وعكته، ولكنه حين أحس الثمن بين

بندقية جديدة ذات مشط يتسع لثماني طلقات، تبسم برضا، وتذكر تلك الليالي

يقضيها جالسا وراء الشباك محدقا في الظلمة كالقط، الباردة الصامتة التي كان

حتى إذا ما شاهد شبح الضبع أو شم رائحته الكريهة قام إليه خفيفا محني الظهر

من الباب الخلفي، فيصير الضبع محصورا في وقد تصلبت كفاه على ذراع الفأس،

الحديقة الصغيرة غير المزروعة إال بكوخ صغير إليواء الدجاج، ثم يقع العراك،

لحظة أو لحظتان وتخرج أم علي لتسحب جثة الحيوان الكريه وتقذفه من أعلى

ال، لن يحدث ذلك مرة أخرى اآلن، من النافذة .. التل إلى الغابة مرة أخرى

ية سيطلق رصاصة واحدة حين يبدو الشبح المخيف، ولن تخاف الخروج إلى الخشب

ها هي ! الحديقة الجرداء حين تتكاثر الضباع، كما حدث في الشتاء الماضي، ال

ضمها على صدره بحنو دون أن يكف .. ذي بندقية يتسع مشطها لثماني طلقات

له فقد كان يسمع عن الركض بكل ما في وسع ساقيه أن تنفرجا، ورغم لهاثه وسعا

صوت حذاء الجندي الضخم يخفق وراءه غير بعيد، متجاوبة أصداؤه الثقيلة بين

Page 20: أرض البرتقال الحزين

20

جدران الطين الحانية على بعضها فوق رأسه، وفجأة اعترض طريقه شبحان

..فوقف، وكان صفير لهاثه المبحوح يرتفع وينخفض بانتظام

!هاتها؟-

فه على وسعها كما لو أنه كان قال أحد الرجلين بصوت جاف ومد ذراعيه باسطا ك

إال أن أبا علي أرجع البندقية على جنبه .. يتوقع أن يضع أبو علي البندقية فيها

ثه من هاومنعه ل.. ووضع كتفه اآلخر في الطريق بينها وبين كف الرجل المبسوطة

:الكالم، بينما كرر الرجل بجفاف

أال تسمع؟.. هاتها-

:ريقه وقال بصوت واهنبلع أبو علي

..إنها حاللي-

..هاتها.. لقد رأيناك تسرقها-

.إنها حاللي-

..هاتها-

رجع أبو علي إلى الوراء خطوة، كان صوت حذاء الجندي قد عال حتى مأل كل

.صمت الزقاق

استطاع أن يميز أصوات أخرى ترافق الجندي، ربما يكون الضابط قد انضم إلى

بما كانت القرية كلها ماضية جنديه، بل ربما المختار ذاته، لعنة اهللا عليك، ر

..بمالحقته

..تلفت بسرعة إلى الوراء ثم عاد يحدق في الرجلين الواقفين في الظل

.افسحا الطريق، إنهم ورائي.. لقد عرفتكما-

ك به من عنقه، بينما أبعد أبو علي البندقية على مد ذراعه فأمستقدم أحد الرجلين

..نقإلى الوراء، وأحس بأنه على وشك أن يخت

.هاتها أو خنقناك-

..عرفتكما-

؟ ".كيف حدث أن اتفقا معا رغم كل الكراهية التي يحمالنها لبعضهما: "وفكر بوجل

:وصاح بكل ما بقي في حنجرته من متنفس

Page 21: أرض البرتقال الحزين

21

..عرفتكما، اتركاني-

..إياها وإال قتلناك أعطنا-

قاق فقام تلفت أبو علي إلى الوراء، وخيل إليه أنه رأى أشباحا تتمايل في أول الز

بمحاولة عنيفة للخالص إال أنه لم يستطع أن يتحرك أنملة، وكان في الوقت ذاته

واثقا من أن يده القابضة على البندقية لن تفلتها شياطين األرض مجتمعة إال إذا

:ولذلك وضع كل قوته في صوته.. فلتت يده، من أعلى الكتف، معها

!اتركاني.. لسوف نموت جميعا-

.أعطنا إياها-

.مستحيل-

:نظر الرجالن خلفهما، ثم قال أحدهما لآلخر

واآلن ماذا؟-

:أجاب اآلخر بسرعة

.حاول أن توقفهم، تحدث معهم، ابق هنا-

تركه أحد الرجلين بينما أمسكه اآلخر من مؤخرة عنقه ومن ذراعه ودفعه أمامه

.بعنف فانطلق يركض مرغما تحت وطأة القبضات المتحكمة في عنقه وذراعه

ن أبو علي مرهقا، وقد زاد التوقف والرعب من إرهاقه وكانت القبضات تشد كا

على عنقه وذراعه بال رحمة، ورغم ذلك فقد ميز فجأة بأن الطريق الذي يعدو فيه

.ليس طريق بيته، حاول أن يلتفت، إال أن قبضة الرجل لم تسمح له

عمق أعماق رئتيه بأنه قد استنزف، وأن السعال المجروح المنطلق من أكان يحس

.. سوف ينتزع حنجرته ويلقي بها إلى األرض، ال، ليس طريق بيته هذا الطريق

مرة أخرى حاول أن يتملص أو يقف إال أن وطأة القبضتين ازدادت حدة وعنفا

.بأن ال مناص - فبما كان على وشك أن يبكي –وشراسة، وأحس

1961-بيروت

Page 22: أرض البرتقال الحزين

22

ثالث أوراق من فلسطين

الرملةورقة من -أ

ورقة من الطيرة-ب

ورقة من غزة-ت

Page 23: أرض البرتقال الحزين

23

ورقة من الرملة-أ

أوقفونا صفين على طرفي الشارع الذي يصل الرملة بالقدس، وطلبوا منا أن نرفع

أيدينا متصالبة في الهواء، وعندما ال حظ أحد الجنود اليهود أن أمي تحرص على

ن بعنف شديد، وطلب مني وضعي أمامها كي أتقي بظلها شمس تموز، سحبني م

أن أقف على ساق واحدة، وأن أصالب ذراعي فوق رأسي في منتصف الشارع

..الترب

ساعات فقط كيف دخل أربعكنت في التاسعة من عمري يومذاك، ولقد شهدت قبل

اليهود إلى الرملة، وكنت أرى وأنا واقف هناك في منتصف الشارع الرمادي كيف

العجائز والصبايا، وينتزعونها منهن بعنف وشراسة، كان اليهود يفتشون عن حلى

، وكنت وكان ثمة مجندات سمراوات يقمن بنفس العملية، ولكن في حماس أشد

أرى أيضا كيف كانت أمي تنظر باتجاهي وهي تبكي بصمت، وتمنيت لحظتذاك

لو أستطيع أن أقول لها أنني على ما يرام، وأن الشمس ال تؤثر في بالشكل الذي

..وره هيتتص

كنت أنا من تبقى لها، فأبي قد مات قبل بدء الحوادث بسنة كاملة، وأخي الكبير

أخذوه أول ما دخلوا الرملة، لم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أعني بالنسبة ألمي،

لكنني اآلن أستطيع أن أتصور كيف كانت األمور ستجري لو أنني لم أكن عندها

د الصباح وأنا أنادي وأرتجف قرب مواقف ساعة وصلت دمشق، ألبيع لها جرائ

..الباصات

من هنا وهناك بعض وارتفعت.. لقد بدأت الشمس تذيب صمود النساء والشيوخ

في بعض الوجوه التي اعتدت أن أراها االحتجاجات اليائسة البائسة، كنت أرى

شوارع الرملة الضيقة وتبعث في اآلن شعورا دقيقا من األسى، لكنني أبدا لن

أستطيع تفسير ذلك الشعور العجيب الذي تملكني، ساعة رأيت مجندة يهودية تعبث

..ضاحكة بلحية عمي أبي عثمان

وعمي أبو عثمان ليس عمي بالضبط، ولكنه حالق الرملة وطبيبها المتواضع، ولقد

نناديه بعمي احتراما وتقديرا، كان واقفا يضم تعودنا على أن نحبه منذ وعيناه وأن

Page 24: أرض البرتقال الحزين

24

جنبه ابنته األخيرة، فاطمة، صغيرة سمراء تنظر بعينيها السوداوين الواسعتين إلى

..إلى اليهودية السمراء

!ابنتك؟-

وهز أبو عثمان رأسه بقلق، ولكن عينيه كانتا تلتمعان بتكهن قاتم عجيب، وببساطة

شديدة رفعت اليهودية مدفعها الصغير، وصوبته إلى رأس فاطمة، الصغيرة

..العيون السوداء المتعجبة دائماالسمراء ذات

وفي تلك اللحظة، وصل أحد الحراس اليهود في تجواله أمامي، واستلفت نظره

المنظر، ولكنني سمعت ثالث طلقات متقطعة دقيقة، الموقف، فوقف حاجبا عني

ثم تيسر لي أن أرى وجه أبي عثمان يتموج بأسى مريع، ونظرت إلى فاطمة،

خالل شعرها األسود إلى ام، ونقاط من الدم تتالحق هابطة مدلى رأسها إلى األم

.األرض البنية الساخنة

حامال على ساعديه الهرمتين جثة فاطمة، وبعد هنيهة، مر أبو عثمان من جانبي،

كان صامتا جامدا ينظر أمامه بهدوء رهيب، وما لبث أن مر : الصغيرة السمراء

لمنحني وهو يسير بهدوء بين الصفين إلى بي غير ناظر إلي البتة، وراقبت ظهره ا

أول منعطف، وعدت أنظر إلى زوجته جالسة على األرض ورأسها بين كفيها

ولكن .. تبكي بأنين مقطع حزين، وتوجه جندي يهودي نحوها، وأشار لها أن تقف

.العجوز لم تقف، كانت يائسة إلى آخر حدود اليأس

ث، ورأيت بعيني كيف رفسها هذه المرة، استطعت أن أرى بوضوح كل ما حد

الجندي بقدمه، وكيف سقطت العجوز على ظهرها ووجهها ينزف دما، ثم رأيته،

..بوضوح كبير، يضع فوهة بندقيته في صدرها، ويطلق رصاصة واحدة

في اللحظة التالية، توجه الجندي ذاته نحوي، وبهدوء شديد طلب مني أن أرفع

عر وعندما رفعت ساقي راضخا، صفعني ساقي التي أنزلتها لألرض دون أن أش

على ظاهر يده من دم فمي، بقميصي، وشعرت بإعياء مرتين، ومسح ما علق

مدمر لكنني نظرت إلى أمي، هناك بين النساء، رافعة ذراعيها في الهواء كانت

تبكي بصمت ولكنها في اللحظة ضحكت من خالل بكائها ضحكة صغيرة دامعة،

ثقلي، وبألم فظيع يكاد يقطع فخذي، لكنني ضحكت وشعرت بساقي تلتوي تحت

Page 25: أرض البرتقال الحزين

25

أيضا، وتمنيت مرة أخرى لو أنني أستطيع أن أركض على أمي، فأقول لها أنني لم

أتألم كثيرا من الصفعتين، وأنني على ما يرام، وأرجوها باكيا أن ال تبك، وأن

.تتصرف كما تصرف أبو عثمان قبل هنيهة

ن أمامي عائدا إلى مكانه بعد أن دفن فاطمة، وقطع أفكاري مرور أبي عثمان م

وعندما حاذاني، غير ناظر إلي البتة، تذكرت أنهم قتلوا زوجته، وأن عليه أن

يواجه مصابا جديدا اآلن، وتابعته مشفقا، خائفا بعض الشيء، إلى أن وصل إلى

أن مكانه فوقف هنيهة موليا ظهره المحدودب المبلول بالعرق، لكنني استطعت

حنى أبو جامدا صامتا مزروعا بحبيبات من العرق الالمع، وان: أتصور وجهه

عثمان ليحمل على ذراعيه الهرمتين جثة زوجته التي طالما رأيتها متربعة أمام

دكانه تنتظر انتهاءه من الغداء كي تعود إلى الدار باألواني الفارغة، وما لبث أن

ا رفيعا متواصال وحبيبات العرق مزروعة في مر بي، وللمرة الثالثة، الهثا لهاث

وجهه المغضن، وحاذاني، غير ناظر إلي البتة، وعدت مرة أخرى أراقب ظهره

.مبتل بالعرق وهو يسير الهوينا بين الصفينالمنحني ال

.لقد كف الناس عن البكاء

..وخيم سكون فاجع على النساء والشيوخ

عظام الناس بإصرار، هذه الذكريات وبدا كأنما ذكريات أبي عثمان تنحر في

الصغيرة التي حكاها أبو بعثمان لكل رجال الرملة وهم مستسلمون له على كرسي

.. هذه الذكريات التي بنت لنفسها عالما خاصا في صدور كل الناس هنا.. الحالقة

. هذه الذكريات بدت كأنما تنخر في عظام الناس بإصرار

، رجال مسالما محبوبا، كان يؤمن بكل شيء، وأكثر لقد كان أبو عثمان، كل عمره

الرملة ما آمن بنفسه، لقد بنى حياته من الالشيء، فعندما قذفته ثورة جبل النار إلى

طيبا كأي غرسة خضراء في أرض الرملة : كان قد فقد كل شيء، وبدا من جديد

خيرة، فلسطين األالطيبة، وكسب حب الناس ورضا الناس، وعندما بدأت حرب

باع كل شيء، واشترى أسلحة كان يوزعها على أقاربه ليقوموا بواجبهم في

مخزن للمتفجرات واألسلحة، ولم يكن يريد لهذه المعركة، لقد انقلبت دكانه إلى

التضحية أي ثمن، كل ما كان يطلب هو أن يدفن في مقبرة الرملة الجميلة

Page 26: أرض البرتقال الحزين

26

كل رجال الرملة .. ه من الناسالمزروعة باألشجار الكبيرة، هذا كان كل ما يريد

.يعرفون أن أبا عثمان ال يريد إال أن يدفن في مقبرة الرملة عندما يموت

هذه األشياء الصغيرة هي التي اسكتت الناس، كان وجوههم المبلولة بالعرق تنوء

..تحت ثقل هذه الذكرى

نها كوم ونظرت على أمي، واقفة هناك، رافعة ذراعيها في الهواء، شادة قوامها كأ

رصاص، وعدت أنظر إلى بعيد، ورأيت أبا عثمان واقفا أمام حارس يهودي

يحادثه ويشير إلى دكانه، وما لبث أن سار وحيدا باتجاه الدكان، وعاد حامال فوطة

.وتابع طريقه إلى المقبرة.. بيضاء لف بها جثة زوجته

وساعديه الساقطين إلى ثم لمحته عائدا من بعيد، بخطواته الثقيلة وظهره المنحني

جبينه بإعياء، واقترب مني بطيئا كما كان يسير، شيخا أكثر مما كان، معفرا مغبرا

..يلهث لهاثا طويال رفيعا، وعلى صدريته نقاط كثيرة من الدم الممزوج بالتراب

ويراني، واقفا هناك، في كأنه يمر بي للمرة األولى ولماذا حاذاني، نظر إلي

معفرا مبلوال بالعرق، بشفة : لشارع تحت سطح شمس تموز المحرقةمنتصف ا

مجروحة مدالة تجمد عليها الدم، وأطال النظر وهو يلهث، كانت في عينيه معان

كثيرة لم أستطع فهمها لكنني أحسستها وما لبث أن لعاد إلى مسيره، بطيئا مغبرا

.بهما في الهواءالهثا، فوقف، وأدار وجهه للشارع، ورفع ذراعيه وصال

لم يتيسر للناس أن يدفنوا أبا عثمان كما أراد، ذلك أنه عندما ذهب إلى غرفة القائد

أشالء أبي تليعترف بما يعرف، سمع الناس انفجارا هائال هدم الدار وضاع

.عثمان بين األنقاض

ذهب إلى وقالوا ألمي، وهي تحملني عبر الجبال إلى األردن، إن أبا عثمان عندما

.دكانه قبل أن يدفن زوجه، لم يرجع بالفوطة البيضاء، فقط

1956-دمشق

Page 27: أرض البرتقال الحزين

27

ورقة من الطيرة-ب

ماذا كنت أريد أن أقول؟ نعم، كنت أريد أن أحكي قصة ذلك الزبون الذي يشتري "

خاص، هذا النوع 1مني كل مساء ثالثة أقراص من العجوة، إنه زبون من نوع

ألن له صديقا عجوزا يبيع -ه على األقلأما أصحاب -الذي يحس ببعض الغبطة

ا البيع ليس كبيرا ولكنه، والحمد هللا، كاف، فأنا العجوة، أنت تعرف أن ربحي بهذ

أشتري كل ثالثة أقراص من العجوة بفرنكين اثنين، وأبيع الواحد بفرنك، ليس هذه

وهذه فحسب، بل إن مجموعة كثيرة من الزبائن تدفع فرنكا دون أن تأخذ قرصا،

هي المجموعة المفصلة عندي، نعم، كنت أريد أن أحكي قصة ذلك الزبون ولكن

ذلك الشرطي ذو الوجه المجروح، إن كثيرا من رجال ! ما الذي جعلني أنسى؟ آه

هل رأيته كيف ! الشرطة لهم نفوس طيبة، ولكن هذا الشرطي لم يعجبني أبدا

ى المنعطف عندما اقترب مني تصرف؟ هل أنا المذنب؟ لقد كنت واقفا هناك، عل

لقد كان شرطيا جديدا، هذا !" يجب أن تذهب من هنا"وقال وهو يهز طبق العجوة

مؤكد، إذ أن بعض الشرطة الطيبين المسؤولين عن هذا الشارع، كانوا يسمحون

ولت أن اشرح له بعض األمور، عندما قال الشرطي ذلك، حا.. لي أن أقف هناك

يجب أن تحمد اهللا أنني لم أضعه على : "إلى رأسي وقاللكنه رفع طبق العجوة

ثم دفعني دفعة شديدة، كأنني يهودي، ولكنني لست يهوديا، وأنت " رأسك مقلوبا

تعرف أن هذه إهانة كبيرة إذ أين كان هذا االبن الحالل يوم كنت أحارب اليهود

هذا حذار أن تتصور أنني ناقم على! في الطيرة وفي حيفا؟ أين كان؟ آه

..الشرطي

. في يوم من األيامالحمد هللا أنني لم أكن خائنا وال جبانا .الحمد هللا على أي حال

.. والذنب في هذا ليس ذنبه.. ولو كنت كذلك إذن لما كنت سامحت هذا الشرطي

إنه ذنب الذي أضاع فلسطين وحتم علينا حياة الكفاف هذه، حتم علينا أن نعيش

..كي نبحث عن عمل ما فقطوكأننا خرجنا من فلسطين

جرائد ال ينفع يا بني، فهم كالم ال.. على كل حال أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين

أولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها –

صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا

Page 28: أرض البرتقال الحزين

28

تهم كلها، ولو سمعوا، إذن، لهربوا إلى حيث ال أدري، يا بني، طلقة واحدة في حيا

أن نتصرف -نحن الجنود–فلسطين ضاعت لسبب بسيط جدا، كانوا يريدون منا

على طريقة واحدة، أن ننهض إذا قالوا انهض وأن ننام إذا قالوا بن وان نتحمس

وهكذا إلى .. ساعة يريدون منا أن نتحمس، وأن نهرب ساعة يريدوننا إن نهرب

إنهم لم يعرفوا قط كيف ! أن وقعت المأساة، وهم أنفسهم ال يعرفون متى وقعت

.. كانوا يحسبون أن هؤالء الجنود ضرب طريف من األسلحة.. يقودون جنودهم

صاروا يحشونها باألوامر المتناقضة، كان الواحد منا يحارب .. تحتاج إلى حشو

!..هوداليهود فقط ألنهم يريدون أن يحاربوا الي

ولكن ماذا يستطيع الواحد منهم أن .. لقد كان هناك أيضا بعض القادة المخلصين

؟ ماذا يستطيع أن يفعل مالك، سقط فجأة إلى جهنم، وعلقت جناحاه في يفعل لوحده

براثن الشياطين؟ لقد تيسر لي أن أدخل معركتين مع إبراهيم أبو ديه، رحمه اهللا لم

قدميه كأنه يلقي خطابا، وكنا كلنا نندفع إلى األمام يكن يحارب إال وهو واقف على

أنا أعرف شيئا كثيرا عن حياته، لقد بدأ .. رحمه اهللا.. كأننا ذاهبون إلى عرس

صغيرا مع عبد القادر الحسيني يأخذ الرسائل عبر الجبال إلى الرفاق، ثم كبر

خاض 1948وفي ..إبراهيم، وحمل البارودة، ونزل إلى المعركة، كان ذكيا جدا

وخرج منها بست عشرة رصاصة في ظهره " ميكور حاييم"مع رجاله معركة في

أنت تستطيع أن تتصور .. كانت سبب شلله، ثم أمضى أربع سنوات بعدها يتعذب

كان ينظر، لقد .. كيف يكون شعور رجل مشلول أمضى حياته واقفا على قدميه

رين ليرة يحتاجها يوميا ثم حقن يبتسم، ويعود إلى التفكير بخمس وعشفقط، ثم

إلى أن فكرت بعض الدول . كان يتعذب.. المورفين تهدئ من عذابه بعض الشيء

العربية في أن تساعده وبعد مشاورات قررت له راتبا شهريا لمدى الحياة، وسافر

وعندما دخل الغرفة، كان .. مندوب عن هذه الدول إلى بيروت ليزف البشرى

.. يحتضر، وكان ثالثة رجال يقفون إلى جانب سريره يبكونهأبو ديه إبراهيم

ووقف الرجال .. منهم بصوت خفيض أن ينشدوا له نشيد موطني إبراهيموطلب

..الثالثة ينشدون له النشيد، وهم يبكون، بينما كان هو يموت، رحمه اهللا

Page 29: أرض البرتقال الحزين

29

دمت وق.. كبيرة في السن امرأةوبينما هو يموت دخلت الغرفة .. لقد تعذب طويال

.. له باقة صغيرة من الزهر األحمر

وقالت له " الحنون" ، يسمونه هناك في القرى "الشقيق" نعم ".. الشقيق.. "ما اسمه؟

..وهي توشك أن تبكي

.من هناك"... هذا الحنون-

..وضمه بعنف إلى صدره، ثم ابتسم وهو يقول.. الزهر إبراهيممسك وأ

..أيها الجرح-

أرأيت كيف يموت األبطال دون أن .. لذي دفن معهومات وهو يشد على الزهر ا

يسمع بهم أحد؟ أرأيت؟

لقد كان في .. خذ هذا المثال... بل في كل مكان.. لم يكن هذا في القدس فقط

حيفا مطحنة كبيرة تقتل الناس في شوارع الكرمل دون حساب، لم يكن في " هادار"

ر، بما ال أعرف كيف، أن ثم تيس.. لها لغم كبير يكفي لنسف هذه المطحنةك حيفا

وأن يرجع بلغم كبير، " سوريا"يذهب قائد حامية حيفا، يومذاك حمد الحنيطي إلى

وعندما دخل من رأس الناقورة، استطاعت امرأة يهودية أن تعرف هذا السر،

.. المهم.. اسمها؟ ال أذكر.. فأبلغت بواسطة الالسلكي مستعمرة تقع بين عكا وحيفا

هل سمعت عنه؟ " سرور برهم"المساء مع رفاقه ومن بينهم مر حمد من عكا في

حسنا، لقد وصلوا قرب المستعمرة قبل أن يهبط الظالم وهناك فاجأته قوة يهودية

ودافع دفاعا .. تريد أن تستولي على اللغم، وطلبت منه أن يستسلم، ولكنه رفض

هل يسلم اللغم .. مجيدا مع رفاقه القالئل حتى تساقطوا من حوله واحدا إثر واحد

لقد وقف حمد ورفع يديه، وهندما اقترب اليهود ليمسكوه، .. وينقذ حياته؟ طبعا ال

أطلق رصاصة واحدة على اللغم الكبير، لقد قال الناس يومها أنهم سمعوا انفجار

وتطايرت أشالء اليهود، وتمزع الشهيد إلى درجة أنهم لم .. اللغم من عكا

..ء منه كي يدفنونيستطيعوا أن يجدوا أي شي

ولم .. إن المسؤولين لم يحافظوا على أبطالهم.. آه.. ماذا كنت أريد أن أقول لك؟

لقد استشهد القائد مع رفاقه، أنا ال أريد .. على معرفة بأي أصول للمعاركيكونوا

ماذا .. أن أناقشك في أنه تصرف على شكل معقول أو متهور، ولكن أريد أن أسأل

Page 30: أرض البرتقال الحزين

30

اء؟ والقيادة في حيفا كيف تصرفت حتى تمأل المكان الذي خلفه حدث ألهالي الشهد

الشهداء؟ ألم تدب الفوضى في حيفا إلى درجة مؤلمة؟

خذ ما هناك كان يشتغل العمال .. ماذا أريد أن أقول؟ آه، عن المسؤولين وعنا

العرب واليهود، جنبا إلى جنب، وكنت أنا أشتغل في ذلك المصنع، وجرى حادث

تفاصيله، لقد ألقى يهودي قنبلة على حارس عربي كان يقف معظم صغير نسيت

على باب المصنع، فقتله، وكان حزننا شديدا عندما سمعنا عن موت الحارس

ورفاقه، فأغلقنا الباب الكبير للمصنع ثم استعملنا في قتل الصهاينة جميع الوسائل،

م يكن أي محل يتسع لقد تقابلنا يومذاك وجها لوجه وكالنا مجرد من سالحه، ول

لسوى الرجولة فقط، واستطعنا أن نتغلب عليهم، لم يكن عندنا في الداخل، سالح

واستعمل أكثرنا الرفش والفأس ذا " التراكتور"من أي نوع، فاستعمل بعضنا

لم نبق على عدو واحد، كان معظمنا جديدا . الرأسين الطويلين، وحدثت المعركة

لكن الجميع قاتلوا كأنهم رجل واحد، رامين إلى على هذا النوع من القتال، و

الشيطان بمستقبل وظائفهم، غير آبهين البتة إلى توسالت اليهود الذين كانوا يقولون

ثم ماذا حدث بعد ذلك، بعد أن قتلنا عشرات .. أننا عمال أكلنا العيش والملح سوية

في الشوارع وأخذنا نتجول" الريفاينري"اليهود؟ وبعد أن تركنا أعمالنا في

حاربوا : كالشحادين كما أتجول اآلن، هل تعتقد أنهم أعطونا أسلحة وقالوا لنا

وموتوا معنا؟ لقد أهملنا المسؤولون إلى درجة أنني سمعت أنهم قالوا أننا .. معنا

ال يحتاجون إلينا فلذلك علينا أن نذهب إلى وهم حتما نمحاربيجزارون ولسنا

وأي .. هكذا قالوا! جزارون! وضد من نشاء.. اءحيث نشاء كي نحارب كيف نش

نوع من المحاربين يريدون؟ محاربون يلبسون المعاطف البيضاء ويردون على

الجرائم اليهودية بابتسامات عذاب؟ أم يريدوننا أن نحارب بمحاضر جلسات جامعة

.الدول العربية؟

عمومية، وشاهد لقد كان سائقا لسيارة.. اسمع ماذا جرى لهذا المحارب المهذب

.. امرأة يهودية تعدو هاربة أمام مجموعة من األطفال كانوا يرجمونها بالحجارة

كانت الحوادث في بدء توترها، فما كان منه إال أن نهر األطفال، وأمسك المرأة

من يدها، وقادها إلى حيث أوقف سيارته، وذهب بها إلى أهلها في تل أبيب، هل

Page 31: أرض البرتقال الحزين

31

مزقوه ورموا جثته مقابل . سرقوا سيارته، وقتلوهتعرف ماذا حدث هناك؟ لقد

فكيف يريدوننا أن نحارب أناسا من ذلك النوع؟ بالورود؟.. الشيخ حسنجامع

هذا هو الذي أضاع فلسطين، يا بني، هل تفهم من هذا أنني أريد أن ترسل رسالة

لكنني كنت أعني أن .. معاذ اهللا.. كال.. شكر إلى كل جندي يصيد عدوه؟ كال

أن .. أن يقرروا كيف يتوجب عليهم أن يتصرفوا.. عليهم أن يتفقوا على شيء ما

على أي حال أنا ال .. يحترموا شعور المحارب الذي يفقد رفاقه في كل معركة

أريد أن أحدثك كثيرا عن المعارك، لقد كنت كل عمري أضحك على أولئك

إياها، ولكن الك يسمعوننالعجائز الذين لم يجدون غير ذكريات قتالهم في السفر بر

الذي أريد أن أقوله، أنني حاربت، أكثر مما يستطيع الشخص الواحد أن يفعل،

ولكن الخطأ لم يكن مني أنا، كان من فوق، من هؤالء الذين يقرأون ويكتبون

فماذا أستطيع أن أفعل .. أما أنا.. ويرسمون خطوطا ملتوية ينظرون إليها باهتمام

بارودتي وأن أهجم، وأن أنظر إلى حيث يشير رئيسي ثم أركض غير أن أحمل

في ذلك االتجاه وسالحي في يدي؟

أن وأن علينا .. المهم أن علينا أن ال ننسى ما حدث عندما نلتقي مرة أخرى

نحارب اليهود كما يفعل محررو الجرائد أولئك في غرفهم عندما يجدون كمية

!كبيرة من الذباب

كم أنا ثرثار

حكي لك عن ذلك الزبون الذي يشتري مني ثالثة أقراص من أريد أن أكنت

ولكم الحديث جرني، والذنب في هذا، هو ذنب ذلك .. العجوة دفعة واحدة كل مساء

..الشرطي الذي طردني من مكاني المختار كأنه يطرد لصا

لو أنني حكيت لذلك الشرطي قصتي، وقلت له من أنا إذن لضحك ضحكا

لذلك فأنا ألطلب منه . لقلب الطبق على رأسي كما كان ينوي أن يفعلمتواصال، و

لكنني يوما ما، سآتي من فلسطين ماشيا على .. فهذا شيء مضحك.. أن يحترمني

قدمي، كما أتيت في المرة األولى، وسأبحث عن الشرطي هذا ما استطعت، ثم

الخيار في أن له.. سأدعوه ألن يقضي شهرا كامال في طيرة حيفا على حسابي

..يتنقل فيها كما يشاء، ويقف حيث يشاء

Page 32: أرض البرتقال الحزين

32

1957-دمشق

ورقة من غزة-ث

عزيزي

استلمت رسالتك اآلن، وفيها تخبرني أنك أتممت لي كل ما أحتاجه ليدعم إقامتي

قبلت في فرع الهندسة المدنية معك في ياكرمنتو، وكذلك وصلني ما يشعر أنني

ا صديقي من شكرك على كل شيء، لكن سيبدو في جامعة كاليفورنيا، ال بد لي ي

لك غريبا بعض الشيء، أن أزف إليك هذا النبأ، وثق تماما يا مصطفى أنني ال

أشعر بالتردد قط، بل أكاد أجزم أنني أر األمور بهذا الوضوح أكثر من الساعة، ال

إلى حيث الخضرة والماء والوجه "لقد غيرت رأيي، فأنا لن اتبعك .. يا صديقي

.كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبدا" الحسن

إنه لشيء يزعجني حقيقة، يا مصطفى، أن ال نكمل ذلك الجريان لحياتنا في خط

: وكيف كنا نهتف. واحد، فإني أكاد أسمعك تذكرني بعهدنا على االستمرار معا

، ولكن يا صديقي ليس في يدي حيلة، نعم، إنني ال زلت أذكر"سنصير أغنياء"

تماما يوم وقفت في ساحة المطار في القاهرة، أشد على يدك وأحدق بالمحرك

المجنون، كان كل شيء ساعتئذ يدور مع المحرك ذلك الدوران الصاخب، وكنت

أنت تقف أمامي، بوجهك المليء الصامت، لم يتغير وجهك عن الوجه الذي نشأت

، لقد نشأنا معا، وكان في غزة، لوال هذه الغضون المسطحة" الشجيعة"به في حي

..يففهم اآلخر تمام الفهم، وتعاهدنا على االستمرار معا إلى النهايةواحدنا

:ولكن

بقي ربع ساعة وستقلع الطائرة، ال تحدق هكذا بالالشيء، اسمعني، "-

ستذهب في العام القادم إلى الكويت، وستوفر من راتبك ما يقتلعك من غزة

.."معا، ويجب أن نستمرإلى كاليفورنيا، لقد بدأنا

وكنت لحظتذاك أرقب شفتيك وهما تتحركان بسرعة، هكذا كانت طريقتك

ال فواصل وال نقط، لكنني كنت أحس إحساسا غامضا إنك غير : في الكالم

Page 33: أرض البرتقال الحزين

33

راض تماما عن هروبك، لم تكن تستطيع أن تعد ثالثة أسباب وجيهة لهذا

ق، ولكن الشعور األوضح من هذا التمز أيضاالهروب، وكنت أعاني أنا

ولماذا؟ إال أن وضعك كان قد أخذ .. لماذا ال نترك هذه الغزة ونهرب: كان

يتحسن، فلقد تعاقدت معك معارف الكويت دون أن تتعاقد معي، وفي غمرة

الذي كنت أعيش فيه، كانت تصلني منك في بعض األحيان من البؤس

ف أن أشعر بالصغار، لقد مبالغ صغيرة، كنت تريدني أن أعتبرها دينا، خو

كنت تعرف ظروفي العائلية تماما، وكنت تعرف أن راتبي الضئيل في

مدارس وكالة الغوث الدولية لم يكن يكفي إلعالة أمي، وزوجة أخي

.األرملة وأوالدها األربعة

كل دقيقة، لقد أوشكت .. كل ساعة.. اسمعني جيدا، اكتب لي كل يوم"-

."إلى اللقاء.. اهللا، بل قل إلى اللقاء الطائرة أن تطير، استودعك

ومست شفاهك الباردة وجنتي، وأدرت عني وجهك ميمما شطر الطائرة، وعندما

..التفت إلى مرة ثانية كنت أرى دموعك

وبعدها تعاقدت معي معارف الكويت، ال داعي ألن أكرر عليك كيف كانت تجري

ن كل شيء، كانت حياتي دبقة، تفاصيل حياتي هناك، فلقد كنت أكتب لك دائما ع

مع مستقبل ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء : فارغة، كمحارة صغيرة

غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممجوج مع الزمن، كل شيء كان لزجا

!حارا، كانت حياتي كلها زلقة، كلها توق إلى آخر الشهر

وقذفوا غزة، غزتنا، كز الصبحة، وفي منتصف العام، ذلك العام، ضرب اليهود مر

بالقنابل وباللهب، كان يمكن أن يغير لي هذا الحدث شيئا من الروتين، لكنه لم يكن

فأنا سأخلف هذه الغزة ورائي، وسأمضي إلى كاليفورنيا لذاتي : لي ما آبه له كثيرا

المقطوع كل شيء في البلد: التي تعذبت طويال، إنني أكره غزة، ومن في غزة

ذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم، لقد كنت ي

-أرسل ألمي، وألرملة أخي وأوالدها، مبالغ ضئيلة تعينهم على الحياة، لكنني

من هذا الخيط األخير، هناك، في كاليفورنيا الخضراء البعيدة عن سأتحرر-أيضا

ن الشفقة التي تربطني بأوالد إ.. رائحة الهزيمة التي تزكم أنفي منذ سبع سنوات

Page 34: أرض البرتقال الحزين

34

ال .. أخي وأمهم وأمي، ال تكفي أبدا لتبرير جريان مأساتي هذا الجريان الشاقولي

!يجب أن أهرب.. أكثر مما شدتني.. تحتيمكن أن تشدني إلى

ما هذا الشيء الغامض : تعرف يا مصطفى هذه األحاسيس، ألنك عشتها فعال أنت

من حماسنا إلى الهروب؟ لماذا النشرح األمر الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد

تشريحا يعطيه معنى واضحا، لماذا ال نترك هذه الهزيمة، بجراحها، ونمضي إلى

!لماذا؟ لم نكن ندري بالضبط.. سلوى وأعمقألواناحياة أكثر

وعندما أخذت إجازتي في حزيران، وجمعت كل ما أملك توقا إلى االنطالقة

ألشياء الصغيرة التي تعطي الحياة معي لطيفا ملونا، وجدت غزة الحلوة، إلى هذه ا

انغالقا كأنه غالف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها : كما تعهدها تماما

من نفس نائم أضيقالموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب السلخ، غزة هذه،

ة، رائحة الهزيمة أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاص

هذه غزة، لكن ما هي هذه األمور .. والفقر، وبيوتها ذوات المشارف الناتئة

الغامضة، غير المحددة، التي تجذب اإلنسان ألهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب

وكل الذي أعرف أنني ذهبت ألمي في ! النبعة قطيعا ضاال من الوعول، ال أعرف

ني، وهي تبكي، أن ألبي رغبة ناديا، ابنتها الجريحة دارنا ذلك الصباح، وطلبت م

أنت تعرف ناديا ابنة أخي والجميلة ذات . في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء

األعوام الثالثة عشر؟

.. في ذلك المساء اشتريت رطال من التفاح ويممت شطر المستشفى أزور ناديا

وزوجة أخي، شيئا لم تستطيعا أن كنت أعرف أن في األمر شيئا أخفته عني أمي

لقد اعتدت أن ! شيئا عجيبا لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة.. تقوالنه بألسنتهما

أحب ناديا، اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد، إلى حد

.حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ االجتماعي

لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جم، إن ! أدري ماذا حدث في تلك الساعة؟ ال

الطفل المريض يكتسب شيئا من القداسة فكيف إذا كان الطفل مريضا أثر جراح

قاسية مؤلمة؟ كانت ناديا بمستلقية على فراشها، وظهر معتمد على مسند أبيض

انتثر عليه شعرها، كفروة ثمينة، كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة

Page 35: أرض البرتقال الحزين

35

هي أبدا في قاع بؤبؤها البعيد، ووجهها كان هادئا ساكنا، لكنه موح كوجه نبي

معذب، ال زالت ناديا طفلة، لكنها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر

..من طفلة، أكبر بكثير

..نادبا-

ال أدري، هل أنا الذي قلتها أم إنسان آخر خلفي، لكنها رفعت عينيها نحوي،

هما تذيبانني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن، ومع وشعرت ب

:بسمتها الخفيفة، سمعت صوتها

وصلت من الكويت؟.. عمي-

وتكسر صوتها في حنجرتها، ورفعت نفسها متكئة على كفيها ومدت عنقها نحوي

:فربت عل ظهرها، وجلست قربها

إلى حين ناديا، لقد أحضرت لك هدايا من الكويت، هدايا كثيرة سأنتظرك-

تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين لداري فأسلمك إياها، ولقد

لقد .. نعم.. اشتريت لك البنطال األحمر الذي أرسلت تطلبينه مني

..اشتريته

كانت كذبة ولدها الموقف المتوتر، وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة ألول

اعق، وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، مرة، أما ناديا فقد ارتعشت كمن مسه تيار ص

:وأحسست بدمعها يبلل ظاهر كفي

أال تحبين البنطال األحمر؟.. قولي يا ناديا-

ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها،

: وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد

!يا عمي-

اق مبتورة من ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء األبيض، وأشارت إلى سي

...أعلى الفخذ

..يا صديقي

أبدا لن أنسى ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، ال، ولن أنسى الحزن الذي هيكل

لقد خرجت يومها من المستشفى إلى .. وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى األبد

Page 36: أرض البرتقال الحزين

36

شوارع غزة، وأنا أشد باحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي

كانت غزة، يا .. عطيهما لناديا، كانت الشمس الساطعة تمأل الشوارع يبلون الدمأل

الحجارة المركومة على : مصطفى، جديدة كل الجدة، أبدا لم نرها هكذا أنا وأنت

أول حي الشجعية، حيث كنا نسكن، كان لها معنى كأنما وضعت هناك لتشرحه

بين سبع سنوات في النكبة كانت فقط، غزة هذه التي عشنا فيها ومع رجالها الطي

أنها بداية فقط، ال أدري لماذا كنت أشعر أنها .. شيئا جديدا، كان تلوح لي أنها

بداية فقط، كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائدا إلى داري، لم يكن

إال بداية صغيرة لشارع طويل يصل إلى صفد، كل شيء كان في غزة هذه ينتفض

على ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، حزنا ال يقف على حدود البكاء، إنه حزنا

!..التحدي، بل وأكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة

لقد خرجت إلى شوارع غزة، شوارع يملؤها ضوء الشمس الساطع، لقد قالوا لي

لصغر تحميهم من القنابل أن ناديا فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق أخوتها ا

في الدار، كان يمكن لناديا أن تنجو بنفسها، أن اواللهب وقد أنشبا أظفارهم

..أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل.. تهرب

لماذا؟

***

لن آتي لسكرمنتو، وأنا لست آسفا البتة، ال ولن أكمل ما بدأناه معا ! ال يا صديقي

هذا الشعور .. ذي أحسسته وأنت تغادر غزةهذا الشعور الغامض ال: منذ طفولتنا

يجب أن يتضاخم، يجب أن تبحث .. الصغير يجب أن ينهض عمالقا في أعماقك

..هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة.. عنه كي تجد نفسك

لنتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى .. عد.. بل عد أنت لنا.. لن آتي إليك

..الوجودوما قيمة .. الفخذ، ما هي الحياة

..عد يا صديقي فكلنا ننتظرك

1956–الكويت

Page 37: أرض البرتقال الحزين

37

األخضر واألحمر

-1-

النزال

لم يكن .. لم يكن يظن لحظة واحدة، أنه قريب من الموت قرب أنفه من الهواء

كل الطريق كانت تعيق بحياة بكر كأنها خلقت لتوها، كأن اهللا .. يظن ذلك قط

أيار .. تغسل صدره مثل شالل من الريشصنعها اآلن فحسب ليتنشقها، وليتركها

يبرعم في جبينه وكفيه وأضالعه ويشمه فينهال إلى صدره دوامات ال تنضب وال

كيف تريده أن يظن، لحظة واحدة، إنه قريب من الموت قرب الهواء إلى .. تنثني

لم تكن عنده .. أنفه؟ ولكنه كان قريبا منه، كان قريبا منه دون أن يحسه أو يشمه

وقالوا له مرة أن هذا خطأ مهلك، وان الحياة ال قيمة لها قط .. ة إحساس الحياةقدر

بينه وبين النظريات .. ولكنه لم يكن يبالي.. إن لم تكن، دائما، واقفة قبالة الموت

..وبينه وبين الموت ما بين تراب أيار والجفاف.. المتقعرة ما بين أيار والكفن

ان اللحم والحب التي كانت دائما هناك، في أيار كان ماض إلى الزوج والولد وجدر

التعريشة الخماسية التي تتسلق بأصابع ثابتة جدار الدار الخشن .. وفي غير أيار

فتصبغه بكل خضرة البعث وتجعل منه شجرة، فرع شجرة عريض يحضن الزوج

بينه وبين الموت ما بين الموت والحب، لم يكن .. والولد وجدران اللحم والحب

ن لحظة واحدة، أن بينه وبين الزوج والولد وجدران اللحم والحب لحظة موت يظ

..واحدة، واقفة عند المنعطف، مشهرة أظافرها العشرة كأنصال مشرعة باالنتظار

ولم يكن يعرف، هو، أنها واقفة هناك، .. لحظة موت واحدة ولكنها حاسمة ونهائية

..باالنتظار، كان بينه وبينها يقف أيار

نه كان بال بد أن يمر من ذلك المنعطف، ولمدى لحظة واحدة فقط أحس رجفة إال أ

الترقب الرهيب، فباطأ خطواته هنيهة وأصاخ السمع، وحينما لمعت أمام بصره

..األظافر المشرعة لم يفكر إال بالنزال

Page 38: أرض البرتقال الحزين

38

..قد يكون ذلك حدث منذ زمن سحيق

ء مدى التذكر، فوق سحيق كالعدم أو بذرة العبث، ورا.. سحيق كأزل بال قرار

مستوى التخمين، ولكنه اآلن ودائما في صلب اإلحساس، ينز الدم كل لحظة،

ويخفق مرتجا مثل سمكة هالمية على االرتجاج يرجعها إلى الموج الذي رماها

..فوق رمل الشاطئ

لقد انهالت : ما زال يذكر مقاطع مقطعة منه، ممزوجة بالوعي وبالغيبوبة! النزال

ليه فأعملت به تمزيقا، تجمعت حواليه فافترست جلده وانغرزت في األظافر ع

خاصرتيه ورئتيه فأخذ يلهث دماءه، كلما استدار سدت عليه األظافر منافذ الحياة

ومنافذ أيار وتشابكت كالسيوف أمام عينيه وأنفه فمنعت عنه الرؤيا ومنعت عنه

ى بعض تلك األظافر ومثل من على وشك أن يستيقظ أو ينام تعرف إل.. الهواء

حتى أنت؟ وفي لحظة : ولكن حنجرته كانت قد تجرحت وسدتها الدماء فحشرج

تالية أحس دبيب الموت، إال أن أيار كان ضخما وكان كبيرا وكان قد صبغ

أحس باألصابع تغوص إلى قلبه فتبقره، وانهالت خيوط الدم .. الطريق بالخضرة

وتجمعت عند قدميه وسالت جدوال قانيا فوق صدره زاحفة مثل أفاع حمراء رفيعة

..في الطريق

لقد أحس بالحياة تتسري .. انسحبت األظافر فبقي جامدا واقفا لمدى لحظات كالدهر

من جسده وبات إحساسه بالموت صلبا وكبيرا ولكنه لم يشأ أن يقع فتجالد واضعا

فق خطواته إال أن الموت كان قد وصل، وسمعه يمشي فتخ.. كفيه فوق وجهه

لقد أتى من تحت، تسلق ساقيه فأحس بالعجز، ولمدى لحظة .. باألناشيد البعيدة

واحدة عرف أن كل شيء قد انتهى، وأن بينه وبين الزوج والولد وجدران الحب

سقط، .. بينه وبين أيار ما بين الخضرة وجدول الدم.. واللحم ما بين أنفه والهواء

بقي راكعا وكفيه فوق وجهه، لحظة .. ورتينحفرت ركبتاه في األرض حفرتين مد

واحدة فحسب، أيار يتراجع، جدول الدم يفتش عن مصب، وصل الموت بأناشيده

الشهيد : صمت الموت.. إلى خاصرتيه فوقع، حفر جبينه حفرة مدورة في التراب

..يصلي

Page 39: أرض البرتقال الحزين

39

-2-

جدول الموت

ذين تكوموا حول في نفس تلك اللحظة حدث شيء لم يلحظه أي إنسان بين أولئك ال

الميت ينظرون إليه بفضول قبل أن تصل سيارة الصحة فتحمل الجسد إلى القبر أو

..إلى المحرقة

ذلك انه في المكان الذي سقط فوقه الجبين، في الحفرة المدورة التي صنعتها

..السقطة، ولد طفل صغير

بأن ليس يدري أحد بالضبط كيف حدث ذلك، اآلن، بوسع الكثيرين أن يقولوا

بوسع .. الطفل الصغير انبثق من الجبين بعد أن أنضجه التراب الساخن الرطيب

ولكن .. غيرهم أن يقولوا بأن الطفل كان موجودا في التراب أصال فأيقظته السقطة

الحقيقة األقرب للتصديق أن الطفل انبثق من العينين، لفظته العينان مثلما يلفظ

يوجد طفل يولد في -يقتل ظلما–ين كل رجل وأن في ع.. الرحم المترع الوليد

نفس لحظة الموت، إال أنه سرعان ما يموت هو اآلخر ألن مسافة السقوط، من

على أب حال لقد .. عين الرجل إلى األرض مسافة طويلة ال تتحملها بنيته الضئيلة

عاش ذلك الطفل ألنه غاص في الرمل، وعاش هناك دون أن يلحظه إنسان

..أو غير قاصد فيدوسه قاصدا

كان وجهه حاد المالمح حتى ليخيل للمرء، .. كان مخلوقا ضئيال له مالمح رجل

لو يراه، بأنه منحوت من حجارة صلدة بازميل خشن، كان فمه مطبقا بإحكام فهو

ال يتكلم، وكانت جفونه ملتصقة ببعضها فهو ال يرى، وكان ضئيال ضئيال مثل

اتما قاتما كالليل، إال أن قلبه كان شديد البياض، كان عقدة األصبع، أسود اللون ق

الشيء األبيض الوحيد في الجسد الضئيل وكان بوسع المحدق إلى الصدر األسود

..أن يراه ينتفض، كمنقار عصفور قزم، داخل تلك الضلوع المتشابكة السوداء

كل أصبع له كانت بنيته الصغيرة متينة ومتناسقة وبديعة، كفاه فيهما عشرة أصابع

ثالث عقد، تماما مثل اإلنسان، وكانت عضالت صدره تنغرس فوق ضلوعه

كالصدف األسود، وكانت له أحالمه وآماله وأوجاعه ومطامحه وذكرياته تماما

Page 40: أرض البرتقال الحزين

40

كل الفرق هو أنه كان صغيرا جدا، وكانت عيناه مغلفتين وشفتاه .. مثل سائر البشر

أكوام التراب المتراكمة فوقه وحوله غير ولكنه كان يتنفس، وكانت .. ملتصقتين

..قادرة على قتله

لم يلحظ والدته أي إنسان ولم ينتبه إليه أحد حين غاص في الرمل الرطب عميقا

ولما حمل الحفارون جسد الميت إلى المقبرة أو المحرقة تفرق الناس، .. عميقا

فقط اكتشف أنه عندها.. فخفت من فوق كاهل األسود الصغير وطأة أقدام الجموع

وحيد وتائه، إال أنه لم يستطع أن يحول بين ساقيه وبين رغبة المسير، فانطلق إلى

األمام، شاقا بأظافره طريقه الصغير، كالدودة، داخل تلك الرمال المتراكمة حواليه

وفوقه دون توقف ودون تعب، ساعة وراء ساعة ويوما إثر يوم على غير هدى

رمال ويتنفس رمال ويشرب عصير الرمل، ال يلتفت إلى وعلى غير ضياء، يأكل

وكان يحس، فيما هو .. الوراء وال يتطلع إلى فوق وال يحول رأسه إلى الجوانب

يشق طريقه المظلم، أقدام الناس فرق رأسه تروح وتجيء فيشعر بأنه لو جرب أن

، هرج أصوات أقدام، هدير أنهار.. يصعد إلى فوق إذن لديس كما تداس الخنافس

ووراءه كان يجري جدول الدم كأنه يالحقه، .. أمواج، كل لحظة كل ساعة كل يوم

..كأنه قدره

-3-

الموت للند

تراك انبثقت من حداقة أبيك ! مرت سنوات وأنت تحت األقدام أيها األسود الصغير

األعمى أعمى أبكم أم أن التراب مأل فمك وانزرع في عينيك؟ بينك وبين النور

أهو قدرك، ! أيها األسود الصغير، وبينك وبين جدران اللحم والحب سنواتسنوات

أيها األسود، أن تعيش في التراب وتتنفس في الظالم وتالحق بجدول الدم؟ أهو

قدرك، أيها األسود الصغير بأن تداس كل بعمرك وأن يطأ الناس، كل الناس، فوق

؟كاهلك، وأن تأكل ترابا وتتنفس وتشرب عصير التراب

Page 41: أرض البرتقال الحزين

41

أيها العمالق الممسوخ، يا عين أبيك المذبوح باألظافر، لماذا ال تموت؟ لماذا ال

تتوقف لحظة واحدة تحت األكوام من األتربة فينطفئ الضوء األبيض المعلق في

صدرك؟ أتراك تدري بأن حياتك مرهونة بذلك التراكض الوحشي المذعور؟ أتراك

لماذا .. ؟ أيها األسود الصغير التعستعرف بأنك توقفت ألغرقك مد الدم والنتهيت

ال نموت؟

* * *

إال أن الولد الضئيل لم يكن يبالي بكل تلك الهواجس التي كانت تلح على رأسه،

وكان يواصل سعيه كالمسعور مستشعرا ذلك الهدير الشيطاني لنهر القدم وراءه،

ين المديدة صار في غمرة تلك السن.. متلمسا طريقه بحذق األعمى وصالبة الحجر

ولم تعد . بوسع أظافره أن تخدش الحديد إذا ما اعترض االنطالق المصمم

.الهواجس الرمادية قادرة على إيقاف الحماس الملتهب لحظة واحدة

بعد كل تلك السنين التي مرت على والدته، لم يحس به أحد، ولذلك لم يعط اسما،

.. لم يشعر وجوده أحد.. لقبلم يضعه أحد في حسابه ليتعرف عليه باسم أو ب

واحد فقط، الموت الذي ذبح أباه بأظافره هند منعطف أيار قبل ! صحيح؟ كال

سنوات وسنوات كان يعلم أن الوليد األسود موجود في مكان ما تحت تلك األرض

..لم يكن يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك.. فحشد األقدام لتدوس منافذ الخروج

* * *

صار عمرك أربع عشرة سنة، أربعة عشر أيار من ! سود الصغيركبرت أيها األ

فوقك، جدول الدم سقى أربعة عشر ربيعا أيها األسود الصغير وأنت ماض كالدود

ألم .. تبحث عن ماذا؟ أي خالص ترتجي؟ أين ستنتهي بك الطريق أيها التعس

ن أية نهاية تفكر قط بأن تنتهي؟ بأن تريح األقدام من عناء البحث عنك لتدوسك؟ ع

فحتى متى؟ .. تبحث؟ عن أية نهاية؟ ما زال القنديل األبيض ينوس في صدرك

واألظافر العشرة ما زالت مشرعة المعة كاألنصال .. أنت صغير على النزال

..تترقب بزوغك لتجفف بجلدك األسود جدول الدم

Page 42: أرض البرتقال الحزين

42

..أنت صغير على نزال أعدائك أيها المسخ

ياريا عين أبيك القتيل فوق ربيع أ

لماذا ال تكون ندا قبل أن .. أكبر.. أكبر.. أيها الذي يعيش تحت أكداس األقدام

تموت؟

لقد نزفت عرقك وأذبت عضلك دون أن تطفئ تلك النقطة البيضاء .. مت.. مت

ماذا بقي منك؟ تقول الكثير؟ نطقت؟ انفكت ! مت.. المعلقة في صدرك كالقنديل

يا عقدة .. ما يصنع ألف رجل كبيرشفتاك عن أسنانك؟ لقد نزفت من العرق

..ال تمت.. ال تمت قبل أن تكون ندا.. أيها المسخ، يا عين الشهيد! األصبع

1962-بيروت

Page 43: أرض البرتقال الحزين

43

أرض البرتقال الحزين

كنا كمن يخرج كل عام .. عندما خرجنا من يافا إلى عكا لم يكن في ذلك أية مأساة

ومرت أيامنا في عكا مرورا عاديا ال . نة غير مدينتهليمضي أيام العيد في مدي

ألنها حالت دوني غرابة فيه، بل ربما كنت لصغري وقتذاك استمتع بتلك األيام

مهما يكن، ففي ليلة الهجوم الكبير على عكا بدأت .. ودون الذهاب للمدرسة

م تلك الليلة قاسية مرة بين وجوومضت .. الصورة تتوضح الصورة أكثر فأكثر

لقد كنا أنا وأنت ومن في جيلنا، صغارا على أن .. الرجال، وبين أدعية النسوة

ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط .. نفهم ماذا تعني الحكاية من أولها إلى آخرها

كانت سيارة شحن ... تتوضح وفي الصباح، ساعة انسحب اليهود متوعدين مزبدين

بسيطة من أشياء النوم تقذف إليها من وكانت مجموعة.. كبيرة تقف في باب دارنا

كنت أقف متكئا بظهري على حائط البيت .. هنا وهناك بحركات سريعة محمومة

العتيقة عندما رأيت أمك تصعد إلى السيارة، ثم خالتك، ثم الصغار، وأخذ أبوك

يقذف بك وبأخوتك إلى السيارة، وفوق األمتعة، ثم انتشلني من زاويتي ورفعني

إلى القفص الحديدي في غرفة السائق حيث وجدت أخي رياض جالسا فوق رأسه

وكانت .. قد تحركتوقبل أن أثبت نفسي في وضع مالئم، كانت السيارة .. بهدوء

..عكا الحبيبة تختفي شيئا فشيئا في منعرجات الطرق الصاعدة إلى رأس الناقورة

جسدي، كان كان الجو غائما بعض الشيء، وإحساس بادر يفرض نفسه على

رياض جالسا بهدوء شديد، رافعا ساقيه إلى ما فوق حافة القفص، ومتكئا بظهره

وكنت أنا جالسا بصمت، واضعا ذقني بين ركبتي .. على األمتعة محدقا في السماء

وشعور بالخوف .. وحقول البرتقال تتوالى على الطريق.. طاويا فوقهما ذراعي

وطلقات بعيدة كأنها تحية .. صعد الهثة فوق التراب الندوالسيارة ت.. يتآكلنا جميعا

...الوداع

Page 44: أرض البرتقال الحزين

44

وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد، غائمة في األفق األزرق وقفت

ونزلت النسوة من بين األمتعة وتوجهن إلى فالح كان يجلس القرفصاء .. السيارة

... صوت بكائهنووصلنا .. وحملن البرتقال.. واضعة سلة برتقال أمامه مباشرة

وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي .. وبدا لي ساعتذاك أن البرتقال شيء حبيب

كانت النساء قد اشترين برتقاالت حملنها معهن إلى السيارة، .. شيء عزيز علينا

أخذ ينظر إليها .. ونزل أبوك من جانب السائق، ومد كفه فحمل برتقالة منها

...بائسثم انفجر يبكي كطفل ... بصمت

وبدأ الرجال يسلمون ... وقفت سيارتنا بجانب سيارات كثيرة.. في رأس الناقورة

وعندما أتى دورنا، ورأيت ... إلى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض أسلحتهم

ورأيت إلى صف السيارات الكبيرة يدخل ... البنادق والرشاشات ملقاة على الطاولة

أخذت أنا ... ا في البعد عن أرض البرتقاللبنان طاويا معارج طرقاتها ممعن

وكانت .. كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت.. اآلخر، أبكي بنشيج حاد

كل أشجار البرتقال ... تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود

اعة وترتسم لم... النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه

....في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر

...وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا الجئين

***

كان أبوك قد كبر عن ذي قبل، وبدا كأنه لم ينم منذ .. احتوتنا الطريق فيمن احتوت

كان واقفا في الشارع أمام األمتعة الملقاة على الطريق، وكنت ... زمن طويل

يلعن : أنني إن سعيت إليه ألقول شيئا ما فإنه سينفجر في وجهي أتخيل تماما

بوضوح، بل إنني أنا كانت هاتين الشتيمتين تلوحان على وجهه .. يلعن.. أبوك

أيضا، الطفل الذي نشأ في مدرسة دينية متعصبة، كنت ساعتذاك أشك في أن هذا

... يسمع كل شيءوكنت أشك في أن هذا اهللا.. اهللا يريد أن يسعد البشر حقيقة

Page 45: أرض البرتقال الحزين

45

إن الصور الملونة التي كانت توزع علينا في كنيسة المدرسة، .. ويرى كل شيء

وينتسم في وجوههم، بدت هذه الصور والتي كانت تمثل الرب يشفق على األطفال

كأنما هي األخرى أكذوبة من أكاذيب الذين يقتحون مدارس محافظة كي يقبضوا

ان اهللا الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو لم أعد أشك في... أقساطا أكثر

اآلخر، وأنه الجئ من حيث ال أدري، غير قادر على حل مشاكل نفسه، وأننا

على الرصيف منتظرين قدرا جديدا يحمل حال نحن، الالجئين البشر، القاعدين

كان األلم قد بدأ يفتك بعقل : مسؤولين عن إيجاد سقف نقضي الليل تحته.. ما

..لصغير الساذجا

والعتمة التي كانت تهبط شيئا فشيئا فوق رؤوسنا، كانت تلقي ... إن الليل مخيف

يستثير مجرد أن أفكر في أني سأقضي الليل على الرصيف كان .. الرعب في قلبي

لم يكن أحد على استعداد ... ولكنه خوف قاس جاف... في نفسي شتى المخاوف

وأن نظرة والدك ... أن أجد بشرا التجئ إليهلم أكن أستطيع .. ألن يشفق علي

...الصامتة تلقي رعبا جديدا في صدري

والجميع صامتون، يحدقون في ... والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار

الطريق األسود، طامعين أن يبدو القدر من وراء المنعطف يوزع علينا حلوال

كان عمك قد وصل البلدة .. القدر فجأةوأتى .. اكلنا، ونمضي معه إلى سقف ماشلم

.وكان هو قدرنا.. قبلنا

لم يكن عمك يؤمن كثيرا باألخالق، ولكنه عندما وجد نفسه على الرصيف، مثلنا،

ويمم وجهه شطر بيت تسكنه عائلة يهودية، وفتح بابه، ... لم يعد يؤمن إطالقا

اذهبوا على : ن فصيحوألقى بأمتعته فيه، وأشار لهم بوجهه المكور قائال بلسا

من المؤكد أنهم لم يذهبوا لفلسطين، ولكنهم خافوا من يأسه فذهبوا إلى ... فلسطين

..الغرفة المجاورة وتركوه ينعم بالسقف والبالط

وكدسنا فيها مع أمتعته وأهله، وفي الليل نمنا ... لقد قادنا عمك إلى غرفته تلك

حقنا بمعاطف الرجال، وعندما على األرض فامتألت بأجسادنا الصغيرة، والت

وكانت ... نهضنا في الصباح، كان الرجال قد أمضوا ليلتهم جالسين على الكراسي

!المأساة قد بدأت تجد طريقا معبدا يقودها إلى خاليا أجسادنا كلنا

Page 46: أرض البرتقال الحزين

46

فغرفة عمك لم تكن تتسع لنصفنا، ورغم ذلك فقد .. لم نسكن في صيدا كثيرا

طلبت أمك من أبيك أن يبحث عن عمل ما، أو فلنرجع ثم ... احتوتنا ثالث ليال

كانت .. فسكتت.. ت يرتجف بالنقمةصاح في وجهها بصو أباكولكن ... البرتقال

والعائلة السعيدة المتماسكة خلفناها مع األرض والسكن ... مشاكلنا العائلية قد بدأت

...والشهداء

باع الذهب الذي اشتراه ألمك إنني اعرف أنه قد .. لم أدر من أين أتى أبوك بالنقود

ولكن ذلك الذهب لم يأت بالشيء .. يوم كان يريدها أن تسعد وتفخر بأنها زوجه

هل استدان شيئا؟ هل : الكثير القادر على حل مشاكلنا، فكان ال بد من مصدر آخر

باع شيئا آخر أخرجه معه دون أن نراه؟ إنني ال أدري، ولكنني أذكر أننا قد انتقلنا

وهناك، قعد أبوك على الشرفة الصخرية العالية ... رية في ضواحي صيداإلى ق

وينتظر يوم الخامس عشر من أيار كي يعود في أعقاب ... يبتسم ألول مرة

..الجيوش الظافرة

وفي الساعة الثانية عشرة تماما، لكزني ... بعد انتظار مر" أيار 15"وأتى يوم

فاشهد .. قم: بصوت يهدر باألمل الباسل أبوك بقدمه وأنا مستغرق في نومي قائال

وانحدرنا عبر التالل .. وقمت كالمسعور.. دخول الجيوش العربية إلى فلسطين

كنا .. حفاة في منتصف الليل إلى الشارع الذي يبعد عن القرية كيلو مترا كامال

السيارات أضواءوكانت .. كلنا، صغارا أو كبارا نلهث ونحن نركض كالمجانين

أحسسناو من بعيد، صاعدة إلى رأس الناقورة، وحين وصلنا إلى الشارع تبد

لقد أخذ يركض وراء .. بالبرد، ولكن صياح أبيك كان يملك علينا وجودنا

لكنه .. إنه يلهث.. إنه يصيح بصوت أبح.. إنه يهتف بهم.. السيارات كطفل صغير

صائحين اره بجو كنا نركض... صغيرما زال يركض وراء رتل السيارات كطفل

كنا ... وصمت معه، وكان الجنود الطيبون ينظرون إلينا من تحت خوذهم بجمود

نلهث، فيما كان أبوك يخرج من جيبه، وهو يركض بأعوامه الخمسين، لفافات

وكنا نحن ال زلنا نركض إلى جواره . التبغ يرميها للجنود، كان ال يزال يهتف بهم

..كقطيع صغير من الماعز

..وعدنا إلى الدار منهوكين نلهث بصفير خافت.. ارات فجأةوانتهت السي

Page 47: أرض البرتقال الحزين

47

وعندما أضاءت ... كان أبوك صامتا ال يتكلم، وكنا نحن أيضا ال نقوى على الكالم

..كانت دموعه تمأل وجنتيه.. وجه أبيك سيارة عابرة

لقد خدعتا البالغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل .. بعدها، مضت األمور ببطء شديد

وبدأ والدك يجد صعوبة .. واخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد.. مرارتها

هائلة في التحدث عن فلسطين وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته وفي

كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة، وكنا نحن .. بيوته

إن الصعود إلى الجبل في أيضا، أولئك المالعين الذين يكتشفون بسهولة شديدة،

....عن طلب الفطور إلهاءناالصباح بناء على أوامر والدك، معناه

.. كان أبسط شيء قادرا بشكل عجيب على استثارة والدك.. وبدأت األمور تتعقد

ثم بدأ .. لقد انتفض.. تماما يوم طالبه أحدهم بشيء ال أدريه وال أذكرهإنني أذكر

كانت فكرة .. ودارت عيونه تلتمع في وجوهنا.. قيرتجف كمن مسه تيار صاع

... ملعونة قد أوجدت طريقها إلى رأسه، فانتفض واقفا كمن وجد نهاية ترضيه

وفي غمرة من شعور اإلنسان بقدرته على إنهاء مشاكله، ومن شعوره بالرعب قبل

وأخذ يدور حول نفسه باحثا عن شيء ال .. إقدامه على أنر خطير أخذ يهذي

... نراه

ثم انقض على صندوق كان قد خرج معنا من عكا وأخذ ينثر ما فيه بحركات

وبدافع من .. وفي لحظة واحدة، كانت أمك قد فهمت كل شيء... عصبية مخيفة

أخذت تدفعنا .. ذلك االضطراب الذي تقع فيه األم عندما يتعرض أبناؤها للخطر

... ولكننا لم نبرح النافذة.. لالغرفة دفعا وتطلب منا أن نهرب إلى الجب إلى خارج

أريد أن : "وألصقنا آذاننا الصغيرة في خشبها نستمع برعب شديد إلى صوت أبيك

..."أريد أن.. أريد أن أنتهي... أقتلهم وأريد أن أقتل نفسي

وعندما عدنا ننظر إلى الغرفة من شقوق الباب، وجدناه ملقى على .. وسكت أبوك

بينما قعدت أمك في .. غ أسنانه وهو يبكياألرض يلهث بصوت مسموع ويمض

ولكنني أذكر أنني عندما رأيت ... لم نفهم شيئا كثيرا.. ناحية تنظر إليه بجزع

وبدافع من ذلك ... فهمت كل شيء... المسدس األسود ملقى على األرض بجانبه

Page 48: أرض البرتقال الحزين

48

أخذت أعدو في .. القاتل الذي يصيب طفال شاهد غوال على حين غرةالرعب

..هاربا من الدار ..الحبل

وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، كنت أشعر أن

إن األمور قد وصلت إلى ... حياتنا لم تعد شيئا لذيذا سهال علينا أن نعيشه بهدوء

يجب إذن أن .. حد لم تعد تجدي في حلة إال رصاصة في رأس كل واحد منا

يجب أال نطلب األكل ولو ... أن نبدو بشكل الئقنحرص في تصرفاتنا على

يجب أن نسكت عندما يتكلم األب عن مشاكله، ونهز رؤوسنا باسمين ... جعنا

.."اصعدوا الجبل وال تعودوا إال في الظهر"عندما يقول لنا

كان أبوك ما زال مريضا، ما .. الدارعندما خيم الظالم عدت إلى .. في المساء

جالسة بجواره، وكانت عيونكم جميعا تلتمع كأنها عيون زال مريضا، وأمك

كأنها أثر لجرح قديم لم يلتئم .. القطط، وكانت شفاهكم ملتصقة كأنها لم تتفتح أبدا

..كما يجب

... كنتم مكومين هناك، بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال

أنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي البرتقال الذي قال لنا فالح كان يزرعه ثم خرج

..تتعهده بالماء

كان أبوك ما زال مريضا ملقى في فراشه، وكانت أمك تمضغ دموع مأساة لم

...تغادر عينيها حتى اليوم

وحينما المست نظراتي وجه أبيك يرتجف .. لقد دخلت الغرفة متسلال كأنني المنبوذ

وإلى .. ألسود على الطاولة الواطئةرأيت في الوقت ذاته المسدس ا.. بغضب ذبيح

..جواره برتقالة

..وكانت البرتقالة جافة يابسة

1958- الكويت

Page 49: أرض البرتقال الحزين

49

فتيل في الموصل

الذي ذهب إلى الموصل ثم ضاعت . حين كتبت هذه القصة أهديتها إلى صديقي م

.. لم تكن قد انتهت بعد. أخباره، ولكني لم انشرها حينذاك ألن قصة صديقي م

" نت أريد أن يصير بوسعي صياغة اإلهداء بالشكل التاليك

-8فكان علي أن أنتظر حتى ..." وقبره يغتسل بالشمس الحقيقية. إلى صديقي م"

.م3-1963

)غ(

***

.. قال فجأة

؟"معروف"هل تعرف طالبا أردنيا يدرس في جامعة بغداد اسمه -

..قابلته مرة-

مع المد حامال في خط مستقيم أسراب الجراد التي سقطت كان الموج قد بدأ يرتفع

:في البحر حينما عجزت أجنحتها الشفافة عن حملها إلى الشاطئ، قال بهدوء

...لقد قتل-

كيف؟ معروف؟ كيف قتل؟-

تناول .. وصلت في تلك اللحظة موجة صاخبة ألقت أمامنا سربا آخر من الجراد

ف بأرجل منشارية، ورفعها أمام عيني منه جرادة صفراء، جسمها الطويل محفو

:نازعا جناحيها الشفافين متمتما بصوت فاجع

...هكذا-

أين؟... ولكن اين قتل-

Page 50: أرض البرتقال الحزين

50

..في الموصل-

..ما الذي قاده إلى هناك؟-

***

معروف شاب قصير القامة، نحيل الجسم إلى حد مرضي، ولكنه رغم كل شيء

ر سوداء تمتد إلى اليوم الذي كان يتمتع بروح فكهة تخفي في أعماقه قلقا له جذو

عمره فيه ال يتجاوز العشر سنوات، حينما وصل مع اه إلى أول بئر ماء بعد أن

كانت أمه العطشى وكانت حافة البئر مكتظة .. طردا من بلدتهما الصغيرة، اللد

... بمئات من الرجال والنساء الذين ينتظرون فرصهم لكي يشربوا ولكي يعيشوا

وحينما عاد إلى أمه بالماء الملوث ... اس بإصرار رجل بائسلقد زاحم الن

...كانت قد ماتت: بالتراب

لقد مرت سنوات طويلة على اليوم ذاك، يوم وقف أمامها حامال في راحتيه

وجهها الشاحب .. كانت تتكئ على صخرة حمراء.. الصغيرتين كوز ماء قذر

.. اها سوداوين مجعدتينكانت شفت.. يفضح أي صمت قابلت به عذاب موت رهيب

.. لقد وقف لحظة دون أن يعي.. وكان لسانها كبيرا مدورا يسد مجرى النفس

وحينما هزه أحدهم كي يسير مع القافلة عرف أن كوز الماء قد خطف من يده أثناء

..شروده

كان .. لقد كان الطريق طويال منذ غادر البئر إلى أن وصل إلى باب الجامعة

يريد شيئا من " معروفا"ولكن يهل سمع أحد في يوم ما أن .. موحالطريقا طويال

هذه الحياة؟ يهمه أمر ما؟ يطمح لمستقبل محدد؟ يناضل من أجل هدف؟ يعيش

.. لقد قال لي مرة فيما هو يقلب جريدة في يده.. إن أحدا لم يسمع.. لغاية؟ كال

الغالب، أليس كذلك؟ اإلنسان يعيش ستين سنة في .. اسمع يا فيلسوفي الصغير"

اطرح عشر سنوات ما بين مرض .. بقي ثالثون سنة.. يقضي نصفها في النوم

إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة .. بقي عشرون.. وسفر وأكل وفراغ

عشر سنوات فقط، أليست ... لقد بقيت عشر سنوات.. ومدارس ابتدائية... حمقاء

" جديرة بأن يعيشها اإلنسان بطمأنينة؟

Page 51: أرض البرتقال الحزين

51

وحين يعجز .. كان يحل مشاكله بالتسامح.. بهذه الفلسفة كان يقابل أي تحد يواجهه

..وحين تعجز النكتة يفلسفها.. التسامح يحلها بالنكتة

: سألته مرة محاوال أن ألجر رأسه لتأييد مشروع حزبي

ألست تريد الرجوع إلى فلسطين؟-

..قال وهو يضحك

أتعرف قصة هانيبال؟ حينما .. لتاليلسوف أوفر عليك سؤالك ا.. حتما أريد-

أنتم ... حسنا أنا لست فيال.. عبر جبال األلب سار وجنوده خلف األفيال

أنا .. حينما تعبرون الحدود غلى فلسطين سوف أكون خلفكم... الفيلة

...صرصار صغير سأحتمي بأظالل فيلة هانيبال

اللطيفة الساذجة، الذي عاش على مثل هذه الترهات.. أتصدق مثل هذا اإلنسان

أتصدق أن هذا اإلنسان تغير .. والذي قاوم كل أنواع الجذب، كل أنواع التحدي

لقد أصبح وجهه مربدا كما لو أنه ما !.. كيف تغير؟؟ ال أحد يدري. دفعة واحدة؟

بل إنه كان يجد لذة .. زال يحمل كوز الماء أمام جسد أمه الممد بصمت فاجع

لقد قال لي يوما إذ كنا عائدين .. يث عن تلك اللحظةوراحة حينما يأخذ في الحد

:إلى الدار في منتصف الليل

إن حياة بعض الناس كالشريط السينمائي العتيق الذي تقطع، .. أتعرف شيئا-

لقد وضع النهاية في الوسط .. فوصله فنان فاشل من جديد بصورة خاطئة

...ووضع الوسط في النهاية

سه، ولم أحاول أن أنظر إلى وجهه كي أتأكد من ان كنت أعرف أنه يتحدث عن نف

عينيه تدمعان ولكنني رغبت في أن أواصل التحدي منتهزا ضعفه في تلك

:فقلت.. اللحظة

... أتريد أن أناديك حينما تبدأ أفيال هانيبال بعبور حدود فلسطين؟-

:ولكنه حافظ على هدوء غريب، وسمعت صوته يهمس باستسالم.. ارتجف قليال

...على بعض الرجال أن يقودوا األفيال-

Page 52: أرض البرتقال الحزين

52

سألته مرة عن هذا الموضوع فقال وهو ... لماذا تغير معروف؟ ال أحد يدري

لقد كانت الكذبة فوق ... ال شيء.. "يشير براحتيه المبسوطتين كي يؤكد جوابه

..."أصبحت الحقيقة فوق والكذبة تحت... فانقلب كل شيء... والحقيقة تحت

..دث هذا القلب؟ولكن ما الذي اح-

.بسط راحتيه إلى األمام وقلب شفته السلفى ثم صمت

***

ارتفع المد أكثر ثمن ذي قبل حتى غطى الماء أقدامنا الممددة على الرمل، فابتعدنا

كان صوت ارتطام الموج بالصخرة .. قليال كي تستريح على صخرة مرتفعة

هبط ببطء، خالل غيوم قرمزية يعطي لحنا جنائزيا للشمس الوردية التي أخذت ت

.نحو الماء

: صمت صديقي من جديد كأنما ليحشد صدره بشجاعة جديدة، ثم سأل فجأة

ولكن أين قابلت معروف؟-

.لقد تعرفت إليه في السيارة التي عبرت بنا الطريق ما بين دمشق وبغداد-

أنت تعرف بغداد إذن؟-

..لقد مكثت فيها أكثر من شهر.. آه نعم-

ة أم بعدها؟قبل الثور-

...بعدها بأيام قليلة-

هل تعرفت إلى معروف جيدا في السيارة؟-

***

ليست جيدة على اإلطالق، فالمكيف الذي (...) سيارات الدرجة األولى لشركة

... أما الماء فقد كان باردا حقا... يميزها عن سيارات الدرجة الثالثة كان معطال

نشربه، فجهاز التبريد كان يعمل على مزاجه باردا إلى درجة لم نستطع معها أن

... لم تكن السيارة مكتظة بالركاب.. ولم تكن هناك وسيلة إليقافه عند درجة معينة

وحينما صعدت سلمها القصير الحظت لتوي أن رفاق السفر لن يكون بوسعهم ان

Page 53: أرض البرتقال الحزين

53

في المقعد األول جلس شيخ وقور صامتا .. يقصروا الطريق على اإلطالق

..كتمثال

وخلفه مباشرة جلس كهل بشرخ في وجهه ونظارة سميكة، وإلى جانبه ابنته، أو

أخته، كانت سمينة وقد لبست فستانا غريبا يتوسط صدره هرم مقلوب من قماش

...سميك مما جعل نهديها يندفعان إلى الجانبين غير الئقة

الطريق .. تالقد جلست في مقعدي صام... أما بقية الركاب فقد كانوا من العجائز

..والمزعج فيه أن أحدا ال يتكلم، ويخفف بكالمه شيئا من حر بادية الشام.. طويل

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقبل أن تقف " التنف"وصلت السيارة إلى

انفجر عجلها األمامي وقال لنا السائق أننا سوف نضطر لالنتظار ساعة كاملة من

الهواء على األرض كان باردا .. ي أن أهبط كي أساعدهأجل إصالحه ثم أشار إل

الذعا، وحينما حملت المطرقة الحظت إلى جانبي شابا قصير القامة نحيل الجسم

.هبط من السيارة ورائي

قرعنا العجل سوية بالمطارق حتى تعبنا فجلسنا فوقه لنستريح قليال ولم أجد بدا من

.أسأل صاحبي القصير النحيل

راكبا في هذه السيارة؟ هل كنت-

.نعم-

غريب أنني لم أرك؟-

.كنت غارقا في مقعدي-

:قلت بعد صمت قصير

أين تريد الذهاب؟-

وسوف تبدأ الدراسة بعد أسبوع.. إنني طالب في كلية الحقوق في بغداد-

أنت سعيد بالثورة أليس كذلك؟-

"اللد"إنها خطون جيدة نحو ... سعيد جدا-

هب الطريق الصحراوي، كنت جالسا إلى جوار معروف، وحينما عادت السيارة تن

وبعد لحظات أشار بعينيه إلى الكهل الذي كان منهمكا بقراءة جريدته مع ابنته أو

:أخته ثم مال على أذني وهمس

Page 54: أرض البرتقال الحزين

54

إنني أخاف على الثورة ! أتعرف ممن هؤالء؟ بمن الشرفاء التقدميين-

...منهم

سرعان ما توقفت حينما انفجر عجل ولكن السيارة.. غرقنا بعد ذلك في الصمت

جديد، وفتح السائق العمالق باب السيارة وطلب صمنا أن نهبط كي نصلح العجل

..مرة أخرى

وقبل أن نصل، رأينا الكهل يقترب من المطرقة الثقيلة، ويرفعها بين كفيه ولكنه

.يعجز عن إيصالها إلى ما فوق رأسه فيلقيها وهو يلهث

:الضحكقال معروف منفجرا ب

أيها التقدمي المسكين، إن تجربتك العمالية الصغيرة قد فشلت، وهكذا فلن -

! ماذا؟ أنت ال تستطيع أن ترفع المطرقة... تستطيع أن تكون تقدميا كامال

كيف يمكن لك تدرك التناقض إذن؟

وكررت الفتاة نفس ... نظر الكهل إلينا بقسوة، ثم عاد أدراجه مسرعا إلى السيارة

.د ثم أخذت تحجل خلف كهلها وثدياها يهتزان على جنبي صدرهاالمشه

وفي تلك الليلة قال ... وأسرعنا لتونا إلى الفندق... وصلنا بغداد في فجر يوم حار

:لي معروف

أالحظت؟ إنهم يحشدون أنفسهم كالديدان، .. لسوف يحدث شيء خطير-

من كل ينحشرون في الفنادق كما لو أنهم تداعوا لحشر أرضي، خرجوا

لماذا؟ أيمكن أقن تكون مؤامرة؟.. ثقوبهم وجاءوا إلى بغداد

***

.. سقطت الشمس في نهاية األفق، وبقي منها لون أحمر يخضب الغيوم الواطئة

بعض الجراد استطاع أن يقطع المسافة وهوى على الشاطئ منهكا يزحف بأرجله

جنحتها الشفافة المنشارية نحو الرصيف تناول صديقي جرادة جديدة قصف أ

:تحركت قليال ثم طواها الزبد وسمعت صوته.. وألقاها في الماء

...تماما هكذا.. قتلوه هكذا-

Page 55: أرض البرتقال الحزين

55

..ولكن ما الذي قاده للموصل؟ أنا أعرف أنه يعيش في بغداد-

أتريد أن أقول لك نفس كالمه؟ قال أنه يريد أن يخطو نحو اللد، إن الزيف -

دره كل أمل بأن يعود وهو يعرف أن الذي غرقت فيه بغداد قد قطع في ص

وهكذا فإنه انتهز عطلته كي يطير ... الموصل ليست مزيفة على اإلطالق

إلى هناك؟

...ثورة-

***

... الديدان خرجت من بطن األرض... بغداد كل شيء أصبح غير ذي معنى

الحياة هناك تقوم ... وأصبح يشعر بأن األيدي بدأت تجره بعيدا عن طريق العودة

إنه يحسه إحساسا صلبا ويحاول أن يقتلعه من .. ما هو هذا الخطأ؟... على خطأ

..شروشه

ولكن ذلك كان .. إنهم األسياد اآلن... ولماذا كل هذا التعب؟ اتركهم-

:كان من العسير رده.. مستحيال

..العبيد يحملون سوادهم في قلوبهم هذه المرة.. إنها ثورة الزنج من جديد-

.يا معروف-

يجب أن ... ذا تفعلون هنا؟ لقد تعودتم أن تعيشوا بال هواء كالخفافيشما-

.نفعل شيئا

ماذا نفعل ؟-

واضطر ... كان في الموصل حينما حدثت الشرارة.. فرضت المعركة علينا فرضا

...أن يقدم نفسه للحريق

***

كل شيء في المدينة .. الموصل، رفضت الدود الذي يزحف إليها من بطن األرض

كان يقف على ... الصغيرة كان راضيا عن نفسه قبل أن يصل زحف الديدان

Page 56: أرض البرتقال الحزين

56

... شرفة دار صديق حين رآهم يقبلون بوجوه ممسوحة بحقد ما تحت األرض

...كالدود الذي يتقنع باللون األخضر كي يمتص الحياة رويدا رويدا

ود كان يقف على الشرفة، وكانوا يمرون من تحته بعربدة لحظة خرجت من حد

:قال لصديقه ساعتها... العقل

أرأيت الصراصير كيف .. لقد وصلوا إلى هنا وعلينا أن نقف في طريقهم-

وهو ال يموت إال من .. ؟ إنها تلدغه في كعب قدمه"أخيل"تتحكم بمصير

!.يا للسخافة" أخيل"إن الصراصير وحدها قادرة على قتل ... هناك

... كل شيء يحتم هذه اللحظة كان... وفي الصباح هبط الجيش على الشارع

وقال ... وفي ذلك اليوم كان معروف في الشارع... وهربت الصراصير من جديد

:لصديقه

مزيدا من الهواء، لقد عادني إيمان طاغ بأنني سوف ... مزيدا من الهواء-

وكل شيء ... قادرا على التنفس" اخيل"ما زال .. أعود إلى بلدتي الصغيرة

.. وكانت تنير الشارع شمي حقيقية هذه المرة.. بعدحسن طالما لم يمت

وكان كل شيء .. وكان معروف يتنفس بملء رئتيه، ومن الهواء الذي يحبه

يبدو حقيقيا من جديد، لقد اختفت الصراصير، أما أولئك الذين صفقوا لها

...طويال فلقد التزموا الصمت بانتظار النتيجة

:وقال معروف لصديقه ويعيونه تدمع... وفي الليلة التالية حدثت الفاجعة

...وعادت الصراصير... مات اخيل-

وماذا بودك أن تصنع؟-

.سوف أبقى هنا-

إلى متى؟-

أيبدو لك األبد بعيدا؟... إلى األبد-

وأصر على أن يبقى هناك حتى تمتص الصراصير .. لقد رفض معروف أن يهرب

يلة على المسير في الشارع ولقد دأب منذ تلك الل... آخر خفقة ريح في المدينة

وكانت شفته السفلى ... الرئيسي ذهابا وإيابا وكفاه معقودتان خلف ظهره

...ترتجف

Page 57: أرض البرتقال الحزين

57

ورآه في رأس الشارع غارزا ... وفي ظهر ذلك اليوم وقف صديقه على الشرفة

كان هادئا، وكان .. رأسه بين كتفيه، عاقدا كفيه خلف ظهره يتحدث مع مسلحين

لة بال مباالة واضحة، ثم عاد إلى مسيره الهادئ وكان يبدو أنه لم يجيب على األسئ

.. يجب على آخر سؤال طرحاه، بل قاطعهما وعاد يكمل طريقه

سار قليال قبل ان يصوب الرشاش إلى ظهره، ثم تدوي الطلقات المتتابعة ويسقط

..معروف على ركبتيه ورأسه بين كفيه، ثم تعجز ركبتاه فيهوي على وجهه

ن يبدو في وضعه ذاك كأنه حفار حيل بينه وبين أن ينقب أعماق األرض، كا

كأنه جرادة منهكة بعد رحلة .. كأنه طير قصت أجنحته فسقط.. فانحنى يشمها

.قاسية سقطت ميتة على شاطئ جاف يابس

ما زال ملقى في وسط الطريق بنفس " معروف"وفي مساء ذلك اليوم كان جسد

ت الشمس حملته سيارة مع أجساد أخرى واتجهت وحينما غرب.. تلك الصورة

...خارج المدينة

ولقد تيسر لصديقه بعد يومين أن يرى ساعته وقلمه مع موظف قال أنه اشتراها،

أما جسد معروف فلقد دفن في حفرة واحدة مع أجساد كثيرة اضطجعت كما قال

.الحفار كتفا إلى كتف

ه بضعة رصاصات في ظهره، كان ولفت نظر الحفار جسد هزيل قصير لشاب قتلت

الجسد يرفض أن يستوي مع بقية األجساد، كان منحنيا، مرتاحا على ركبتيه

...وجبهته، ولقد اضطر أخيرا لدفنه على تلك الشالة، كأنه يصلي

***

وكان صوت الموج قد عال حتى أصبح يطوي ... بدأت بالظلمة تهبط بصورة أقتم

لبعيدة أنوارها فبدت في نهاية األفق قناديل مأتم كل صوت آخر، وأضاءت السفن ا

..تحملها مالئكة متشحة بالسواد

ومد صاحبي كفه كي ... وصلت في تلك اللحظة جرادة حطت على الصخرة أمامنا

يلتقطها، ولكنها طارت باندفاع مفاجئ متجهة بإصرار فتي نحو المزارع الخضراء

...الممتدة خلف الرصيف

Page 58: أرض البرتقال الحزين

58

1959- الكويت

شيءال

نقلت األنباء أن جنديا على الحدود صب فجأة رصاص رشاشه على األرض "

!."المحتلة فاقتيد على مستشفى األمراض العصبية

***

:كانت تلك هي المرة األولى التي سمع فيها هذا االصطالح

: وسأل الممرض فيما كان يقتاده على الخارج"! انهيار عصبي"

.ماذا يعني انهيار عصبي؟-

:أجاب الممرض بجفاء

!.يعني ؟ أنك لست على ما يرام-

:رفع يده ودق بأصبعه على جانب رأسه وسأل

هنا-

!نعم، هنا-

وقف هنيهة، لم يكن متأكدا من أي شيء، ثم عاد فسأل مرة أخرى لمجرد -

:أنه ال يعرف ماذا يتعين عليه أن يقول

هنا؟.. انهيار عصبي-

..نعم-

ماذا يعني ذلك؟-

..على ما يراميعني أنك لست -

Page 59: أرض البرتقال الحزين

59

.كيف؟-

جذبه الممرض من ذراعه بعنف فأحس بأنه إنما كان يقول كالما فارغا -

وأنه لم يكن ليستطع التحكم بلسانه، كان ثمة عنكبوت أسود كبير قد تمركز

.في جبينه من الداخل وأخذ يبني شباكه الدقيقة القاسية بين عينيه

.إلى أين ستأخذني اآلن؟-

..سعليك أن تقابل الرئي-

..حاول أن يقف إال أن الممرض دفعه بعنف، فأكمل مسيره

.قل لي، هذه المقابلة مع الرئيس، هل تتعلق بحكاية األعصاب هنا؟-

..أشار إلى جانب رأسه مرة أخرى، ومضى العنكبوت يشد خيوط شباكه

..أغلب الظن أن نعم-

.نعم ماذا؟-

!.أوف-

ولكنه كان يرغب في إطالق .. مرة أخرى أحس بأنه، فعال، ليس على ما يرام

:سراح لسانه إلى أبعد مدى مستطاع

.هل تعرف شيئا؟-

.ماذا؟-

ثبت قدميه في األرض وهز إصبعه بوجه الممرض المرافق، ولما يحاول األخير

..أن يدفعه شنج ساقيه وامتنع

..اريد أن اقول لك شيئا-

.ماذا؟-

..ولكنه ليس هنا.. صحيح انه انهيار عصبي-

.أين إذن؟-

:شار إلى صدره وقال بهدوءأ

..هنا-

..االنهيار العصبي ال يحدث هناك قط-

.من قال ذلك؟-

Page 60: أرض البرتقال الحزين

60

..األطباء-

..إنهم مجانين-

..مشى قليال، ثم وقف وهز إصبعه بوجه الممرض مرة أخرى

..ثم إن هذه الحالة ليست حالة طبية، إنها حالة عسكرية.. األطباء مجانين-

.لماذا هذه الحالة حالة عسكرية؟-

!نني أنا نفسي عسكريأل-

وما الفرق؟-

ماذا تعني؟-

كانت األبواب .. عاد الممرض، فجذبه بعنف وسار به في الممر النظيف الصامت

مغلقة على طول الجانبين، وكان العنكبوت قد بدأ يغني وهو يكمل نصب شباكه

..القاسية بين عينيه

أهو بعيد من هنا؟-

من؟-

..الرئيس-

..في آخر الممر-

ن ينتهي الحديث بتلك السرعة، وكان يحس بأن عليه أن يتكلم كثيرا، كان يزعجه أ

وكان الممرض المرافق .. لقد كانت رغبة جارفة تتمسك بصدغيه وتهزه بال هوادة

..يصر على سحبه بعنف، وكانت محاوالت التوقف تذهب هباء

رجل -ثم إنني كما قال الطبيب.. لنقف قليال ونستريح.. اسمع لقد أتعبتني-

..ريضم

وقف الممرض، وقاسه بعينيه مليا، ثم هز رأسه وأطبق شفتيه بإحكام، بينما اتكأ

على الحائط ومضى يتابع خطوات العنكبوت البطيئة وهو يتنقل في جبينه متما بناء

..عشه

بذلك الشيء المتعلق باألعصاب هنا؟.. بـ.. كيف عرفت أنني مصاب بـ-

االنهيار العصبي؟-

كيف عرف؟.. لعصبياالنهيار ا.. نعم-

Page 61: أرض البرتقال الحزين

61

...وهم يعرفون المرض من األجوبة.. لقد سألك أسئلة خاصة-

ولكنه لم يسألني كثيرا، سألني مرتين أو ثالث مرات ثم انكب على دفتره -

ماذا شعرت قبل أن تطلق الرصاص؟ فقلت له لم أشعر : قال لي.. يكتب

لم : ماذا شعرت بعد أن أطلقت الرصاص؟ فقلت له: ثم قال.. بأيما شيء

.أشعر بأيما شيء

فقط؟-

وكان يريد أن !. لقد أصيب بخيبة أمل كبيرة حينما قلت له ال شيء! أوه كال-

..يكتب وكنت أريد ان أساعده حقا فقلت له

ماذا قلت؟-

قلت له أنني بعد بأن أطلقت الرصاص شعرت بشيء واحد فقط، هو أن -

..مشط الفشك سريع االنتهاء

أشعرت بذلك حقا؟-

أسى، وكان العنكبوت قد أتم نسج بيته كله، ثم وقف في الوسط رافعا هز رأسه ب

..أذرعته المتعددة باحثا عن ذبابة

ضغطة واحدة على الزناد ! أنت ال تتصور كم كان ذلك مذهال! نعم.. أوه-

..إنهم ال يحملوننا سوى مشط واحد.. وينتهي األمر

..هيا بنا-

ألول مرة، منذ ذلك الوقت الذي تلقى شده من ذراعه فمشى معه وقد أحس باأللفة

وفي .. فيه ضربة قاسية على مؤخرة عنقه، ثم نقلته سيارة الجيش إلى المستشفى

غمرة ذلك الشعور المريح الحظ بأنهم خلعوا عنه بذلته العسكرية وألبسوه لباسا

..ولكنه لم يشأ أن يحزر متى حدث ذلك.. غريبا

..لقد قتلت اثنين-

من؟-

..أطلقت رصاصك قتلت اثنين منهمأنت، حينما -

..وأين المفاجأة؟ حينما يطلق المرء رصاصا فإنه يطلقه على شيء ما-

كنت تتعمد ذلك؟-

Page 62: أرض البرتقال الحزين

62

ماذا تحسب إذن؟!. أوف-

!..كنت أحسب انه انهيار عصبي-

وما الفرق؟-

.الفرق أن المصاب بانهيار عصبي ال يتعمد ذلك؟-

كمنه إال أنه ما لبث أن انطلق وقف فجأة فتقطعت خيوط بيت العنكبوت واهتز في م

بعناد إلصالح ما انفتق بمن الشباك

إنهم يحسبون إذن أنني لم أتعمد ذلك؟-

!أجل-

!لقد تعمدته! كال-

..لو قلت ذلك أمامهم لسجنوك، األفضل أن تمسك لسانك-

صار العنكبوت يعمل بصخب وجنون وأخذ يحدث ضجة في جبينه، خيل إليه

لممر الطويل دورة كبيرة حول نفسه ثم عاد إلى أنه على وشك أن يقع، ودار ا

..ما كان عليه

.لماذا يريدون أن أقول أنني لم أتعمده؟-

..ألنه عمل غير صائب-

ثبت قدميه في األرض فعاد الممرض لسحبه إال أنه نفض ذراعه بعنف وتقطعت

.. خيوط أكثر في بيت العنكبوت

أتريد أن أقول لك شيئا؟-

..ي، لقد ضيعنا نهارناأريد أن تمشي مع! كال-

..لن أمشي قبل أن أقول لك شيئا-

..حسنا، قل-

أنا مصاب بهذا الشيء المتعلق باألعصاب ألنني تعمدت أن أطلق -

.أليس كذلك؟.. الرصاص

..أجل-

تقطعت المزيد من الخيوط في بيت العنكبوت وضجت الحشرة السوداء بجنون

:وأكمل.. وهي تحاول رتق الفتق

Page 63: أرض البرتقال الحزين

63

بين بذلك الشيء الخطير المتعلق باألعصاب ألنهم يتعمدون وهم ليسوا مصا-

..أليس كذلك؟.. أن ال يطلقوا الرصاص

..أجل، ماذا تريد أن تقول؟-

..ال شيء.. ال شيء! ماذا أريد أن أقول؟ أوف-

سار بهدوء، وكان يدق أرض الممشى بقدميه الكبيرتين فيهتز جسده الضخم، وكان

..ثم يهتف.. وط تتقطع بعنفالعنكبوت يرتج في جبينه، والخي

.اسمع، هل أنت متأكد أن هذا هو الصحيح؟-

.ماذا؟-

هذا الذي قلته قبل قليل عن موضوع األعصاب؟ -

..طبعا.. طبعا-

كان العنكبوت قد بدأ يتالشى، وأمحت، فجأة، كل آثار .. نظر إلى الممرض بإمعان

..أبيض خيوطه المتشابكة وصار جبينه من الداخل نقيا كبالطة رخام

!..دعنا نذهب إلى الرئيس.. حسنا-

1962-بيروت