;

بني مقتضيات الواقع االجتامعي والقيام بالواجب الرشعي

العالمة الشيخمن حماضرات عبد الهادي الفضلي الدكتور

مجيع احلقوق حمفوظة

ألوىلاالطبعة

م0243ـ ه4131

أخرجت هذه الطبعة بإرشاف

جلنة مؤلفات العالمة الفضيل

z

| 7

تقدمي

; كان ـ وال يزال ـ موسم عاشوراء من املواسم الثقافية املهمة يف

ا ذكرى جمتمعات املوالني ألهل البيت ، حيث حييون فيه سنوي

حادثة كربالء املؤملة، وذلك من خالل العديد من الربامج الثقافية

. ويعد املوسم الثقايف االجتامعي األبرز والوعظية والروحية املتعددة

بجانب موسم شهر رمضان املبارك، وذلك من حيث تنوع الربامج

وحضورها اجلامهريي الواسع.

ويف عاشوراء يتناول خطباء املنرب احلسيني واقعة كربالء يف

جوانبها: التارخيية، واالجتامعية، والدينية. وإىل جانب احلديث عن

اخلطيب العديد من املوضوعات الدينية األخرى، كربالء، يتناول

كالتفسري والفقه والعقيدة واحلديث والسرية واألخالق وغريها. وهو

ما جيعل عاشوراء من أغنى املواسم الثقافية يف هذه املجتمعات.

| لحسينيةا لنهضةا

8 |

موسم عاشوراء ودعوات التجديد خيتلف خطباء املنرب احلسيني يف طريقة تناوهلم لواقعة كربالء، ففي

ني يكتفي البعض باإلطاللة التارخيية املألوفة عىل احلادثة وتناول ما ح

يتعلق هبا من موضوعات أخالقية ووعظية مكرورة، يكون منهج

البعض اآلخر هو حماولة التعمق واستجالء الدروس والعرب من تلكم

احلادثة املهمة واملفصلية يف تاريخ األمة اإلسالمية.

ن دعوات التجديد يف املستوى اخلطايب وقد كانت هناك العديد م

للمنرب احلسيني واخلروج عن التقليدية التي ال تتناسب ومتطلبات

العرص احلديث، وبخاصة يف تناول قضية مهمة مثل النهضة احلسينية.

وكان من تلكم التجارب إنشاء معهد للخطابة احلسينية، كانت بوادره

من املرجعية الدينية املتمثلة األوىل يف مدينة النجف األرشف وبدعم

وهي التجربة ه(. 1331حينها يف مرجعية السيد حمسن احلكيم )ت

التي مل يكتب هلا النجاح لظروف موضوعية واجتامعية عديدة، ليس ملثل

هذا التقديم أن يعاجلها أو يتطرق إليها.

وإىل جانب تطوير اخلطاب املنربي احلسيني، ظهرت دعوات مماثلة

ير برامج املوسم الثقايف العاشورائي، بحيث ال تقترص تلكم إىل تطو

الربامج عىل اخلطبة الوعظية والتعزية واملرثية واإلنشاد العاشورائي.

فينضم إىل ذلك املحارضات الثقافية املوجهة باخلصوص إىل الطبقة

الشابة واملثقفة. فظهرت برامج ثقافية حديثة استجابة لتلكم الدعوات.

نها )برنامج النهضة احلسينية( الذي أقيم يف حسينية الزهراء وكان م

تقديم |

| 3

رشق السعودية، الذي كان ،)حسينية آل شهاب( بمدينة سيهات

عا يضم إىل جانب اخلطبة الوعظية والنعي احلسيني: أسبوعا ثقافيا متنو

املحارضة الثقافية التفاعلية بني املحارض واجلمهور. وكان من حمارضي

مج سامحة العالمة الشيخ الدكتور عبد اهلادي الفضيل ـ حفظه الربنا

اهلل. إذ شارك بمحارضتني، افتتاحية بعنوان: )النهضة احلسينية.. أمر

ه 1417بمعروف وهني عن منكر( يف الليلة األوىل من املحرم سنة

م(، وأخرى يف وسط الربنامج بعنوان: )كيف أحيا 1336/ 5/ 18)

/ 5/ 21سالم من جديد(( يف الليلة الثالثة )اإل اإلمام احلسني

م(.1336

وقد آثرنا ـ يف جلنة مؤلفات العالمة الفضيل ـ حتريرمها بام يتالءم

ونمط الكتابة، إذ اقتىض ذلك دمج حمتوى املحارضتني يف فصول مخسة،

حيث مل نستطع فصل املحتوى يف فصلني متغايرين، وذلك لتداخل ما

ام يرتبط باملحارضة الثانية التي اضطر فيها طرح فيهام، وبخاصة في

سامحة الشيخ إىل إعادة بعض ما كان قد أشار إليه يف املحارضة األوىل.

ولعل ذلك يرجع إىل اختالف مجهور املحارضتني. ويضاف يف جهد

التحرير وضع العناوين الرئيسة والفرعية وإضافة اهلوامش، حيث

ستطاع وتضمني ما ذكره الشيخ أثناء إىل املصادر الرئيسة قدر امل رجعنا

املحارضة بنص عبارة تلكم املصادر. ومل يكن ذلك باألمر امليسور يف

مجيع مواضع االستشهاد، وذلك ملحدودية ما بني أيدينا من مصادر.

وإننا لنأمل ـ يف اخلتام ـ أن تعم هبذه الدراسة الفائدة، وأن يمن اهلل

| لحسينيةا لنهضةا

11 |

مرشوع إلمتامة والعافية، وأن يوفقنا عىل املؤلف القدير بدوام الصح

نرش مجيع مؤلفاته وتراثه الفكري خدمة هلذا الدين احلنيف الذي وطن

.سامحة العالمة عمره يف خدمته وبذل جل جهده وفاء له

حسني منصور الشيخ

جلنة مؤلفات العالمة الفضيل

ه4133/ 40/ 41

م0240/ 44/ 3

| 11

مقدمة

; وبعد: م عىل عباده الذين اصطفىاحلمد هلل، وسال

النهضة احلسينية من األحداث التارخيية املهمة عىل الصعيد

اإلسالمي، وذلك ملا ولدته هذه احلادثة من واقع جديد عىل املستويات:

عقيب وقوعها واستمرت إىل يومنا ،الفكرية واالجتامعية والدينية

احلارض.

دار حول هذه احلادثة من ورغبة يف املشاركة يف جتلية بعض ما

مالبسات، ارتأيت تناوهلا ضمن حمورين رئيسني، مها: اجلانب

االجتامعي، الذي أرشت فيه إىل ما فرضته مقتضيات التطورات

يف ذهابه إىل خيار املواجهة االجتامعية ـ حينها ـ عىل اإلمام احلسني

ت فيه طبيعة والثورة عىل الواقع القائم. واجلانب الرشعي، الذي أبن

| لحسينيةا لنهضةا

12 |

كوهنا أداء لفريضة إهلية مهمة، وهي فريضة األمر لالنهضة احلسينية و

باملعروف والنهي عن املنكر.

وقد رتبتها ضمن العناوين التالية:

النهضة احلسينية.. أداء لفريضة إهلية. -

النهضة احلسينية وطبيعة التحرك. -

املجتمع اإلسالمي وبوادر التغيري. -

ة املواجهة.أهل البيت ومرحل -

التضحية سبيال وحيدا للتغيري. -

آمال أن تكون هذه الفصول قد وضعت لبنة جديدة يف فهم أوسع

وأعمق لقضية احلسينية، وبخاصة يف مالبساهتا املوضوعية. واهلل تعاىل

ويل التوفيق، وهو الغاية.

عبد اهلادي الفضيل

| 13

األول الفصل

يةالنهضة احلسينية أداء لفريضة إهل

فريضة األمر باملعروف يف املجتمع اإلسالمي

الفريضة الرشعية وأساليب التطبيق

| 15

ال يمكن عزل حركة النهضة احلسينية ـ من أجل فهمها فهام

صحيحا ـ عن واقعها االجتامعي فيام كانت تشهده الساحة اإلسالمية

يف ذلكم الوقت من متغريات عىل الصعد السياسية واالجتامعية

والثقافية والدينية. وكذلك ـ بطبيعة احلال ـ عام رافقها من أحداث

وترصحيات من كال طريف املواجهة. ويف هذا السياق، جاءت وقفتنا يف

هذه الدراسة مع اإلعالن األول هلذه احلركة، وذلك يف الرسالة التي

إىل أخيه حممد بن احلنفية، يبني فيها طبيعة ما كتبها اإلمام احلسني

يقوم به من حترك، حيث كان بيانه األول واضحا يف حتديد هوية هذه

احلركة، وذلك حينام رصح بأنه يقوم بفريضة األمر باملعروف والنهي

عن املنكر ليصلح واقع األمة اإلسالمية، وذلك بالسري ـ يف منهجه

اإلصالحي ـ عىل النهج النبوي ومن بعده السرية العلوية، حيث يكمل

جان كل منهام اآلخر.املنه

وانسجاما مع مقتضيات البحث العلمي والتارخيي، ولفهم أكثر

جالء ووضوحا ملالبسات حادثة كربالء، يتوجب علينا ذلك بحث

| لحسينيةا لنهضةا

16 |

موضوع األمر باملعروف والنهي عن املنكر من حيث كونه فريضة

ية إسالمية، وذلك انطالقا من واقع التطبيق الفعيل له يف السرية النبو

.وكذلك يف عصور املعصومني

| 17

فريضة األمر باملعروف يف اجملتمع اإلسالمي

فهم الفريضة الرشعية ال يتأتى بمجرد النظر

اآليات القرآنية بغية وتفكيك مفرداتالبحت

يرتكز عىل بلالوصول إىل التطبيق الصحيح هلا،

املامرسة العملية للمعصوم الذي يمثل دليل دراسة

متثل . وكربالءف يف أداء الفروض الرشعيةاملكل

األمر باملعروف والنهي عن تطبيقا عمليا لواجب

ملا كان املجتمع اإلسالمي يعانيه من أمراض املنكر

وصلت إىل جذوره.

األمر باملعروف والنهي عن املنكر فريضة إسالمية تردد ذكرها يف

آيات القرآن الكريم، كام يف اآليات البينات:

ڳ ڳ ڳ ڳ ڱ ڱ ڱ ڱ ں ں ڻڻ ﴿ .1

﴾ڻ ڻ ۀ(1).

.114: ، اآليةآل عمرانسورة (1)

| لحسينيةا لنهضةا

18 |

ٺ ٺ ٺ ٺ ٿ ٿ ٿ ٿ ٹ ﴿ .2

.(1)﴾ٹ

ۉ ې ۉ ۅ ٴۇ ۋ ۋ ۅ﴿ .3

﴾ى ى ائ ائ ې ې ې(2).

وأكثر املفاهيم اإلسالمية الواردة يف القرآن الكريم مل حيدد مفهومها

من أهل البيت أو األئمة قرآنيا، وإنام ورد ذلك عىل لسان النبي

كام أن بعضها يفهم من خالل املامرسة العملية للمعصوم أو ما يقر .

من تطبيق املسلمني هلا وقبول املعصوم بتلكم املامرسة، فيكون حتديدها

من خالل دراسة الواقع االجتامعي اإلسالمي تارخييا.

وانطالقا من هذه النقطة بالذات، تكون دراسة النهضة احلسينية

إحدى تلكم النامذج املهمة يف فهم وحتديد معنى هذه الفريضة. ذلك أن

أشار برصيح العبارة إىل أن حتركه يف مواجهة اإلمام احلسني

السلطة األموية ـ يف حينها ـ كان ينطلق فيه من واجب األمر باملعروف

والنهي عن املنكر. وهي فريضة تتنوع أساليب أدائها مع اختالف

املوضوعية وما تتطلبه تلكم الظروف من طبيعة مناسبة الظروف

للمعاجلة.

ولذلك، فإن يف حال متت دراسة النهضة احلسينية يف جوانبها

.111: ، اآليةآل عمرانسورة (1)

.114: ، اآليةآل عمرانسورة (2)

إهلية لفريضة أداء احلسينية النهضة: األول الفصل |

| 13

عطي ذلك فهام لقيام بالثورة ومنطلقاهتا، سوف ييات افاملتعددة وخل

أدق لطبيعة التحرك احلسيني، ومن ثم فهام أعمق ملامرسة هذه الفريضة

اإلهلية.

وآلية التطبيق األمر باملعروف والنهي عن املنكر والذي يبدو أن هذه الظاهرة الرشعية يف البدايات األوىل للتاريخ

ـ كانت تسري يف خطني متالزمني، اإلسالمي ـ يف عرص رسول اهلل

مها:

:الرتبيةاخلط األول:

حيث يراد من املجتمع اإلسالمي أن يامرس فيه دور التوجيه

رشاد نحو طريق اهلداية وأداء الفروض الدينية، وهو ما يمكن واإل

تسميته بدور الوقاية. وهو ما يعني تعويد وتربية أبناء املجتمع عىل

االنقياد للخط املستقيم. وهو ما تؤديه عبارة )األمر باملعروف(. وإىل

الوقاية، يامرس املجتمع عملية العالج عن طريق )النهي عن املنكر(.

ال مل يستجب البعض فانحرفوا عن اخلط املستقيم، يقوم املجتمع ففي ح

بإرجاعهم وهدايتهم إىل اجلادة من جديد، ليبقى املجتمع ـ بمجموعه ـ

ضمن طريق اهلداية وبعيدا عن مواطن الضالل والغواية، وذلك بام

حيمله الدين من مسؤولية لألفراد جتاه جمتمعهم.

نبا من جوانب فريضة األمر باملعروف وهذه العملية الرتبوية ـ جا

| لحسينيةا لنهضةا

21 |

والنهي عن املنكر ـ تتمثل فيام يقوم به األنبياء من واجب الدعوة إىل

الدين واإليامن به وااللتزام بأداء فروضه وأحكامه. كام تتمثل أيضا فيام

يقوم به مجهور املؤمنني حينام يتواصون فيام بينهم بالصرب واملرمحة،

عىل أداء الفروضة الرشعية. وهذا يف شقه الوقائي. وحيث بعضهم بعضا

يقول تعاىل واصفا طبيعة املجتمع املسلم والعالقة القائمة بني أفراده:

ۉ ۉ ې ې ې ې ى ى ائ ائ ۅ ۅ﴿

.(1)﴾ەئ

أما يف اجلانب العالجي، فذلك مما يقوم به احلاكم الرشعي من

، وزجر املخالفني وردهم عن غيهم إقامة احلدود ورد املظامل إىل أهلها

وضالهلم، وهو جانب يتشارك معه فيه أبناء املجتمع فيام يامرسه

املؤمنون من رقابة اجتامعية حتافظ عىل وحدة املجتمع ضمن إطار

إسالمي عام تراعى فيه احلرمات وأداء األحكام الرشعية كام أمر هبا اهلل

.سبحانه وتعاىل وبلغها رسوله األمني

اخلط الثاين: اإلعالم:

ويقصد به نرش أجواء اإليامن من خالل حث املؤمنني اللتزام

مبادئ الدين وقيمه، بام يشيعه القائمون عىل املجتمع من التبشري بخريية

ا وأمهية القيام بالفروض واألحكام الرشعية اإلنسان وصالحه فطري

وأدائها غري جمتزأة أو منقوصة.

.18 - 17: ، اآليتانالبلدسورة (1)

إهلية لفريضة أداء احلسينية النهضة: األول الفصل |

| 21

خلط يف واجب األمر باملعروف والنهي عن ومن تطبيقات هذا ا

من بيان لألحكام الرشعية فيام كان املنكر ما كان يقوم به النبي

يؤديه من خطب يف املسجد يرشح فيها ملجتمع املؤمنني قيم ومبادئ هذا

الدين احلنيف. وهو أمر مارسه بعده أمري املؤمنني اإلمام عيل بن أيب

بع، إذ متثل خطب هنج البالغة نوعا من يف سني حكمه األر طالب

اإلعالم الديني ألهداف وقيم الدين اإلسالمي وحجة عىل أولئكم

املخالفني لردعهم عن غيهم وضالهلم، وترسيخا لقلوب املؤمنني

والسالكني طريقه القويم.

كام أن حركة النهضة احلسينية متثل يف جانب كبري منها عناية

نب التوجيهي اإلعالمي منذ انطالقتها املكية، واستمر واضحة هبذا اجلا

إىل ما بعد شهادة أبطاهلا األبرار. إذ متثل خطب اإلمام احلسني وكتبه،

اجلانب واإلمام زين العابدين ومعه خطب السيدة زينب

اإلعالمي الذي رافق وتال احلادثة، وهو دور ساهم ـ بصورة واضحة ـ

وية الظاملة وغري اإلنسانية يف واقعة كربالء، يف فضح املامرسات األم

من مظلومية عىل يد ومن ناحية ثانية بني مقدار ما حلق بأهل البيت

هذه الطغمة الفاسدة.

اخلطان )الرتبية واإلعالم( يمثالن ركيزيت هذه الفريضة، نوهذا

وال ينفكان عن بعضهام، فهام يسريان يف خطني متالزمني، يعضد

اآلخر يف بيان الرشيعة وأهدافها وقيمها العالية.أحدمها

| 23

الفريضة الشرعية وأساليب التطبيق

يقترص البحث الفقهي يف بيان احلكم الرشعي

لفريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر عىل

حاالته الفردية، و ال يتعرض لبيان حدود وطبيعة

اهرة ممارسة هذه الفريضة يف حال كانت إنكارا لظ

اجتامعية عامة، وهي طبيعة النهضة احلسينية. ومن

هذه الناحية تكمن دراستها فقهيا.

فهم الفريضة الرشعية ال يتأتى بمجرد النظر البحت إىل اآليات

القرآنية وحماولة تفكيك مفرداهتا بغية الوصول إىل التطبيق الصحيح هلا،

عية وأساليب تطبيقها عىل وإنام جيب أن يرتكز حتديد معاين احلدود الرش

املامرسة العملية للمعصوم الذي يمثل دليل املكلف يف أداء الفروض

الرشعية، واألخذ بمبادئها. ويف حتليل واقعة كربالء املؤملة، نجد أهنا

متثل تطبيقا عمليا لواجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر. وقد

ة )األمر باملعروف( وعالج سبقت اإلشارة إىل أن هذه الفريضة وقاي

)النهي عن املنكر(، وحادثة كربالء متثل ذلك اجلانب العالجي ملا كان

املجتمع اإلسالمي يعانيه من أمراض وصلت إىل جذوره، وهو ما

| لحسينيةا لنهضةا

24 |

يتطلب من اإلمام أن يعالج املجتمع من خالل عملية هدم لبناه

وعالقاته احلالية، وفرض واقع جديد.

من مراحل ةامرسة يندرج ضمن املرحلة األخريوهذا النوع من امل

إلنكار املنكر »ون إىل أن: ريالنهي عن املنكر، ذلك أن الفقهاء يش

مراتب، هي:

: إظهار االنزجار القلبي والكراهة القلبية.األول -

: اإلظهار بالقول واللسان.الثاين -

: ]اإلظهار[ باليد والفعل.الثالث -

متفاوتة أيضا، األيرس فاأليرس. ولكل هذه املراتب الثالث مراتب

وال تصل النوبة إىل كل الحق من حصول املقصود بالسابق. فيجب

دفع املنكر بالقلب أوال، بإظهار الكراهة. وإن مل ينفع ذلك انتقل إىل

اإلعراض، واقترص عىل األيرس فاأليرس. وإن مل ينفع ذلك انتقل إىل

يرس. ولو مل ينفع ذلك، انتقل اللسان، مع مراعاة األيرس من القول فاأل

«]املنكر[ إىل الرضب(1).

واملالحظ من لغة هذه املسألة الفقهية هو اقتصارها يف بيان احلكم

الرشعي لفريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر عىل حاالته الفردية،

ب األحكام يف بيان احلالل واحلرام، السيد عبد األعىل السبزواري )ت (1) مهذ

م، 1335ـ ه 1416، 4، نرش: مكتب السيد السبزواري ـ قم، طه(1414

.224ـ 223/ 15ج

إهلية لفريضة أداء احلسينية النهضة: األول الفصل |

| 25

ال تتعرض لبيان حدود وطبيعة ممارسة هذه الفريضة يف حال كانت و

اجتامعية عامة، وهي طبيعة ما نتناوله يف حادثة كربالء. إنكارا لظاهرة

إذ ينطلق التحرك احلسيني ملعاجلة ما وصل إليه املجتمع اإلسالمي

حينها، وهو ما ال تتحدث عنه مثل هذه املسائل. ولذلك يمكننا أن

ندرك أمهية دراسة النهضة احلسينية من الناحية الفقهية، أيضا، إذ إهنا

حث الفقهي، بحيث ال يقترص الحقا عىل تناول هذه توسع الب

املوضوعات من الناحية الفردية فقط.

كام أن البحث الفقهي ـ من جهة أخرى ال يتناول ـ يف معظمه ـ

اآللية التنفيذية لكل درجة منها. ذلك أن أداء هذه الفريضة خيتلف من

وعية إىل وقت إىل آخر، ومن جمتمع إىل جمتمع ثان، ومن ظروف موض

أخرى؛ وذلك تبعا للوضع االجتامعي الذي يعيشه الواقع اإلسالمي.

فإذا كان جمتمع من املجتمعات يعاين من ظهور بعض املامرسات السلبية

املتنافية واألحكام الرشعية، وال تزال يف بداياهتا وال يمكن عدها ظاهرة

أخذت بعض عامة، ختتلف آلية املعاجلة فيها عن ذلكم املجتمع الذي

الظواهر مأخذها منه، بحيث ال يكون احلل الفردي أو املعاجلات

ثمرة.ماملوضعية

بني اإلصالح والثورة فريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر يمكن أن يامرسها الفرد

ضمن حميط األرسة، وبخاصة من قبل الوالدين اللذين يتحمالن

حو التزامهم أداء األحكام الرشعية مسؤولية كبرية جتاه توجيه أبنائهم ن

| لحسينيةا لنهضةا

26 |

عىل خري وجه. ويستطيع الفرد أن يامرس هذه الفريضة جتاه أفراد

جمتمعه، وبخاصة من يملك تأثريا مبارشا جتاههم، كام هي احلال من

الفروض لتزام قبل األصدقاء الذين يتواصون بفعل اخلريات وا

املستوى الفردي الرشعية. ولكن هذه املامرسات تبقى تطبيقات عىل

لواجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر.

، بحيث ويمكن االرتقاء بمستوى تطبيق هذه الفريضة عىل اجلامعة

تكون نتائجها عامة متس املجموع العام للمجتمع اإلسالمي. وهو ما

يتنوع إىل معاجلات إصالحية، وأخرى ثورية )جذرية(. ففي حال كان

ت املسلمة يعاين من تصدعات قيمية يف بعض جمتمع من املجتمعا

جوانبه التي يمكن ترميمها، يكفي يف هذه احلال أن يبادر بعض املعنيني

برتميم تلكم التصدعات دون أن خيل ذلك بالبنية االجتامعية. وهو ما

خيتلف عام إذا وصلت التصدعات يف جمتمع آخر إىل اجلذور، بحيث

عىل البنية االجتامعية أمرين مستعصيني. إذ يكون الرتميم واملحافظة

يتطلب األمر ـ حينها ـ مبادرات جذرية هتدم تلكم البنية من أجل إعادة

بناء املجتمع عىل أسس وقيم دينية صحيحة. ويف كال احلالني نستطيع أن

نطلق عىل املعاجلة أمرا باملعروف وهنيا عن املنكر، إال أهنا يف األوىل

ا(، ويف الثانية تسمى )ثورة(.تسمى )إصالح

األمر باملعروف والنهي عن املنكر

عاجلة فرديةم معاجلة مجاعية

اإلصالح الثورة

إهلية لفريضة أداء احلسينية النهضة: األول الفصل |

| 27

واإلصالح االجتامعي يف اإلسالم من قبيل بعض اخلالفات التي

قد حتدث بني القبائل العربية بسبب بعض العصبيات اجلاهلية، فينربي

ڳ ﴿جمموعة من املؤمنني باإلصالح بينهام، كام هو مفاد اآلية الكريمة:

ں ںڻ ڻ ڻ ڻ ۀ ۀ ڱ ڱ ڱ ڱ

ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھے ے ۓ ۓ ڭ ڭ ڭڭ

﴾ۇ ۇ ۆ ۆ(1)

. فام قد حيدث بني فصيلني من املسلمني من

خالف حاد قد يؤدي إىل حال من االقتتال بينهام، يشكل حاال من

ة الكريمة ـ التصدع داخل البنية االجتامعية اإلسالمية. وما تنادي به اآلي

مور إىل هنا ـ هو التصدي ملثل حاالت التصدع تلك، وإرجاع األ

نصاهبا الصحيح، وذلك من خالل حل ما وقع بينهام بالعدل

واإلحسان، دون حتيز لطرف عىل حساب الطرف اآلخر، فاهلل تعاىل من

صفاته العدل، وحيب من يتحىل هبذه الصفة النبيلة يف معاجلة اخلالفات

اخلية يف املجتمع املسلم ـ كام هو رصيح اآلية.الد

بينام الثورة هي انقالب عىل الواقع وتغيري جذري له، وبمعنى

اجتامعي جديد مغاير. آخر، هي: هدم للوضع السابق وتأسيس لبناء

وهو من قبيل ما نحن بصدد احلديث حوله يف حتليل النهضة احلسينية

فاسد ال يمكن احلديث فيه عن التي كانت ثورة عىل واقع اجتامعي

ترميامت وترقيعات جانبية. وذلك بسبب ما وصل إليه الوضع ـ حينها

ـ إىل ما يمكن أن نطلق عليه نقطة التفجر الداخيل بسبب تراكامت من

.3: ، اآليةاحلجراتسورة (1)

| لحسينيةا لنهضةا

28 |

بمدة وجيزة، املخالفات الرشعية بدأت بعد رحيل رسول اهلل

الذي مل تعد تنفع معه حيث بدأت خمالفات بسيطة إىل أن بلغت من احلد

أنصاف احللول أو املعاجلات املوضعية. وهي النقطة التي سنبينها

بوضوح أكثر يف نقاط قادمة. ولذلك جيب التنبيه عىل أن النهضة

احلسينية مل تكن رصاعا بني قبيلني من املسلمني أو اجتاهني، وإنام هي

السكوت عن ثورة عىل واقع إسالمي فاسد وصل إىل الذروة قد يؤدي

هذه احلال إىل وضع اجتامعي تنمحي معه الكثري من املعامل الدينية، فال

يبقى من اإلسالم إال اسمه، ومن الدين إال رسمه.

| 23

الثاينالفصل

النهضة احلسينية وطبيعة التحرك

املجتمع اإلنساين والتغريات اجلذرية

الدعوة اإلسالمية ورضورة تغيري الواقع

سينية والقراةة الصيييةالثورة احل

| 31

اجملتمع اإلنساين والتغريات اجلذرية

ما تشري إليه ترصحيات اإلمام احلسني ـ

التي تتحدث وكذلك أحاديث أهل البيت

عن واقعة كربالء ـ أهنا امتداد حلركة الدعوة

املحمدية يف احلفاظ عىل الدين نقيا من شوائب

يرتكبها بعض حكام األهواء الشيطانية التي قد

اجلور ممن يتسلطون عىل رقاب املسلمني. واألمرـ

حينها ـ مل يكن ملجرد تويل شخص يزيد للسلطة،

وإنام لرتاكامت أخرى قام هبا من سبقه، ويزيد يمثل

حلقة ضمن تلكم الرتاكامت.

ما حيدث غالبا يف املجتمعات اإلنسانية ـ ضمن الرؤية الدينية ـ أن

اوزات خمالفة للفطرة اإلنسانية السليمة من قبل طبقة من حتدث فيها جت

املتنفذين يف املجتمع، وهناك من يكون ضحية ملثل هذه التجاوزات.

وهذه التجاوزات غالبا ما تبدأ بصورة فردية وحمدودة، ورسعان ما

تتسع رقعتها أفقيا، بحيث تشمل رشحية أوسع مع امتداد الفرتة الزمنية،

ا من حيث جتذر وتعمق تلكم التجاوزات بني أبناء املجتمع. وعمودي

| لحسينيةا لنهضةا

32 |

وهذه التجاوزات حتدث رشوخا اجتامعية طبقية وعنرصية ومناطقية

تعددة، وهو األمر الذي قد يستدعي الحقا انفجار الوضع ممن نواح

االجتامعي من قبل الرشحية الواسعة املتأثرة بتلكم التجاوزات.

ينبعث من أبناء املجتمع من ينادي ،رىكام أنه يف أحيان أخ

باحلقوق ويطالب بتصحيح الوضع نحو األفضل. ويف حال كانت تلكم

الدعوة مؤيدة من اهلل تعاىل ـ عن طريق أحد األنبياء ـ كانت تلكم الثورة

عىل الوضع الفاسد هي الدعوة الدينية اجلديدة التي بعث اهلل أنبياءه هبا

ونه من ظلم وجور وفساد مل تعد معه الرتقيعات ختليصا لعباده مما يعان

والرتميامت لبعض اجلوانب أن تعالج أساسات البنية االجتامعية

املتصدعة.

وهذه احلال كام حتصل ملجتمعات غري متدينة، كام هي مع املجتمع

اجلاهيل الذي كان يعيش حاال من الفساد االجتامعي التي كان يعيش

مة من الناس، فكانت الثورة التي أحدثها رسول ضحيتها الغالبية العا

، يمكن أن حتصل أيضا للمجتمعات املتدينة، وذلك من قبيل اهلل

إىل ، إذ بعث إىل أتباع نبي اهلل موسى بعث نبي اهلل عيسى

اليهود ناصحا وداعيا هلم لدعوته اجلديدة. ويف كلتا احلالني كانت

القائم ضمن خط الرساالت اإلهلية. املعاجلة والثورة عىل الواقع

وما نؤمن به ـ نحن اإلمامية ـ أن ما قام به اإلمام احلسني منسجم

مع هذا اخلط الرسايل اإلهلي، حيث كانت هنضته موجهة نحو تصحيح

مسار املجتمع اإلسالمي الذي كاد أن يبلغ حافة االهنيار بتسلط أناس

التحرك وطبيعة احلسينية النهضة: الثاين الفصل |

| 33

وصوله إىل السلطة دون وجود أي من قبيل يزيد بن معاوية، الذي كان

نوع من املعارضة يشكل حاال من االنقالب عىل قيم ومبادئ الدين

. إن ما نفهمه من الذي برش ودعا وضحى من أجله النبي حممد

التي وكذلك أحاديث أهل البيت ترصحيات اإلمام احلسني

ية يف احلفاظ تتحدث عن واقعة كربالء أهنا امتداد حلركة الدعوة املحمد

عىل الدين نقيا من شوائب األهواء الشيطانية التي قد يرتكبها بعض

حكام اجلور ممن يتسلطون عىل رقاب املسلمني. واألمر مل يكن ملجرد

تويل شخص يزيد للسلطة، وإنام لرتاكامت أخرى قام هبا من سبقه،

ره ويزيد يمثل حلقة ضمن تلكم الرتاكامت، وهو ما سنأيت عىل ذك

الحقا.

اإلنسان وحتمل املسؤوليتني الفردية واجلماعية وانطالقا من الرؤية اإلسالمية، يتحمل اإلنسان مسؤولية أدائه

وئ ۇئ ۇئ ﴿لألحكام الرشعية وأنه حماسب عىل مجيع أعامله، فـ

﴾ۆئ ۆئ ۈئ ۈئ ېئ(1)

. وكام حتمل اآليات القرآنية اإلنسان

مسؤولية من حييط به ـ أيضا ـ ف الرشعية، حتمله مسؤولية قيامه بالتكالي

ۈ ۈ ٴۇ ۋ ۋ ۅ ۅ ۉ ﴿يف األرسة، يقول تعاىل:

﴾ۉ ې(2)

. ويف دائرة أوسع، يتحمل اإلنسان مسؤولية احلفاظ

عىل جمتمعه ومصاحله العامة، وهو مضمون فريضة األمر باملعروف

.15 – 14: اآليتان ،القيامةسورة (1)

.6: ، اآليةالتحريمورة س (2)

| لحسينيةا لنهضةا

34 |

ياء بعض. يقول تعاىل: والنهي عن املنكر. ذلك أن املؤمنني بعضهم أول

چ چ چ چ ڇ ڇ ڇ ڇ ڍ ڍ ﴿

﴾ڌ ڎ ڎ ڈ ڈ ژژ ڌ(1).

بعض خطابات قرأوهلذا عندما ندرس حركة النهضة احلسينية، ن

التي يشري فيها إىل هذه الناحية التي ينطلق فيها من اإلمام احلسني

لية جتاه حسه العايل بام يمليه عليه ضمريه وتكليفه الرشعي من مسؤو

إن »يقول يف خطبته بمنطقة البيضة: أفراد جمتمعه املسلم، إذ نراه

هؤالء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرمحن، وأظهروا الفساد،

وعطلوا احلدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام اهلل، وحرموا حالله،

إىل أنه يرى يف نفسه . فنراه يف هناية هذا املقطع يشري«وأنا أحق من غري

أنه األوىل بتحمل مسؤولية تغيري الواقع، ذلك أن التغيري االجتامعي

مرهون بالنخب الواعية املدركة لطبيعة جمريات األمور العامة، حيث

تتحمل هذه النخب نسبة أكرب من املسؤولية، وهي النقطة التي يشري

.إليها

.72: ، اآليةاألنفالسورة (1)

| 35

قعالدعوة اإلسالمية وضرورة تغيري الوا

كام يمثل الدين رسالة إهلية يلزم فيها املؤمن

بمجموعة من الترشيعات واألحكام، يمثل تغيريا

اجتامعيا وخالصا منشودين، وكذلك حتقيقا لعدالة

اجتامعية كانت مفقودة يف ظل أنظمة ظاملة وطاغية.

واقع بعث األنبياء برسالة إهلية جديدة إىل أقوامهم إنام يكون بعد

اجتامعي فاسد، تعيش فيه رشحية واسعة من الناس حاال من الظلم

واالستبداد واجلهل، وهو أمر تبينه اآليات القرآنية التي تعد من الوثائق

التارخيية يف تصوير الواقع االجتامعي العريب ما قبل ظهور اإلسالم، ويف

ومن تلكم تصوير تداعيات الدعوة اإلسالمية عىل واقع هذه املجتمع.

الصور ما تعرضه اآليات الكريمة:

﴿چ چ چ ڄ ڄ ڄ ڃ ڃ ڃ ڃ ڦ ڄ

ڇ ڇ ڇ ڇ ڍڍ ڌ ڌ ڎ ڎ ڈ ڈ ژژ ڑ ڑ ک چ

| لحسينيةا لنهضةا

36 |

، حيث تصور اآليتان تلكم احلال التي وصل إليها (1)﴾ک

املجتمع املكي يف احتقاره للمرأة، بحيث يتوارى الفرد منهم إذا

ألنثى، إذ يتمنى أن يدس يف الرتاب فيختفي عن أخرب بمولوده ا

األنظار حياء مما برش به. ولذلك تؤسس اآلية الثانية ملفهوم إنساين

ڑ ﴿جديد حينام تستنكر عليهم هذه العادة السيئة، فيقول تعاىل:

.﴾ڑ ک ک

﴿ڳ ڳ ڳ ڳ ڱ ڱ ڱ گ گ گ گ

ڱ ں ں ڻ ڻ ڻ ڻ ۀ ۀ

﴾ہ ہ ہہ(2)

. تشري اآلية إىل أن ميزان الوالء والعداء يف

ا، وأن املجتمع العريب ما قبل اإلسالم كان مقياسا قبليا عشائري

قلوب وعقول العرب ـ حينها ـ كانت مبنية عىل هذا النوع من

العصبيات املقيتة. وهو ما تغري مع ظهور الدين اإلسالمي، وذلك

ومن اتبعه من املؤمنني من سكينة بام أنزله اهلل عىل قلب النبي

النفس التي ألزمهم فيها أن يكون املعيار يف الوالء والعداء هو

القيمة واملبدأ والتقوى من اهلل تعاىل. فاملؤمن احلق هو األوىل وذو

األهلية املتوافقة وهذا املعيار.

.53 – 58: ، اآليتانالنحلسورة (1)

.26: ، اآليةالفتحسورة (2)

التحرك وطبيعة احلسينية النهضة: الثاين الفصل |

| 37

﴿ ٺ ٺ ٺ ٺ ٿ ٿ ٿ ٿ ٹ ٹ ٹ

. لقد بعث (1)﴾ڄ ڦ ڦ ڦ ڦ ٹ ڤ ڤ ڤ ڤ

اهلل نبيه حممدا إىل أهل مكة )األميني( ومن حوهلا؛ ليغري واقعهم بام

يؤديه من وظائف ومهام غريت من واقع مظلم يرفل يف كان

ضالل مبني واضح إىل جمتمع متحرض.

وهو معنى نتبينه من خطبة جعفر بن أيب طالب أمام النجايش

يه النجايش أن يرشح حقيقة دعوة حاكم احلبشة، وذلك حينام طلب إل

أهيا امللك، كنا قوما »: ، فكان مما أجاب به قوله النبي حممد

أهل جاهلية، نعبد األصنام، ونأكل امليتة، ونأيت الفواحش، ونقطع

الرحم، ونيسء اجلوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا عىل ذلك حتى

وصدقه وأمانته وعفته، فدعانا إىل بعث اهلل إلينا رسوال منا، نعرف نسبه

اهلل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من

احلجارة واألوثان، وأمرنا بصدق احلديث، وأداء األمانة، وصلة الرحم

وحسن اجلوار، والكف عن املحارم والدماء، وهنانا عن الفواحش

نات، وأمرنا أن نعبد اهلل وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف املحص

«.. ال نرشك به شيئا، وأمرنا بالصالة والزكاة والصيام(2).

يف احتجاجها عىل أيب بكر، إذ وتشري إليه أيضا السيدة الزهراء

.2سورة اجلمعة، اآلية: (1)

، حتقيق: مصطفى السقا وإبراهيم ه(218السرية النبوية، ابن هشام )ت (2)

.336/ 1، جاألبياري وعبد احلفيظ شلبي، القاهرة، بدون تاريخ نرش

| لحسينيةا لنهضةا

38 |

،وهنزة الطامع ،مذقة الشارب.. وكنتم عىل شفا حفرة من النار »تقول:

أذلة ،د تقتاتون الق و ،رقترشبون الط ،وموطئ األقدام ،وقبسة العجالن

فأنقذكم اهلل تبارك .خاسئني ختافون أن يتخطفكم الناس من حولكم

الرجال وذؤبان م ه ب والتي وبعد أن مني ب بعد اللتيا وتعاىل بمحمد

﴾يب جت حت خت متىت ىب﴿ ،العرب ومردة أهل الكتاب(1)أو ،

هلواهتاقرن الشيطان أو فغرت فاغرة من املرشكني قذف أخاه يف م ج ن

..»(2).

يف هنج البالغة مليئة هبذه املعاين، كام أن خطب أمري املؤمنني

ثا عن رسول اهلل فها هو ،ل بعثه والناس ضال »: يقول متحد

ة وحاطبون يف فتنة ياء ، قد استهوهتم األهواء ،يف حري تهم الكرب ،واستزل

ية اجلهالء واتهم اجلاهل من ،حيارى يف زلزال من األمر ،ستخف

وبالء

ريقة ،يف النصيحة فبالغ ،اجلهل كمة ،ومىض عىل الط ودعا إىل احل

«واملوعظة احلسنة (3).

ة يلزم فيها املؤمن بمجموعة ولذلك فإن الدين كام يمثل رسالة إهلي

من الترشيعات واألحكام، يمثل تغيريا اجتامعيا وخالصا منشودين،

.وكذلك حتقيقا لعدالة اجتامعية كانت مفقودة يف ظل أنظمة ظاملة وطاغية

.64سورة املائدة، اآلية: (1)

، حتقيق: حممد أبو الفضل ه(656رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد )ت (2)

.251/ 16م، ج1336ـ ه 1416، 2إبراهيم، دار اجليل ـ بريوت، ط

، رشح: الشيخ حممد عبده )ت ه(416هنج البالغة، مجع: الرشيف الريض )ت (3)

.186/ 1م، ج1331ـ ه 1412بريوت، ط ، دار البالغة ـه(1323

| 33

الثورة احلسينية والقراءة الصحيحة

تصوير الرصاع يف حادثة كربالء تصويرا قبليا نابع

فهم العريب الذي بعد إىل حد ما عن من روح ال

الفهم اإلسالمي. ذلك أن قضية اإلمام احلسني

ويزيد بن معاوية مل تكن رصاعا بني أمية

وهاشم، وليست رصاعا بني كتلتني سياسيتني

تتصارعان حول اخلالفة واحلكم، وإنام كانت

رصاعا بني االنحرافية املتمثلة يف احلكم األموي،

متدادية الدعوة اإلسالمية املتمثلة يف وبني ا

انتفاضات العلويني وشيعتهم.

التصوير القبلي للنهضة احلسينية يف الثورة عىل يزيد سبقت اإلشارة إىل أن حترك اإلمام احلسني

بن معاوية مل يكن خالفا بني فصيلني من املسلمني، وإنام كانت انتفاضة

ل إىل الذروة بتويل يزيد بن معاوية عىل واقع اجتامعي فاسد، كان قد وص

للخالفة. وكانت التضحية ـ كام سنشري الحقا ـ احلل الناجع يف مثل

| لحسينيةا لنهضةا

41 |

تلكم الظروف املوضوعية التي عاشها (1)

. ولكن هذه النظرة مل

تكن واضحة لكثري من مجهور املسلمني، وذلك فيام تصوره بعض

، مها: بنو هاشم وبنو املصادر عىل أن ما حدث كان معركة بني قبيلني

أمية.

وقد صدرت كتب هبذا املعنى حتلل واقعة كربالء بناء عىل هذا

األساس القبيل أو الفئوي. وهو ما نلمسه يف كتاب تقي الدين املقريزي

النزاع والتخاصم فيام بني بني أمية وبني هاشم، حيث ه(: 845)ت

وية، وبعدمها ومعا يصور اخلالفات التي حدثت بني اإلمام عيل

بني بني أمية وأهل البيت عىل أهنا عداء تارخيي مستفحل، وأن معركة

سياق التارخيي املتجذر بني الفريقني. فاملقريزي الكربالء تأيت يف ذلكم

هاشم وعبد شمس. إذ »يرى ـ يف كتابه ـ أن الرصاع يف األصل كان بني

قبل هاشم، وقد يقال بأهنام ولدا توأمني. خرج عبد شمس يف الوالدة

لصقت إصبع أحدمها بجبهة اآلخر، فلام نزعت دمي املكان. فقيل:

«سيكون بينهام دم. فكان كذلك(2)ويضع من أمثلة ذلكم الرصاع ما .

وبني احلكم بن العاص كان بني رسول اهلل (3)

، ويف سياقه أيضا

تصور حادثة كربالء.

مل يكن يزيد من الدهاء بمثل ما كان أبوه معاوية. ولذلك فإن توقيت الثورة بأن (1)

تكون يف عهد يزيد له مدخلية يف حتقيق األهداف بصورة أفضل. وربام مل تكن

لتحقق ذلكم النجاح لو كانت يف عهد أبيه الذي عرف عنه دهاؤه ومكره

.السياسيني

النزاع والتخاصم فيام بني بني أمية وبني هاشم، تقي الدين املقريزي )ت (2)

م، 1388، حتقيق: الدكتور حسني مؤنس، دار املعارف ـ القاهرة، ط ه(845

.38ـ 37ص

.46ـ 44انظر: املصدر السابق، ص (3)

التحرك وطبيعة احلسينية النهضة: الثاين الفصل |

| 41

وي إىل جمتمع املوالني ومما يؤسف عليه أن يصل هذا التصوير الفئ

، فتصور احلادثة وكأهنا انتقام من قبل بني أمية ألهل ألهل البيت

البيت، بحيث يكون عىل األجيال الالحقة من بني هاشم ومن واالهم

من بني أمية. وهذا تصوير ال يتامشى أن يثأروا لإلمام احلسني

ي، كام أن هوية والرؤية اإلسالمية التي ال تؤمن بمسألة الثأر الفئو

قد كان هذا اللون من تصوير الرصاع والرصاع جيب أال يكون كذلك.

، حيث العرص العثامين الشيعة يف من املعاين البارزة التي طرقها شعراء

وممن أكد هذا املعنى اهلاشميني ألخذ الثأر. يستنهضون يف شعرهم كانوا

ان من الظواهر ، فقد كه(1314ـ وبشكل بارز ـ السيد حيدر احليل )ت

البينة يف شعره.

ويبدو أن التأكيد عىل املسألة نابع من روح الفهم العريب الذي بعد

إىل حد ما عن الفهم اإلسالمي، ذلك أن قضية اإلمام احلسني

ويزيد بن معاوية مل تكن رصاعا قبيليا بني أمية وهاشم، وليست رصاعا

ل اخلالفة واحلكم، كام حيلو لبعض بني كتلتني سياسيتني تتصارعان حو

مؤرخي األدب العريب أن يعدوها، وإنام كانت رصاعا بني االنحرافية

املتمثلة يف احلكم األموي، وبني امتدادية الدعوة اإلسالمية املتمثلة يف

انتفاضات العلويني وشيعتهم.

إن التأكيد عىل هذه املسألة ـ ولو جاء عن حسن نية ـ يفقد قضية

الشعورية خلفتها ام احلسني أهدافها ومغزاها، وما هو إال رواسب اإلم

وعمقتها الدعاية األموية، ودعاية الضالعني يف ركاهبا من مناوئي أهل

| لحسينيةا لنهضةا

42 |

واخلالفة ال رصاع بينهام أو حوهلام يف حساب قضية . فالقبيلةالبيت

حلسني إلمام اا(1).

يقول السيد حيدر احليل:

ا يــل إهنــفقــل لنــزار ســومي اخل

هلا إن وهبـت األرض يومـا أرتكهـا

الكـرى مضمضـة عينيك عىل حرام

فال نوم حتـى توقـد احلـرب مـنكم

ــاق ــن أميــة ىتس ــبا م ــأفواه الض ب

ـــا ـــور لرقه ـــا يف الوك ـــرامل املناي ف

ــت لكــم أال جتــيش نفوســكم عجب

هذي بنو عصارة اخلمـر أصـبحتو

وترهـا تطلـب منـك وهبت رقدت

ـــ ـــاإ ن حت ـــراد عراهب ـــر الط ىل ك

قد انحـط خلـف اخلـافقني تراهبـا

ــإن ــايل ف ــم لي ــال اهل ــاهبا ط حس

بملومــة شــهباء يــذكي شــهاهبا

ــرؤوس ح ــع وال ــدام نجي ــام باهب

قد التقطت حـب القلـوب عقاهبـا

وأال يقــــيء املرهفــــات قراهبــــا

ــىل ــرب ع ــادي من ــن اهل ــا يط ذباهب

طالهبا القديم احلقد شفى أن إىل (2)

ويقول يف موضع آخر:

أهاشم ال يوم لك ابـيض أو تـرى

ـــع ـــل يف طوال ـــامالق لي ـــا ت ختاهل

ــي ــالب بن ــت ىلاأل نييالغ ــا لس عامل

دك تزجي عارض النقع أغـرباجيا

املسخرا السحاب فقاأل ت سد وقد

قــرى أم كأكفــ طعــن يف أأســمح

، الشيخ جعفر اهلاليل، ملزيد من االطالع، راجع: معجم شعراء احلسني (1)

، 1ط، بريوتقديم: الدكتور عبد اهلادي الفضيل، مؤسسة أم القرى ـ ت

.32ـ 31/ 1م، ج2111ـ ه 1421

حتقيق: عيل اخلاقاين، مؤسسة ، ه(1314ديوان السيد حيدر احليل )ت (2)

.61 ، صم1384ـ ه 1414، 4للمطبوعات ـ بريوت، ط األعلمي

التحرك وطبيعة احلسينية النهضة: الثاين الفصل |

| 43

ــع مل اآلن إىل ــك جتم ــل ب ــة اخلي وثب

ــا ــوا كأهن ــعث الن ــا ش ــم هب هل

ــا ــن مغاره ــل أي ــألتك اخلي وإن س

رـمعشــ ن يف كــل دمــاكم طحــ ن إفــ

جـرى مـا بالطف تدرين ام كأنك

ذياب غضا يمرحن بالقـاع ضـمرا

عثـريا فقويل ارفعـي كـل البسـيطة

راـحتى ليس تبقني معشـ وال ثار

(1)

يل املسألة عىل أهنا ثأر بني بني حرب وبني هاشم، يصور السيد احل

فيقول:

بن حـامي الـدينا اي ك ر ت إن ضـاع و

ـــاهض آل أ ـــاش ومل تن ـــرب ه م ح

ــوين ـــا ك ــيفك للمناي ـــال س ال ق

ــ ـــة ال بش ــني ـرت عـلويـ بجن(2)

التصوير السياسي البحت للنهضة احلسينية ا ومل يقترص تشويه النهضة احلسينية يف ت صويرها رصاعا فئوي

ر عىل أهنا رصاع من حمضافحسب، بل إهنا تلبس لباسا سياسيا ، فتصو

أجل املنصب السيايس الذي مل يكن يزيد بن معاوية ليستحق تبوأه، فيام

يرى اإلمام احلسني نفسه صاحب األهلية لذلكم املنصب.

ة السلطة وعندما يعرض األمر هبذه الصورة فقط، دون بيان موقعي

، ال يعطي الصورة الواضحة حلقيقة كام يتصورها أئمة أهل البيت

ـ كام نؤمن نحن هذه النهضة. فاخلالفة هي من حق اإلمام احلسني

أيضا، ولكن التحرك الشيعة بذلك، ويؤمن بذلك اإلمام احلسني

.78ص املصدر السابق، (1)

.111ص املصدر السابق، (2)

| لحسينيةا لنهضةا

44 |

مل يكن من أجل نيل هذا احلق، أو من أجل نيل املكاسب السياسية،

يف التعاطي مع مثل هذه لك ليس من منهجية أهل البيت فذ

األمور. ذلك أن السلطة يف املفهوم العلوي هي من أجل أن يدفع

ا مضيعا، كام يبني ذلك أمري املؤمنني احلاكم باطال واقعا أو أن يقيم حق

عيل (1)

. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، جيب أن يكون فهم

تمدا عىل ترصحيات قائد هذه النهضة ورائد مسريهتا، طبيعة التحرك مع

كه هذا لن يكون إال ذلك أنه يف إعالنه األول يف مكة يشري إىل أن حتر

وخري يل مرصع أنا »تضحية بالنفس من أجل قضية مبدئية، يقول:

القيه، كأن بأوصايل تقطعها عسالن الفالة بني النواويس وكربالء ...

«. فينا مهجته موطنا عىل لقاء اهلل نفسه فلريحل معنا أال من كان باذال

ومن كان يعلم ـ من البدء ـ أنه سيقتل، لن يتحرك من أجل نيل السلطة

املغصوبة منه، فذلك تصوير ناقص للقضية، بل قد يكون تشوهيا ملبادئها

التي قامت من أجلها.

:النهضة احلسينية رجوع إىل القيم اإلسالمية به ـ نحن اإلمامية ـ أن ما قام من أجله اإلمام احلسني ما نؤمن

كا من أجل األمة. ذلك ا أو شخصيا بقدر ما كان حتر مل يكن حتركا فئوي

أن املجتمع اإلسالمي كان ال يزال جمتمعا وليدا بنى أسسه رسول اهلل

وقد أراد أهل البيت ، ـ ابتداء من اإلمام عيل وليس

ـ أن يستمر بناء هذا املجتمع وفقا لألسس باإلمام احلسني انتهاء

. وملا وقع ذلكم االنحراف الواسع عن التي وضعها رسول اهلل

.81/ 1انظر: هنج البالغة، مصدر سابق، ج (1)

التحرك وطبيعة احلسينية النهضة: الثاين الفصل |

| 45

تلكم القيم واألسس بام ظهر من فساد وشيوع لظواهر اجتامعية آخذة

يف االنتشار عىل حساب القيم اإلسالمية، وجد اإلمام احلسني

اجبه، وذلك من خالل إحداث تلكم اهلزة النفسية نفسه ملزما بالقيام بو

مة للرجوع عن غيها وإلحياء ضامئر هؤالء القوم الذين يف جمموع األ

غفلوا عن حقيقة واقعهم. وبعبارة موجزة: إن املجتمع ـ بام فيه من

واقع فاسد ـ هو من دفع اإلمام خليار الثورة، وهو اخليار الذي مل يكن

.مام احلسني منه بد يف منهج اإل

| 47

الثالثالفصل

اجملتمع اإلسالمي وبوادر التغيري

الرسول رحيل بعد بوادر التغيري

املجتمع اإلسالمي يف ظل النظام الطبقي

| 43

مع متكن معاوية بن أيب سفيان عادت الروح اجلاهلية إىل املجتمع

العريب بعدما أذاب الدين اإلسالمي مجيع تلكم العصبيات(1)

، وهو

طالبة بعودة الروح الواقع الذي خرج اإلمام احلسني للثورة عليه وامل

. وما تنبغي اإلسالمية األخوية من جديد كام رسخها النبي حممد

اإلشارة إليه هنا أن املسلمني مل يصلوا إىل هذه احلال دفعة واحدة ومع

توالت عىل بدء الدولة األموية، وإنام كان ذلك وليد تراكامت اجتامعية

إىل أن وصلت احلال إىل املجتمع اإلسالمي بعد رحيل رسول اهلل

.ما كانت عليه أيام اإلمام احلسني

كانت حياة العرب يف اجلاهلية قائمة عىل »يقول عمر فرومل حول هذه الفكرة: (1)

العصبية القبلية، وكانت هذه العصبية سببا من أسباب منازعاهتم الكثرية التي

ات قادهتم يف معظم األحيان إىل القتال، ... فلام جاء اإلسالم أغرق العصبي

ومجع العرب أمة واحدة ويدا واحدة. ثم خط األمويون سياستهم القومية،

. انظر: تاريخ األدب «فعادت تلك العصبيات إىل االستيقاظ من جديد

/ 1م، ج1381، 4العريب، عمر فرومل، دار العلم للماليني ـ بريوت، ط

353.

| 51

بوادر التغيري بعد رحيل الرسول

السياسة املالية اجلديدة بعد رحيل الرسول

فرضت واقعا اجتامعيا إسالميا جديدا، متثل يف

ة معينة عىل حساب بقية تضخم الثروة لدى طبق

الطبقات. ما أقام املجتمع العريب عىل قاعدة الطبقية

)ارستقراطية وشعبا وعامة(، بعد أن كانوا سواء

يف نظر القانون. وقد استقر يف النفوس ـ حينها ـ أن

قريشا استأثرت باملال، وكان ذلك مقدمة للفتنة،

فالثورة الحقا.

أبو بكر، وجاء من بعده عمر بن هلل توىل اخلالفة بعد رسول ا

اخلطاب، وقد كانت سياستهام احلفاظ عىل املظهر اإلسالمي العام وعدم

اإلخالل بطبيعة النظام اإلسالمي العام. ولكن هذه السياسة شاهبا نوع

من التغيري، وذلك بام أحدثه عمر بن اخلطاب من تغيريات يف أخريات

بتقسيم الناس إىل طبقات، بحيث تكون خالفته، حيث قام ـ حينها ـ

الطبقة األوىل هي األوفر عطاء فيام األخرية هي األقل من حيث العطاء

املادي.

| لحسينيةا لنهضةا

52 |

يف طبقاته، ه( 231وهي حادثة يروي تفاصيلها ابن سعد )ت

ملا أمجع عمر بن اخلطاب عىل تدوين الديوان، وذلك يف املحرم »فيقول:

ه21سنة (1)

الدعوة، ثم األقرب فاألقرب برسول ، بدأ ببني هاشم يف

، قدم أهل ، فكان القوم إذا استووا يف القرابة برسول اهلل اهلل

السابقة، حتى انتهى إىل األنصار. فقالوا: بمن نبدأ ]من األنصار[(،

وا برهط سعد بن معاذ األشهيل، ثم ؤ فقال عمر ]بن اخلطاب[: ابد

وكان أبو بكر الصديق قد سوى األقرب فاألقرب من سهل بن معاذ..

بني الناس يف القسم، فقيل لعمر يف ذلك، فقال: ال أجعل من قاتل

، كمن قاتل معه.رسول اهلل

فبدأ بمن شهد بدرا من املهاجرين واألنصار، ففرض لكل رجل

يف كل سنة، حليفهم وموالهم معهم بالسواء. مخسة آالف درهممنهم

م كإسالم أهل بدر من مهاجرة احلبشة ومن وفرض ملن كان له إسال

لكل رجل منهم. وفرض ألبناء البدريني أربعة آالف درهمشهد أحدا

، إال حسنا وحسينا، فإنه أحلقهام بفريضة أبيهام لقرابتهام ألفني ألفني

واحد منهام مخسة آالف درهم، وفرض ، ففرض لكل برسول اهلل

، ..ف درهم لقرابته برسول اهلل للعباس بن عبد املطلب مخسة آال

. ثالثة آالف درهموفرض ملن هاجر قبل الفتح لكل رجل منهم

. وفرض لغلامن أحداث ألفنيوفرض ملسلمة الفتح لكل رجل منهم

ه.23، وكانت وفاته سنة ه13توىل عمر بن اخلطاب اخلالفة سنة (1)

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 53

«من أبناء املهاجرين واألنصار كفرائض مسلمة الفتح، ...(1)

. ويكمل

ملجتمع ابن سعد تفاصيل كثرية يف طريقة تقسيم عمر بن اخلطاب

املسلمني وما يستتبع ذلك من تفاوت يف العطاء املايل.

وهذه السياسة املالية اجلديدة فرضت واقعا اجتامعيا جديدا، متثل

يف تضخم الثروة لدى طبقة معينة من املسلمني عىل حساب بقية

أحدثه عمر بن اخلطاب من تنظيم مايل أوجد متايزا كبريا، »الطبقات. فام

املجتمع العريب عىل قاعدة الطبقات، بعد أن كانوا سواء يف نظر وأقام

القانون )الرشيعة(، فقد أوجد ارستقراطية وشعبا وعامة، .. وقد استقر

يف نفوس املسلمني أن قريشا استأثرت باملال، وكان مهيئا للثورة

ه ومقدمة للفتنة. فالثورة التي دارت عىل عثامن مل تكن نتيجة سياست

اخلاصة وحدها، بل ونتيجة جتاوزات سياسية سابقة، ظهر أثرها الكامن

«حني استعد الظرف وحان حينه(2).

وهي احلال التي أظهر معها عمر ـ الحقا ـ نوعا من الندم

واهلل لئن بقيت إىل هذا العام »واألسف، فقد أورد عنه ابن سعد قوله:

«لنهم رجال واحدااملقبل، ألحلقن آخر الناس بأوهلم وألجع(3) .

، حتقيق: الدكتور ه(231الطبقات الكبري، حممد بن سعد بن منيع الزهري )ت (1)

ـ 276/ 3م، ج2111ـ ه 1421عيل حممد عمر، مكتبة اخلانجي ـ القاهرة،

277.

، الشيخ عبد اهلل سمو املعنى يف سمو الذات أو أشعة من حياة احلسني (2)

.233ـ 232، ص ه1353 ،2العالييل، دار مكتبة الرتبية ـ بريوت، ط

.281/ 3املصدر السابق، ج (3)

| لحسينيةا لنهضةا

54 |

فل الناس سلئن بقيت إىل احلول، ألحلقن أ»وكذلك أورد عنه قوله:

«بأعالهم(1)

. وهي نقطة يذكرها الدكتور طه حسني يف كتابه الفتنة

كان عمر قد فرض لكل واحد من »الكربى: عثامن، إذ يقول هناك:

وعىل أصحاب النبي عطاءه عىل مكاناهتم وسابقاهتم يف اإلسالم،

منازهلم وقرابتهم من النبي، وكان عمر يرى أن فيام فرض هلم من

العطاء ما يغنيهم ويكفيهم السعي واالكتساب، ولكنهم ـ مع ذلك ـ

اكتسبوا واجتروا، وكان منهم من ضارب، فعظم ثراؤهم وكثرت

أمواهلم، فتوسعوا يف الغنى وتوسعوا يف العطاء أيضا، ومل يستطع عمر

فلم يرض عن ذلك ومل تطب به من ذلك أو يردهم عنه، ... أن يمنعهم

نفسه، حتى كان يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ألخذت

«من األغنياة فضول أمواهلم فرددهتا عىل الفقراة(2).

م. ن. (1)

الفتنة الكربى: عثامن، ضمن كتاب )إسالميات(، الدكتور طه حسني، (2)

.672ـ 671م، ص 1367، 1منشورات دار اآلداب ـ بريوت، ط

| 55

اجملتمع اإلسالمي يف ظل النظام الطبقي

يعد اخلليفة عثامن أول من قام ـ من خلفاء وحكام

لمني ـ باقتطاع األرايض ملقربيه، مع أن بعض املس

ا، ما اقتطعه من أراض هي أراض فتحت عسكري

وهذه األرايض ـ فقهيا ـ هي مال عام جلميع

املسلمني، وال يصح إقطاعه لفرد خاص منهم.

هيأت سياسة الطبقية االجتامعية التي ظهرت أواخر عهد عمر إىل

سنة، كانت 12عثامن الذي استمر حكمه ترسخها يف عهد اخلليفة

الست األوىل منها مشاهبة من حيث املجمل ملا كانت عليه اخلالفة أيام

عمر بن اخلطاب. وما ظهر من تغري واسع يف سياسة عثامن إنام كان يف

السنوات الست األخرية، كام يعرض هلذا ابن سعد يف طبقاته، إذ يقول:

سنة أمريا يعمل ست سنني ال ينقم ةثنتي عرشملا ويل عثامن، عاش ا»

الناس عليه شيئا، وإنه ألحب إىل قريش من عمر بن اخلطاب؛ ألن عمر

كان شديدا عليهم، فلام وليهم عثامن الن هلم ووصلهم. ثم توانى يف

| لحسينيةا لنهضةا

56 |

«أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته يف الست األواخر(1).

قد أحدث تغيريات تذكر يف سنواته األوىل سوى ما ومل يكن عثامن

قام به من بعض التعديالت عىل نظام الطبقات الذي كان قد بدأه عمر،

كلم فيام »حيث قام بتقديم قرابته، فجعلهم من الطبقة األوىل، وقد

أعطى لذوي قرابته من بيت املال، فقال: )إن عمر كان حيرم قرابته

طي قرابتي احتسابا هلل(. وما أشار إليه عثامن قد احتسابا هلل، وأنا أع

يستقيم عند الذين حياولون أن يتأولوا يف الفقه، فأما املصالح العامة فال

فال ،حتتمل هذا النوع من التأويل، فهذه املصالح إما أن تكون للشعب

حيل لإلمام أن يترصف فيها إال بإذنه ]أي بإذن الشعب[، وإما أن تكون

«، فال حيل للشعب أن يعرتض عليه إن ترصف فيهالإلمام(2).

وما حدث يف عهد عثامن كان له مدخلية واضحة يف هتيئة املجتمع

كان عليه أيام كم بدأ يبتعد شيئا فشيئا عام اإلسالمي لنظام يف احل

، ويمكن مالحظة ذلك من األمثلة التالية:الرسول

تماعيةوترسيخ الطبقية االج املبعدينتقريب أحاط عثامن بن عفان نفسه أيام خالفته بقرابته من بني أمية، وكان

عىل رأس هؤالء احلكم بن العاص بن أمية وابنيه مروان واحلارث،

عن املدينة ومنعهام من دخوهلا. وقد وهم ممن أبعدهم رسول اهلل

.61/ 3الطبقات الكبري، ابن سعد الزهري، مصدر سابق، ج (1)

.631الدكتور طه حسني، مصدر سابق، ص الفتنة الكربى: عثامن، (2)

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 57

، وكذلك سرية من سبقه، إذ مل خالف عثامن بذلك سرية النبي

- كل من أيب بكر وعمر بدخول املدينة امتثاال لسرية النبي يسمح هلام

:أما أبوه ]أبو مروان[ ». يقول ابن أيب احلديد يف رشحه عىل النهج

ولعينه، ... ثم صار طريدا احلكم بن العاص، فهو طريد رسول اهلل

أليب بكر وعمر، امتنعا عن إعادته إىل املدينة، ومل يقبال شفاعة عثامن،

أدخله، فكان أعظم الناس شؤما عليه، ومن أكرب احلجج يف قتله ف لام ويل

«وخلعه من اخلالفة(1).

ومل يكتف عثامن بتقريبه هلم، بل حيكي عنه ابن سعد يف طبقاته أنه

كتب ملروان بن احلكم مخس خراج مرص(2)

، وهو ما يعني مخس ميزانية

هبا. كام أنه أعطاه يف أول دولة بأكملها، وهي ثروة ضخمة ال يستهان

وروده املدينة مئة ألف درهم(3)

. وبذل املال ملروان وأمثاله ال جيب أن

ينظر إليه عىل أنه إعطاء لرجل مغضوب عليه من قبل النبي

فحسب، وإن كانت تلك خمالفة كبرية ال يستهان هبا، ولكنها ـ انطالقا

ل املسلمني العامة، وإعطاء مال مما نود اإلشارة إليه ـ ترصف يف أموا

املسلمني العام لفرد واحد دون أي استحقاق أو مربر قانوين أو رشعي،

وإثراء لطبقة عىل حساب بقية الطبقات االجتامعية األخرى.

.233/ 15رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

.61/ 3انظر: طبقات ابن سعد، مصدر سابق، ج (2)

، حتقيق: ه(273انظر: مجل من أنساب األرشاف، أمحد بن حييى البالذري )ت (3)

، 1فكر ـ بريوت، طالدكتور سهيل زكار والدكتور رياض زركيل، دار ال

. والغدير يف الكتاب والسنة واألدب، 136و 133/ 6م، ج1336ـ ه 1417

، مؤسسة األعلمي ـ ه(1332الشيخ عبد احلسني األميني النجفي )ت

.257/ 8م، ج1376ـ ه 1336، 3بريوت، ط

| لحسينيةا لنهضةا

58 |

ومل يكتف عثامن بالعطايا ملروان، فقد ذكر ابن أيب احلديد يف رشحه

ابنته ]أخا مروان[ احلكمبن احلارث أنكحعىل هنج البالغة أن عثامن

ئة ألف من بيت املالعائشة، فأعطاه م(1)

. وملا وردته صدقات من اإلبل

وهبها مجيعا للحارث أيضا(2)

رسول . كام أن عثامن أقطع سوقا أوقفها

للحارث، وذلك عىل املسلمني ـ املدينة بموضع ـ بمهروز اهلل

ام هبا رسول اهلل لعموم لقرابته منه، دون أي اعتبار حلكم وقفية ق

املسلمني(3).

توزيع الثروة العامة على احلاشية يقر عثامن عىل نفسه ـ فيام يرويه عنه البالذري يف أنسابه ـ بتقريبه

حدثني حممد بن سعد عن »وتوزيعه الثروة عىل أقاربه، إذ يقول:

ن الواقدي عن عبد اهلل بن جعفر عن أم بكر بنت املسور بن خمرمة ع

أبيها، قال: سمعت عثامن يقول: أهيا الناس، إن أبا بكر وعمر كانا

يتأوالن يف هذا املال ظلف (4)أنفسهام وذوي أرمحهام، وإين تأولت فيه

.133/ 1انظر: رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

.137/ 6اب األرشاف، البالذري، مصدر سابق، جانظر: مجل من أنس (2)

، وقد ورد67/ 1جمصدر سابق، البالغة البن أيب احلديد، رشح هنجانظر: (3)

اسم السوق يف النهج خطا )هبروز(.

الظلف: األنعام. وجاءت اإلبل عىل ظلف واحد، أي متتابعة. ووجدت الدابة (4)

حه. ووجد فالن ظلفه، أي: مراده. واملعنى ظلفها، أي: مرعى يناسبها ال ترب

هنا: أن أبا بكر وعمر كانا يتأوالن يف أخذ املال مرادمها ومراد ذوهيم

صلة رمحي. انظر: املعجم وسأراعيوأرحامهم. وأنا سأفعل كام فعال،

، 4الوسيط، جممع اللغة العربية بالقاهرة، مطبعة الرشوق الدولية ـ القاهرة، ط

، مادة: )ظلف(.576م، ص 2114ـ ه 1425

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 53

ةملا ويل عاش اثنتا عرش». ثم يضيف البالذري بأن عثامن «صلة رمحي

م توانى يف سنة أمريا، فمكث ست سنني ال ينقم الناس عليه شيئا، ... ث

واستعمل أقاربه وأهل بيته يف الست األواخر أمرهم ]أمر الناس[،

«وأمهلهم(1)

. وجراء سياسته هذه يف اإلغداق عىل قرابته، تولدت

جمموعة من طبقة األغنياء التي أثرت عىل حساب بقية طبقات املجتمع،

وإليك بعضا من هذه النامذج:

هلل بن أيب الرسح إىل إفريقية، أعطاه ملا أرسل أخاه يف الرضاعة عبد ا .1

طنجة، ولنا أن نتصور مقدار مجيع ما أفاء اهلل عليه من طرابلس إىل

هذه الثروة الضخمة التي مل يرشك معه فيها أحدا من جيشه وال من

بقية املسلمني(2).

أعطى أبا سفيان يف يوم واحد مئتي ألف، ويف اليوم نفسه أعطى .2

ت مال املسلمنيمروان مئة ألف من بي(3).

ملا أتى أبو موسى األشعري من العراق بأموال كثرية، وزعها مجيعا .3

عىل أقربائه من بني أمية(4).

، أعطاه أسيد األموي صلة بن عبد اهلل بن خالد طلب منهعندما .4

أربعمئة ألف درهم(1).

.133/ 6مجل من أنساب األرشاف، البالذري، مصدر سابق، ج (1)

، دار اجلواد ه(1411انظر: الشيعة يف امليزان، الشيخ حممد جواد مغنية )ت (2)

.71م، ص 1386، 11ودار التيار اجلديد ـ بريوت، ط

.72ـ 71انظر: املصدر السابق، ص (3)

ه.انظر: املصدر نفس (4)

| لحسينيةا لنهضةا

61 |

استفاد طلحة بن عبيد اهلل الذي دخل اإلسالم فقريا من قرابة .5

ع عثامن، حيث أعطاه مئتي ألف درهم يف يوم واحد، كام جتمعه م

أغدق عليه معاوية إىل أن أصبح من أثرياء املسلمني. ويف ذلك

يفصل ابن سعد يف طبقاته ما كان يملكه طلحة من ثروة هائلة،

طلحة كان يغل بالعراق ما بني أربعمئة ألف إىل »فيشري إىل أن

ب آالف دينار أو أقل أو أكثر، و مخسمئة ألف، ويغل بالرساة عرشة

]منطقة[ األعراض له غالت. وكان يرسل إىل عائشة إذا جاءت

غلته كل سنة بعرشة آالف، وكان قد قىض ]دينا[ لصبيحة التيمي

ثالثني ألف درهم. وقد ترك ألفي ألف درهم ومئتي ألف درهم

من ومئتي ألف دينار. وكان يدخل قوت أهله باملدينة سنتهم

عها عىل عرشين ناضحازر]منطقة[ قناة كان يب مزرعة (2)

، وكان

«أول من زرع القمح بقناة(3)

. ويف موضع آخر يذكر بأن تركته من

األموال والعقار قدرت بثالثني مليون درهم ومئتي ألف دينار(4).

ويامثل طلحة يف الثراء الزبري بن العوام الذي اشرتك معه يف احلرب .6

، حيث اختلف املؤرخون فيام ترك من ثروة، ؤمنني ضد أمري امل

انظر: املصدر نفسه. (1)

الناضح: الدابة يستقى عليها، وكذلك تأيت بمعنى احلوض. فربام كان بمعنى: (2)

، أو أهنا ذه األرايض، مما يدل عىل سعتهاهسقي أن عرشين دابة تعمل يف

أرض حتتوي عىل عرشين حوضا. انظر: املعجم الوسيط، مصدر سابق، ص

، مادة )نضح(.328

.213ـ 212/ 3طبقات ابن سعد، مصدر سابق، ج (3)

.213/ 3املصدر السابق، ج (4)

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 61

مليونا 35ب فهناك من قدرها ـ حسب ابن سعد يف الطبقات ـ

ب مليونا، فيام قدرها بعض 41ب ومئتي ألف، ويف مورد ثان قدرت

مليونا 52(1).

ومن الذين أثروا بسبب السياسة الطبقية يف توزيع األموال يف .7

الرمحن بن عوف، الذي كان يعمل يف عهدي عمر وعثامن: عبد

صناعة احلبال التي كان تعقل هبا البعري)العقال(، وهي املهنة التي

ترك عبد »ال يتصور أن يثري منها عبد الرمحن كل هذا الثراء، فقد:

الرمحن بن عوف ألف بعري وثالثة آالف شاة بالنقيع، ومئة فرس

عرشين ناضحا، ... وكان ترعى بالنقيع، وكان يزرع باجلرف عىل

لت فيام ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى جم(2)أيدي الرجال منه.

«وترك أربع نسوة، فأخرجت امرأة من ثمنها بثامنني ألفا(3).

كام أن ثروة عثامن وتركته مل تكن بالقليلة، إذ يصفها ابن سعد يف .8

ان كان له عند عثامن بن عف »طبقاته فيام يرويه يف أحداث مقتله أن

خازنه يوم قتل ثالثون ألف ألف درهم، ومخسمئة ألف درهم،

ومخسون ومئة ألف دينار، فانتهبت وذهبت. وترك ألف بعري

. وانظر: سمو املعنى يف سمو الذات، الشيخ عبد 112/ 3املصدر السابق، ج (1)

.21العالييل، مصدر سابق، ص

جملت يده: تقرحت من العمل، وتكون بني اجللد واللحم فيها ماء بإصابة نار (2)

جم الوسيط، مصدر أو بسبب مشقة أو معاجلة اليشء اخلشن. انظر: املع

، مادة )جمل(.855سابق، ص

.127/ 3املصدر السابق، ج (3)

| لحسينيةا لنهضةا

62 |

بالربذة، وترك صدقات كان يتصدق هبا يف بئر أريس(1)وخيرب

«ووادي القرى قيمة مئتي ألف دينار(2).

ظاهرة اقتطاع األراضي العامة ليفة عثامن أول من قام ـ من خلفاء وحكام املسلمني ـ يعد اخل

باقتطاع األرايض ملقربيه، مع أن بعض ما اقتطعه من أراض هي أراض

ا، وهذه األرايض ـ فقهيا ـ هي مال عام فتحت عنوة، أي فتحت عسكري

جلميع املسلمني، وال يصح إقطاعه لفرد خاص منهم.

ي يف كتابه تاريخ املدينة املنورة فصال فيام يعقد ابن شبة النمري

أول من أقطع بالعراق »أقطعه عثامن من أراض عىل الصحابة، فيقول:

قطائع مما كان من صوايف آل كرسى، ومما جال عنه عثامن بن عفان

أهله، فقطع لطلحة بن عبيد اهلل: النشاستج(3)

، وقطع خلباب بن

سعد بن أيب وقاص أرضا، والزبري إىل ناحية األرت: صعنبى، وأقطع

قنطرة الكوفة، وعدي بن حاتم: الروحاء، وسعيد بن زيد، وخالد بن

«عرفطة، واألشعري يف موضع واحد نحو محام ابن عمر(4)

. وهي حق

عام للمسلمني، وإذا هبا تتحول إىل ملكيات عامة، يثري هبا مجاعة عىل

.حساب جمموع املسلمني

بئر أريس: بئر عىل مقربة من مسجد قباء عىل غربيه. (1)

.72/ 3طبقات ابن سعد، مصدر سابق، ج (2)

النشاستج: ضيعة أو هنر بالكوفة. (3)

حتقيق: فهيم ،ه(262تاريخ املدينة املنورة، ابن شبة النمريي البرصي )ت (4)

.1121ـ 1121/ 4حممد شلتوت، بدون نارش وتاريخ نرش، ج

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 63

ولعلنا نقف هنا مع كلمة بليغة البن سريين الذي يعد من علامء

أرخص منها يف مل تكن الدراهم يف زمان»التابعني، إذ يروى عنه قوله:

وإن الفرس ليبلغ ، ن كانت اجلارية لتباع بوزهناأ، زمان عثامن

«مخسني ألفا مما يعطيهم(1)

. وهي إشارة واضحة إىل مقدار البذمل الذي

ت إليه الطبقة املرتفة يف ذلكم الوقت.وصل

اعتراض الصحابة على السياسات املالية وقد القى عثامن اعرتاضات عىل سياسته هذه من قبل صحابة النبي

وكان أبرزهم الصحايب اجلليل أبا ذر الغفاري، وكان من ،

اعرتاضاته ما يذكره املسعودي يف مروج الذهب من حضوره ملجلس

أترون »يتحدث فيه مع كعب، إذ سأله عثامن ـ حينها: عثامن الذي كان

]يا كعب[ بأسا أن نأخذ ماال من بيت مال املسلمني فننفقه فيام ينو بنا(2)

من أمورنا ونعطيكموه(، فقال كعب: ال بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا

ابن اليهودي، ما أجرأك عىل القول يف ديننا. فقال له عثامن: ما أكثر أذاك

«يل ]متوجها بحديثه إىل أيب ذر[، غيب وجهك عني، فقد آذيتنا(3).

وقد نفاه عثامن بعدها إىل الشام، ومل يكن نفيه إليها أفضل حاال من

.1123/ 4املصدر السابق، ج (1)

أي: يظهر لنا من الرأي واألمر. (2)

مروج الذهب ومعادن اجلوهر، أبو احلسن عيل بن احلسني املسعودي )ت (3)

، 5، حتقيق: حممد حميي الدين عبد احلميد، دار الفكر ـ بريوت، طه(346

.343/ 2م، ج1373ـ ه 1333

| لحسينيةا لنهضةا

64 |

بقائه يف املدينة، إذ رأى ما كان يتمتع به معاوية بن أيب سفيان من قرص

فاخر يضاهي قصور األكارسة والقيارصة(1)

ر عىل ، حيث أنكر أبو ذ

معاوية مظاهر البذمل هذه وأنه يترصف يف أموال املسلمني العامة عىل

غري وجه حق، وفيام هو خمالف لتعاليم وأحكام الرشيعة اإلسالمية(2).

وقد كان أبو ذر يتحدث بذلك بني مجهور املسلمني يف الشام

ويؤلب عليه الشاميني، وهو ما دفع بمعاوية أن يكاتب اخلليفة عثامن

طالبا منه أن خيلصه من فتنة أيب ذر وتأليب الناس عليه يف الشام.

حبيب بن مسلمة الفهري: إن أبا ذر ملفسد عليكم الشام، »فنصحه

فتدارك أهله، إن كان لك فيه حاجة، فكتب معاوية إىل عثامن فيه، فكتب

ظ عىل أغل إيل ]اسم أيب ذر[ اأما بعد، فامحل جندب »عثامن إىل معاوية:

ا، ومحله عىل بعري وهنار به ليال ، فوجهه مع من سار «مركب وأوعره

ب، حتى قدم املدينة، وقد سقط حلم فخذيه من اجلهد، ت ليس عليه إال ق

بدأ معاوية واليا عىل دمشق منذ أيام اخلليفة عمر. وعندما تويف أخوه يزيد الذي (1)

كان واليا عىل األردن، ضم عمر بن اخلطاب والية األردن ملعاوية. ويف عهد

عثامن، تويف وايل فلسطني عبد الرمحن بن علقمة الكناين، فتوىل معاوية والية

أيضا، وبعد فلسطني توىل معاوية والية محص ملرض واليها عمري بن فلسطني

سعد األنصاري، لتخلص أرض الشام كاملة حتت والية معاوية ابن أيب

أعظم العامل خطرا وأعالهم قدرا أيام عثامن. ومل »سفيان، ليكون بعد ذلك

ية واتصاهلا يعرف تاريخ اخلالفة اإلسالمية واليا أتيح له من طول الوال

. انظر: الفتنة الكربى: «واستقرارها وتدرجها يف االتساع كام أتيح ملعاوية

.751ـ 751عثامن، الدكتور طه حسني، مصدر سابق، ص

انظر حول هذه القصة: الفتنة الكربى، الدكتور طه حسني، مصدر سابق، ص (2)

.761ـ 753

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 65

فبعث إليه عثامن، وقال له: إحلق بأي أرض شئت، فقال أبو ذر: بمكة(

:قال: ال، قال: بيت املقدس( قال: ال، قال: بأحد املرصين( قال

«ولكن رس إىل ربذة، فلم يزل هبا حتى مات ال.(1)

.

والة األقاليم كان من أسباب ثورة املسلمني عىل اخلليفة عثامن توليته ألقاربه من

بني أمية، وقد بالغ هؤالء يف اجلهر بمخالفتهم للرشيعة وإبراز مظاهر

الرتف وبذل األموال يف غري وجهتها الرشعية، ومن أمثلة ذلك ما

الوليد بن عقبة بن أيب معيط، »لفرج األصفهاين يف ترمجته لـ يذكره أبو ا

وهو أخو عثامن بن عفان ألمه، وكان من فتيان قريش وشعرائهم

بعد سعد بالكوفة وكان فاسقا. ويل لعثامن وشجعاهنم وأجوادهم،

بن أيب وقاص، فرشب اخلمر، فشهد عليه برشب اخلمر عند عثامن،

«فحده وعزله(2).

ا: و كان الوليد بن عقبة »كان سبب عزله كام يروهيا األصبهاين نص

زانيا رشيب مخر، فرشب اخلمر بالكوفة، وقام ليصيل هبم الصبح، فصىل

هبم أربع ركعات، ثم التفت إليهم وقال هلم: أزيدكم(، وتقيأ يف

املحراب، وقرأ هبم يف الصالة وهو رافع صوته:

خ اليعقويب(، دار صادر، بريوت، )تاريه( 284تاريخ أمحد بن أيب يعقوب )ت (1)

.168ـ 163/ 2بدون تاريخ نرش، ج

، تصحيح: أمحد الشنقيطي، مطبعة ه(356األغاين، أبو الفرج األصفهاين )ت (2)

.175/ 4التقدم ـ القاهرة، بدون تاريخ نرش، ج

| لحسينيةا لنهضةا

66 |

علــــــق القلــــــب الربابــــــا

ـــــدم ا شـــــابت وشـــــابابع

فشخص أهل الكوفة إىل عثامن وأخربوه خربه، وشهدوا عليه

«برشبه اخلمر، فأيت به، وأمر رجال برضبه وحده(1).

وما يذكره أبو الفرج يف أغانيه حول الوليد بن عقبة إنام هو نموذج

لوالة آخرين أظهروا من الفساد ما أغضب مجهور املسلمني ونزع عنهم

االجتامعية املطلوبة يف أي حاكم مسلم. وهذا النوع من صفة العدالة

املجاهرة بالفسق من قبل الوالة كان له دور يف الثورة عىل اخلليفة

ومقتله فيام بعد.

احلكم الشرعي لوالية الطلقاء على املسلمني بعد أن دانت كثري من القبائل العربية يف شبه اجلزيرة العربية

إىل مكة سلمني، توجه رسول اهلل باإلسالم وتعاظمت قوة امل

املكرمة فاحتا وخمضعا إياها للحكم اإلسالمي. وقد استسلم القرشيون،

و طمعا يف األمن، ودخل كثري منهم يف اإلسالم. إما خوفا عىل النفس، أ

يف االنسجام مع سيطرة الدين اجلديد عىل اجلزيرة ومعهام الرغبة

العربية.

واملعارك التي دارت بني رسول اهلل بعد كل تلكم احلروب

، ومعها كل تلكم املرارات التي ذاقها املسلمون شوبني قبيلته قري

.177ـ 176/ 4املصدر السابق، ج (1)

التغيري وبوادر اإلسالمي املجتمع: الثالث الفصل |

| 67

، وأبلغهم بأهنم الطلقاء األوائل يف مكة عىل أيدهيم، صفح عنهم

من أي عقاب أو حماكمة أو انتقام. ولكن ذلك مل يعن أن يبقى هؤالء

ن أثبتوا إخالصهم لإلسالم وجهادهم عىل السواء مع بقية املسلمني الذي

بالغايل والنفيس محاية هلذا الدين، الذي مل يبلغ هذه املكانة ومل ينترش

ويصل إىل فتح مكة لوال تضحيات املهاجرين واألنصار. وال يبعد أن

كان يعلم أن كثريا من الطلقاء مل يكن ليدخلوا يف اإلسالم النبي

جاء والطمع يف املغانم أو األمان الذي لوال اخلوف من العقاب أو الر

يرجونه ويطلبونه.

املهاجرون واألنصار أولياء »يف حقهم قوله: وقد ورد عنه

بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء

«بعض إىل يوم القيامة(1)

. وهو ما يعني جواز أن يتوىل أي فرد من

ة عىل املسلمني، ولكن ذلك غري جائز ألي املهاجرين واألنصار السلط

وهو معنى وحكم كان معروفا من أفراد الطلقاء أو العتقاء من ثقيف.

منع من تول ومتداوال لدى عامة ومجهور املسلمني، بأن النبي

.الطلقاة للسلطة عىل رقاب املسلمني

يه عىل يرد ف وهو ما نراه يف أحد كتب اإلمام عيل بن أيب طالب

ا »: فيه معاوية، أورده الرشيف الريض يف هنج البالغة، إذ يقول أم

د اهلل فقد أتاين كتابك تذكر فيه اصطفاء ،بعد وتأييده ،لدينه احمم

ده من أصحابه اه ملن أي هر من فلقد خبأ .إي فقت إذ ط ،اك عجب لنا الد

حممد عبد القادر عطا، دار ، حتقيق: ه(241مسند اإلمام أمحد بن حنبل )ت (1)

، احلديثان: 724/ 7م، ج2118ـ ه 1423، 1الكتب العلمية ـ بريوت، ط

.13735و 13734

| لحسينيةا لنهضةا

68 |

اهلل نا ببالء رب فكنت يف ذلك كناقل .ونعمته علينا يف نبينا ، تعاىل عندناخت

ده إىل النضال ،التمر إىل هجر .أو داعي مسد

افذكرت أمر .فالن وفالن وزعمت أن أفضل الناس يف اإلسالم

ه يلحقك ثلمه ،إن تم اعتزلك كل وما أنت والفاضل .وإن نقص مل

ائس واملسوس وامل وما للطلقاة وأبناة الطلقاة والتمييز بني .فضول والس

هيهات لقد حن .وترتيب درجاهتم وتعريف طبقاهتم هاجرين األولني امل

ا .وطفق حيكم فيها من عليه احلكم هلا ،قدح ليس منها أال تربع أهي

ر حيث أخ ،وتعرف قصور ذرعك ،اإلنسان عىل ظلعك رك وتتأخ

اب يف التيه .وال ظفر الظافر ،فام عليك غلبة املغلوب .القدر وإنك لذه

اغ عن القصد «رو(1).

إذ يتضح من الرسالة أهنا جواب عىل خطاب بعث به معاوية إىل

ام يذكر فيه فضل أيب وبكر وعمر يف احلكم واخلالفة ـ ك اإلمام عيل

يشري إىل ذلك ابن أيب احلديد يف الرشح. واإلمام ـ هنا ـ يرد عليه بأن

بمناقب الدهر أظهر له عجبا من أمر معاوية الذي خيرب اإلمام عيل

. وبعد ذلك يبني له مناقب ودرجات الصحابة وأفضلية رسول اهلل

لعلم بعضهم يف السلطة، إذ هو ـ هبذا ـ كناقل التمر إىل هجر، وحامل ا

إىل أنه حيرش نفسه يف أمور إىل من هو أعلم به منه. وبعد ذلك يشري

ليس له فيها ناقة وال مجل، فهو من الطلقاء، وليس هلذه الطبقة عالقة

.بمثل األمور، إذ منعت من ممارستها بحكم رشعي من رسول اهلل

.181/ 15رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

| 63

الرابعالفصل

أهل البيت ومرحلة املواجهة

وحماوالت اإلصالح السياسة العلوية

املجتمع املسلم أيام اإلمام احلسن

أثر السياسة األموية يف تغيري الواقع اإلسالمي

نتائج عامة مما سبق

| 71

السياسة العلوية وحماوالت اإلصالح

من املفارقات التارخيية أن يصور عصيان معاوية

وخروجه عىل احلاكم عىل أنه رصاع وتنافس بني

تني، فيام تصور قضية اخلالف الذي عائلتني قرشي

دار بني اخلليفة أيب بكر ومالك بن نويرة تصويرا

ا وقيميا وبأنه ارتداد وخروج عن الدين. عقائدي

وإنه ملن الظلم التارخيي ألهل البيت أن تصور

ا تضحياهتم من أجل املبادئ تصويرا عشائري

وخالفات شخصية، فيام تصور الرصاعات

ى عىل أهنا رصاعات مبدئية.األخر

ما مر يف الفصل السابق من إشارات ونامذج أحدثها اخلليفة عثامن

مثلت البداية األبرز خلط االنحراف يف السياسة العامة يف ممارسة

السلطة يف املجتمع اإلسالمي، وهو ما أدى يف هناية املطاف إىل غضب

ارصته يف قرصه باملدينة. شعبي عام جتاه سياسات اخلليفة، ومن ثم حم

وهي ثورة اشرتكت فيها معظم األقاليم اإلسالمية، فكان من بينهم من

أتى من الشام، ومن العراق، ومرص، واليمن. وكان من مطالبهم قيام

| لحسينيةا لنهضةا

72 |

اخلليفة بإبعاد بني أمية عن مواقع القرار والسلطة يف الواليات، وكذلك

الرعية. وألن استجابة أن تتسم سياسته بالعدل يف توزيع املال عىل

اخلليفة كانت سلبية، انتهت األحداث إىل مقتله.

اإلمام علي يف مواجهة املخالفات املالية ، وهو يدرك أن وكان كل ذلك حيدث أمام ناظري اإلمام عيل

ا، وال جيوز حلاكم املسلمني أن يتهاون يف مثل ما طالب به الثوار كان حق

حقوق املسلمني العامة. ولكن اإلمام كان يعلم ألهنا متس ؛هذه القضايا

أن ما كان يطالب به اجلمهور ليس من السهل امليض يف تطبيقه،

وبخاصة مع وجود طبقة كانت متنفذة ومنتفعة من تلكم التجاوزات،

ولن ترىض بتحقيق تلكم املطالب. ولذلك كان جوابه ملن طالبه بتويل

ق هلؤالء الثوار مطالبهم، ويرجع السلطة ليكون احلاكم الذي حيق

املجتمع املسلم إىل سابق عرصه النبوي أن يلتمسوا شخصا آخر، قال

:«ي ال ،فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان .دعوين والتمسوا غري

،اآلفاق قد أغامت وإن ،وال تثبت عليه العقول ،تقوم له القلوب

رت. واعلموا أين إن أجبتكم ة قد تنك ومل ،ركبت بكم ما أعلم ،واملحج

،فأنا كأحدكم ،وإن تركتموين .وعتب العاتب ،أصغ إىل قول القائل

يتموه أمركم ولعيل أسمعكم وأطوع وأنا لكم وزيرا خري لكم ،كم ملن ول

«مني أمريا(1).

، حتقيق: ه(311تاريخ الرسل وامللوك، أبو جعفر حممد بن جرير الطربي )ت (1)

.434/ 4م، ج1371املعارف ـ القاهرة، ط حممد أبو الفضل إبراهيم، دار

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 73

لقد كان يعلم أنه يف حال قبل بتويل السلطة، سيواجه معارضة

داخلية ذات ألوان ينخدع بربيقها بعض املسلمني، وينشغل املجتمع

و ما حدث مع طلحة برصاعاته الداخلية التي لن تنتهي وتستقر. وه

والزبري اللذين كانا من حاشية اخلليفة، كام سبقت اإلشارة إليهام وإىل ما

أحدثا من ثروة طائلة يف عهد عثامن.

لقد أعلنا اعرتاضهام عىل سياسته منذ بداية توليه مقاليد السلطة،

ما الذي »: وذلك ليضمنا من البدء مصاحلهام، ويف ذلك سأهلام اإلمام

رأيتام خاليف( ىمن أمري حت [ني طلحة والزبرييع]كرهتام

م، إنك جعلت حقنا يف قاال: خالفك عمر بن اخلطاب يف القس

القسم كحق غرينا، وسويت بيننا وبني من ال يامثلنا فيام أفاء اهلل تعاىل

علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا وظهرت عليه

.ااإلسالم إال كره ىممن ال ير اقهر اقرس هدعوتنا وأخذنا

فواهلل ما كانت يل يف ،فقال: فأما ما ذكرمتا من االستشارة بكام

الوالية رغبة، ولكنكم دعومتوين إليها وجعلتموين عليها فخفت أن

نظرت يف كتاب أردكم فتختلف األمة، فلام أفضت )يعني اخلالفة( إيل

آرائكام واتبعت، ومل أحتج إىل اهلل وسنة رسوله فأمضيت ما دالين عليه

فيه وال رأي غريكام، ولو وقع حكم ليس يف كتاب اهلل بيانه وال يف السنة

املشاورة فيه لشاورتكام فيه. برهانه واحتيج إىل

بدء، قد ئفإن ذلك أمر مل أحكم فيه باد ،وأما القسم واألسوة

| لحسينيةا لنهضةا

74 |

به، وهو حيكم بذلك، وكتاب اهلل ناطق وجدت أنا وأنتام رسول اهلل

الكتاب الذي ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه تنزيل من

حكيم محيد.

جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا :وأما قولكام

اإلسالم قوم، ونرصوه بسيوفهم ورماحهم سبق إىل وبني غرينا، فقديام

واهلل سبحانه ،يف القسم وال آثرهم بالسبق فلم يفضلهم رسول اهلل

م، وليس لكام واهلل عندي وال يوم القيامة أعامهل السابق واملجاهد موف

احلق، وأهلمنا وإياكم لغريكام إال هذا، أخذ اهلل بقلوبنا وقلوبكم إىل

ه، فرد اجور ىفأعان عليه ورأ احق ىرأ امرء اثم قال: رحم اهلل الصرب.

«من خالفه للحق عىل اوكان عون (1).

حازما يف مسألة التوزيع العادل للثروة، لقد كان اإلمام عيل

ومل يكن ليقبل أي مساومة فيها، ولو جر عليه هذا النوع من احلزم

تعني قيادة األمة حربا يف مبتدأ أيام حكمه، فالسياسة لدى عيل

يسري من حقوق ضمن احلدود الرشعية. فلم يكن ليقبل مس ولو جزء

عامة، عىل حساب االستقرار السيايس الذي قد يقتيض بعض املسلمني ال

األحيان غض الطرف عن بعض جتاوزات املتنفذين يف اجلهاز احلكومي

السابق. فذلك ال يتقاطع ومبدأ أمري املؤمنني يف ممارسة احلكم التي

ليقبل عىل نفسه أن خيون تعني توليه مسؤولية أداء أمانة، وما كان

من جهة، ومن جهة أخرى، يعد التهاون يف مثل هذه من ائتمنه. هذا

.42ـ 41/ 7رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 75

األمور خالفا ملطالب الثوار الذين انتخبوه حاكام يقوم بتحقيق تلكم

املطالب(1).

اإلمام علي يف مواجهة الوالة

وكان إىل جانب مطلب العدالة االجتامعية يف توزيع الثروة، املطالبة

رزهم معاوية بن أيب سفيان. بعزل والة عثامن الفاسدين، وكان من أب

من تطبيق وتنفيذا لتلكم املطالب وانسجاما مع ما يراه اإلمام عيل

حريف للرشيعة، أمر بعزل معاوية عن والية الشام، كام أمر بعزل مجيع

الوالة الذين ثبتت عليهم املخالفات والتجاوزات الرشعية املالية

ألمر اخلليفة الرشعي. وغريها. ولكن معاوية مترد ورفض اخلضوع

وهي خمالفة رصحية وخروج عىل ويل األمر وجلامعة املسلمني.

وهذه من املسائل التي جيب أن تكون واضحة أمام مجهور

املسلمني، ذلك أن اخلالف بني اإلمام عيل ومعاوية مل يكن يوما رصاعا

ا أو عائليا، وإنام هو خالف ورصاع مبدئي، ينطلق ـ يف ظر وفه عشائري

املوضوعية ـ انسجاما مع تداعيات الثورة عىل اخلليفة عثامن وما ثار من

أجله مجهور املسلمني. ويف جانب أهم، ال يتمتع معاوية بأدنى مؤهالت

احلاكم العادل التي جيب توفرها فيمن يتوىل أمور املسلمني العامة.

لقاء الذين ويضاف إليهام ما سبقت اإلشارة إليه من أن معاوية من الط

تنوع أدوار ووحدة هدف، السيد حممد انظر حول هذه النقطة: أهل البيت (1)

، دار التعارف للمطبوعات ـ بريوت، بدون تاريخ ه(1411باقر الصدر )ت

.15ـ 5نرش، ص

| لحسينيةا لنهضةا

76 |

بعدم جواز توليهم ألمور املسلمني العامة. يشملهم حكم النبي

ومن املفارقات التارخيية أن يذكر عصيان معاوية وخروجه عىل

احلاكم ويمر به مرورا رسيعا دون إدانة أو استنكار، بل يصور يف بعض

ر قضية املصادر عىل أنه رصاع وتنافس بني عائلتني قرشيتني، فيام تصو

اخلالف الذي دار بني اخلليفة أيب بكر ومالك بن نويرة عندما رفض

ا تسليم ما كان حيمل من زكوات من اليمن إىل اخلليفة تصويرا عقائدي

وقيميا وبأنه ارتداد وخروج عن الدين، حيث يفتي الفقهاء إىل يومنا

رج عىل احلارض بردته هو ومن حارب معه. مع أن مالك بن نويرة مل خي

اخلليفة يف ذلكم الوقت، ومل يعلن احلرب، وغاية ما فعل أنه رفض

تسليم الزكاة إىل من ال يراه احلاكم الرشعي عىل املسلمني.

وعند املقارنة بينه وبني معاوية، فإن معاوية هنا رفض اخلضوع

ينفذ حكم حلكم اخلليفة، وأعلن احلرب ضده، وكان اإلمام عيل

يامرسه معاوية من خمالفات رشعية يف أسلوب إدارته، اهلل فيام كان

وكذلك تنفيذا ملطالب اجلامهري املسلمة التي ثارت عىل الوالة الظلمة

من بني أمية. وإنه ملن الظلم التارخيي ألهل البيت أن تصور تضحياهتم

من أجل املبادئ تصويرا عشائريا وخالفات شخصية، فيام تصور

ىل أهنا رصاعات مبدئيةالرصاعات األخرى ع(1).

مت املصادر القديمة بتصوير اخلالف بني اإلمام عيل ومعاوية عىل أنه اهت (1)

خالف شخيص، وألفت الكتب يف فضائل بني أمية أو بني هاشم، وهو ما

ذكره املقريزي يف كتابه )النزاع والتخاصم فيام بني بني أمية وهاشم(. وسبقه

رشحه عىل إىل ذلك ابن أيب احلديد املعتزيل الذي خصص فصال طويال يف

النهج يف ذكر فضائل البيتني. وغريمها من املصادر. انظر: رشح هنج البالغة،

.263ـ 138/ 15ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 77

بني سياسة أهل البيت وسياسة األمويني يف احلكم هنيئة، إذ مل تكن أيام أمري املؤمنني عيل بن أيب طالب

بدأ خالفته باخلالف مع طلحة والزبري حول موضوع توزيع األموال،

وهو ما دفعهام إىل تأليب السيدة عائشة ضده، ما أوصل األمور إىل

جلمل. ومن ثم إعالن معاوية للعصيان ووقوع معركة صفني معركة ا

التي أدت إىل حادثة التحكيم، وبعدها انشقاق جيش أمري املؤمنني إىل

منارصين وخوارج، اضطر اإلمام ملحاربتهم ملا كانوا يقومون به ختريب

واعتداءات عىل أموال وأعراض املسلمني.

ن ينهك جيش الدولة يف وقد كانت هذه احلروب املتوالية سببا أ

رصاعات داخلية، وهي احلروب التي غالبا ما ينقسم الناس حوهلا،

، وبخاصة مع وجود خصم منهم كثريلوتكون الرؤية غري واضحة ل

لإلمام ماكر يستعمل احليلة واخلداع من أجل الوصول إىل مآرب

االغرتار هبا، وإال فهو وأطامع شخصية. وهي أساليب يأبى اإلمام

ال ختفى عليه مثل هذه احليل واألساليب القذرة.

يصف اإلمام عيل هذه السياسة مقارنا بينها وبني سياسته، فيقول:

، ولكنه يغدر ويفجر، ولوال كراهية الغدر يواهلل ما معاوية بأدهى من»

ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، .لكنت من أدهى الناس

ستغفل باملكيدة، وال أ واهلل ما. امةيوم القي يعرف بهولكل غادر لواء

«أستغمز بالشديدة(1).

.211/ 11رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

| لحسينيةا لنهضةا

78 |

كان »ويف تعليق ابن أيب احلديد عىل كالم أمري املؤمنني هذا يقول:

أمري املؤمنني مقيدا بقيود الرشيعة مدفوعا إىل اتباعها ورفض ما يصلح

اعتامده من آراء احلرب والكيد والتدبري إذا مل يكن للرشع موافقا، فلم

كن قاعدته يف خالفته قاعدة غريه ممن مل يلتزم بذلك، ولسنا هبذا القول ت

ه عنه، ولكنه كان زارين عىل عمر بن اخلطاب وال ناسبني إليه ما هو منز

جمتهدا يعمل بالقياس واالستحسان واملصالح املرسلة، ويرى ختصيص

عمومات النص باآلراء وباالستنباط من أصول تقتيض خالف ما

عموم النصوص، ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد واحليلة يقتضيه

ويؤدب بالدرة والسوط من يغلب عىل ظنه أنه يستوجب ذلك ويصفح

عن آخرين قد اجرتموا ما يستحقون به التأديب، كل ذلك بقوة اجتهاده

وما يؤديه إليه نظره.

يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص املؤمنني ومل يكن أمري

يتعداها إىل االجتهاد واألقيسة، ويطبق أمور الدنيا عىل والظواهر وال

الدين ويسوق الكل مساقا واحدا، وال يضع وال يرفع إال بالكتاب

«فاختلفت طريقتامها يف اخلالف والسياسة والنص.(1).

بحروب ثالثة مع وجود خصم خمادع مثل معاوية، وانشغاله

اذله وعصيان جيشهمتوالية، وجيش طاملا تذمر اإلمام من خت(2) ،

.213ـ 212/ 11املصدر السابق، ج (1)

همقاهلا يستنهضشه خطبته التي يف وصف ختاذل جي من أبلغ ما ورد عنه (2)

أال »، ومما ورد فيها: هبا حني ورد خرب غزو األنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا

القوم ليال وقلت ،اوإعالن اورس ،اوهنار وإين قد دعوتكم إىل قتال هؤالء

=

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 73

ويضاف إليها ترسخ بعض العادات اجلاهلية يف املجتمع العريب، مل

يستطع اإلمام أن يقوم الكثري مما اعوج. وهي حال سترتك آثارها يف

.عهد خليفته اإلمام احلسن

وا هللافو ،اغزوهم قبل أن يغزوكم :لكم .ما غزي قوم قط يف عقر دارهم إال ذل

،وملكت عليكم األوطان ،حتى شنت عليكم الغارات ،فتواكلتم وختاذلتم

ان بن ح ،قد وردت خيله األنبار وهذا أخو غامد و ان البكري وقد قتل حس س

ها جل منهم كان يدخل عىل املرأة ،وأزال خيلكم عن مساحل ولقد بلغني أن الر

ما متتنع ،املسلمة واألخرى املعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقالئدها ورعثها

حام منه إال جاع واالسرت فوا وافرين ما نال رجال ، باالسرت ،منهم كلم ثم انرص

،اما كان به ملوم امات من بعد هذا أسف مسلام افلو أن امر ،وال أريق هلم دم

يميت القلب وجيلب اهلم من واهلل ،اعجب اب فيا عج ،ابل كان به عندي جدير

القوم عىل باطلهم كم ،اجتامع هؤالء قكم عن حق ،الكم وترح افقبح ،وتفر

تم غرض ،زون وتغزون وال تغ ،يغار عليكم وال تغريون ،يرمى احني رص

ام احلر .وترضون هللويعص ا ري إليهم يف أي ة ،فإذا أمرتكم بالس قلتم هذه محار

.أمهلنا يسبخ عنا احلر ،القيظ تاء ري إليهم يف الش قلتم هذه ،وإذا أمرتكم بالس

د ص خ عنا الربة القر أمهلنا ينسل فإذا كنتم .من احلر والقر اكل هذا فرار .بار

ون يف أفر اهللفأنتم و ،من احلر والقر تفر جال وال رجال . من الس ،يا أشباه الر

جال حلوم األطفال ومل أعرفكم معرفة ،لوددت أين مل أركم ،وعقول ربات احل

ت ندم هللوا .71/ 1. هنج البالغة، مصدر سابق، ج«... اوأعقبت سدم اجر

| 81

احلسن اجملتمع املسلم أيام اإلمام

أدى غياب اإلمام احلسن ن معاوية من ، ومتك

احلكم إىل نتائج وخيمة عىل املجتمع اإلسالمي،

بقيت آثارها إىل يومنا احلارض. فمع تويل معاوية

ملقاليد السلطة حتولت اخلالفة إىل ممارسات ملكية،

غلبت فيها الروح اجلاهلية املبادئ والقيم

اإلسالمية، فأحيا العصبيات القومية، وأشاع

ناس بالنزاعات جمالس اللهو والطرب، وأشغل ال

الشخصية واألطامع املادية، وعزز الطبقيات

االجتامعية الفاحشة.

اإلمام احلسن وجمتمع املتخاذلني كانا وابناه احلسن واحلسني استشهد اإلمام عيل

معسكرين يف النخيلة لتجهيز اجليش استعدادا ملواجهة معاوية. وهو ما

ا من توايل احلروب، وال يريد الدخول مل يتم الحقا، إذ كان اجليش منهك

يف رصاع مع معاوية، وبخاصة إن كان يرى املعركة جمرد رصاع بني

فريقني سياسيني من املسلمني ال أكثر. ويضاف إىل ذلك ما قام به

معاوية من إغراء بعضهم باملال واستاملتهم إليه.

| لحسينيةا لنهضةا

82 |

يف جيش أبيه اإلمام عيل ولذلك عندما رأى اإلمام احلسن

جيشا متخاذال، وعازفا عن املقاتلة، قرر االنسحاب. فدخول املعركة

مع معاوية هبذا اجليش املتخاذل ستكون نتائجها عكسية، وستزهق فيها

أرواح مؤمنني قد يكون ادخارهم ملعركة وقضية أخرى )وهي ثورة

( أوىل وأفضل حاال للمسلمني. كام أنه أراد أن يرى اإلمام احلسني

لمون حقيقة حكم معاوية، وأن يقفوا بأنفسهم عىل خداعه املس

وسياسته املخالفة للرشيعة. وأن من يظن بأن ما كان سيخوضه اإلمام

من معركة أمام معاوية هو جمرد رصاع بني عائلتني أو قبيلني من

املسلمني، ها هو يرى اإلمام ينسحب عن هذه املعركة، معطيا الفرصة

السياسة التي اختاروها ألنفسهم. للمسلمني أن جيربوا

إىل طبيعة املجتمع ه( 413ويف هذا السياق يشري الشيخ املفيد )ت

ازدادت »إلمام منهم، فيقول: ومعاناة ا أيام اإلمام احلسن

بام ،املحكمة مبخذالن القوم له، وفساد نياهت احلسن بصرية

، ومل يبق والتكفري واستحالل دمه وهنب أمواله السب أظهروه له من

أمري املؤمنني معه من يأمن غوائله إال خاصة من شيعته وشيعة أبيه

وهم مجاعة ال تقوم ألجنادالشام ،»(1).

وما قام به اإلمام احلسن هنا مشابه متاما ملا قام به اإلمام عيل

بعدما استقرت أمور احلكم والسلطة أليب بكر. وما تشري إليه املصادر

، حتقيق ونرش: مؤسسة أهل البيت ه(413اإلرشاد، الشيخ املفيد )ت (1)

.13/ 2م، ج1333ـ ه 1414، 2ـ قم، طلتحقيق الرتاث

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 83

وع صلح ورشوط هلذا الصلح بني اإلمام احلسن التارخيية من وق

أمية ليعطوا شيئا من املرشوعية نيومعاوية إنام هو من وضع ودس ب

حلكمهم، وهذا أمر يمكن التأكد منه بعد مراجعة املصادر التارخيية

واملوازنة بني معطياهتا العلمية يف خصوص هذه املسألة، ذلك أن ما

الصلح ـ باإلضافة إىل عدم صحتها من يدعو إىل عدم القبول بمسألة

حيث الدراسة املوضوعية هلذه األخبار ـ، هو التضارب يف رشوط

الصلح، وعدم الوقوف عىل حتديد واضح لطبيعتها، وهل ذكرت يف

ورقة واحدة أم أهنا جمرد رسائل متبادلة بني اإلمام احلسن ومعاوية،

عىل أهنا وثيقة صلح. ترش ومن ثم ن

ة ثالثة، ما نفهمه نحن اإلمامية من طبيعة ما دار من ومن ناحي

رصاع، أنه مل يكن رصاعا سياسيا بام نفهمه اليوم من طبيعة الرصاعات

السياسية، وإنام كان بني اإلمام احلسن إماما رشعيا بذل من اجلهود بام

عة، يتعاليم الرشة األمة وحفظها ألن تبقى ملتزمة يستطيع من أجل وقاي

شخص يسعى للحكم بأي وسيلة من أجل السيطرة والغلبة دون وبني

مراعاة ألي ضابطة رشعية أو أخالقية.

وهذا النوع من الرصاع يمكن مقارنته بالرصاعات التي دارت يف

التاريخ الرسايل بعامة، وكذلك يف التاريخ اإلسالمي بخاصة. ففي

يبذله من جهود ـ التاريخ الرسايل عندما ال يستطيع النبي الوصول ـ بام

إىل تأسيس الدولة الدينية، ينعزل بمن معه من املؤمنني حماوال نرش

رسالته بالطرق املتاحة، دون أن تكون هناك مواجهة أو وثائق صلح أو

| لحسينيةا لنهضةا

84 |

، بحيث يتم التنازل فيها عن حق من حقوق النبي، إذ ال ما شابه

ما حدث مع . ويف تارخينا اإلسالمي، نجد تفاوض يف مثل هذه احلقوق

خري مثال، إذ اعتزل الناس بعد البيعة أليب بكر، وقام اإلمام عيل

بام استطاع أن يقوم به، إىل أن أتيحت له الفرصة للقيام بدوره حاكام

ا عىل املسلمني. عام

يف تلكم الظروف االجتامعية املتخاذلة، اضطر اإلمام احلسن

ن معاوية هأدى غيابللعزلة، وقد من احلكم إىل نتائج وخيمة ، ومتك

عىل املجتمع اإلسالمي، بقيت آثارها إىل يومنا احلارض. إذ مع تويل

معاوية ملقاليد السلطة حتولت اخلالفة إىل ممارسات ملكية، غلبت فيها

الروح اجلاهلية املبادئ والقيم اإلسالمية، فأرجع املجتمع خطوات إىل

مية، وأشاع جمالس اللهو والطرب، الوراء، فأحيا فيه العصبيات القو

وأشغل الناس بالنزاعات الشخصية واألطامع املادية، وعزز الطبقيات

االجتامعية الفاحشة.

| 85

يف تغيري الواقع اإلسالمي أثر السياسة األموية

أشاع معاوية نظرية اجلرب اإلهلي بني عموم

املسلمني، فانشغلت هبا املؤلفات الكالمية إىل يومنا

حلارض. وما كانت إشاعة مثل هذه األفكار إال ا

حماولة لتشويش فكر اجلامهري بنظريات فلسفية ال

تلتقي والقيم والتعاليم اإلسالمية القائمة عىل فكرة

العدل وإقامة القسط بني الناس.

كانت املخالفات الرشعية أشد يف عهد معاوية وأكثر وضوحا، إذ

ـ كام سبقت اإلشارة إليه ـ من يكفي تقلده منصب اخلالفة، وهو

مهم عىل رقاب الطلقاء الذين أفتى رسول اهلل بعدم جواز حتك

املسلمني. وكان قد بدأ ـ منذ أيام توليه عىل الشام ـ بتحويل السلطة

وأسلوب ممارسة احلكم إىل مثيالهتا يف ممالك كرسى والروم. فقد كان

مل واللهو والطرب، وهو يسكن القصور الفارهة ويعمرها بمظاهر البذ

ومعه مجع من الصحابة، ما أنكره عليه الصحايب أبو ذر ـ كام مر سابقا،

املجانبة [معاوية]وأما أفعاله » وهو ما يذكره ابن أيب احلديد، إذ يقول:

للعدالة الظاهرة من لبسه احلرير، ورشبه يف آنية الذهب والفضة، حتى

| لحسينيةا لنهضةا

86 |

يقول: : إين سمعت رسول اهلل كر عليه ذلك أبوالدرداء، فقال لهأن

وقال معاوية: أما أنا .(إن الشارب فيهام لتجرجر يف جوفه نار جهنم)

.افال أرى بذلك بأس

فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية، أنا أخربه عن الرسول

اوهو خيربين عن رأيه، ال أساكنك بأرض أبد.

باب االحتجاج عىل نقل هذا اخلرب املحدثون الفقهاء يف كتبهم يف

وهذا اخلرب كام يقدح يف عدالته ن خرب الواحد معمول به يف الرشع.أ

ألن من قال يف مقابلة خرب قد روي عن رسول ؛يف عقيدته ايقدح أيض

ليس بصحيح فيام حرمه رسول اهلل ا: أما أنا فال أرى بأس اهلل

«العقيدة(1).

السياسة األموية مع املعارضة

يف مقدمتهم شيعة أمري يه، وكان ىل ذلك قمع مجيع معارضوزيادة ع

هذه السياسة بدءا من واليته ، وكانت املؤمنني عيل بن أيب طالب

عىل الشام التي حكمها إىل أيام خالفته التي استمرت أربعني عاما،

عيل بسب وغريمها والشام بالعراق الناسإن معاوية أمر »حيث

نة سالم، وصار ذلك س بذلك عىل منابر اإلوخطب . منه والرباءة

ـ اهلل تعاىل عنه ريضـ عبد العزيز عمر بنإىل أن قام ة،أمي ييف أيام بن

.5/131رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد، مصدر سابق، ج (1)

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 87

فأزاله. وذكر شيخنا أبو عثامن اجلاحظ أن معاوية كان يقول يف آخر

سبيلكعن يف دينك، وصد د حل أاللهم إن أبا تراب )خطبة اجلمعة:

وكتب بذلك إىل اآلفاق، فكانت (.ا أليام به عذاب ، وعذفالعنه لعنا وبيال

ا ا أن قوم وروى أبو عثامن أيض ، ... هبا عىل املنابر هذه الكلامت يشار

، فلو ت ل قالوا ملعاوية: يا أمري املؤمنني، إنك قد بلغت ما أم أمية يبن من

كففت عن لعن هذا الرجل! فقال: ال واهلل حتى يربو عليه الصغري،

«عليه الكبري، وال يذكر له ذاكر فضال وهيرم (1).

وما يشري إليه ابن أيب احلديد من كتاب ملعاوية يذكر تفاصيله يف

أبو احلسن عيل ىرو»موضع آخر من رشحه عىل النهج، إذ يقول هناك:

قال: كتب معاوية (كتاب األحداث)بن حممد بن أيب سيف املدايني يف

اشيئ ىت الذمة ممن روئ ر ب ن جلامعة: )أ عامله بعد عام ا نسخة واحدة إىل

من فضل أيب تراب وأهل بيته(.

، ويربأون اكل منرب، يلعنون علي فقامت اخلطباء يف كل كورة، وعىل

منه، ويقعون فيه ويف أهل بيته.

الناس بالء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من هبا من شيعة وكان أشد

ة، وضم إليه البرصة، فكان ، فاستعمل عليهم زياد بن سمي عيل

ـ فقتلهم ألنه كان منهم أيام عيل ؛ع الشيعة ـ وهو هبم عارفيتتب

حتت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع األيدي واألرجل، وسمل

.57ـ 56/ 4املصدر السابق، ج (1)

| لحسينيةا لنهضةا

88 |

دهم عن العراق، جذوع النخل، وطردهم ورش بهم عىلالعيون وصل

هبا معروف منهم. فلم يبق

فاق: )أال جييزوا ألحد من شيعة عامله يف مجيع اآل وكتب معاوية إىل

عيل وأهل بيته شهادة(.

ن قبلكم من شيعة عثامن وحمبيه وأهل أن انظروا م »وكتب إليهم:

واليته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا جمالسهم، وقربوهم،

بيه أوأكرموهم، واكتبوا يل بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم

.«وعشريته

أكثروا يف فضائل عثامن ومناقبه، ملا كان يبعثه ىلك، حتففعلوا ذ

إليهم معاوية من الصالت والكساء واحلباء والقطائع، ويفيضه يف

العرب منهم واملوايل، فكثر ذلك يف كل مرص، وتنافسوا يف املنازل

من عامل معاوية ال والدنيا، فليس جييء أحد مردود من الناس عام

فلبثوا منقبة إال كتب اسمه وقربه وشفعه. فريوي يف عثامن فضيلة أو

.ابذلك حين

إن احلديث يف عثامن قد كثر، وفشا يف كل »عامله: ثم كتب إىل

ويف كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتايب هذا فادعوا الناس إىل ،مرص

يرويه االرواية يف فضائل الصحابة واخللفاء األولني، وال ترتكوا خرب

يف أيب تراب إال وائتوين بمناقض له يف الصحابة أحد من املسلمني

مفتعل، فإن هذا أحب إيل، وأقر لعيني، وأدحض حلجة أيب تراب

.«وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثامن وفضله

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 83

الناس، فرويت أخبار كثرية يف مناقب الصحابة فقرئت كتبه عىل

ىحت ىاملجر مفتعلة ال حقيقة هلا، وجد الناس يف رواية ما جيري هذا

املنابر. أشادوا بذكر ذلك عىل

معلمي الكتاتيب فعلموا صبياهنم وغلامهنم من ذلك إىل ىوألق

علموه ىرووه وتعلموه كام يتعلمون القرآن، وحت ىالكثري الواسع، حت

فلبثوا بذلك ما شاء اهلل. بناهتم ونساءهم وخدمهم وحشمهم.

من نظروا إىلا»لبلدان: مجيع ا عامله نسخة واحدة إىل ثم كتب إىل

فاحموه من الديوان وأسقطوا لبينة أنه حيب عليا وأهل بيتهقامت عليه ا

من اهتمتموه بمواالة »: ىوشفع ذلك بنسخة أخر .«عطاءه ورزقه

.«هؤالء القوم فنكلوا به، واهدموا داره

ىوال أكثر منه بالعراق، وال سيام بالكوفة، حت فلم يكن البالء أشد

ليأتيه من يثق به فيدخل بيته، فيلقي إليه رجل من شيعة عيلن الإ

يأخذ عليه األيامن ىرسه، وخياف من خادمه ومملوكه، وال حيدثه حت

فظهر حديث كثري موضوع وهبتان منترش. الغليظة ليكتمن عليه.

ذلك الفقهاء والقضاة والوالة، وكان أعظم الناس يف عىل ومىض

ون واملستضعفون الذين يظهرون اخلشوع ذلك بلية القراء املراؤ

والنسك، فيفتعلون األحاديث، ليحظوا بذلك عند والهتم، ويقربوا

انتقلت تلك ىحت جمالسهم، ويصيبوا به األموال والضياع واملنازل.

أيدي الديانني الذين ال يستحلون الكذب األخبار واألحاديث إىل

لو علموا أهنا باطلة ملا والبهتان فقبلوها ورووها، يظنون أهنا حق، و

«رووها وال تدينوا هبا(1).

.45ـ 44/ 11املصدر السابق، ج (1)

| لحسينيةا لنهضةا

31 |

املمارسة األموية الظاملة جتاه أهل البيت بعدما استقرت األمور ملعاوية، حكم املسلمني حكام أمنيا، فنرش

اجلواسيس والعيون يف كل مدينة وبلدة، وبخاصة بعدما أمر معاوية

االنتامء إليهم واحلديث بمالحقة معارضيه من أتباع أهل البيت، إذ كان

عن فضائلهم جريمة. وهي احلال التي اضطر معها اإلمام احلسن

إىل االنعزال عن الناس، لئال تكون لقياه مع بعضهم مدعاة العتقاله أو

حرمانه من العطاء أو التضييق عليه يف رزقه. ويمكن تصور مقدار

تبع ما ترويه املصادر العزلة التي فرضها معاوية عىل اإلمام احلسن من ت

التارخيية واحلديثية من أقواله وسريته. فعند املقارنة بني جمموع ما روي

كل عىل حده، نجد أن جمموع ما عن كل إمام من أئمة أهل البيت

هو األقل من بينهم مجيعا: روي عن اإلمام احلسن

أحاديثه اإلمام أحاديثه اإلمام

272 الكاظم 442 عيل

317 الرضا 41 سناحل

113 اجلواد 113 احلسني

182 اهلادي 173 السجاد

113 العسكري 446 الباقر

3217 الصادق

مع ما كان يعيشه من فرض وحصار أيام إن اإلمام العسكري

العباسيني، روي عنه من األحاديث أكثر مما روي عن اإلمام احلسن

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 31

الذي مارسه معاوية جتاه ، وهذا يكفي داللة عىل مقدار اإلرهاب

ليمحو ذكرهم وآثارهم بني الناس أهل البيت (1).

معاوية ونظرية اجلرب اإلهلي

ويضاف إىل هذه الظاهرة، ما أشاعه معاوية بن أيب سفيان يف مسألة

عيل عبد اجلبار املعتزيل عن شيخه أيب واجلرب، حيث يروي القايض أب

أظهر أن ما يأتيه بقضاء ف .معاوية :ن أول من قال باجلرب وأظهرهأ»عيل:

ن اهلل أو .نه مصيب فيهأفيام يأتيه، ويوهم ااهلل ومن خلقه، ليجعله عذر

وعىل هذا .وفشى ذلك يف ملوك بني أمية .ه األمرووال اجعله إمام

ثم نشأ بعدهم . الدمشقي بن عبد امللك غيالن القول قتل هشام

«قتكليف ما ال يطافوضع هلم القول ب ،يوسف السمني(2).

وقد أشاع معاوية هذه الفكرة بني عموم املسلمني، فانشغلت هبا

املؤلفات الكالمية إىل يومنا احلارض. وما كانت إشاعة مثل هذه األفكار

إال حماولة لتشويش فكر اجلامهري بنظريات فلسفية ال تلتقي والقيم

قامة القسط بني الناس.والتعاليم اإلسالمية القائمة عىل فكرة العدل وإ

ويبدو أن هذه الفكرة قد أشاعها معاوية منذ أيام واليته عىل الشام،

ملزيد من االطالع، راجع: تاريخ الترشيع اإلسالمي، الدكتور عبد اهلادي (1)

.246ـ 243م، ص 2111ـ ه 1432، 2الفضيل، مركز الغدير ـ بريوت، ط، ه(415، القايض عبد اجلبار املعتزيل )ت بواب التوحيد والعدلأاملغني يف (2)

حتقيق: الدكتور حممود حممد قاسم، مراجعة: الدكتور إبراهيم مدكور، إرشاف

/ .6الدكتور طه حسني، بدون نارش وتاريخ نرش، ج

| لحسينيةا لنهضةا

32 |

اوهذا ما نفهمه مما يروى يف هنج البالغة عن سائل سأل اإلمام علي

:« من أ ام بقضاء ، فأجابه اإلمام «(وقدر اهلل كان مسرينا إىل الش

:لعلك ظننت قضاء الزما وقدرا ،وحيك »بحديث طويل، منه

وسقط الوعد ،لبطل الثواب والعقاب ،لو كان ذلك كذلك (،حامتا

يريا .والوعيد ذيرا ،إن اهلل سبحانه أمر عباده خت وكلف يسريا ،وهناهم حت

ومل يطع ،ومل يعص مغلوبا ،وأعطى عىل القليل كثريا ،يكلف عسريا ومل

يرسل األنبياء لعبا ،مكرها ينزل الكتب للعباد عبثا ،ومل وال خلق ،ومل

اموات واألرض وما بينهام باطال ذين كفرواذلك .الس فويل ،ظن ال

«للذين كفروا من النار (1).

السياسة األموية يف ختدير اجملتمع وإىل جانب ختدير معاوية للجمهور بمثل قضية اجلرب اإلهلي، نرش

ظاهرة املجون واللهو يف املجتمع اإلسالمي. وقد بلغ من الوقاحة أن

وجلمع كبري من لقرب رسول اهلل ةجعل املدينة املنورة احلاضن

الصحابة إىل جمالس للهو والطرب، فأحرض فيها املغنني واملغنيات

والراقصات واملخنثني، يقول الشيخ باقر رشيف القريش يف كتابه حياة

وعمد »حتت عنوان: )إشاعة املجون يف احلرمني(: اإلمام احلسني

مني للقضاء عىل قدسيتهام معاوية إىل إشاعة الدعارة واملجون يف احلر

الشيخ عبد اهلل سقاط مكانتهام االجتامعية يف نفوس املسلمني، يقول إو

يد، الشيخ حممد جواد مغنية، دار العلم يف ظالل هنج البالغة: حماولة لفهم جد (1)

.253/ 4م، ج1373، 3للماليني ـ بريوت، ط

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 33

إىل حد واملدينة مكة يفاملجون حياة األمويون وشجع)يل: يالعال

من بينهم عمر ،طوائف من الشعراء واملخنثني وااإلباحة، فقد استأجر

بمسحة ال دينةواملمكة عاصمتي ألجل أن يمسحوا ،بن أيب ربيعة

ة(ليق، وال جتعلهام صاحلتني للزعامة الدينيت(1)وقد قال األصمعي: ،

، خبار والطرفدخلت املدينة فام وجدت اال املخنثني، ورجال يضع األ

، ويشارك فيها حيرضها الغناء، وكان الوايل جمالس يثرب يفوقد شاعت

يا التي وانحرست بذلك روح األخالق، وانرصف الناس عن املثل العل

«سالمجاء هبا اإل(2).

ويفصل الدكتور شوقي ضيف أكثر حول هذه الظاهرة، إذ يشري

هنضت بالغناء هنضة واسعة، »إىل أن املدينة املنورة يف عهد معاوية

وشاركتها يف ذلك مكة املكرمة، ... وقد أقبل أهل املدينة عىل الغناء

م وعبادهم وزهادهم إقباال شديدا، يشرتك يف ذلك عامتهم وخاصته

وقضاهتم. وكان من أرشافهم من جعل داره أشبه بالفندق للمغنني

واملغنيات، عىل نحو ما هو مأثور عن عبد اهلل بن جعفر وقصد الناس

لداره يسمعون هبا ألوان الغناء. وقد خترج يف هذه الدار كثري من املغنني

واملغنيات.

املدينة يف هذا العرص: طويس، ومن كبار املغنني الذين اشتهروا ب

.31سمو املعنى يف سمو الذات، الشيخ عبد اهلل العالييل، مصدر سابق، ص (1)

: دراسة وحتليل، الشيخ باقر رشيف القريش، حياة اإلمام احلسني بن عيل (2)

ؤون الفكرية والثقافية يف العتبة حتقيق: مهدي باقر القريش، إصدار قسم الش

.143ـ 148/ 2م، ج2118ـ ه 1423، 2احلسينية املقدسة ـ كربالء، ط

| لحسينيةا لنهضةا

34 |

وهو أول من تغنى يف املدينة بالغناء املتقن، وأول من صنع اهلزج

مل يف اإلسالم. وسائب خائر، موىل ابن جعفر، وهو ممن نقل أحلان والر

الفرس إىل الغناء العريب. ومعبد، وهو إمامهم يف الغناء غري منازع. وابن

د، ويونس الكاتب، ... ومن أشهر عائشة، ومالك الطائي، وع طر

املغنيات: عزة امليالء، ومجيلة، وسالمة القس، وحبابة، وسالمة الزرقاء.

ومن الطريف أن نعلم أنه كانت هناك دور خمصصة للسامع يفد عليها

شباب املدينة كل ليلة، وأشهر هذه الدور: دار مجيلة. وكانت تكتظ

«باملغنني واملغنيات(1).

د طبقة من املترددينوجو مما ساعد عىل بسط السلطة األموية هو انقسام املسلمني إىل فرق

واجتاهات عدة، فمنهم املوالون ملعاوية، وهم الفرقة املريض عنها

، وهم املغضوب واملغدق عليها. ومنهم املوالون ألهل البيت

هم، عليهم واملالحقون يف أرزاقهم، واملطاردون للقبض عىل البعض من

فيام البقية يامرسون حاال من التقية التي حيافظون هبا عىل أرواحهم

وأرزاقهم وممتلكاهتم.

ومنهم من كان يطلق عليهم املعتزلة، وهؤالء املعتزلة ال يقصد هبم

تلكم الفرقة الكالمية، وإنام أولئكم الذين آثروا اعتزال كال الفريقني.

، وهو ما نفهمه مما يل وهي حال كانت موجودة منذ عهد اإلمام ع

واحلسن البرصي، وذلك عقب معركة اجلمل. دار بني اإلمام عيل

تاريخ األدب العريب )العرص اإلسالمي(، الدكتور شوقي ضيف، دار املعارف (1)

.142ـ 141م، ص 1383، 11ـ القاهرة، ط

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 35

عا هلم فبعد أن انتهت املعركة، خطب أمري املؤمنني يف أهل البرصة مقر

يميش » أمري املؤمننيعىل حماربته والوقوف مع طلحة والزبري، إذ نزل

يا )فقال: ،يتوضأ وهو باحلسن البرصي فمر ،بعد فراغه من خطبته

باألمس لقد قتلت ،يا أمري املؤمنني) فقال:(. الوضوء غب س أ ،حسن

ا عبده د حمم وأن ،له رشيك الإله إال اهلل وحده ا يشهدون أال أناس

ء(.الوضو اخلمس، ويسبغون ورسوله، يصلون

فام منعك أن تعني ،رأيت قد كان ما: ) أمري املؤمنني فقال له

لقد خرجت ،واهلل ألصدقنك يا أمري املؤمنني)فقال: ((،ناعلينا عدو

وأنا ال أشك يف ،فاغتسلت وحتنطت وصببت عيل سالحي ،يف أول يوم

هو الكفر، فلام انتهيت إىل موضع من عائشة أم املؤمنني أن التخلف عن

واملقتول يف القاتل فإن ،عرج ا (إىل أين ،: يا حسنناداين مناد ،اخلريبة

مل أشك ،وجلست يف بيتي، فلام كان يف اليوم الثاين، اذعر رجعت ف. النار

عائشة هو الكفر، فتحنطت وصببت عيل أم املؤمنني عنف أن التخل

،هيت إىل موضع من اخلريبةتنا، حتى لسالحي وخرجت أريد القتا

القاتل فإن (إىل أين مرة بعد أخرى ،من خلفي: يا حسن فناداين مناد

أفتدري من ذلك ، ك ق صد : )عيل قال(، نارال واملقتول يف

،ك ق ذلك أخوك إبليس، وصد ): . قال (ال)قال: (. ي(املناد

الناريف واملقتول منهم القاتل نإ(1)

اآلن) :احلسن البرصي ، فقال

«(يا أمري املؤمنني أن القوم هلكى عرفت(2).

.من أصحاب اجلمل يف النار واملقتول القاتل أي (1)

، ه(548)ت الطربيس طالبيب أمحد بن عيل بن أمنصور أبوحتجاج، اال (2)

حتقيق: السيد حممد باقر اخلرسان، مؤسسة األعلمي ومؤسسة أهل البيت ـ

.251ـ 251/ 2م، ج1381ـ ه 1411بريوت، ط

| لحسينيةا لنهضةا

36 |

ذين مل وما تشري إليه هذه الواقعة هو وجود جمموعة من املسلمني ال

يستطيعوا حتديد موقفهم بسبب ما أحدثته تلكم الوقائع من لبس

وضبابية. وهو أمر يعود ـ يف كثري من األحيان ـ إىل ضعف القدرة عىل

التحليل، وبخاصة مع جمتمع كسول ال حيب أن يتعب نفسه حتى يف

جمرد التفكري يف مثل هذه األمور، وإال فأفعال معاوية ال يمكن أن

حتليلها، وأهنا خمالفة للرشيعة. كام أن مطالبة طلحة والزبري يصعب

بزيادة نصيبهام من بيت مال املسلمني ال تنسجم وروح العدالة التي

ينشدها املسلمون، وها هو أمري املؤمنني يسعى لتحقيقها بينهم.

وقد امتدت هذه الظاهرة إىل عهد اإلمام احلسني، وهو ما سنشري

إليه يف موضعه.

| 37

تائج عامة مما سبقن

الرسالة النبوية حالة إنقاذية لإلنسان من نري الظلم

والعدوان، وإعادة لروحية العدالة وإحياء للفطرة

يف تعامل اإلنسان مع أخيه اإلنسان. واإلسالم

نموذج لتلكم الرساالت التي استطاع فيها النبي

املجتمع العريب مما كان يامرس إنقاذ حممد

ة الضعيفة، وكذلك بام ألغاه من بحق الطبق

عصبيات كانت السبب األبرز لنزاعاهتم العسكرية

التي كانت تودي بحياة املئات من أجل هذا النوع

من الرصاعات.

، قبل احلديث عن الوضع االجتامعي يف عهد اإلمام احلسني

من املهم تلخيص ما تم بيانه يف هذا الفصل وما سبقه من فصول،

ودورها املهم ف عىل موقعية هذه احلركة التي قادها وذلك للوقو

ا قبل أن عىل مستوى الساحة اإلسالمية. إذ كان عطاؤها إسالميا عام

ا.ومن تلكم النتائج التايل: ا خاص يكون فئوي

| لحسينيةا لنهضةا

38 |

متر املجتمعات بتغريات يف طبيعة العالقات اإلنسانية، وبخاصة فيام (1)

اكمة والقاعدة الشعبية.يرتبط بالعالقة بني النخبة احل

يف بعض اللحظات التارخيية، تصل جمموعة من النخب إىل مواقع (2)

القرار والسلطة، ومن خالل ما يتاح هلا من إمكانيات، تتحكم يف

مقدرات املجتمع وهنب خرياته، وخلق طبقية اجتامعية، تثري فيها

طبقة عىل حساب بقية الطبقات األخرى.

ة يف مثل هذه الظروف بنهب الثروات ال تكتفي السلطات احلاكم (3)

العامة، بل تعمق الفجوة بينها وبني اجلمهور من خالل التضييق

عىل أي حركة معارضة، وذلك بام تضعه من نظام أمني صارم

يتحكم يف مجيع مفاصل املجتمع.

الرسالة النبوية هي حالة إنقاذية هلذه املجتمعات من نري الظلم (4)

ة العدالة االجتامعية وإحياء للفطرة والعدوان، وإعادة لروحي

اإلنسانية يف تعامل اإلنسان مع أخيه اإلنسان. والرسالة اإلسالمية

مثال ونموذج لتلكم الرساالت التي استطاع فيها النبي حممد

إنقاذ املجتمع العريب من تسلط طبقة األغنياء وما كانت متارسه

الم من روح قبلية بحق الطبقة الضعيفة، وكذلك بام ألغاه اإلس

وعصبيات مناطقية كانت السبب األبرز لنزاعاهتم العسكرية التي

كانت تودي بحياة املئات من أجل هذا النوع من الرصاعات.

مرة برزت عىل السطحبفرتة وجيزة، بعد رحيل رسول اهلل (5)

مسألة الطبقية االجتامعية، وذلك بام استحدث من نظام عام أخرى

املواجهة ومرحلة البيت أهل: الرابع الفصل |

| 33

عىل أساسه إىل طبقات اجتامعية، يعطى كل فرد بناء صنف الناس

عىل طبقته ورتبته.

يف عهد عثامن بن عفان، استعان بقرابته من بني أمية، وأغدق (6)

عليهم، ما مكنهم من التحكم بجميع مفاصل الدولة، وهو ما

حول اخلالفة اإلسالمية إىل أشبه بالعوائل امللكية. وقد تالعبت

درات املسلمني العامة، وولدت واقعا اجتامعيا هذه العائلة بمق

جديدا، بقيت آثاره إىل عهد معاوية.

يف عهد عثامن، ظل املجتمع منقسام إىل فئتني بارزتني، مها: احلاشية (7)

املتنفذة يف أجهزة الدولة، والقاعدة الشعبية التي تشعر بالسخط

خرية ترى يف عىل الوضع القائم وتطالب بتغيريه. وكانت هذه األ

املخلص من تلكم التجاوزات، وأملهم يف إرجاع اإلمام عيل

األمور إىل نصاهبا.

يف سنوات حكمه بحروب داخلية مع انشغل اإلمام عيل (8)

مناوئيه، ومل يستطع تغيري الواقع العريب الذي ترسخت فيه القيم

م اجلاهلية من جديد، فسنواته األربع مل تكن كافية ملحو آثار تلك

الرتاكامت.

يف عهد معاوية ترسخت القيم اجلاهلية، وذلك من خالل سياساته (3)

االقتصادية )الطبقية االجتامعية(، والفكرية )اجلرب اإلهلي(،

واإلدارية )الوالة(، واالجتامعية )القبضة األمنية يف التعامل مع

| لحسينيةا لنهضةا

111 |

املعارضني(، وحولت اخلالفة اإلسالمية إىل ملكية وراثية، أشبه

كيات املعروفة حينها.باملل

ويف عهده أيضا تعددت انقسامات املجتمع إىل: (11)

املوالني له، وهم الطبقة املستفيدة من سياساته والراغبة يف -أ

أمان ورفاهية احلكومة األموية.

، وهم الفئة املغلوبة عىل أمرها، املوالني ألهل البيت -ب

واملضيق عليها يف رزقها، واملالحقة أمنيا.

ون واملرتددون، وهم الفئة غري املكرتثة لواقع ما املتخاذل -ج

جيري من رصاعات ونزاعات داخل املجتمع املسلم.

وهي ـ يف هذه املرحلة ـ كانت تشكل الرشحية األوسع،

وهو ما تشري إليه خطابات اإلمام احلسني وكلامته

التي سنقف عليها يف الفصل القادم.

| 111

الفصل اخلامس

وحيدا للتغيريالتضحية سبيال

املجتمع اإلسالمي أيام اإلمام احلسني

التضيية بالنفس من أجل املبادئ

من نتائج النهضة احلسينية

واجبنا جتاه الثورة احلسينية

| 113

اجملتمع اإلسالمي أيام اإلمام احلسني

يعلن اإلمام احلسني إىل أنه خارج لتصحيح

نهج مسار املجتمع، ليضعه من جديد عىل امل

النبوي، وهو املنهج الذي أحياه أبوه اإلمام عيل

بعدما غيبته سياسات انحرفت به عن املسار

الصحيح. وهي إشارة إىل مسائل التوزيع العادل

واالختيار املبني عىل الضوابط الرشعية لوالة

املسلمني، ذلك أن صالح األمة بصالح أمرائها.

ع اإلسالمي ـ التي مرت بوادر التغيري التي طرأت عىل املجتم

اإلمام احلسني منها ـ كانت مجيعها حتدث أمام ناظري اإلشارة إىل بعض

فقد عارص ، مجيع هذه التغريات، وكان يف بعضها يف موقع

مقاليد السلطة، إذ شارك احلدث، وبخاصة عندما توىل اإلمام عيل

الواقع االجتامعي أباه يف تلكم املعارك التي قادها اإلمام عيل لضبط

وإرجاع األمور إىل نصاهبا الرشعي والقانوين.

من قد شاهد ما وقع عىل أخيه اإلمام احلسن وكان

| لحسينيةا لنهضةا

114 |

خذالن من قبل أفراد اجليش، وكان ذلك قبل متكن معاوية من السلطة.

واألمر كان أشد حاال بعد ذلك، وبخاصة مع ممارسات معاوية

تعمده تغيري واقع املجتمع املسلم، من التعسفية وقبضته األمنية، و

مجهور حمافظ وملتزم، إىل جمتمع تشغله املالهي ومظاهر الفسوق

والطرب والغناء.

إشارات حول وصف هذا الواقع ولإلمام احلسني

االجتامعي، ومن تلكم اإلشارات:

، لريغب احلق ال يعمل به، وإىل الباطل ال يتناهى عنهأال ترون إىل » (1)

يف لقاء اهلل، فإين ال أرى املوت إال سعادة، واحلياة مع املؤمن

.«الظاملني إال برما

إىل أن املوازين قد انقلبت يف إنه تعبري واضح وبني، يشري فيه

املجتمع املسلم، فأصبح احلق هو النادر والشاذ، ليحل حمله الباطل.

عىل احلياة مع وهي احلال التي تبعث يف اإلنسان اليأس وتفضيل املوت

حال كهذه.

وقد بعثت ».. إىل رؤساء األمخاس بالبرصة: Cما جاء يف كتابه (2)

فإن السنة إليكم هبذا الكتاب وأنا أدعوكم إىل كتاب اهلل وسنة نبيه،

، فإن تسمعوا قويل أهدكم إىل سبيل قد أميتت، والبدعة قد أحييت

«.الرشاد

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 115

من شيوع الباطل يشتكي وهو معنى مشابه لسابقه، فها هو

)البدعة(، وخفوت صوت احلق )السنة املحمدية(. وما تعنيه هذه

العبارة وسابقتها أن املجتمع املسلم انقلب عىل عقبيه بعد رحيل رسول

اهلل، وأن املعروف أصبح فيه منكرا واملنكر معروفا، وليس يف البني من

رتث لرتدي هذه احلال.كي ويعرتض أ

وإين مل أخرج أرشا وال »يه حممد بن احلنفية: يف رسالته إىل أخ (3)

بطرا(1)وال مفسدا وال ظاملا، وإنام خرجت لطلب اإلصالح يف أمة

أريد أن آمر باملعروف وأهنى عن املنكر، وأسري بسرية جدي

جدي وأيب عيل بن أيب طالب، فمن قبلني بقبول احلق فاهلل أوىل

.«باحلق

لة بأن خروجه هبدف تصحيح يف هذه الرسا يعلن اإلمام

مسار املجتمع، ليضعه من جديد عىل املنهج النبوي، وهو املنهج الذي

بعدما غيبته سياسات انحرفت به عن املسار أحياه أبوه اإلمام عيل

الصحيح. وهي إشارة إىل مسائل التوزيع العادل واالختيار املبني عىل

ح األمة بصالح الضوابط الرشعية لوالة املسلمني، ذلك أن صال

أمرائها.

قال: من إن رسول اهلل أهيا الناس،»ة: ضيف خطبته بمنطقة البي (4)

رأى سلطانا جائرا مستحال حلرام اهلل ناكثا عهده، خمالفا لسنة

األرش والبطر: الذي يتكرب عن قبول احلق. (1)

| لحسينيةا لنهضةا

116 |

، يعمل يف عباد اهلل باإلثم والعدوان، فلم يغري عليه رسول اهلل

ا عىل اهلل أن يدخله مدخل ه. أال وإن هؤالء بفعل وال قول، كان حق

قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرمحن، وأظهروا الفساد،

وعطلوا احلدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام اهلل، وحرموا

.«حالله، وأنا أحق من غري

يف هذه الفقرة من اخلطبة إشارة واضحة إىل ترسخ حال الرضومل

قدام عىل التغيري، وهو أوىل واالستسالم، ومل يعد من خيار سوى اإل

بذلك، فلن يقوم سواه إذا مل يتحرك. فاملسلمون ال يبدو أهنم مدركون

خلطورة ما يعيشونه من حلظة تارخيية حرجة، سيكون السكوت

والتخاذل سببا لعواقب وخيمة.

عمر بن سعد يوم الطف، وذلك حينام قال له اإلمام حماورته مع (5)

قاتلني( .. أما تتقي اهلل الذي إليه يا ابن سعد، أت: »Cاحلسني

معادك( .. فأنا ابن من قد علمت، أال تكون معي، وتدع هؤالء،

«.فإنه أقرب إىل اهلل

:أخاف أن هتدم داري»فقال ابن سعد.»

فقال اإلمام احلسنيC :«أنا أبنيها لك.»

:أخاف أن تؤخذ ضيعتي»فقال.»

فقال اإلمام احلسنيC« : ا منها من مايل أنا أخلف عليك خري

.«باحلجاز

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 117

:يل عيال وأخاف عليهم من ابن زياد القتل»فقال»(1).

ويمكننا تبني مدى متكن حال اخلضوع واالستسالم من عبارة عمر

بن سعد األخرية، ففيها من الداللة ما يكشف عن ذلكم الواقع املر.

لتي وهناك العديد من النامذج التي ترينا ظاهرة اخلنوع واخلضوع ا

، ويكفي شاهدا عىل ذلك كانت مسيطرة أيام ثورة اإلمام احلسني

ما حدث ملسلم بن عقيل مع أهل الكوفة الذين خذلوه بمجرد انتشار

خرب مل يتأكدوا بعد من صدقه حول جيش قادم إىل الكوفة بعثه يزيد بن

معاوية. إذ وصل هبم التخاذل أن جير جثامن مسلم وكذلك جثامن هانئ

عروة الذي كان زعيم قبيلته أمام الكوفيني دون أن تدفعهم هذه بن

األحداث إىل أي حترك يذكر(2).

.175، ص ه1418، 1، طانظر: األخالق احلسينية، جعفر البيايت، بدون نارش (1)

ما يمكن فهمه بخصوص خذالن أهل الكوفة ملسلم ومن ثم لإلمام احلسني (2)

أهنم تعودوا حالة السلم مدة من الزمن، ولكنهم يف الوقت نفسه كانوا

، وهلذا صدرت منهم تلكم الرسائل لإلمام يرغبون يف حكومة أهل البيت

كن عندما وصلت األمور إىل يبلغونه فيها مبايعتهم. ول احلسني

مفاصلها، وأصبحوا أمام خيار املواجهة واحتامل القتل، أو االستسالم

والتمتع باحلياة. اختار الكثري منهم اخليار الثاين. وهو شعور يمكن فهمه

عندما حيصل اإلنسان عىل سالح حيتفظ به يف منزله يف حال هجم عليه لص

لسالح، يرتدد كثريا يف استعامله ومواجهة اللص هيدده به. فإن من ال ألفة له با

به يف حال أصبح أمام األمر الواقع. وأهل الكوفة يف مواجهتهم مع عبيد اهلل

كانوا أشبه هبذه احلال. حيث انكشفوا أمام بن زياد ونرصة اإلمام احلسني

واقعهم. وسقطوا يف االمتحان الواقعي.

| لحسينيةا لنهضةا

118 |

ا بصورة كاملة، فقد وخانع س كل املجتمع الكويف كان متخاذال ولي

واملجاهدين ضد كان هناك عدد غري قليل من املوالني ألهل البيت

سلم بن عقيل إىل ولكنهم تعرضوا قبل وأثناء وصول م .احلكم األموي

بعد أن وصلت األمنية بعد استشهاده إىل املالحقة ، وكذلكالكوفة

األمويون تعقبهمإذ .إىل عيون السلطة رسائلهم لنرصة احلسني

إذبعضهم إىل خارج الكوفة. ر ف فيام ،الكثري منهم إىل السجون واوأدخل

فة قبل أن عدد من كان يف سجن الكو يةالتارخي املصادربعض تشري

ا ممن كتب إىل احلسني وصول اإلمام احلسني بلغ أحد عرش ألف

ساندته يف الثورة وتأسيس دولته.بالنرصة وكانوا بانتظاره مل

وكان ،من األنصار إىل خلو الكوفة ـ تقريبا ـأدى هذا الوضع قد و

.ذلك من أسباب تغري موازين املعركة وقلة أنصار اإلمام يف كربالء

، كان هؤالء هم الذين بدأت عىل أيدهيم بدايات حادثة كربالء وفيام بعد

.ورة التوابني واملختار الثقفي وما تالمهامن ث ، بدءاالثورات العلوية

| 113

التضحية بالنفس من أجل املبادئ

إن دور التضحية ال يأيت إال إذا فشلت كل الوسائل

واألساليب األخرى يف جمال التغيري االجتامعي.

هذا ـ عادة ـ يف املجتمع الذي خييم عليه ويكون

اخلمود واخللود إىل املسكنة والذلة. يف املجتمع

الذي يفقد روح اجلهاد من أجل الكرامة والعزة،

والذي ال ينطوي عىل روح النضال من أجل املصري

اإلنساين السعيد. وهذا ما نراه جليا يف واقع ذلكم

وان، فام كان املجتمع الذي كان يرىض بالذل واهل

من اإلمام إال أن ضحى بنفسه.

تقسم احلركات االجتامعية ـ عىل أساس من وجود ختلف يف تطبيق

النظام االجتامعي ـ إىل ثالثة أنواع:

:ةـ حركة إصالحي 4

وتنبثق نتيجة ختلف جزئي يف تطبيق النظام، ويصدر القائمون هبا

األمر باملعروف والنهي جب )عن أداء املسؤولية االجتامعية املعروفة بوا

| لحسينيةا لنهضةا

111 |

( يف نطاق رشوطها الرشعية، أمثال: احتامل التأثري، وإرصار عن املنكر

املخالف عىل املخالفة، وعدم لزوم الرضر يف جماالته املعروفة، وما إليها

مما يدرجها يف قائمة الواجب الكفائي.

:ةـ حركة انقالبي 0

الة ـ بمفهومها وتنبثق بسبب انحراف احلاكم وفقده صفة العد

الرشعي ـ التي هي رشط أسايس يف احلكم ـ واستمراريته عىل املخالفة

متمردا عىل النظام االجتامعي يف جمال احلكم، ويستهدف من ورائها

آخر يتوفر عىل رشوط احلاكم لكي يستبدل به القائمون هبا عزل احلاكم،

العادل.

:ةـ حركة ثوري 3

يف تطبيق النظام اإلسالمي، بإبعاده وتنبثق عن املخالفة الشاملة

عن حياة املجتمع، أو بإبداله بنظام آخر غري إسالمي. وهيدف القائمون

هبا إىل إعادة النظام اإلسالمي إىل جمال التطبيق ثانية.

ويف كلتا احلركتني )االنقالبية والثورية( تتبع طريقتان، مها:

األساليب الالعنفية.: ويراد هبا اختاذ الوسائل وطريقة التدرج .1

: ويراد هبا اتباع الوسائل واألساليب العنفية، وذلك طريقة الثورة .2

عند عدم جدوى الطريقة السابقة.

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 111

ويف جمال اإلقدام عىل الثورة، واتباع الوسائل العنفية من أجل

اإلطاحة باحلاكم املنحرف ـ فسقا أو كفرا ـ أو من أجل إعادة اإلسالم

لشامل، تتنوع نتائج الثورة إىل نوعني، مها:إىل جمال التطبيق ا

اإلطاحة الفعلية باحلاكم املنحرف يف احلركة االنقالبية، أو إعادة .1

اإلسالم فورا يف احلركة الثورية، اليشء الذي عىل أساس منه تعد

الثورة ناجحة نجاحا فعليا.

الذي اإلطاحة أو اإلعادة ـ املذكورتني ـ يف املستقبل، نتيجة الوعي .2

تنرشه احلركة، وبسبب اجلو السيايس الذي هتيؤه لتحقيق أهدافها

وهو ما نستطيع أن نعرب عنه بالتضحية بمعناها اخلاص.

ذلك أن احلركة يف النوع األول من هذين النوعني األخريين قد ال

تنطوي عىل تضحية، يف الوقت الذي يرى أن احلركة يف النوع الثاين ال

ملستقبل إىل حتقيق ما استهدفته إال بالتضحية ـ ألهنا تقوى أن تصل يف ا

العامل األخري يف جماهلا، كام سنقف عليه فيام يأيت.

ولذا حياول دائام أن يتعرف عطاء التضحية ليقرر عىل ضوئه مدى

نجاحها أو فشلها، ومتى كان النجاح هو الوصول إىل اهلدف، ال يعني

فه إال بعد حني، حينام تكون الظروف الثائر املضحي أال يصل إىل هد

االجتامعية التي يعيشها هي التي متيل عليه ذلك.

ويف النوعني األخريين )احلركة االنقالبية واحلركة الثورية( يصدر

القائمون هبا عن أداء املسؤوليتني االجتامعيتني املعروفتني بمسؤولية

| لحسينيةا لنهضةا

112 |

مها ـ يف واقعهام ـ (، املسؤوليتني اللتنياجلهاد( وبمسؤولية )الدفاع)

مسؤولية )األمر باملعروف والنهي عن املنكر( نفسها ملغى فيهام

رشوطهام املشار إليها آنفا.

مىت يأيت دور التضحية؟ إن دور التضحية ـ والسيام بمعناها اخلاص ـ ال يأيت إال إذا فشلت

كل الوسائل واألساليب األخرى يف جمال التغيري االجتامعي، أي إن

رها هو الدور األخري والنهائي.دو

ويكون هذا ـ عادة ـ يف املجتمع الذي خييم عليه اخلمود والرقود،

واخللود إىل املسكنة والذلة. يف املجتمع الذي يفقد روح اجلهاد من أجل

الكرامة والعزة، والذي ال ينطوي عىل روح النضال من أجل املصري

واقع ذلكم املجتمع الذي كان اإلنساين السعيد. وهذا ما نراه جليا يف

يرىض بالذل واهلوان، فام كان من اإلمام إال أن ضحى بنفسه.

انتصار الدم على السيف كتابه إىل بني هاشمعن تضحيته هذه يف يعرب اإلمام احلسني

من حلق بنا منكم استشهد، ومن ختلف مل يبلغ : »بأهنا فتح، إذ يقول

حب املبدأ والعقيدة عندما يضحي بنفسه . ذلك أن اإلنسان صا«الفتح

من أجل ما يؤمن به، تكون شهادته انتصارا لقضيته التي ضحى من

أجلها. ذلك أن هذا النوع من التضحية يشكل احتجاجا صارخا جتاه

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 113

سياسة القاتل والظامل. وهو ما يشهد له التاريخ، إذ مل يبق يزيد ومن

مدة يسرية يف احلكم. حيث تنازل بعده يف احلكم )ابنه معاوية( إال

معاوية بن يزيد عن السلطة. وهبذا انتهى احلكم السفياين، إذ كانت

حادثة كربالء من أسباب تقصري مدته.

وبعد احلكم السفياين، حكم مروان بن احلكم الذي كان طريد

هو وأبوه. ولكن حكم املروانيني مل يدم كذلك، إذ رسول اهلل

احلكم األموي، فكانت ثورة زيد بن عيل بن توالت الثورات ضد

، وابنه حييى بن زيد، وبعدمها ثورات احلسنيني ومعها احلسني

الثورات واالضطرابات األخرى ضد احلكم األموي، إىل أن سقطت

الدولة األموية عىل يد العباسيني.

| 115

من نتائج النهضة احلسينية

المية الثورة احلسينية كانت حركة اجتامعية إس

أسست ملنهج جديد يف التغيري االجتامعي ويف

طبيعة التعامل مع السلطة يف حال وجدت

الظروف املوضوعية املناسبة ألن تعطي الثورة عىل

احلاكم ثامرها وأن تنتج الشجرة املثمرة والوارفة

بظالهلا عىل املجتمع. وما كان هلذا املنهج أن جيد

ة احلسينية طريقه لوال شعلته األوىل يف النهض

املباركة.

يف هنضته املباركة، كان يدرك من عندما حترك اإلمام احلسني

البدء أنه يف قيامه بفريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر سينتهي عىل

نحو يضحي فيه بنفسه من أجل قضية مبدئية، ولكن هذه التضحية

سالمي العام، ستثمر ما يرجى منها من نتائج مهمة عىل الصعيد اإل

ويمكننا استعراض جمموعة من تلكم النتائج، نلخصها عىل الشكل

التايل:

| لحسينيةا لنهضةا

116 |

استطاعت الثورة احلسينية أن حترك وعي اجلامهري وتثري يف أنفسهم (1)

التساؤالت حول رشعية ما يقوم به سالطني بني أمية، ويف إمكانية

م. التغلب عىل حاجز اخلوف املسيطر حينها عىل نفوسهم وعقوهل

ففي الوقت الذي كان احلاكم يفعل ما يشاء دون مواجهة تلكم

التساؤالت، وبخاصة بعدما قام به معاوية من القبضة األمنية،

ومعها إضفاء نوع من الرشعية عىل ما يقوم به من أعامل، أصبح

بعد هذه احلادثة معرضا هلذا النوع من التساؤالت، وعليه تربير ما

ها هو حياسب عىل ترصفاته، وخيشى ثورة يقوم به من أعامل. ف

اجلامهري ضده، وهو أمر مل يكن متصورا مسبقا. إذ كان يكفي أن

يقال حينها أنه خرج عىل اخلليفة أو عن مجاعة املسلمني. وهو أمر

تبني خطأه وأنه مل يكن إال ألغراض سياسية.

حركت هذه الثورة روح املسؤولية يف نفوس املسلمني جتاه (2)

ضاياهم املصريية، وأزاحت روحية الالمباالة التي كانت مسيطرة ق

قبل ذلك. إذ عادت مسألة اخلالفة واحلكم إىل صلب االهتامم

اليومي لدى املسلم بعدما غيبها معاوية بام أحدثه من حاالت اللهو

والطرب، وبام أشاعه من فكرة اجلرب اإلهلي.

أئمة أهل البيت لينطلقوا فتحت الثورة احلسينية املجال واسعا أمام (3)

يف الواقع االجتامعي، وأن يامرسوا دورهم العلمي والتثقيفي

والوعظي للمسلمني، وأن حيدوا من غلواء التالعب بالدين. وقد

استطاع األئمة القيام هبذا الدور بصورة تدرجيية، ذلك أن السلطة

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 117

، إذ مل األموية خففت الكثري من الضغوط عن أهل البيت

وا عىل إيذائهم بعد معركة كربالء.ؤجير

ومن أمثلة ذلك أن يزيد بعد واقعة احلرة التي استباح فيها جيشه

املدينة بأمر منه ثالثة أيام، طلب من مجيع أهل املدينة مبايعته عبيدا

، وما ذلك ورقيقا له، ولكنه استثنى منهم اإلمام عيل بن احلسني

واقعةكربالء. يقول صاحب إال بسبب خشية يزيد بعدما فعله يف

أن يبايعه أهل املدينة بعد وقعة احلرة ملا أمر يزيد بن معاوية نإ»األعيان:

مر أنأعيل بن احلسني، ف إالله مل يستثن من ذلك عىل أهنم عبيد رق

«يبايعه عىل أنه أخوه وابن عمه(1).

ين ونتيجة هامش احلرية الذي متتع به، استطاع اإلمام زين العابد

أن يامرس دوره الوعظي واإلرشادي، إذ كان الدعاء وسيلة ناجعة يف

لإلمام السجاد »إيصاله من رسائل. وقد كان يريد إيصال ما كان اإلمام

أسلوب خاص يف بث الدعوة ألهل البيت، ال يربز ذلك أنه

يف لتمر …، بل يضفي عليها ثوب املناجاة هذه الدعوة بصورة ظاهرة

رب صل »: يقول ،يني بسالم دون أن تثري أي اهتاممعرص األمو

عىل أطايب أهل بيت حممد الذين اخرتهتم ألمرك، وجعلتهم خزنة

دينك، وخلفائك يف أرضك، وحجتك عىل عبادك، ة ظ علمك، وحف

.«وطهرهتم من الرجس تطهريا

، حتقيق وختريج: السيد حسن ه(1371مني )ت أعيان الشيعة، السيد حمسن األ (1)

/ 1م، ج2111ـ ه 1421، 5طاألمني، دار التعارف للمطبوعات ـ بريوت،

631.

| لحسينيةا لنهضةا

118 |

: ت يوقال طالبا من اهلل الصلوات والرمحة لشيعة أهل الب

عىل حممد وآل حممد، وصل عىل أوليائهم املعرتفني بمقامهم اللهم صل »

املتبعني منهجهم، املقتفني آثارهم، املتمسكني بواليتهم، املؤمتني

بإمامتهم، املسلمني ألمرهم، املجتهدين يف طاعتهم، املنتظرين أيامهم،

«إليهم أعينهم املادين(1) وهناك العديد من املضامني التي استطاع .

صلها من خالل املامرسة الرتبوية والروحية املتمثلة يف أدعية أن يو

يف تلكم الظروف الصحيفة السجادية، إذ كانت الوسيلة املتاحة له

األمنية الصعبة.

، ختففت الضغوط بصورة أوسع وبعد رحيل اإلمام السجاد

. وقد مارسا دورا مهام يف حماربة يف عهد اإلمامني الباقر والصادق

ما عرف فقهيا بمدرسة الرأي. وهي اجتاه سلكه الصحابة بعد رحيل

رسول اهلل، وقد ذهب هذا االجتاه بعيدا يف اخلروج عن النص الرشعي

واعتامد الرأي والقناعة الذاتية يف بيان األحكام وإصدار الفتاوى.

فكانت تستعمل يف بعض مواضعها فيام خيدم السلطة، وهو ما يدفع

ريف الرشيعة يف املستقبل. وهو أمر تنبه له األئمة مبكرا، إذ كان باجتاه حت

أول من حارب هذا االجتاه، واشتدت حماربته يف إمامنا اإلمام عيل

.عهدي اإلمامني: الباقر والصادق

جواد الشيخ حممد ، ؤمنني .. السيدة زينب بنت أمري املمع بطلة كربالء (1)

ص م، 1332ـ ه 1412، 5دار التيار اجلديد ودار اجلواد ـ بريوت، طمغنية،

63- 71.

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 113

وقد ظهر ذلك يف املناظرات واملحاورات التي دارت بني اإلمام

خرى، إذ عرف أهل البيت الصادق وبني أئمة املذاهب واملدارس األ

مصدرين من مصادر احلكم ،بمحاربتهم ملنهج الرأي والقياس

الرشعي(1).

، ولوال ما أتاحته هذه الثورة احلسينية من فسحة ألهل البيت

ملا استطاع األئمة الحقا من ممارسة هذا النوع من الدور فيام أتيح هلم

بالتضحية حلسني من هامش احلرية. وبخاصة أن قيام اإلمام ا

بنفسه من أجل ما كان حيمل من قضية ومبدأ، أعطى املجتمع صورة بأن

خيتلفون عن بقية املجموعات اإلسالمية التي كانت أهل البيت

تسعى لنيل السلطة، وهي صورة ساعدت بصورة كبرية عىل أن يتوجه

لوا املسلمون إىل أهل البيت والنهل من منبعهم الصايف، وإىل أن ينا

درجة كبرية من التقدير واالحرتام فيام بينهم.

، ال جيب إغفال أن الثورة احلسينية كانت حركة اجتامعية وأخريا (4)

إسالمية أسست ملنهج جديد يف التغيري االجتامعي ويف طبيعة

التعامل مع السلطة يف حال وجدت الظروف املوضوعية املناسبة

تنتج الشجرة املثمرة ألن تعطي الثورة عىل احلاكم ثامرها وأن

والوارفة بظالهلا عىل املجتمع اإلسالمي. وما كان هلذا املنهج أن

جيد طريقه لوال شعلته األوىل يف النهضة احلسينية املباركة.

ع، انظر: تاريخ الترشيع اإلسالمي، الدكتورعبد اهلادي مل (1) زيد من التوس

.136ـ 176الفضيل، مصدر سابق، ص

| 121

واجبنا جتاه الثورة احلسينية

ما دمنا نحمل قضية اإلمام احلسني فعلينا أن ،

رشحية ممكنة. نؤدي رسالته عىل أكمل وجه إىل أكرب

ويف حال اقترصنا عىل الوسائل التقليدية، ال يبعد

أن يكون ذلك يف عداد التقصري جتاه هذه القضية،

وليس من باب القصور، فاإلمكانيات املادية

موجودة واحلمد هلل، وجيب أن نشعر بأمهية التوجه

نحو هذه الوسائل احلديثة والنافعة واملهمة.

ألوىل للنهضة احلسينية، أعلنها اإلمام احلسني منذ انطالقة الرشارة ا

هنضة إسالمية شاملة دون أن تكون من أجل مصلحة فئة جتاه بقية

الفئات األخرى. لقد كان هدفه ووجهته أن يصلح أمة جده املصطفى

كام أن ما ظهر عنها من نتائج كان عىل مستوى األمة أيضا، ومل .

ت ويشايعوهنم.تكن خاصة بمن يوالون أهل البي

وأتباعهم من أذى ولكن ـ بسبب ما حلق بأهل البيت

وحمارصة امتدت طوال فرتة احلكم اإلسالمي ـ أدى ذلك إىل أن يكون

حامل لواء قضية عاشوراء هم أتباع هذا املذهب، وإال فإن رسالة

| لحسينيةا لنهضةا

122 |

اإلمام احلسني يف ثورته املباركة كانت رسالة إنسانية، يرفض فيها مجيع

ع الظلم واالستبداد وحياة الذل واالستكانة.أنوا

ومع كل تلكم املحاوالت ملحارصة إحياء ذكرى هذه احلادثة، فإهنا

ظلت باقية إىل يومنا هذا، وأصبحت رمزا خالدا لرفض الظلم

والطغيان ومقارعة الظاملني، سواء يف جمتمعات املوالني ألهل البيت

وإننا لنجد هذا املشهد ، أو عىل املستوى اإلسالمي العام .

االجتامعي متكررا كل عام بام حتييه املجتمعات الشيعية من إحياء واسع

لذكرى هذه احلادثة املؤملة. وهو ما يعزز لدهيم هذه الروح الوقادة

الرافضة للظلم ومجيع مظاهر اخلنوع واالستسالم.

تشهده ومن تلكم املشاهد الدالة عىل احلضور اليومي لكربالء ما

ساحة اجلنوب اللبناين اليوم من مواجهة مع العدو الصهيوين، إذ نجد

املجاهدين هناك ترفرف يف أحيائهم رايات )كربالء الثانية(، يف إشارة

واضحة إىل رمزية وحضور كربالء يف خضم رصاعهم ومقارعتهم

جلربوت العدو الصهيوين بكل ما يملك من آلة عسكرية مدمرة وقوى

داعمة. عاملية

وعىل الصعيد اإلسالمي العام، أتذكر يف هذا السياق أنه يف أحداث

ماعرف حينها بأيلول األسود عندما تصارع األردنيون مع الفلسطينيني

يف األردن، وما نجم عنها من مطالبة من قبل األردنيني بطرد الالجئني

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 123

الفلسطينيني(1)

. حينها ظهرت بعض الوساطات العربية حلل تلكم

األزمة، وكان من بني من دخل عىل اخلط الرئيس السوداين يف حينها

جعفر النمريي. حيث جتول النمريي يف شوارع عامن ورأى تلكم

املشاهد البشعة بسبب احلرب بني الفصيلني العربيني، لينقل مرئياته فيام

بعد إىل املسؤولني العرب. وقد توجه بعدها ملقر اجلامعة العربية، وكان

ذلك أيام الرئيس املرصي الراحل مجال عبد النارص. وقد كان يف

استقباله يف مطار القاهرة مع جمموعة من الصحفيني. وكان مما رصح به

. «إين قد رجعت من كربالء الثانية»النمريي يف وصفه ملا رأى أن قال:

وهذا له داللته الواضحة عىل حضور ورمزية النهضة احلسينية التي ال

حارضة يف الوجدان العريب واإلسالمي إىل وقتنا الراهن رمزا تزال

للثورة والتضحية، رغم كل التعتيم واملحارصة التي تعاقبت عليها

طوال هذه القرون.

من عام أيلول هو االسم الذي يشار به إىل أحداث شهر األسود أيلولحدث (1)

. أفراد احلركات السياسية الفلسطينية هذا االسم طلق عليهم، ومن أ1371

ات الفلسطينية بشكل هيدد احلكم اهلاشمي يف حيث ترصفت بعض املجموع

امللك عىل تعليامت بناء اجليش األردين األردن، فأعلنت حالة الطوارئ وحترك

ومنذ ذلك .مستشاريه العسكرينيبعض و م(1333)ت حسني بن طالل

يف العسكرية لوضع هناية لوجود املنظامت الفلسطينية الوقت تم التخطيط

تكن بني امللك حسني والرئيس املرصي مل قاتالعال وألن األردن.

منظمة التحرير الفلسطينية ذلك عطىأ، حينها جيدة مجال عبد النارص الراحل

قوة دافعة داخل األردن مردها أن قيادة املنظامت الفلسطينية كانت متأكدة من

أن األنظمة العربية املجاورة لألردن سوف تتدخل ملصلحة املنظامت

، وهو ما دفع األمور اجليش األردين حال نشوب أي رصاع مع الفلسطينية يف

. انظر: موسوعة ويكيبيديا احلرة، النسخة العربية، إىل مرحلة املواجهة حينها

(.أيلول األسود)مادة

| لحسينيةا لنهضةا

124 |

الدور اإلعالمي يف نشر الفكر واستطرادا يف هذه النقطة، أود إىل اإلشارة إىل أمهية دور اإلعالم يف

ملستوى العاملي. فنحن نعيش اليوم موجة صنع توجهات اجلمهور عىل ا

اإلعالم املرئي املتمثل يف اإلعالم والقنوات التلفزيونية. وشعوبنا

اإلسالمية ـ بحمد اهلل ـ تتمتع بسيولة مالية جيدة، ومن واجبنا أن

نتوجه لنرش قضايانا والتعبري عن فكرنا وآرائنا عن طريق هذه الوسائل

و كل بيت وكل عائلة.اإلعالمية التي بدأت تغز

، فعلينا أن نؤدي رسالته وما دمنا نحمل قضية اإلمام احلسني

عىل أكمل وجه إىل أكرب رشحية ممكنة. ويف حال اقترصنا عىل الوسائل

التقليدية، ال يبعد أن يكون ذلك يف عداد التقصري جتاه هذه القضية،

مد هلل، وليس من باب القصور، فاإلمكانيات املادية موجودة واحل

وجيب أن نشعر بأمهية التوجه نحو هذه الوسائل احلديثة والنافعة

واملهمة. وال جيب أن يترسب إلينا وهم صعوبة هذه اخلطوة، فهي أمر

سهل باملقارنة مع كثري من القضايا.

وما أقوله أنطلق فيه من واقع التجربة، إذ بدأنا التفكري ووضع

ضوع مع اإلخوة القائمني عىل اخلطط والربامج بخصوص هذا املو

اجلامعة العاملية للعلوم اإلسالمية يف لندن. حيث تم تداول املوضوع

ورصد امليزانية املطلوبة إلنشاء قناة إسالمية تبث من إحدى الدول

الغربية، مثل بريطانيا. فوجدنا أن املوضوع ليس بالصعوبة املتصورة.

واملحارضات اجلامعية ومن من الدروس عددايف اجلامعة صورنافقد

للتغيري وحيدا سبيال التضحية: اخلامس الفصل |

| 125

يف أحد االستديوهات الصغرية يف لندن، ومن ثم استئجار ثم سجلناها

ساعتني للبث الفضائي من أوروبا موجهة لدول إفريقيا ورشق آسيا

ومنطقة اخلليج، وقد كانت التكلفة الفعلية ال تتجاوز املليون جنيه

ملقارنة مع اإلمكانيات إسرتليني يف العام. وهو مبلغ يمكن تأمينه با

املادية املتاحة ألبناء املنطقة. وأرجو أن تظل هذه الفكرة موضع البحث

والتداول إىل أن تنضج وتكون حقيقة قائمة، بإذن اهلل تعاىل.

واحلمد هلل رب العاملني

| 127

ثبت املصادر

القرآن الكريم. .1

)ت الطربيس طالبيب أمحد بن عيل بن أمنصور أبواالحتجاج، .2

، حتقيق: السيد حممد باقر اخلرسان، مؤسسة األعلمي ه(548

م.1381ـ ه 1411ومؤسسة أهل البيت ـ بريوت، ط

ه.1418، 1األخالق احلسينية، جعفر البيايت، بدون نارش، ط .3

، حتقيق ونرش: مؤسسة أهل ه(413اإلرشاد، الشيخ املفيد )ت .4

م.1333 ـ ه1414، 2لتحقيق الرتاث ـ قم، ط البيت

، حتقيق وختريج: ه(1371أعيان الشيعة، السيد حمسن األمني )ت .5

، 5طالسيد حسن األمني، دار التعارف للمطبوعات ـ بريوت،

م.2111ـ ه 1421

، تصحيح: أمحد ه(356األغاين، أبو الفرج األصفهاين )ت .6

الشنقيطي، مطبعة التقدم ـ القاهرة، بدون تاريخ نرش.

| لحسينيةا لنهضةا

128 |

ووحدة هدف، السيد حممد باقر الصدر تنوع أدوار أهل البيت .7

، دار التعارف للمطبوعات ـ بريوت، بدون تاريخ.ه(1411)ت

)تاريخ اليعقويب(، دار ه( 284تاريخ أمحد بن أيب يعقوب )ت .8

صادر، بريوت، بدون تاريخ نرش.

م(، دار العلم 1387تاريخ األدب العريب، عمر فرومل )ت .3

م.1381، 4للماليني ـ بريوت، ط

األدب العريب )العرص اإلسالمي(، الدكتور شوقي ضيف تاريخ .11

م.1383، 11، دار املعارف ـ القاهرة، طه(1426)ت

تاريخ الترشيع اإلسالمي، الدكتور عبد اهلادي الفضيل، مركز .11

م.2111ـ ه 1432، 2الغدير ـ بريوت، ط

تاريخ الرسل وامللوك، أبو جعفر حممد بن جرير الطربي )ت .12

د أبو الفضل إبراهيم، دار املعارف ـ القاهرة، ، حتقيق: حممه(311

م.1371ط

، ه(262تاريخ املدينة املنورة، ابن شبة النمريي البرصي )ت .13

حتقيق: فهيم حممد شلتوت، بدون نارش وتاريخ نرش.

، ه(273مجل من أنساب األرشاف، أمحد بن حييى البالذري )ت .14

، دار الفكر ـ حتقيق: الدكتور سهيل زكار والدكتور رياض زركيل

م.1336ـ ه 1417، 1بريوت، ط

: دراسة وحتليل، الشيخ باقر حياة اإلمام احلسني بن عيل .15

، حتقيق: مهدي باقر القريش، ه(1433رشيف القريش )ت

املصادر ثبت |

| 123

إصدار قسم الشؤون الفكرية والثقافية يف العتبة احلسينية املقدسة ـ

م.2118ـ ه 1423، 2كربالء، ط

، حتقيق: عيل اخلاقاين، ه(1314)ت ديوان السيد حيدر احليل .16

.م1384ـ ه 1414، 4مؤسسة األعلمي للمطبوعات ـ بريوت، ط

، الشيخ سمو املعنى يف سمو الذات أو أشعة من حياة احلسني .17

، 2، دار مكتبة الرتبية ـ بريوت، طه(1417عبد اهلل العالييل )ت

ه.1353

ى السقا ، حتقيق: مصطفه(218السرية النبوية، ابن هشام )ت .18

وإبراهيم األبياري وعبد احلفيظ شلبي، القاهرة، بدون تاريخ

نرش.

، حتقيق: حممد أبو ه(656رشح هنج البالغة، ابن أيب احلديد )ت .13

م.1336ـ ه 1416، 2الفضل إبراهيم، دار اجليل ـ بريوت، ط

، دار ه(1411الشيعة يف امليزان، الشيخ حممد جواد مغنية )ت .21

م.1386، 11جلديد ـ بريوت، طاجلواد ودار التيار ا

، ه(231الطبقات الكبري، حممد بن سعد بن منيع الزهري )ت .21

حتقيق: الدكتور عيل حممد عمر، مكتبة اخلانجي ـ القاهرة،

م.2111ـ ه 1421

الغدير يف الكتاب والسنة واألدب، الشيخ عبد احلسني األميني .22

، 3، مؤسسة األعلمي ـ بريوت، طه(1332النجفي )ت

م.1376ـ ه1336

| لحسينيةا لنهضةا

131 |

الفتنة الكربى: عثامن، ضمن كتاب )إسالميات(، الدكتور طه .23

، 1، منشورات دار اآلداب ـ بريوت، طه(1333حسني )ت

م.1367

يف ظالل هنج البالغة: حماولة لفهم جديد، الشيخ حممد جواد .24

م.1373، 3، دار العلم للماليني ـ بريوت، طه(1411مغنية )ت

بو احلسن عيل بن احلسني مروج الذهب ومعادن اجلوهر، أ .25

، حتقيق: حممد حميي الدين عبد احلميد، دار ه(346املسعودي )ت

م.1373ـ ه 1333، 5الفكر ـ بريوت، ط

، حتقيق: حممد عبد القادر ه(241مسند اإلمام أمحد بن حنبل )ت .26

م.2118ـ ه 1423، 1عطا، دار الكتب العلمية ـ بريوت، ط

الشيخ ، ؤمنني أمري امل .. السيدة زينب بنتمع بطلة كربالء .27

، 5دار التيار اجلديد ودار اجلواد ـ بريوت، طجواد مغنية، حممد

م.1332ـ ه 1412

، الشيخ جعفر اهلاليل، مؤسسة أم معجم شعراء احلسني .28

.م2111ـ ه 1421، 1طالقرى ـ بريوت،

املعجم الوسيط، جممع اللغة العربية بالقاهرة، مطبعة الرشوق .23

م.2114ـ ه 1425، 4ة، طالدولية ـ القاهر

، القايض عبد اجلبار املعتزيل )ت بواب التوحيد والعدلأاملغني يف .31

، حتقيق: الدكتور حممود حممد قاسم، مراجعة: الدكتور ه(415

املصادر ثبت |

| 131

إبراهيم مدكور، إرشاف الدكتور طه حسني، بدون نارش وتاريخ

نرش.

ب األحكام يف بيان احلالل واحلرام، السيد عبد األعىل .31 مهذ

، نرش: مكتب السيد السبزواري ـ قم، ه(1414لسبزواري )ت ا

م.1335ـ ه 1416، 4ط

النزاع والتخاصم فيام بني بني أمية وبني هاشم، تقي الدين .32

(، حتقيق: الدكتور حسني مؤنس، دار املعارف 845املقريزي )ت

م.1388ـ القاهرة، ط

، رشح: الشيخ ه(416هنج البالغة، مجع: الرشيف الريض )ت .33

ـ ه 1412، دار البالغة ـ بريوت، ط ه(1323مد عبده )ت حم

م.1331

| 133

احملتويات

7 ..................................................... تقديم

11 ................................................... مقدمة

43 ............. إهلية لفريضة أداة احلسينية نهضةفصل األول: الال

17 .............. اإلسالمي املجتمع يف باملعروف األمر فريضة

23 ....................... التطبيق وأساليب ةالرشعي الفريضة

02 ............... التيرك وطبيعة احلسينية نهضةفصل الثاين: الال

31 ...................... اجلذرية والتغريات اإلنساين املجتمع

35 ................... الواقع تغيري ورضورة اإلسالمية الدعوة

33 ........................ الصحيحة والقراءة احلسينية الثورة

14 ............. التغيري وبوادر اإلسالمي جتمعالث: املفصل الثال

...................... 51 الرسول رحيل بعد التغيري بوادر

55 .................. الطبقي النظام ظل يف اإلسالمي املجتمع

| لحسينيةا لنهضةا

134 |

92 .................. املواجهة ومرحلة البيت هلالفصل الرابع: أ

71 ..................... اإلصالح وحماوالت العلوية السياسة

.................... 81 احلسن اإلمام أيام املسلم املجتمع

85 ............. اإلسالمي الواقع تغيري يف األموية السياسة أثر

37 ....................................... سبق مما عامة نتائج

424 ............. للتغيري وحيدا سبيال تضييةفصل اخلامس: الال

.............. 113 احلسني اإلمام أيام اإلسالمي املجتمع

113 ....................... املبادئ أجل من بالنفس التضحية

115 .............................. احلسينية النهضة نتائج من

121 .............................. احلسينية الثورة جتاه واجبنا

127 ........................................... املصادر ثبت

133 ............................................. املحتويات