C ��� � ����� ��� �� ��� �����

��������

��!"#$%�� ���&' %$ (

)*+ �!�,���-./0�

�� 1

��23 �

�145�67

8�

الناشر

للتواصل: www.alanwar14.org الموقع اإللكتروني: info@alanwar14.org البريد اإللكتروني: ٠٠٩٦٦٥٦٠٢٥٧٥٧٦ هاتف جوال:

دار المؤمل للطباعة والنشر بيروت - لبنانشارع بئر حرة

الطبعة األولى١٤٣٣هـ - ٢٠١٢م

٣ مقدمة النارش

مقدمة الناشر

بسـم الله الرحمن الرحيـم. الحمد للـه رب العالمين، والصالة والسـالم علـى سـيدنا محمـد وعلى آلـه الطيبيـن الطاهريـن وصحبه

المنتجبين.أبو الفضـل العباس C، األسـد الغضوب، صاحـب الكلمة و ن العد الشـهيرة، التـي أطلقها في آخر لحظـات حياته، وبعـد أن تمكمنـه، وقطع يديه وأصاب عينه بسـهام الغدر، فأعلـن بذلك عن أهدافه ومبادئـه، التي من أجلها خاض معركته المقدسـة في كربالء، وضحى في سـبيلها بدمه، ليتـردد صداها على مر التاريخ، طوفانا بشـريا يزلزل

الطغاة، ويطيح بالظالمين، ويجعلهم أثرا بعد عين.: «والله إن قطعتـم يميني إني لقـد صرخ C في أعدائـه قائالأحامي أبدا عن ديني». قالها دون أن تسمع لأللم صيحة، أو تر للهلع د حفظها عن أبيه إمام صورة، أو تشـم للخوف رائحة، وهي رسـالة تفر- وفي محراب الصالة ده -هو أيضـا المتقيـن C، الذي صدح بتفر

.. وجاء العباس ٤

ية: «فزت ورب الكعبة». و د بصرخته المه الوحيد، فسـيرته التاريخية مليئة د ـر ولـم تكن صرخته تلـك تفدات التـي تحولـت صفاتـا وألقابا وجدت السـبيل إلى اسـمه، ـر بالتفعلـت عنوانـا لعظمته، فأصبح سـاقي العطاشـى، وبـاب الحوائج، وجوحامـل اللواء، والكفيل، وهي صفـات نبيلة تحلى بها حتى مع أعدائه ـتهم وغدرهـم، وال يمكن أن يكون غير ذلـك، وهو قد تربى س رغم خفـي حجر أمير المؤمنين C، وعاش طورا من حياته يحذوه الخطوة

بالخطوة.عندمـا نتحدث عن أبي الفضـل العباس C فإننا نتحدث عن النبل والشـجاعة واإلخالص والوفـاء واإليثار والفضائـل، فقد تتلمذ علـى أبيه اإلمـام علي ابن أبي طالـب وأمه فاطمة العامريـة (أم البنين) ج مـن البيـت العلـوي فارتـد بجـدارة ثوب الشـجاعة B وتخـرواإلباء، وأصبح حصنا منيعا لإلسـالم ومبادئه، وسيفا مشرعا في وجه

الظلم والجور، دفعا عن دين الله والقيم السماوية. جاعة ضد أعداء اإلسالم في الجمل وصفين ل مواقفه الش ج وسوالنهـروان، وقتـل فيهـم الناكثين والقاسـطين والمارقيـن وهو اليزال فـي مقتبـل العمر، ثـم أعلن ثورته فـي كربالء، وختم سـيرته التاريخية المفعمة بالدالالت، بإراقة دمه الطاهر على مذبح العقيدة، قربانا لدين الله ومبادئه وقيمه السـماوية، وتحت راية اإلمام الحسين C عنوان

اإلباء والكرامة والعزة.

٥ مقدمة النارش

ومؤسسـة األنوار األربعة عشر A الثقافية تقدم للقراء الكرام هذا الكتاب (وجاء العباس) لسـماحة آية الله السـيد هادي المدرسـي –يحفظـه اللـه- الذي سـلط الضوء على نتـف تاريخية مـن حياة هذه الشـخصية اإلسـالمية العظيمـة لتعريف المسـلمين بالرمـوز الحقيقية لإلسالم، ولرفع الطمس والزيف الذي أصاب سيرته الوضاءة، سائلين المولـى العلي القدير أن ينفع به المؤمنين السـائرين على نهجه، وآخر

دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مؤسسة األنوار األربعة عشر A الثقافية

١٤٣٣/٣/٢٢هـ

٧ مقدمة املؤلف

مقدمة المؤلف

كربالء.. عاشـوراء.. الحسين C .. العباس C .. ليست ، وإنما هـي حقائق لها امتدادات،فكربالء هـذه مجرد كلمات لها معانتمتـد فـي عاشوراء،وعاشـوراء تمتـد فـي كربالء،وتختلـط الجغرافيا بالتاريخ،ويختلـط التاريخ بالجغرافيا، فـإذا باألرض لها معنى الحدث وإذا بالحادثـة لهـا معنى المكان، فـال تذكر كربالء إال وتتذكر سلسـلة من األحداث والقضايا والمعارك،وال تذكر عاشوراء إال وتتذكر أماكن

مختلفة من هذه األرض.ثل وحينمـا تذكـر العباسC فكأنـك تكمل صورة تلـك الموالقيـم متمثلة مواقف الرجال ففي العبـاس C يتمثل النبل والوفاء والشـجاعة والفضائـل والكمـاالت كلها،تتذكر كيف تمثلـت الكرامة اإلسالمية في حامل راية الحسين C فإذا بالعباسC يمثل تلك الرايـة المرفوعـة دائما للحق ومن أجل الحق فـي مواجهة كل الرايات

التي يرفعها إبليس في هذه الحياة.

.. وجاء العباس ٨

لقـد تمثلت في كربالء روح الوحـي، وتجلت الفضائل كلها في مواقف الحسـين C ورجاله، كما تمثلت الرذائـل كلها في أعدائه، وكان للعباس C قصب السبق بين رجال الحسين C فهو حامل ل إلى مدرسـة كاملة،يتعلم راية الحق، و رمز كرامته، ومن هنا فقد تحوفيها الرجال اإليمان واإلخالص والجهاد والعطاء والتضحية والشهادة في سبيل الله، مدرسة ال يدخل فيها أحد إال ليتخرج منها بطال شجاعا، مؤمنـا، صادقـا، لقـد قطعـت يداه في سـبيل اللـه ولكنهـا نصبت على ميت مفـارق الطرق تدل إلى منابـع الفضيلة، وينابيـع المناقب،ولقد رعينه بسـهم لتبقى عينا ساهرة على امتداد التاريخ تحمي اإليمان من أن

يختلط بالنفاق، وتحمي الحقيقة من أن تضيع في الزيف. وكمـا كان العبـاس C ليلـة عاشـوراء حارسـا يحمي مخيم الحسـين C من تطفل المنافقين ومن هجوم أصحاب الباطل، فإنه ال يـزال يقـوم بذات الدور فـي حمايـة الفضائل والمناقب مـن اعتداء المتطفلين عليها، فقد أصبح بسـيفه وبرمحه وبمواقفه وبكل حركة من حركاته ميزانا ومقياسا ومفصال يميز الزيف عن الحقيقة، واإليمان عن النفـاق، والصدق عن الكذب، فسـيف العباس C هو أكثر سـيوف الحـق مضـاء فـي التاريخ، ورايتـه أطـول رايـات الحقيقة امتـدادا في

األزمنة، ومواقفه أنبل ما صدر من أحد األبطال من مواقف.لقـد كان العبـاس C قمرا يـدور حول شـمس اإليمان، فهو ذلك العبد الصالح الذي أطاع الله ورسـوله K في كل حياته وبهذا أصبـح قدوة لآلخريـن في كل الفضائـل والمناقبيات حتـى أنه لم يعد

٩ مقدمة املؤلف

ر اإلنسان بكل المثل العليا. يذكر في محفل من المحافل إال ليذكإن هـذا الكتـاب هو محاولة متواضعة لشـرح جوانـب من حياة هذا البطل، أرجو من المولى عز وجل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم فنـي فـي الجنة وأن يحشـرني مـع محمـد وآل محمـد K، وأن يعروجه العباس وأن يرزقني صحبته مع الشـهداء األبرار إنه قريب مجيب

الدعاء.

السيد هادي المدرسي٢٠ محرم الحرام ١٤١٥هـ

١١ البدايات

البدايات

بعد رحيل فاطمة الزهراء D وهي في ريعان الشباب، تزوج أميـر المؤمنيـن علي بن أبـي طالب -سـالم الله عليه- حسـب وصية فاطمـة D مـن أمامـة، ولكـن ألم فـراق فاطمـةD كان ال يزال يعتصر قلبه إذ لم يكن مثيل لفاطمةD بين النسـاء، فهي سـيدة نساء

العالمين. A وبعد مضي عشر سنوات على شهادتها، عاش أهل البيتوا بظروف لم تكن في حسـبان أحـد، التفت اإلمام ظروفا قاسـية، ومرعلـي C إلى أخيـه عقيـل -وكان عالما باألنسـاب ويعـرف تاريخ الرجـال والقبائـل، وله إلمـام بالخصائـص األخالقية لهـم- فقال له:

«انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب». فأشـار لـه عقيل إلـى فاطمة بنت حـزام العامريـة D، وهي رفت بالشـجاعة والكرامة امـرأة جليلة كانت تتحدر من عائلة كريمة ع

وااللتزام بالفضائل والمناقبيات.

.. وجاء العباس ١٢

فأرسـل اإلمام أخاه عقيال لكي يخطـب له هذه المرأة العظيمة، ووجـد عقيل ترحيبا لهذا األمر من العائلة، وهكذا تم زواج اإلمام أمير

.B المؤمنين بفاطمة العامريةويقـال: إنهـا حينما دخلت بيـت علي C، التفـت إلى أوالد فاطمـة الزهـراء D، وقالـت لهـم: التناديني(تنادياني)فاطمـة، بل

ناديني «خادمة». كانـت ال تحبذ أن يتذكر هؤالء آالم أمهـم، وما جر عليها بعد

.K رسول اللهولقـد بقيـت في بيـت اإلمام أميـر المؤمنين C وهـي تعامل أوالده مـن فاطمـة D معاملـة أقل ما يقـال فيها إنهـا كانت قمة في

النبل والكرامة. وفي الحقيقة فإن اإلمام عليا C كان ينشد من هذه الزوجة أن يولد منها رجـال تتمثل فيهم صفاته هو، وفي مقدمتها اإليمان وتحمل المسـؤولية في زمن تغيـرت فيه نفوس الناس، ولم تعـد على ما كانت

.K عليه في زمن رسول اللهوكانـت ثمـرة هـذا الـزواج الميمون أربعـة مـن األوالد، وهم:

العباس، وعبدالله، وجعفر، وعثمان. لقـد كانـت فاطمة بنـت حزام بن خالـد بن ربيعة بـن الوحيد بن كعب بن عامر بن صعصعة من قبيلة هوازن، وكان لعائلتها والء خاص

١٣ البدايات

ألهـل البيـت A ممحصة فيهـم المودة ولهـم عندها الجـاه الرفيع والمحل الكريم.

وظهـرت فضائل هـذه المرأة الكريمة فـي مواقفها حين زواجها من علي C وبعد استشـهاده، كما ظهرت فيمـا جر على أوالدها فيمـا بعد، ووفاء لسـيد األوفيـاء العباس بن علي C، فلقد عاشـت فاطمـة العامرية -كمـا يقول بعض المؤرخين- عشـرين عاما بعد أمير المؤمنين C، ولم تقبل الزواج بأحد وفاء منها لصاحب راية رسول

.K اللهولـد العبـاس C فـي اليـوم الرابع من شـهر شـعبان عام ٢٦ للهجرة، وكان مولده بالنسـبة إلى أبيه مناسبة فرح وحزن في آن واحد، كمـا كان األمـر مناسـبة حـزن وفـرح لرسـول الله K حيـن والدة الحسـين C ، فلقد وضع اإلمام أمير المؤمنين C طفله العباس

ر عن ساعديه الصغيرين، وقبلهما ثم بكى. C في حجره، وشمولمـا رأت أمـه ذلك، أدهشـها الحـال ألنها لم تكـن تعهد صبيا بتلـك الشـمائل العلويـة، ينظر إليه أبـوه ويبكي من دون سـبب ظاهر، فسـألت عن األمر فبين لها اإلمام علي C ما سـيجري على العباس C في يديه، وكيف أنهما ستقطعان في سبيل الله في يوم من األيام. كان بكاؤه مما سيجري عليه، أما فرحه فكان لتلك المواقف التي

سيقفها العباس C، والمقام الرفيع الذي سيكون له يوم القيامة.لقـد امتد العباس في علي C، فكما كان علي C صاحب

.. وجاء العباس ١٤

C صاحب راية الحسين C كان العباس ،K راية رسول الله،وهما راية واحدة وإن اختلف الذي يحملها بين الوالد والولد.

وهكـذا فقد ولد العباس C، وهو يحمل بالوراثة كل صفات .B الفروسية التي كانت في أبيه وأمه

ـا مـن حيـث . أم كان يتمتـع بشـمائل األبطـال جسـما و روحـاي عبد مناف من قبل بقمر ـم جسـمه، فقد سمي بقمر بني هاشم،كما سي عبدا لله والد النبي K بقمـر الحرم لما كان يتمتع ـم البطحاء،وسبـه هـؤالء الرجال من وسـامة وجمال. وحسـب تعبيـر صاحب كتاب م طه «مقاتل الطالبيين» فإن العباس C كان وسيما جميال يركب الم

و رجاله تخطان على األرض. وأمـا مـن حيـث الـروح، فلقـد كان مثـاال للشـجاعة والبصيرة اللـه بأمـر والرضـا والثبـات واإليثـار والحـزم والوفـاء والمواسـاة

واالستعداد للتضحية من أجل دينه. ولم يكن تسـمية أمير المؤمنينC لـه بالعباسC -الذي يعني األسـد الغضوب- اعتباطا، فقد كان اإلمام C يتوسـم في ابنهC الهجوم على الباطل، ومواجهة أهله بما سيكون قدوة لآلخرين.

D لـم يكتف بأن اختـار أم العباس C إال أن اإلمـام عليامـن قبيلة ذات صفات كريمة من أرومـة عالية من المناقبيات، بل تعهد

.B بالتربية كما تعهد بها ولديه الحسن والحسين Cالعباس

١٥ البدايات

وكان اإلمـام علـيC يعتبـر كال مـن السـبطين B ولدي رسول الله K بينما كان يعتبر العباسC ولده.

ومـن هنـا، فإنـه كان يولـي العباسC مـن التربية بمقـدار ما يخـدم فـي مسـتقبل أيامه سـبطي رسـول اللـه K وولديه الحسـن والحسين B. تفتفت تلك الصفات المودعة في العباسC بفعل تقت عن اسـتعداد واسـع للنبل والكتساب الوراثة من والديه B، تفالفضائـل، وكانت لوصايا اإلمام علـي C ألوالده جميعا وللعباس

. Cبالخصوص التأثير الكبير في مستقبل مواقف العباس C ولقـد قيـل إن أمير المؤمنيـنC أخذ بيـد العباس C في تلك الليلة التي فارق الدنيا في صبيحتها،وقال له: «ولدي ستنعم عيني عما قريب بك وبما ستفعل في يوم عاشوراء، ولدي إن دخلت الفرات

فال تشربن الماء قبل أخيك الحسين». وكانت تلك بعض الدروس التي تلقاها العباس C في أيامه

الخالدات في حضن أمير المؤمنين C وفي ظل تربيته. ومـن عوامل الوراثة إلى التربية الحسـنة، إلى الوصاية الخالدة، ، مـن كل ذاك، ظهـرت في العباسC صفات ال أعلى منها وال أجل

وفيما يلي بعض منها...

١٧ C هكذا كان العباس

C هكذا كان العباس

فتح العباس C عينيه في عيني علي C، و رافق السـبطين الحسن والحسين B خالل فترة طفولته وشبابه.

بقـي مع أمير المؤمنين أربعة عشـر عاما في أصعب مراحل حياة اإلمـام علـي C حيـث عاد إليه حقـه في الخالفـة ليواجـه الناكثين

والقاسطين والمارقين،الذين شنوا عليه الحروب والغزوات. وكان العبـاسC يمر مع أمير المؤمنينC بتلك الظروف الصعبـة، ويرافـق التطورات التـي حدثت فيوما شـاهد معركة الجمل،

ويوما آخر معركة صفين، ويوما ثالثا معركة النهروان.ولقد أبلى العباسC بالء حسنا في معركة صفين التي طالت ثمانية عشـر شـهرا بين اإلمام أمير المؤمنين C وأصحابه من جهة،

.وبين معاوية بن أبي سفيان وجالوزته من جهة أخر وكمـا أن أبـاه خـاض المعـارك وهو ال يـزال في مقتبـل عمره، وكشـف الكـروب عن وجه رسـول الله K فـي معركة بـدر وأحد

.. وجاء العباس ١٨

وخيبر وغيرها.كذلـك ظهـرت مـن العباسC وهـو ال يـزال في سـني مراهقته شـجاعة فائقة في يوم صفين، ومما يرو في هذا المجال أنه في بعض أيام صفين خـرج من جيش أمير المؤمنينC شـاب يعلو وجهه نقاب تعلوه الهيبـة وتظهـر عليه الشـجاعة وكان يقدر عمره بخمسـة عشـر عامـا وأخذ يطلب المبارزة من أصحاب معاوية فهابه األعداء، فندب معاوية إليه واحدا من أشـجع أهل الشـام يسـمى أبو الشـعثاء، فقال: «يا معاوية إن أهل الشام

يعدونني بألف فارس، فال أخرج إليه، وإنما أرسل إليه أحد أوالدي».صاحـب فبـارز األول ابنـه فأرسـل سـبعة أوالده عـدد وكان النقـاب فقتله صاحب النقاب، ثم أرسـل أبو الشـعثاء ابنـه الثاني فقتله أيضا،فأرسـل الثالـث والرابع والخامس والسـادس والسـابع، فقضى عليهم جميعا،فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، فبرز إلى صاحب النقاب وهو يظن أنه قادر على مواجهة ألف فارس مثله،وقال: «ألثكلن عليك

أمك» فشد عليه صاحب النقاب وألحقه بأوالده السبعة.فهـاب كل أصحاب معاويـة ذلك الرجل، ولم يجـرؤ على مبارزته أحـد فيما بعد و أدهش هذا الموقف ليس العدو فقط وإنما الصديق أيضا، وعرف أصحاب اإلمام علي C من هذه البسالة أنها ال تعدو الهاشميين، ا رجع إلى مخيم اإلمام ولكنهم لم يعرفوا من هو ذلك البطل الباسـل، فلم

.C أزال النقاب عن وجهه، فإذا هو قمر بني هاشم العباس C كان يتبادل مـع العباس C ـل هنـا أن اإلمام عليـا نق وي

١٩ C هكذا كان العباس

ية على العدو، فقد نص الخوارزمي م أحيانا ما يلبسه ولده من أجل التعفـي كتابـه المناقـب أنـه: «خـرج مـن عسـكر معاويـة رجـل يقـال لـه كريب،وكان شـجاعا قويا يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته، فنـاد بيـن الصفيـن «ليخرج إلـي علي»، فبـرز إليه مرتفـع بن وضاح الزبيـدي فقتلـه كريب، ثم برز إليه شـرح ابن أبي بكـر فقتله كريب، ثم برز إليه الحرث بن الحالج الشيباني فقتله كريب أيضا، فساء ذلك أمير المؤمنين C فدعى ولده العباس C وكان تاما كامال من الرجال بالرغم من أنه لم يتجاوز السادسـة عشـر من عمره، وأمره أن ينزل من فرسـه وينزع ثيابه، فلبس علي C ثياب ولده و ركب فرسـه وألبس ابنـه العباس C ثيابه هو، وإنما فعـل ذلك حتى ال يهرب كريب منه C جبنـا إذا عـرف من هو الذي يبارزه، فلما بـرز إليه أمير المؤمنينره بأس الله وسخطه، فقال كريب: «لقد قتلت بسيفي ره اآلخرة وحذ ذك C ى اإلمام هـذا كثيرا من أمثالك»، ثم هجم على اإلمام C، تلق

ضربته بالدرقة، ثم ضربه على رأسه بسيفه فشقه نصفين(١).قتل أمير المؤمنينC بسيف عبد الرحمن بن ومرت األيام،،وملجـم، وجر بعد ذلك ما جر على الحسـن بـن علي C، وكان العبـاس C يقف مع اإلمام خالل تلك السـنوات العشـر التي تولى

اإلمام الحسنC مقام اإلمامة فيها.يـل معاوية، وكشـف زيفه وشـارك مع اإلمـامC في دفـع ح

وخداعه.(١) المناقب للخوارزمي، ص١٤٧.

.. وجاء العباس ٢٠

ل مع الحسـن والحسـين C مـا تحمله السـبطان مثل وتحمسب معاوية لإلمام أمير المؤمنين C، ومصادرة حقوقهم، ومطاردة

أصحابهم، وغير ذلك.لقـد مـرت ظروف صعبة علـى أهل البيـت A وكان العباس C تحمل قسـطا من تلك الصعاب، حتى إذا التحق اإلمام الحسـن C بالرفيق األعلى مسـموما مغدورا به وامتألت عيون الهاشـميين بالدمـوع على رحيله، كان العبـاس C ممن رثى أخاه C وصبر

بنيه على ما ألم بهم.وشارك العباس C أخواه الحسين C ومحمد بن الحنيفة في تغسـيل اإلمام الحسـن C وتكفينه وتشـييعه، وكان ممن شاهد ،K عند قبـر جده Cمنـع بنـي أمية دفـن جثمان اإلمام الحسـنولوال وصية الحسـن C بأن ال تراق محجمة دم في تشـييعه ودفنه، لـوال ذلـك لما صبر أبـو الضيم و الفضائـل على ما جـر على اإلمام

الحسنC بعد وفاته.وبقي العباس C في جوار أخيه الحسين C مع بني هاشم إلـى أن حل عام ٦٠ مـن الهجرة، ومات معاوية بن أبي سـفيان وتولى يزيد سدة الحكم من بعده، و أرسل هذا األخير إلى واليه على المدينة- الوليـد بـن عتبة- رسـالة يطالبه فيها بأخـذ البيعة من الحسـين بن علي C قسرا، إن لم يبايع طوعا، وأمره بأن يقتل الحسينC إن امتنع عن ذلك،وحينما استدعي اإلمام إلى قصر اإلمارة في المدينة المنورة، اصطحب معه جمعا من بني هاشم بزعامة العباس C، وأمرهم بأن

٢١ C هكذا كان العباس

يحيطوا بدار اإلمارة، حتى إذا سمعوا صوته، اقتحموا الدار، وأنقذوه.وهكـذا فعل العباس C وبنو هاشـم، حيـث أغلظ مروان بن : «إنا أهل ـم القول ألبي عبدالله C وانبر اإلمام C قائال ك الحبيـت النبـوة، بنا فتح اللـه وبنا يختم، ويزيد شـارب الخمـور، وراكب

الفجور، وقاتل النفس المحترمة،ومثلي ال يبايع مثله».و رفع C صوته بهذا الكالم مما دفع بني هاشـم القتحام دار

اإلمارة، وإنقاذ اإلمام الحسين C في تلك الليلة.كانت تلـك باختصار بعض الحوادث التي جـرت على العباس

C في سني حياته.

٢٣ C شامئل العباس

C شمائل العباس

ياه،وسـيما ح كان العباس C طويال في جسـمه، جميال في مفي مالمحه. ولكن جماله لم يكن يقتصر على شمائله المادية وحدها، وإنمـا كان يتعد ذلك إلى روحه المفعمة باإليمان،المليئة بالفضائل،

فقد كان يتميز بأخالقه النبيلة،كما كان يتميز بشمائله الجميلة.لقد كان باطنه مليئا بنورالهداية،وكان جماله الظاهري واحدا من

مظاهر جماله الباطني.له من مجرد رجل صالح إلى وكان تميـزه بتلك الصفـات قد حو

يقين. يق إلى أسوة الصد د صد قدوة الصالحين، ومن مجروفيما يلي، بعض صفاته تلك...

أوال: البصرية النافذةيتحرك اإلنسان في الحياة بحسب رؤيته فيها.

فإذا كانت بصيرته ال تتجاوز حدود ملذاته وشهواته المادية،فإنه

.. وجاء العباس ٢٤

سـيتصرف تماما كما يتصرف حمار الطاحونة، يـدور حول ذاته، يأكل للعمل، ويعمل ليأكل، حتى ينتهي أجله في هذه الحياة.

أما إذا كانت لديه بصيرة يفهم بها حقيقة الدنيا، ويتطلع منها إلى عالم اآلخرة األوسـع، فإنه سيتصرف حينئذ بشكل مختلف، ال بمعنى أنه سـيخرج عن كونه بشـرا ال يأكل وال يشـرب وال ينام، وإنما بمعنى م كانوا أنه سـيتصرف تماما كما كان يتصرف األنبياء والرسل A فهيأكلـون كما يـأكل البشر،ويشـربون ويعملون كما يعمل سـائر الناس، إال إنهـم كانوا يلتزمون بـكل ما يوحى إليهم ويتصرفـون كما يريد الله ر ا بش ا أن ل إنم : {ق منهم أن يتصرفوا. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك قائال

.(١){ ى إلي م يوح ثلك موحقـا كان العباس C على بصيرة من أمـره، وعلى يقين من

.K الحق الذي هو عليه، ملتزما بكل ما أمره به رسول اللهنـا العباس ولقـد قـال اإلمـام الصادق C في حقـه: «كان عملب اإليمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه السالم C نافذ البصيرة ص

.(٢)« وأبلى بالء حسنا، ومضى شهيداوال شـك أن اإلنسـان حينما يكون نافذ البصيرة، فإن حركته في الحياة سـتدور في جزئياتها وكلياتها حول محور الحق، وسيتمتع بكل الصفات الحسـنة التي يتمتع بها الصالحون، ألن البصيرة تجر اإلنسان

(١) سورة الكهف، آية ١١٠.(٢) إبصار العين في أنصار الحسين C، ص٢٦.

٢٥ C شامئل العباس

إلى حضيرتها. كما أن فقدانها يصيب الروح بالعمى، فال يعرف صاحبه ما الذي يعمل، بل ربما يرتكب الموبقات ويسقط في مستنقع الرذائل، م م بك ويتدحرج إلى كل رذيلة فيها، ألنه سيكون مثاال لقوله تعالى{ص}(١) فمـن ال يعقل ال ير، ومـن الير يقع في لـون ق ع ـم ال ي ه ـي ف م ع

مزابل الطريق.أمـا العبـاس C، فقد كان نافـذ البصيرة، كمـا كان من علماء ق العلم زقا(٢). وي أن العباس C ز أهل البيت A األجالء حتى رولقـد روي أيضـا أنه كان مـن فقهاء أوالد األئمـة A، وكان

.(٣) عدال ثقة تقيا نقيا ،A ي أنه كان من أكابـر وأفاضل فقهاء أهل البيت و وكمـا ر

علم»(٤). «بل أنه كان عالما غير م

K ثانيا: الطاعة للـه و رسولهليس سـهال أن يكون اإلنسـان مطيعا ألوامـر الله في كل صغيرة ،K وكبيرة من أموره، مجانبا ما نهى عنه الله،ملتزما بمنهج رسـوله

ومطيعا إلمام زمانه. ذلك ألن طبيعة اإلنسـان قائمة على التمرد، وذلك نابع من ذات

(١) سورة البقرة، آية ١٧١.(٢) أسرار الشهادة، ص٣٢٤.

(٣) تنقيح المقال، ج٢، ص١٢٨.(٤) الكبريت األحمر، ج٣، ص٤٥.

.. وجاء العباس ٢٦

.(١){ ار ف ان لظلوم ك نس البشر، الظلمانية لوال هداية الله فـ{ إن اإل}(٢) فلو ترك اإلنسـان ـر س ـان لفي خ نس ولقـد قـال ربنـا {إن اإلوشأنه الختار الموبقات وقدم شهوات الدنيا على ثواب اآلخرة، وهذا لو ثـر الناس و ا أك م مـا يفعله األكثرية مـن الناس في كافـة العصور،{و}(٣) ومـن هنا، فـإن الملتزمين بأوامـر الله ونواهيه نيـن م ؤ ـت بم ص ر ح

المطيعين لله و لرسوله، هم األبطال الحقيقيون في التاريخ.وإذا أخذنـا بعين االعتبار أن اإليمان درجات، فإن مقدار الطاعة

في المؤمنين -هو اآلخر- درجات.فهنالـك من يلتزم بالحـد األدنى من متطلبـات الطاعة، وهنالك مـن يتجاوز الحد األدنـى لكي يصبح من السـابقين األولين الذين قال

الله تبارك وتعالى عنهم: .(٤){ بون ر ق ابقون * أولئك الم ابقون الس الس {و

فبمقـدار ما يكون اإليمان عميقا، تكـون طاعة الله لد المؤمن كثيرة، خاصة حينما تتناقض مصلحة اإلنسـان وسـالمته الشخصية مع

متطلبات اإليمان والطاعة لله ولرسوله.فلربمـا يتمتع البعض باإليمـان القلبي لله تعالى، حيث ال يمكنه

(١) سورة إبراهيم، آية ٣٤.(٢) سورة العصر، آية ٢.

(٣) سورة يوسف، آية ١٠٣.(٤) سورة الواقعة، اآليتان: ١٠ - ١١.

٢٧ C شامئل العباس

، ولكن فـي مجال الطاعة، يشـرك بـه، فيطيع إنـكار وجـوده عز وجـلالمصالح واألهواء، أو الحكام والسالطين.

ويحاول أن يجمع بين طاعة الله وطاعة العباد.صحيح أن غالبية الناس ليسـوا كفارا ينكـرون وجود الباري عز وجـل غيـر أن الغالبيـة من اللذين ال ينكـرون وجود اللـه يمتنعون عن طاعتـه إذا تناقضـت الطاعة مـع المصالح، أو كانـت الطاعة تؤدي بهم

إلى الهزيمة ال النصر.إال أن عبـاد اللـه المؤمنيـن يختلفـون عـن هـؤالء، ويمتـازون

بطاعتهم حين الخسارة وااللتزام في الهزيمة.ولوا ق وا أن ي ك تر ب الناس أن ي س يقول الله سـبحانه وتعالى: {أحين ه الذ ـن الل لم يع ل م ف بله ـن ق ين م تنا الذ ـد ف لق تنون * و ف ـم ال ي ه ا و نـ آم

.(١){ اذبين ن الك لم ليع وا و ق د صفمسـألة التناقـض بيـن المصلحـة و الطاعة،هـي فتنة بنـي آدم، وامتحـان البـاري لهم في هذه الحياة. ثم أن اإليمـان عند الكثيرين من الناس، إيمان وقتي،يلتزمون به إذا تماشـى مع مصالحهم،و إذا تناقض

روا ذلك،بألف تبرير و تبرير. تركوه، وبريقول اإلمام الحسين C : «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على انون». ل الدي وا بالبالء ق ص ح ت معائشهم، فإذا م ألسنتهم يحوطونه ما در

(١) العنكبوت، اآليتان: ٢-٣.

.. وجاء العباس ٢٨

ويظهر مد إيمان الفرد من خالل طاعته لمن تجب عليه إطاعته.

ن هنا تأتي قيمة الطاعة لله ولرسوله كميزان لإليمان الصادق. مولقد كان العباس بن علي C في القمة من هذه الناحية.

الم ولذلك يقف اإلمام الصادق C أمام ضريحه ليقول: «الس.« وله س لر طيع لله و م الح ال بد الص ع ا ال ه يك أي ل ع

فتلك من أولى الصفات التي اتصف بها هذا العبد الصالح في حياته.م نفسه الزكية فقد آثر أن يموت دون طاعته لله ولرسوله، وأن يقد

ا إيمان المخلصين الصادقين.. قربانا إلمام زمانه. فكان إيمانه حقيقـول الحديـث الشـريف: «نظر علي بن الحسـين C سـيد العابديـن إلى عبيـد الله بن العبـاس بن علي بن أبي طالـب، بعد مقتل اإلمام الحسـينC في كربالء والعباس C معه، فاسـتعبر اإلمام د، ن يوم أشـد على رسول الله من يوم أح السـجاد C، ثم قال: ما متل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسـد الله وأسد رسوله، وبعده يوم ق : C تـة، قتـل فيه ابـن عمه جعفر بن أبـي طالب»،ثم قـال اإلمام مؤ«وال يوم كيوم الحسـين C، ازدلف إليه ثالثون ألف رجل يزعمون أنهـم مـن هذه األمـة، وكل يتقرب إلى اللـه عز وجل بدمـه، وهو بالله : C ثم قال « يذكرهم فال يتعظون، حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا

«رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى وفد أخاه بنفسه حتى قطعـت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع المالئكة

٢٩ C شامئل العباس

في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(١).

لقـد كانـت من مميزات العبـاس C أنه كان دائمـا في خدمة إمامـه سـواء أكان اإلمام أباه أميـر المؤمنين أو اإلمام الحسـن بن علي C، وكان ملجـأ ألخيـه الحسـين C فـي النوائـب والمشـاكل، وبالحقيقـة، فإن موقف العباس C من اإلمام الحسـين C، كان

.K من رسول الله C كموقف اإلمام عليفكما كان أمير المؤمنين C يتبع النبي K اتباع الفصيل إثر أمه -حسـب تعبيـرهC- مطيعا لله ولرسـوله K في كل صغيرة وكبيـرة، كذلـك كان العباس C يتبع الحسـين C اتباع الفصيل

ه ويطيعه في كل صغيرة وكبيرة. إثر أموكمـا كان اإلمام علي C باب رسـول اللـهK في حوائجه، كذلك العباس C كان بابا لإلمام الحسين عليه أفضل الصالة والسالم.

ثالثا: التضحيةتل في معركة، حتى ى بنفسه إذا ق قد يقال عن الشخص بأنه ضح

وإن لم يكن واثقا حين مشاركته فيها من أنه سيقتل. ولكـن مثل هذه التضحية في أسـفل سـلم التضحيات، فالموت

مقدر على اإلنسان.(١) سفينة البحار، مادة (عبس) العباس بن علي.

.. وجاء العباس ٣٠

بغيره مات بالسيف يمت لم تعددت األسباب والموت واحدمن فقـد يمـوت الفرد فـي حادث اصطدام، أو بسـبب السـقوط من ارتفـاع شـاهق، أو بسـبب مـرض أو بأي سـبب آخر، وقـد يموت في معركـة، لكـن غالب الذين يشـاركون فـي المعارك يتوخـون االنتصار

ويتوقعون الموت في ذات الوقت. م اإلنسـان على موقف د ق بينما التضحية الحقيقية تكمن في أن يـلم التضحيات يعلم بالقطع واليقين أنه مقتول بسـببه. فهذا في أعلى س

وهذا هو الجهاد الحقيقي.إن الدخول في المعارك ال يعني بالضرورة الموت فيها، صحيح أن بعـض المواجهات تكون نسـبة المـوت فيها أكثر مـن غيرها، ومن ا بحياته، ولكن نسـبة المغامرة هـذه تختلف عتبـر مغامـر يدخـل فيها ي

بحسب المواقف الصعبة.خل فـي معركة وأنت ترجـو النجـاة دون أن يصيبك أي فـإن تدأذ، تختلـف عما لو دخلـت في معركة وأنت واثق من أنك لن تخرج منها سـالما على كل حال، هنا تكون التضحيـة حقيقية،ويكون الجهاد

لم. حقيقيا وفي أعلى السلقـد كان العبـاس C مثـل أبيـه C، مـن الذيـن يغامرون

بحياتهم في سبيل الله.وكما أن اإلمام عليا سـالم الله عليه بـات ليلة الهجرة في فراش رسـول الله K، وحوله سيوف متعطشـة لدمه، ودخل معارك كثيرة

٣١ C شامئل العباس

في الحروب التي خاضها رسول الله K، كذلك العباس C ،مع فـارق أن اإلمـام عليا C لـم يقتل في تلـك المعارك،ولكن العباس

تل في كربالء، وكان يعرف سلفا أنه مقتول في تلك المعركة. C قتلوا في يوم عاشـوراء،حدث لهم ذلك في وإذا كان بعض الذين قتل في بدايـات المواجهة، إال أن العباس والحسـين B كانا آخر من قين أكثر من غيرهما بأنهما سيقتالن إذ لم تلك المعركة، ولذلك كانا واثقيبق معهما أحد يستطيع الدفاع عنهما في مواجهة ثالثين ألفا من األعداء المتعطشـين إلى دمائهمـا الزاكيات فقد كتب اإلمام الحسـينC قبل

ا حل بأرض كربالء، والتي قال فيها: رسالته الشهيرة إلى بني هاشم لمبلغ الفتح»(١). لف لم ي د، ومن تخ ق بنا منكم استشه «من لحورب قائل هنا يقول: أليس هذا نوعا من أنواع االنتحار؟

والجـواب: هنالك فـرق كبير بين اإلقدام علـى االنتحار، هروبا س، يكـون فيه مـن الحيـاة و مشـاكلها، وبيـن اإلقـدام على عمـل مقد

الموت في نهاية المطاف.إن االنتحار عمل جبان، ينهي به صاحبه حياته هروبا من مشاكلة أو رغبة في إيذاء أشخاص آخرين من أقربائه، أو يأسا من الحياة، أو أي

شيء من هذا القبيل.غير أن الجهاد في سـبيل الله مع علم المجاهدين بأنه يؤدي بهم

(١) كامل الزيارات، ص٥٨.

.. وجاء العباس ٣٢

إلـى المـوت هو قمة المـروءة و قمـة التضحية و قمة العطـاء «فالجود بالنفس أسمى غاية الجود».

،بـل العدو هو ثـم إنـك ال تقتل نفسـك في المواجهة مـع العدوالذي يقتلك، وهو الذي يميز المجاهد الشهيد على المنتحرين.

يقول رسـول الله K: «سـيد الشـهداء حمزة»، ومن قام إلى إمام ظالم فنصحه فقتله. وبالتأكيد يكون سـيدا للشـهداء كل من ينصح

ظالما وهو يعلم أن نصيحته ستؤدي به إلى الموت على يده اآلثمة. غيـر أنـه يتقبل هـذه النتيجة من أجل أن يتحـد الظالم، ويفتح

الطريق أمام اآلخرين لكي يرفضوا الظلم، ويواجهوا الظلمة.أليـس كل الذيـن استشـهدوا في مواجهـة الباطل كانـو على مر

التاريخ من الذين يتحملون القتل بالنسبة إلى أنفسهم.وهكـذا فـإن المـوت في سـبيل الحق، مـع العلم المسـبق ليس انتحـارا بأي شـكل من األشـكال فهو دفـاع عن حق مظلـوم، فإذا كان

. ن األفضل أن يقتل المؤمن معه أيضا تمع، فم قتل في المج الحق ي فمن يستسـلم للموت، يكون ضعيفا في نفسه، أما الذي يتحدالظلـم، فهو قـوي في قلبـه، ولذلك ال نجـد أحدا من هؤالء استسـلم للعدو أو أعان على نفسـه،بل كان يدفع الموت عن نفسـه بما يستطيع،

فإذا غلب عليه العدو تقبل ما يترتب عليه برحابة صدر.وتلك هي الشجاعة الحقة.

٣٣ C شامئل العباس

وهـذا اليقين بالمـوت هو الذي جعل مـن العباس C واحدا من أعظم رجال التاريخ.

لقد كان أصحاب اإلمام الحسـين C يعلمون علم اليقين أنه قاتل. ال يمكن أن تنتصر مجموعتهم الصغيرة على ثالثين ألف م

كانت الحياة عندهم مقدسـة فيدافعون عنهـا ضد أعداء الحق و أعداء الحياة.

ومـن هنا فإن إرادة الحيـاة كانت قوية عندهم وبها كانو يقاومون قتلون. فيقتلون وي

ولكن ال أحد منهم كان مسـتعدا أن يشـتري بقاءه في هذه الدنيا بثمـن الخضـوع للظلـم والطغيـان، فحينما يكـون الحق صريعـا، فإن المطلـوب هـو أن يدافع عنه المؤمـن وأن يضحي من أجلـه حتى آخر

ع معه. ذه أو يصر نق قطرة من دمه، حتى يولقد كان العباس C حامل راية هؤالء المؤمنين في يوم عاشوراء.

رابعا: الشجاعةكما أن الموت موتان:

مـوت يأتي إليك فترضى به، ألنك اخترت موقعا كان فيه الخطر على حياتك.

ومـوت آخر تذهب إليه، وتقتحم عليه معاقله، راضيا بما قسـمه

.. وجاء العباس ٣٤

الله لك، فتكون أنت من اختار الموت وليس الموت هو الذي اختارك، فإن الشجاعة أيضا شجاعتان:

شجاعة أن تقبل بما يقع عليك،من حوادث مؤسفة، ومن أخطار جسيمة.

وشـجاعة أخر أن تختار موتك ضربا بالسـيف،وطعنا بالرماح ا. وتقطع أعضائك واحدة بعد أخر، وأنت تنظر إلى ذلك راضيا مختار

فأنت الذي اخترت هذا النوع من الموت. وربما اجتمعت الشجاعتان في الشخص كما حدث ذلك لإلمام علـي C الـذي كان يقول: «واللـه ال أبالي أوقعت علـى الموت أم

.« وقع الموت عليواجتمعـت أيضا في رجـال اإلمام الحسـين C فعلي األكبر C حينمـا أخبـره والـده بأنه سـمع هاتفا يقـول: «القوم يسـيرون و المنايـا تسـير بهم فعرفت أنها أنفسـنا قـد نعيت إلينا» قـال علي األكبر

نا على الحق؟». C : «ألسفقال له الحسين C : «أي، والذي إليه مرجع العباد».

فقـال علي األكبـر C : «إذن ال نبالي أوقعنـا على الموت أم وقع الموت علينا».

واجتمعت الشجاعتان أيضا في العباس C فلم يكن يبالي بعدد العدو وال بقوة عدته، إذ لم يكن يبالي بالكثرة أو القلة في مواجهة أعدائه.

٣٥ C شامئل العباس

إن الجبنـاء قـد يتمسـكون ببعـض التبريرات ويتظاهـرون بأنهم حكمـاء فيضربـون األسـداس باألخمـاس، ويبررون تقاعسـهم بألف ة تأتي في مقدمة أعذار علة و علة، وال شـك بأن كثرة العدو و قلة العد

الجبناء لترك المواجهة.وفـي الحـق فإن حسـاب الكثـرة و القلـة وامتالك العـدة و عدم امتالكها وما شـبه ذلك لها تأثيرها المباشـر فـي نتائج المواجهات، إال أن أصحاب البصائر لهم حسـاباتهم الخاصة، فهم يهتمون بالمسؤولية و بالواجـب و إطاعـة اللـه ومن ثم فال يبالـون بالكثـرة و القلة، كما ال

. يبالون بنتائج المواجهة سواء أكانت هزيمة أو انتصارافحينمـا يقـف الحق وحيـدا في مواجهـة جيش مـن الباطل فإن أصحـاب البصيـرة يبحثـون عـن الشـهادة من أجـل الحـق وليس عن االنتصـار بـه. ومن هنـا تر أن العبـاسC مثال يذهـب وحده إلى المشرعة وهو ال يمتلك إال يدين اثنتين يحمل بأحدهما القربة وبالثانية السـيف، بينما كان يحوم حول الشـريعة أربعة آالف من فرسـان العدو C ورجاله، وهم مكلفون بحراسـتها لمنع وصول رجال الحسـين

إليها. ففـي تحمـل هـذه المهمة لـم يقـل العبـاسC إن الواحد ال يمكن أن يواجه أربعة آالف، أو أن سيفا واحدا ال يمكن أن يكسر أربعة

آالف سيف.ولم يقل إن القربة ال تستطيع أن تحمي نفسها من السهام، وال أن

.. وجاء العباس ٣٦

مثـل هذا العمل لو نجـح في بدايته فال يمكنه أن ينفلت من قبضة أربعة آالف مـن المسـلحين الذيـن امتلؤوا حقـدا عليه وعلى أخيه الحسـين

.Cلـم يقـل كل ذلك وإنما قفـز إلى القربة وحملهـا وامتطى صهوة جواده وانطلق متوكال على الله تعالى ألن الشـجاعة عنده كانت تتمثل في أن يتحمل المسـؤولية ويقتحم علـى الموت معاقله، مع قطع النظر

ة أو الهزيمة واالنتصار. عن حسابات العدد والعدولهذه الشـجاعة الفائقة صار العباس C حامل لواء الحسينC، وحامـل اللواء في المعارك كان في ذلك الزمن أشـجع الرجال وأقواهم، ألن اللواء كان الرمز الذي يقاتل حوله المقاتلون، فإذا سـقط من يد حامله فمعناه الهزيمة لجبهته، وكان اإلمام الحسينC يدرك سـلفا أن العبـاس C هـو ذلك الرجل الـذي لو قطعت يـده اليمنى وإذا قطعت هي األخر في المعركة،فسـوف يمسـك اللواء باليسـر

فسوف يمسك اللواء بزنديه، وإذا قطعتا فسوف يمسكه بأسنانه.لقـد قـال أحد أصحـاب عمر بن سـعد عندما قيل لـه: «ويلكم،

أقتلتم ذرية رسول الله K؟!».قـال: عظظت بالجنـدل، إنك لو شـهدت ما شـهدنا، لفعلت ما

فعلنا». ثـم أضاف: «ثـارت علينـا عصابة أيديهـا في مقابض سـيوفها، كاألسـود الضارية تحطم الفرسـان يمينا وشـماال، وتلقي بنفسها على

٣٧ C شامئل العباس

المـوت وال تقبـل األمـان، وال ترغب في مـال وال يحول حائـل بينها وبيـن حياض المنية أو النصر، فلـو كففنا عنها رويدا ألتت على نفوس

العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين ال أم لك؟!»(١). وجملـة«وال تقبل األمان» في كالم جنود عمر بن سـعد إشـارة إلـى األمان الذي أعطي للعباس و إخوته A يوم التاسـع من محرم

الحرام، و رفضوه بأجمعهم.لقـد كان العباس C عين الشـجاعة، وقد ورثهـا من أبيه كما ورثهـا مـن أمه، ومن هنـا كان يمثل الشـجاعة في أجلـى صورها، فهو

. C العمود الذي كان يحمي خيمة الحسينوكان أصحـاب اإلمـام الحسـين يـرون العبـاس C فيـرون الثبات في ضميره، والشجاعة في روحه، ورباطة الجأش في مالمحه،

فكانوا يتمثلون به ويمتلؤون ثباتا وشجاعة عندما يرونه.حقا، لقد أصبح للشجاعة اسم آخر هو «العباس».

خامسا: اإليثار ال يتمثـل اإليثـار فـي الحقيقة فـي أن تعطي بعض المـال و أنت تحتاج إليه في بعض مجاالت حياتك، وإنما يتمثل في أن تعطي لغيرك

ذلك الشيء الذي تتعلق به حياتك.فقمـة اإليثار أن تكون على شـفا الموت عطشـان و تحمل الماء

(١) شرح نهج البالغة البن أبي الحديد، ج١، ص٣٠٧.

.. وجاء العباس ٣٨

على كتفك ثم تقتل وأنت عطشان.إن اإليثار الحقيقي أن تسخو بنفسك إنقادا لحياة غيرك،ودفاعا عنه.صحيـح أن إيثار المـال أيضا نوع من اإليثار فيما لو كنت بحاجة م ان به لو ك م و ـه س ف لى أن ون ع ثر ؤ ي إليـه، كما يقول ربنا جل وعلى: {و

}(١). ولكن أين إيثار المال من إيثار النفس؟ ة اص ص خوأيـن إيثار العطـاءات المادية مـن إيثار الموت علـى الحياة في

سبيل قيم عليا؟إن اإليثـار هو سـنام األخالق وقد قال اإلمـام علي C : «من آثر على نفسـه، بالغ في المروءة، واسـتحق اسم الفضيلة»،ولقد تجلى

. C في أعظم صوره في العباسقتل ويقطع دون مبادئه، فقد آثر أن يموت دون أخيه، كما آثر أن يو كان في ذلك مثاال يضرب لألجيال..فإذا كان أصحاب فرعون الذين نتم له ام : { ء دهم فرعـون قائـال آمنـوا بموسـى بن عمـران C وهدم ك ي د ن أي طع ر فألق ـح م الس ك لم ي ع م الذ ك بير ـه لك م إن ن لك اذ بـل أن ء قـد نآ أش ن أي لم لتع ل و وع النخ ذ م في ج بنك ل ألص الف و ن خ ـم م لك ج أر و

أبقى}(٢). ابا و ذ عـا مـن البينات ن اء ا ج لـى م ثـرك ع إذا كان هـؤالء قالـوا { لـن نؤ

(١) سورة الحشر، آية ٩.(٢) سورة طه، آية ٧١.

٣٩ C شامئل العباس

يا}(١). ن يوة الد ـذه الح ا تقضي ه اض إنم ا أنت ق اقـض م ا ف ن طر الـذي ف وم فإن العباس C آثر اإليمان مع الموت،على األمن مع الشرك، وقدل نظيره في التاريخ ـلة مع الحق على الذلة مع الباطل، في موقف ق الس

كله.فلـم يكن قد واجه مجرد التهديـد، وإنما قطعت أعضاؤه بالفعل ة عن موقفه الصامد وآثر على نفسه الموت ل من دون أن يتراجع قيد أنم

من أجل حياة اآلخرين.

سادسا: املواساةلد الشـدائد تظهر حقائق الرجال، فكم مـن الذين تركو أقرب الناس إليهم فريسة المحن و الباليا هاربين بأنفسهم في ساعة العسرة؟ وكم من أزمات و حوادث كشـفت أن ادعاءاتهم كانت مجرد شعارات

في سعات األمان و السالمة..إن النـاس حينمـا يمحصـون بالبـالء يتميـز الصـادق منهـم عن الكذاب، و المواسي عن غيره، فلو افترضنا أن حريقا وقع في دار، وأن النيران حاصرت العائلة كلها،حينها تجد أن أفراد تلك العائلة ينقسمون إلى قسـمين قسم يحاول إنقاد نفسـه، وال يهتم باآلخرين، وقسم يفكر

في إنقاد غيره ولو احترق بالنار. وقليل هم.لقـد كان العبـاس C قمـة في هـذه الصفة، كمـا كان قمة في

(١) سورة طه، آية ٧٢.

.. وجاء العباس ٤٠

الشـجاعة واإليثار والتضحية، وقل أن تجد مثله في مواسـاته حتى عند .A أصحاب األنبياء والرسل

إن المؤرخين يذكرون أن أصحاب النبي K - باسـتثناء والد العباس اإلمـام عليC وقلة معه -حينما اشـتدت بهم المعارك في مثل أحد و حنين تركوا النبي عرضة لسيوف األعداء، وهربوا من سوح

: القتال، بالرغم من مالحقة نداءات رسول الله K لهم قائالب ـــــذ ك ال الـــنـــبـــي ــد الــمــطــلــبأنـــــا ــب أنــــا ابــــن ع

إلـى أيـن تفـرون؟ «أنـا محمد،أنا رسـول الله». ومـع ذلك فقد خذلـوه وفـروا وبعضهـم ذهب بها عريضـة ووصل إلى خـارج حدود د إال م ح ـا م م الجزيـرة العربيـة، حتى نزلـت اآلية الشـريفة بحقهم { وم ابك ق لى أع بتم ع ل ق تل ان ات أو ق إن م ل أف س بله الر ن ق لت م د خ ـول ق س رين}(١). اكر ه الش ي الل ز يج س يئا و ه ش ر الل لن يض بيه ف ق لى ع لب ع نق ن ي م و

غير أن العبـاسC في كربالء فعل مثل ما فعل أبوهC في تلك المعارك، فقد وقف وحيدا يدافع عن أخيه.

يقـول اإلمام المهدي C : «السـالم على أبي الفضل العباس المواسـي أخاه بنفسـه، اآلخذ لغده من أمسـه، الواقي له، المساعد إليه

بمائه، المقطوعة يداه...لعن الله قاتليه». ويقول اإلمـام الصادق C في الزيارة التي تالها عند ضريحه:

(١) سورة آل عمران، آية ١٤٤.

٤١ C شامئل العباس

م األخ المواسي ألخيه». «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله وألخيك، فنعإن اسـم العباسC ارتبط بالمواسـاة، كما ارتبط بالشـجاعة واإليثـار والطاعـة وبقيـة الفضائل،ويبدو أن أصحاب اإلمام الحسـين C كانـوا يتنافسـون جمعيا فـي صفة اإليثار، ولكـن العباس C

كان له قصب السبق في تلك المنافسة. يقـول صاحـب كتاب (الكامـل في التاريـخ): «فلمـا رأوا أنهم ال يقدرون أن يمنعوا من الحسين C القتل، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه».

وظهـرت المواسـاة مـن العباس C فـي رفضه شـرب الماء قبل الحسـين C بعد أن اقتحم بفرسـه الفرات وكشف عنه الرجال الذيـن كانوا يحمونه، فدخل المـاء واغترف غرفة بيده، ثم تذكر عطش

الحسين C فرمى الماء،وقال قولته الشهيرة: هوني الحسين بعد من نفس تكونييا أن كــنــت ال ــعــده وبالمنون وارد حسين المعينهـــذا ــــارد ب ــن ــي ــشــرب وتديني فــعــال هــذا ــا م ــه ــل اليقين(١)وال صــادق فعال وال

سابعا: البحث عن ثواب اللـه عز وجل علـى فـراش الموت أوصـى اإلمام علي C أوالده الحسـن والحسـين والعباس C وغيرهم بقولـه: «أوصيكما وجميع ولدي، يـا الدنيا وإن بغتكما، وال ومـن بلغـه كتابي هذا، بتقو الله، وأن ال تبغ

(١) مقتل الحسين للسيد عبدالرزاق المقرم، ص٣٣٦.

.. وجاء العباس ٤٢

ي عنكما، قـوال بالحق،واعمال لألجر، كونا و تأسـفا على شـيء منها ز.(١)« للظالم خصما، وللمظلوم عونا

وقد أصبحت هذه الوصية منهج أوالده في الحياة، فكانت تقواللـه عز وجل مد بصرهم في كل أعمالهم، وكانت آيات القرآن الكريم هـي النور الذي يمشـون على ضوئه في الحيـاة، وكانوا يعملون بالحق ومـن أجـل األجر اإللهـي، ويقفـون مع المظلـوم ضد الظالـم في كل

مراحل حياتهم.وال شك أن الذي يبحث عن ثواب الله،يختلف عمن يبحث عن األجـر عند الناس، فمن يبحث عن ثواب الله يلتزم باإليثار و التضحية و المواسـاة، ويجد أن تلك لها من األجـر والثواب أكثر من غير ذلك، بينمـا الـذي يبحث عن مصلحـة دنيوية لن يكـون إال أنانيـا يحب ذاته

ويركب مراكب الشهوات ويبتعد عن الفضائل من الصفات.لقد كان العباس C من أولئك الرجال الذين يريدون الثواب ال النصر ويبحثون عن رضا الله ال رضا الناس، ولذلك فإنه كان يعمل من دون أن يفتخر بما عمل، لقد ترك فخره إلى الميزان، كما ترك راحته إلـى المـوت، فلم يكن يريـد إال األجر ولذلك ذكـر المؤرخون أنه لما رأ العبـاس بن علـيC كثرة القتلى من أهله جمـع إخوته من أبيه وأمـه، وهـم عبد الله وجعفر وعثمـان، وقال لهم: «يا بنـي أمي تقدموا

حتى أراكم قد نصحتم لله و رسوله، تقدموا حتى أثاب بكم».

(١) نهج البالغة، باب الوصايا.

٤٣ C شامئل العباس

فهو كان يرغب أن ير أخوته وقد جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا تلوا، وكان يرغب في أن يصاب بهم ويصبر على بالء الله فيوفيه الله وق

أجر الصابرين.وهكـذا فعل أخوته بوصيته، فبرز عبـد الله بن علي C وكان

عمره خمسة وعشرين عاما،وكان يرتجز ويقول: واإلفضال النجدة ذي ابن الفعالأنا ذو الخير علي ذاك النكال ذو الله رســول األهـــوالسيف ظاهر ــوم ي كــل فــي

فبـارزه من جيش بني أمية هاني بن ثبيت الحضرمي، واستشـهد عبد الله بن علي على يديه.

ثم برز أخوه جعفر بن علي C وهو يقول: المعالي ذو جعفر ــا أن ــي النواليإن ذو الخير علي ــن اب

وخالي شــرفــا بعمي حسبي فحمـل عليـه هاني بن ثبيـت الحضرمي أيضا، فقتله وحز رأسـه

الشريف. ثـم برز من بعده أخـوه عثمان بن عليC، وقـام مقام أخوته

وكان عمره واحدا وعشرين عاما، وهو يقول: المفاخر ذو عثمان ــا أن ــي الطاهرإن الفعال ذو علي شيخي األخــايــر خــيــرة حسين ــذا ــر ه ــاغ ــار واألص ــكــب ــد ال وســي

الناصر والوصي الرسول بعد

.. وجاء العباس ٤٤

فرمـاه خولي بن يزيد األصبحي على جبينه فسـقط على فرسـه، وحمـل عليه رجل من بنـي أبان بن دارم فقتله، وقطع رأسـه كما فعلوا ذلـك بأخيـه، وكان العبـاس C ينظـر إلـى إخوتـه وهـم يقاتلـون قتلـون. لقد كان فـي مقتل إخوته يريد أن يصبـر على البالء ليحصل ويعلى األجر والثواب كما قال اإلمام الحسـين C في خطبته في ظهر الكوفـة: «رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علـى بالئه، ويوفينا أجور

الصابرين».فال صفة أعلى من صفة الصبر، وال أجر أكثر من األجر عليه. ال شك أن من الصعب أن ير اإلنسان إخوته مجزرين كاألضاحي،ولكن د على حينما يكون ذلك من أجل الحق فإن الثواب يزداد بكل مصيبة تر

المرء و يصبر عليها في سبيل الله.ـل العبـاس C كل أنـواع الشـدائد المتصورة في ولقـد تحميوم عاشـوراء، وكان يريد بذلك أن يكسـب أكبر قدر ممكن من األجر والثواب، فهو يريد أن يكسب الثواب على الشجاعة، وعلى المواساة،

. وعلى التضحية، وعلى السقاية، وعلى الصبر على المصيبة أيضا

ثامنا: الوفاءقمـة صفـات الرجل النبـل، وقمة النبـل الوفاء، ولذلـك فعندما ـئلت فاطمة الزهراء Bعن أفضل صفات الرجال أجابت«الوفاء» س

ئلت عن أسوأها أجابت«الغدر». وعندما سوفي يوم عاشـوراء حين عز الناصر و ازداد البالء، وكان الموت

٤٥ C شامئل العباس

يحوم علـى رؤوس الرجال، بقي العبـاس C وإخوته A أوفياء ألخيهم الحسين بن علي C الذي كان يهدده األعداء بالموت.

C أنه ما دام الخطر يحيط بالحسـين ير C كان العباسمـن كل جانـب، فـال بـد أن يتحملوا هـم ذلـك الخطـر، ويدفعوه عن

. الحسينC وأهل بيته A مهما استطاعوا إلى ذلك سبيالفهم يخاطرون بأنفسهم من أجله ويرفضون الحياة دونه. ولذلك

فإنهم رفضوا فرصة البقاء أحياء من دون الحسين C مرتين.فقبل قدوم شمر بن ذي الجوشن إلى كربالء استحصل عبد الله بن أبي المحل وهو من أخوال العباس C، اسـتحصل من عبيد الله بـن زياد على األمان لهم، فقد قال لهذا األخير: «أصلح الله األمير، إن

ني أختنا مع الحسين،فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت». بفقـال ابن زيـاد: «نعم،ونعمـت عيني»،ثم أمر كاتبـه فكتب لهم ا أمانا، وبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له كزمان، فلمم هذا األخير على العباس C وإخوته Aقال لهم: «هذا أمان قـد

بعث به خالكم».فرفـض العباس C اسـتالم األمان، وقـال لكزمـان: «أبلغ خالنا ن أمان ابن سمية»(١). السالم، وقل له ال حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير م

ومـرة أخر رفـض العباس C وإخوتـه A األمان الذي

(١) تاريخ الطبري، مجلد ٦، ص٢٣٦.

.. وجاء العباس ٤٦

جـاء بـه شـمر قبل يوم واحـد من مقتلهم، فقـد روي أنه لما جاء شـمر بكتـاب من عبيـد الله بن زياد إلى عمر بن سـعد يطلـب منه أن يزحف على الحسـين C ويقضي عليه وعلى أصحابـه، وأن يجري الخيل له كتابا آخـر يعطي األمـان للعباس بن علي عليهـم بعـد مقتلهـم و حم C وإخوته، فجاء الشـمر إلى مقربة من مخيم أبي عبد الله الحسين

وناد بأعلى صوته: أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟. : غيـر أن العبـاس C رفض أن يجيبه، فكرر شـمر نداءه قائال

أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟.« فقال الحسين C للعباس C : «أجيبوه ولو كان فاسقا

: «ما شأنك وماتريد؟» فجاء إليه العباس C ووقف بإزائه قائالقال شمر: جئت لكم بأمان من عبيد الله بن زياد، فأنت وأخوتك آمنون، ال تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد

ابن معاوية.فقـال له العباسC : «لعنك الله، ولعـن أمانك، أتؤمننا وابن نبيك رسول الله ال أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء، وأوالد

اللعناء؟!»..(١) Cا إلى الحسين ثم أدار وجهه عنه، وقفل راجع

لقد كان أعداء الحسـينC يحسـبون للعبـاسC وإخوته (١) تذكرة الخواص، ص١٤٢، أعالم الور، ص١٢٠، أسرار الشهادة، ص٣١٨.

٤٧ C شامئل العباس

A حسابا خاصا، فهم يعرفون شجاعتهم وبأسهم وثباتهم، ولذلك كانوا يحاولون مهما أمكن إبعادهم عن الحسـينC لكنهم أسـاؤوا الظـن بالعباسC وإخوته A، واعتقـدوا أن هؤالء ينظرون إلى الدنيـا وكأنهـا هي الحياة األبدية كما يفعل أصحـاب المصالح أو أنهم يمكن أن يسـتبدلوا الحق بالباطل،خوفا مـن الموت، فخاب ظنهم في

ق العلم زقا. العباس C الذي كان نافذ البصيرة وقد زلقـد كان العباس C يريد األمـان واألمن ولكنه كان يريدهما

للحسين C أوال فهو من األوفياء الذين قل نظيرهم في التاريخ.فهـذه كتـب التاريـخ تـروي أن الحسـينC لما خطـب ليلة ال، ويتفرقوا عنه، م عاشـوراء في أصحابه وطالبهم بأن يتخذوا الليل جألن األعـداء يريدونه،ولـو أنهـم ظفروا به لـم يقتلوا غيـره، وقال لهم: ال، وليأخذ كل رجل منكم بيد م «إن هذا الليل قد غشـيكم فاتخـذوه جرجـل من أصحابي، وتفرقوا في سـواد ليلكم هـذا». وبعضهم بالفعل قد تفرق عن الحسـين C هناك قال العبـاس C : «ولم يا أباعبد

الله؟،ألكي نبقى بعدك؟فقبح الله العيش بدونك يا أبا عبد الله». لقـد كان العبـاسC مـن األوليـاء الصالحين الذيـن كفروا بالطاغـوت وآمنـوا بالله ومثلهم ال يمكن أن يخضـع للباطل مهما كان ، فإذا لم يكن هنالك قويا، ولن يترك الوفاء مهما كانت األخطار محدقةخيار غير الموت فسوف يستقبله بكل رحابة صدر ما دام ذلك في سبيل

الله، ولمواجهة الطغيان والظالمين.

٤٩ ومتيز بمنظومة البطوالت

وتميز بمنظومة البطوالت

ينقسـم الناس في مسـألة االلتزام بالمثل و القيم، وعدم االلتزام بهما إلى قسمين: قسم ال مبدأ له في الحياة،فمبدؤه مصلحته، ومصلحته مبدؤه. فال يبحث في الدنيا إال عن إشـباع نهمه، وإرضاء شهوته، ومن ثم فهو يطارد الدينار و الدرهم أينما وجدا، وينزلق إلى مستنقع الرذائل مهما استطاع إلى ذلك سبيال، وال ير في أي عمل بأسا مادام يحصل

به على الحطام في هذه الحياة.وقسـم يلتـزم بالمبـادء و القيـم و المثـل، ويؤدي مسـؤولياته وواجباتـه، وال يتنازل عـن ذلك من أجل مصلحة، أو إلرضاء شـهوة،

أو ماشبه ذلك.ثـم يمتـاز الذين يلتزمون بالمثـل و القيم بالمواقـف الرجولية و مقدارهـا، أي أن الذين يؤمنون ويلتزمون ويقفون المواقف الصعبة في

الحياة يمتاز بعضهم عن البعض بكثرة المواقف المبدئية و قلتها.فقـد يكون إلنسـان مؤمن موقـف رجولي واحد فـي حياته،وقد

.. وجاء العباس ٥٠

تكون مواقفه الرجولية سلسـلة متصلة، تبدأ من األيام األولى في حياته وإلى نهايتها.

ولقـد كان األنبيـاء و األوليـاء يمتازون عـن المؤمنيـن العاديين بكثـرة المواقـف المبدئية في حياتهم، فلم تكـن مواقفهم تلك يتيمة أو .وهكذا اسـتثنائية،بل كانت جزء من حياتهم اليومية يتبـع بعضها بعضا

أصحابهم األوفياء و حوارييهم األبطال.ـرف بسلسـلة مترابطـة من فهـذا أبـو الفضـل العبـاس C عالمواقـف في سـبيل اللـه ولمصلحة المسـتضعفين، فمثـال من األمور التي كان يتميز بها هو السـقي للماء، وإذا أخذنا بعين االعتبار أن الماء هـو المادة األولـى للعيش، وعليه تتوقف حياة جميـع األحياء، إن ربنا بدأ الخلق بالماء، فإن االهتمام بإيصال الماء إلى األحياء يكون اهتماما

بحياتهم.قاء ليس فقط في واقعة الطف في ولقد عرف العباس C بالسكربـالء، وإنما قبل ذلك أيضا، لكثرة ما كان يهتم بسـقي العطاشـى في شـتى المناسـبات حتى إنه منذ الصغر عندما كان ال يزال طفال كان هو الذي يسـقي إخوته وأخواته كلما احتاجوا إلى الماء، فكان هو المبادر

األول لسقي العائلة. واسـتمر معـه ذلك إلى أن كبر، ففي معركـة صفين بعد أن امتلك ،C معاوية بن أبي سفيان ماء الفرات ومنعه عن أصحاب اإلمام عليأرسـل اإلمام صعصعة بن صوحان العبدي إلى معاوية يطلب منه أن ال

٥١ ومتيز بمنظومة البطوالت

يمنع الماء الذي أباحه الله سبحانه وتعالى لجميع المخلوقات عن أحد من المسـلمين، غير أن معاوية بن أبي سـفيان أبى أن يسـمح ألصحاب اإلمـام بأخـذ الماء، وامتنـع عن ذلك طمعـا في أن يفـرض بذلك على C اإلمـام وأصحابه االستسـالم، عندها قـال اإلمام أميـر المؤمنينقولتـه الشـهيرة«ارووا السـيوف مـن الدماء، تـروون من المـاء» ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حتى يكشفوهم عن الشريعة، وكان ممـن حمل على العدو، واسـتطاع أن يجبره على التراجع كل من مالك األشـتر، والحسين بن علي، وأبي الفضل العباس واستطاعوا أن يهزموا جيش معاوية وأن يمتلكوا الشريعة، ولكنهم لم يفعلوا بهم مثل ما فعلوا

. بهم بل تركوا الماء لمن يريده، عدوا كان أم صديقاين ف ولقد سـمي العباس C بالسـقاء ليس فقط لـدوره في ص. فكأن األمر كان هوايـة له، وعادة خيرة بـل لما ذكرناه قبل ذلك أيضـامـن عاداتـه الخيرة األخـر، فحيث كان يـر عطشـانا كان يبادر إلى سقيه، ولهذا فإنه في كربالء قام ثالث مرات بالحصول على الماء بقوة

. C السالح، وحمله إلى مخيم الحسينففـي اليوم السـابع مـن محـرم الحرام حوصـر اإلمام الحسـين C ومـن معه ومنعوا الـورود إلى الماء، ونفـذ ماعندهم منه و«أخذ كل واحـد منهـم يعالج لهب األوام بما يسـتطيع وكانوا بيـن أنة وحنة، وتضـور ونشـيج، وطالـب للمـاء إلـى متحر ما يبـل غلته». كمـا يقول المؤرخون، عندئذ ندب الحسـين C أخـاه العباس C، وطلب منـه الحصول على الماء بما أمكن، فخرج العباس C ومعه ثالثون

.. وجاء العباس ٥٢

فارسـا يحملون عشـرين قربة، وانطلقوا نحو معسكر العدو وكان عمر بن سـعد قد عهد بحراسـة الماء إلى (عمرو بن الحجاج) الزبيدي وهو

من طغاة أصحابه، فناد عمر بن الحجاج: ما جاء بكم؟

فقـال نافـع بن هـالل من أصحـاب اإلمام C: جئنا لنشـرب الماء الذي حألتموه عنا.

فقال له الحجاج: اشربوا ما شئتم، وال تحملوا معكم.فقالوا: أفنشرب والحسين C عطشان؟

قال عمر بن الحجاج: ال سـبيل لسـقي هؤالء، إنما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء.

فحمـل العبـاس C ومـن معـه عليهـم حتـى كشـفوهم عن الشريعة، بينما مأل األصحاب القرب بالماء، واستطاعوا أن يأتوا به إلى المخيم، وليس في القوم المناوئين من تحدثه نفسه بالدنو منهم، خوفا

من شجاعة العباس C وأصحابه. «فبلت غلة الحرائر والصبية من ذلك الماء وابتهجت به النفوس»(١).وال شك أن تلك الكمية القليلة من الماء، في ذلك الحر الشديد، وفـي تلـك الصحـراء القاحلة، لـم تكن تنفع ذلـك الجمع الـذي كان يتراوح بين مئة وخمسـين إلى مائتين من الرجال والنساء واألطفال إال

(١) تاريخ الطبري، المجلد ٦، ص٢٣٤، األخبار الطوال، ص٥٣.

٥٣ ومتيز بمنظومة البطوالت

فظ له كواحد لفتـرة قصيرة من الزمـن غير أن موقف العبـاس C حمن مواقف الرجولة النادرة في التاريخ ولقد قال الشاعر في ذلك:

نكصا الفوارس الفضل أبو يهزمواوثنى أن ثباتهم أشــد ــرأوا فمتقدما لــه بـــأس ذو ــر ك المتقدممــا ورأســــه ـــر وف إال حتى برمحه الخيول واألدهمصبغ لونها أشقر سيان غدملمومة على غضبانا المبرمماشد الــبــالء بها وحــل إال لهارب سرعة األقــدام إلى يسلموله بالتقدم هــو فكأنما

شجاعة أبيه من ــورث ت ترغمبطل الضاللة بني أنوف فيها بأسه من بشدة السالم تحطميلقى والرماح تثلم فالبيض بمعشر تفيد ال المواعظ صموا عن النبأ العظيم كما عمواعرف ينظمفانصاع يخطب بالجماجم والكال والمثقف ينثر فالسيف المفعمأو تشتكي العطش الفواطم عنده الفرات صعدته وبصدر وروده دون القرنين ذي سد أعظملو هــو بما همته سقته

الرتقى المجرة نهر استقى سلمولو إلــيــهــا ــه ــل ذاب ــل ــوي وطربيعة منه أيــن الضعينة مكدمحــام ــه ــي أب عــلــيــا ـــن أي أم يقله السقاء اليسر كفه المحدمفي الحسام اليمنى وبكفه صوبه للفواطم السحابة فيرجممثل العدو حاصبه ويصيب

لقـد كانت تلـك أول مواجهة مسـلحة في كربـالء بين أصحاب اإلمـام الحسـين C وبين أصحـاب يزيد بـن معاويـة، وانتهت إلى انتصـار أصحـاب اإلمام بقيـادة العباس C وحصولهـم على الماء

رغم أنوف الطغاة.

.. وجاء العباس ٥٤

ومن السـقاية للماء إلى الصفـات النبيلة األخر امتلك العباس C كل مـا يخطـر فـي البال مـن الفضائل في سلسـلة مترابطة يشـد بعضها بعضا، وارتبط اسـمه بها منذ بداية شبابه، ففي الوقت الذي كان أقرانه من شباب المسلمين قد تبدلت حاالتهم وتغيرت نفوسهم بسبب الفتوحـات التي أغدقـت عليهم األمـوال، وفتحت عليهـم نعيم الدنيا ورفاهيتهـا فكانوا يبحثون عن الراحة والملـذات كان العباس في ذلك الوقـت يبحث عـن المواقف البطوليـة التي تتطلب المغامرة والبسـالة والشـجاعة، ويعمل بالحديث الشـريف: «خصلتان ليس فوقهما شيء

من البر: اإليمان بالله، والنفع لعباد الله».فلـم يكـن يهتـم بنفسـه، بل يهتـم بالحـق، ولـم يكـن يفكر في

مصلحته، بل في مصلحة اإلسالم فيه.فإن دوره في يوم عاشـوراء لم يقتصر على حمل اللواء أو القتال : إنـه كان المفاوض بـل كان يتعـد ذلـك إلى أمور أخـر منها مثـالالقوي الذي يخشاه العدو ومن ثم فقد كان قادرا على أن يفرض منطقه عليـه، ذلـك أن المفاوضات في الحـروب هي مواجهة بقـوة المنطق، كما أن التالحم بالسـيف منطق بقوة السـالح، فعندمـا هجم العدو يوم التاسـع من المحـرم على مخيم أبـي عبد الله C، وسـمعت زينب طقطقة السـيف وأصوات حوافـر الخيل، جاءت إلى اإلمام وكان يغفو C فقالت: «أخي قد اقترب العدو منا» فقال الحسين للعباس C«اركـب بنفسـي أنت يا أخي حتى تلقاهم واسـألهم عما جـاء بهم و ما

الذي يريدون».

٥٥ ومتيز بمنظومة البطوالت

فركـب العبـاس C في عشـرين فارسـا فيهم زهير بـن القين وحبيـب ابن مظاهر وغيرهم و سـألوهم عما جاء بهـم فقالوا«جاء أمر مـن األميـر عبيد الله بن زيـاد أن نعرض عليكم النـزول على حكمه أو

نناجزكم الحرب».فوعظهـم C العباس ومن معه ولما لم ينفع معهم النصح في ذلك، شهروا سيوفهم في وجوه األعداء والحت للجميع صورة الموت منعكسـا في سـيوف العبـاس C وأصحابه، فتوقفوا عـن الزحف، ورجـع العباس C إلى الحسـين C يخبره بمقالـة القوم وكيف أنه أوقفهم عند مواقعهم فقال له اإلمام: «ارجع إليهم واستمهلهم هذه العشـية إلى غد لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره، فإنه تعالى

يعلم أني أحب الصالة له وتالوة كتابه وكثرة الدعاء واالستغفار».وهكـذا فإن مـا فعله العباس C في هـذه المفاوضات هو أنه أفهم العدو أن أصحاب الحسين مستعدون للمواجهة التي فيها الموت الزؤام، إال أنهم يطلبون سواد ليلة للصالة والدعاء وتالوة الكتاب وقد نجح في أن يمنع العدو من شن الحرب في اليوم التاسع من المحرم.

ولم تكن تلك المفاوضات بأقل من التالحم في يوم عاشـوراء، ألن الحـرب إذا كانـت شـديدة الصعوبـة فـي سـاعات المواجهة وال يصمـد فيهـا إال األبطـال، فـإن المفاوضات مـا بين طرفـي القتال هي األخر شديدة الصعوبة إذ ال يستطيع أن ينجح فيها إال من يمتلك من مضاء المنطق بمقدار ما يملك من قوة السيف، ويملك من قوة السيف

بمقدار ما يملك من مضاء المنطق.

.. وجاء العباس ٥٦

ولقـد كانت قـوة المنطق في العباس C بحجم شـجاعته في القتـال، ولذلـك فإنه كان يمثل أخاه الحسـين C ليـس في مواقف المواجهة مع العدو فحسب، وإنما كان يمثله أيضا في ساعات العسرة

للتأثير على عياله ونفخ روح الثبات والسكون والسالم فيهم.فقد ذكر المؤرخون أنه لما خطب اإلمام الحسـين C خطبته الثانيـة التـي نـدب فيهـا نفسـه، وسـمعت زينب وبناتـه كالمـه بكين، وارتفعت أصواتهن بالنحيب، فوجه اليهن الحسين C كال من أخاه العبـاس C وابنه عليا األكبر C وقال لهما: «سـكتاهن فلعمري

ليكثر بكاؤهن».وواضح أن المقصود من إسـكات النساء ليس مجرد إصدار أمر لهم بالسـكوت، وإنما يعني تهدأتهن بمنطق رباني وإفاضة روح الصبر

عليهن.ثم أن العباس C لما كان يمتلك من صفات النبل والشـجاعة والبسـالة و روح الصمود والتعاون والدفاع عن المستضعفين كان سندا لكل من يتورط في حالة المواجهة مع العدو ويشد ظهره ويؤازره القتال.

فعندمـا كان أصحاب اإلمام الحسـين C بعد الحملة األولى التـي التحـم فيهـا الطرفـان واستشـهد منهـم خمسـون رجـال، أخذوا يخرجون ثالثة ثالثة، أو أربعة أربعة أو ما شـابه ذلك و يحمي بعضهم ظهر اآلخر. كان أحيانا يسـتطيع العدو باالعتماد على كثرة عدده وقوة عدته أن يحيل بينهم وبين مخيم الحسـين C فيقع هؤالء في كمين

٥٧ ومتيز بمنظومة البطوالت

األعداء، فكان اإلمام C يرسل أخاه العباس C لنجدتهم.وقـد ذكـر الطبـري في تاريخـه إن عمرو بـن خالـد الصيداوي، وسعد مواله، وجابر بن حارث السلماني، ومجمع بن عبد الله العائدي وا جميعا على أهل الكوفة، فلما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس شـد C مـن كل جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسـينأخاه العباس C فاستنقذهم بسيفه وقد جرحوا بأجمعهم، وفي أثناء الطريـق هجم عليهم العدو من جديد فشـدوا بأسـيافهم مع ما بهم من

جراح وقاتلوا حتى قتلوا في مكان واحد رضوان الله عليهم(١).وبقـي هذا الـدور للعباس C مع جميـع األصحاب إلى آخر اللحظات حيث لم يبق إال الحسـين وهو، فكان العباس يشـد أزر أخيه C أزره إذا هجم العباس C إذا هجم على العدو أو يشد الحسينوحـدث ذلك مرتيـن أو ثالثا بعد مقتل األصحـاب جميعا ولذلك فإن الحسـين C قال بعد سـقوط العباس C شـهيدا قولته الشهيرة:

«اآلن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي».فالعبـاس C كان ظهـر الحسـين C تماما كمـا كان ظهر أصحابه، ومع سقوطه شهيدا انكسر ظهر الحسين C وكان العباس

C مخططا لجبهته ولذلك فقد قلت «حيلة الحسين» بمقتله.وكان العباس C مصدر خوف ألعدائه بمقدار ما كان مصدر أمن

.C ألصحابه ولذلك فإن العدو شمت بالحسين عند سقوط العباس

(١) تاريخ الطبري، ج٦، ص٢٥٥.

٥٩ وختم حياته بالشهادة

وختم حياته بالشهادة

الشـهادة في سـبيل الله توفيق اليحصل عليـه إال األتقياء الذين نذروا أنفسـهم في سـبيل دينهم، وإذا كان من الصعب أن يحافظ المرء على رباطة جأشـه، ويتحمل عشـرات المصائب في فترة زمنية قصيرة، التتجـاوز نصـف نهار، إال أن المؤمنين يسـتمدون عزيمتهـم من الله، فهـم بعزته يعتزون وعليه يتوكلـون ومن أجله يقاتلون ومن أجل دينهم قتلون. ومن هنا فإن اشتداد األزمة عليهم وصعوبة الموقف التزيدهم ي

إالمضاء في العزيمة وثباتا على المبدأ.تل كل رفاقه في وهـذا ماحدث للعباس بن علي C فبعد أن قصحـراء كربالء شـعر أن دوره قد حان لنيل الشـهادة. وألنـه كان واثقا C مـن الحق الذي كان عليه فقـد كان يأنس بالموت. كما كان أبوه

كذلك.ألـم يقل أمير المؤمنين سـالم الله عليه: «واللـه البن أبي طالب

آنس بالموت من الطفل إلى ثدي أمه؟».

.. وجاء العباس ٦٠

وألم يقل حينما ضربه ابن ملجم وا قترب من الرحيل إلى بارئه: «وهل أنا إال كطالب ورد؟».

C لقـد كان الموت فـي تلك اللحظات بالنسـبة إلى العباسبمنزلـة الشـربة البـاردة في اليـوم الصائـف، إال أن مهمتـه ازدادت هنا صعوبة إذ كان عليه أن يحمي العيال ويشـد ظهر الحسين C ويهتم باألطفـال في آن واحد، وعلى كل حال لم يكن يريد أن يقتل الحسـين C قبلـه فـال يجـوز أن يصـل إلى الحسـين C سـوء، وللعباس

C عين تطرف.اليجـوز أن يتلقـى الحسـين C ضربـة سـيف وفـي العباس

C عرق ينبض.إنـه المدافـع األول فال بـد أن يكـون المدافع األخيـر، لقد كان العبـاس C السـد المنيع الـذي يحول بيـن العدو وبين مقتل سـيد الشـهداء C ، كان عمـود الخيمـة، والخنـدق المتقـدم، والرجـاء

األخير، لحرائر النبوة من النساء واألطفال.فمع أن كل الرجال من أصحاب الحسين C كانوا قد صرعوا علـى األرض إال أنـه كان هنالك أمل كبير عنـد أهل البيت ألن العباس

. C كان اليزال حياو بقده الرشـيق، وبعزيمتـه التي تهد الجبال، وبشـجاعته ـا ه وهالنـادرة وبعزيمتـه الثابتـة، اليزال يمتطي فرسـه ورجـاله تخطان على األرض، ويـده على مقبض سـيفه، يـدور حول أخيه ليمنـع عنه الظلم

٦١ وختم حياته بالشهادة

ـال الكوفة من أن يتعرضوا ه والعـدوان، ويـدور حول المخيم ليمنع ج.K لحرم رسول الله

غيـر أن سـاعة الحقيقة كانت قد دنت، فجـاء العباس C إلى : «أبا عبدالله، أتأذن لي في البراز»؟. أخيه C قائال

وربما كانت تلك أصعب كلمة يسـمعها الحسـين C في يوم عاشوراء على اإلطالق.

لقد اسـتأذنه الذين سـبقوه مـن أصحابه، ومن أخوتـه ومن بنيه، ، وقـوة قلب، ولكـن ال أحـد منهم كالعبـاس C .. شـجاعة ومنعةومضـاء إيمان، ثم أن العباس C هو حامل الراية التي إذا انتكسـت

فتعني نهاية المواجهة.فقال الحسين C له: «يا أخي، أنت صاحب لوائي».

فقـال العباس C : «أبا عبدالله، لقد ضاق صدري، وأريد أن آخذ ثأري من هؤالء المنافقين».

فقال له الحسين C : «إذن فاطلب لهؤالء األطفال قليال من الماء».كأن الحسـين C كان يقول له: اطلـب، وأنت الطالب الدائم

له، وابذل المحاولة األخيرة، ولتكن شهادتك في هذا الطريق.فجـاء العباس C إلـى العدو، وحـاول أن يحصل على الماء بقـوة المنطق، فناد: «يا بن سـعد،هذا الحسـين ابن بنت رسـول الله K قـد قتلتـم أصحابه وأهل بيتـه، وهؤالء عياله وأوالده عطاشـى،

.. وجاء العباس ٦٢

فاسـقوهم مـن المـاء فقـد أحرق الظمـأ قلوبهـم، وهو مع ذلـك يقول دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلي لكم الحجاز والعراق».

فانبـر له شـمر بن ذي الجوشـن، هذا الطاغـوت الحقير الذي : «يا بن أبي تراب، لو امتأل حقدا على أهل البيت A، فرد عليه قائالكان وجـه األرض كلـه ماء وهو تحت أيدينا لما سـقيانكم منه قطرة إال

أن تدخلوا في بيعة يزيد».وعندمـا لـم تنفـع معهم قـوة المنطق لم يبـق أمامـه إال أن يطلبه بمنطـق القـوة. ولذلـك فمـا إن سـمع األطفـال يصرخـون، العطش، العطـش، حتى حمـل القربة على ظهره،وقفز على ظهر فرسـه، وقصد الفـرات وحده،وكان يحيط بها أربعـة آالف من الرجال، فحمل عليهم

وهو يقول: األعظم األعــز بالله ــزمأقسمت وزم ــا صــادق وبالحجون المحرم والفنا بدميوبالحطيم جسمي اليوم ليخضبن األقدم الفخار ذي الحسين والتكرمدون الفضل ــل أه إمــام

كأنـه كان يقول لهم: ها أنـا جئت وموتي في كفي.. جئت ودمي ، يشـخب من أوداجي أمامي، فلسـت خائفـا، أو مذعـورا، فتعالوا إليفمـن أراد أن يحصده سـيفي، فليبارزنـي.. فهربوا منه وأخـذوا يرمونه بالنبـال فلم يمنعـه ذلك، وقاتلهم قتاال شـديدا حتى قتـل منهم ثمانين

: وكشفهم عن المشرعة دون أن ترعبه كثرتهم، وكان يرتجز قائالالزمجرة عند أعــرف الذي حيدرةأنا المسمى علي ــن اب

٦٣ وختم حياته بالشهادة

واسـتطاع في فتـرة قصيرة أن يرمي بعضهـم على بعض ويدخل م به فقد امتدت يـده إلى الماء، المـاء ونتيجة العطش الشـديد الـذي أل C ولما أحـس ببرودته، تذكر عطش الحسـين ، فاغتـرف منـه غرفة

واألطفال، فرمى الماء من يده، وقال: هوني الحسين بعد من نفس تكونييا أن الكــنــت ــده ــع وبالمنون شــارب حسين ــذا المعين ه ــــارد ب ــن ــي ــشــرب وت

ديني ــال ــع ف ــذا ــاه م اليقين تــالــلــه صــــادق والفـــعـــال ثـم مأل القربة وتوجه نحو المخيم فسـدوا عليـه الطريق، فجعل

يضربهم بكل ما امتلك من قوة، وهو يقول: زقا الموت إذا الموت أرهب لقى ال المصاليت في أوار حتى بالسقى أغدو العباس أنا الملتقى إني يوم الموت والأخاف

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقىن م اد الجهني) ك ومع أنه فرقهم عن الطريق، إال أن (زيد بن الرقلـه مـن وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيـل – عليهما اللعنة- حتى إذا ـه أن يوصل القربـة إلى المخيـم بأي ثمن مـر العبـاس C وكل همضرباه على يمينه، فسقطت،فتلقف العباسC سيفه بشماله،وحمل

عليهم،وهو يرتجز ويقول: يميني قطعتموا إن ــه ــل ديني وال عــن ـــدا أب أحــامــي ــي إناليقين ـــادق ص ـــام إم األمينوعـــن الطاهر النبي نجل

وفيمـا هو كذلك كمن له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة أخر

.. وجاء العباس ٦٤

فضربـه على شـماله فقطعهـا، فضم العبـاس C اللـواء إلى صدره وأخذ يرتجز ويقول:

الكفار من التخشي نفس الجباريا بــرحــمــة وأبـــشـــري يساري ببغيهم قطعوا ــد الــنــارق ــر ح ـــارب ي فأصلهم

زخـات كأنهـا جانـب كل مـن السـهام وأتتـه عليـه فتكاثـروا المطر،وهـو حينئـذ اليملـك يـدا ليدفع بها العـدو فكان يتقي السـهام C بصـدره، ووجهـه ونحره، مجدا في السـير نحو مخيم الحسـينلعله يستطيع أن يوصل الماء إلى األطفال، إال أن كثرة السهام منعته من ذلك.. فسـهم أصاب عينه، وسهم أصاب صدره، وسهم أصاب القربة فأريق ماؤها، عندها تسمر العباس C في مكانه، ولم يعد له أمل ال

في القتال، والفي إيصال القربة إلى المخيم.وهنا تقدم واحد من الجبناء من أعدائه – من الذين كانوا يخشون مـن قبل االقتـراب منه حينما كانت يداه سـالمتين – وضربه بعمود من : (السـالم حديد على رأسـه، فهـو العباس C إلى األرض منادياعليك يا أبا عبدالله).. وكان الحسـين C حينئذ واقفا بباب الخيمة يتحـر أخبار أخيه C ، وحينما سـمع صوت العباس C عرف أن المصيبـة التـي كان يتوقعهـا قد وقعت،وأن العبـاسC ال ينادي مسـتنجدا إال في اللحظات األخيرة من حياته، فأتاه كالصقر المنقض، وحينمـا وقف عليـه مقطوع اليمين والشـمال ورأ عينـه وقد حفرت بالنبل، ورأ قطعا من جمجمته متناثرة على األرض، أما جثته فكانت ممتلئـة بالجراحات... فانثنـى عليه، وبكى بكاء عاليا، ثم أخذ يمسـح

٦٥ وختم حياته بالشهادة

عـن وجهه الدم والتراب،وفي تلك اللحظات فاضت روح أبي الفضل العباس C إلى بارئها.. بعد أن حمل األمانة بإخالص، وتحمل من

أجل الحق كل ظلم واضطهاد.شاخصة واألبـــصـــار كــالــطــود ــخــر ف

علم إىل ــقــى ــل م ــم ــل ع إىل تـــرنـــو ــل الــســبــط لــلــعــبــاس مــنــكــرسا ــب وأق

منقصم ــه ــن م بــظــهــر ــه ــي إل يــســعــى ــده ـــل ســاع ــي ف ـــذا حــســام ـــي ه أخ

والعلم؟ للسيف فمن بــنــد ــف ولمعتصمي فيه حصنا كنت قــد ــي أخ

معتصم؟ بعد يل فمن مضيت، ــد وقزحفت قد ــرشك ال جيوش هــذي أخــي

خيمي إىل ــا ــواج أف شخصك بعد مــن ـــوع الــــرشك هــامجــة؟ فــمــن يــصــد مج

ــرم ح عــزمــه يف ـــام ب يــصــون ومــــن ثـم هجـم الحسـين C علـى األعـداء، يضـرب فيهـم يمنيا ون مـن بيـن يديـه كمـا تفر المعـز إذا شـد فيها وشـماال،وكانوا يفـر

األسد،وهو يقول C : «إلى أين تفرون وقد قتلتم أخي».«إلى أين تفرون وقد قتلتم عضدي».

واسـتغل العـدو مقتـل العبـاس C ، فتدافعـوا إلـى مخيـم الحسـين C ،ونظر أبوعبدالله C فلم ير أحدا ينصره، ونظر إلى

.. وجاء العباس ٦٦

أهلـه وصحبه مجزرين كاألضاحي، وهو إذ ذاك يسـمع عويل األيامى وصـراخ األطفال، فنـاد بأعلى صوته: «هل مـن ذاب يذب عن حرم

رسول الله»؟.«هل من موحد يخاف الله فينا»؟

«هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا»؟«هل من معين يرجو ما عندالله في إغاثتنا»؟

ولم يكن الحسين C يطلب عونا من العدو، بل كان يستغيث بمـن يمكن أن يكون له قلـب أو ضمير لعله يرتدع عـن طريق الباطل، ويسـلك صراط الحق ويهتدي بهديه لكنه لم يسـمع إال صوت األسنة

والرماح.لقـد كان العبـاس C قـوة فـي قلـب الحسـين C ،ونورا ه مقتله فقـد رجع إلى المخيم ا قتل هد ـه، ولم في بصره، وسـيفا في كفه،وحينما م ) -كما يقول المؤرخون- يكفكف دموعه بك (منكسرا حزيناتل عمك العباس)!. نية.. لقد ق ها، أجاب: (ب سألته ابنته سكينة عن عم

ولقـد عمـد األعـداء إلى قطع يـدي العباس C غـدرا وغيلة ألنهم عرفوا أن ال أمل ألحد باالقتراب منه ما دامت يداه سالمتين.

وعمـدوا إلـى ضرب عينيه بسـهم ألنهـم كانوا يعرفـون أن عين العباس C الترنو إال لتحقيق هدفه في هذه الحياة.

انتقمـوا من يديـه المدافعتين أبـدا عن الحق، وانتقمـوا من عينه

٦٧ وختم حياته بالشهادة

الشـاخصة دائما إلـى الحقيقـة، وقطعوه قبـل أن يقتلـوه... وتلك هي طريقة الجبناء في قتل العظماء..

لقد قالت أمه D في حقه: كــر ــاس ــب ــع ال رأ مــن ــقــد يــا ــن ــر ال ــي ــاه ــم عــلــى جحــيــدر أبـــنـــاء مـــن ــد ووراه ــب ل ذي لـــيـــث ـــــل كأصــيــب ابــنــي أن ــت ــئ ــب ــد ن ـــوع ي ـــط ـــق بــــرأســــه مــى شــبــلــي أمـــال ــل ــي ع ــل ــعــمــد وي بـــرأســـه ضــــرب اليد ـــي ف ــفــك ســي كــــان ـــو ــدل ــك أح ــن ــا دنـــا م ــم يـــك ل

: وقالت أيضاالبنين أم ــك وي ــي ن ــدعــو العرين الت بليوث ــي ــذكــرون تبهم ـــى أدع ــي ل ــون ــن ب بنينكـــان والمــن أصبحت واليوم ــى ب ــر ــســور ال ــة مــثــل ن ــع الوتين أرب بقطع الحرب واصلو قد أشالءهم الــخــرصــان طعين تــنــازع صريعا أمسى فكلهم أخبرون أكما شعري الوتينياليت قطيع عــبــاســا ــأن ب

ورثـاه حفيده الفضل بـن محمد بن الفضل بن الحسـن بن عبيد : الله بن العباس A قائال

موقفه للعباس ألذكـــر ــي يختطفإن القوم وهــام بكربالء فمختلفيحمي الحسين ويحميه على ظمأ والينثني يولي وال كمشهده ا يوم ا مشهد أر مع الحسين عليه الفضل والشرفوال فصيلته بانت مشهدا به خلفأكــرم أفعاله لــه أضــاع ــا وم

.. وجاء العباس ٦٨

لقد مضى العباس C شـهيدا، وهـل هنالك نهاية أخر كان يفترض أن ينتهي إليها هذا البطل في هذه الحياة؟

لقـد عاش من أجـل الحق، وثار من أجل الحـق، وقتل من أجل الحـق.. فحاز كل الفضيلة من جميع جوانبهـا. ألم يكن من ألقابه (أبو

الفضل)؟

٦٩ العباس C رمزا

العباس C رمزا

ل العباس C باستشـهاده من مؤمن إلـى رمز لإليمان، تحـوومـن بطل إلى رمـز للبطوالت، ومن باسـل إلى رمز للبسـالة، فأصبح المثـال والقـدوة للثائريـن علـى درب الحـق، والرمـز فـي االسـتقامة

والثبات والتضحية، وأصبح الطريق للباحثين عن الفضائل.وتحـول مرقـده المقـدس إلـى محجـة يطلـب فيهـا المؤمنون حاجاتهـم مـن الله، ويتقربـون إليه فيه..ذلـك أن الله عوض الشـهداء فـي كربالء الكثيـر من النعم فـي الدنيا و اآلخرة، فهم يسـرحون -وال شـك- في جنة عرضها كعرض السـماوات واألرض أعدت للمتقين، وقد عوضهم الله في الدنيا بأن قضى على عدوهم الذي تكبر، وتجبر،

.K وقرع طبول الفرح لقتلهم أهل بيت النبيفلم تمر إال سـنوات سـت فقط على حادثـة كربالء،حتى كانت ثـورة المختـار بن أبي عبيـدة الثقفي F في الكوفـة حيث أخذ الذين

اشتركوا في قتل الحسين C وأصحابه، وقتلهم بكل قتلة قتلة.

.. وجاء العباس ٧٠

وإذا بـرأس (عمـر بـن سـعد) قائـد جيش يزيـد بـن معاوية في كربالء،يتالعب به الصبيان في أزقة الكوفة، كما أخبره بذلك الحسـين

C في محاورته الشهيرة معه. C وكذلـك قتـل (حكيم بـن الطفيل) الـذي غـدر بالعباس

وقطع يديه من وراء نخلة.وقتـل (حرملة بـن كاهل) الذي ذبح عبد اللـه الرضيعC في حضـن أبيـه، وثأر من كل الذين اشـتركوا فـي قتال الحسـين والعباس

B وأصحابهما.وباإلضافة إلى ذلك، فإن الله عوض الشـهداء بأن جعلهم موئال للنـاس، ومصدرا للكرامات، فالعبـاس الذي ضحى لله بيديه، وعينيه، ونفسه الزكية، تحول إلى (باب للحوائج) يقصده الناس من كل حدب وصوب يسلمون عليه، ويزورونه، ويطلبون من الله استجابة دعواتهم،

وإنجاز حوائجهم، ويتبركون بقبره ويحصلون به على ما يريدون.وقـد ينكر بعض النـاس كرامات األولياء، ولكـن الذين حصلوا علـى حاجاتهم بعد أن استشـفعوا به-أبو الفضل C -عند الله (من أمثال مؤلف هذا الكتاب) يعرفون حقيقة األمر وهم وليسوا بحاجة إلى

من يثبت لهم ذلك...ومـا قيمة إنـكار مثل تلك الحقائـق؟ إن اإلنكار لـو كان يقضي على الحقيقة،ما كان هنالك مؤمن على وجه األرض، ويقول أحد الشعراء بعد أن استجيبت دعوته وكشف الله ضره بالتجائه إلى قبر أبي الفضل C يقول:

٧١ العباس C رمزا

كرامات األبي الفضل ألبي آيــاتفكم البرية عند تليت لها لها من بنات المجد أومت إشاراتوشاراته كالشمس في األفق شوهدت ومناقب له فضل كم الفضل هاتواأبو برهانه مثل جاحديه فيا عالماتهو الشبل شبل من علي وفي الوغى و بأسه مــن ــر أث لــه

C وقـد ألف البعـض كتبا فـي كرامات أبي الفضـل العباسوموئـل البطـوالت، رمـز إلـى C العبـاس تحـول فقـد وهكـذا

.C للحاجات، وكفى بذلك منقبة من مناقب شبل علي

٧٣ C رجال من ولد العباس

C رجال من ولد العباس

لقد كان من أهداف بني أمية في قتل اإلمام الحسين C وبنيه A وأصحابـه، أن يقضـوا على أهل البيت A وجـودا، ومذهبا، وطريقة حياة،ولذلك فعلوا فيهم ما فعله فرعون في بني إسرائيل، حيث

كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.كانـوا يريـدون أن ال يبقـى لهذا البيـت من باقية، فقتلـوا الرجال جميعـا، وذبحـوا حتى الطفل الرضيع، وسـحقوا تحـت حوافر الخيل خمسين طفال وطفلة بعد استشهاد الحسينC، وأجروا الخيل على

جسمه المقدس حتى ال تبقى له حتى شارة قبر.هكـذا كانت تقضي أوامر يزيد، ولذلك فإنه عندما رأ علي ابن الحسـين زين العابدين C بين األسـر تعجب من وجود رجل من

أهل البيت Aحيا، فقال له: من أنت؟ قال اإلمام C : «أنا علي بن الحسين».

قال يزيد: ألم يكن للحسين ولد يقال له علي وقد قتله الله؟

.. وجاء العباس ٧٤

فقال علي بن الحسـين C : «ذاك أخي علي األكبر، وقد قتله النـاس». فهم يزيـد بأن يذبح علي بن الحسـين C أيضا، ليس فقط ألنه أفحمه بكالمه، وإنما لكي ال يبقى من نسـل آل محمد K أحد مـن الرجال، ولـوال وقفة العقيلة زينـب بنت أميـر المؤمنين B في ذلك المجلس، وتمسـكها بابن أخيها قائلة لـه: «يا يزيد، إن كنت قاتله

فاقتلني معه»..ولوال خشية يزيد من الفتنة على حكمه حيث كان سيقال أنه قتل شـابا مريضا أسـيرا وقتل معه عمته في موقـف جبان...لوال ذلك لقتل . غيـر أن إرادة الله كانت خـالف إرادة علـي بن الحسـين C أيضـاالطغـاة فذريـة النبـي K لم تنقطع، وبـارك الله في عددهـا حتى أن بعـض اإلحصاءات تقـول إن عددهم يربو على ثالثيـن مليون، وذلك ليس ببعيد،فمن الذين بقوا بعد واقعة كربالء أوالد العباس C، فقد كان لـه مـن األوالد أربعة وهم (عبيـد الله) و(الفضل) و (الحسـن) و (القاسـم) وإن كان بعض المؤرخين ير أن القاسـم قد استشـهد يوم عاشـوراء، كمـا بقـي للعباس C ابنتـان كما يذكر صاحـب (مقاتل

الطالبيين) و(حديقة النسب) و (معارف) ابن قتيبة وغير ذلك.وبالرغم من أن أحفاد العباس C انحصروا فيما بعد في أوالد عبيـد الله،إال أنهم تكاثـروا وأصبح عددهم بمرور الزمـن كبيرا،وكان بعضهم من العلماء األجالء. فمثال (الحسـن بن عبيد الله) عاش سبعة وسـتين عاما، وقد أولد خمسـة وهـم (الفضل) و(حمـزة) و(إبراهيم)

و(العباس) و(عبيد الله) وكلهم من أجالء الفضالء في التاريخ.

٧٥ C رجال من ولد العباس

أمـا الفضل فـكان خطيبا متكلمـا فصيحا، شـديد التدين، عظيم الشـجاعة، محتشـما عنـد الجميـع وكان يقال لـه ابن الهاشـمية، وقد أعقـب ثالثة من األوالد هـم: (جعفر) و(العبـاس) األكبر و(محمد)،

م منهم أوالد فيهم العلماء واألدباء(١). وكان لكفمنهـم أبـو العباس (الفضل) بـن محمد بن الفضل بن الحسـن ابـن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين C وكان خطيبا شـاعرا، ه العباس وقع عقبه إلى قم وطبرستان، وله أبيات يصف فيها موقف جد

C يوم عاشوراء.وأمـا حمـزة فكان يشـبه جـده أميـر المؤمنين C إلـى درجة كبيـرة، حتى أنه خرج من الخليفة المأمون العباسـي توقيع بخطه، وفيه يعطـي لحمزة بن الحسـن ابن عبيد اللـه بن العباس بن أميـر المؤمنين

.(٢) C ألف درهم لشبهه بجده علي بن أبي طالب Cوقـد تـزوج زينـب بنت الحسـين بن علي بـن عبد اللـه بن جعفر الطيار C المعروف بالزينبي -نسبة إلى أمه زينب بنت أمير المؤمنين D-، وكان حفيـده محمـد بـن علي بـن حمزة شـاعرا نـزل البصرة ورو الحديث عن اإلمام الرضا C وغيره، ومات سنة ٣٨٦هـ(٣).

وأمـا ابـن أخيه (حمـزة) صاحب المشـهد المعروف فـي مدينة الحلـة فـي العـراق، فكان أيضـا مـن األجالء وقـد التجـأت أم اإلمام

(١) عمدة الطالب، ص٣٥٧.(٢) العباس، للمرحوم المقرم، ص٣٥٥.

(٣) عمدة الطالب، ص٣٥٨.

.. وجاء العباس ٧٦

المهدي C إلى بيته، وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد في المجلد : «كان راوية لألخبار وهو صـدوق وله الراوية عن جماعة الثانـي قائالكثيـرة»(١)، وفي تهذيب التهذيب وصفـه بـ«العالمة البغدادي»(٢) ونقل

عن ابن أبي حاتم أنه صدوق ثقة.وأما ابراهيم وهو الذي كان يعرف بجردقة، فقد كان من الفقهاء واألدبـاء، الزهـاد، وابنه علي أحد األجواد، كان له جاه وشـرف ومات سنة ٢٦٤هـ. وقد أولد تسعة عشر من الذكور، ومن أحفاده أبوالحسن علـي بـن يحيى بن علـي بن إبراهيم الـذي كان خليفة أبـي عبد الله بن

الداعي على النقابة ببغداد(٣).وعبـد اللـه بن علي بن إبراهيـم جردقة جاء إلى بغداد ثم سـكن مصر، وعنده كتب تسمى(الجعفرية) فيها فقه على مذهب اإلمام جعفر

الصادق C، توفي في مصر في رجب سنة ٣١٢هـ(٤).ـل الجعافرة الذيـن يربوا عددهـم على المليونيـن في مصر ولعاليوم ينتمون إليه.قال أبو نصر البخاري في سـر السلسـلة: «العباس بن الحسن ابن عبيد الله بن العباس السقاء، ما شوهد هاشمي أعظم لسانا منـه، وال أجرأ جنانا، قدم بغداد في أيام الرشـيد، وأقام هناك،وكان من أفضل رجال بني هاشـم فصاحة وشـعرا، ولجاللتـه وفضله، وبالغته،

(١) تاريخ بغداد، ج٢، ص٦٣.(٢) تهذيب التهذيب، ج٩، ص٣٥٢.

(٣) عمدة الطالب، ص٣٥٨.(٤) تاريخ بغداد، ج١٠، ص٣٤٦.

٧٧ C رجال من ولد العباس

وفصاحته، كان يكنى عند الخلفاء وال يذكر اسمه». وهكـذا فقد تكاثر أحفاد العبـاسC، وانتقلوا من مكان إلى مـكان، ونثروا الحق بيـن الناس، ولهم المراقد المقدسـة التي تزار في

العراق ومصر وغيرها.لقـد أراد األعـداء أن ينتهـي اسـم (العباس)C بعـد أن قتلوا شخصه، كما أرادوا أن يسحقوا منهجه بعد أن سحقوا جثته،ولكن الله شـاء غيـر ذلك، وكان مـا أراد الله تعالى، فسـالم عليه يـوم ولد، ويوم

. بعث حيا استشهد،ويوم ي

٧٩ املحتويات

المحتويات

مقدمة الناشر........................................................... ٣مقدمة المؤلف......................................................... ٧البدايات............................................................. ١١١٧ ............................................. C هكذا كان العباس٢٣ ............................................... C شمائل العباس٢٣ ................................................. أوال: البصيرة النافذة٢٥ ..................................... K الطاعة للـه و رسوله : ثانيا٢٩ ....................................................... : التضحية ثالثا٣٣ ...................................................... : الشجاعة رابعا: اإليثار ....................................................... ٣٧ خامسا: المواساة..................................................... ٣٩ سادسا٤١ ............................... : البحث عن ثواب اللـه عز وجل سابعا: الوفاء.......................................................... ٤٤ ثامنا٤٩ ............................................ وتميز بمنظومة البطوالت

.. وجاء العباس ٨٠

وختم حياته بالشهادة................................................. ٥٩٦٩ ................................................... العباس C رمزا٧٣ ......................................... C رجال من ولد العباسالمحتويات.......................................................... ٧٩