-١-

السرية احللبية

-٢-

تصميم الغالف فراس نعوف

-٣-

وليد إخالصي

منشورات اهليئة العامة السورية للكتاب ٢٠١٠ دمشق -ة ـوزارة الثقاف

-٤-

-٥-

عن كاتب السرية

)١(

ت، وكانت امتد بساط الحزن يسابق خطوات أيامه التي تعثرها هو خريف الوحدة . تطوي لفافات مهترئة في كهف الوحشة

قدم كسلحفاة تورمت أقدامها من الزحف لسنوات، وها هي دفقات الشتاء تنذر بالمخاوف التي يأتي بها الربيع عادة ليحمل اختناقات

).سالم المحارب(هدية موسمية يقدمها إلى ) الربو( للعالقة بين اسمه ولقب لم يعثر الرجل يوما على تفسير

لم يسجل واقعة أو حدثا أشار إلى العائلة فبقيت مبهمة، فتاريخهاحرب أو دل على محارب باستثناء ما قيل عن جده العجوز من

.أخبار بلغت سالم في طفولتهقضى الجد عبد السالم نحبه في حفرة، فبينما كان عائدا من

وفي تلك . لم يدركه أحدمقهى الحارة وقع في كهريز مفتوح فالليلة فوجئ رفاق المقهى بحكايات جديدة انطلق أحدهم في قصها

-٦-

. عليهم لتدور حول مغامراته يوم كان جنديا في الجيش العثمانيوإذا ما غادرهم ). البلقان(أو في ديار ) جنق قلعة(بطوالت في

ث ويبدو أن حاد. انطلق كل منهم في التعليق على أكاذيبه المسليةجده دفع بسالم المحارب، الذي بات كاتبا معروفا، إلى التساؤل

.إن كانت األعمال التي كتبها امتدادا لمخيلة الجد الناشطةكان بخاخ الربو بذراته يحصي األيام المقتربة من الصيف ليتوقف الخناق الربيعي الذي يشله في لحظات لوال الدواء الذي

ولكن . فيضع حدا لضيق أنفاسهيالزمه على مدار الساعات لم يكن لها عالج بالرغم ) سعاد(الفصول األخيرة من فقده لزوجه

.من ذكريات الحب التي حافظ عليهاأربعة عقود من الحب والتعاطف والشوق الذي جمع بين جسدين وروحين ما لبث أن انتقل وصالهما إلى المشاركة بين ما

أول قارئة لمخطوطات كانت. يكتبه الزوج وما تقرؤه سعادالكاتب الذي أعلنته المفضل لديها، وكثيرا ما كانت تطلب منه تعديال أو تغييرا فيستجيب لها إليمانه بقدرتها على إبداء

وهو في قبوله لتلك اآلراء ظل يخفي تساؤال . المالحظات الذكيةعن تلك المرأة التي ترعرعت في بيت ريفي على سفح جبل ولم

ليمها الجامعي، فهل كانت الصخور التي ينمو بينها تكمل تعالزعتر البري لتحط على أزهاره أسراب النحل هي التي منحتها وعيا بروح الكتابة الفنية وأهلتها إلطالق األحكام على أحداث

-٧-

وعن الوجه اآلخر . رواية أو تمثيليه للتلفزيون أو المسرحي الفراش بينما للتساؤل عن سر سعاد التي يتأفعى جسدها ف

يتحول في الحياة اليومية إلى ما يشبه تمثاال من رخام ينطق بحكمة االتقان والوقار ويفرض على اآلخرين جماله فتتعلق به

وخيل لسالم أن امرأته أخذت من شجيرات الورود . األرواحخصال االستجابة للرياح لتعود في فترات هدوء الطبيعة إلى

عاد تملك حدة أشواك الورد دون أن شموخ أغصانها، وكانت س .تتسبب في جرح أحد

وحيدا يدور في أرجاء بيته، يمسح بعينيه الجدران والزوايا هو يدور فتخرج . والمقاعد، األسرة والخزائن، النوافذ واألبواب

له من الفراغ حياة تطل بألوانها وروائحها تتمثل وهما ما إن ومن جديد تتكرر الحيلة . ضياعيراها ويتنشقها حتى تدق لحظة ال

التي خدعته، حياة تأتي من الماضي ليشهد معظم أنحاء المنزل سالم يخطف قبلة من خد سعاد زوجته في حملها األول و األوالد

زهار يتفتح الواحد بعد يتعاقبون على بيت الحب كأكمام األزالت تمأل فضاءات المكان الذي وقع في سرة مااأل. اآلخر

ديقة ظلت سعاد تضخ فيها الحيوية إلى أن اختارها أحضان حمالك الموت ليختطفها تاركا وراءه آثارها الباقية عاجزا عن

كثيرة تلك السنين كأحجار صقلها الحب . حمل الذكريات معه .فانتشرت في أرض العمر الجميل كتماثيل تهزأ بالزمن

-٨-

وفي أيام الوحشة احتلت شباك عنكبوت ما تخيله الرجل لوحيد في الزوايا والممرات، لكنها لم تعق حركة سالم في ا

ظلت قدماه تزحف في مسار دوائر ال بداية لها وال . تجواله التائههي بطيئة كشفت عن تخاذل عجوز كان من قبل حيويا . هدف

وها . بالرغم من السبعين عاما التي منحتها القوة كتابته وزوجهراد الوحدة قد أتى على كل هو في الفترة القاحلة يحس بأن ج

أعشاب أرضه وأشجارها فلم يبق من حياته سوى تراب يابس ال .تنمو فيه فكرة أو لغة

وقف أمام صورة سعاد التي طغى على إطارها لون الجدار الذي كان سماويا فتحول إلى أزرق ليلي، وكان من قبل يتأملها

:لم الوحدةبصمت إال أنه أخيرا خاطبها بعتاب اخترق نسيجه أ ."أعترف بان قلمي قد جف يا حبيبه، وتيتم بياض الورق"

:وصرخ في العتمة التي لم تنجح شمس النهار في تبديدها ."أخطأ مالك الموت في االختيار"

وبالرغم من مرور فصول على رحيلها فقد عاود صراخ :الغضب

.!"ألم يبلغه نبأ الحب الذي جمع جسدينا في روح واحدة". يتحسس بكفه زجاج الصورة ليدور على وجه سعادوجعل

الخدان يشعان بحرارة سرت في أوصاله، والشعر الناعم األسود

-٩-

وكأن إغماضة عيون الزوجين . يتخلل أصابعه فيوقظ حنينهسعاد تنضح برذاذ الشوق . ترافق وصول النشوة إلى ذروتها

، فيمتلئ جسد سالم بماضي العمر الذي ما عاد مؤهال للنسيانوهتف الزوج إن كانت الحبيبة ستبقى على العهد، آنذاك تجلت له

.ن كنت تشك في ذلكإل قونظراتها في الصورة لتشجرة الحب . وتكرر وقوفه أمام الجدار اآلخر يتأمل أوالده

. التي حملت أغصانها الثمار، كانت في صور األبناء الثالثةف أنهم ينظرون تأملها فكأنهم يتطلعون إلى أمهم، وما إن يكتش

. إليه حتى يدرك أن العائلة قد اجتمعت في دائرة لتبادل المحبةصفية، بالل، حمزة، كان سالم يسمعهم يهتفون من أعماق غربتهم باسم أمهم الذي ظل من أيام الطفولة إلى الشباب ينطق

.ماما سعاد: بماما ثم سعاد، وإذا بلغوا سن الفتوة بات اسمهاترعى أسرتها في الدار البيضاء المغربية ، صفية باتت أما

وأصبح بالل مهندسا استقر في كندا، وتحول حمزة إلى بحار على سفينة تجارية فال يسمع صوته إال من الموانئ التي يقف فيها، وكانت رحلته امتدت إلى سنوات دون أن يحط رحاله في

اري بناء في أرجاء العالم، وبقي األب عتوزع األ. بيت أهله . األغصان كشجرة تذهب في أرضها إلى يباس ال مفر منه

كان العزاء في يومه الثاني حين حضرت صفية وبالل من البكاء على األم دام أياما قليلة من بعدها عاد كل منهما . بلديهما

-١٠-

إلى بلده، فتأكد لسالم أن أبناءه ما عادت لهم صلة بمنزل لهاتفي بعد أسبوع من الطفولة، وبخاصة أن حمزة في اتصاله ا . علمه بوفاة أمه انفجر باكيا إال أنه لم يحضر

جلس في مدخل البيت مطال على الحديقة، وكان ليل صيف حلبي تهب عليه نسائم رقيقة أشفق بها الفضاء الممتد أمامه على

هادئا كان يقرأ في الظالم في صفحات الماضي . الرجل الوحيد :لقلب فنادى بصوت جريحفلم يستطع أن يكتم حرقة ا

."رحيل األحبة جرح ال ينفع له دواء"وتخيل نفسه واقفا على مرفأ يخصه، نسائم البحر ال تحمل

ما من شراع واحد يطل من األفق، . إليه عالئم سفنه العائدةهي اللعبة التي لم . فكانت لعبة الغياب بين استسالم وبين ما يأمل

م فلم يخرج من داخله صاح سال. يحسب الحب لها حسابه :صوت

." ؟لم قسوة الغياب تالحقني"وتقدم دون تفكير متجها إلى غرفة المكتب التي ظنها تنسى

.وجودهدخل المحراب الذي كاد أن يقفل على نفسه وقد حافظ على

تأمل الرفوف التي وقفت فيها . رائحة الكتب والهجر الطويل. هتفت بالتحية للعائد. االكتب على استعداد للهتاف بعودة صاحبه

-١١-

وعلى سطح مكتبه الخشبي ارتعشت أوراق تدعوه إلى تزيينها ركز دائرة محرابه الذي تعبد فيه وقف سالم في م. بالكلمات

سنوات طويلة، وما لبث الحنين أن سحبه إلى الجلوس على .المقعد الجلدي ليواجه األوراق البيض يدفعها االشتياق

ة على شاشة رؤيته، بينما عيناه الذكريات تتعاقب متواليتتفحصان الزوايا والمساحات التي تحيط بها في الغرفة، فيظن أن الذكريات ما هي إال عناكب بنت شباكها في الزوايا، إال أن الحقيقة كانت في محاولته للهرب من مواجهة المساحات المفتوحة

ا بات سالم مركز. التي تسمح بإسقاط الذكريات عليها بوضوحعلى سطح مكتبه يقلب األوراق البيض التي تركها منذ شهور

تذكر معاشرته لكل هذه األوراق . وهي مازالت تحتفظ بعذريتهالينجب منها الكتب التي أخذت اسم رواية أو حكاية أو تمثيلية

هل بات العجز بديال من . عرضها المسرح أو شاشة التلفزيون .الحيوية؟

. خلف محدقا في السقف فكان سداومال ظهر المقعد إلى العاد من جديد معتدال في جلسته متحسسا ذراع المقعد الذي لم يفارقه منذ أيام الكتابة األولى فهو الحضن الذي ضمه بحنان كما

.فعلت سعاداستعرض رف الكتب في المكتبة قربه، واتجه إليه يقلب

وابتدأت مفاتيح .النظر في عناوين مؤلفاته فكأنه يراها ألول مرة

-١٢-

كتابه األول . العناوين تنفرج تدريجيا عن أبواب الكتب المغلقة كان أول عمل عرف به فاجتذب اهتمام القراء ) ألف ليلة وليلة(

والنقاد إلى حداثة وقائعها، فقد صور شهرزاد معاصرة وهي تضع حدا لشطط شهريار وطغيانه السياسي والجنسي، وأطلق

لم بحرا وبرا وجوا باحثا عن المعرفة في كل سندباد ليجوب العااألمكنة التي تنتشر فيه شعوب تحتفظ بثقافتها، وإذا عاد من

وشجعه نجاح . رحالته اكتشف جوعه فيعود مسافرا من جديدالذي استند فيه ) حي بن يقظان(كتابه األول على اصدار رواية

بروح العصر ، فكانت)ابن طفيل األندلسي(إلى العمل الذي كتبه وإن حافظت على نهج ابن طفيل في مسألة الخلق والخالق، فصورها سالم المحارب متمثال الزمن الحاضر بأحداثها المشوقة ولغتها األخاذة، فكان أن حقق انتصارا في عالم األدب وضعه

. مبكرا في صفوف أهم الكتابأدب تابع الكتابة بهمة أكبر، ولكن االهتمام بنموذجين من

التراث تحول إلى مرحلة معاصرة من التاريخ الحديث لسورية تحولت سيرة . الذي أمضى فترة من حياته يوليها اهتمامه

ونضاله ضد المحتل الفرنسي إلى سجل من ) إبراهيم هنانو(الفانتازيا الوطنية، وجعلت من رجال الثورة نماذج بطولة تغنى

ممن عاصروا كفاح دهش شيوخاأبها جيل من القراء الشباب وهنانو إليغالها في المبالغة إال أنهم لم يستبعدوا حصولها مشاركين

-١٣-

وبمثل تلك السيرة كتب روايته عن . أبطالها شرف األحداث ).سلطان باشا األطرش(ليتبعها بعمل آخر عن ) صالح العلي(

وانتقل المحارب إلى المرحلة من التاريخ األقدم، فكانت مدينة حلب وأخريات عن المدن التي سقطت روايات كتبها عن

أمام زحف المغول، وما لبثت بعد قرون أن شربت ماء مالحا من وشهدت صفحات . حروب الصليبيين فالقت الويل في بالد الشام

عمله وقوع المدينة مع غيرها في قبضة العثمانيين لتجمد حركة ا يستيقظ التاريخ عند أهل حلب ويخيم عليهم التواكل الكسول بينم

وفي عمل . قلة من رجال يحاولون نفح الجمر في نفوس الناسآخر صور تسلل الجيش الفرنسي الذي وقف قائده على قبر صالح الدين ليهتف شامتا بأنا قد عدنا، وقد حملت روايته

التي لم ) خروج الفرنسيس من أرض التأسيس(الوثائقية عنوان ضارها لشهور عديدة، تنته فصولها منذ أيام مرض زوجته واحت

.وهكذا توقف سالم المحارب عن الكتابة وما عاد يمسك بالقلمومنذ انتهاء أيام العزاء تمكنت الوحشة من احتالل فضاء البيت بالرغم من تردد رفاق قدامى ورجال إعالم وأدباء للتخفيف عن حزن سالم المحارب، فما كان المحزون ليسمح لهم بإقامة

ينفض من بعدها المعزون الذين وجدوا عزوفا ألكثر من دقائق، سجن المحارب نفسه فال يغادر . عن الخوض في أي حديث

البيت إال لطعام يحضره أو دواء يشتريه، أو لزيارة قبر الراحلة،

-١٤-

فلم يعد يتوقف عند مكتبه لشراء صحيفة أو كتاب كعادته السابقة، . صدقاء أسبوعياوما عاد يرتاد المقهى الذي تعود فيه لقاء األ

ومنذ ذلك اليوم بات أشبه بالدرويش يطوف في الدهاليز الكئيبة ينشد في مواقع التذكر ومواقفها ما يشبه أشعار الحنين إلى حبيب

.طواه التراب، أو إلى أبناء أسدلت عليهم ستائر الغربةكان قد قضى شهورا يتخذ كنبة في الصالة فراشا، وليلة دخل

تي شاركته فيها سعاد، هجمت حرارة الصيف من غرفة النوم اليتقلب في نومه فال يعرف . النافذة لترش جسد سالم بالعرق

جسده استقرارا على حال، إال أنه انتفض في فراشه محدقا في الظالم، كان يخاف االنزالق في هوة سحيقة انفتحت تحت قدميه

ن صحا بشكل فتماسك وهو يتعلق بحبال الظلمة، إال أنه ما لبث أطرق سمعه صوت سعاد ليكون . كامل، وكان الفجر لم يأت بعد

: كانت تهتف. أقرب إليه من دقات قلبه ."ماذا يحدث لك أيها الحبيب؟"

:ويخترق عتابها جلده ليعتصر داخلهتوقف قلمك عن الكتابة التي أحببتها، فهل ننال عقوبة "

."الفراق؟حنجرة بينما جسده مازال لبث سالم جامدا في فراشه متيبس ال

. ينضح بالعرق، وكان سمعه مازال بانتظار سعاد تتابع تساؤالتها

-١٥-

إال أن خيوط الفجر المتشربة لظالل ظل يتوقع أن تفعل وتناديه،الضوء غزلت العتمة بالنور أسدلت الحجاب على عتاب سعاد

وبينما يستوي جالسا في السرير كان يستعيد ما سمعه . الرقيق. ليل، وإذا به يتحلل في فضاء الغرفة فلم يستطع لملمتهمنذ ق

.صباح باكر يبدو وكأنه ينذر بما يستجد من احتماالت قادمة

)٢(

بدا الحارس المقيم في المقبرة كوسيط معتمد بين زمنين سنوات ال تعرف لها . محيرين، أحدهما فوق التراب واآلخر تحته

الرجل العجوز بينما بداية هي التي رسمت خطوطها على وجه احتفظ بشباب اطمأن لمهنته، بعكس ما آلت إليه القبور المتناثرة على وجه التالل وقد حولتها التضاريس المتباينة في ارتفاعاتها

.إلى ما يمكن تسميته بتجاعيد الزمنفي ذلك الصباح المبكر لم يشأ الحارس أن يسأل القادم عن

سبوعي، وكان قد درج عليه حضوره المخالف لنظام الزيارة األلم يعلق سالم المحارب على دهشة الحارس . في األشهر السابقة

حمل غصن زيتون . الظاهرة على وجهه، واكتفى بإلقاء التحية .متقدما من قبر سعاد

-١٦-

كان ما يليق القبر به هو ما سماه الحارس وكثير من الزوار ما أربع دروب من الحصى الملون طوقت القبر، بين. بالضريح

أشجار من السرو غرست على األطراف كحراس مستنفرين وكالعادة هرول الحارس بإبريق . دوما لتقديم االحترام للراحلة

الماء ليرش به حجارة القبر المرمرية فيشرق لمعانها مضيئا .كالوهج بين حجارة القبور الكلسية وقد لبست الكآبة

بعيدة، وقد زحفت مدفن قديم امتد إلى قرون ) جبل العظام(ومنذ سنوات عديدة كان المشيعون . قبوره على تالل وسفوح

يظنون أن جبل العظام ما عاد بقادر على استقبال وافد جديد، إال أن الممرات نفسها تحولت إلى أماكن للدفن، مما دفع الناس إلى . تخطي القبور فاستنكر مشايخ ومتدينون أمرا كهذا فحرموه

وكانت . ديمة عائلية الستقبال أفراد من األهلواستخدمت قبور قالمقبرة كما يحلو للناس تسميتها بجبل العظام الذي وقر في أذهانهم أن التالل المتجاورة قد نشأت من تراكم عظام أهل حلب

.المقاومين لعدوان الغزاة الذي تكرر على مر التاريخ وقوفه مسح سالم المقبرة المتناثرة بعينيه، وكان قد فرغ من

على الضريح باحترام الجندي المنضبط، اال انه تساءل بضيق :عبرت عنه عيناه

"سدت علي المنافذ ألدفن ذات يوم بالقرب منك"

-١٧-

وفيما يجلس على قاعدة قبر مجاور، جعل يحاسب نفسه على هو لم يحسب للزحام وضعه . خطأ اختيار المثوى األخير لسعادوفجأة انفرجت أسارير وجهه . ةالذي حرمه من مجاورة الحبيب

للمرة األولى منذ شهور، هو يسائل نفسه إن كانت الجيرة بالعظام ما يفكر به، أم أن التصاق روحيهما هو الذي سيستمر باقيا على

وكانت دماء قد تسربت في أوصاله . حب لم يؤثر فيه شيءتنعشها، فأقبل على الضريح من جديد ينظر إليه وكأنه حديقة أو

احة وسط جبل العظام ترعاها سعاد كما فعلت في حديقة بيت وجعل يتمتم بالدعاء للحبيبة التي ظلت تحيا بداخله، وأن . الزوجية

هتف سالم فاستجابت . الراقدة تحت التراب هي ظله المرافق له :على إيقاع صوته أشجار السرو بالتمايل

."لن يبعدك الرحيل عني"بعيدة يراقب تصرفات الزائر كان الحارس يقف على مسافة

الذي تعود سلوكه من تصرفات توحي بأنه استثنائي، إال أن هتافه، بالرغم من جهله بالكلمات، دفعه إلى التساؤل عن الوقار الذي كان في زياراته معروفا به، فلم يجد له سببا في الخروج عنه، إال أنه لم يشأ أن يبدي شكا في عقل من أودع زوجته

اب، ظل يردد لنفسه كلمات األسف على تصرف الرجل الذي التريكرمه بالمال في كل زيارة له ما لم يشهد كرما مثله من زوار

وكان يقول له آمرا بسقاية أشجار السرو ألنها تؤنس . القبور٢ م –السيرة احللبية

-١٨-

ال حول وال قوة : وحدة المرحومة، بينما الحارس يردد في سره .ن يغادر دون أي طلب بالسقايةال باهللا، بينما في ذلك الصباح كاإ

خرج سالم من بوابة جبل العظام ليواجه الشارع المزدحم كان مرفوع الرأس مستقيم القامة وقد . بالسيارات المتالحقة

تجاوز للمرة األولى موقف االستسالم لضعف الحزن، ومستعيدا وقف على الرصيف ينتظر فرصة السماح له باالنتقال . تماسكه

آلخر، إال أن سيل السيارات لم ينقطع لفترة مشكال إلى الطرف اوهكذا أحس . جدارا آخر كما يفعل سور المقبرة من خلفه

بالحصار الذي يطوقه دون أن يخرجه من حالة االرتياح التي ظل على انتظاره لفرصة ينسل فيها عبر . ظهرت فجأة في حياته

ارع إلى سيل السيارات، وقد نجح في آخر المطاف ليعبر الش :الرصيف اآلخر وهو يردد لنفسه

زالت عزلتي هي أفضل ما يحدث لي في هذه المدينة ما" "المجنونة

من جديد يعود إلى بيته فال تعيق حركة الشوارع هياج دخل . الصور التي تعاقبت على مخيلته، كأنه استعاد أيام الكتابة

د غرفة المكتب في الدار فاستقبلته الكتب كفريق من الجنوالمنتظمين في الرفوف، ودعته األوراق البيض لتسويدها

كان سالم المحارب قد أصبح جاهزا الستعادة أيامه . بالكلمات . السابقة

-١٩-

وكان سالم في عودته صباح ذلك اليوم قد فتح باب منزله فإذا بكهف البيت المعتم قد تحول كالسحر إلى فضاء من ضياء، وكأن

انفتحت روح سالم . م في المكانجيشا من فراشات مضيئة يحووكانت أولى . على عالم آخر اختفت منه وحشة األشهر السابقة

خطوات سالم في البيت تمشي على ما يشبه المرج الذي تجاوبت انقالب في المكان تغير فيه من . أعشابه لوطء األقدام اللين

. سرويغروب إلى إشراق كما كان حاله أيام الحب والتجمع األ جعل الطريق إلى غرفة المكتب معبرا سيؤدي إلى ما هو يوم

.ه حديقة المعرفة الممتعةيمكن االعتقاد أنمرت على سالم المحارب فترة من احتضان الكرسي الدوار

هو يدور حول نفسه في مروره بلحظات اختمار ألفكار . لهمتفرقة لم تتوصل إلى تجمعها لتكون بداية لعمل جديد يبدأ به

فجأة تكلم الهاتف يوحي . ه لألوراق التي ملت االنتظارنصا يهبرنينه بصوت قادم من واحد من األبناء، رفع السماعة بفرح

كان الصوت غريبا قدم . ينتظر سماع أحدهم، لكن األمل خابنفسه بتعريف يقول إنه مدير مكتب لصاحب محطة تلفزيونية،

حيب كان التر. لينتقل إلى صوت آخر هو صاحب المحطةبالكاتب سالم المحارب الذي أعلن عن إعجابه بأعماله، وداعيا

بأسرع وقت ممكن ) دبي(لزيارة المحطة الفضائية التلفزيونية في .من أجل التشاور حول مسلسل يكتبه المحارب

-٢٠-

نافذة كانت قد أقفلت لتدخل النسائم . نافذة فتحت في هذا اليومأحس الرجل . رىعلى روحه ولتطل من رمادها على حياة أخ

بأنه مقبل حقا على مرحلة جديدة من شيخوخته التي بكرت بفقد لم يتحرك من كرسيه ومصغيا . من يحب، موتا أو غيابا

:ألصوات تتضارب في أعماقه "لم أنت من دون عشرات الكتاب في أرجاء الوطن العربي؟"

:وتسرب صوت الحبيبة إلى داخله يطغى على ما حوله "األفضل يا زوجي الحبيبتعلم أنك "

:وظلت تهمس ألكثر من مرة "اختيارك من المحطة سيعيدك إلى سيرتك السابقة"

:وسمع صوته تردده الجدران ."هل يمكن لي أن أعود من غيرك؟" ."أعلم أنك عائد. ستعود.. ستعود"

:ومألت كلماتها روحه تصرخ في األرجاء الواسعة ي من أجل حبنا الذي مااكتب يا حبيب. الكتابة تلغي يأسك"

."زال باقياتحرر سالم من األصوات بوقوفه على قدميه، وإذا ما مشى

وإذا ما قادته . في الغرفة تأكد له صمت الفراغ من حوله

-٢١-

طويال . الخطوات إلى صالة المعيشة وقف أمام صورة سعادتأمل الحبيبه وبلهفة المشتاق جعلت عيناه تجوالن في مساحة

فرشت عليه البشاشة، وفي خصل الشعر الذي كان الوجه الذي :هتف بفرح صامت. تاجا يليق بأميرة

."أظنني قد عدت"وجعل يقيس . وباندفاع الشباب الذي استعاده هتف بأنه عاد

الصالة بخطوات واثقة، فإذا ما ألقى أنظاره على صور األبناء تلك اللحظات من الحيوية طوت أيام . الحقته عيونهم بإعجاب

الفارس الذي ترجل منذ شهور عاد من جديد إلى . الوحشة .امتطاء جواد يتوجه به نحو المستقبل

)٣(

قفز الزمن كبهلوان يتخطى حواجز األيام المقيدة بنظام، وحمل سالم المحارب إلى شركة الطيران ليتسلم بطاقة السفر إلى

الذي قلب النظر في هذه الوثيقة التي أكدت جدية الموقف . دبيولم يكن سالم قد ألف السفر خارج حدود المدينة إال . سيواجهه

وستكون رحلته . لعدد من المرات كانت ثقافية في مدن سوريةإلى دبي األولى خارج الوطن فيستعيد حياته المنتجة التي لم يبق

.لها من عنوان سوى الكتابة

-٢٢-

وإذا . الطائرة تنهض به من مرقدها على أرض مطار دمشقالتحمت بالفضاء أحس سالم بمعنى القيامة من كهف الحزن ما

المظلم والدخول في عالم الضياء، ولتصبح هذه اللحظات مدخال إلى واقعية الوالدة الجديدة للكاتب الذي أسقط قلمه من يده وها

.هو يستعيدهكان ليل دبي، الذي حومت الطائرة في سمائه، يشع بجواهر

أنه مقدم حقا على حديقة النور التي األضواء، ويعلم المسافر سيقطف منها ثمار التغيير الموعودة، وسيستعيد حياته التي خلق

فكان سالم يستعيد . على أرض المطار حطت الطائرة لتسير. لهافي . المحطة السابقة في المدرسة الثانوية وكأنها صور متناثرة

آخرون البداية كان من رفاق المدرسة من لقبه بالخجول، عادكان . وكان رفاق يصفونه أحيانا بالخيالي. إلى تسميته بالحكواتي

سالم المحارب إذا اجتمع بشلة من الطالب يبدأ برواية حادثة تبدأ . بواقعية لتنقلب في تسلسلها إلى ما يشبه الخيال أو الوهم المقنع

وفي استعراض واقعة ما يشد مستمعيه إليه فإذا ما قارب نهايتها إلصغاء إلى دهشة تحمل اإلعجاب بها أو اإلنكار تحول ا

وباتت له جاذبية في القص وهو يتالعب بحكاية . لمصداقيتهااألصلية ليعجنها ويخبزها على ) ألف ليلة وليلة(يأخذها من

طريقته، مستفيدا من جهل معظم المستمعين حكايات ألف ليلة ص الكاتب وليلة، وإذا ما فوجئ بأحدهم يقول له لنرجع إلى نصو

-٢٣-

وإذا ما أورد خبرا من إذاعة لندن أو . األصلي أحس باالهانةصوت العرب فإنه يأتي على ذكره وكأنه حكاية مشوقة، وهكذا بات رجال سياسة عرب أو أجانب أبطاال في حكاياته ، عاتبه

واقتنع كثير من الرفاق بوجود . عليها البعض وأيده اآلخروهو يستعرضها، فالواحد منهم شخصيات من أحياء حلب القديمة

شكل حكاية مضحكة أو غرائبية يمكن تصديقها بقدر ما كان .تكذيبا لها

وفي مسيرة الطائرة كانت بقع النور المتناثرة على األرض . وقد توالى بريقها، استيقظت مرحلة من شبابه، عادت مؤلمة

حريق شب في مستودع لألغذية الذي امتلكه الوالد دفع بالفقر لدخول حياة األسرة، مما اضطر سالم إلى االنتساب إلى كلية الحقوق بدمشق التي ال تفرض عليه انتظام الحضور، فعمل كمعلم في الريف لمساعدة أهله، فكانت حياته في القرية فرصة لالستزادة من القراءة في الليالي التي ال يسمع فيها سوى نباح

ن يكون طالبا في كلية وبالرغم من أن قدر المحارب أ. الكالبالحقوق، إال أنه مع االنتقال من علم إلى آخر ازداد تعلقا بتلك

تاريخ القوانين والتشريع دفعه إلى قراءة . المعارف الجديدةأوضاع الناس من حوله على ضوء ما قدمته األنظمة من عهد

مرورا بالشرائع السماوية ومن بعدها القانون ) حمورابي( تبعه من إجراءات قانونية تمثل دوال وقوميات الفرنسي وما

-٢٤-

ومناهج دينية وسياسية سمحت لخزانة سالم المحارب أن تمتلئ بالقوانين المختلفة، إال أنها لم تدفعه إلى ممارسة المهنة، وإن كانت قد فرشت الطريق أمامه لالهتمام بالمجتمع الذي يعيش فيه،

يشد من عزيمته وكان واقعه وتاريخه قد شكل عصبا هاما .األدبية

وما تزال الصور تركض في . الطائرة تزحف، وأخيرا توقفتتطل بدايات . رأسه، محطات الماضي تتزاحم في تلك الصور

الكتابة التي حققت له نجاحا، وها هو يفرض اسمه منذ صدور لم يتوقف . أول بحث له عن الموروث الحكائي في مجلة معروفة

ه أعاد فيها كتابة ألف ليلة وليلة بأسلوب لتكون أول رواية لمعاصر دفع النقاد إلى مديحه، وحقق انتشارا في أرجاء متعددة

وكانت صحيفة يومية قد ظهرت فيها تلك . من الوطن العربي .الرواية مسلسلة تابعها القراء بمتعة

. وهكذا قرر احتراف الكتابة لتكون مهنته التي بات يعرف بهاة في الصحافة واإلذاعة والتلفزيون، ودعوات إلى مقابالت إعالمي

تحولت لياليه المعاصرة . لقاء في المدارس وقاعات للمحاضراتوجد سالم المحارب . إلى مسلسل في اإلذاعة لحق بها التلفزيون

نفسه كاتبا يشاد به بعد أن كان مركزا لتوليد الحكايات في دائرة .رفاق المدرسة الضيقة

-٢٥-

في الطائرة بانتظار آخر راكب ليكون بعده، زال جالسا ماالصبية سعاد تشير إليه بحيوية . ولم يتوقف شريط الذكريات

. األنوثة أن قف عندك، فأنا من تبحث عنها من دون نساء الدنياحول الحب الصاعق تلك الصبية إلى زوجة، وأصبحت سعاد

امها عامال في دفع الكاتب إلى االستمرار في العطاء، وكان اهتم. بإنتاجه يماشي تفجر ينابيع أنوثتها وحبها لألسرة زوجا وأبناء

امرأة تذوب وتذوب، أم تعطي وال تأخذ، سيدة الحنان والحكمة فكانت عصية على المقارنة بنساء عرف عنهن أو قابلهن أو أنه

.فشل باستحضار خيال له عالقة بامرأة الرجال اإلضاءة في ممر الطائرة كانت تكشف عن عشرات

والنساء واألوالد وهم يمرون قربه للمغادرة، فال يتحرك المحارب من مكانه على المقعد محاوال أن يبقي على تدفق شريط

خرج من باب الطائرة فلم يحمل معه أي مخزون . الذكرياتلصور الماضي، وكأن الوصول إلى دبي لن يسمح له بشيء

.سوى ما دعي من أجلهالسراديب المضاءة في المطار ، ونقلته وابتدأت رحلة داخل

عالنات المدهشة على ساللمه المتحركة فكانت عيناه تالحقان اإلفنادق وبنوك . جدران الطريق الذي خيل إليه أنه لن ينتهي

وصور سيارات لم يشاهدها من قبل كانت تشع بالنور، إال أنه توقف عند إعالن اسمه على ورقه رفعها واحد من الرجال،

.انت نهاية فترة قلقهفك

-٢٦-

)٤(

ن دبي لم تكن إخيل للمحارب أن المطار هو المدينة، بل حاضرة وحدها في جوف ذلك الفضاء المترامي األبعاد، بل أن

وكأنه القاموس البشري . العالم من كل بلد وقارة قد تجمع فيه. الذي نقرأ فيه الصفحات التي مألت أسطرها المفردات المختلفة

ة وأوربية، يابانية وأفريقية وغيرها من أرجاء مالمح عربيالعالم، وتكون ما يشبه الكوكتيل، وهكذا تحولت الممرات والمنعطفات إلى بقع متحركة استقطبت بشرا يذهبون ويجيئون، يعبرون دون أي تواصل، فكأن المطار الذي لم يكن له عالقة ء بمخيلة سالم المحارب التي عملت على تصوير ذلك الفضا

المتقدم بهندسته وجماله عاجزا عن تذويب الناس كما يفعل .الكوكتيل

وارتسمت ابتسامة على وجه المحارب مالحقا خطوات كان يهرب من . المرافق حين تذكر الزحام في شوارع مدينته حلب

ذلك الزحام إال أنه قرر أن يواجه مشهد المطار كمن يتابع فيلما . فما عادت حلب تشبه عالم هذا المطارامترجت فيه الحركة باأللفة

وبالرغم من سنواته السبعين فإن سالم المحارب كان يحسبحيوية الشباب كمن امتص حداثة المطار وهي تساهم في دفعه

-٢٧-

باتت محطة . إلى التفكير في المستقبل خارجا من إسار الماضي .فضاء مطار دبي مرحلة تفصل ما فات عن ما هو آت

م المحارب من دعوة المحطة الفضائية له، وما حدث لسالواالنتقال جوا من أرض إلى أخرى، داخال في زمن ينوس بين اإلدهاش والغربة، دفع بالرجل إلى اإلحساس بتغيير لم يخطط

وإذا ما انتهت إجراءات الدخول إلى دبي خرج من عالم . لهالمطار الغرائبي لتلفح وجهه حرارة الجو في ليل المدينة، وليشعر بأنه ما عاد فردا في كومبارس يؤدي دوره الثانوي في شريط سينمائي للخيال العلمي، كتب وأخرج وصور في مطار

وفي الطريق إلى الفندق أثار الليل في نفسه تساؤال عن تلك . دبيالقدرة في زرع جنة آلية مكيفة وسط رمال األرض الممتدة بين

ة الليموزين التي استقلها سيار. شاطئ البحر وأفق الصحراءكضيف مميز، ومن بعدها صالة الفندق الواسعة جاءت لتخفف من تساؤله ذاك وليعلم بأن رحلته قد وصلت إلى نهاية المطاف،

.وليستعد إلى لقاء الغدالجناح الذي بات . كان الليل قد انتصف لحظة دخوله الغرفة

ة تذكره بأهميته نزيال فيه أكد من جديد أن دعوة المحطة الفضائيككاتب، وتثير بداخله ما يشبه الخوف من أال يستطيع تقديم مسلسل تلفزيوني وفق متطلبات المحطة، إال أنه قال لنفسه بمرح

."ال أخشى إال أن أقبل ما تريده المحطة مني:" ساخر

-٢٨-

وبمثل تلك الثقة بالنفس تمدد المحارب على السرير الملكي وكانت عيناه تلتصقان بالسقف فيداعب فاتحا ذراعيه وساقيه،

ضاءات الزوايا إباجورات وأجفانه تماوج األلوان مع أنوار األ .وفي دقائق كان سالم المتعب يسبح في بحيرة النوم. المخفية

وقد فوجئ في اللحظات األولى من صحوه الصباحي أنه لم يبكر، واكتشف أن ليلته الطويلة قد مرت عليه دون منام أو

س، وهو الذي اعتاد في الشهور السابقة على األحالم المقلقة كابوأن ليلة وكتب في دفتر ذكرياته ما يشبه اليوميات . أو المرعبة

دبي األولى قد مرت عليه كالسديم األخرس مما يشير إلى أنني مقدم حقا على مرحلة أخرى من حياتي، وإن كنت أتمنى أن تطل

كن بنور الحبيبة من وضع علي سعاد من ظالم السديم ألتمأقدامي على الطريق الصحيح، وفي األحوال كلها بت على يقين من أن خطواتي ستمضي قدما باتجاه مرحلة جديدة تحفظ لي

.القدرة على االستمرار في الكتابةجعل يرشف منه وهو . اكتفى بفنجان الشاي على اإلفطار

شارع العريض يطل من نافذة الجناح في الطابق العشرين على الاألبراج ترتفع على جانبيه والزجاج يلمع . والذي لم تكن له نهايةوجعل الزجاج يحيل أشعة الشمس إلى . مشكال جدرانها السامقة

بريق زئبقي، بينما أشجار النخيل التي توسطت األوتوستراد تؤكد تفوق األبنية العالية على ما تمنحه الطبيعة من اخضرار يجاهد

.ظ بلمعانه مع حرارة الشمس الغاضبةفي االحتفا

-٢٩-

وانطلق الهاتف بالرنين الذي نقل إلى سمعه صوت رجل قال إنه باالنتظار في اللوبي الصطحابه إلى مكاتب المحطة

سمه يحمله شاب اعالنا بإوفي البهو لمح . لبى النداء. التلفزيونية. يرتسم الترحيب على وجهه لحظة المقابلة وهو يدل على نفسه

ى االثنان في سيارة بيضاء رباعية الدفع وقد انطلقت من قبو مض. الفندق، وكان المرافق الذي جلس بالقرب من السائق ال يتكلم

المحارب كان في نعيم السيارة يراقب جحيم الشارع، حين استمر كانت زيارة دبي هي األولى، أجاب نإفي السير سأل المرافق

جولون في الشوارع، فيعلق المحارب بالموافقة فالبشر ال يتالمرافق بقوله ان اهللا خلق التكييف في البيوت والفنادق والسيارات فال حاجة للناس أن يمشوا على أرجلهم، وقال المحارب إن الناس في دبي محظوظون، بينما كتم في نفسه

.ابتسامة ساخرةوبعد زمن لم يحسب له توقيتا توقف هدير السيارة

وفي ساحة واسعة تصدرها بناء . إيقاع الطريقفاستيقظ سالم من منخفض انتشر على قوس، وبدا له أنه حضن فتح للقادمين

وإذا ما وجد نفسه في صالة االستقبال . ذراعيه ليرحب بهمتقدمت منه صبية تلمع عيناها المطلتان من دائرتي الكحل الذي

هي تنطق واشترك ترحيبها و. ال بد أنه منح عباءتها سوادا المعاباسمه مع إشراقة وجهها الخمري، داعية إياه برقة أميرة إلى

-٣٠-

. قاعة اجتماعات حسبها للوهلة األولى مخصصة ألعمال وزاريةكان أثاثها من طاولة بيضاوية كبرى تستقطب من حولها مقاعد

وعلم . جلدية تليق باجتماع تتخذ فيه أخطر القرارات الحاسمة .أمر له شأنهآنذاك أنه مقدم على مواجهة

)٥(

وحيدا في القاعة التي اكتست جدرانها بخشب ال بد أنه الجوز الذي أكد على المهابة واالنغالق على ما يمكن أن يتسرب من

وحسب المحارب ما يمر عليه من دقائق ممطوطة . حديثوشغل نفسه بالنظر . انتظارا يشبه ما يسبق إعالن نتائج االمتحان

رة تظهر عددا من السفن التقليدية ترقد على إلى لوحة زيتيه كبيسطح خور دبي لتبدو وكأنها بتاريخيتها تحاور حداثة األبراج . المطلة على الخور، ويجد المحارب نفسه شريكا في هذا الحوار

يعجب تارة بتلك السفن، ويدهش تارة لعالقة في عقد الصلة بين دينة، وما يلبث يحس فجأة بأنه مع قديم الم. أرض دبي وسمائها

ن يشعر بالتحدي الذي استدعته فنون العمارة من أرجاء العصر أ .المترامية األطراف

توقف حواره الصامت مع دخول رجل قدر أنه صاحب قدم الرجل بكوفيته المذهبة . المحطة أو مديرها، كان االثنان معا

-٣١-

كأمير حقيقي، ويسبقه عطر فرنسي مع عينين كالصقر نظراته الضيف وكأنه يتأكد من واقع مطابقته للصور المنتشرة تتفحص

وكان دخوله كأمير . لسالم المحارب في الصحف والتلفزيونوانهالت كلمات الترحيب . ليصبح مع لقاء األحضان أخوياوإذا ما انتهت حفلة الترحيب . بالضيف كخطاب ال يمله صاحبه

ة من احتل المدير موقعه على رأس الطاولة تحيط به مجموعأجهزة الهاتف بألوان مختلفة وقد بدا الواحد منها وكأنه يختص بمكالمة مع جهة معينة، وأما المحارب فقد بقي وحيدا مع المقاعد

.الفارغة إال من جلدهاوكان المضيف قد حسم مرحلة المجاملة بإعالنه أن مجلس إدارة المحطة الفضائية اختار الكاتب سالم المحارب من بين

كتاب الدراما العرب إلعداد مسلسل تلفزيوني يرسم أفضلللمشاهد صورة درامية للحياة في مدينة قد تصبح رمزا للمدن

المتعة في المغامرات التي يعرضها المسلسل وكذلك . العربيةالحوار يحتل بجاذبيته مكانة لها أهميتها، هكذا أكد المدير على

وقال المدير . ن مرةرغبة المحطة في تكرار المالحظة ألكثر مإن المتعة هي ما يطلبه المشاهد، وتكون في أقصاها عندما يتوفر

.الحب سندا لتلك المغامراتوقال المدير، كمعلم في مدرسة، وال تنس لوحات من الطبيعة وكذلك اآلثار من عمارات قديمة من أجل إضفاء جماليات

:ف بالقولوإذا ما ضرب الطاولة بكفه هت. متنوعة على المسلسل

-٣٢-

شركات اإلعالن ستتهاتف على حجز أكبر المساحات في "المسلسل المنتظر إنتاجه شريطة أن تتوفر له عناصر النجاح التي

."تحدثنا عن شيء منها :وهب واقفا يجول حول مقعده ليقول

لك الخيار في كتابة المسلسل، ولكن أليس ما قلته لك يعني " ."توفر النجاح للمسلسل؟

ستسالم لإلصغاء قبل أن يعلق بشيء من صفات كان االالمحارب، إال أنه في ذلك اللقاء لم يستطع أن يفعل شيئا سوى المكوث في مقعده كتمثال يوحي بالطاعة، ولكن الرغبة في أن

بات مستعدا لقول شيء ولكن . يقول شيئا كانت تغلي بداخلهلقاعة، والتي الوقت لم يسمح له، فقد كان دخول السكرتيرة على ا

. كانت في منتصف العمر وال يشي منظرها بأنها من أهل المدينةوضعت أمام المدير أوراقا قام بإلقاء نظرة سريعة عليها، ولكنه

:ما لبث أن مررها إلى المحارب وهو يقول ."اقرأه على مهل منك ريثما أعود. أمامك العقد في نسختين"

في رحلة القراءة صفحات وحيدا في القاعة من جديد، تصحبه ثالث أحكمت صياغة بنود االتفاق بدقة، كما فعل الكومبيوتر في

كانت فقرات العقد ملزمة بتقديم ملخص تفصيلي . رسم كلماتهالألحداث والشخوص مما يمهد بسهولة لكتابة السيناريو من قبل

-٣٣-

وبالرغم . المؤلف بعد الحصول على مالحظات خبراء المحطةير للحلقة الواحدة إال أن سالم المحارب ابتدأ يحس من األجر الكب

دقائق تأمل فيها . بنود العقد تقيد حريته دون أن تشير إلى ذلكأنأوراق العقد، وقد ساوره شعور بأال يوقع، اال أنه خشي أن يتهم

المحطة تعامله على أنه كاتب كبير، وتدفع ). بالولدنة(بالجبن أو ة األولى، وتحجز له جناحا في أرقى نفقات طائرته بالدرج

.الفنادق، ولكنه يمتنع عن توقيع العقد ."أيمكن أن أرفض دعوة إلى الكتابة من جديد؟"وقد يكون آخر ما . قد تكون في هذا المسلسل نهاية لجفافي" "هل ابتدأ الرهان؟. هأكتب

. وأثنى المدير في عودته على توقيع المحارب على العقدتخاذ الكاتب قراره متمنيا له أن يستلم أوراق هتف مهنئا ال

:قال منتشيا. الملخص بالسرعة نفسهاإن كانت حلقات المسلسل اليومية ستغطي أشهرا، فهذا يعني "

."أن االستاذ سالم المحارب سيكون من أغنياء الكتاب العرب :آنذاك خرج المحارب عن استسالمه، وقال ممازحا

٠"صبح كاتبا بترولياني سأأوهل يعني ذلك "فما كان من المدير إال أن فاح منه الغضب بدال من العطر، ولكنه تماسك وسرعان ما رسم ابتسامة على شفتيه وهو يقول

:بتقريرية المسؤولين الكبار٣ م –السيرة احللبية

-٣٤-

."ال تغيب عنك روح الدعابة، أتراه أثر هذه المدينة عليك؟" ."هذا إطراء يا سيدي لم أسمع بمثله منذ زمن"

:واكمل بقوله وهو يستعد للمغادرةطراف ثوبها المرصعة ألم أعرف شيئا من المدينة سوى "

."بالحداثه المدهشةوهو يرافق . فلم يعلق المدير على المالحظة، صامتا كان

آنذاك شعر المحارب . ضيفه إلى الباب تمنى له إقامة مريحه .طنبتحرره من قيود اجتماع أصبح بداية للعودة إلى الو

في الطريق إلى الفندق خيل إليه أن هذه المدينة قد تكون مسرحا للمسلسل التلفزيوني، ولكنه سرعان ما اتهم نفسه، فهو يجهلها وال يعرف عنها شيئا سوى ما كانت عليه من أبراج

اكتفى آنذاك بمراقبة الطريق من نافذة السيارة الذي بدا . وطرقات .شجار النخيل المتشابهةواقتنع بمراقبة أ. بال نهاية

وهذا ما سيكون عليه الحال بعد فترة من الوقت فالفندق فتح وفي جناحه رمى نفسه على مقعد . ذراعيه له ليلجأ إليه كمالذ

:وثير كغريق عثر على لوح من خشب ."بدأت المهمة. انتهت المهمة"

وقضى بقية يومه في الجناح يقرأ عن الصين في قصة انت، وقد اصطحب ذلك المجلد معه بعد ان الحضارة لول ديور

-٣٥-

مرت عليه سنوات على قراءته، فهل كانت مصادفة أن يعيد .لنفسه شيئا من حضارة الصين القديمة في مدينة دبي الحديثة؟

وفي الفجر غادر سريره استعدادا للسفر يعود إلى حيث وهو ينتقل إلى المطار تحولت عنده دبي إلى مجهول . ينتمي

مدهش، فهو لن يذكر منها سوى المراكز المغلقة على ولكنه وهو ال يذكر أي بذخ رافقه في حياته . رفاهية الحداثة المستوردة

الحلبية، فلم تكن مدينة دبي سوى سحابة مرت في سماء رحلته .في الحياة، وستختفي لحظة استعادة حلب

وطئت أقدامه أرض مطار دمشق، ومن بعدها سحبته دواليب كانت سرعة الزمن تغزل صورا في . باتجاه مدينتهالسيارة

. مخيلة سالم المحارب الوحيد مع السائق الذي اتسم بصمتهوجعلت الصور تتجمع في أفكار تحاول أن تنسج قماش المسلسل

.المطلوب إنجازهها هي حكاية الفالح الذي أمضى عمره في زراعة أرضه

بالحنان أفراد أسرته الصغيرة ورعاية حيواناته القليلة، واحتضنوها هو يواجه فترة الجفاف . الذين يتزايدون مع مرور األيام

المطر عزيز طوال تلك . الذي يأبى وقف زحفه للسنة السابعةالفصول المتالحقة، وأما المياه الجوفية فقد وصلت إلى ما يقارب

لم تنفع صالة االستسقاء الجماعية في استرضاء وهكذا. النهايةلم يستطع مقاومة فكرة النزوح عن .كي تروي العطشالسماء

-٣٦-

كان . أرضه التي دفن فيها أجداده، لما أخرج ترابها الخير للناسواكتشف أن العالم واسع فيها، . ال بد له من الهجرة إلى المدينة

وابتلعه من البداية حزام الفقر القائم على أطراف المدينة ليشارك الطمأنينة في األشهر الصعبة البؤس مع أسرته التي لم تعرف

وفي سعيه إلى الرزق عامال في أي مجال أتيح له من . األولىالعتالة إلى الحراسة لبناء يشاد إلى جمع القمامة، فتبين له أن ما

وهكذا يعود إلى . يقابله من قوة يفوق ما ناله من جفاف قريتها لظلم أرضه معدا نفسه لمواجهة المصاعب التي قبل بها، ورافض

.المدينةوتساءل سالم المحارب إن كانت حكاية الفالح تنفع لبناء مسلسل، فكان خياله قد انتقل إلى فكرة أخرى، كانت حكاية . المغترب قد بدأت بالتكون مع طي المسافة الممتدة أمام باصريه

إذن فقد عاد المغترب إلى وطنه بعد عشرات السنين من الهجرة ثروة رافقت أحالما تمنى ان يضعها ذات بنى . فريقيإفي بلد

أشعلت الحماسة . يوم في مشاريع تخدم بلده وأبناء المجتمع فيهأفكاره وتفجرت همته في إعداد مخطط لمصنع ألمونيوم وآخر

وكان يهدف إلى إعطاء الطبقة المتوسطة . ثاث المنزليلألي وف. والفقراء فرصة أفضل في تكوين حياتهم العائلية وتحسينهادارات إللحظات التخطيط ابتدأت المعاناة، فمن بيروقراطية ا

الرسمية، والمعامالت التي تضيع في دهاليز حكومية، وأساليب

-٣٧-

الرجل يحارب . يتقنها موظفون في استنزاف قدرات المغتربسنة . خصوما مجهولين، وما أن يسد ثغرة حتى تفتح له هوة

وهكذا . اسم الوباءلحقت بها أخرى فكان هناك شيء أطلق عليه . أصيب باليأس ليعود من جديد إلى أرض االغتراب

ن كانت المسلسالت السابقة قد ألقت الضوء على إوتساءل دارات وخيبة آمال العائدين من مواضيع مشابهة في فساد اإلوجعل يفكر في حكاية عن زعيم . االغتراب بعد تكوين ثروات

الحديث أو القديم، فعثر مليشيا قد يكون له نموذج في التاريخكان الزعيم قد ارتكب الجرائم في حرب أهليه فقتل انتقاما . عليه

. ومن ثم تلذذا بال رحمة، يسفك الدماء ويكسر العظام وال يرتويوفجأة وقع في فخ أفعاله فكانت له . وحش بداخله والظلم متعته

محاكمة عادلة ليقضي سنوات في السجن الذي استبدل إعدامه وحدث في ظروف سياسية أن أفرج عن الزعيم . روف خاصةلظ

شيئا فشيئا تجمعت حوله . فبات طليقا، واختفى أياما في دارتهشق الطريق إلى احتالل . فلول جماعته ليصبح له حزب سياسي

حزاب، وهو ذا يحاول أن يجد له قوة في مكانة بارزة بين األ .ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية

ينته، وها هو اآلن في بيته، فتوقفت األحالم التي وصل إلى مدتوجه إلى مطبخ أعماله األدبية، الورشة . ولدت أفكارا لمسلسالت

التي صنعت أعماله، وقد تخلى عن أفكاره وحكاياته التي دارت

-٣٨-

في طريق السفر ليجد أنها افتقدت إلى روح المسلسل أو أنها قد اقه يرسم عليها إشارات بعد فترة انتقل إلى أور. تصبح مكرورة

استفهام وتعجب، ويضع عليها الدوائر والمستطيالت، النجوم وابتدأت تلك . لى حيوانات خرافيةإواألقمار، الوجوه التي تميل

الهلوسة تتراكم كحبات الندى نقطة بعد أخرى، فلم يكتب له كان الليل قد مال . لى كتابه جملة واحدةإالتوفيق في االنطالق

.ه وهو يريد أن ينامعن منتصف

)٦(

وسمع في ظلمه عتبات الفجر نداء سعاد يدعوه إلى اليقظة هكذا كانت الدعوة، وهمست قم . الزمن يسبقك. تمهيدا الستيقاظه

:فأنت تكتب، وارتفعت وتيرة الصوت في سمعه ."اكتب سيرة مدينة"

. فاستوى في فراشه يتساءل عن تلك السيرة، وأية مدينة :تقول بحزموسمع سعاد

."سيرة مدينة أنت تعرفها، هي ما تبحث عنه"لبث المحارب فترة، إال أنه هب من فراشه مسرعا إلى

وبالرغم من العتمة فإن . الصالة حيث صورة سعاد فوقف أمامها :النور كان يشع من وجه المرأة الجميلة

-٣٩-

."أال يمكن للسنين أن تغيرها"يحاول أن يسمع منها، فكان قال لنفسه وهو يحدق في الصورة

كانت سعاد في األربعين آنذاك، ولكن األيام لم . الصمت مغلقاهتفت سعاد فجأة ليكون صوتها أجمل ما يدخل . تصبها بشيء :دهاليز أذنيه

."اكتب سيرة مدينة"هي تطلب منك الكتابة عن سيرة مدينة، أو ربما عن مدينة

:وتساءل. بعينها لتكون مسلسالأية . نة تاريخ، والتاريخ فيه حكايات وأحداث وبشرالمدي"

."مدينة اكتب عنها؟ومع خيوط الصباح تقدم من غرفة صناعة الكتابة وهو يقول

:لنفسه ."حسنا فلتكن سيرة مدينة"

:وإذ بسط أوراقه أمام قلمه، هتف بصوت مسموع ."ولكن أية مدينة، وأية سيرة؟"

:وتساءل المحارب وقد بات مقتنعا ."أهو تاريخ بلد أم سيرة مجتمع؟"

.وقال إن التاريخ هو المجتمع، وال فرق بين أحدهما

-٤٠-

:وحدث نفسه مستعرضا واقع المحطة الفضائيةأعلم أنها أصال ال ترغب في موقف سياسي، بل أنها ال "

ترغب في السياسة، فلكل بلد عربي شؤونه وهي تنفر من أمور ."ينة تمر في حقل ألغامسيرة أية مد. لها عالقة بالسياسة

وانفجر المحارب ضاحكا فالسيرة يجب أن تغسل بالصابون والمطهرات، فال يمكن أن تمس طهارة المحطة فما الذي تدل

.عليه سيرة المدينة؟عليك يا سالم المحارب تجنب الخطوط الحمراء التي أصبحت حدودا تفصل بين الناس والحكام وقد ترسم تلك الخطوط بين

تصلب شرايين الناس بتقدمهم في السن ال نإ و،جائز والشبابالعخطوط حمراء رسمت على . يسمح لهم باالنفتاح على األفكار

األقمار . الخرائط لتعيد تشكيل الحدود وفق األنظمة والبشرالصناعية توظف اليوم في بث برامج المحطات على مبدأ حيادها

حب والجنس، وكذلك بين الظلم والتعسف، الفقر والرخاء، الهتف . محطات تمطر المتعة والتسلية. العدل وإعدام الشعوب

:المحارب ."أال تستحق المدن المسكينة أن يكتب لها تاريخ حقيقي؟"

ومن جديد أكل . سدت عليه منافذ التفكير. توقف المحاربوعاد إلى . عليه الهسيس بل هو الوسواس بين العجز واإلقدام

-٤١-

، وقال "حلب" روحه، هتف متيقظا هي نداء سعاد الذي سكن :مخاطبا األوراق التي ملت بياضها

.!"يكون المسلسل عن السيرة الحلبية"

ووجد في إطاللة الضوء القوية من النافذة فرصة اغتنمها، وكانت الكلمات األولى في . فتحرك القلم على السطح األملس :االسم الذي اختار نفسه دون تدخل

."لبيعبد القادر الح"عبد القادر الحلبي مازال . وانسال قلمه فكان تاريخ عائلة

يحتفظ بمكانته على رأس عائلة يدين له أوالده وأحفاده بالوالء حياة . احتراما لمهابته وقوته في إدارة النظام المحكم الذي وضعه

عبد القادر الحلبي هي القيادة وقد انعكست على أفراد عائلته، وبالرغم من أن عبد القادر . ن يتخلص منهاولكن بعضهم أراد أ

الحلبي في ماضيه المشرف بانتسابه إلى الجهاد ضد االستعمار زال يسري في معظم عروق األبناء الفرنسي، فإن ذلك ما

كان بيته الكبير محجا يتردد عليه األبناء واألحفاد، . واألحفادادر عبد الق. حزابأوكذلك رفاق الحي، ويقصده رجال سياسة و

الحلبي واحد من آخر الباقين من رجال رفضوا ذل االحتالل وقد .منحوا البندقية شرف الحرية وتوجوا بقتالهم استقالل البالد

-٤٢-

وابتدأت زوجات الحلبي في طرق باب سالم المحارب ليفتح سجل . لها الطريق، فكانت الواحدة منهن تقدم نفسها بعد األخرى

بناء ساهموا ألزوج وما خلفن من سماؤهن ووقائع ارتباطهن باأ .في اتساع العائلة الكبيرة

وهكذا كانت البداية، فإذا ما أصبحت الرحلة مستمرة فإن عاد . حكاية المسلسل باتت متابعتها في ساعات الليل والنهار

.سالم المحارب من جديد

-٤٣-

عبد القادر احلليب ريةأو حكاية الس

-١-

في حوش الدار الصغيرة، كانت األم تنادي للمرة الثانية على

: ابنها الشاب عبد القادر إليقاظه ."اإلفطار يا عبد القادر. الشاي بانتظارك يا ولدي"

وتعود إلى التنور من جديد إلخراج الرغيف قبل أن يحترق وهي في طريقها إلى . وكررت النداء بصوت أعلى. ووضع آخر

وفي . إلخراج صحني الزيت والزعتر، مازالت تنادي) مليةالن(ركن الحوش كان الماء يغلي مع أوراق الشاي فتحول صوت األم

:إلى استغاثةهل ستتأخر في نومك يوم . يا حبيبي النائم. طار يا عبدفاإل"

."زواجك :وارتفع صوتها حتى كاد الجيران يسمعونه

-٤٤-

"ضمن لك بقائي معكعليك بالزواج يا عبد القادر، فمن ي" :ووقفت عند باب غرفة ابنها وكأنها تخاطبه

أهل الحارة ال يرحمون . من غير الزوجة ستجد نفسك وحيدا" "شابا تخطى الخامسة والعشرين بال زوجة

وبينما تعود إلى التنور لتضع فيه رغيفا آخر، سمعته يتحدث ش يتمطى وكان عبد القادر قد خرج إلى الحو. بكلمات لم تفهمها

:وهو يقول "ما أحلى خبز التنور في اإلفطار يا أحلى أم عبده"

كان يقترب منها بهدوء ليلتحم بظهرها ويقبلها من العنق، "فجعلت تقول بصوت خفيض

"يا ابن الماكرة فواهللا أشك في أني ولدتك"كان مع . الذي يعمل فيه) الخان(مساء عاد عبد القادر من

الشعير والعدس وغيرها من المنتجات العمال يدخلون أكياس وهو يعمل مع زمالئه في . الزراعية، فيكدسونها استعدادا لبيعهاوفي ذهابه إلى الدار دخل . كنس الحوش لتجمع بقايا تلك األكياس

مقهى الحي ليسلم على الرفاق فكان يحمل حكايات عن شكاوى لحلفاء الناس لغياب القمح، فالفرنسيون يحتكرونه لصالح جنود ا

ويرد عليه واحد من . المنتشرين في أرجاء الحرب العالمية الثانيةالمقنن ال يكفي ألسرة واحدة الشتعال ) الكاز(شباب المقهى بأن

-٤٥-

، و يتساءل آخر إن كان الدواء )البريموس(النار في وابور يقولون إن الناس يلجؤون إلى الحطب والسحاحير . متوفرا حقا

وفي . يوخ يكتبون األحجبة بدال من األدويةكوقود لهم، وإن الشحلقة المقهى يتبادل الرفاق أخبار القتال ضد الفرنسيين، فمن

العالية، جبال الساحلإلى مناطق ) جبل الزاوية(إلى ) جبل العرب(ما المظاهرات فلم تهدأ في كثير من أو. لم تنقطع المقاومة لالحتالل

.لطالب والسياسيينالمدن السورية فال تتوقف اعتقاالت ايعود إلى الدار فتستقبله أمه مرحبة لتستكمل في عودته وهي تنق بالشكوى المرسومة يوميا بمقدار العزوبية التي ألحقت ابنها

تحدثه عن صبية من أهل الحارة، . باللعنة، وقد أصابته منذ سنينأو عن أخرى من عذارى األحياء المجاورة أو البعيدة، فكان

:يها ويبتسميستمع إل ."أنت أمي وال أتصور بديال منك في الدار"

:فتنفجر في وجهه لتقولحرام عليك يا ولدي أن تحرم بنات الناس من رجولتك "

."وجمالكوال تنقطع األم عن الدعاء لعبد القادر والدعوة له أن يهديه اهللا

هي تحضر الشيخ الضرير إلى الدار . في الموافقة على الزواجذا شبع إتطعمه وتسقيه الشاي، ف. مرتين في الشهر الواحدة أومر

-٤٦-

قرأ لها األوراد والتعازيم المبهمة من أجل أن يهتدي االبن المتمرد، إال أن األم تصحح له في كل دعاء بالقول بأن يهتدي

وإذا طرح على الشيخ ابنة أسرة بارك أهلها فقال . االبن العنيدالقادر يقابل الشيخ الضرير فيسلم، وقليال كان عبد . نعم االختيار

، ويهمس في "هي إرادة اهللا يا شيخنا الفاضل"ولكنه يكرر ماشيا . ذن أمه أنه باق لها فالدار ال يجوز أن تستضيف امرأة أخرىأ

هي ال تتوقف صباح مساء عن . أن األم لم تيأس ولن تغفلإال .الدعاء البنها والدعوة كي تكون له زوجة

احدا من مراكز المدينة التي يتم فيها تداول كان الخان واضطرابات وأخبار الثورات في مناطق من . األحداث بسرية

وكان صاحب الخان يتابع متكتما أخبار إذاعة الشرق . سوريةمن إذاعة ألمانيا، ) يونس البحري(األدنى لينتقل منها إلى

وكان عبد القادر في . فيتسرب شيء منها إلى زوار الخانياراته للمقهى من حين آلخر، يكتفى بمشاركة الرفاق ألغاز ز

وقائع ما رشح من أخبار الثورات في الجبال والمدن، ليكون مقتل جندي فرنسي يعني اصطياد طائر، والجراح التي أصابته بالحكة التي يتسبب بها الجرب، وإذا ما اعتقل ثائر أو متظاهر

.ينفيرمز إليه بإغماضة العين اليمنى لمرتجنينا تخلق . ويولد الغضب في أعماق عبد القادر الحلبي

أريد ان . فحولته تأبى أن يقف متفرجا. ومازال ينمو يوما فيوما

-٤٧-

أحصل على سالح، إال أن السالح بحاجة إلى مال، وكان الفقر المهربون عندهم الخبر اليقين فكانوا يؤمنون ما . شعار الشاب

بنادق، إال أن عبد القادر ال يملك ما يطلبه أحد من الطبنجات والوابتدأت خطة التوفير، الليرة إلى جانب ليرة، . هو مطلوب

وكان خالل شهور طويلة . والكيس السري يجتمع فيه كنزهيقترب من الهدف، فإذا ما ظن أنه قد اكتمل أحس بنشوة تسري

.في أوصاله، فمضى يربط الكيس بشرواله إلى مخبأ المهربينبيوت هشة غطت التلة . هي مقصده) التلة السودة (عرف أن

وأخرى في كهوف، فاستدل على الكهف من انتشار رجال حول سئل عن الهدف من الزيارة، فإذا أجاب لغرض السالح، . مدخله

وتقدم عبد القادر في الممرات المتعرجة وهو . سمح له بالدخول يفترشون ألقى السالم على ثالثة من رجال. يشعر بمراقبة له

:قال ثالثهم المتجهم. األرض، ويتكئ زعيمهم على نتوء صخري ."أنت قبضاي في حارتك، أم أنك تريد أن تقاتل الفرنسيس"

، مخترعا )البرابلو(فتلعثم عبد القادر، لكنه تماسك وهو يطلب وقال للزعيم الذي مأل شارباه نصف وجهه وهو . قضية ثأر

:لهايدخن في النارجيلة السامقة بطو ".أريد مسدسا مع الطلقات. مسدس"

ومد الزعيم ذراعه يطلب النقد، آنذاك أخرج كيسه من أشار الزعيم إلى جاره ليحمل الكيس فهزه ثم . شرواله، فقدمه له

-٤٨-

أخرج النقود فإذا هي أوراق ليرات سورية وعدد كبير من .جعل يعدها. الفرنكات

"لجامعيا مسكين أنت تجمع الصدقات أمام باب ا"هكذا قال فضحك اآلخرون، وظل عبد القادر ال يعلق بكلمة

:قال المهرب. أو تجهممبروك عليك فرد البرابلو، وتستحق صندوقا واحدا من "

"الخراطيشونبش في كيس من الخيش بحثا إلى أن وجد شيئا فأخرجه

:فإذا هو مسدس كبير، وقال "!يا عيب الشوم، صدقات أمام باب الجامع"

فلم يعلق عبد القادر على السخرية، وتناول مسدسه ليعاينه، وسأل إن كان من الممكن أن يحصل على صندوقين فكان أن

:صاح الثالثة بصوت واحد "الصدقات يا عمي ال تسمح لك بأكثر من صندوق"

نزالقات الممرات فيها، فكان إخرج من التلة السوداء متفاديا ذ وصل إلى بداية إو. خطورتها حسابافي دخوله إليها لم يحسب لولف عبد القادر كنزه الثمين بشاشية . الشارع أدرك أنه قد أنقذ

عاري الرأس يمشي، . رأسه التي لم يسبق له أن نزعها من قبلفكان يستقبل بالفخر نظرات المارة إليه، وظل عالي الجبين

.أسبدا عبد القادر وكأنه رجل شديد الب. تومض عيناه بالقوة

-٤٩-

قفل عائدا إلى الدار ليكتشف غياب أمه عنها، فهي إما عند سارع إلى وضع . ابنتها أو تشرب القهوة عند واحدة من الجارات

مسدسه وصندوق الخرطوش في مشمع، وابتدأ في نبش التراب وإذا ما سوى . واضعا اللفة عميقا بالقرب من شجرة النارنج

:التراب طبطب على سطحه قائال "وال تستيقظ قبل أن آمرك. يا حبيبي نامنام"

.ومن جديد عاد مسرعا إلى الخانيلقي نظرة على مخبأ الكنز، فإذا وجد أمه . مساء يدخل الدار

أمامه قبل يدها، وتلفه بفرح وهي تعلن عن العروس التي وفقنا وبينما يصغي باحترام إلى ما تقوله أمه عن صبية . اهللا بها

الذي يعرف ) المشبك(ممتلئة وأحلى بنات بائع ، صغيرة و)لقطة(عنه أنه ال يتوقف عن استقبال زبائن الحلوى الساخنة صيفا

). المشبك(وشتاء، ولربما أخذت الصبية حالوتها من أقراص :وقال عبد القادر

."صبرا جميال يا أمي فاهللا هو الذي يختار"ه بعنف، في الليل وبعد العشاء طرق باب الدار، واستمر قرع

:وكان يتداخل مع الضربات صوت مغربي ."افتحوا الباب قبل أن يحطمه الجنود"

جمدت األم هلعا، في اللحظة التي تقدم عبد القادر هادئا من وتدفق جنود معظمهم من السنغال يقودهم ضابط . فتحه. الباب

٤ م –السيرة احللبية

-٥٠-

كان مشهد االحتالل يتكرر . أشقر فانتشروا في أرجاء الحوشلم . من مرة، واعتاد عبد القادر اقتحام الدار للتفتيششهريا ألكثر

يظهر عليه أي خوف وبخاصة أن كنزه مدفون في التراب .بالقرب من شجرة النارنج

يبحثون في التنور، . الجنود يقلبون الفرش واللحف والطناجرويطلون على البئر من باب االحتياط فهم لم يكتشفوا من قبل أي

فتيش فقام الضابط بتقديم االحترام بانحناءة انتهى الت. مخبأ لهقال عبد القادر . رأسه، بينما قال المغربي باإلعالن عن االعتذار

:لنفسه مع خروج الجميع من الدار ."لن ينجح أحد في نبش التراب"

بعد أيام قليلة أخبر أمه بأن مهمة كلفه بها صاحب الخان، ل سيشحنها، لزمت مخترعا كذبة غال) الجزيرة(وسيسافر إلى

قبل عبد القادر . األم الصمت ولكنها بعد قليل دعت له بالتوفيق .يدها طالبا الدعاء له بالتوفيق في مهمته

-٢-

مع خيوط الفجر األولى خرج من الدار، حامال كنزه وقد . ربطه إلى ظهره ملفوفا بقماش تغطيه أوراق من شجرة النارنج

كانت. وة الغنم ومضى في طريقهوألقى على كتفيه عباءة فر

-٥١-

المصلون يغادرون المساجد، . الحياة في حلب قد بدأت تدب ببطءبينما أهل السوق يتوجهون إلى دكاكينهم وخاناتهم، وينتشر

وإذا مر عبد القادر بعدد . زبالون في الشوارع يكنسون األرض. من المخافر ال يعيرها اهتماما فيقطع خطواته من أمامها بثقة

الذي ضم عددا من ) باب الفرج(وكان هدفه الوصول إلى وكان أبرز . الكاراجات ليصبح مركز السفر إلى المدن واألرياف

التي شيدتها بلدية حلب فوضعت ) المكتبة الوطنية(األبنية هو بها عبد القادر أحس المخابرات الفرنسية اليد عليها، فإذا ما مر

المسدس الذي يحمله بل بشيء من الخوف الذي لم يكن من .الذكريات المتراكمة بثقلها على أهل حلب

وقد انتصب عمود الساعة أمام الكاراج الذي قصده عبد القادر ، فدخله ليشاهد عددا من الباصات في المكان )أريحا(للسفر إلى

األشبه بالهنكار الواسع الذي امتأل بمئات المسافرين إلى اتجاهات .مختلفة

د القادر ان خرج من حلب فأحس بالغربة، لكنه لم يسبق لعب .عزم على المضي في مهمته

مضى في طريقة خارجا . بعد ساعة من االنتظار امتأل الباصوكان عبد القادر يعلم ). أريحا(من المدينة ليتوجه في سيره إلى

أن البلدة قد تحولت منذ القديم إلى مصيف ألهل حلب، وأن الذي تحول إلى ) الزاوية( ومنها جبل التالل قد انتشرت حولها

-٥٢-

معقل للثوار يحاربون فيه الفرنسيين بالتطلع إلى أن تعم الثورة .أرجاء من البالد

لبث عبد القادر ساكنا في مقعده وهو يالحق الطريق الذي دة اضاءه نور الشمس الصباحي، فكانت حقول القمح والشعير ممت

تحرش به . على األطرافناثرت تإلى األفق، وأشجار متفرقة قد جاره في المقعد فلم يلتفت إليه متطلعا من النافذة، إال أنه مع إلحاح الجار أجاب عن سؤاله بأنه يقصد أريحا من أجل استيراد الكرز، كاشفا من زيارته األولى وهو يتساءل عن أهم البساتين التي يمكن أن يتعامل معها، وإذا بالجار يكشف عن خبرة واسعة، وتطوع بالحديث عن طبيعة المنطقة، وهكذا انطلق الرجل بوصف جمال أريحا، بساتينها وجبالها واآلثار التي تعود إلى

وعاد إلى الكرز األسود الذي خص به اهللا بساتينهم . تاريخ قديمفال تعرف منطقة أخرى من سورية مثيال له، إال أنه لم يأت على

وتساءل . في جبل الزاويةذكر ما يجرى من مقاومة للفرنسيين، فإذا )باب جنين(الجار فجأة إن كان المسافر واحدا من تجار

:بالرد يأتيه دون تلكؤشريكي في المال ضابط كبير في الدرك، وسيقوم باللحاق بي "

."بعد الظهرظهر اإلعجاب على الجار وهو يهز برأسه، بينما يقول عبد

:القادر

-٥٣-

المربى، العصير، . سودأهل حلب مغرمون بالكرز األ" ."واللحمة بالكرز هي األفضل

ويعلق الجار بالقول إننا في أريحا مثلكم يا أهل حلب، فعلق :عبد القادر بقوله

."الكرز هو الفاكهة التي اختارها اهللا لتكون اللؤلؤة السوداء"وبدا ان الجار قد عجز عن فهم وصف الكرز، بينما كان

وابتدأ الباص وصوله من . ئا عن اللؤلؤالقادم من حلب ال يعلم شي .مقصد السفر

في ساحة البلدة لفظه الباص، حائرا كان وال يطيق عباءة وكان ملتزما في حركته . الفرو ولكنه ال يستطيع التخلص منها

كان معلم المدرسة في حيهم الذي استدل عليه، . بتعاليم األستاذفي خروجهم من صالة اقترب منه . هو من أنصار إبراهيم هنانو

الجمعة ليحادثه على انفراد، وكان األستاذ قد عرفه شابا من خيرة ابناء الحي، وهكذا قبل فكرة االلتحاق بثورة جبل الزاوية

.وكانت الرحلة. ليدفعه إليهاالكراسي والطاوالت . كان المقهى يقع على أطراف الساحة

فجلس عبد القادر وقد توزع على معظمها أهل البلدة أو الغرباء، لمح صبي القهوة الذي . بعيدا عنهم بانتظار من كان قد وعد به

تقدم منه، آنذاك طلب كأس شاي، فجاء الكأس على عجل فيما :يهتف الصبي

-٥٤-

."أكرك عجم مع أربعة معالق سكر بلون التراب" :وأدرك عبد القادر أن كلمة السر بحاجة إلى مفتاحها، فقال

."ن هو األحمرالسكر ال بد أن يكو" :فمال عليه صبي المقهى وهو يهمس في أذنه

."على رأسي أبو حلب" .وانفلت عائدا إلى الداخل

بعد قليل سمع صوتا جاء من رجل اتخذ له مقعدا إلى الطاولة :المجاورة، وكأنه يحادث نفسه

."الحق بي بعد قليل، وكن بعيدا عني"كا فرصة للرجل في فلبث عبد القادر جالسا على كرسيه تار

االبتعاد، فإذا ما أصبح في آخر الساحة، هب واقفا ليحاسب صبي المقهى، ومضى متابعا خطوات الرجل عن بعد، فكان الدليل إذا

في حارة ضيقة من بلدة أريحا . تباطأ تراخى هو في مشيتهتوقف ليحكم حزام قنبازه فتوقف عبد القادر ليحك رأسه منشغال

بة على جدار، وعاد الرجل يمشي وهو يقرقع بحذائه بقراءة الكتاعلى بالط الحارة بينما عبد القادر كان يخشى أن يحدث أية

وانتهى الدليل عند باب قديم ليقرعه بالسقاطة ثالث . ضجةآنذاك أشار إلى عبد القادر أن يقترب، ومن ثم . مرات، ليفتح في أذن أصبح االثنان داخل الحوش فهمس الدليل. دخال الدار

-٥٥-

صاحب الدار، وما لبث أن غادر من حيث أتى، ويبدو أن مهمته .قد انتهت

. حياه الرجل الخمسيني وقال أن اتبعني، فلحق به عبد القادردخال غرفة ومنها إلى أخرى، فإذا برجال ثالثة قد توزعوا على

:هتف صاحب الدار. بساط جالسين وهم يستندون إلى وسائد ." القادرأبو حلب، األخ عبد"

ووقف الرجال وهم يرفعون أذرعتهم في الهواء، وكانوا :يرددون بصوت واحد

."أهال بعبد القادر أبو حلب"خلع عبد . صافحه أحدهم وهو يدعوه إلى البساط، فاستجاب

القادر عنه عباءة الفرو ليجلس أرضا، وها هو يأنس إلى الرجال ت أريكة في صدر كان. فكان شعور يراوده أنه يعرفهم منذ زمن

الغرفة فتراجع لالستناد إليها، وهو يلمح في أسفلها أنابيب . حديدية، فعرف أنها البنادق، وأدرك أن الغرفة كانت للثوار

وتربع على البساط رجل الدار ليصبحوا خمسة وكأنها ندوة .افترش رجالها االرض

وتساءل من يظن أنه صاحب المكان أو أنه مكلف براحة :، وكان قوله دون مقدماتالمجاهدين

كنا قد أخبرنا بقدوم ابو حلب إلينا، نحن نرحب بك يا أخ، " ."ولكن لم تريد أن تقاتل معنا؟

-٥٦-

. آنذاك كشف عبد القادر عن ظهره، وقام بفك رباط وسطهأخرج المسدس مع صندوق الخرتوش ووضع كنزه أمامه، وقال

:بهدوءه المعتاد ."ال ضد الفرنسيين؟أتريدون أن يكون لكم شرف النض"

:وقال مجاهد من الرجال بحماسة ."نحن نريد الجميع في البالد معنا. ال واهللا"

:وعلق واحد منهم .ومن أخبرك أن الثوار يحسبون على أهل المنطقة؟"

:وقال آخر وقد استوى في جلسته ".إنهم كل أهلنا في البالد، المدن والسهول والجبال"

.به، وأهال بكوهتف بأن أبو حلب مرحب كان رجل الدار يقترب من المسدس يعاينه، ينقله من يد

:ألخرى، وتساءل ."أو تريد أن تحارب جنود االستعمار به؟"

فقال عبد القادر إنه جمع الليرة فوق الفرنك ليحصل على المسدس من مهربي السالح، فانبرى أحدهم متسائال عن أهمية

:مدافعه، وعلق بالقولهذا المسدس في وجه رشاشات العدو و ."ال ينفعنا مسدسك يا أخ، إال أننا نرحب بك"

بداية خاب أمل عبد القادر في الحصول على المسدس، إال أنه ما لبث ان استعاد األمل بعد سماعه بترحيب الرجل به وليبلغ

-٥٧-

وقام ليمد يده بالمصافحة . أقصى ما يمكن ان يصل من نشوةميع هب واقفا ليعانق القادم من حلب، رجال بعد آخر، إال أن الج

فكان احتضان اآلخرين له قد دفع الدموع إلى عينيه لترقرق :وفيما يحتضن رجل الدار ضيفه، قال. مآقيهمالك البندقية، سيقوم واحد من رجالنا على طريقة استع"

."ك فهو ينفعسسدموأرجو أن تحتفظ ب :وأضاف قائال بأمر حاسم

بعد قليل، التدريب عند السفح القريب من و ستبدأ منذ اليوم،" ."اآلثار هو المأمون

ويبدو أن الوقت قد أذن بانفضاض الجميع، فتقدم رجل الدار الذي خرجا من أرض الحوش . كشف عن أهميته، ليلحق عبد القادر به

:نادى على أحد الرجال المسمى بأبو محمد. لينزال في قبو ."أبوحلب أمانة بين يديك"

.رجل امتثاال لألمرفهب ال

-٣-

عبر شعاب التالل حامال الرصاص تقدم البغل في صعوده وكان االثنان يتابعان الحيوان بخطواتهما . البنادق المخفية بخبرةو

الواثقة، بينما أرسل عبد القادر بصره متأمال السفوح التي أطلت

-٥٨-

األعشاب من بين صخورها، ويمتلئ صدره بالفخر على إقدامه جعل يقرن جمال . تساب إلى الثوار في ساحة الشرفباالن

حياة الجبال ال . الطبيعة بأهمية الجنة التي قد تكتب له باستشهاده .يعادلها العيش في الحواري واألزقة، فيا لحظ أهل الجهاد

كان بغل أبو محمد يسبق الرجلين بخطوات، فما تعيق الصخور والتزم . يعرف الهدفمسيرته وقد اعتاد على معرفة طريقه، وكأنه

وظهر على . عبد القادر أوامر معلمه الذي يقوده إلى مكان التدريبالرجلين مالمح بائعين يجوالن بالبضاعة بين البيوت التي تناثرت قلة

. قوى الفرنسيينفوح، بينما لم يظهر أي من مراكز منها على الستح لعبد الطريق كانت آمنة يعرفها أبو محمد معلم الرمي، والذي افت

.القادر أول أيام التحاقه بثورة جبل الزاويةوانطلق صوت أبو محمد باالهزوجة التي كان عبد القادر قد

:سمعها في حلب، وتغنى بها في سرهفيها ابراهيم / فيها عسكر فيها ضو /طيارة طارت في الجو

.مركب ابنو قدامو/ هنانورة البطل ابراهيم كان واثقا من انتشار اسطو. ومن يوم آلخر

.هنانو في كل أرجاء البالد. توقف البغل عند منعطف أطل على منخفض بين ارتفاعين

كان الرجالن يتأمالن الفسحة الخفية، وسمع أبو محمد يشير إليها :قائال

-٥٩-

."هذه المنطقة من األرض ال يعرف أحد عنها عدا جماعتنا"الثنان وأخرجت البنادق وصناديق الرصاص، وقد حملها ا

منحدرين إلى تلك الفسحة، بينما البغل ربط إلى الشجرة الوحيدة :على رأس التل، وقال أبو محمد بلهجة آمرة

ليس أمامك التقان التصويب على االهداف سوى ساعات " ."تنتهي مع غياب الشمس

جعل عبد القادر يستنفر طاقته، وهو يحاول أن يكون الئقا في ئجه تحقيقا لرضى ثقة الثوار، بل إن االمتحان الذي ستكون نتا

هو ال يريد إال أن . المعلم سيعلن عن نجاح التلميذ في امتحانه .يجتاز هذا االمتحان ليكون جديرا بالقتال ضد العدو

التحمت البندقية بالكتف، وبعد محاوالت تثبيتها بات لوح ول الكتف ملتصقا بالقاعدة الخشبية، فكان لعبد القادر الدرس األ

وكان أبو . الذي انتقل إلى الثاني في دقة النظر لمعرفة الهدفمحمد قد رسم بالطباشير دوائر متباعدة على سطح الصخرة

وطاشت الرصاصة . الواضحة أمامه والتي كانت على بعد منه :األولى، فقال أبو محمد محذرا

."انتبه يا أخ ابو حلب، فالرصاص عزيز"دا عن واحدة من الدوائر، ومن جديد جاءت الرصاصة بعي

:فهتف المعلم

-٦٠-

."على الرصاصة أن تقتل جنديا فرنسيا" :واقتربت أخرى من محيط الدائرة، فصاح ابو محمد

."لو أتقنت تصويبك لما خرجت عن الهدف"بعد ساعة من الزمن جاءت الرصاصة في قلب دائرة، آنذاك

فإذا خرج عبد القادر عن وقاره ليقفز في الهواء من فرح، :بالمعلم يهتف

عليك أن . تمهل ابو حلب، فأمامك مشوار لبلوغ الهدف" ."تصيب قلب الدوائر جميعا

ومن جديد صوب على مركز دائرة فجاءت قريبة من وتكرر اطالق الرصاص بثبات يخفي غليان نيران . محيطها :واذا ما أصاب الدوائر في مقتل، قال ابو محمد. التحدي

." حلب، فالبداية جيدةهنيئا لك ابو"وقام المعلم فجأة برمي حجر في الهواء، فإذا بالرامي ينجح

:في تفتيته، ليقول أبو محمد ."ابو حلب، أنت رجل حقيقي"

وسمعت همهمة من األعلى، فتنبه الرجالن في الساحة ليشاهدا وأحس . وقد دلت مالبسه على أنه من الرعاة. شابا يشير بعصاه

لخطر، إال أن المعلم الذي تبادل اإلشارات مع عبد القادر باتساءل عبد القادر عن أمر الشاب . الشاب، فكانت له الطمأنينة

-٦١-

فقيل له إنه واحد من رجالنا، وهو مكلف بحراسة المكان ويقول آنذاك هدأ عبد القادر وهو يدرك أن جماعة . لنا إن كل شيء آمن

تكون لهم في حلب الثوار تعمل وفق نظام وتخطيط، متمنيا أن .مثل تلك الجماعة

وكانت العودة إلى التدريب قد أصبحت أكثر تركيزا، ولم يتوقف المعلم عن توجيه التعاليم والمالحظات فيتقبلها المتدرب

وظهر عبد القادر كمن فطر على استخدام البندقية . بشغفوالتحرك بها خفيفا كبهلوان في اتقان القفز والزحف، اإلقدام

.تراجع، كذلك االختباء والظهور المباغتوالوقد توج أبو محمد فترة التدريب التي أدخلت اليه البهجة

:باكتساب مقاتل، وقال فجأة ."حان الوقت الستخدام المسدس"

اعتبر عبد القادر القول مديحا للبرابلو، فأخرجه من وسط دكة . الشروال، وقبل الكنز الذي يفخر به

كان إقدام عبد . عاليمه التي التزم بها التلميذوابتدأ المدرب توباتت . القادر على التصويب برغبة لم يشهد حرارة مثلها

البندقية لها شأن والمسدس له شأن، ولكن الرصاص واحد، كما .أن النتائج هي نفسها في النجاح

ومع بداية عالمات المساء في زحفها على الفضاء، أعلن أبو ام قد حان، واذا عبد القادر أحس بالجوع محمد أن تناول الطع

-٦٢-

كان قد أنجز مهمته في تدريب صارم فجاء وقت . المفاجئالطعام الذي لم يكن سوى أرغفة الخبز والجبنة القريش والبندورة

وكانت المائدة هي األشهى من أي شيء، بل إنه العشاء . والبصل .الذي بات مدخال إلى عالم الثوار

قد أطعم البغل وسقاه، فانطلق الرجالن في كان الراعي الشاب وبدت سفوح التالل بالرغم من شحوب ضيائها . طريق العودة

فإن النور قد انفتح على عبد القادر، فكان خياله يكشف عن فيلوح له من بين . المعارك التي ستقوم بين الثوار والفرنسيين

الصخور وميض نار الرصاص الذي جعل الجند والغرباء .ون كأغصان متكسرةيتساقط

سلم البغل لإلسطبل القريب من الدار، فأكمل الرجالن استقبلهما . مشوارهما إليها وهما يتبادالن حمل كيس البنادق

وكانت . صاحب الدار، فإذا استقر بهما الحال أمر لهما بالطعامساعتان من الزمن قد مرت عليهما منذ مغادرة أرض التدريب،

ع الدجاج فتحت لهما الشهية على ما قد فجاءت صينية البرغل م .يسمى بالعشاء الحقيقي وقد نسيا أمر ذلك العشاء المزيف

مسح أبو محمد الصينية، واذا ما شكر اهللا يطعمهم من جوع، :ابتدأ يمتدح عبد القادر على انجازه للمهمة، وجعل يقول

."وأنت ابو حلب أصبحت مؤهال للقتال إلى جانب الثوار"

-٦٣-

:لهجة آمرة ال تخفي المحبةوأكمل ب ."تقضي ليلتك هنا لتعود غدا إلى بلدك بانتظار اإلشارة فتعود"

:وقال متكئا على وسادةبندقيتك تخصك لوحدك، اتركها مع مسدسك فهما بانتظارك " ."هنا

ولم يكن هناك فرصة في طرح السؤال الذي كتمه في صدره، ي أغفى فيه أبو فقال عبد القادر بصوت خفيض في الوقت الذ

محمد، إن كانت عيناه ستتكحالن برؤية البطل هنانو، فهي األمنية وما لبث أن افترش األرض مسندا رأسه على مخدة . والرجاء

.القش، وذهب في نوم عميقأقام الصالة وإذا بعبد . مع الفجر بحث عن الماء لوضوئه

ن له وكا. القادر يفاجأ بصاحب الدار الذي لحق به في العبادةواستعد . دعاء في ختام صالة الفجر أن يعيده إلى أرض الجهاد

العائد للمغادرة فتقدم بالشكر على الضيافة وإعداده للقتال، منطلقا .إلى ساحة البلدة

احتل مقعده في الباص الذي امتأل ليمضي بالركاب في وكانت السيارة تطوي المسافة، فبات عبد . الطريق إلى حلب

ا إلى العودة بعد أن فتح له باب الجهاد على القادر متطلع ....."طيارة طارت في الجو"وانطلق ينشد في سره . مصراعيه

-٦٤-

. باب الفرج قلب حلب، أصبح فيه وها هو يغادر كاراج البابا) باب جنين(عبد القادر اشتاق أمه فتسارعت خطواته عرج على

نطقة التي ستثبت أنه سافر إلى م) البامية(القريب فاشترى التي اشتهرت به بالرغم من اختالف طعمها وحجمها ) الجزيرة(

عن تلك القادمة من بساتين حلب، وكانت النسوة في حلب ال وفي لقائه مع أمه . يعرفن شيئا عن بامية الجزيرة، وأمه من بينها

وقال . استقبلته بالفرح والدهشة، فهي لم تعتقد انه سيعود بعد يوم :يعطيها الكيس

."مية من بلدة الرقة يا أميالبا" خبز نإفضمت ابنها إلى صدرها وهي تقول ولم يعنها الكيس

التنور من غيرك يا ولدي ال يكون، وقالت األم وقد غمرته :بالقبالت

."هل وفقت في تجارتك يا ولدي؟" :فقال االبن وهو يستريح على الدكة الخشبية في الحوش

."أهم تجارة قمت بها في حياتي"

-٤-

لم يسجل على األستاذ أحمد أن نطق بكلمة واحدة لها عالقة ظل . بما جرى لعبد القادر في سفره ولقائه بعدد من رجال الثورة

-٦٥-

األستاذ صامتا أثناء خروجه من صالة الجمعة في مسجد الحارة، بعكس ما كان يتلو األدعية عقب الصالة وكأنه شيخ تفرغ

:ليهمسولحق به عبد القادر . للعبادة ."متى؟ متى سأعود يا أستاذ؟"

وإن قد مرت أيام قليلة على عودة عبد القادر، فرد األستاذ :بحرص كان يتقنه

."يختار اهللا ما فيه الخير". وأضاف تحية الوداع، وانعطف في طريقه مسرعا في خطواته

جعل يفكر في معنى . وتوقف عبد القادر عن السير ليرد على التحيةستاذ يقلبه على وجوهه، إال أنه ما لبث أن تذكر ما كان يردد قول األ

.بالعمل على الكتمان، فهدأ معلال نفسه بالطمأنينةقطع الحارات واألزقة فعادت بعد . وجعل يمشي كتائه ال يفكر

أتراه لم ينل بعد ثقة . قليل خطواته تولد في صدره الوساوس. ري يدعو إلى الحذرالمجاهدين، أم أن أسلوبهم في العمل الس

وتوقف . وتساءل إن كان جديرا بالثقة، وكان جوابه أنه أهل بهالحظة ليقول لنفسه إن كان ثوار الجبل عرفوا شيئا عن وضع أمه التي لم يكن لها رجل غيره، أو أن األستاذ أحمد حذرهم من ذلك خوفا على العجوز، وهل بلغهم أن أمه ال معين لها في العيش

.وسواسه دفعه من جديد إلى متابعة السير. غيره٥ م –السيرة احللبية

-٦٦-

واذا ما وجد . واندفع عائدا إلى الدار يفكر في حل لوضع أمهنفسه في مواجهتها فكانت تعتب عليه غيابه في يوم عطلة وقد

. وعادت من جديد إلى أسطوانة الحديث عن الزواج. تجاوز حده اهتمام لهما، خيرته في الموافقة على فتاتين، إال أنه لم يعر أي

.وانسحب إلى غرفته مدعيا انه متعب يريد شيئا من الراحةمع بداية األسبوع حمل عبد القادر معه نيته في مفاتحة صاحب

راديو إلى غرفته، فكان مشغوال باالستماع دخل. الخان في أمربعد قليل . فاستمر الحاج في استغراقه. همهم وسعل. الشرق األدنىكان الشاب عبد . قادر، إال أنه تساءل عن سبب قدومهيفاجأ بعبد ال

القادر في وقوفه الحائر وهو يستجمع أفكاره ليجدها بعد قليل مستعدة قال إن األحوال صعبة والمعيشة تتعثر، وقال إن كانت . في إطالقها

إال أن . هناك أعمال اضافيه يتمنى أن يقوم بها فتسمح بزيادة أجرهن سوء األحوال بعد أن وضع الحاكم صاحب الخان اشتكى م

:الفرنسي يده على أهم الغالل، وهتف بحرقةأال ترى يا ولدي، وأنت أفضل عامل في الخان، أال ترى ما "

."وصل إليه حال التجارة في البالدوصاح بصوت خفيض منددا بالظلمة المستعمرين أعداء اهللا

.والناسلقادر في األقارب لمد بعد يأس من صاحب الخان، فكر عبد ا

يد المساعدة، إال أنه بالرغم من بعض األهل الذين أنعم اهللا عليهم

-٦٧-

بحياة أفضل ال يجرؤ على الطلب منهم مساندته دون سؤال عن وتذكر قول األستاذ أحمد عن وجوب الكتمان . سبب غيابه

والتستر في العالقة مع الثورة، فكان يزداد حرصا على سره، .كن أن يفشي به ولو كان ألقرب الناسفهو ال يم

التقى به في صالة . وما كان أمامه سوى األستاذ يشكو له حاله :الجمعة، وجلس إلى جانبه، ومال عليه هامسا أثناء الخطبة

."أستاذ، أنا بحاجة إلى الحديث معك بعد الصالة"فكانت إيماءة رأسه بالموافقة، وإذا ما انتهت الخطبة والصالة

اء، وخرج االثنان من المسجد، افترقا كمن ال يعرف والدع .أحدهما اآلخر

كان يلحق باألستاذ عن بعد يتشاغل بالسالم على واحد من الحي، ستاذ ويتوقف عند طفل يداعبه، إال أنه لم يغب لحظة عن متابعة األ

صه إلى دفعه حر. الذي انتهى به المطاف عند باب المدرسةستاذ المفتاح في القفل، بينما ، فادخل األقاقزاالطمئنان على خلو ال

. يومئ إلى عبد القادر بالدخولومن جديد دخل المدرسة، وأصبح االثنان في الحوش الصغير

وكانت المدرسة تشغل دارا قديمة بغرفها القليلة، . ليقفل الباب عليهمادارة ودعاه إلى غرفة اإل. وكان األستاذ هو المدير والمعلم واآلذن

.يقول إننا نستطيع فيها التحدث دون رقيبوهو

-٦٨-

مألت خارطة سورية جدارا في الغرفة الصغيرة، فاجتذبت اهتمام :عبد القادر وهو يتأملها باعجاب، وقال متحسرا

لم أكمل تعليمي، وكنت قد تعلمت القراءة والكتابة عند الشيخ، ولم " ."يكن عنده مثل هذه

واقع في الخارطة بقدسية واقترب من الجدار يالمس بأصابعه متشابه ما يتم التمسح به لمقام زكريا في الجامع الكبير، وجعل يردد

:بصوت خفيض ."بالدنا جميلة وتستحق ان ندافع عنها ضد جنود االحتالل"

:وقال االستاذ مربتا على كتف عبد القادر ."لهذا كانت الفرصة لك للجهاد من أجل الدفاع عن استقالل البلد"

أيقن . ت الكلمات تنزل على صدر عبد القادر بردا وسالماوجعلسعادته ال . أن في قول االستاذ اعترافا بالقبول في صفوف الثورة

ومسح الخارطة بعينيه وهو . يفوقها سوى االلتحاق بأهل الجهاد :يتوجه بسؤال األستاذ

اعذر فضولي يا أستاذ أحمد ألسأل أن كنت تشارك في القتال مع " ."رالثوا

فما كان من المعلم إال أن وقف على قدميه ليتقدم خطوتين ثم :توقف، وقال

.!"أليس عملي في التعليم جهادا من نوع آخر"

-٦٩-

:ومال على عبد القادر ليهمس في أذنه ."، أال يعني لك شيئاموقعي هنا"

وأعقب القول صمت داخله سقسقة العصافير التي اتخذت لها حفزه . الجوز الوحيدة في حوش المدرسةموقعا على أغصان شجرة

ثم بعد قليل . صوت العصافير ليقول شيئا، لكنه استمر في سكوته. هب عبد القادر واقفا وفي فمه كالم كشف عنه ارتعاش شفتيه

:وفاجأه األستاذ بالقول ."ألم يكن عندك شيء لتقوله لي؟"

غم من ابتدأ عبد القادر بشيء من همس غير مسموع، ولكنه بالر :تعثر كلماته صرح بالقول

الشكوى هللا، ولكن ليس لي غيرك من . عندي شكوى يا أستاذ" ."دون كل الناس أحادثه

وتدفق عبد القادر . وجاءه الجواب في أني استمع إليك فاطلبيحكي عن أمه التي قد تكون وحيدة يوم التحاقه بالثورة، فهو ال يريد

وقال إن غيابه . ولو كانت أختهألحد أن يعلم شيئا عن سبب غيابه :وقال. سيوقف أجره من الخان، فمن سيعين أمه على مواجهة الحياة

."أنا الوحيد الذي يدخل عليها بالطعام، ويؤمن لها احتياجاتها"اقترب منه فكانت للشاكي . وأشرقت ابتسامة في وجه األستاذ

:مفاجأة لسماع المعلم يقول

-٧٠-

إنهم يستجيبون عادة . أهل حلبال يمكن للخير أن يغيب عن " ."لندائنا في مساعدة المجاهدين وأهلهم

:وقال االستاذ يطمئن الخائف على أمهاال تظن يا أخ عبد القادر ان مقاومة االحتالل سيساندها "لن يعجزوا عن رعاية أفراد وجمعيات خيرية وآخرون . الناس

ي لن ليطمئن أخي على أمه فه. رجل من الثوارامرأة هي أم ".تبقى وحيدة من غير معين

. أهل حلب ال ينقصهم فعل الخيرنإوأضاف بالقول مسحها واحتضن األستاذ . لمعت عينا عبد القادر بالدموع

كان عاجزا عن التعليق بكلمة، ولم يستطع أن يعبر عن . بذراعيه :مرة أخرى قال األستاذ هامسا. امتنانه فكان الضم إلى صدره كافيا

."عيم هنانو أيضا حاضر أبدا إلعالة المحتاجين من رجالهالز" :وقال األستاذ مودعا وهو يرافق عبد القادر إلى باب المدرسة

."ال خوف عليهم وال هم يحزنون"وانطلق عبد القادر إلى الدار، طاويا الطريق بخطوات تشبه

:العسكر، بينما يردد متمتمافيها ابراهيم .. ر فيها ضوفيها عسك.. طيارة طارت في الجو" ."مركب ابنو قدامو.. هنانو

كانت قد انزاحت عن صدره صخرة عاش فترة تحت ثقلها، ولكن .االستاذ أحمد فتتها وأحالها إلى كومة ورد

-٧١-

ن دخل الدار، حتى هم على أمه التي كانت تكنس أرض إوما ن احتضنها ليقبل رأسها ويديها، فما كا. الحوش فلم تلحظ حضوره :منها إال أن هتفت في وجهه

ولن تندم يا . لن تعترض اآلن على البنت التي سأخطبها لك" ."ولدي

:فإذا به يمسك بها يحاول ان يراقصها ويقول ."وعندي لك ما هو أهم من العروس يا أمي"وهل هناك يا ولدي ما هو أهم من العروس الحلوة ابنة رئيس " ."مخفر

وى ابتسامة غامضة وهو يتساءل فجأة عن إال أن االبن لم يملك س .طعام الغداء ألنه سيموت من جوع

-٥-

أخيرا وبعد انتظار حسبه دهرا، تلقى اإلشارة من . جاءت الدعوةوكان يقول مساء . األستاذ في همسه يبارك توجهه إلى جبل الزاوية

:في المدرسةدر أنت يا عبد القا. شرف الجهاد من حقك. ها قد صبرت ونلت"

."من رجال الثورة، فلم يستطع أن يتمالك نفسه حتى "منذ الغد" فقيل له" متى؟"تساءل

.احتضن األستاذ فال يقدر على منع دموع تجري من عينيه

-٧٢-

وها هي اللحظة التي . غادر عبد القادر وهو يمتلئ بالنشوةومن حارة المدرسة انتقل . حسمت القلق، فكانت تشكل له حياة جديدة

كن الحاج تساءل عن لقي الترحيب ول. الخان في دارهإلى صاحبن كان من أمر طارئ أو مكروه حدث، فطمأنه عبد إسبب الزيارة و

أيام في سفر إلى أقاربه في الريف، فلم يلق ةالقادر بأنه سيغيب بضع .أي استفسار عن سفره، بل تمنى صاحب الخان له السالمة

، فتساءل عن الحاج وهو يرى إلى سهولة موافقةتملكه العجب .سرها

أخبر أمه بالمهمة التي كلفه الخان بها . وطفق عائدا إلى دارهلإلشراف على توريد البضاعة إليه، فما كان من العجوز اال أن دعت له بالتوفيق وهي ترفع ذراعيها إلى السماء تخاطبها كي يصبح ابنها

كانا، بل خانا شريكا في الخان لما يبذله من جهد، أو أنه سيملك دولم تتوقف عن مخاطبة السماء في أن يوفق ابنها . يصبح فيه سيدا

.في الحصول على ابنة حاللوكان يتقلب على فراش ترقب الفجر . ليلة مرت بين نوم ويقظة

واذا ابتدأ الضوء يخرج من . والتوق إلى صباح ينطلق فيه إلى الجهادش، وخرج إلى الحوش جوف العتمة، تسلل عبد القادر من الفرا

وفي طريقه . قام بالصالة ليتوجه بالدعاء للثورة ورجالها. للوضوءإلى الكاراج مشى متباهيا تدق أقدامه أحجار الطرقات السود، وكانت

. خطواته تالمس الزفت في الشوارع العريضة

-٧٣-

الكاراج مرة أخرى، ولكن الباص الذي لم يتحرك بعد تمنى له أن الهواء، أن يحلق ويعبر الفضاء بين حلب وبلدة يقفز طائرا في

الباص يربض على األرض، فال ينقصه سوى قلة من . الجهادوكان مغمضا فإذا . الركاب، فاستعجله عبد القادر في سره فلم يتحرك

واستمر أبو . اكتمل العدد هدر المحرك ليتحرر الباص من سكونه بخياله في شعاب حلب الذي أسكره لقبه في إغماض عينيه سارحا

ويبدو أن . التالل التي يترصد الرجال برصاصها جنود االحتاللحرمانه من نوم هانئ في ليلته دفعه إلى استسالم جسده إلغفاء

.عميق، فسبح في بحيرة الحلموسمع أن يرفع . قال اسمي أبو حلب. قيل له ارفع رأسك أنت

أطل عليه من رأسه مرة أخرى، ففعل ليرى بأم عينيه رجال ملثماصخرة عالية وهو يلوح بذراعه لرجال وقفوا على تل مقابل، وكانوا يرفعون في الهواء بنادقهم يردون على التحية، ويتساءل عبد القادر

" أنا ابراهيم هنانو" عن الملثم من يكون، فجاءه الصوت معلنا بالفملزعيم، أريد أن أرى ا" وقال" وأنا أبو حلب" فارتفع صوته في الهواء

، فتجمع همس في الفضاء لتسمعه التالل وأعماق "أتبارك به وأباركهأنت تراه بقلبك، وأنت تشعر " الشعاب وما لبث أن تحول إلى هتاف

".به كما يشعر بكانزلقت دواليبه على اسفلت الطريق لتتمكن . وتوقف الباص فجأة

النائم وهكذا حدثت الهزة منتزعة. المكابح من لجمها فما عاد يتحرك

-٧٤-

ضربت رؤوس . من غفوته الحالمة ليواجه مع الركاب فزعاصعد جنود . بمقدمه الكراسي وسقط بعضهم على أرض الباص

فرنسيون ببنادقهم إلى الداخل قادمين كاألشباح من أسفلت هتف جندي بلغة عربية ركيكة أن يلزم كل من الركاب . الطريق

.مقعده حتى ينتهي التفتيشنا ال يأتي أحدهم بحركة أو صمت، فكأنما الركاب لبث الجميع ساك

وكان عبد القادر يحمد اهللا . اعتادوا على هجوم الجنود على سفرهمعلى انتقاله دون سالح وإال تعرض لخطر تفتيشه، وكان مستعدا

فتش الكل، وبحث في السالل واالكياس، . وهو ال يبالى بالخطر، فكانت البراءة ومن بعدها وأنزلت من الرفوف الحقائب واللفائف

.انصراف الجنود بعد يأسبعد قليل تساءل راكب في الصفوف . ويمضي الباص في طريقه

األولى إن كانت هناك إخبارية كاذبة، وهتف آخر بقوله إنه من الجنون حمل سالح في الطريق المؤدية إلى جبل الزاوية أو بلدة

:ي سرهوأثار القول عبد القادر الذي ردد ف. أريحا ."ال بد أن دعاء الوالدة يرافقك في حياتك"

واذا ما حط الباص رحاله في ساحة البلدة، ترجل المتلهف للقتال ودون دليل . وقد تملكته المشاعر بأنه وضع أقدامه على أرض الجهاد

توجه إلى الدار مسرعا وهو يستعرض صور تدريبه على تصويب مشى في الحارات . الذي علمهالنار فكان بشوق إلى رؤية أبو محمد

-٧٥-

واستقبله صاحب الدار، . كواحد من أهلها، فإذا مر بعابر حياه بالسالموقاده إلى الداخل فكان آخرون لم يعرف أحدا منهم من قبل، لكنهم

كان اللقب قد ألصق به فزاد فخرا به، ). أبو حلب(رحبوا به على أنه . كمن كانوا يعرفونه من قبلبينما الرجال الثالثة يمازحونه باعتزاز

وبعد صالة العصر تسلل الثوار األربعة من المقر خرجوا منفردين الواحد تلو اآلخر، ليجتمع الشمل عند نقطة في واحد من

وكانت بنادقهم ومسدساتهم تخفيها العباءات التي التفوا بها، . التاللمقر القوات . فكشف رئيسهم عن الهدف الذي جاءوا من أجله

لفرنسية الذي كان علمها يرفرف عليه، بات مراقبا بالمنظار المكبر ايرصد الحرس والغرف التي تجمع فيها الجنود التي جعل يصفها

.كان الرجال بانتظار المساء ليحدث الهجوم. الرئيس لمجموعتهالشمس تغيب وراء األفق، يبدأ ظالم شفيف بالزحف على فضاء

بتدأ الرجال يتقدمون في قوس ما لبث ا. التالل، فكانت ساعة الصفريقتربون من المقر الفرنسي وقد أصبحوا مثل . أن اتسع ليباعد بينهم

رمى رجل . حضن يريد أن يطبق على المخفر برغبة القضاء عليهوانهال . بقنبلته اليدوية فلحق آخر برمانة فجرت جانبا من جدار

. جنود في الفخالثوار بالرصاص، فكان عنصر المباغتة ما أوقع السقط البعض وسعى اآلخرون إلى أسلحتهم، وما أن تمكن أحدهم من استخدام الرشاش ليطلق الرصاص، ابتدأ الثوار بالتراجع فكان

واستمر تحصن الجنود داخل . انسحابهم مفاجئا كما حدث في الهجوم

-٧٦-

أصبح الثوار من . البناء ليتيح للثوار فرصة العودة من حيث أتواالتل المقابل للمخفر، آنذاك ابتدأ الجنود بالخروج إلى جديد على

.العراء وهم يصوبون النار على أشباح ال وجود لها إال في مخيلتهمالتقطوا أنفاسهم بينما . استلقى الرجال األربعة خلف ساتر صخري

يشتعل الرصاص عن بعد، فكان الرئيس يعلن في ارتمائه على سطح : السماءالتل وعيناه تتعلقان بظلمة

كانت المعركة من أنجح ما تم في . اعتقد يا رجال أننا وفقنا" ."هجوم على مقر لهم

وتوقف إطالق النار، ويبدو أن الجنود قد دخلوا المخفر إلحصاء . قتالهم وجرحاهم وما لحق بالمكان من خراب

كان المركز الفرنسي في موقعه على أرض منبسطة ما بين احتياجات الدوريات من وقود وذخيرة، فأغلب التالل قد أحدث لتأمين

وقال . الجنود من إداريين لم يعتادوا على المفاجآت من ثوار الجبلرئيس األربعة أن الليلة تباركنا، فلم يكن هناك ما يكشف موقفنا أو

وعلق على هجومهم على المركز بانه كان تأديبا للقوة . تحركنا :وضحك يقول). منا عليهاعل(الفرنسية مشيرا إليها بأننا

."كانت حركة تأديب ألهم مركز لتموين قواتهم المعتدية" :وعلق آخر من الرجال بفخر

."خرجنا عليهم كشياطين الليل لنصيب جنودهم بالجنون"

-٧٧-

:وسمع عبد القادر يقول هامسا ."تمنيت لو أننا عرفنا عدد جنودهم"

:فما كان من القائد أن قال وهو يداعب بندقيتهن كان منهم من لقي مصرعه، إلم تكن أهدافنا في قتل الجنود، و"

أقول لكم إن التأكيد . بل كانت في إثارة الذعر في صفوف االحتالل ."على وجود ثورتنا مازال مستمرا، وهو أفضل ما لدينا

كان قد مضى على اختباء الرجال على سطح التل أكثر من ادوا إلى مقرهم، انطلقوا في ساعة، فإذا تأكد لهم أن الجنود قد ع

وفي غضون ساعة من الزمن ضمتهم الدار إليها من . طريق العودة :وكان سؤال صاحب الدار للعائدين من معركتهم. جديد .!"ترانا وفقنا في المهمة وتحقق الهدف"

المهمة قد نإواستوى المحارب الذي قاد الهجوم ليهتف بالقول لهدف هو إقالق االحتالل فالثورة انأنجحت، وأوضحت كلماته

وتساءل صاحب . مستمرة حتى يخرج آخر جندي فرنسي من بالدنا :الدار فجأة

."ما عدد الضحايا المقدر في صفوف العدو؟" :ولم يكن هناك من أحد يملك الجواب، ولكن القائد قال

."سنعرف غدا ما يعلنه العدو عن ضحاياه" :واستكمل قوله هاتفا بحماسة

-٧٨-

."عر العدو من ثورتنا هو األهم، وليس في قتالهذ" :وتدخل عبد القادر في محاولة منه لتطويق خالف محتمل، قال

لقد رأيت . لم أعرف من قبل شجاعة كتلك التي لرجال المجموعة"بأم العين ما فعلته الرمانات التي سقطت كالشهب على مقر العدو،

."وكان الرجال من فعل ذلكمنة انني تعلمت وآمنت بأن االحتالل الفرنسي ال وقال بحماسة مؤ .مكان له في بالدنا

ولم يكن كالم عبد القادر ما منع الرجال من خالف فحسب، بل وهتف صاحب الدار بالدعوة إلى . جعل الجميع يحيون أبو حلب

اجتمعوا على . عشاء ما لبث الجميع أن استجابوا له وهم يهللونوفي الصباح الباكر كان . شره قبيلة جائعةصينية واحدة وهم يأكلون ب

عبد القادر يستعد للرحيل حامال معه إلى مدينته موعدا للعودة إلى .عملية جديدة

-٦-

تكان. اشتكى الحاج صاحب الخان من تكرار غياب عبد القادرال تمضي أسابيع قليلة حتى يطلب اإلذن في الغياب ألمور تتعلق

:ن الحاج أن هتف غاضبابأقارب له في الريف، فكالم أسمع من والدك . من أين لك كل هؤالء األقارب يا عبد القادر"

."شيئا عنهم

-٧٩-

ويعلل عبد القادر بحجة مرضهم وأنهم يطلبون المساعدة، إال أن صاحب الخان هب واقفا بغضب بعد أشهر من نفاد صبره، وقال

:يصرخ في وجههاسمعني . لخان منذ اليوملن أسمح لك بأي غياب عن عملك في ا"

."جيدا فأنت لن تغيب بعد اليومكان هادئا وقد صمم على ذلك منذ . وعاد الحاج ليحتل مقعده

:اللحظة، وقالهذا شأنك يا ولدي، ولكن . أنت تريد أن تترك العمل في الخان"

."تذكر انك معي منذ صباك :وتطلع إلى النافذة وكأنه يحادث نفسه

."حياتك ملك لك. لتذهب حيث تريد. ريدحسنا فلك ما ت"لم . فوجئ عبد القادر بقرار الحاج، ليحسب أن األرض تميد به

كان الحاج بمثابة والد له، وها هو . يستطع أن يتصور نهاية له كتلككان يريد الحاج أن يلتفت إليه، لكنه لم يفعل، . األب يتخلى عنه

الخان التي كان يتحرك فخرج من الغرفة ليستقبله الضياع في ساحة .فيها بحرية إال أنها أطبقت عليه

كان . مشى بخطوات متثاقلة وهو يزحف بنعليه على البالط القديمعمال الخان يلقون عليه السالم ولكنه بدا ذاهال عن كل شيء فلم

تكوم عبد القادر على نفسه جالسا على أكياس . يعر اهتماما ألحد

-٨٠-

ا قاله الحاج الذي بلغ أسماعه كحجارة كان يفكر في كل م. العدسأتكون أزمة عيش التي ستبني سدا في طريقه، أم أنها . اخترقت أذنيه

. هوة قد تباعد بينه وبين المشاركة في النضال ضد العدو المحتلوماذا عن أمه التي ال معين لها سواه، ومن طرف آخر االنخراط في

قلبه وينهش أحشاءه، يفكر ويأكل القلق. ثورة هنانو التي ساهم فيها؟ويحفر في أعماق مشكلته فال يجد سوى اللجوء إلى األستاذ فيطرح

الرجل يسمع نداءه . همه أمامه، إال أن صوت الحاج نادى عليه . استجاب فأسرع. فاستقام جسده

أصلح هندامه وكانت نقرات أصابعه على الباب كخربشة خجول، تقدم خطوتين ممتثال لطلب . الفرحفإذا أذن له بالدخول لمعت عيناه ب

وكان صاحب الخان يجلس هادئا بوقاره . الحاج بالتقدم منه، ففعلالذي عرف به، فأشار إلى عبد القادر بالجلوس ليلبي طائعا ولكن

:قال الحاج. بفرح يخفيهاعتدت . ما سرك يا ولدي، وليكن كتابك مفتوحا ألرى ما فيه"

."منك الصدق، وأتوقع ذلكولكن عبد القادر لزم الصمت خوف . كان عليه البوح بسره؟أ

:قال الحاج. اإلفالت من العهد الذي قطعه على نفسهأصدقني يا ولدي حكايتك مع . لم يكن بيني وبينك سر تخفيه عني"

."الغياب

-٨١-

:وهب الحاج واقفا يسنده عكازه، وهمس راجيا ."لدكألم يكن والدك رحمه اهللا صديق عمر، وأنا مثل وا"

:فرفع عبد القادر رأسه تلمع في عينيه رقائق دمع، وقال متوسال ."ارحمني يا حاج فأنت لي األب من بعد المرحوم"

وتقدم الحاج نحو المقعد المقابل الذي جلس عليه عبد القادر وهو :يقول ."إذا كنت تخفي عني مشكلة ما، فما من مشكلة اال ولها حل"

:عدا أمامهوتساءل فجأة وهو يحتل مقأنت رجل تحبه . أهناك امرأة؟ هيا وال تخف أي شيء عني"

."النساء :وأعقب الحاج بالقول الذي اتسم بالحزم

بل القصد بأني أخطبها لك، واهللا على . ال بأس في امرأة صالحة" ."ما أقول شهيد

ويتساءل عبد القادر في سره عن طيبة هذا الرجل الذي ذهب :تف قائالبعيدا في أبوته، وه

."لم يكن األمر هكذا. لم تكن هناك امرأة، صالحة أو غيرها"كان يفكر ويقلب األمر على وجوهه، . وخيم الصمت على الحاج

:وما لبث ان تجهم في قولهإذا لم تكن المرأة ما شغلك، فما هو سبب غيابك المتكرر عن "

."الخان؟٦ م –السيرة احللبية

-٨٢-

:واقفا ينفجر بالجواب وقد شدت عروقه ."م انه لم يكن هناك سوى السر الذي ائتمنت عليه فال أبوح بهأقس" ."وما هو هذا السر الذي أقسمت على إخفائه"

كان هو سؤال الحاج الذي لم يتزحزح من مكانه، فما لبث عبد أخرج . القادر اال أن توجه الى الخزانة الخشبية القائمة خلف المكتب

وكشف . لى سواد خفيفمنها لفة قماش حريري مال لونه األخضر إوضعه أمام صاحب الخان وهتف . عن محتواها، فكان القرآن الكريم

:راجيا ان يضع كفه عليه ويقسم وقال ."هذا كتاب اهللا، والقرآن بيني وبينك فأقسم عليه"

وتحول . بدت الدهشة على وجه الحاج وقد أخذته مباغتة الطلب :إلى حيرة تملكته وهو يقول

."بد القادر؟ أحذرك يا ولدي فالقسم خطيرعالم أقسم يا ع" ."أقسم يا حاج أن تحفظ سري. أن تحفظ السر"

:فظهر الغضب على وجه صاحب الخان، وهتف ."ماذا تريد مني يا رجل؟! السر.. السر"

:قال عبد القادر وهو يعود إلى هدوئهال أظن أنك ال تؤمن به . ألست مع الزعيم ابراهيم هنانو"

."وبثورته :ذاك عاد وجه الحاج إلى سماحته وهو يردد بصوت خفيضآن

-٨٣-

."ما شأن الزعيم بكل هذا؟" :واعتدل في جلسته وهو يضم عصاه بين ساقيه، قال

."الزعيم فخر لكل البالد. ابراهيم هنانو يا ولدي تاج رأسي"وانتفض عبد القادر في وقفته ليلتزم وضع جندي في صفه، ليقول

:مندفعا ."وية أنا مع رجال الثورة في جبل الزا.هالتحقت برجال"

. وقرأ أثر قوله على وجه الحاج، حاول أن يستطلع فعله عنده :وأضاف قائال

كان غيابي عن الخان بسبب التحاقي بالثورة، أؤدي فيها واجبي " ."وأعود

:ومرة أخرى تقدم من الحاج بالقرآن الكريم وهو يقول ."ظ سرياقسم يا حاج، فأنت والدي، أن تحف"

أخذه الذهول، لكن الحاج ما لبث أن وضع كفه على الكتاب مقسما .بأال يبوح بالسر ألي مخلوق

كانت معركة القسم قد دفعت عبد القادر إلى االسترخاء على بدا االثنان . المقعد، بينما الحاج قد أغمض ليعود برأسه إلى خلف

ق الحاج الجالس بعد قليل رم. وكأنهما خرجا من معركة انتصرا فيهاأمامه فكانت عيناه تفحصان عبد القادر، وهو يحاول أن يقرأ في وجهه أثر القسم عليه، ليحس أن الشاب صادق في سره، وأنه تسبب

وكان عبد القادر مازال يقلقه عذاب الكشف عن سره . في طمأنينة له

-٨٤-

وفجأة استوى . الذي احتفظ به في صدره فلم يسبق له أن كشف عنهفي جلسته وانتصب واقفا يسنده عكازه، ليميل على عبد القادر الحاج

:فاحتضنه، وطبع على جبينه قبلة وهو يقول ."هل تغفر لي؟. اغفر لي يا ولدي لومي لك على الغياب المتكرر"

:وقال عائدا إلى المقعد مؤنبا نفسهلن أسامح نفسي على الشك، فلم تكن هناك امرأة وأنت تجاهد مع "

."لجبلثوار ا :لحظات صمت مر بها االثنان، لينطلق الحاج بعدها بالقول

أجرك من حقك في غيابك . اسمع يا عبد القادر ما سأقوله لك" ."وأمك ستكون في عنقي، فال تحمل همها يا ولدي. وحضورك

كان ما يزال يحمل بداخله ذلك . مع بداية المساء خرج من الخانمن ثورة الجبل، والذي كشف عن التأثر العميق بموقف الحاج منه ووقد شغل في طريقه بأمر شكل . حقيقة ما يكنه للزعيم إبراهيم هنانو

هل يعلم األستاذ بأنه أفشى السر لصاحب الخان، أم . له قضية أقلقتهإال أنه وجد نفسه دون قصد عند . أنه يبقي األمر بينه وبين الحاج

وإذا ما فاجأه أحدهم . يبالمقهى دخله فكان الرفاق يستقبلونه بالترح :بالسؤال عن سر شروده لحقه بالقول

."أنت يا صاحبي غبت كثيرا عنا. هنيئا لها، للتي تشغل بالك" :وعلق آخر ساخرا وهو يراقب الماء بفقاقيعه في نارجيلته

-٨٥-

."ماما وترجمتها والدتك، هل تحتمل ضرة سرية لها تنافسها؟"ي من التعليقين، وقال كمن يحدث اال ان عبد القادر لم يأبه أل

:نفسه ."كتب على اإلنسان ما سجل في أوراق القدر"

:فقال آخر على القول ممازحا ."حرمانك من الزواج على سنة اهللا ورسوله، كتب عليك"

فلم يملك عبد القادر من كل هذا سوى ابتسامة رسمت على :وجهه، وقد رافقت كالمه

." اهللاما كتب علينا هو من إرادة"ولم يشرب الشاي الذي أحضره صبي المقهى، فهب واقفا ليرمي بالتحية على مجموع الرفاق، وخرج والعيون تالحقه

.بالغرابة من تصرفه. وما أن دخل الدار حتى استقبلته أمه بخبر من عثر على النصيب

أعلمته أن صبية ال يحتمل القمر جمالها، فما كان من عبد القادر اال :ف متعباان هت ."يا أم عبده، ارحميني"

.فأصيبت العجوز بالذهول بينما هو ينسرق داخال إلى غرفته

-٨٦-

-٧-

وكان هجوم على . عاد من قتاله مع الثوار حامال معه آثار جراحقافلة الجنود الفرنسيين في مرورها بواد مفاجأة للطرفين، مما أسفر

لخروج بمدافعهم عن مقتل جندي فما كان من أهل القافلة إال اورشاشاتهم التي أمطروا بها الثوار، فكان أن تفرقوا كل ينجو بنفسه، مشتتين من هول النيران التي خرجت عليهم من قلب الشاحنات

لم يحسب الرجال لتلك القافلة قوتها المستترة ظنا منهم . وكأنها جهنمالنجاة وهكذا شتتهم الذعر فانسحب الثوار يطلبون . انها فريسة سهلة .في شعاب التالل

وكان قدر عبد القادر في هروبه أن تزل قدمه ليقع في حفرة وبقي فترة مغميا عليه فتح عينيه . تناثرت داخلها صخور صغيرة

إال أنه لم يستنجد بأحد من الثوار، وظل أسير . بعدها ليتلمس جراحه .صمته يكبح آالمه بالصبر

اعة أو أكثر، ولكنها أخيرا مر على جنون النيران الفرنسية سوكان . ذهبت إلى هدوء فمضت في طريقها دون أن يترجل أحد منها

أن تجمع رجال الجهاد بعد تفرق، فكان السؤال واحدا هو أين أبو وانتشرت الجماعة في الظلمة تفتش الشعاب . حلب، فابتدأ البحث عنه

التعب الرجال واذا ما نال . جدهونتوءات الصخور، العتقادها بانها ستقاوموه، عثر على عبد القادر مستلقيا في حفرة يئن بصمت يخشى و

-٨٧-

نقل المصاب على ظهر واحد من الرجال، . لفت أسماع العدو إليهوما أن وصل الدار حتى استدعي . وما لبث أن تناوب عليه اآلخرون

الطبيب للكشف على عبد القادر، فضمدت جراحه ورضوض قدمه، ولم ينقطع عنه الرجال . ن يبقى في الفراش أياماليطمئن شريطة ا

وقد وجد عبد . يواسونه ويرددون الحكايات عن معارك قديمة للثوارالقادر تلك الجماعة تحيطه بالمحبة والعناية ما كان يفوق رفاق المقهى، إال أن الحاج كان مستثنى، فقد كانت أبوته تفيض عن الذي

.أنجبه من صلبهتشفاء التي أمضاها في دار الثورة كما كان يحلو له وفي أيام االس

ان يذكرها دوما، وقعت على مسامع عبد القادر أخبار مقاومة الثوار للفرنسيين في أكثر المناطق السورية بدءا من جبل العرب التي قاد رجالها سلطان باشا األطرش، مرورا بغوطة دمشق، وجبال ومدن

وهكذا اتسعت الرؤية . لعلي رمزا لهاالساحل التي كان الشيخ صالح اعنده فشملت مساحة الوطن ليتأكد له حسن اختياره بااللتحاق بثوار جبل الزاوية، فتحولت جراحه إلى أوسمة علقت على وجوده متمنيا

.ان تتوج باستشهادهكان الوقت ظهرا عندما دخل عبد القادر داره لتستقبله األم بالعناق

. ن الدار قد طال مما تسبب بالقلق والخوف عندهاالمعاتب، فغيابه عواكتشفت شيئا من جراحه والحظت التواء قدمه، فصحبته فزعة إلى

التصقت به وهي تمسح على رأسه . دكة خشبية في أرض الحوش

-٨٨-

لتكشف الكوفية عن تلك الجراح، فصرخت من فزع تسأل عن ت كان. اللصائق تغطي جوانب من شعره الذي بات كثوب مرقع

:تتلمس رأسه وقد استسلم لها لتقول ."من فعل بك هذا يا ولدي؟"

:فلم يعلق على سؤالها بكلمة، فعادت تلح باالستفسار والجراح تغطي يفعل هذا في غيابك الطويل فعدت إلمن "

."رأسكأمسك عبد القادر بذراع أمه ليقودها من أرض الحوش إلى

فكاره، فاخترع قوال جلسا على األريكة وهو يستجمع أ. غرفته :همس به

. اعترض قطيع الغنم السيارة التي نقلته إلى حدود مدينة الحسكة" ."انقلبت السيارة، وهذا كل ما حدث يا أمي

:فعادت العجوز إلى تفحص الجراح، لتهتف بخوف نبع من قلبها ."أسفارك ال تعجبني يا ولدي"

ال ينزلق إلى كان عبد القادر في تلك اللحظات يجاهد النفس كي صراع . هوة االعتراف بالحقيقة خوفا على أمه من وقع الخبر عليها

بداخله دام دقائق، لكنه انتهى بقيام العجوز واقفة وهي تعلن عن ذهابها إلى المطبخ إلعداد الطعام لحبيبها، واذا ما ابتعدت خطوات

:هتف االبن

-٨٩-

."اشتقت إليك يا أمي"ان السر المتعلق بثورة جبل وبدا األمر محسوما لصالح كتم .الزاوية وما لحقها من جراح عبد القادر

فرح صاحب . عصرا توجه في الطريق إلى الخان ليقابل الحاجالخان بالغائب ليحتضنه بترحيب أبوي وهو يقول ان قلقنا عليك يا

وإذا ما كشف العائد عن جراحه، انتفض . ولدي فقد طال غيابك :تلك نفسه من غضب، ويصرخالحاج مذعورا وهو ال يم

."أذاك الجنود، لعن اهللا الفرنسيين"وبينما يتفحص جراح عبد القادر هتف بإعجاب ليقول إن ما أصابه يحتسب شهادة على الرضا بما كتب لنا، وسيظل عالمة على

وفي جلوسه على المقعد خلف مكتبه . اإليمان القوي بالجهاد كفرضووجد عبد القادر . ما حدث لهطلب راجيا ان يقص عليه تفاصيل

نفسه مندفعا يحدثه بما جرى له دون ان يشير بكلمة إلى الموقع، آنذاك لم . ودون أن يدل على مقر اقامته التي عولجت إصابته فيها

يتوقف الحاج عن الدعاء للبطل ابراهيم هنانو ورجاله من المجاهدين، يسمح سنه فهلل وكبر، وتحسر على نفسه ألنه بات عجوزا ال

وبلغ التأثر بعبد القادر حدا دفعه إلى . بالمشاركة بالقتال مع الثواراالقتراب من الحاج وطبع قبلة على يده فيما يهمس بأن أمثاله قلة في

:البلد، ولكن الحاج انتفض غاضبا ليقول

-٩٠-

هل تظن أهل حلب في حبهم وتقديرهم للزعيم يختلفون عن " ."رجال الثورة؟

القادر خارجا من الخان وقد حمل في أعماقه الفخر ومضى عبد جعل يردد هامسا بأن ما حصل عليه من نعمة الجهاد . بالحاج وبنفسه

وقادته . ن ينالهأوتعاطف الحاج، هو أقصى ما يمكن لشاب مثله وهناك وجد المكان محتشدا بناسه . خطواته دون إرادة إلى المقهى

صدر المكان يقرأ في سيرة عنترة وهم ينصتون إلى الحكواتي الذي توبدا أن الحكواتي يدير معركة بتمثيله . متفاعال معها بجسده ويديه

لفصل من السيرة، فاتخذ عبد القادر كرسيا له عند المدخل، وكان بسمعه ووجدانه يتابع شخصية عنترة ليسقطها على إبراهيم هنانو،

في الزمن فها هي سيرة البطل القديم تظهر في البطل الحيوكان عبد القادر يتمايل طربا من آهات رجال المقهى . المعاصر

وتهليلهم ألوصاف الحكواتي للمقاتل األسمر التاريخي، فيتخيل هنانو .مشاركا مع الثوار في معاركهم

وإذا ما انتهى الحكواتي ليهم باالنصراف، هب عبد القادر واقفا . ستدعى إلى طاولتهم مرحبين بهليغادر أيضا، فتنبه رفاقه إليه لي

وابتدأ تساؤل الرفاق عن الغياب مرددين أسطوانة المرأة أو النساء التي حجبت عنهم رفيق العمر، فما كان منه إال الغضب مفاجئا

:الرفاق بصراخهأسرار . أتنسون بطولة عنترة العبسي وتعودون إلى أتفه األمور"

."عاطفية وكالم فارغ

-٩١-

إن كانت سيرة عنترة تشبه ما يجري في البلد من وانطلق متسائالبطوالت، فما كان من وجوه أهل الطاولة إال أن رسمت عالمات التعجب وتبادل النظرات فيما بينهم وهم ال يعلقون بكلمة، وكأن . الرفاق فوجئوا بسلوك صاحبهم الذي لم يشهدوا له مثيال من قبل

حديث عن الثوار، فكان وأحس عبد القادر بخوف من انزالق إلىكأس الشاي الذي لم يمسه ليقف مغادرا تودعه أنظار الرفاق الذين ما

.عادوا يفهمون شيئا

-٨-

الفصول تتعاقب، واثنان منها لم يكن لعبد القادر فيها نصيب من كان حانقا ويتساءل عن السبب، . االلتحاق بالثورة سوى مرة واحدة

وم يستفسره عن سبب إهماله، والحزن واذا ما قال لألستاذ ذات ي :يعتصره، فجاءه جواب محير

الجماعة توفرك أليام أخرى، ومن يدري قد تمتد الثورة إلى حلب "رجل مثلك يا . آنذاك سيكون لك دور فيها، بل أفضل األدوار. نفسها

."عبد القادر يمكن الوثوق به. صدقوهوفوجئ الشعب السوري بالنبأ الذي هزهم فلم يكونوا لي

من كان يتصور وقوع . لكن الحقيقة كانت في القبض على الزعيمابراهيم هنانو في األسر؟، وهكذا قدم البطل إلى المحكمة العسكرية

-٩٢-

الفرنسية فكانت مدينة حلب ساحة لها، وقد أتيح ألهلها ومنهم عبد . القادر فرصة تكحيل أعينهم برؤية الزعيم ولو كان وراء القضبان

لثورة شامخا وهو يرد التهم عنه، بل إنه جعل يتهم وقف قائد اكان أفضل المحامين . الفرنسيين فال يأبه ألحكام من احتلوا بالده .يترافع عنه، فما كان من سبيل اال اإلفراج عنه

ولم تكن لعبد القادر فرصة في رؤية هنانو بعد انتصاره على حرمان عينيه أحكام القضاة ليخرج حرا، وبهذا حمل الحسرة على

إال أنه مع الحسرة . من رؤيته، والفرح بتحرره من قيود السجنوالفرح بات ينتظر مقاومة االحتالل من أهل حلب ، والتي اقتصرت على قيام التظاهرات التي أشعلها طالب المدارس وأفراد من فئات

كانت تنادي صارخة بخروج االستعمار، فيتصدى لها . المجتمعص والعصي، وكثيرا ما كانت البنادق تطلق في الجنود بالرصا

.الهواء لتفرق الجموع لتعود إلى شوارع أخرى وهي تهتف بالغضبلم يشارك عبد القادر في أي من التظاهر مع اآلخرين، محافظا على االمساك عنه بانتظار اليوم الذي تشتعل الثورة في حلب ليكون

ة بالكشف عن عالقته بمجاهدي ولهذا لم يغامر مر. واحدا من مقاتليهاجبل الزاوية، ومن طرف آخر لجم الرغبة في المشاركة بالتظاهر

.احتجاجا على االحتالل. وذات يوم خرج كعادته من الدار ليقصد مقر عمله في الخان

وألقل من ساعة في االنهماك باستالم البضائع، دخل الساحة صبي

-٩٣-

وجده فاستدعاه على . رمن جيران البيت وهو يبحث عن عبد القاديتابع الصبي راكضا فإذا ما . عجل ليعود إلى الدار فأمه بحاجة إليه

كادت قدماه ال . اقترب من الزقاق زادت خشيته من سوء في بيتهتحمالنه وهو يرى جارة تخرج مسرعة من غرفة أمه، فأحس

كانت األم في فراشها تتلوى . بالخطر، لكنه تماسك وهو يجر خطواتهألم في الصدر، فإذا ما أمسك بذراعيها مشاهدا العرق الذي تصبب من

من وجهها، انفلت عائدا إلى الحوش طالبا من الصبي أن يستدعي وبعد زمن قضاه عبد القادر بين فراش أمه وباب الدار، قدم . الطبيب

. ممرض من المستوصف، لكن أمه كانت قد أسلمت الروحن معاناة األلم، واالبن خاشع ال العجوز هادئة وهي قد توقفت ع

وفجأة انفجرت الدموع في عينيه وهو يستحلفها باهللا أن . يعرف البكاءهزها برفق وهو يناديها، فكانت شاخصة النظرات . ترد عليه بكلمة

يصرخ بائسا بنداء غص به حلقه وبعد . التي ال يعرف لها معنىرفعه عن العجوز زمن لم يكن له حساب عنده، أمسك الممرض به ي

:الراحلة، وهو يقولالبقاء لله وحده، وال حول وال قوة اال باهللا، كلنا لها يا أخ عبد " ."القادر

وأكمل بقوله إن إكرام الميت يكون في دفنه، فاندفع االبن إلى :الحوش ليكمل نحيبه وهو يردد

"أيمكن ألمك أن تغادر دارها وتترك حبيبها؟"

-٩٤-

:يقولولحق به الممرض وهو ."رسولنا الكريم مات، ومن قبله خلت الرسل. الناس تموت يا أخ"

آنذاك جعل عبد القادر يدور في الحوش، وهو يقول كطفل ."مستسلم

."أسلمت أمري إلى اهللا، ولتكن جنة الخلد مثواك يا أمي"تصدر الحاج موكب المشيعين إلى المقبرة القريبة من الحي، وقد

عمال الخان حاملين النعش، ليتبادلوا رفعه مشى رجال من الحي مع وكان صاحب الخان يمسك بذراع عبد القادر وهو . على األكتاف

يدب بعصاه فال ينفك عن الترحم على األم التي أنجبت رجال هو من ومساء كان العزاء في الدار ينصت فيه . أقرب الناس إلى قلبه

ن بالتناوب وقد الحضور إلى تالوة من القرآن قرأه شيخان ضريرااستدعاهما الحاج لحالوة صوتها، بينما دار بالقهوة المرة على

.الخاشعين شاب من عمال الخانإذا يعني أن تبقى وحيدا؟ وكان عبد القادر ال يتصور أن ال تكون

وبالرغم من أن شقيقتيه مع الزوجين أقاموا ليلتين . أمه في الداروكان . روا بعد ذلك ليواجه وحدتهيواسونه في وحشته، إال أنهم غاد

قد قضى ليله حتى الصباح جالسا تحت أغصان شجرة النارنج التي كانت أمه قد زرعتها في أيام زواجها األولى، فمضت الساعات يستذكر طرائف أمه في اإللحاح على زواجه، وال يلبث أن يبتسم في

.لحظات الحزن التي كانت تتناوبه

-٩٥-

أمه، حتى حضر األستاذ في الصباح وما هي أيام على وفاة وفوجئ عبد القادر . الباكر، والذي لم يدخل الدار إال في ليلة العزاء

:به دامع العينين وهو يختنق بالكلمات ."مات إبراهيم هنانو يا صاحبي. الزعيم مات"

وقد عانى عبد القادر فهم ما قيل له، وطلب من األستاذ الذي مسامعه ما جاء به، فما كان من الرجل توقف عند المدخل ليعيد على

:المفجوع إال االستناد إلى الحائط وهو يقول ."أقول لك يا رجل انه مات. إبراهيم هنانو مات. ضاع منا"

جسد ساكن . وكأن الزمن توقف، فجمدت خلجات عبد القادروكان بالط الحوش يميد تحت قدميه كرمال . يبحث عن روح

:جريحوصرخ فجأة كوحش . متحركة ."يا ضياع البلد برحيلك يا أحب الناس"

وكأنما عبد القادر الذي بات له فقيدان في أسبوع، أحس بأن عمره وإذا ما مرت الدقائق عليه أدرك أن الحزن مزق . قد ضاع منه

.صدره لغياب الزعيممشت الجماهير وراء . خرجت حلب في جنازة إبراهيم هنانو

ع، فكانت تشق الطريق ببطء ولكن النعش المحمول على عربة مدفبالمهابة الالئقة، وإذا ما كانت تمر في الشوارع قابلها الناس المجتمعون على األرصفة وشرفات المنازل بالوالويل المختلطة

-٩٦-

النهار كان مجلال بالسواد . بالزغاريد تطلقها نسوة محجبات وسافرات. الغيبوالشمس مكفهرة، وكأن وجوه الناس قد رشت برماد من

ومشى عبدالقادر منكس الرأس ال يستطيع أن يتخلص من غاللة الدمع . التي حجبت عينيه عن الرؤية، فمشى على إيقاع أقدام اآلخرين

وامتألت المقبرة بالناس والتي لم يكن فيها سوى القبر المعد لهنانو، .ليتعاقب سياسيون وزعماء أحزاب على كلماتهم لتفتت قلب المشيعين

بيوت وجوامع وعدد من الساحات لتقبل العزاء، وكثيرا ما فتحت :كان عبد القادر يصادف أحدا اذا ما عزاه بوفاة أمه، فانه يقول

."وفاة إبراهيم هنانو تجب ما قبلها من وفيات"وما . وفي اليوم الثالث، أعدت المقاعد في الخان الستقبال المعزين

إلى غرفته، وكان الليل قد ذهب أن غادر الجميع حتى استدعاه الحاج :مقتربا من منتصفه، فقال

"عزيزان، أمك والزعيم، قد رحال إلى دار البقاء، وبقي لك الحاج"غمرته عاطفة صاحب الخان، اال انه توقف طويال عند توقف

:الحاج ليبدأ حديثا آخر، قالزوجة تأنس لها وتقوم على . ال بد لك من زوجة يا عبد القادر"

رعايتك، فالمرحومة رحلت، وهنانو غاب عن الساحة، والزمن ال ."الزواج يا ولدي. الزواج واجب إلهي ليعمر الكون. يرحم

وكان عبد القادر في إصغائه للرجل الذي كان في مقام والده، يتذكر أمه في إصرارها على زواجه، فما عاد يكتم ابتسامة في داخله

.ما لبثت أن تسللت إلى وجهه

-٩٧-

دأ الحاج من جديد حديثا عن ابنة أخت له قد ترملت بعد أشهر وب :من زواجها، وقال

دار كبيرة . الرجال يلهثون في طلب الزواج منها لجمالها وثروتها"وأراض زراعية في الريف تنتج القمح والخضار، ويأتي الزيتون

."منها بدخل كبيرالقادر وكان الحاج يستمتع بذكر تلك المرأة، ومال على عبد

:ليهمس عن بعد. ابنة أختي يا رجل بحاجة إلى زوج يحفظ مالها ويرعى شبابها"

."وأقول لك يا ولدي إن الخال العجوز ال يستطيع دوما حمايتهااود الحديث وعاين الحاج أثر كالمه في عبد القادر، ومن ثم ع

:بشيء من الرجاء اآلمرالرجل . لقرار بالموافقةتوكل على اهللا وال تتردد لحظة في اتخاذ ا"

."للمرأة في وحشته، والمرأة للرجل تحبه وتغنيه عن السؤالببراءة تساءل عبد القادر عن مصير الزوجة إن مات في ساحة

:الجهاد، فما كان من الحاج إال أن هتف قائالوأظن . أديت واجبك يا ولدي، وأكملت دورك على أحسن وجه"

."الحال لن يبقى كما هو. عد الزعيم هنانوأن األمور ال بد أن تتغير بوخيم صمت تجاوب مع هدوء الليل، ولكنه قيد استجابة عبد

ويبدو أن شبكة السكون . القادر، وأقلق انتظار الحاج لجواب الموافقة :قد اخترقها الحائر وهو يقول

٧ م –السيرة احللبية

-٩٨-

عشت سنوات طويلة من عمري تحت مظلتك، ولن تكون " ."برعايتكالسنوات القادمة إال معك و

:وقال عبد القادر أيضا وهو منكس الرأس كجندي يقف أمام قائده ."يشرفني أن اقبل بالفخر انتسابي إلى عائلتك"

فما كان من الحاج أن ضرب بعصاه أرض الغرفة الخشبية، :وتمتم بصوت جلي

."على بركة اهللا يا عبد القادر"رت المراسم في ولم ينتظر عقد القرآن فالزواج أربعين الوالدة، ج

دار الزوجة مساء الخميس، وقد اجتمع حول الشيخ الخال والعريس وشاهدان من عمال الخان، فقرأ الجمع الفاتحة، وشربوا عصير اللوز، وانطلقت من العلية زغاريد النسوة إيذانا بدخول عبد القادر

.على عروسه التي لم يسبق له أن قابلها من قبل

-٩- على قضبانه ) الناموسية(حاسي الذي انسدل قماش أمام السرير الن

األربعة، وقفت العروس بثوبها األبيض وخمارها الشفاف وقد لمع كان شمعدانان . األلماس في أقراطها، وطوق عنقها عقد من اللؤلؤ

كبيران قد رسما الظالل على قوامها فبدت كجنية جاءت من أعماق .الظالم لتنشر النور

-٩٩-

محسوبة ليقف على مقربة منها، وهتف تقدم الزوج بخطوات :بصوت بحته الدهشة

."أنت حقا أم الخير. أم الخير" :فسمعها تهمس بخجل عذب

."ابي هو الذي اختار لي هذا االسم"ولبثت هي . ومشى ببطء كالمأخوذ ليقترب أكثر من عروسه

جامدة كتمثال، ولكن وهج جسدها انبعث من مرمرها، وتقدم منها :مار عن وجهها، تأمله لتند عنه آهة تبعها بالهمسليكشف الخ

."يا سبحان اهللا، ما أجملك بين نساء الدنيا يا أم الخير". وتحشرجت الحروف بين أسنانها لتشتعل وجنتاها باالحمرار

:تأملها كامرأة هبطت عليه من السماء وهو يقول ويردد ."أنت نعمة.. يا إلهي يا أم الخير"

:ي تتمتم بكلمات مرتعشهوأطرقت برأسها وه ."وأنت كما قال لي خالي الحاج"

قاد زوجته من يدها، فتقاسما األريكة التي امتدت أمامها طاولة اصطفت عليها صحون الفاكهة والمكسرات وأطباق

لم يمس أحد ). الجوك ملبن(و) البلورية(و) الكنافة المبرومة(سباحة في عيون فقد كان الزوجان منشغلين بال) آلة العرس(منهما

وأخيرا امتدت كفه لينتشل لوزة قدمها إليها، . بعضهما البعض

-١٠٠-

وقامت هي بأخذ حبة فستق . فانفرجت شفتاها لتلتقطها بأسنانهاوكان أن . حلبي محمص لتفصل القشرة منها، فقربتها من فمه

:احتفظ بها تحت لسانه وهو يقول ."أريد أن احتفظ بها لمدة أطول"

:ذي بدأ يذوب بتسارع قد دفعها إلى الهمسفكان خجلها ال ."يستطيع ابن عمي أن أعوضه بأفضل منها"

فاقترب عبد القادر منها ليتغلب على خجله في ضم العروس إلى :صدره، وقال مرتعشا

."أعتقد أن اهللا سيجازي من أعد آلة العرس هذه" أم الخير كانت تبتسم وهي تنزع القشرة عن موزة، قربتها من فمهفقضم قطعة منها، ومن بعد ذلك دفعها إلى فمها لتعض على شيء

.منها دون أن تقطعهاتماسكت األكف وفيما . ابتدأت األلفة تمد جسورها بين الزوجين

:يمرر كفه على شعرها قال، وأنت اآلن أقرب إلي )عبده(كانت أمي تناديني أحيانا بقولها " ."منها

كانا . قضم كل منهما شيئا منهاوجعل الزوجان يتبادالن تفاحة يكطفلين مرحين، إال أنهما دخال بعد ذلك في رحلة المشاركة بصنع

.حياة واحدة

-١٠١-

العرس التي لم يكن فيها غيرهما وما من غناء أو ) صبحية(في تخت شرقي كما كانت عادة الزواج، اجتمع العروسان في الصباح

المامونية مع (ون المتأخر حول مائدة في ليوان الحوش، فكانت صحوالجبن المغلي وخبز التنور، والتي أرسل بها الحاج ليكون ) القشطة

وفي ذلك الليوان الكبير األشبه . أول إفطار يحيي به الزوجينبمقصورة واسعة في الدار القديمة والتي أصبحت منذ ذلك اليوم بيت

.عبد القادر الحلبي الجديدحلة استطالع ألقسام الدار قالت أم الخير وهي تقود زوجها في ر

:وأقبية) مربعات(من غرف و ."أليست الدار واسعة لتستقبل أوالدنا"

:فيهتف عبد القادر بدهشة وهو يمازحها ."هل انت على استعداد إلنجاب دستة من األطفال"

:فأطرقت خجال أشار إلى دالل لتهمس في اذنه ."هذا يتوقف عليك يا عبده"

. ا بذراعيه لتمانع بدلع، واذا بباب الدار يطرقفاندفع شبقا يحتضنهكانا يسمعان دقات ملحة، فسارعا إلى مدخل الدار، لكن المرأة التي لم

سألها بعينيه . يكن قد رآها من قبل سبقت االثنين لتكون عند الباب :عنها، فقالت أم الخير

."الدادا وهي التي اعتنت بي منذ طفولتي، وستكون معنا"

-١٠٢-

زغاريد . أم العروس وقريباتها، وقد حضرن للمباركةالقادم كانوقبل، والتفت النسوة حول األم التي احتضنت ابنتها، وانخرطن في الرقص على إيقاع تصفيق األيدي وأخرجت إحدى النساء من تحت

فانتشر الدخان، لتدور ) الحرمل(جلبابها األسود مبخرة رشت عليها وطهما من عين الحسود، وداعية المرأة بالمبخرة حول العروسين تح

وقربت األم عبد القادر منها ). البقلة(لهما بإنجاب األوالد كبذور لتصبح مع أم الخير كتلة واحدة وهي تنادي الحسد ان يبتعد عنهما،

.وتردد بأنها منحت للدنيا أجمل البناتوتحلق الجميع حول الحوض بنافورة الماء وسطه، وقد زنرته

قدمت لهم صحون . اتات األوراق الخضرأصص الورود ونب، وكانت الدادا تدور عليهم وهي )جوز الهند(وحلوى ) المهلبية(

تطالب كل منهم بالصالة على النبي، فيما مالت األم على زوج ابنتها :لتهمس في اذنه

ترك المرحوم ألم الخير هذه الدار الكبيرة، وإن كان القدر لم ". بد القادر أريدك أن تمأل الدار باألوالديسمح له باإلنجاب، فأنت يا ع ."األبناء يطردون أشرار الجن

:وتمتمت كناصحة تمتلئ بالحكمة ."ال تسمحوا للدار أن تكون لغير أوالدكم فتملؤها بالضجيج"

ونادت على حاملة المبخرة فإذا هي الدادا التي تشرب وجهها :قالت األم. بالتجاعيد

-١٠٣-

والدة أم الخير، ستقوم بخدمتكم دادا حلوم هي التي شهدت " ."وتعتني بأوالدكم

فعبرت الدادا بصمتها عن الطاعة، وابتسمت كأم استعادت أوالدها .بعد غياب

كان عبد . مر يومان على الزوجين غارقين في بحيرة الحبالقادر ينعم بسعادة لم يعرفها من قبل، ولكن العمل ناداه، فلم يملك

اليوم الثالث خرج من إسار التواصل، وفي . سوى االستجابة لهووافق بمرح على تسمية أم الخير له بالهارب من شهر العسل، فقال عبد القادر إن عليه أيضا أن يرد الجميل للحاج الذي أدخله جنة

.ومضى إلى الخان. الزواجاستقبله الحاج باألحضان، لكنه توقف متأمال وضعه ليستنكره

:بالقول. إلى شروالك القديم، كذلك تنتعل الصرماية نفسهاوتعود يا رجل"

.!"ألست يا ولدي في أيام فرحك لتعود إلى ماضيك :فما كان من عبد القادر إال أن هتف بالقول

."يحتاج الرزق إلى العمل يا خال"وأكمل بالقول إن العمل في الخان منذ هذه اللحظة سيكون ردا

هو األفضل ما حدث لي في للجميل الذي أغرقتني فيه، وان كان .حياتي

-١٠٤-

وأصبح قريب الحاج بين العاملين له مكانته، وإن كانت قد وذات يوم استدعاه الحاج . سبقتها العالقة الطيبة مع الجميع

واذا قام من مقعده . مساء، فأطال النظر إليه صامتا يختزن الكالم :متثاقال جعل يقول

لشيخوخة ما عادت تسمح الرومايتزم ال يرحم وا. تعبت يا ولدي"أنت صهري . ليس لي إال أنت فقد حان الوقت ألستريح. لي بجهد

".فكن لي بديال، واذا احتجت شيئا فأنا سأكون لك عوناوعاد إلى مقعده يطلب جوابا من عبد القادر، فكان له جواب بعد

:صمت طويل .!"هل أستطيع ان أخالف لك أمرا يا حاج"

-١٠-

كانت قد التقطت . الخير في حملها من شهرها التاسعاقتربت أم بذرة الجنين منذ أقل من شهر على الزواج، فكان عبد القادر فرحا ال يصدق أنه سيتحول إلى أب، فتمر عليه لحظات في اليوم يكلم نفسه فيها ويقول هل يمكن ان يحدث ذلك، واذا ما أطل من النافذة على

ن يفعل أحيانا يراقب العمال، كان يشيد ساحة الخان الهائلة كما كازوجة جميلة ودار واسعة وطفل . بنفسه على أنها األسعد في العالم

يهتف بان اهللا . سيأتيه بعد فترة، وخال يملك الخان قد ترك له إدارته .قد منحه بال حساب

-١٠٥-

واستعدادا ليوم الوالدة جعلت أم الخير تمشي بحملها صباح كل وفي . الدار، وكان ذلك استجابة لنصيحة أمهايوم لتدور في حوش

األيام األخيرة تحولت إلى الدوران حول حوض الماء الثماني األضالع ألكثر من مرة، فتلحق بها دادا حلوم ترعاها بعينيها وهي تتابع خطواتها المتثاقلة بحرص أم، تغني لها مهدهدة بكالم غير

:ول الداداواذا ما توقفت أم الخير لتستريح تق. مفهوم ."طفل ال مثيل له. حملك ينبئ بطفل ذكر"

يصبح وزنها اكبر مع الصبيان، فتهتف أم ) البكرية(وتعلق بأن :الخير متوسلة

."من فمك ألبواب السماء") خلفة(وتقول وهي تعود إلى المشي البطيء ، إن عبده يستحق

. لتهتليق به، أن يكون له ابن مثله ويحمل اسمه مكمال مشوار رجو :تتوقف أم الخير ذات مرة لتقول

."دادا، أيمكن أن تحمل بطني توأما؟" ."يكون اهللا قد أكرمك يا أم الخير"

.تقول الدادا لتعاودا الدوران حول محيط الحوض. بعد عصر ذلك اليوم الحاسم انطلق من الحارة صبي يركض

. وجتهالخان مقصده ويريد أن يخبر عبد القادر أن الطلق قد اشتد بزوفي ثوان من زمنه دار . هبط الخبر على الزوج، كان واقفا فجلس

-١٠٦-

الخبر في رأسه ليعلم أن اللحظة قد أزفت، فخرج راكضا من الخان نإ الصبي يلحق به كظله وهو يقول وخطواته تسابق نفسها، فيما

تساعدها، وكانت ) الداية(جارتنا أم الخير لم تتوقف عن الصراخ وأن وما يزال عبد . حلوم هي التي طلبت منه أن يستدعي الزوجالدادا

القادر يستمع إلى أقوال الصبي، لتجعل خطواته أكثر إقداما على .خيل له أنه بات طيرا يسابق الهواء. تجاوز قدرتها

أم الخير تصرخ وكأنها تولول، . سمع الصراخ من مدخل الحارةم في الحوش كضائع فاقتحم باب الدار الذي وجده مفتوحا، وتقد

واذا ما بلغه آخر . يعتصره األلم، وهو ال يقدر على تمالك نفسه. صيحات الزوجة توقف عند أول درجات المربع لتتصلب ساقاه

إال أن بكاء . مرت الثواني من زمن ال هوية له فوجف قلبه الحائرالمولود القادم اخترق أذنيه ليخرجه من مجهول خاف أن يسقط في

بكاء رش روحه بعطر فدمعت عيناه، وحوم في فضاء .دوامته .روحه التي استقبلت البكاء بما هو أقصى ما يسمى بالفرح

وضع أذنه على خشب الباب مستطلعا ما يجري في داخل ، )الداية(المربع، فإذا ما خرجت امرأة تحمل لفافة بين يديها، وكانت

:فإذا بطفل قدمته لعبد القادر بقولها ."صبي ولدته أم الخير. كمبروك ل"

إال أنها لم تترك له فرصة االستمتاع بالصبي، لتعود من جديد إلى دهش لرؤية القادم إلى الحياة وتمنى أن يحمله بين يديه، لكنه . الداخل

-١٠٧-

بعد قليل . لم يفهم لم حرم من تلك المتعة، فأقعى جالسا أمام الباب :الستقبال ابنه، والدادا تقولخرجت الدادا لتقدم له الصبي، فهب واقفا

."هذا ابنك يا زين الرجال"هبة من السماء وضعها اهللا . تلقف عبد القادر الرضيع بذراعيه

بين يديه، وجعل يردد سورة الرحمن، متأمال وجهه وكأنه برعم الفل الذي طالما أعتنت أمه الراحلة به و بالنباتات التي تتفتح عن األزهار

. بين ثيابها المحفوظة في صندوق عرسها القديملتقطفها، فتضعها ليكمل اآلذان، ) اهللا أكبر.. اهللا أكبر(وجعل األب يرسل في اذن ابنه :ولكنه ما أن انتهى حتى هتف قائال

."انت منذ اليوم إبراهيم. اسميك يا ولدي بإبراهيم"ونادى ليسمع الجميع باسم ابنه، فارتفعت في الفضاء زغاريد

:ال عبد القادرالنسوة، وق ."مات إبراهيم هنانو، عاش إبراهيم الحلبي، واإلبراهيمان سيبقيان"

كانت رقائق الدموع تغشي عينيه فال يميز فيها الحزن على رحيل الدادا تابعته وهو يميل على اذن . قائد الثورة من الفرح بقدوم االبن

مه، ابنه يهتف فيها برفق تكبير األذان، وسمعته يعطي الصغير اس :فامتدت يداها تسحب الطفل منه وهي تردد

."برهو يا برهو، وحبينا ابراهيم"وقفلت عائدة إلى الداخل لتضع الرضيع في أحضان أمه،

:فاستقبلتها أم الخير بالقول على ضعفها

-١٠٨-

."لم أسمع في حياتي أحدا يرفع األذان كما فعل أبو إبراهيم"فلتكن لكما " نون مثله، صوته حإنوتثني الدادا على قول األم

."والدفاتحة أليام تمتلئ داركم باألفي الخان، أهل الحي يتقاطرون على تقديم التهاني لعبد القادر بقدوم إبراهيم، فإذا ما علم الكثير منهم بأن ابنه يحمل اسم الزعيم إبراهيم هنانو، رفعوا أيديهم بالدعاء لروحه، وللصغير أن يكون قدوة

ولم تتح الفرصة للحاج أن يبارك لمالزمته البيت . له ما سمي بهمريضا، اال أن عبد القادر هو الذي سعى إليه، وقال إن ولده حمل

يكون مستقبل الطفل امتدادا لبطولة نأاسم ابراهيم، فتمنى الحاج وأضاف أن يكون صورة . وأن يحب بلده كما أحبها هنانو. الزعيم

وما كان عبد القادر ليحلم بتهنئة . مانةألبيه في اإلخالص للعمل واأل .أكثر منها

ومازال الحاج يحدث زواره من أقارب وأصدقاء، مديحا لعبد .القادر، حتى وصل إلى أم الخير

كانت تختلس النظر إلى زوجها، في صحوه ونومه، وهي تشكر اهللا على نعمة االقتران برجل مثله، فاهللا قد عوض عليها زواجها

. أن أفكارا بدأت تدور في رأسهاإال. األولوذات ليلة، واألب يضم االبن إلى صدره مستلقيين على السرير

براهيم إالنحاسي، فإذا بأم الخير تقترب منهما لتجلس وهي تداعب :وتقول

-١٠٩-

."أكرمنا اهللا بابننا، وزاد عليه أنك أتمنت على خان الحاج خالي"ل عن العالقة بين نعمة فاستوى عبد القادر في جلسته وهو يتساء

.االبن وإدارة الخان لصالح الخال :فما كان من أم الخير اال ان انطلقت بالحديث هادئة

ألم تكن أنت ناحجا في إدارة الخان، وخالي الحاج فوضك لتكون " ."اآلمر الناهي فيه

:ونظرت في عيني زوجها لتقول برقةأصهاره ال يمكن أن الخال مريض، شفاه اهللا، إال أن أحدا من "

."يدير أعمال الخان :ولبث عبد القادر ساكنا، إال أنه تساءل بغتة

."وما قصدك يا أم الخير من كل ذلك؟" :فأطرقت برأسها لتقول بعد لحظات

عندنا من األموال والذهب ما . يمكن لك أن تشتري الخان منه" ."هل أنت جاهز. يكفي

."ن تملك الخانوهتفت بصوت خفيض إنك من يحق لك أأخفى الرجل غضبه، كابد المشاعر التي تغلي في داخله، ولكنه

:هب واقفا يمسك نفسه وقال ."ما أنا إال مكلف بإدارته. الخان هو ملك الحاج، وسيبقى له"

-١١٠-

:وأفلت منه عتب واجه به زوجته ."دعي ذهبك ومالك بعيدا عني يا أم الخير"

ن واجه الزوجة بكلمة تمس وعاد إلى هدوئه، فلم يسبق له أوجلس على طرف السرير ممسكا بكف أم الخير يشد . مشاعرها

:عليه، قال بهدوءهو أكثر . أكرمني باختيارك لي. رعاني الحاج منذ شبابي األول"

خالنا الحاج، أعطاه . من أب، وال يمكن ألحد أن يمتلك الخان غيره البالد، أاال اهللا العمر، سيد أصحاب الخانات في حلب وفي كل

."تعرفين ذلك يا أم إبراهيملبثت أم الخير صامتة ال تجد لها مدخال إلى تعليق، وكانت تعقد

وقد تحررت . في سرها مقارنة باخالص زوجها للحاج ومحبته لها :من صمتها بعد ذلك لتقول

. يا زين الرجال أعطيتنا حبا لي وإلبننا ابراهيم. عبده يأمر فيطاع" ."لم بغير ما أنت فيهوما كنت أح

-١١-

الطمأنينة تخيم على . األشجار تثمر والنباتات تزهر. إبراهيم ينمووفي صباح خرج من . الدار، واالستسالم للرضا والسعادة شعارها

عتمة الفجر تنبه عبد القادر، بينما يقوم بالوضوء، إلى طرقات على

-١١١-

اب فكان وجه فتح الب. باب الدار، فكأن الطارق يحمل معه الشؤم: سمعه عبد القادر يعلن بصوت واجف. القادم ال يرى بوضوح

."مات الحاج. استرد اهللا األمانة"رحل الحاج، فهرع المفجوع إلى الخروج من الدار يقصد دار

ينطلق مهروال في هو. الفقيد، وقد نسي إعالم زوجته بالفاجعةكانت دار الحاج بعيدة فما أن . لم يستبدل مالبس النوم. الطرقات

.يمر برجل من المارة حسبه يالحق أحدا ليمسك بهكانت شيخوخة الحاج المنهكة مسجاة على فراشه، ومن حوله التف حولها عدد من المشايخ الذين فقدوا البصر، يرفعون عقيرتهم

يقرأ في سورة منه، ليتحول فضاء الغرفة إلى ما بقراءة القرآن كل واقترب من الميت منحنيا عليه فطبع قبلة على الكف . يشبه األزيز

:والجبين، وهو يهمس ."كنت األب، وأفضالك علي ستبقى العمر كله"

وتولى عبد القادر كل ما تعلق بأمور التشييع بما يليق بمكانة وكان في المقبرة على رأس . الحاج في الحي وبين تجار المدينة

المتلقين للعزاء من أهالي األحياء وتجار الجملة والمفرق وموردي .المحاصيل الزراعية من أرجاء مختلفة في الحقول والبساتين

وما أن فرغ . وفي اليوم الثالث أقيمت مأدبة كبرى في دار الحاج األقارب والمعارف والمشايخ من العشاء، حتى طلب أصهار الحاج

-١١٢-

اجتمعوا في غرفة الضيوف، وما أن شكر . االنفراد بعبد القادرحتى أعلمه أزواج بنات المرحوم . للحلبي مسعاه في كل شيء

بأن الوقت قد حان لتقاسم زوجاتهم ملكية الخان فيما بينهم، فهو طلب عبد القادر أن يكون اجتماعهم في الخان غدا، . شرع اهللا

ن ممثلي الزوجات الثالث اتفقوا فحضروا جميعا، وقد فوجئ با .فيما بينهم على بيع الخان

كان الخان بغرفه ومستودعاته وساحته، قد ورثها الحاج عن أبيه، فما خطر على البال بان يباع تاريخ طويل، وتساءل عبد القادر في

قال .. سره لو أن الحاج رزق بابن لما فعل ذلك، فهل خانته بناته : التفاق اآلخرينواحد من األصهار ممثال

ألم تكن أنت األقرب إلى المرحوم، لذا سترتب األمر مع زبون " ."يشتري الخان

وما أن . وكان صمته أسفا على مصير الخان ونهاية حزينة للحاج :خرج من التعليق على الطلب حتى قال

."اهللا يختار ما فيه الخير، وال حول وال قوة اال باهللا". الدار، فدخله بصمت والوجوم يحل عليهوكان المساء يخيم على

وانتظرت أم الخير طويال قبل أن يحدثها زوجها عن ذلك االجتماع مع أصهار المرحوم، إال أنها جلست صامته بقوة إصغائها إلى كل

ولم تخف الزوجة ابتسامة . كلمة وحرف ينطق بها عبد القادر

-١١٣-

في حعبته من واذا ما أخرج الزوج ما. غامضة ارتسمت على شفتيها :كالم، انطلقت تقول بتصميم

."اشتر الخان من الورثة يا أبو ابراهيم" :وكأن الكالم قد أفلت من فم عبد القادر، فقال دون تفكير

."هذا هو الحق يا أم ابراهيم. ستصبحين مالكه للخان انت"أنت تدير . فاعلنت عاتبة بقولها إن ما أملكه سيكون لك أيضا

:وهتفت قائلة. كل همة، فهو من عمل رجل البيتأعمال الخان ب ".ال فرق بيني وبينك، ولنتوكل على اهللا وتشتري الخان"

وأصبح عبد القادر مالكا، فهل تحول الشاب الفقير إلى واحد من واستمر في مشواره الذي تأسس على .أهم رجال السوق في المدينة

ومازالت . الخانعالقات مميزة بالزبائن، كما كان الحال مع عمال في تحسن دائم ثقة المنتجين للمحاصيل والسمن والزيت، فجعل الخان

وبالرغم . هو األكبر في استقباله للبضائع وتوريدها إلى تجار المفرقمن أن عبد القادر لم يتجاوز الثالثين من العمر بسنوات، فقد تحول

لحل إلى ما أطلق عليه بأنه شيخ التجار، يلجأ إليه أهل المهنة .الخالفات واالستشارة في عقد الصفقات

ويوم ولدت له عائشة طار فرحا، فقد أصبح ألم الخير ابنة، كانت الدادا تهدهد . ستكون أختا تساندها في سنوات العمر القادمة

الرضيعة بين ذراعيها، بينما يمسك ابراهيم بذيل ثوبها ) لعيشة(٨ م –السيرة احللبية

-١١٤-

، فكان يالحقها في تجوالها وكانت خطواته األولى قد ابتدأت منذ أيامووقف الوالدان صباحا عند النافذة . البطيء في أرجاء الحوش

باإعجاب أمام ذلك المشهد، ويفخران بما تحقق من حب بينهما وما .وصلت إليه الحياة من نجاح

ذات مرة، تساءلت أم الخير في معرض حديث عن سبب تسمية مه، فلبث هو صامتا ترتسم عبد القادر البنتهم بعائشة مهمال اسم أ

:عالئم الحيرة على وجهه، بينما يهمس لنفسهلو أنني فعلت لتساءل الجميع عن عدم تسمية الصغيرة باسم "

."جدتها ألمها :وقال بثقة اكتسبها لتوه

."اخترت اسم عائشة لعالقته برسولنا الكريم"، فهل )يامو( وهتف ضاحكا بأنه كثيرا ما كان ينادي أمه بـ

.تتخيلين اسم ابنتنا يامو :وتتساءل أم الخير بروح المرح

."هل يمكن إلبراهيم أن ينسى اسم أمه مثال؟" :ليقول عبد القادر بشكل حاسم

اسمك ال ينسى، فأم الخير له عالقة بالعطاء . انت أم الخير"أنت الخير يا أم إبراهيم، وال يليق بك اسم إال . ألسرتك ولكل الناس

."أم الخير

-١١٥-

وتوالت األيام متعاقبة ال تتوقف انعكاساتها على أسرة الحلبي، إال أن األنباء جاءت بأخبار الحرب التي قامت في أرجاء واسعة من

وكانت حلب لم تنس من قبل أيام الحرب العالمية األولى من . العالمقبل بأهوالها وأزمة الفقر والجوع فيها، والتي لحق بها االحتالل

كان اسمها الحرب العالمية الثانية التي وقف فيها . الدالفرنسي للباأللمان في وجه دول كثيرة منها فرنسا، فانتشر في أوساط شعبيه شعور التأييد للزعيم األلماني هتلر نكاية باالحتالل، واعتقادا منهم بأنه

.يدافع عن حقوق المسلمين، لذا فهو لن يتأخر عن طرد فرنسات غرفة عبد القادر في الخان تحولها وفي أيام الحرب، شهد

أحيانا إلى ديوان يضم رجاالت األحياء يستمعون إلى إذاعة لندن وإذا ما أسدلت الستائر على النوافذ، مالت األجساد لإلصغاء . العربية

من إذاعة تبث باللغة العربية من ألمانيا، ) يونس البحري(إلى صوت ني بزعيمه هتلر الذي تحول وكان يدعو إلى تمجيد المعسكر األلما

. عند عدد كبير من الناس إلى بطل أسطوريوتحولت شوارع المدينة إلى مظلمة تحرم أعمدة النور فيها من اإلضاءة في الليل، كما فرضت على مصابيح المنازل أن تدهن بالنيلة

وساد غالء استشرى . الزرقاء، فكانت الكآبة مخيمة على أهل حلبلكن دار عبد القادر لم يلحق بها الضيق كما حدث . بين معظم الناس

للكثيرين، كما تغلبت الدار على مشكلة النور باستخدام شمعدانات .نحاسية وجدت فيها فرصة لنظام اإلضاءة الذي ساد قبل سنين كثيرة

-١١٦-

وتساءل عبد القادر، بعد أن مرت سنوات ثالث على قدوم عائشة، ثالث، فالنعمة التي يعيش فيها عما يعيق أم الخير عن الحمل بولد

ولم تنقطع أم الخير في . سترحب بالكثير من األوالد والدار واسعةوأخيرا استعانت بالدادا، . الشهور األخيرة عن التفكير في أمر حملها

فكان أن دارت على الجيران واألقارب لتدل على اللجوء إلى شيخ دادا بأم ابراهيم إلى ذهبت ال). ابو بريص(سره قاطع، وكان اسمه ). الصالحين(بالقرب من مقبرة ) الفردوس(بيته الذي كان في حي

قرأ الشيخ عليها من تمائمه وتعاويذه داعيا لها بالحمل بإذن اهللا وأن واذا انتهى الشيخ كتب حجاب الحمل . يزرع في بطنها ولدا جديدا

ن ومرت األسابيع دو. الذي أمرها بوضعه تحت فراش السرير) أم الجدايل(نتيجة، فقامت الدادا باصطحاب أم الخير إلى الشيخة

قامت أم الجدايل بإحراق بخور . التي تقيم في قرية قريبة من المدينةجاوة بين فخذي الزوجة في الوقت الذي تلت فيه األدعية التي لم تفهم المرأتان منها شيئا، وحذرت من فض الحجاب الذي قدمته إلى أم

قالت الشيخة إن أمامك أشهرا ثالثة . منذرة بالويل والثبورالخير .ولم تتحقق النبوءة. تلتقطين فيها بذرة زوجك

وسيعلم عبد القادر بالمصادفة بتردد زوجه على مشايخ وأطباء شعبيين، فلم يتحدث معها في األمر، بل لجأ إلى معلم

هل استفسر من األستاذ محمد عن جدوى الذهاب إلى أ. المدرسةتأمله المعلم طويال، وكانا وحيدين في . األحجبة والتمائم

:المدرسة، فقال األستاذ

-١١٧-

أذكرك يا صديقي بأن الدعاء لن يخرج المستعمرين من بالدنا، "األطباء . رجال الثورة لم يعرفوا سوى البندقية يحاورون فيها الجنود حول لهم هم الذين يعرفون أسرار الداء والدواء، وأما المشايخ فال

."وأقول إنه الحول وال قوة إال باهللا لحكايتك هذه. وال قوةوكان ان . ووقف عبد القادر أمام قول المعلم متبصرا حكمته

.اصطحب زوجته إلى طبيبالشهور تمر، والفصول تتعاقب، وعيادات األطباء تشهد دخول

اكثر من طبيب فحص أم الخير فلم يجد . الزوجين وخروجهما منهاوفي أيام األفراح بإعالن االستقالل ونيل البالد حريتها، . فيها علة

وكان االحتفال الرسمي بعيد الجالء توصل طبيب شاب قدم مجددا إلى حلب متخرجا من جامعة فرنسية،إلى الكشف عن مشكلة في رحم الزوجة، فتكررت التحاليل واألشعة عن ورم فيه، ما لبث أن تزايد

ذهل الزوجان، وفي . ورم خبيث اكتمل نموه أخيرانموه ليتحول إلى أغلقت الدموع نافذة الرؤية في عيني . أيام أسلمت أم الخير الروح

عبد القادر، ونسي أمر الراحلين من أمه إلى إبراهيم هنانو، فكانت .ظلمة الفجيعة قد فوتت عليه أية فرصة في الصراخ

-١٢-

وات واثقة حامال ريعانه في يدخل الفتى إبراهيم الخان، يتقدم بخطيمر في الساحة متوجها إلى مقر والده . اإلقدام على شباب مكتمل

-١١٨-

يلقي التحية على العمال . كعادته اليومية في عودته من المدرسةوكثيرا ما كان . والزبائن ليقابل بالمودة واإلعجاب منذ أيام الطفولة

.هو سر أبيهالرجال يرددون عالنية أو في السر بأن إبراهيم يسلم . فوجئ االبن بالزوار يمألون الغرفة على غير العادة

على الحاضرين ويتخذ له كرسيا بالقرب من الباب، وكان والده وكان ذات . يتابع حديثه معلقا على األوضاع السياسية في البالد

يوم قد سمعه يعلن في الدار في األيام األخيرة لمرض أمه :والدموع في عينيه

سموا فلسطين يا ويلنا، والمجرمون أعلنوا عن قيام دولة ق" ."اسرائيل

إال أنه في هذا اليوم . فلم يفهم إبراهيم الصبي ما سمعه من والده :أصغى إليه يقول

إذا كانت االنقالبات العسكرية تهدف إلى اعداد تحرير فلسطين " ."فهذا حسن

:قادر بالقولفما كان من واحد من الحضور إال أن تخطى عبد المرت أسابيع على انقالب الشيشكلي، ومن قبله الحناوي الذي "

سبقه انقالب حسني الزعيم، فأقول يا سادة إن العسكر تردد شعارات ."تحرير فلسطين في الوقت الذي لم تفعل شيئا

:وهتف الرجل هامسا برنة خائبة

-١١٩-

."ألم يشبع العسكر من القبض على دفة الحكم في البالد؟" :هب آخر بالوقوف على قدميه لينطلق بالقولولن يسمح لنا استمرار النقاش في هذه األمور باللحاق بصالة "

."المغرب، فالجامع األموي بعيدانفض اللقاء، ومن جديد رحب عبد القادر بابنه الذي أعلن بالقول

زالوا منقسمين منذ ساعة أن طالب الثانوية انقسموا على أنفسهم، وماأال تالحظ أن البلد قد . األكثرية تستنكر بينما القلة تؤيد. قالباالن

."يضا؟أانقسمت :وقال إبراهيم وهو يتخذ له مقعدا أمام والده

."البالد بحاجة إلى نظام مدني.نا مع األكثريةأراحة يا والدي فبص"وتأمله عبد القادر، فإذا به يكتشف أن إبراهيم بات يمتلك قرارا

كان األب يفكر فيما . يفكر بطريقة يتجاوز فيها عمرهلنفسه، وهووامتد به التفكير ليتذكر . قاله االبن بأن البالد بحاجة إلى نظام مدني في تلك الكتب في تكوين ةأن إبراهيم كان يستعير الكتب، فأية منفع

:وقال عبد القادر لنفسه وهو يتطلع إلى السنوات القادمة. وعي االبن ."هيم أكبر من أن يدير خانا كهذاقد يكون إبرا"

أشبه برجل صلب تدعمه األفكار التي كان . وبدا وجه إبراهيموجعل عبد القادر يطيل التأمل في ابنه، فكان ذلك إعجابا . جازما فيها

.بما وصل إليه

-١٢٠-

في الخان وبعد أيام بدأ عبد القادر باالستعداد لما سيقوله بعد تردد :قال. في مكاشفة أحد

وستبقى أم ابراهيم . علم يا ولدي أن أمك الغالية بين نساء الكونت" ."حارسة لنا في غيابها

:واستمر صمته لدقائق، ولكنه ما لبث أن عاد إلى الكالم على رعايتنا، لكن ما سأقوله لك لن يغير من محبتي موالدادا تق"

ك فأنا أريد أن أعرف رأي. ألمك ولن يقلل من احترامي لها ولذكراها ."في إقدامي على الزواج

صمت األب، ولم تكن هناك أيه عالئم على وجه إبراهيم الذي كان االبن متمالكا ألعصابه كرجل . ظل هادئا، ولم تنطق شفتاه بكلمة

:وبعد حين قال عبد القادر. ال تهزه مفاجأةالحياة فيها الحلو وفيها المر، وأمك المرحومة لن تمانع بزواجي "

."تزوجة برجل آخر، وقد رحل فكانت ليفقد كانت م :وأحدث قول إبراهيم هزة في نفس عبد القادر

."قرار الزواج يعود إليك وحدك. أنت رجل البيت، والقيادة لك". ظل األب يدرس قسمات الوجه عند إبراهيم، ويتفحص كلماته. تبنيت له الحقيقة فكان االبن يعلن الحقيقة وهي الموافقة الصادقة

.ح الهم عن صدرهانزاعائشة التي مهدت لها الدادا بخبر الزواج، سمحت محبتها لوالدها

وفي عصر الخميس . بالموافقة، وإن كانت قد ذرفت الدمع في فراشها

-١٢١-

واذا ما زحف . باتجاه بلدة عفرين شمال حلب) الستروين(قاد سيارته ه الغروب جعل الطريق يطوى المسافات أمام عبد القادر في اقتراب .من هدف الزيارة، وهو الذي قاد السيارة للمرة األولى خارج المدينة

أطل وجه أم الخير عليه من وراء التالل، وطاف على أشجار :جعل يردد لنفسه. الزيتون

أم ابراهيم ستبقى الحبيبة التي أكرمتني بأوالدها ومالها، ولن " ."تكون إال األولى في حياتي

بوديانها تستدعي ذكريات جبل وابتدأت الجبال في مروره :سمع فراغ السيارة همسه. الزاوية

ولو أني لم أكمل مشواري في ثورة هنانو، فإن البلد قد نال " ."استقالله اخيرا

. وصل إلى أطراف بلدة عفرين، وأمام دار اآلغا أوقف السيارةاستقبل عبد القادر بحفاوة تليق بالرجل الذي سيصبح صهر عائلة

و من يملك الخان الذي يورد له اآلغا وكبار المزارعين اآلغا، وه .الزيت والزيتون لتتحقق للجميع أمانة وصدق صاحب الخان

رجال العائلة وعدد من الوجهاء في المنطقة، قرؤوا الفاتحة واذا ما . ها آية من القرآن جودها شيخ المسجدتبأصوات مرتفعه، أعقب

ادر يتقفان على مهر ابنته وموعد انفض الجمع انفرد اآلغا بعبد القالزواج، ليوافق الخاطب على كل المطالب محتفظا لنفسه بأن يقتصر

-١٢٢-

حفل العرس على أقارب الطرفين في اجتماعهم في حديقة بيت اآلغا وقد لعبت مهابة عبد القادر دورا في تردد اآلغا . الممتدة خلف داره

اقترحه زوج المستقبل من اإلقرار بمبدأ هذا النوع من السرية التي احتراما لذكرى زوجته األولى، فتمت الموافقة على الطلب شريطة

بين ) جليلة(ان يكون العرس الئقا بمكانة اآلغا في الجبل، وبأهمية وقد وافق عبد القادر على رغبة اآلغا ما دام العرس سيكون . النساء

.بعيدا عن حلبعبد القادر نسوة من وكان قد حدث قبل تلك الليلة، أن أرسل

أجمعت . طرفه الصطحاب الصبية جليلة إلى حمام السوق في حلبالنسوة على وصف العروس بالكمال الذي يليق برجل هو عبد القادر

وفي اليوم الحاسم شهدت . وقد وصفت جليلة على إنها خلقت لهحديقة اآلغا التي تحول ليلها إلى نهار جمعا غلب عليه أهل العروس

. ربها وعدد من أغوات الجبل، وكان فيه قلة من جماعة العريسوأقااألشجار تشاركت بحملها لمصابيح الكهرباء الملونة لتحجب نجوم

وتوزع الرجال على الكراسي المنتشرة وهم يدخنون . السماء الصافيةالنراجيل، بينما تصدرت الفرقة الموسيقية يقودها صوت المغني وهو

واستمر . على إيقاعها شباب وكهوليصدح بأغان كردية رقصوانتشرت النسوة على . الراقصون مع األغاني العربية يتمايلون

وكان عبد القادر مع اآلغا في . االسطحة يزغردن من حين آلخرزاوية من الحديقة يلفهما وقار السادة، ويهزان برأسيهما في أوقات

.مختلفة دليال على اإلعجاب بالفرقة والمغني

-١٢٣-

آلغا ليعود بابنته جليلة التي أطلت بثوبها المبرقع يضيء وغاب ابياضه بمشاركة وجهها الذي غطته ألوان تشع بكحل العينين

وهب الجميع يقفون . واحمرار الخدين وشفاه توهج منها لون الكرزإعجابا واحتراما، فكان األب يسلم األمانة للرجل الذي بات فعليا

.صهر العائلةوكانت جليلة بخمارها . لحديقة بعد غياب العروسيناستمر حفل ا

الشفاف تتقدم عبد القادر الذي أسرع إلى فتح سيارته، فأصبحت منذ وتحركت بهما السيارة يرافقها عدد من . تلك اللحظة أول خلوة لهما

الشاحنات الصغيرة والتراكتورات، وما أن وصل الموكب أول البلدة .حيدين في الطريق إلى حلبحتى ترك للعروسين انطالقهما وجليلة التي رفعت الخمار عن وجهها . دام الصمت فترة من الزمن

دفعت بعبد القادر إلى اختالس النظر من طرف عينيه فيقول لنفسه ويتابع مراقبا الطريق المظلم، فكانت . إن جمالها يفوق الوصف

قال . ةاألشجار كاالشباح المغلقة على نفسها، بينما جليلة كانت مضيئ :الزوج متجاوزا الصمت

."هي واسعة وترحب بك. ستحبين الدار"بعد قليل، وفي ظهور أنوار المصانع التي تبشر باالقتراب من

:المدينة ."ستلقين الترحيب من ولدي إبراهيم وعيشة"

-١٢٤-

-١٣-

وفي ليلة . لم يعرف الحي سيارة يملكها أحد غير عبد القادروتقدم عبد القادر . احة في وقت متأخرالعرس قدمت السيارة إلى السفتح باب الدار ففوجئ بالدادا صاحية . مع عروسه ليدخال الزقاق

وهي تجلس على حافة الحوض، والدار بأنوارها قد استعدت الستقبال :هبت المرأة واقفة ترحب بالقادمين وتقول. العروسين

."خفت أن تطلبا خدمة مني فانتظرت" : الدادا لعروسهوقال عبد القادر مقدما

."الدادا حلوم هي كاألم لألوالد، وهي من يرعانا"وكانت الدادا بخبرة عمرها الطويلة تتأمل العروس في محاولة لمقارنة بينها وبين أم الخير، لتنتهي بنظرتها الثاقبة إلى أنها وجدتها

وأخفت في . كعروس للرجل الذي تعامل معها كواحدة من أسرتهتدعو اهللا فيه أن تكون هذه المرأة كأم إبراهيم التي كانت سرها ابتهاال

.وهي أكثر من صادقة. كابنه لهاكانت الغرفة األخرى قد أعدت للعروسين، بعد ان أعطيت غرفة

وقد دخلها العريسان ليقول عبد القادر في . أم الخير لعائشة والدادافما كان من جليلة اال أن . أول خطوة انت اآلن في بيتك واهال بك

:أجابت بسعادة خجوله بستان اهلي خارج الدار، وأما. الدار واسعة والغرفة جميلة"

."بستانكم فداخله

-١٢٥-

واقترب عبد القادر من عروسه ليمسك بذراعها يقودها إلى :األريكة، فيجلسان وهو يقول

ومنذ هذه اللحظة أريدك أن تعرفي . بستاننا هو حديقتك يا جليلة" "أن حياتنا قد ابتدأت منذ اليوم في هذه الدار، وأنا من يحميك ويحبك

لتشعل النار في جسدها، فأطرقت برأسها وهي تسمع كلمة الحب كانت . وتدعذغ سمعها، وهي التي لم تسمع بالكلمة إال في األغاني

تحلم بها منذ أن كانت في عمر الفتوة وعيون الشباب تالحقها، إال أن .عبد القادر امتلكها

. أمسك بكفها يالمسها برقة، فوجدت نفسها تطبق عليها بكفهاا أن تذهب إلى الفراش لتسري وكان الصبح قد اقترب فقال الزوج له

كانت جليلة في ريعان أنوثتها، وكان عبد . في أوصالها الرعشةالقادرلم يعرف امرأة منذ مرض زوجته األولى، فتقارب االثنان

وكان عبد القادر قد . ليلتصقا في كتلة واحدة يضمهما سرير الشوقس التي نسي ضوء الكهرباء ليكشف لقاء الشريكين، اال أن أشعة الشم

أطلت على النائمين باستغراق عميق، كانت أقوى من نور الكهرباء، .ومع كل تلك اإلضاءة فإنها لم تدفع العروسين إلى االستيقاظ

انتصف النهار وكان يوم جمعة، فخرج الزوجان إلى الحوش وكان إبراهيم وعائشة يالحقان ديكا هرب من . يستقبالن رحلة جديدهوقفا . اء والدهما ليتقدما منه جالسا مع الزوجةقفصه، فاستجابا لند

باستعداد ليقدما االحترام الالئق، فما كان من جليلة إال أن همت على

-١٢٦-

عائشة تحتضنها، وإذا ما حاولت مع ابراهيم مد ذراعه يصافحها :وهو يقول

."مرحبا بك يا خالتي". ونانتشر األربعة على المقاعد التي ظللتها أوراق شجرة الليم

الجميع يبتسم، ولكن النظرات الفاحصة بأشكال متباينة أرسلها عبد القادر يدرس انطباع ولديه عن الزوجة . الواحد تجاه آخر

. القادمة إلى الدار، وجليلة ترى في ابني زوجها الود والوداعةوكان ابراهيم يحاول ان يستطلع موقف هذه الزوجة من االبنين

حملت نوعا من العاطفة تجاه خالتها لتجد عائشة فقد ا، أماوأبيهموهتف عبد . شيئا من أمها التي كانت الخير الذي حمله اسمها

.القادر فجأة متسائال عن طعام الغداءواجتمع األربعة حول المائدة في ركن ظللته دالية العنب، بينما الدادا تدور من حولهم، فطلب رأس العائلة منها أن تأخذ لها مكانا

نهم، فكانت هي المرة األولى التي يدعو الدادا إلى مشاركتهم بي :وقال. بالطعام

. !"أليس هو يوم الترحيب بجليلة تجتمع فيه العائلة" :وتساءلت عائشة وقد بدت أكبر سنا من عمرها

."هل سأناديك بخالتي، أم أنك تريدين االحتفاظ باسمك جليلة؟" : غامرفسارعت جليلة وهي تغمر الفتاة بحنان

-١٢٧-

أنا مثل أمك يا حبيبتي، وأتمنى أن تكوني لي أكثر من أخت " ."وأكثر من صديقة

:ا إبراهيم فجعل يتمتم بصوت يراد أن يسمعمأنتمنى ان نعيد الزمن إلى ما كان . كانت أمنا تحبنا، وقد أحببناها" ."عليه

:فإذا بعبد القادر يهتف قائال في توقفه عن الطعامكل . ولن يكون في الدار سوى الحب. ستحبكم أيضاخالتكم جليلة "

." اآلخركل منامن في عائلتي سيحب جليلة وعائشة تشتركان في الصداقة التي ولدت منذ . وتمر األيام

األيام األولى، ويستمر ابراهيم في لجوئه إلى غرفته يقرأ في كتبه يعود مساء وكان عبد القادر يمضي نهاره في الخان، ل. ويتابع دراسته

وجدت جليلة ما كانت تحلم به، وقد . إلى داره تسبقبله زوجه بزينتهاوذات يوم . غمرها الزوج بحنان المحبة بما فاق مشاعر األب

اكتشفت جليلة وهي تدخل إلى المطبخ الكبير إنكباب الدادا على إعداد الطعام، فإذا هي تبكى بصمت أمام طبق الفخار بينما تعمل على تنقيه

فوجئت الدادا بدخولها، فسارعت بمسح الدموع التي اكتشفتها . لعدساجليلة، فبادرت إلى السؤال إن كانت تشكو من ألم، فإجابتها بأن البصل هو السبب، إال أن البصل لم يكن بين يديها، فعادت إلى التساؤل إن كان أحد قد تسبب في مضايقتها، آنذاك ترددت الدادا

:لباإلجابة قبل أن تقو

-١٢٨-

ابو إبراهيم واألوالد، وأنت ياست . كلكم أحبائي، وأنتم أهلي" ."جليلة أيضا

:وأكملت الدادا حلوم، والدموع مازالت تلمع في عينيهاربيتها صغيرة ورعيتها في . اعذريني فأم الخير كانت لي كابنة"

رافقت مرضها وشهدت رحيلها، لذا أنا أبكيها كلما تذكرتها . زواجها ."وأنا وحيدة

:واقتربت جليلة منها لتحتضنها، وتهمس في اذنهاأال يمكن أن . اعتبريني مثل ابنتك، فأنت البركة التي ترعانا"

. !"أصبح أيضا مثل المرحومةوكانت حرارة العناق قد تغلغلت في وجود الدادا، فسالت دموعها

:شهقت وهي تقول. على خديها ."ما أطيب قلبك ياست جليلة"

ا من الدادا بما جرى في ذلك اليوم، فيدرك عبد القادر وسيعلم الحقوكان ما . أنه أحسن اختيار الزوجة ليزداد اإلعجاب والمحبة لها

يحدث من عالقة الصداقة بين عائشة وجليلة أثرها على ربط الزوجة .الراحلة بالجديدة، فاستبشر بالمستقبل ليكون كما كان ماضيه

رة فتستمر الطمأنينة فيها، إلى ما ودفعت به أحوال استقرار األسفقام عبد القادر . كان يدور في ذهنه من األمر الذي خطط له سابقا

بتحويل واحد من مستودعات الخان إلى معمل يعد أعالف

-١٢٩-

الحيوانات، فازداد عدد عماله، كما أنه استقبل عددا أكبر من الزبائن عمال أن بات رجال إال أن ما حدث في توسع األ. يقبلون على إنتاجه

. أمن من جهات مختلفة يزورون الخان في مراقبة دورية ألحوالهوكان عبد القادر يسخر في سره من تلك الرقابة التي شاركه فيها

وكانوا في جلسات الغرفة يتهامسون حول حكم . أصدقاء مقربون لهالشيشكلي بالقمع السائد، وكذلك للتلفيق الذي وسمت به االنتخابات

.لديكتاتور إلصاق الديمقراطية بهاي حاول نظام االتلم تقف أوضاع البالد األمنية في وجه تقدم المشروع، فمعمل األعالف بدأ يحقق إرباحا تعادل أو تزيد عن تسويق المحاصيل

:واذا ما اقترب موعد والدة جليلة هتف الحلبي في سره. والزيوتوالفضل ألم الخير فتحت أبواب الرزق طريقها أمام األبناء، "

."ولجليلة وجه الخيرالدادا حلوم هي أول من استلم مولود جليلة، أخذته من الداية

وبعد حين انتقل الرضيع إلى عائشة التي ضمته . لتحمله بين ذراعيهاواذا ما وصل الخبر إلى عبد القادر خرج من الخان . إلى صدرها

ية أهال بإسماعيل مسرعا، فإذا ما علم بأن القادم صبي هتف عالن .ليكون اسم القادم الجديد

، "لم إسماعيل" وسأل إبراهيم في جلسة ضمت جميع أفراد العائلة :فكان رد الوالد عليه

٩ م –احللبية السيرة

-١٣٠-

."أال تعلم يا ولدي أن اسماعيل هو ابن إبراهيم عليه السالم" :لكن الشاب الذي تجاوز عتبه الفتوة منذ زمن، هتف متعجبا

."يولكن إسماعيل هو أخ"وغمر عبد القادر بنظرات الحب ابنه ابراهيم، وتمنى لو أنه "

:ضمه إلى صدره، لكنه قالهو ابني، ولكنك ستمثلني في أبوة . ولكنك من سيرعاه يا ولدي"

."إسماعيل :فانقبض قلب ابراهيم، اال أنه تجاوز همه ليقول

."أدامك اهللا فأنت األب وأنت لنا دوما"ادة وهي تشكر اهللا أنه وضعها في اسرة فكانت جليلة تزداد سع

.عبد القادر الحلبي

-١٤-

كثيرا ما كان عبد القادر يحمل السعادة في أعماقه وهو يجول في يحيي . أرجاء الخان، من الساحة إلى المستودعات إلى معمل العلف

واذا ما عاد إلى مقره في . العاملين ويشد على أيدي البعض منهممه باالستماع إلى الراديو بينما يعمل في تدقيق الغرفة، افتتح يو

الفواتير والدفاتر وفي صباح يوم صيفي توقفت مروحته القش عن

-١٣١-

ضباط مصريون . الحركة أمام وجهه لخبر نقله الراديو إلى سمعهوتوسعت أذنا عبد القادر في متابعته . قاموا باالستيالء على الحكم

الغرفة يحمل نبأ التظاهرة التي وكان أول القادمين إلى. لتلك االحداث .سارت في وسط المدينة تأييدا لثورة يوليو

بات هم له في يومه، فكان يتابع أحيانا أحوال الثورة المصرية، وأصبح عبد القادر . وتحولت جلسات الغرفة إلى أحاديث عن مصر

الحلبي مديرا لتلك اللقاءات يؤيد ويحلل، ويعتبر أن عبد الناصر هو وقال في سره ذات مرة إن معرفته األولية التي . ائد الحقيقي للثورةالق

كان قد حصل عليها منذ سنين طويلة لم تقدم له شيئا، بينما اإلذاعة . والجرائد ومجريات األمور في البالد فتحت النوافذ على المعرفة

كان يدفع زواره إلى معاملته كصاحب مركز لمعلومات سياسية .اجتماعيةواقتصادية، بل و

وكثيرا ما تحدث في تلك الرحلة عن تشريد أهل فلسطين وزرع الدولة اليهودية الجديدة في أرضهم، فاختلط حديثه بذكريات جبل الزاوية معرجا على تاريخ المجاهدين الذين قصدوا فلسطين لمحاربة

وهو إذا . سرائيلإلصهيونية قبل فرض الدول العظمى العصابات ا ذكر االنقالبات العسكرية في سورية، أكد على تجاهل عن قصد

التبشير بنصر العرب في تطلعهم إلى الوحدة التي ستحرر فلسطين . من جذورهصهيونيل، بل إنها ستقتلع الكيان المن عدوان إسرائي

ويبدو أن زوار الحلبي من أصدقاء وزبائن، قد دفعه التفافهم حوله ا سياسة وأدبا، وكان إذا لم وإصغاؤهم إليه باتجاه الكتب يقرأ فيه

-١٣٢-

يشتريها فانه يستعيرها من ابنه ابراهيم، أو ان األستاذ يمده بها إهداء أو إعارة، وكان المعلم قد استقال من المدرسة ليعمل موظفا في شركة خاصة، بينما ظل مقيما في الحي، وقد رأى عبد القادر أنه من

.ذلكالعار أن يعمل األستاذ عنده، مع أنه تمنى وسيتابع أخبار مصر التي تحولت عنده إلى عادة يومية، منذ القضاء على الملكية إلى ظهور حقيقة جمال عبد الناصر كزعيم

بقي المذياع . عربي أجمع معظم الناس في الداخل والخارج على حبهمن آثار الحاج الباقية بصندوقه الخشبي الكبير، إال أن آذان عبد

ألستاذ ظلت خالل أيام ملتصقة بالراديو بانتظار ما القادر وإبراهيم واوفي ذلك المساء يلتصق سمعهم . أشيع عن إعالن نتائج البكالوريا

بذلك الصندوق يتطلعون إلى سماع اسم ابراهيم بين الناجحين، بينما طالب دمشق ومن بعدهم حلب، فكانت . االبن كان واثقا من ذلك

ذا ما تناهى إليهم اعالن اسم ابراهيم وا. األسماء تتوالى بإيقاع رتيبالتهبت المشاعر بصراخ صم اآلذان . عبد القادر الحلبي توقف الزمن

عن متابعة النتيجة، وهب األب إلى احتضان ابنه كما لم يحدث منذ وصل التهليل إلى العاملين بالخان فتوافدوا مباركين، . سنوات الطفولة

يم من العناق، وشغل بتلقي اضطر عبد القادر لإلفراج عن إبراهوفوجئ العمال بإعالن الحلبي عن مكافأة ستوزع . التهاني من الجميع

.عليهم إكراما للنجاح ولعيون الحبيب إبراهيمفي طريق العودة إلى الدار عقب اإلعالن عن النتائج، تشابكت األيدي، وكان عبد القادر يتساءل عن مستقبل إبراهيم والكلية التي

-١٣٣-

الناجح صامت والوالد يقترح عليه ان ينتسب إلى . اللتحاق بهاينوي اكلية الطب ليكون أول طبيب من أهل الحي، كما أنه لم يسبق ألحد أن يحصل على البكالوريا، فما كان إبراهيم إال أن خرج عن صمته ليقول إنه ولو حصل على العالمات الالزمة لدخول هذه الكلية فإنه

:قال إبراهيم. عنهاتخذ قرارا لن يحيد ."سأكون ضابطا في الشرطة. أريد أن أكون في سلك الشرطة"

نظر إلى إبراهيم الذي . صدمة المفاجأة أوقفت خطوات عبد القادرالدهشة منعته من أن يستوعب كلمات االبن محاوال . توقف احتراما

:قال في محاولة للتقرب. أن يصل إلى فهم لها تذهب إلى جامعة دمشق، تدرس في كلية .ما بال الطب يا ولدي"

."الطب، وتعود إلينا طبيبا :وكان إبراهيم الذي أطرق برأسه إلى األرض بتصميم وهو يقول

."أليست الشرطة في خدمة الناس؟. وما بال الشرطة يا والدي"في طريقه ابتدأ عبد القادر يرسم صورة . مشى االثنان من جديد

وعاد إلى التوقف ليخاطب . المشهدالضابط في مخليته، فأعجبه :إبراهيم

كنت منذ فترة أتخيل أنك ستدير الخان من بعدي، ولكن أحالمي "لم يسبق ألحد من عائلة . رسمت لك مهنة يتطلع إليها الناس باعجاب

. الحلبي أن حصل على غير الشهادة االبتدائية، فتفوقت أنت علينا ."أنت تستحق أكثر من ضابط شرطة

-١٣٤-

:من إبراهيم إال أن هم بالمشي ليخلف والده وراءهفما كان . !"تكون الشرطة أقل أهمية من المهن األخرى"

دخل إلى الدار، وقد فوجئ االثنان بالزغاريد تلعلع في فضاء اجتمعت النسوة من حولها يباركن النجاح الذي أعلنه . الحوش من عائشة عانقت إبراهيم وجليلة وجدت فرصة لتقبيله. الراديو

قال عبد القادر والجميع يلتف حول . خده، وبكت دادا فرحا :إبراهيم في الليوان

."تصوروا أن ابننا يريد أن يكون ضابط شرطة"لكن الدادا تحررت منها لتهتف بأن . وعقدت الدهشة األلسنة

إبراهيم سيكون زهرة الشرطة، ولحقت بها جليلة فتقول إن والده ن عائشة اعلنت عن رغبتها في أن تمنى أن يكون طبيبا، ولك

يتلقى إبراهيم العلم في جامعة أوربية، فما كان من عبد القادر إال :أن صرخ بخوف

."وهل تريدين يا عيشه أن يضيع أخوك في بالد الغربة؟" :آنذاك حسم إبراهيم الموقف وهو ممسك ببرتقالة تتبادلها كفاه

."قلت إني سأكون في سلك الشرطة"كانت لياقته . قادمة حملت ابراهيم إلى كلية الشرطةاأليام ال

الجسدية وردوده في امتحان القبول كتابة ومقابلة شفهية قد جعلته من وقد توقف رئيس لجنة المتقدمين عند اجابة إبراهيم عن . األوائل

:سؤاله ما الذي دفعه ليصبح رجل شرطة

-١٣٥-

لي من أمنية أردت لمجتمعنا أن ينعم باألمن، فأنا يا سيدي لم تكن"الشرطة . سوى توفير الطمأنينة للناس، وأن أبعد عنهم كل من يسيء

."دون شك تلعب الدور األكبر في تحقيق العدالةوظهر من حكم اللجنة التي دارت على المدن الختيار المتقدمين من حملة البكالوريا، أن ابراهيم الحلبي قد نال المركز األول ليصبح

.ستمتد لسنتينكابتن الدورة التي ومن طرف آخر، شهد سفر إبراهيم إلى مدينة أخرى حيث مكان الكلية، لقاء مؤثرا من األهل، فأخفى الجميع عنه دموع العيون، كما

:حبس هو عنهم البكاء، وقال في لحظات الوداع مخاطبا والدهكنت دوما األب األمثل والرجل الذي ابتدأ حياته بحب الوطن "

."أجلهوالتضحية من وفوجئ عبد القادر الذي أخفى عن أسرته أخبار اشتراكه في ثورة

:قال إبراهيم. هنانو، فلم يخطر بباله أن تتسرب إلى واحد من العائلةعدد كبير من أهل الحي تناقل أخبار ماضيك في ثورة جبل "

."أنا فخور بك يا والدي. الزاويةليصبح ابنه ضم الحلبي، وهو يتذكر ان اسمه كان أبو حلب،

وكان خروج . كادت الدموع تفلت منه ولكنه تماسك. ملتصقا بصدره .إبراهيم من الدار منطلقا إلى المستقبل الذي اختاره .سألت جليلة زوجها بعد يوم من غياب المسافر

-١٣٦-

."لم تصطحب إبراهيم إلى محطة القطار" :وأطرق عبد القادر برأسه متمتما بصوت مسموع

حطة رجال من الخان، وخشيت أن أضعف أمامهم رافقه إلى الم" ."لحظة الوداع

أمسكت جليلة بكفيه لتضمهما إلى وجهها، وهمست في اذن :زوجها

."لن تمضي السنتان حتى يعود إبراهيم إلينا ضابطا نفخر به" :اختنق صوت عبد القادر وهو ينطق بقوله

طفلي كنت أتصور دوما أن إبراهيم سيظل . حملته بين ذراعي"اليوم ابتعد، وبالرغم من أنه سيعود اال أنني أحسست . الجميل

."برجولته، ولن يلبث أن يذهب من جديداحتضنت زوجها كما كانت دوما تضم رضيعها اسماعيل إلى

استمر الحنان لدقائق، ولكن الرضيع بكى فجأة فهبت . صدرها تهدهده .مسرعة إلى سريره وهي تبتعد عن عبد القادر

الهاتف قد أدخل إلى الخان، فاألعمال التجارية اقتضت ذلك، كان إال أن عبد القادر أدخله إلى الدار قبل سفر إبراهيم تحسبا التصال

وهذا ما حدث فقد كان اول رنين للهاتف قد وصل من االبن . منهالغائب، والذي لم ينقطع عن الحديث مع األهل أسبوعيا، كما كان

. تكرر في السنة لمرات قليلةحضوره إلى الدار قد

-١٣٧-

الدهشة التي تحولت إلى صدمة، هي ما أصاب عبد القادر وللحكاية تاريخ سابق لحصول تلك الصدمة، فقد جاء إلى . الحلبي

الخان ذات يوم من أيام نمو وتطور زراعة القطن، رجل من الزبائن فقد تحول جزء من الخان إلى.. وطلب قرضا فاستجاب له عبد القادر

والحكاية لم تكن لها عالقة بذلك، . تخزين القطن الذي ورده الرجل :بل ان الرجل الستيني جاء منذ أيام ليتقدم بطلب جديد، وهو يقول

فقدت أم األوالد زوجتي المرحومة، ولكن الشرع يأمرني "رزقني اهللا أراضي وبيوتا وماال، وأكرمني . بالتعويض عنها

لمتطورين، وال ينقصني سوى ألصبح من كبار المزارعين اوأنت يا شيخ التجار ذلك األصل ، فأنت . زوجة من أصل كريم

."من أتشرف بالقرب منك :واستمر إصغاء عبد القادر، أو عجبه، بينما الرجل يكمل القول

."أبنتكم هي التي أتشرف بالتماس موافقتكم على زواجي منها"ال أنه فعل، وقال فلم يستطع الحلبي أن يمسك نفسه عن الغضب، إ

:كاظما غيظهولكن ابنتي عائشة مازالت صبية صغيرة تتابع علومها ! عيشة"

."في المدرسة : وقال مزارع القطن بلهجة الواثق

اسم اهللا . ابنتكم المصونة عائشة، صبية بالغة وحان وقت زواجها" ."عليها فقد كانت المرحومة زوجتي السابقة أصغر منها في العمر

-١٣٨-

عبد القادر بكالمه على الطريقة اإلمالئية، وهو يحاول أن ابتدأ :يرسم ابتسامة ماكرة على وجهه

ن تكمل أيا سيدي وموالي، أقول ان ابنتي مازالت تلميذة، وتريد " ."تعليمها الجامعي

:فقاطعه الرجل مستنكرا طريقته في الحديث ."ؤخرالمما تريد ليكون لك تسمية المقدم والمال جاهز، والمهر ك"

نقاذ الحلبي من الغضب الذي كاد أن ينفجر وتدخل رنين الهاتف إلذا ما شعر الرجل بأن إهانة قد ألحقت به إظل يتحدث طويال، و. عنده

وكانت تلك الحكاية سببا في عدم دخول . خرج غاضبا كثور هائج . من القطن لمزارع مهما كانشل

-١٥-

من يمضي لتكون اللحظة أيام تمر وشهور تتوالى، وبينما الزبراهيم بالنجمة على كتفه، فاستقبل في الحي الفخور إعاد . حاسمة

بابنه واألول بين أهله كضابط تشخص إليه األبصار فكان حدثا لم وكان الوقت عصرا لحظة دخوله فسحة . يشهد تاريخ الحي مثله

الخان ومن خلفه رجال من أهل الحي ويحيطون به، يهللون ويكبرونوسمع عبد . احتفاء بالضابط إبراهيم، وكأنه زعيم أو عائد من الحجوعند الباب . القادر من غرفته ما وصله من هرج ليطل على الجموع

-١٣٩-

إبراهيم ضابط الشرطة يحمله . تسمرت قدماه، فالمشهد كان مؤثرا .الرجال وكأنهم يريدون تقديمه إلى والده

عبد . تراما لحرارتهاالثنان غرقا في عناق وقف الجميع له احوأعلن . القادر يعاين بدلة الضابط ليعود من جديد إلى احتضانه

صاحب الخان عن شكره لالحتفاء بابنه العائد بالفخر الذي انعكس .على الحي، وأمسك بذراعه ليشقا الجموع وهما يعودان إلى الدار

دهشت عائشة لرؤية أخيها بزيه األنيق ونجمتين على كتفيه ط يتدلى على ذراعه، لتقول أن الصبايا سيفقدن توازنهن والشري

لرؤية الضابط، كما دهش ابراهيم الكتشاف خالته جليلة في وهم على أخيه اسماعيل الصغير . أيامها األخيرة من الحمل

. يحمله بين ذراعيه، فكان يطوف به و يسميه بالعفريت الجميلم منها، فرحبت به وبحث فجأة عن الدادا حلوم، و حين وجدها تقد

. كأم، واحتضنها مراعيا شيخوختها التي ابتدأت تدب في جسدهاولم يتوقف أفراد األسرة عن تأمل رجولة ابراهيم التي اكتملت،

.لتظل العيون متعلقة بههتفت عائشة من . أيام قليلة ما كادت تمر، حتى ولدت لجليلة ابنة

مع الفجر، فما أن حملها فرح أن أختا لها أصبحت حقيقة كان قدومهاتقدم ) صفيه(عبد القادر بين ذراعيه حتى شكر اهللا وليطلق عليها اسم

من زوجه باالمتنان لمنح عائشة أختا لها، ولألسرة فردا جديدا، .ليكون لعائلة الحلبي امتداد سيتوسع مع مرور الزمن ليمأل الدار

-١٤٠-

ئشة على وحصلت عا. كانت أيام حكم أديب الشيشكلي قد ولتشهادة البكالوريا، لتكون من أوائل بنات الحي اللواتي وصلن إلى هذا

كانت خطتها في دخول الجامعة بعكس أترابها . المستوى من التعليمقبلت عائشة في كلية الطب، . اللواتي أردن االلتحاق ببيت الزوجية

:فتشكل عند والدها هم في سفرها إلى دمشق، فكانت تقول ."هيم ان يكون طبيبا، وها أنا من سيحقق لك أمنيتكأردت البرا"

رافق عائشة إلى دمشق، وإذا ما اطمأن إلى مبيتها في دير ولم يكن هناك من أسبوع ال . للراهبات، عاد عبد القادر إلى حلب

تتصل به عائشة تخبره عن تفاصيل حياتها في الجامعة أو الدير، واذا . لبها فتتعلل بانشغالها في الدراسةما تجاوز اتصالها األسبوع، قام بط

.وهكذا مضت األياموفوجئ عبد القادر في ذلك اليوم بمجيء ابن له لم يكمل شهره

، إال أن عبد القادر )السبيعي(السابع، فاقترحت الدادا ان يسمى واهتدى إلى . استمهل تسجيله في قيد النفوس، باحثا عن اسم للطفل

به لقدرته على تحدي الصعوبات من اطالق اسم الزعيم الذي أغرم ).جمال(مؤامرات حيكت ضده، فسجل االبن دون تردد ليصبح

كان إبراهيم منذ أكثر من سنة، قد عين قائمقاما في ناحية من ريف حلب، واشتهر في أوساط وزارة الداخلية بالحزم مما أدى إلى ل وقف اقتتال فريقين من العشائر، بل جمعهما على وفاق لتزو

األحقاد، فكانت المائدة تضم األفراد المتخاصمين على أرض

-١٤١-

كانت إدارته لتلك الناحية مضرب مثل عند الحكومة، . وميراثفثارت غيرة عدد من القائمقامين من ذلك الضابط ابراهيم، بل انها

وبالرغم من محاوالت الغيرة . امتدت لتشمل بعضا من المحافظينفقد منح أكثر من ثناء على جهده، فكانت المثارة ضد الشاب المميز،

.له الفرصة في لقاء وزير الداخلية ألكثر من مرة، لينتسب إلى كلية وقد وجد إبراهيم في السكن وحيدا فرصة

وبالرغم من . الحقوق التي لم تكن بحاجة إلى متابعة الحضور فيهاضر مناهجها ليشغل وقته خارج العمل حأانها في دمشق فقد

د على دار أهله في حلب مرتين في الشهر، كان يترد. الحكومي :وعن عائشة قال مرة لوالده. خوته الصغارإيالعب

أنت أفسحت المجال لطموح . أعلم واثقا بتميزك عن بقية الرجال"عيشة في ان تدرس لتكون طبيبة وفي دمشق، فهذا أمر يفوق

."لذا فأنا أحمل لك كل االحترام على انفتاحك. التصوركانت عائشة قد ابتدأت دراسة الطب بعد سنتها األولى من تلقيها

) بدور(، وقد شاركتها الغرفة في دير الراهبات )ب.س.ب(لمرحلة طالبة في كلية العلوم قدمت من الساحل، ذكية مرحة، فكانت منذ األيام األولى تسأل عائشة ان كان لها حبيب يقيم في دمشق أو تراسله

يجاب، فوالدها هو الحبيب األول وأخوها ابراهيم في حلب، فردت باإلوكانت بدور . الثاني، والصغيران إسماعيل وجمال هما أحب األوالد

:تصغي، وفي اللحظة التي توقفت عائشة عن الكالم، ابتدأت هي

-١٤٢-

رجل يا زميلتي . أسألك إن كان لك حبيب تتقابالن أو تتراسالن"يهمس في اذنك بالشعر تضمينه إلى صدرك، يحبك ويداعب شعرك،

."أو التغزل بمفاتن جسدكعائشة تسمع اال أنها لم تستطع أن تقدر أبعاد الحديث، أو ما يمكن

ولكن نارا كادت أن تحدث . أن ينشأ من عالقة بين رجل وامرأة :حريقا مبهما في جسدها، فتمالكت مشاعرها في قولها

يمكن لي حبه إال أبي أقول لك إن احدا ال . هذا يكفي يا بدور" ."وأخوتي

قالت بعد قليل وهي تطل على الشارع من . وأفلتت بدور بالضحك :نافذة الغرفة

.!"أيمكن ألحد أال يحب. عجائز وشباب. نساء. رجال" :وقالت مستلقية على الفراش تحدق في السقف

."مسكينة المرأة تعيش في هذا العصر من غير حبيب"مكتبها تقرأ في كتاب جامعي، فلم تعر وكانت عائشة تجلس إلى

ويبدو أن بدور قد يئست في أيامها المقبلة . اي اهتمام لقول الشريكة .من الحديث مع الفتاة القادمة من قلب حلب القديمة

انتقل من وظيفة القائمقام إلى مخفر في . وما جرى إلبراهيم فاجأهير الجديد، حلب، وذلك بناء على دسيسة من زعيم عشيرة عند الوز

وحدث احتفال . فلم تشفع له إدارته وال فض النزاعات بين عشيرتين

-١٤٣-

للعائد إلى داره وهو يحمل نجمة أخرى على كتفه، ولكن عمله في إذن فقد عاد االبن إلى أحضان . المخفر بات تابعا لرئيس غيره

.األهل، وما كان ينقص الدار سوى عائشة، )زينب(أطلق عليها اسم وولدت لعبد القادر بنت سرعان ما

وكان قدومها إلى الحياة، يسبق بأيام اعالن الوحدة بين سورية األحياء خرجت . مجيء زينب غطت عليه أفراح المدينة. ومصر

وكان عبد . برجالها ونسائها وأطفالها في مسيرات تهتف للوحدةالناصر النجم الغائب عن التظاهرات واالحتفاالت، ولم يتخلف عبد

ر الحلبي عنها فقد فتح الخان أمام المهنئين من العمال والوافدين القادواستمرت األفراح في الساحة الكبرى للخان . من األحياء المجاورة

.على إيقاع الطبول والمزاميرواذا ما ألحت الجماهير المحتشدة على عبد القادر ان يلقي خطابا،

:وقف قائالأهنئكم . بعده جمال عبد الناصرأصبح لنا من . مات ابراهيم هنانو"

."فالوطن بخيرإال أن . وسكت عن الكالم، واما الجميع فكان بانتظار متابعة خطابه

. الخطيب نزل من على كرسيه الذي اعتاله، فاهتزت األكف بالتصفيققال أحدهم ان الكالم من ذهب، وهتف واحد من عمال الخان ان هنانو

واقترب مختار الحارة من عبد . ربوعبد الناصر من أبطال ثورة الع :القادر ليشد على يده، يخاطبه بصوت سمعه اآلخرون

-١٤٤-

كنت يا شيخ التجار سيد من وصف لنا . خير الكالم ما قل ودل" ."التاريخ والحاضر

كان وراء مكتبه في المخفر وهو . فوجئ إبراهيم بالقرارشرطة وفي لقاء مع قائد ال. يتسلم كتاب انتقاله إلى جهاز أمني

واذا علم . قيل له أن أكفأ الضباط هم من يختطف من قوى األمنعبد القادر بذلك، أدرك ان ابنه قد دخل مرحلة مهمة من حياته،

وقال متمنيا ان ينتهي من دراسة . إال أنه ستواجهه المتاعبوأدار . الحقوق ليسلك طريق اإلدارة المدينة فهي األسلم له

:سأل ابنهالحديث في منحى آخر لي ."الزواج سنة يا إبراهيم. متى سنفرح بك"

واذا ما أجاب ابراهيم بان ما هو مكتوب علينا سيكون، فارتسمت ابتسامة على وجه عبد القادر متذكرا أمه في إلحاحها على زواجه،

وعجز إبراهيم من فهم ابتسامة والده فلم . إال أنه لم يشر إلى ذكرها .يسأل عن سرها

-١٦-

لترقية جاءت في وقت مبكر فأصبح إبراهيم نقيبا مع تسلمه لملف اأعداء الوحدة، وكعادته في االلتزام تحول منذ أيامه األولى في األمن

بث المخبرين في المقاهي . إلى إدارة ذلك الملف بحزم وجدية

-١٤٥-

أحكم العيون في الشوارع ودور السينما . والدوائر الرسمية والمدارسدم كان مجرد االشتباه في كالم يسيء إلى عبد الناصر وملعب كرة الق

في المقام األول، أو إلى نظام الوحدة، يتسبب في اعتقال وفق خطورة .ويزج بمرتكبها في أقبية ال تعرف الشمس. التهمة

االتحاد (ويوم أعلن عن انتخاب مجالس المدن، برز تنظيم وحيدا بعد إلغاء بقرار من حكومة الوحدة المركزية ليكون) القومي

وقد ورد تقرير إلى مكتب ابراهيم يشير إلى . األحزاب بشكل كاملوجاء على رأس . عدد من الممتنعين عن االنتساب إلى ذلك التنظيم

ويفاجأ االبن بابيه، والذي عرف عنه . القائمة اسم عبد القادر الحلبي .إعجابه بعبد الناصر والوحدة بين البلدين

لجنة من أعضاء االتحاد القومي عبد القادر وقد سبق أن زارتفي الخان، تدعوه للتقدم إلى االنتخابات بعد تسجيله منتسبا إلى

ي أحياء حلب القديمة، التنظيم، ولعلمها بأنه يتمتع بمحبة الناس فودهشت . مرموقة بين التجار وعند أهل األسواقمكانةوباحتالله

لن عن عدم أهليته ليكون ممثال اللجنة العتذار عبد القادر الذي أع :ألهل حلب، وهو يقول

صحيح أنني أتابع األخبار واقرأ الصحف والمجالت، وأنا من "الذين هللوا للوحدة مع مصر، إال أنني ال أملك الوقت للعمل

وأرجو . السياسي، فلدي ما يشغلني من إدارة األعمال في الخان ."ابات فلست اهال لهااعتباري عضوا في االتحاد، أما االنتخ

١٠ م –السيرة احللبية

-١٤٦-

إال أنه . وبالرغم من محاولة أخرى في إقناع عبد القادر الحلبيظل ممسكا بحجته، فما كان من عضو في اللجنة إال أن تقدم بتقرير

وكما هو الحال فقد . نسب فيه إلى الحلبي العداء للوحدة ولعبد الناصراء مكتبه، وكانت انتهى التقرير إلى يد ابراهيم الذي لبث جامدا ور

كان يعلم يقينا بأن والده لم يكن لحظة . عيناه التفارقان كتاب االتهامضد الوحدة، بل هو أشد المتحمسين لها ولرئاسة عبد الناصر المتطلع

.إلى بناء الوحدة العربية انطالقا من وحدة البلدينواستمر البحث والتقصي عن كاتب التقرير واالسباب التي دفعته

اكتشف أن عضو االتحاد لم يقتصر على . توجيه التهمة لوالدهإلى توجيه التهمة إلى عبد القادر الحلبي، بل إنه قصد الطعن أيضا في

نجاح األب في أعماله وتفوق االبن في . شخص رجل األمن إبراهيم .وظيفته، هما السبب في حقد كاتب التقرير

م عن والده، إال أنه أخفاه ابراهي. لم يذكر شيئا عن ذلك التقريركلف عددا من رجاله مالحقة أخبار الرجل الذي كان موظفا صغيرا في مديرية التموين وبقدرة قادر أصبح مقررا في واحدة من لجان

ونبشت ملفات الرجل لتثبت أنه ارتكب ما يكفي من . االتحاد والقومي االتحاد مخالفات وأخطاء استدعت التحقيق بها، إال أن اختياره في

وكان إبراهيم قد ابتدأ أولى خطواته في باب االنتقام . أوقف كل تحقيق :لوالده ولنفسه، فيقول في سره

الرحمة ال . من ضربك على خدك فاضربه حتى يقع أرضا" ."يستحقها الظالمون

-١٤٧-

وبات إبراهيم أكثر تدقيقا في تقارير المخبرين، فهو يحاول ان تبين له أن نسبة منها تدل على الكيد أو يتبين صدقها من كذبها ، وسي

.الموقف العدائي، أو لتصفية الحسابات الشخصية :وتساءل إبراهيم أمام رئيس فرع األمن التابع له

. ال يعقل يا سيدي أن ترتفع نسبة االتهامات الكاذبة بحق الناس"المخبرون فيهم من يلفق ويكذب، والمتطوعون من فئات مختلفة،

وأساتذة مدارس وغيرهم، البعض منهم يريد إلصاق محامون وقضاة ."التهم بآخرين

:فما كان من الرئيس إال االنتفاض غضبا، ليقاطعه بقولهاسمع . أتريد أن يلعب أعداء الوحدة بذيلهم دون أن نقتص منهم"

أيها الضابط إبراهيم إن تهاونك ليس من سياسة الحكم، وأريدك أن ."صومتكون أكثر حزما مع الخ

. خرج من مكتب الرئيس حامال اليأس الذي أدخله إلى قلبه حديثهواستقر في مكتبه محاوال أن يستعيد كل أيامه في األمن، وفي لحظة اتخذ قراره في العودة إلى الشرطة، إال أنه ما لبث أن طرح على

.وكيف يكون الخالص؟: نفسه للسؤال ملف أعداء الوحدة قرار سحبإبراهيم أيام حتى تلقى لم تمض

) النيرب(منه، وكلف بمتابعة شؤون الالجئين الفلسطينيين في مخيم كان المخيم يضم أوائل الفلسطينيين في قرية . الذي كان أهم تجمع لهم

-١٤٨-

تلتصق بحدود المدينة، وقد تحول إلى بلدة صغيرة ينتمي سكانها إلى لب وعمل معظم الالجئين في ح. فرق خرجت منها أحزاب مختلفة

يعودون مساء إلى المخيم، بينما آخرون كانوا يديرون ويخدمون في ).األونروا(الدكاكين والمقاهي، وكذلك مدرسة االمم المتحدة

وقرر ابراهيم أن يقوم بزيارة للمخيم، بعد أن قدمت له المعلومات كان . التي تصف أحواله من أوضاع اجتماعية واقتصادية وفكرية

ه، وقد تخفى في شخصية صحفي يحمل الكاميرا، بلباسه المدني كعادتقابل الناس في . مدعيا انه يكتب سلسلة مقاالت عن أوضاع المخيم

األزقة وداخل البيوت، وما يمكن تسميته بالمقاهي الشعبية القليلة .والمنتشرة على أرصفة ضيقة احتلت كراسيها قلة من رجال عجائز

ل النعش أربعة من فجأة خرجت جنازة من شارع ضيق، وقد حمالرجال يلحق بهم عدد قليل من المشيعين، وقد غلبت عليهم نسوة

تابع إبراهيم الموكب الصغير يقوده شيخ يردد في خطواته . صامتاتواذا ما وصل المشيعون إلى . بالتكبير يلحقه بطلب قراءة الفاتحة

أرض انتشرت فيها القبور متناثرة، توقفوا عند صخرة أعدت للقادم ولم يكن إبراهيم قد حضر أية جنازة سوى يوم وداع أمه، . لجديدا

وكأن انزال الميت في القبر لم . فكأن الذكريات قد استيقظت بداخلهيشغله عن مراقبة المرأة الشابة الواقفة عن بعد، فخيل إليه أن الدموع قد جمدت في عيونها أو أنها لم تكن أصال، اال أنها وقفت ذاهلة عن

يجري من حولها، فلم تكن لتعير اهتماما بنحيب النسوة كل ما .وعويلهن، واذا ابتدأ الشيخ توقفن، ليعمل هو على تالوة سورة البقرة

-١٤٩-

المرأة التي اتشحت بالسواد وشمس نيسان قد احتضنتها لتبدو ودار في سر إبراهيم سؤال . كصبية ال يشبهها أحد بوجهها وقوامها

وظلت الحيرة عنده وقد عاد . أم أختهان كانت ابنة للرجل الراحلمن المقبرة ليتخد له مقعدا في المقهى، فاستمع إلى كهلين يتحدثان

:فالتقط سمعه أحدهما يقولالعجوز المسكين، رحمه اهللا، لم يهنأ بزواجه من صبية في عمر " ."بناته

:ويقول اآلخر وهو يعتدل في جلوسهزوجته فرحل بعد زواجه المرحوم لم يمهله الحظ لينعم بجمال "

."بأشهر قليلةوكان . علم إبراهيم أن حديث الرجلين يدور حول تلك الجنازة :واحد من الرجلين قد رمقه بنظرة فاحصة متوجها منه بسؤال

أهل المخيم لم تتشرف . هل األخ من المخيم؟ أعتقد أنه من حلب" ."بالمعرفة

قة تلك المرأة ، وكأنه يرغب بسماع أكثر عن عالأجاب إبراهيم :بالمتوفى

محسوبكم صحافي، والمرحوم ال يستحق سوى الرحمة وقراءة " ."الفاتحة على روحه

:فقال الرجل مرحبا

-١٥٠-

."أهال بالصحافة، ولكن المرحوم يستحق اإلشفاق قبل الفاتحة" :وعلق اآلخر بالقول، كمن حمل تأثرا في نفسه

البنت . ية فيستأثر بهاأيعقل أيها األخ أن يستغل العجوز فقر الصب" ."كانت أجمل النساء

:ويكمل بغضب وهو يضرب الطاولة بقبضتهالمسكينة وقعت بين أيدي . حصل بماله على أجمل نسوة المخيم"

."الرجل غير المناسب :أضاف اآلخر مشاركا غضب جليسه

وعلى كل حال ال يجوز . باعتها أمها الحيزبون بأبخس االثمان" ."رحمةعلى الميت غير ال

-١٧-

كانت خطة إبراهيم في العودة إلى المخيم هدفها األول المرأة ومهد لها في إرسال رجاله الستجالء ). ليلى(األرملة التي كان اسمها

أحوال الفلسطينيين، ووجد في أحدهم من أقنع األم بدفع ابنتها ليلى إلى العمل في إدارة حصر التبغ والتنباك، وكان مديرها على صلة

التي تبقيها في ) العدة(اقتنعت ليلى من أمها فأهملت فترة . باألمنعزلة لشهور بعد وفاة الزوج، وهرعت إلى قبول الوظيفة التي ستضمن لها دخال، وذلك لمعاناتها من أهل زوجها الذين حرموها من

.أي صداق أو ميراث، خوفا من شراستهم

-١٥١-

انت قد ك. وابتدأت ليلى عملها في مقسم هاتف المصنعحصلت على شهادة الكفاءة، بينما العامالت في قسم اعداد

منذ . السجائر كن من األميات، وقلة منهن أتقنت القراءة والكتابةاأليام األولى حصلت ليلى على وسيلة لالنتقال من المخيم إلى المصنع وبالعكس، وكان باص االدارة يقلها بالرغم من أقامتها

أمر بذلك استجابة لطلب إبراهيم ، ظنا منه البعيدة، ولكن المدير أن الفتاة على صلة باألمن، وهكذا توفرت لها الحماية فلم يقترب

وساد بين العمال الذين معظمهم . أحد منها في سؤال أو مضايقة .من النساء، احترام تخوفا من غضب الذي يرعاها

. قاءعائشة كانت في زيارة ألهلها في حلب، جمعها مع إبراهيم لاألخوان الصديقان تبادال األخبار، فاذا بإبراهيم يكشف لها سره الذي

:لم يعلنه ألحد ."وقع أخوك ابراهيم في الحب" ."هذا من حقك يا إبراهيم "

:وأضافت عائشة بقولها ."زميل لي في كلية الطب أظنني بت أميل إليه. أتحفظ السر"

فترة يتأملها ثم هتف لبث . واستيقظ رجل األمن في داخل إبراهيم :بالقول ."ما مدى ميلك لزميلك هذا؟ أهو يليق بك؟"

-١٥٢-

توقف عن سلوك المحقق . كان إبراهيم يحمل احتراما كبيرا ألخته :ليسألها برقة

أعلم يا عائشة أنك في خطواتك األخيرة لتكوني طبيبة، وال أشك " ."في اختيارك

:قولووجدت عائشة فسحة لها في قول أخيها، فجعلت ت. هو شاب خجول ولكنه من أفضل الطالب. أحسست بميله لي"

."مثقف ورقيق، وهو من عائلة طبية من حلب :ومالت عائشة على اذن ابراهيم تهمس فيها

."وسائلك كرجل في األمن تسمح لك باالستفسار عنه وعن عائلته"اثار إعجابه باألخت التي يراها تقدم على اختيار زوج بعقل

وكان أن سألت . ما هو وقع في الحب دون مكابح لمشاعرهراجح، بين :عائشة فجأة

. !"ال بد أنها فتاة تليق بك. ما حكاية حبك" :حملت اجابته ترددا، لكنه ما لبث ان قال

."ستعرفين يا أختي في الوقت المناسب"، الذي تحدثت )طالب(واستطاع إبراهيم أن يجمع في تحريه عن

يا من المعلومات هو االبن الوحيد لطبيب جراح عائشة عنه، قدرا كافعرف في المدينة بمهارته وميوله اليسارية، إال أن االبن لم ينتسب إلى الحزب الشيوعي كأبيه الذي لم يقترب أحد منه للمهابة التي

-١٥٣-

كان الشاب منذ أيام المدرسة وحتى فترة الجامعة نموذجا . حظي بهاوفي حديثه الهاتفي مع . ر رفاقه منذ صباهلالخالق والثقافة، ونال تقدي

عائشة أثنى إبراهيم على زميلها، فكان أن قالت بأن طالب يود زيارة قال ابراهيم ان . أهلها فاستمهلته لمعرفة ما جرى في االستقصاء عنه

. الشاب زميلها سيكون مرحبا به، ولكن علينا موافقة الوالدليلى . م منها بخطوة فعالةقرر هو أن يتقد. وعن إبراهيم وليلى

التي كانت قد لمحته من غرفة سنترال الهاتف وهو يقوم بزيارة ذلك الزائر لمدير المؤسسة ألكثر من مرة، وتساءلت في سرها عن

بداخلها دفعها إلى التفكير، إال أنها لم تجرؤ االذي أضمرت له إعجاب .مرة على االستفسار من أحد عنه

طوة إبراهيم الفعالة منها، وكانت ليلى وفي ذلك اليوم ومع ختستعد لركوب باص الشركة للعودة إلى المخيم، فإذا بسائق سيارة

فوجئت ليلى بان الرجل . إبراهيم يطلب منها مقابلة رئيسه النقيبالذي كان يزور المدير هو الذي دعاها إلى اصطحابها إلى منزلها في

دم إبراهيم نفسه على أنه ق. المخيم، فتغلبت على ترددها لتمضي معهضابط مسؤول عن أمن مخيم النيرب، واذا اطمأنت ليلى إليه قالت

وفي الطريق خرج . لنفسها إن كانت هناك مشكلة ما لها عالقة بها : عن صمته ليقولإبراهيم

اطمئني يا سيدة ليلى فالسائق سيعيدك إلى منزلك بدال من باص " ."الشركة

-١٥٤-

. م في سكوتها بينما تراقب الطريقاستمرت ليلى بجانب ابراهيواذا ما اقتربت . كانت نبرة صوت محدثها قد ساهمت في تهدئتها

:السيارة من مدخل المخيم، قالت ."أنت تعرف اسمي، إال أنني ال اعرف شيئا عنك" ."اسمي ابراهيم الحلبي، ولست هنا بصفتي ضابط أمن"

قال . تتساءل ولم أنا؟أجاب ابراهيم بينما أطالت ليلى النظر إليه، و :لها

."أنا في طريقي إلى المخيم، وأنت ذاهبة إليه"الرجل . عاد الصمت إلى نصب شباكه في صندوق السيارة

والمرأة يراقبان الطريق وهو يطوى بطرفيه العاريين إال من أشجار :من جديد كان همس ابراهيم يصل سمع ليلى. قليلة وبيوت متفرقة

."م الدفنرأيتك ألول مرة يو" :وعاد إبراهيم إلى القول. استنفرت أحاسيس ليلى

زوجك الراحل يوارى التراب وكنت بعيدة . كنت ذاهلة بال دموع" ."عن المشيعين

ثير غضبا، لكنها تمالكت خرجت اللحظات القديمة على ليلى ت :قولتنفسها ل

."كانت نهاية مرحلة مغتصبة من حياتي، وها هي تنتهي"

-١٥٥-

:اعرها لتقول وكأنها تتحدث عن امرأة غيرهاوتحكمت في مشزواج من عجوز وهي الصغيرة من طرف، وفقر عاشته الصبية "

وهكذا سقطت المرأة في فخ زواج ظالم، لتشكر اهللا . من طرف آخر ."أنه لم يدم اال لشهور قليلة

:هتفت بعد قليل مطرقة برأسهابراثن ذاك لم أكد أبلغ الثامنة عشر من عمري، حتى وقعت بين "

."الرجلوتجاوز السائق حمارا شاردا يقطع الطريق، في الوقت الذي قالت

:ساخرة ."أراد الزوج دهس حياتي، فنجوت"

كانت السيارة قد وصلت إلى مدخل الشارع المؤدي إلى بيت :ليلى، فطلبت هي من السائق أن يتوقف لينزلها وهي تقول

."شكرا لك يا سيدي" ." ليلى، وأنا اشكر لك شرف مرافقتياسمي إبراهيم يا"

:وقالت ليلى مودعةتمنيت لودعوتك إلى بيتنا، ولكني أخشى أقاويل أهل المخيم، فأنت "

."ضابط أمنوما لبث أن أشار إلى السائق ان . تمتم ابراهيم باني أقدر موقفك

وفيما السيارة تمر على األرض الخالء، كانت . يمضي في طريقه :أجواء روحهالكلمات تدور في

-١٥٦-

."هل وقعت في شباكها؟. لم أقابل مثلها في حياتي. امرأة رائعة"يوم آخر لتستيقظ المدينة على أصوات الراديو في كل مكان،

سورية في خندق ومصر في آخر، . وهي تلعلع بأنباء االنفصال. وهكذا كان االنفصال الذي دوى انفجاره في معظم أرجاء البالد

:لبي في حوش الدار، ودار كالتائه في إرجائهصرخ عبد القادر الح ."ضاع الحلم العربي، الويل لنا"

خرج إبراهيم من غرفته مذعورا، وكان الصراخ هو الذي :شاهد والده للمرة األولى باكيا وهو يندب. استدعاه

."هدموا البناء الذي كنا نحلم به. ضربوا الوحدة" يعيد من جديد بيان وكان جهاز الراديو الموجود في الليوان

االنفصال، فالتصقت به اذن ابراهيم بعد قليل اقترب عبد القادر من ولم تمض لحظات حتى قدمت جليلة لتستمع إلى . ابنه يتخذ له مقعدا

األخبار، ومن بعدها جاءت الدادا بصينية القهوة لتضعها أمامهم وهي .تتساءل عن الحكاية التي لم تفهم منها شيئا

وما عادت الموسيقا العسكرية بين . ول على أهل الدارخيم الذهجلس إبراهيم يواجه عبد القادر بنظرات . فواصل األخبار تسمع

يائسة، وكانت الكلمات تعجز عن خروجها من فم االثنين، بينما جليلة .كان الصباح كئيبا. بدت حائرة ولم تخدش الصمت الذي غرقا فيه

-١٥٧-

-١٨-

ة نقيب قد حدث منذ شهور، قبل كان حصول إبراهيم على رتبذلك اللقاء األول مع ليلى، ولكن أسبوعا واحدا مر على اعالن

استدعته المخابرات العسكرية فخرج . االنفصال، ليوقف عن العملعرف أنه . من مكتبه ليصبح نزيل القبو عندها، محفوفا برجال ستة

.بات قيد االعتقالرجال . د الكبير من الموقوفينلم تكن الزنزانة لتستوعب هذا العد

استندوا بظهورهم إلى الحائط، وآخرون وقفوا على أرجلهم فانضموتباهى عدد من الحضور باإلعالن عن أنهم ضد . إليهم إبراهيم

واستمر إبراهيم في الوقوف إلى ، االنفصال، بينما اآلخرون صمتوانما تعالت أن مرت الليلة عليه دون أن تصدر عنه إشارة بالتذمر، بي

ومع الصباح استدعي إبراهيم بشكل . األصوات تعلن عن الجوعلم يتكلم . منفرد، ليواجه محققا ارتسمت على وجهه خطوط قوة

الرجل، بل قدم له ورقه حملت كلماتها صرفا البراهيم من الخدمة في ولم يملك إبراهيم سوى ابتسامة أثارت اهتمام . الشرطة واألمن

اهيم ان كانت هذه الورقة تعنى اإلبقاء عليه موقوفا سأل إبر. المحققوسأل ان كان بإمكانه العودة إلى . في القبو، لكن الجواب أتاه بالنفي

:وتساءل ابراهيم وهو يغادر المبنى. البيت، فقيل له إن إذنه معهالم تكن الحكاية كلها مهزلة، وتثير من بداياتها إلى ما انتهيت "

."إليه، عجبي

-١٥٨-

. يقطع شوارع المدينة، وقد قادته أقدامه ليصل إلى الخانماشيادخل غرفة والده الذي هب واقفا يتساءل عن سبب غيابه الذي أقلق

:الجميع، فما كان من إبراهيم اال ان ارتمى على مقعد وهو يقول ."قلت دوما إنها مفيدة ألكون محاميا. شهادة كلية الحقوق ستنفع"

وه أن النظام السياسي الجديد قد استغنى عن وأدرك عبد القادر لتوجعل ابراهيم يقول . خدمات ابنه وقام بتسريحه، فلم يعلق بكلمة

:لنفسه، فيسمع ."لم أكن الئقا كرجل أمن، لم أكن أبدا"

كان عبد القادر يفكر في طريقة لطي صفحة الماضي، فوجد نفسه :مندفعا إلى القول

أنت مؤهل ألي عمل يكون بك . ضليليق بك يا ولدي ما هو أف" ."هو األفضل

أعاد إبراهيم استعراض الشريط القديم، وهو يدعو ليلى بواسطة رآها تخرج من زحمة التشييع وهي منتصبة القامة تجول . سائقه

وكانت تتقدم منه لتجلس في . بنظراتها التائهة في أرجاء المقبرة منذ اللحظات األولى، بدت ليلى التي ابتدأ حبه لها. السيارة إلى جانبه :وكأنها تسمع سره

."ليس لي غيرك يا ليلى، وليس لك أحد سواي"يدخل . وفي الدار قلق عبد القادر من بقاء ابراهيم ال يغادر غرفته

في اليوم . عليه فال يقرأ أيا من عالمات االستسالم في وجه ابنه

-١٥٩-

القادر وهل أنت الثالث استأذن إبراهيم أن يستخدم سيارته، فقال عبد .بحاجة إلى طلب إذن مني؟. وقاد إبراهيم السيارة يسابقها بمشاعره. مصنع التبغ حيث ليلى

دخل مكتب المدير ولكنه فوجئ بآخر يحتل مكانه، واذا ما سأل عن ليلى عاملة الهاتف قيل له إنها طردت ألنها كانت عميلة للمخابرات

:ع يحادث نفسهفما أن خرج من المبنى حتى سم. الناصرية ."دفعت ليلى الثمن الذي لم يكن لها ذنب فيه"

كان في الطريق إليه تنتابه مشاعر . وانطلق بالسيارة إلى المخيمليلى البعيدة عنه . الذنب فال يتغلب عليها إال بالمحبة التي يحملها لها

فاذا هي تجلس قربه تغمره بكلمات تغمغمها، فيتطلع إليها ليجدها على كانت أمنيته ان . يال يشعل خياله وجسده وتحملها مبتعدة عنهأجنحة خ

:أن يمسك بكفها ويقول لها. تكون ملتصقة به فال يسمح أن تفارقه ."أريدك كما لم يحدث لرجل أحب امرأة مثلك"

استدل إبراهيم على بيتها من فتى يحمل سطل ماء، فتوجه إلى ديم من البقايا اطراف المخيم الذي كان في فضائه مستودع صفيح قكان الوحيد . التي خلفتها جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية

الباقي من بين المستودعات التي سكنها أوائل المهاجرين الفلسطينيين، . تقدم من الباب ونقر عليه بأصابعه. وهو الذي تقيم فيه ليلى مع أمها

تنضح بدهشة انتظر وعاود المحاولة، بعد قليل أطلت ليلى كما هي جمد االثنان وهما يحملقان في وجه . سقت الرغبة في أرض ابراهيم

-١٦٠-

بعضهما البعض وقد بات ابراهيم يخشى اال تنطق بكلمة ترحيب، :ولكنه أخطأ، فقد قالت ليلى

."أهال، وان كنت ال أعرف رتبتك فأناديك بها"تساءل إن كنت سأبقى عند الباب، فقالت له تفضل بالدخول،

.ففعلكان المكان . لم يتصور من قبل أو اآلن أن هذا هو بيت ليلى

فسحة اسدلت على . أشبه بصندوق شاحنة متسع يعلوه الصفيحأجزاء منها ستاثر قماشية عن طرفيها، وبقي فيها ما يشبه الصالة انتشرت فيها صناديق من خشب اعدت للجلوس مع كرسيين

لحظة دعته ليلى إلى كان إبراهيم يمسح المشهد بعينيه . قديمين :كرسي للجلوس عليه، وهي تقول

"لن تعثر هنا على أي شيء مما تبحث عنه كضابط أمن المخيم"هب واقفا ليجول في الفسحة الضيقة، وكان يحاول أن يقول شيئا،

:وفي آخر خطواته توقف ليقولأرجو أخذ العلم بأني ما عدت أزور المخيم كضابط أمنه، فقد "

."لخدمة، صرفت منهاخرجت من ا :براهيم يقولإومع دهشة ليلى، جعل

."جئت كي أستفسر عن سبب فصلك من العمل"وعاد إلى كرسيه، بينما قامت بتكاسل لتقف على قدميها، وهي

:تقول ساخرة

-١٦١-

دارت شائعة بين موظفي وعمال المؤسسة بأني أعمل مع " ."مخابرات النظام السابق

. بل ظلت عيناه تجوسان في المكانلم يعلق على قولها بكلمة، :وبصوت هامس سمعه إبراهيم قالت

."احتال والدي على المستودع، فجعله مكانا يأوينا، ثم رحل"وقالت ان طفولتها شهدت كيف أن القطار رمانا في محطة اسمها

:بغداد، وابتسمت بسخرية مرة لتهتفانا واحدة األب يقود زوجه وطفلين كنت . وصلنا إلى حلب ليال"كنت أسمع الرجال يقولون اننا . الهدف كان قرية النيرب. منهما

."سنعود بعد فترة من االستراحة بعد مسيرة خرجنا فيها من فلسطين :وبضعف يظلل وجهها الحزن، كانت تكمل

وبعد سنوات هرب أخي إلى لبنان وضاعت . فقدنا المعيل"دخلت مدرسة . يةكانت أمي تعمل في خدمة البيوت الحلب. أخباره

األونروا، ولم أكمل تعليمي إلكراهي على الزواج من العجوز الذي ."كان في عمر جدي

ولم تجد ليلى مكانا سوى منشر الغسيل الذي امتد حبله بين : وقفت عنده لتقول. عمودين

ولكن . هبطت علي من السماء فرصة اكسب منها قوت يومي"حراء، أطارت الفرصة، وعدت الشائعة التي هبت علي كغبار الص

."إلى الصفر١١ م –السيرة احللبية

-١٦٢-

. انتشرت كلمات ليلى في فضاء المستودع كنحل يطن في أذنيهذا توقفت صارت لغتها تجول في إكان إبراهيم يصغي إلى ليلى، و

لخصت حياتها بإيجاز وكأنها تروى نكته قاتلة عن تاريخ فتاة . روحه. يجابه باإلوسألته ليلى إن كان يشرب الشاي فهز رأس. غيرها

براهيم إوعاد . ذا هو المطبخإتوجهت نحو ركن لتزيح القماش عنه ف : إلى تفحص المكان ويحادث نفسه

."تستحق ليلى مكانا يليق بذكائها ووضوحها"كانت رقة ليلى تفجر جمالها، وكان جمالها يتأكد في قوة

.شخصيتها التي لم يشاهدها في امرأة أخرى من كأس الشاي، واالبتسامة الساخرة قالت ليلى وهما يشربان

:على وجهها ."أظن أن الرياح ستقذف بي إلى مصنع التبغ فأعود إلى العمل"

براهيم نفسه يقف على قدميه فيتقدم خطوات من ليلى إووجد :ليقول مصمما

مكانك ليس في المصنع أو سنترال . ال أريد لك أن تعودي" ."الهاتف

فما كان . األمر كما أعلم لن يتاح ليوقالت إنك ال تريد، وإن هذان أنه ال يليق بك إمن إبراهيم إال أن تقدم خطوة أخرى وهو يقول

:وأضاف، تعودي

-١٦٣-

."أطلب منك، بل أتمنى أن توافقي على الزواج مني"وما . وأخفت ليلى ابتالع ريقها، محافظة على هدوئها بصعوبة

:كان من إبراهيم إال أن هتف بقوله ."ولى، وسأحبك أبدانذ اللحظة األأحببتك م"

فارتعشت، ولم تستطع إال أن انسرقت من بين شفيتها كلمة وأنا .التقطها المحب، فكان كل شيء قد تجلى في الموافقة. أيضا

-١٩-

اصطحب عبد القادر ابنه إسماعيل الذي بلغ العاشرة من عمره سيدخل الجامع ليؤديا صالة الجمعة، وكانت المرة األولى لالبن، فهو

وقد وعد الطفل . األموي الكبير، وسيحكي لرفاق المدرسة عنهن يقوما أبزيارة القلعة، فاستغل التبكير في هذا اليوم ليطلب من والده

وكان عبد القادر قد أخفى عن ابنه أنه لم يزر القلعة من . بهذه الزيارةالقلعة وهكذا وجدها فرصة له في إثبات ما خجل منه سابقا ف. قبل

. كانت تختزن تاريخ حلب، ومن لم يزرها حرم من متعة الماضيوتجمع الزوار حول الدليل السياحي ليقودهم إلى قاعة العرش فيقف أمامها عبد القادر وابنه بدهشة المفتون وكذلك فعل

قال الدليل إن الزلزال . اآلخرون وكان معظمهم من األجانبشر أدى إلى هدم سقف الذي ضرب حلب في القرن الثامن ع

-١٦٤-

أمير دولة الحمدانيين قد ) سيف الدولة(وكان . القاعة بقبابهااجتمع في مجلسه العشرات من الشعراء والعلماء كأبي فراس

:هتف اسماعيل. والمتنبي والفارابي وغيرهماال يمكن لألمير ومجلسه أن تعود بهم األيام لنشاهدهم في قاعة "

."العرش؟ل إال أن انفجر ضاحكا فيشاركه آخرون، بينما فما كان من الدلي

:عبد القادر يتساءل في سرهما الذي يحدث بانقضاء جيل فال يتكرر مثله، وهل الزمن ال يعيد " ."نفسه؟

وكانت هناك جولة في أنحاء القلعة، فلم يتوقف إسماعيل عن :سؤال والده عن خرائب، ليحيله إلى الدليل، آنذاك هتف الطفل معاتبا

."أال تتذكر شيئا من أيامك القديمة في القلعة يا والدي؟" فتوقف عبد القادر صامتا عن عجزه عن الجواب، وإذا ما نظر

:إلى ساعته التي أخرجها من شاله يقول ."ال نريد ان تفوتنا صالة الجمعة يا إسماعيل"

قرآ . )القبلية(مع األموي متوجهين إلى ودخل االثنان صحن الجاخطيب . حة أمام مقام سيدنا زكريا، وتوجها إلى صفوف المصلينالفات

الجمعة اعتلى المنبر، وقد لوحظت حماسته بالرغم من أنه شيخ عجوز، وقد جاء في الخطبة مديح بحكومة االنفصال أشاد بها، وكان

-١٦٥-

في السنة الماضية قد استمع إلى اإلمام نفسه يدعو لعبد الناصر فهو واذا ما دعى . ن نصره اهللا ووحد العربخير رئيس للبالد وهو م

.إلى الصالة انتظم المصلون في صفوف خاشعينيمينا ويسارا، همس بها الجميع " السالم عليكم ورحمه اهللا"

، وإذا برجل خرج من )القبلية(فترددت أصداؤها في فراغ الصفوف متوجها إلى جموع المصلين بإعالن عن حديث بما

التي وصلت إلى العار من حكم جائر وتمزيق يتعلق باحوال البلد ودام خطاب الرجل لدقائق اختفى . لوحدة سورية مع مصر

ولحظة . بعدها، ليتبادل الجميع نظرات تساؤل وتأييد أو استغرابخروج الناس شوهد الجنود الذين اقتحموا صحن الجامع يالحقون المصلين، وكان من وقع في أيديهم يقاد إلى الخارج حيث

وأمسك عبد . شاحنات العسكرية تكون بانتظارهم ليزجوا فيهاالالقادر بيد إسماعيل ليهرعا إلى االختباء في واحد من المغاسل المنتشرة، فاختبآ في مرحاض طالبا األب من ابنه الصمت خوف

ولبثا في مكانهما طويال، وما أن تحركت . اكتشاف أمرهماع أقدامهم، خرجا مسرعين الشاحنات واختفت أصوات الجنود ووق

.إلى السيارة التي أوقفت بعيدا، فكان حضنها أمانا لهماكانت األسواق مقفلة بسبب الجمعة، إال أن حركة الجنود أثارت الذعر في نفوس المشاة، وما أن انصرفت الشاحنات، حتى

وتساءل إسماعيل في طريق . عادت خطوات المارة إلى االنتظام :رالعودة إلى الدا

-١٦٦-

لم أفهم شيئا من أقوال اإلمام الخطيب، كما لم أعلم ما الذي يريده " ."ولماذا كان الجنود غاضبين. ذلك الرجل

:وتجاوز عبد القادر أسئلة ابنه، قالكان األفضل لنا يا ولدي في مثل هذه الظروف أن نؤدي صالة "

."الجمعة في مسجد الحيية االختباء في يقتربان من الحي، وتساءل إسماعيل عن حكا

:المغاسل، فكان عبد القادر يصححاختفينا عن أعين الجنود في مرحاض، وان كنا نفضله على "

."الوقوع بين أيديهمواستفسر إسماعيل عن أهمية الوقوع بين ايدي الجنود، فقال

:األبأوال نحن نريد العودة إلى الدار وليس في الشاحنة، وثانيا فإن "

."اناسيارتنا اكثر أمفي اليوم التالي أصبحت حكاية االختباء عن عيون الجنود مثار ضحك زوار مجلس عبد القادر الحلبي، إال أن روايته عن إمام الجامع في انقالبه على عهد الوحدة ليصبح مع حكومة االنفصال، أثارت استنكار الجميع، وتجرأ أحدهم على الحديث عن الضعف

وعلق آخر بسخرية أن من يتزوج . ديناألخالقي لعدد من رجال ال .أمي أقول له يا عمي

-١٦٧-

، وكان والده وحيدا يغرق في الحسابات عصرا حضر إبراهيمالتي نشر دفاترها على طاولة المكتب يدقق فيها، فلبث القادم ينتظر

وما أن انتهى عبد القادر من المراجعة حتى رحب من . إنجاز عملهدده يخفي ما يضمره فيحار في جديد بابراهيم، والذي كان تر

اإلفصاح عنه، مما دفع الوالد الى التساؤل عن سره ويسأل مستفسرا :إن كان يخفي أمرا، وقال عبد القادر

."اعتقد أن شيئا ما تريد أن تقوله لي" :فهتف ابراهيم بعد مكابدة، ولم تكن قبال فيه

."قررت ان أتزوج" :نه تحرر من موقفه ليقولجمد عبد القادر في مقعده، إال أ

."وأنا أبارك زواجك يا ولدي" :وقام من مقعده وكأنه يستدرك ما قاله، فسأل

."وهل اخترت؟ أنت تحسن االختيار دون ريب" :فكان ابراهيم يقف على قدميه ويقول بثقة

."ليست من الحي، كما أنها ليست من األحياء القريبة أو البعيدة"ا بدت أشبه بزمن متحجر يحاول الوالد الدقائق التي مرت عليهم

واالبن تجاوزه، كانا يبذالن جهدا لجعله أكثر مرونة كي تنقضي تلك :نجح إبراهيم في مسعاه وهو يقول. الدقائق

-١٦٨-

أحببتها . انا اخترت امرأة فلسطينية. الزوجة هي صبية ذكية" ."وهي تستحقني واستحقها

ابنه إبراهيم ، إال كان عبد القادر يعرف حقيقة تفكير وشخصية أنه لم يره بمثل تلك الصالبة، فكتم االعجاب في نفسه فلم يفصح

وسأل إبراهيم ان كان . عنه، وانطلق بقوله على بركة اهللا يا ولديسيقيم في الدار الكبيرة، أم أنه سيختار واحدا من البيوت التي ورثها

:تفكيرآنذاك قال إبراهيم بعد . مع أخته من والدته ام الخيرسأقيم معكم إلى أن أنهي فترة التدريب في مكتب للمحاماة، ومن "

."بعد ذلك سيكون لي رأيإبراهيم قرر . في تلك الليلة حمل عبد القادر إلى جليلة الخبر

. ةتعليق جليلة اصطبغ بالفرح الذي دفعها إلى اطالق زغرود. الزواجأحدا من الرجال إبراهيم ال يشبه نإوأما عبد القادر فجعل يقول

كان ابراهيم هنانو واليوم . ولكنه أقرب الناس إلى من حمل اسمهوقال عبد القادر ان ابنه الذي هو من صلبه يصلح . ابراهيم الحلبي

.ان يكون زعيما ورجال بارزا في مجتمعهوعادت عائشة من دمشق، وقد أنهت دراستها في كلية الطب

استقبلتها العائلة وهتفت بصوت . والتدريب المطلوب في مشفاها :واحد ."أهال ومرحبا بعودة الدكتورة عائشة"

-١٦٩-

وكان ان افتقدت عائشة الدادا حلوم وهي تتفحص وجوه سألت عنها، فقيل إنها طريحة الفراش، . المستقبلين فلم تكن بينهم

واستقبلتها الدادا بابتسامة شاحبة . فهرعت إلى غرفتها تدفعها اللهفةغمرتها عائشة بالقبالت، . تطيع رفع رأسها عن المخدةوهي ال تس

تساءلت إن كان طبيب قد زارها، فكان عبد القادر يقول بأن أكثر من الدادا حلوم التي أنهكها العمر، اسلمت الروح بعد يوم . طبيب عادها

.من عودة الدكتورة عائشة

-٢٠-

أقيم مجلس عزاء في ساحة الخان، وقد ظل الرجال في مساء يومين متعاقبين يتواردون لتقديم الواجب، وظن عدد منهم أن عبد القادر قد فقد أمه لما ظهر عليه من حزن وما استدعاه من قراء

وفتحت أبواب . تناوب ثالثة منهم على ترتيل آيات من القرآن الكريمويتلون ) جرء عم(فريقا يقرؤون في ) الشيخة(الدار للنسوة، وقادت

، لينتهي الجمع بتوزيع مسبحة على كل امرأة لقراءة من سيرة النبيفكانت قرقعة الكرات الخشبية للمسبحة تتداخل مع ) الودودية (

واختتم العزاء فدعي ..) يا ودود.. يا ودود(الكلمات المتالحقات المقربون إلى العشاء في اليوم الثالث، حيث نصبت المائدة الكبرى

، وكما هو الحال )العيران(مع ) لعش البلب(في حوش الدار، وقدم ).الكنافة بنارين(قدم للمعزين

-١٧٠-

كانت الدادا قد دفنت في قبر مجاور لقبر أم الخير، فكانت خطة من عبد القادر لتبقى المربية مع الزوجة متجاورتين كما

ولم يكن هناك حديث في األيام التالية سوى . كانتا منذ عهد طويلللدادا حلوم، فقام احترام للرجل وتقدير وفاء عبد القادر الحلبي

.عند معظم الناسولم يشأ إبراهيم أن يقيم حفال لزواجه من ليلى، احتراما لذكرى

اكتفى بعقد قرانه في المحكمة الشرعية . الدادا التي لم تكمل أربعينيتهاوكان . بحضور شاهدين كان أحدهما والده، ليعود إلى الدار ظهرا

الدار دهشة ليلى التي ألقت النظرة األولى عليها، أول انطباع عن بينما شغلت بترحيب جليلة التي غمز لها زوجها بعينه إال تطلق زغزودة ولهفة عائشة التي أسرت في أذنها أنها ستكون اختا لها، فيما

ومنذ تلك اللحظات المؤثرة أحست . كان األطفال يرددون أهال بليلىوعادت إلى التعلق . ابراهيم سيصبحون أهلهاليلى بأن أفراد عائلة

اآلن تشعر بأنه رجلها الحقيقي، وان . بذراع زوجها فكانا كجسد واحد .الحياة قد ابتدأت اليوم

هرعت جليلة إلى المطبخ استعدادا إلعداد مائدة الغداء، فاذا بليلى واكتملت . تسرع إلى مساعدتها، مفتتحة بذلك االنخراط في العائلة

:دة فوقف عبد القادر على رأسها ليقولالمائسعادتي . جاءني ابراهيم ليكون أول القادمين إلى اسرتي"

كانت كبيرة بقدومه، واليوم صارت سعادتي أكبر بليلى وقد

-١٧١-

أصحبت شريكة له وواحدة من العائلة التي أرجو اهللا أن تمأل .الدار باألوالد والمحبة ."أهال بك يا ابنتنا ليلى

العروس للدموع أن تكشف عن تأثرها، فمسحتها من ولم تسمح :عينيها، وكانت تتساءل في سرها

. أيمكن ألحد أن يكون في الجحيم، وبغمضة عين ينقلب إلى جنة"لم أعرف سوى الهجرة والفقر وتجربة الزواج الفاشلة، فإذا بنعمة

."الزوج واألهل تهبط علي من السماء، وهذا ما لم أعرفه من قبلتحاملت على . ابراهيم منها أن تعلق على الوالد بكلمةوطلب

:نفسها لتقف وتقول وحنجرتها تغص بالدموع ."كنت أبحث عن المحبة، مرت األيام ولكني وجدتها أخيرا"

فوجئ عبد القادر به يحدثه . بعد أيام، زار إبراهيم والده في الخان :عن عائشة

أتمنى . حضر بعد قليلزميل لها طبيب سيأتي إليك، وأتوقع أن ي" ."أن تسمح لي باستقباله معك

وكانت عائشة قد طلبت من ابراهيم لقاء زميلها كي يكون القرار :وقال عبد القادر. لرجال العائلة

نحن نرحب به، وأتصور أن . أهال بزميل الدكتورة عائشة"مشروعا له عالقة بشراكة في إنشاء مستشفى، أو شيئا له صلة

."بشيء طبي

-١٧٢-

تخابث إبراهيم بقوله إن لألطباء مشاريعهم، وسنعرف قريبا ما .يريده الطبيب الزميل

عرف بنفسه، فلقي الترحيب من . استأذن الدكتور طالب بالدخولوقال عبد القادر بعد . صاحب الخان، بينما اكتفى ابراهيم برد التحية

:تقديم القهوة للضيف "امته مع الدكتورة عائشةأعرف القليل عن المشروع الذي تريد إق"

وسارع الدكتور طالب إلى القول بأن والده الدكتور أحمد يشرفه ان يلتقي بكم، فما كان من عبد القادر اال أن هتف قائال وكأنما يريد

:أن يضع نهاية لهذا الحديثوأنا على استعداد لدعم التمويل شرط اطالعي على جميع "

."تفاصيل المشروع طالب أراد ان يوضح األمر الذي جاء من أجله، فما واذا بالدكتور

كان من عبد القادر إال أن أعلن ترحيبه بوالده، وقال إن أي مشروع .يخص ابنته الدكتورة عائشة سينال موافقته :فلم يملك الدكتور طالب سوى القول

يا عمي لقد جئت طالبا يد الدكتورة عائشة، ومهدت لحضور " ."وهذا ماجئت من أجله. لب رسمياوالدي كي يصبح الط

عبد القادر متسمر من مقعده، زحف الجمود على وجهه فال ترف بعد حين تبادل النظرات مع إبراهيم ليقرأ في عينيه ما يمكن . له عين

-١٧٣-

تخيل عبد القادر أن سوء تفاهم قد حدث والذنب . ان ينطق لسانه به :فانطلق عبد القادر قائال. يقع على إبراهيم

"دارنا ستشرفها الزيارة. يسرني يا دكتور طالب أن أستقبل والدك"هب الخاطب من مقعده ليشكر عبد القادر ويطلب اإلذن بالمغادرة

وفجأة سأل األب ابنه عن الدكتور . تدفع به السعادة إلى ساحة الخان :طالب وأهله، فكان رد ابراهيم

ائشة اختي هي ع. الشاب من أسرة كريمة. إنه يليق بعائشة"وابنتك الغالية، ولن تفرط بها إال لزوج مشرف، وهذا رجل يليق بنا

."وبعائشة :وقال مغادرا الغرفة، وكأنه يتخذ قرارا حاسما

."الدكتور طالب زوج مناسب، وأتمنى عليك أن توافق"الدكتور أحمد المرزوقي مع ابنه، . مساء في الدار التقى الرجالن

ي دون حضور ابراهيم الذي كان رأيه القاطع وعبد القادر الحلبأحس . كانت فترة التعارف قصيرة، أعقبها طلب الزواج. حاضرا

عبد القادر أن ابنته عائشة ستخرج من دائرة اسرته، لكنه لم يملك قرئت الفاتحة، فكانت كلماتها تخرج من بين شفتيه . سوى الموافقة .عائشة الصغيرة أصبحت امرأة. بطيئة وشاقة

تساءل عبد القادر عن مستقبل ابنته الطبي في ظل عالقتها :بخطيبها، فابتسم الدكتور احمد وهو يقول

-١٧٤-

. !"وهل يعقل لزوجين طبيبين أال يكونا في عيادة مشتركة"إال أنه دخل في موضوع الزواج ليسأل عبد القادر عن عدم

ور الخوض في قضية المهر، مما دفع الحلبي إلى قول تأثر الدكت :أحمد به

هو موضوع ثانوي وال خالف عليه؟ ابنتي ال خوف عليها وابنك " ."ال خوف منه

وسيدهش الدكتور أحمد لسماع ذلك القول من رجل يملك تجارة، :وقال لنفسه

أيعقل لرجل مثله أن يكون في مجتمع تنتمي إليه جموع حلب،ثم " ."ه؟أيعقل لجماعة من أهل اليسار السياسي أن ال يفكروا مثلأقيم العرس . وشهد يوم من فصل الربيع احتفاال في الدار الكبيرة

فخرجت عائشة مع عريسها من بيت العائلة على إيقاع دموع عبد القادر الخفية وقد حفلت بها عيناه، والتي حبسها إلى وقت خلوه مع

.نفسه بعيدا عن اآلخرينيو االنتهاء وفي يوم ربيعي آخر في زمن آخر، تناقلت أخبار الراد

كانت شمس آذار قوية كصيف مبكر، فخرجت . من عهد االنفصالتظاهرات إلى الشوارع مهللة ومستبشرة، ودارت في الساحات حلقات الدبكة، وليال حملت أفراد الكشفية المشاعل ودارت بها في أهم

وكانت غرفة صاحب الخان التي تصدرها عبد . شوارع المدينة

-١٧٥-

ق الوفود عليها، من أصدقاء وأهل الحي يسعون القادر قد شهدت تدفإلى االستماع إلى آراء الرجل الذي لم يتوقف عن الثناء على الرجال

.الذين يهدفون إلى إعادة الوحدة كما كانت في سابق عهدها

-٢١-

وكان عبد القادر قد . ها هي المعدات قد وصلت إلى مرفأ الالذقيةام باستيراد أحدث األجهزة من اتخذ قرار بتطوير معمل العلف، فق

إيطاليا، إال أن عماله ابتدؤوا يستشعرون الخوف من أن تحل اآلالت مكانهم ليستغنى عنهم أو عن معظمهم، فكان عبد القادر أن طمأنهم فال خوف عليهم وال يمكن لرجل مثله أن يتخلى عن الذين عملوا معه

الجديد وقد قام ويوم تركيب المعمل. مهما كانت األحوال والظروفبها فنيون رافقوا تلك األجهزة، دخل الخان مرحلة مختلفة عن الزمن

.الذي مضى :هتف عبد القادر وحيدا في غرفة الخان

عائشة اجتهدت لتكون . إبراهيم أصبح في نهاية المطاف محاميا"أما أنت يا عبد القادر الحلبي فأدخلت إلى الحي القديم صناعة . طبيبة

."ل حولت علف الحيوانات إلى ما يشبه طعام االنسان المعلبجديدة، بوكان عبد القادر ما يزال يحافظ على لباسه الشعبي التقليدي بالرغم من دخوله عصر الصناعة، وهو متمسك بتجارة المحاصيل

-١٧٦-

. والمنتجات الزراعية التي بقيت كما كانت عليه منذ مئات السنينظة مع عدد كبير من رجاالت ويوم دعي إلى زيارة قصر المحاف

األحياء البارزين من أصحاب المهن المهمين، وذلك للترحيب بأول محافظ في عهد الثامن من آذار، فقد لبى الدعوة داخال مع الوفود بلباسه الشعبي، فكان عالمة بارزة وهو يظهر بأعلى درجات االناقة

كان . كبيرلهذا اللباس، مما دفع الحضور إلى الحديث عنه بإعجابمظهره يدل على أناقة األثرياء القادمين من عصور سابقة، وكأن عبد

ولفت انتباه المحافظ الجديد . القادر الحلبي انسل هاربا من زمن قديم .ما هو عليه مشهد هذا الرجل، فكان أن خصه باهتمام يليق بزعيم

تمر ولم تكد . وتابع إبراهيم فترة التدريب في مكتب محام معروفعليه شهور حتى كلفة األستاذ بعدد من القضايا في المحاكم، فكان جهده واجتهاده يعينانه على التقدم في النجاح، ويؤهالنه ليكون

.محاميا مستقالوأما عائشة فقد افتتحت مع زوجها عيادة في وسط المدينة، بينما كان سكنها في طرف من المدينة الذي أحدث فيه حي هادئ توزعت

إال أن لقاء يوم الجمعة في دار الحلبي والذي . يه الحدائق الصغيرةفبات عادة يجتمع فيه أفراد العائلة، ليمضوا مساءهم في الطعام وتبادل الحوار في شؤونهم، ويعلقون على أحداث المدينة من سياسة

براهيم ينقل إليهم طرائف وكان إ. واقتصاد، ويتبادلون النوادرة وطالب فكانا يتناوبان الحكايات عن الوعي أما عائشالقضاء،

-١٧٧-

جليلة تتحدث عن أوالدها الذين . الصحي الذي يفتقده معظم الناسوتجلس ليلى . يتسارع نموهم دون مرور يوم على شغبهم المحبب

صامتة يتخلل سكوتها الحديث أحيانا عن المأساة الفلسطينية فتشير ة لم تتفاعل مع هذه المأساة إلى أسفها بأن العديد من الحكومات العربي

وكان عبد القادر يستمع إلى . مهملة لها وتاركة الزمن الستفحالها .الجميع بسعادة فال يتدخل إال في حل مشكلة قد تلوح في الجو

األيام تدل على الزمن، وهكذا تتعاقب األيام فيستقل ابراهيم اسمه بين بمكتب، فكان المتدرب الالمع ليصبح المحامي الذي ترسخ

واذا ما أراد مع زوجته السكن في بيت . الناس وفي أروقة القضاءيخصهم، خضع عبد القادر مكرها لقرار ابنه، فكان المنزل في واحد

.من ممتلكات أمه، ليحوله مع زوجه ليلى إلى ما يشبه عش المحبينكانت عائشة قد رزقت بصبي، ولما كان زواج ابراهيم قد سبقها،

هو يرفض اللجوء إلى . لها عدم ظهور أي حمل على ليلىفانه شكاالمشايخ ساخرا من تعاويذهم وأحجبتهم، ولكن كبرياءه منعته من

وهكذا توالت زيارات األطباء ترافق فيها الدكتورة . اللجوء إلى طبيبوفي زيارة . عائشة زوجة أخيها، ولم تكن هناك من نتائج مشجعه

قيل بعد فحص ليلى أن على زوجها ألستاذ في كلية الطب بدمشق،حضر إبراهيم في اليوم نفسه، وخضع . أن يحضر ليتم اختبار حالته

لما أمر به األستاذ الجامعي من كشوف وتحاليل، فكان أمام حقيقة :قيل له. واحدة

١٢ م –السيرة احللبية

-١٧٨-

."ال تستطيع أن تنجب فحيواناتك المنوية ال تملك الحيوية"ة األميركية في بيروت، وسافر إبراهيم وحيدا إلى مشفى الجامع

فهل . فكانت النتائج التي حصل عليها مطابقة لما قيل له في دمشق حكم عليه بالمؤبد عقما، وحرمت ليلى من األمومة؟

وفي اجتماع العائلة األسبوعي، حملت تلك الجمعة سرا أخفاه ففي المساء كان صبي يطرق باب الدار ليفتح له، . إبراهيم وعائشة

صندوق الكرتون إلى إسماعيل الذي حمله ليضعه على وقام بتسليم، واذا ما كشفت جليلة غطاء الصندوق، )غرفة المسافرين(المائدة في

تقدم من . تبين للعائلة أنها كعكة كبيرة رصت عليها شموع صغيرة :الوالد كل من ابراهيم وعائشة وبصوت واحد هتفا

عبد القادر كل عام وأنت على رأس العائلة بكل الخير، يا" ."الحلبي

وأشعلت الشموع التي اصطفت في دوائر على وجه الكعكة، وكان عيد ميالد لم تشهد له األسرة أو الحي، . أطفأها عبد القادر

:سأل عبد القادر. فكأنه بداية لعادة اجتماعية مستوردةخمس وستون شمعة، فهل تعني أني بلغت الخامسة الستين "

."من العمر إن كان توقيت مولده قد عرف حقا، فرد ابراهيم وسأل ابنيه

:بالقول

-١٧٩-

انتهى منذ سنين كثيرة منتصف القرن العشرين، ولقد تأخرنا " ."كثيرا عن االحتفال بعيد ميالدك

:قال عبد القادر وهو يخفي تأثرهقد أكون بلغت هذا العمر كما تريدون، ولكن إدارة النفوس لم تكن "

."آلنتدقق سابقا كما نفعل ا :هتفت عائشة وهي تساعد والدها بتقطيع الكعكة

."شيخ الشباب أنت مهما بلغت من عمر"وامتألت صحون الصغار والكبار بقطع الكاتو التي أدهشهم

:وكان يدور كالم في نفس األب. طعمها ."لتدم نعمة المحبة على هذه العائلة"

ها األيام ومنذ أيام زيارة األطباء مع عائشة، مرت أسابيع تطويدون أن تسأل ليلى عن طبيب، فلقد تركت الزوجة أمر حملها لألقدار، بينما ابراهيم الذي علم بعقمه فانه لن يبوح بسره، فهو يحس بالذنب ويشعر باألسى لعجزه عن منح ليلى سر الحياة، إال أنه لم

وتساءلت ليلى إن كان إبراهيم . ينقطع لحظة عن حبها، ويغمرها به . ليهتم باإلنجاب وأنه استسلم للقدرما عاد

لم . طلبت جليلة من زوجها أن تزور والدها الذي بلغها مرضهيرافقها عبد القادر النشغاله، وأعد لها سيارة أجرة يرافقها فيها عامل

تمنت جليلة . من الخان، ليكون بانتظارها في عفرين ويعود بها مساء

-١٨٠-

ا لم تجرؤ على حرمانهم من أن يرافقها األوالد لزيارة جدهم، لكنهكان زوجها يحرص على أال يغيب أحد من أوالده عن . المدرسة

المدرسة، وهو الذي طالما قال إن حرمانه من استكمال تعليمه كان له . أثر بالغ في حياته، لذا لن يسمح ألوالده بالوقوع في التجربة

روج ومضت السيارة بجليلة مع مرافقها الذي صرخ فجأة منبها لخشاحنة من المنعطف وهي تحمل الحجارة، فما كان من السائقين إال

وسجلت . القيام بكبح سرعتيهما، ولكن االصطدام كان ال بد منهالواقعة في قيود مخفر الشرطة التي أشارت إلى حادثه على طريق

. عفرين في وقت الظهر وتلقى عبد القادر اتصاال من قسم االسعاف عند الغروب يعلمه

فطار . العامل الذي رافق زوجته بوقوع حادث على طريق السفربسيارته وهو يدعو اهللا أن تكون جليلة بخير، وكان يردد لنفسه بما

دخل عبد القادر جناح . أنه لم يخبرني بشيء عن جليلة فهي سالمةاإلسعاف في مشفى الرازي بحلب، وكان المرافق قد رقد في السرير

ومنذ اللحظة األولى سأل عبد القادر عن . عهيلف الشاش رأسه وذرافلم . زوجته جليلة ام اسماعيل، فكان جواب المرافق دموع في عينيه

:يستطع عبد القادر أن يفهم، وعاود السؤال، فكان الجواب ."رحم اهللا الست جليلة. حسبنا اهللا ونعم الوكيل"

اختنقت اآلهة في حنجرة عبد القادر، عجز عن الصراخ ت األرض تحت قدميه فتهاوى كجذع شجرة هوى عليها وماد

-١٨١-

فأس، فما كان من طبيب بجانبه إال أن تلقاه بذراعيه فأجلسه على مرت دقائق وهو في ذهول، إال أنه وقف فجأة . كرسي قريب

:يتمتم بصوت مسموع ."ال أصدق حتى أراها بأم العين. أريد أن أراها"

نائمة هي، فكان . خشبيفي غرفة أخرى رآها مسجاة على لوح المفجوع يقترب منها بخطوات حذرة، بينما الطبيب كان يقول ان العنق المكسور بفعل الصدمة كان سببا للوفاة وأن السيدة قد فقدت

انكب عبد القادر على زوجه جليلة التي لن ينعم برؤياها . الحياة للتو .رحلت ولن تعود. بعد اليوم

-٢٢-

أمطرت فأغرقت . ت ثقيلة على أهل الداروعاد الحزن غيمة خيموبعد أيام من عويل أبناء جليلة األربعة، ونحيب أهلها الذين . الجميع

حضروا من عفرين، انتهت فترة تقديم العزاء من سكان الحي والقادمين من خارجه، وغادر الدار ابراهيم مع زوجه وعائشة مع

أرسلها والد ) فاته(ها أسرتها، بعد أن اطمأنوا الى استخدام امرأة اسم .جليلة لخدمة األوالد الذين لم يعد لهم أحد يقوم على رعايتهم

وكانت السنوات السابقة التي مرت على عبد القادر في نيته أن أكان السبب . يحج الى بيت اهللا الحرام مع جليلة، فلم تتحقق األمنية

-١٨٢-

أم أن في أن الزوجة خافت على أوالدها من فترة الغياب في الحج،انشغال عبد القادر في إدارة أعماله التي ما زالت تنمو وتتطور

ومنذ رحيل جليلة . بالرغم من فترات تعثر االقتصاد في البلدالمفاجىء، غرق الحلبي في بحيرة الحزن والكآبة، فلم يكن له من

.عزاء إال في األبناء وفي متابعة العمل واللقاء في الخان ."بد القادر الحلبي أن تفقد زوجة إثر أخرىهل قدر عليك يا ع"

وكان هو الكالم الذي يدور في نفسه دون أن يجد جوابا له، ولكن واستحضر خياله زوجته جليلة إلى . االستسالم للقدر كان الغالب

المرأتان كانتا تدوران في حقل نمت فيه أزهار اللبن، . جانب أم الخيرصور تتتابع فيحس . لم يصلهيقطفان من نبتاتها ويتحادثان بهمس

.بالحنين الى ذاك الزمنأصبح توقيت عبد القادر الجديد ليومه، فمنذ بداية السابعة صباحا يسعى ماشيا ليكون في الخان مع توارد عماله عليه، بل كان يسبقهم أحيانا، وقد أثار توقيته استغراب الجميع، فكان يقال

ا يغادر ، فالرجل ما عاد أيضإنه ما عاد يطيق البقاء في الدارعبد القادر لم يكن كعادته، بل إن . الخان إال في وقت متأخر

.تجهمه ظل سائدا كما لم يكن في أي يومكان عبد . في ذلك اليوم الحزيراني هجم الحر على المدينة مبكرا

القادر في غرفته يستمع الى الراديو ، فإذا بخبر يدوي في سمعه، ه لم يدخل أعماقه عبر أذنيه، إال أن االستماع إليه في وتمنى لو أن

-١٨٣-

. أكثر من محطة أقعده فال قدرة له على تحريك عضو في جسدهالطائرات اإلسرائيلية تحوم في سماء دمشق، وهذا يكفي للذهول القاتل، هب واقفا ليدور في الغرفة، وكان سمعه يالحق التقارير

تعلة، فاذا بلغه دحر قوات العدو القادمة من الجبهة الجنوبية المشالبرية مع تساقط طائراته المغيرة على دمشق كالذباب، قفز في الهواء

.كشاب وهو يهتف بحياة سوريةدخل غرفة عبد القادر الذي . قبيل الغروب جاء إبراهيم غاضبا

:استقبله بابتسامة لم يعرفها وجهه منذ أسابيع وهو يهتف بسعادة ."ينا سيكون وباال عليهاعدوان إسرائيل عل"

:فما كان من ابراهيم اال أن صاح من المقوات جيشنا تصد العدوان، و هناك من يريد السرائيل أن تكسب "

."الحرب كان إبراهيم قد خرج من بيته متأخرا في هذا الصباح، يريد أنيقصد مكتبه فسلك الطريق المختصر ليمر في األسواق، وهناك كانت

راديو ترتفع وتيرة أصواتها، وقف مصغيا إلى األخبار أجهزة ال. عدوان طائرات اسرائيل على دمشق حبست أنفاسه. بسمعه الذاهل

باب (كانت الساعة تقترب من منتصف النهار عندما مر بسوق كل الدكاكين على طرفي السوق المغطى سقفه . فكانت المفاجأة) جنين

وجود للرز والسكر والبرغل بالخيش، كانت خالية من البضائع، ال والعدس، وفقد الفروج وأرجله ورؤوسه، وكما يقال صفر الهواء في

-١٨٤-

سأل عددا . محالت الجزارين فلم يعثر على أثر للغنم والجمال والبقرمن أصحاب الدكاكين فقيل له إن أهل حلب يخافون الحرب أن ال

. اه السوقتوفر لهم الطعام، فكان الغزو الذي قضى على ما احتواألكبر في المدينة، ) المدينة(وهرع إبراهيم ليستطلع الحال في سوق

ودخل إلى واحد من تفرعات السوق الكبير ليعرج . فاذا هو كسابقهعلى رجل من معارف والده، وكان يمتلك مستودعا هائال لألقمشة

:رحب الرجل بإبراهيم وأمر له بالشاي، قال متسائال. من كل األنواع ."أيعجبك حال هذه الحرب يا أستاذ؟"

:فما كان من إبراهيم إال أن هتف بغضبالجيش يدافع عن الوطن، والشعب يفرغ األسواق من كل أنواع "

."الطعاممال الرجل على إبراهيم يحاول الهمس ليقول بأننا نستحق ذلك،

:فحكومة الحزب لم تترك لنا شيئا، ويضيف حانقا ."نا من هذا الحكمليت إسرائيل تخلص"

هب ابراهيم من مقعده واقفا، ورمى بكأس الشاي إلى األرض وما كان أمامه . خرج من المستودع غاضبا. فتطايرت قطع الزجاج .سوى التوجه إلى الخان

وجد . وهكذا روى إبراهيم لوالده أحداث يومه بكثير من تفاصيلها :والده ينتفض ثائرا على رجل المستودع، فيصيح

-١٨٥-

أيمكن تخيل . الوغد، فهذا الرجل استقبلته في الغرفة أكثر من مرة" ."أحد جاء إلى هنا ويتمنى ان تنتصر اسرائيل علينا؟

أكثر من مرة، مما دفع ابراهيم إلى ) الوغد(وظل يردد كلمة لقد ازداد الشعور بأهمية عبد القادر . محاولة التخفيف من غضبه

، بل انه الرجل الذي عرف ذات الحلبي الذي لم يكن أبا له فحسبوتساءل إبراهيم عن خوف الناس . يوم بموقفه من االحتالل الفرنسي

:على بطونهم ، فجاءه الجوابلم نبلغ بعد يا ولدي درجة من الوعي، فلنغفر للناس جهلهم بقيمة "

."الوطنعادت الطمأنينة إلى النفوس، . توقفت الحرب بعد أيام ستة

بقيت الشوارع واألزقة تمأل . اتها الطبيعيةفاستأنفت المدينة حيأرصفتها ربطات الخبز التي تخلى عنها أصحابها، ليشاهد الفقراء

وكان قد انتشر . يتخاطفونها وآخرون يجمعونها لصالح مربي األغنامفي المدينة خبر االنسحاب العشوائي الذي مر به أفراد من الجيش

:ذاك قال عبد القادرآن. هربا من األسلحة اإلسرائيليةإسرائيل كيان دخيل على الجسد العربي، وهو الذي اعتدى على "

أهل فلسطين وطردهم من أرضهم، ومازالت تهدف إلى التوسع ليمتد ."هل نسمح بذلك؟. كيانها من النيل إلى الفرات

:وتساءل واحد من مزارعي الجزيرة حضر إلى اجتماع الغرفةسمي باسرائيل ان يستولي على مدينتي أيمكن لهذا الكيان الذي "

."الرقة؟

-١٨٦-

:فأشار عبد القادر إلى خارطة سورية، وكان في قوله تحذير "الرقة ودير الزور، ومن قبلها منبج والباب، وستكون حلب معهم"

:صاح المزارع ترافقه صيحات آخرين . !"يا للمصيبة. يا ويلنا"

: حكمه، قالولكن عبد القادر الذي بدا في هدوء زعيم يطلق ."ما دام التضامن العربي يملك االرادة والقوة فالخطة لن تنجح"

:وهتف رجل من أهل الحي بالقولوهل استطعنا في الخامس من حزيران، الذي مازالت آثاره باقية، "

."أن نحقق انتصارا؟ :أجاب عبد القادر بيقين العارفين

"وفر يكون للعرب تخسر مرة وتكسب أخرى، ولن. المعارك كر ."سوى إلغاء دولة العدوان

:ودوى صوته في أرجاء الغرفة ."قاومناه وانتصرنا. ألم يعلمنا درس االحتالل الفرنسي لبالدنا"

-٢٣-

كان إبراهيم يقوم يوميا بالطواف على عدد من المكتبات، فيشتري الجرائد والمجالت، واذا ما عثر على كتاب جديد جعل يقلب صفحاته

كتب في السياسة والتاريخ واالقتصاد . د من رغبته في شرائهليتأكوعرف إبراهيم عند أصحاب تلك المكتبات . وأحيانا في العلوم

-١٨٧-

بالمحامي النهم في القراءة، فكانت له حظوة عندهم، واذا ما هرب كانت . كتاب منعته الرقابة من التداول يعرض سرا على إبراهيم

كثير من تلك الكتب التي غلب عليها ما مكتبته الشخصية تضم الووجدت الزوجة ليلى . صدر عن الديانات أو القضايا السياسية

الفرصة للقراءة في أوقات فراغها الطويلة والتي حرمت فيها من .طفل ترعاه ويشغل حياتها

وكانت الشهور التي أعقبت حرب الخامس حزيران قد شهدت السوري والعربي، فكأن بحثا من بعض الناس عن كتب التاريخ

.القراء باتوا يبحثون وينقبون عن أسباب الهزيمةوابتدأ تسلل المشاعر اليائسة، فكانت كتب التراث الديني التي

كان الكثير من الناس . خرجت على الناس هي التي يلجؤون إليها .يهربون إلى الماضي ويتعللون باالبتهال والدعاء

ة التي مر بها المجتمع، ولم تتوقف ظل إبراهيم يتابع تلك الظاهرمحامون وأطباء، تجار ومهندسون، . عن االنتشار بزحف بطيء

طالب جامعة وثانويات، أساتذة ومعلمون، وغيرهم وقد طغت عليهم وما لبث عدد . نزعة دينية قادها مشايخ جوامع ورجال تنظيم سياسي

ة شعر من النسوة اللواتي كن سافرات ان استخدمن الحجاب لتغطي .الرأس، وأحيانا الوجه من دون العينيين. اجتمع الجميع باستثناء صفية. واستمر لقاء الجمعة في دار الوالد

، وكانت األقرب إلى قلبها، يل عن الفتاة التي افتقدتهاسألت ليلى بعد قل

-١٨٨-

فعللت عائشة الغياب بأنها قد تكون محتارة في اختيار ثوبها، وقال ودخلت . ا ال بد لها من إنهاء دروسها الخاصةإبراهيم عن أخته أنه

ذا ما سمعت بغياب صفية عن إبكؤوس التمر هندي، ف) فاته( :االجتماع األسبوعي هتفت بلغتها العربية المتكسرة

."البنت صفية كتير زعالنة"سماعيل واقفا من إوتساءل عبد القادر عن السبب، آنذاك هب

ودهش . يقول بأنه من منع صفيةجلوسه بعيدا عن تجمع العائلة وهو كل من كان في القاعة، ولكنهم حسبوه مازحا، فما كان من إسماعيل

:هو يقولوإال أن تقدم منهم طالبتها أن تضع الحجاب، لكنها لم . صفية ما عادت صغيرة"

."تستجبن كان جادا إلم يستطع إبراهيم أن يفهم موقف أخيه إسماعيل

أهله، إال أنه لم ينطق بكلمة بحضور والده في قوله أو أنه يمازح :الذي قال

."من سمح لك بالتدخل في شؤون غيرك، ولو كانت أختك"سماعيل ساكنا ال يتحرك، وهو يستمع إلى والده الذي إولبث

:أمسك نفسه فقال بهدوءبراهيم، أليستا من المحصنات إليلى زوجة . أختك عائشة"

."جاب؟المؤمنات بالرغم عن غياب الح

-١٨٩-

:وقال عبد القادر بعد لحظات من تأمل إسماعيل ."الحجاب يا ولدي يمنع عقولنا عن رؤية الصواب والخطأ"

ا وليصرح بأن كالم عجابإبراهيم ليهتف إوقد دفع هذا القول بالوالد هو الذي يليق بنا لنؤمن به، وأشعلت الحماسة الدكتور طالب

:فخاطب عبد القادر قائال ."هذا ما نحتاجه إلى حمايتنا من التخلف. قة يا عميهي الحقي"

قوال أبيه الدكتور أحمد، أوأضاف بأن شجاعة عمه تذكره ب .وتدفعه إلى الفخر باالثنين معا

سماعيل يحس بالحصار الذي طوقته به عائلته، فانتفض غاضبا إ :ليهم بالمغادرة

حتى تخرج لم يكفنا الحرام في دخول جهاز التلفزيون إلى البيت " ."صفية إلى الشارع سافرة

براهيم بأخيه، بينما ذهبت عائشة مع ليلى إلحضار إبعد قليل لحق وكان عبد القادر يلتف من حوله طفاله جمال . صفية من غرفتها

وزينب وهو يحتويهما بذراعيه، وما لبث البن عائشة أن انضم إلى .حلقة الحنانفتش كل الغرف . سماعيلإبراهيم في العثور على إفشل

ال انه لم يعثر له إوالمربعات العلوية، بحث في األقبية واألسطح، ونجحت . ويبدو أن إسماعيل قد انسل خارجا من باب الدار. على أثر

-١٩٠-

عائشة بمساندة ليلى في اخراج صفية من عزلتها لتعيداها إلى اجتماع ال وأنوثة، فما وقد هلل الجميع بعودة الصبية التي تزداد جما. العائلة

كان من صفية إال أن سألت عن اسماعيل التي بدا انها ستغفر له .تعسفه، اال ان الحضور لزموا الصمت، فعلمت أنه غير موجود

ويكتشف إبراهيم الذي لم تتوقف جهوده أليام في تقصي األسباب أستاذ الديانة في . التي دفعت بأخيه إسماعيل إلى موقفه المتشدد

كان االستاذ قد جمع من حوله عددا . ية قاده إلى معرفة األمرالثانومن الطالب ليغرس في عقولهم رؤيته للدين، وفي لقاء اسبوعي في قبو جامع لم تنته أعمال البناء له، وكان حارس البناء قد جمعه مع

.االستاذ تنظيم واحد هو ما سهل النعقاد االجتماع الدوريأيخبر والده بما تسبب في سلوك . يمالحيرة شتتت أفكار إبراه

وأخيرا تغلبت روح رجل األمن . إسماعيل، أم أنه يتصرف منفردااندفع إلى مدير التربية ليضعه في . القديم لتضع حدا لحيرة ابراهيم

صورة ما يحدث في مدارسه من تنظيم أساتذة غلب عليهم التعصب صورة إلى المدير، بل ولم يكتف بنقل ال. فجرفوا معهم طالبا أبرياء

وسيفاجأ أستاذ الديانة بسحبه من المدرسة إلى . نقلها إلى الوزارةأخرى في قرية بعيدة، فكانت إلسماعيل صدمة جعلته ينكفئ على

.نفسه حزينا على مرشده الذي غاب عنهأخفى ابراهيم عن والده ما تعلق باألحداث التي أوصلت إسماعيل

عليه الحال مع أستاذ الديانة، إال أن عبد إلى ما هو عليه، وما كان :القادر لم يستطع إال أن يعطي سره إبراهيم فقال

-١٩١-

اعلم يا إبراهيم االبن والصديق، فأنا لم تكن لي رغبة في الزواج "لقد دفعت إلى الزواج منها من أجلك أنت . بعد المرحومة جليلة

كما الذي كنتما بحاجة إلى رعاية امرأة بعد رحيل أم. وعائشة ."فجعني، فقد كانت أم الخير هي بداية النجاح لي

وأدرك إبراهيم أن عبد القادر لديه نية الزواج من جديد، إال أنه لم :قرر أن يساعده وهو يقول. يفصح عنها كما يجب

أنت عبد القادر الحلبي الذي امتلك الرجولة، ويحسدك الشباب " "، فما الذي يمنعك من أنيس؟أعطاك اهللا الثروة والنجاح. على قوتك

، فلم يملك االبن )أنيس(استفسر عبد القادر عن الذي يعنيه بكلمة :سوى قوله

أن يجد الرجل من يأنس . األنيس هو ما يجده الرجل في المرأة" ."إليه ويهتم ألمره

نسجت خيوطه بين األب واالبن . ودار الصمت في أرجاء الغرفةن طويال، فاذ أمسك عبد القادر بالسماعة الهاتف ير. فما عادا يتحدثان

إبراهيم يتالعب . يعتذر بعد قليل بحجة حضوره اجتماعا مع آخرين :باقالم كانت على المكتب، وفجأة قال عبد القادر وكأنه يروى حكاية

الرجل كما علمت فهو . تلقيت دعوة رجل صناعي لزيارة بيته". النسيج الذي يملكهبحاجة إلى مساندة مالية لدعم مصنع الغزل و

المشكلة لم تكن في المساندة فحسب بل في حديث هذا الرجل الذي

-١٩٢-

قلت له ممازحا اكتفيت . تساءل عن بقائي وحيدا من غير زوجه ."بزوجتين، فقال ولكنهما في ذمة اهللا وليستا في ذمتك

وتوقف عبد القادر وهو يحاول أن يقرأ في عيني إبراهيم آثار نظرات إبراهيم تدعوه إلى المتابعة، فعاد عبد القادر حديثه، فكانت

:إلى استكمال حكايتههي . متعلمة وقد أحسن تربيتها لتكون زوجة صالحة) درة(ابنته "

."في الثالثين من عمرها، وأجدها مناسبة لي) درة(شارة من الرجل الصناعي أدخلت إ نإوقال عبد القادر ذا ما قاطع إو. سوى اإلعجاب بتهذيبهالم أجد . بالقهوة التي قدمتها لي

نظر عبد القادر إلى ). وبجمالها(براهيم والده مضيفا إلى ما قاله إ :ن هتف بقولهأال إإبراهيم مستطلعا رأيه، فما كان من االبن

."نت من يقرر، وعلينا أن نوافقأأنت صاحب الرأي، و"

-٢٤-

وتجار ورجال افد صناعيينمساء ذلك اليوم تو) نادي حلب(شهد ذلك لحضور تسجيل عقد عبد القادر الحلبي على ابنة و أعمال،

كان عبد القادر يرتدي مالبس مدنية للمرة األولى . سليمان األزميرليفي حياته انسجاما مع واقع النادي الذي لم يدخله من قبل، وهو الذي

س أح. دهش التساع المكان بأعمدته المرمرية ورسوم الحائط الزيتية .برهبة سرعان ما تجاوزها

-١٩٣-

. انتشرت الموائد فتحلق من حولها كبار رجال المال في المدينةوابتدأ االحتفال بتالوة القرآن الكريم، ومن بعدها قام شيخ بتسجيل القران فكتب في العقد صداق كبير قل مثله، والذي قرئ على

لمدعوون فيما تناقل ا. الحاضرين بإصرار األزميرلي تفاخرا بمكانتهبينهم خبر المهر الذي حسبه الكثير منهم أن الحلبي قد هبط من

. السماء إلنقاذ األزميرلي من محنتهواتفق على يوم الزفاف، وكان مساء خميس من نهاية

أقيم في دار األزميرلي وقد حضره عدد قليل من . الصيفالنسوة، ومن طرف الزوج حضرت عائشة وليلى، واقتصر

وكان قد اتفق على . لى الرجال من األقارب لألزميرليالحفل عأن يصطحب الحلبي زوجته إلى الدار دون زغاريد أو صحبة، فيدخل الحي دون ضجة احتراما لذكرى زوجتيه اللتين تعاقبتا

.على الدار، فخضع األزميرلي لرغبة الحلبيفي قاعة االستقبال لم يكن هناك سوى عبد القادر ووالد

وجرى توزيع شراب اللوز على . حيدين بين النساءالعروس والغرفة . الحاضرين، بينما ذهبت األم إلحضار العروس درة

. كانت خالية ورسالة تركت على الكومودينو بالقرب من المرآة :فضت األم الرسالة لتقرأ سطورها

زواجي كان صفقة باعني فيها أبي لرجل . احببت شابا سيسعدني" ."لقد اخترت حريتي. عجوز لن أحبه

١٣ م –السيرة احللبية

-١٩٤-

وصرخت األم مولولة، وفيما هي تخرج من غرفة ابنتها تستنجد بزوجها، كان االزميرلي يهرع مسرعا ليسمع زوجته

:تهتف بصوت مبحوح ."يا ويلي من الفضيحة.. هربت درة"

انتقل الفزع إلى االزميرلي، فكان وهو يقرأ الرسالة يشتعل . قطها من كان في القاعةبالغضب لتفلت منه صرخة مدوية، الت

ذاهال كان عبد القادر مع ابنته وكنته، فلم يكونوا بقادرين على تطوعت عائشة لتستفهم . الفهم لما كان يجري في الغرف الداخلية

خرج األزميرلي مسرعا بخطواته . األمر، فركضت في الممروهو يحمل الرسالة، فوضعها بين يدي عبد القادر وهو يقول انها

.ليتك اآلن لتعيد زوجتك الهاربةمسؤوكان زوجا مع وقف التنفيذ، وإذا ما قرأ الرسالة توقف عند

وكان يفكر إن كان أحد قد وصفه بذلك، ). الرجل العجوز(كلمة وأعاد الرسالة إلى األزميرلي دون أن يعلق . أم أنها هي الحقيقة

:بكلمة، واستمر في حواره مع نفسهعجوز، أم أنها خدعة دبرها أتراني ذلك الرجل ال"

."األزميرلي؟ولم يترك للجمع أية كلمة وداع فخرج مسرعا لتلحق به

.عائشة وليلى

-١٩٥-

ومع ظهور الفجر . في تلك الليلة لم يعرف إغماضة عينخرج عبد القادر من داره، فدار في الشوارع واألزقة لتقوده

لن يشكك حكاية هرب الزوجة لن يفهمها أو هو . قدماه إلى الخانفي رجولته أو قدرته على إرضاء امرأة، ولن يسمح للمؤامرة

ولم يجد سوى إبراهيم يفضي له بهمه . التي يحتمل أنها دبرت له .فاستدعاه على عجل

حضر إبراهيم، قال إن ليلى أخبرته بما جرى ليل أمس، وسأل والده إن كان الحدث قد كان مكرا من االزميرلي، أم أن

وهتف ابراهيم . في ادارة أسرته كما هو في عملهالرجل فاشل ويقول عبد . بقول واثق ألست المحامي الذي يضمن لك حقوقك

:القادر كجريح في كرامته ."ومن الذي سيدفع عني الطعن في كبريائي؟"

كبرياء فقد رد على موضوع الموضوعن كانإويعلن المحامي :قال. صدر األزميرلي، بريئا أو مخادعا

أعدك يا والدي باسترداد أي مبلغ من المال كنت قد دفعته لمساندة "وأما ابنته فهي زوجة ناشزة ال يحق لها ما ترتب . ذلك الصناعي

."على العقد من حقوق :وكان عبد القادر الحلبي حزينا وهو يقول

."هل تحولت إلى رجل ترفضه النساء؟"

-١٩٦-

زميرلي لن تكون وانقلب الحزن إلى غضب حمله قوله إن ابنة األ. له في أي زمن ومكان، وقام إبراهيم من مقعده ليقترب من والده

:احتضنه وهو يهمس في أذنهماضيك الوطني مشرف، ورعايتك . ألم يشهد لك الجميع بالنجاح"

انت يا والدي رجل . محبتك ألوالدك وزوجاتك. االنسانية لعمالك ."حقيقي في هذا العصر

ت عن تفكير عبد القادر احداث تلك الليلة، مع مرور أيام قليلة غابليلة هربت درة التي كانت واقعة زواجها مسجلة على الورق،

وظل . وزاد اهتمامه باالبناء األربعة الذين يشاركونه الدار. فطواهاإسماعيل منكفئا على ذاته قليل الكالم، وقد تجنب االحتكاك بأي من

واذا . امه بمواعيد المدرسة والطعامأفراد أسرته، إال أنه استمر بالتزما كان لقاء الجمعة االسبوعي تحصن في غرفته متعلال بالتحضير

.المبكر المتحانات البكالوريامن قبل، كان خبر استقالة عبد الناصر بعد نكسة حزيران، اال أن

ولكن ما . مظاهرات الشعب المصري أعادته إلى الرئاسة بعد قليلالراديو . ليلة كاد ان يقتلع قلب الحلبي من صدرهحدث بعد سنوات ق

ففي الدقائق األولى من اعالن الخبر أضحى . يعلن وفاة عبد الناصرعبد القادر ذاهال وكأنما احتاج لوقت يصدق فيها سمعه، ثم بعد ذلك

:بلحظات متسارعة انفجر في بكاء يعجز عن إيقافه

-١٩٧-

."ال يمكن للرئيس أن يموت"كلماته كهلوسة رجل تمزقت روحه، فإنهالم واذا ما تكررت

تتوقف اال لحظة دخول رئيس عمال مصنع العلف الذي كان يمر في طريقه بالغرفة، فإذا هو يسمع الحلبي ليقتحمها مستفسرا عن

:صاح عبد القادر لرؤيته. األصوات غير المألوفة ."الرئيس مات. عبد الناصر مات"

يظهر عليه أنه يفهم شيئا، إال أنه كان رئيس العمال عند الباب المع تكرار الخبر سقط على قدميه فساعدته يداه على االحتماء

.بالحائط، فانخرط في بكاء مريررجال اكفهرت وجوههم، وحجارة كابية، . ساد الحزن في الخان

وسرت شائعة ، وما عاد يسمع للقطط اال المواء الذي يثير الشفقهلمدينة، وقد دفعت تلك الشائعة رجاال وصلت الخان من شوارع ا

اندفعوا في تظاهرة إلى مطار حلب، وكان هؤالء يهتفون بعودة عبد :قال عبد القادر معلقا. الناصر الذي ستهبط طائرته في المطار

. !"أي جنون دفع المحبين لهذا الزعيم الراحل ليفقدوا توازنهم"د الناصر تدور ويوم طافت الجماهير في القاهرة تحمل نعش عب

به في جو من الحزن الفاجع، توافد على الخان رجال بالمئات يقدمون دارت المسجلة لتبث القرآن الكريم . العزاء إلى عبد القادر الحلبي

على مدار يومين بينما تصدر الحلبي ساحة الخان، فيأتي الرجال

-١٩٨-

ويجلسون على الكراسي المنتشرة وال يلبثون أن يغادروا ليحل كان الحلبي واحدا ممن في المدينة فتحوا ابوابهم . يرهم في أمكنتهمغ

لتقبل العزاء بعبد الناصر، بالرغم من أن الرجل لم يكن يوما في .التنظيم الناصري الذي أعلن عن تأسيسه عقب االنفصال

-٢٥-

طالب . براهيم الحلبيإحوصر األزميرلي بدعاو رفعها المحامي اعي بتسديد دين موكله، وبأخرى على االبنة في واحدة منها الصناألزميرلي أحس بخطر اهتزاز هيبته في أوساط . الهاربة من زوجها

المال، فكان أن هرع إلى مكتب إبراهيم زائغ العينين مضطرب خاطب المحامي راجيا منه التريث، . يتمالك نفسهالأن س يكاد النف

، فما كان من إبراهيم إال أن ن يعيد ابنته فيردها إلى زوجهاأواعدا :علق بقوله

"يقبل موكلي بعودة ابنتك إليه؟وهل تعتقد أن ". براهيم يحس ببراءة األزميرلي من تهمة تآمره على والده، إوابتدأ

إال أنه ظل مثابرا على إجراءات مواجهة الرجل في المحكمة الذي .رد خائبا

ت درة بعدها إلى بيت أهلها أسابيع قليلة عاد. وحدثت المفاجأةكانت باكية بين أحضان أمها، فالشاب الذي أحبته وضحت . ذليلة

-١٩٩-

بمستقبلها من أجله، خذلها فكشف عن طمعه في مصنع أبيها واذا ما :تبين له وقوع األزميرلي في الديون، صاح الحبيب في وجه درة

."عودي إلى زوجك يا هاربة"غفر لها، فتنفجر األم باكية تخنق وتساءلت درة إن كان الحلبي سي

:الدموع كلماتها ."ضاعت الفرصة يا درة، وضعنا نحن"

وكان األب يراقب لقاء االبنة بأمها وهو يتمالك مشاعره فلم يظهر :ومع توقف بكاء المرأتين هتف األب. أي انفعال

."واآلن يا درة هل وجدت حال لهذه الكارثة؟"كابدته للغضب، ولكنه ما عاد طالت م. وانفجر الصناعي فجأة

:بقادر على حبس مشاعره فقالفلتتفضل ابنتنا بخبرتها وشجاعتها بإعالمنا عن طريقة معالجتها "

."لمأساة أسرة األزميرليالهدف كان مكتب إبراهيم . رافقت درة أبيها بعد يوم من عودتها

ميع شهد اللقاء اتفاقا على الطالق بعد تنازل الزوجة عن ج. المحاميوفي اليوم التالي حضر األزميرلي إلى غرفة عبد القادر . حقوقها

وبحضور ابراهيم، فاتفق على التنازل عن حصة من المصنع لقاء وهكذا خرج األزميرلي مهزوما، وبقي الحلبي في غرفته . الدين

.فخورا بابنه

-٢٠٠-

وما هي إال أيام قليلة ليعود إبراهيم إلى بيته يحمل معه خبر . ر لوالده بعد أن أنهى رسميا كل ماله عالقة بالزواج والمالاالنتصا

وكانت ليلى تستقبل زوجها بفرح االنتصار تلقت خبر نجاح إبراهيم . القانوني بالتهنئة، لكنها ما لبثت أن أظهرت وجوما لم يعهدها أحد به

سأل الزوج إن كانت تشكو من مرض، فكان أن دعته إلى الجلوس :قالت ليلى. مواجهتهلتكون على مقعد ب

أنت الزوج والصديق، وانت . لم أكن يوما أحلم برجل مثلك" ."الحبيب قبل كل شي

ومرت لحظات صمتها تتنازعها المخاوف من ان يكون العترافها :أثر على إبراهيم، لكنها قالت من جديد

عمي أبو إبراهيم أنجب االبناء الذين يفخر بهم، وأما أنا فعجزت " ."عطائك االبنكزوجة عن ا

:وتأملها بابتسامة، وهي تكمل قولها ."من حقك يا إبراهيم أن تكون لك امرأة تمنحك االبناء"

:كانت تقول بصوت مرتعش. واغرورقت عيناها بدموع براقة ."غدرت بك يا حبيبي. لقد خذلتك"

تقدم خطوات من ليلى، وأمسك برأسها بين . وهب إبراهيم واقفاكان يهمس برقة عودتها . وجهها فأغمضت عينيهارفع. كفيه وأقعس

:لالستماع إلى عذوبتها

-٢٠١-

."ولكن حبي لك غلب كل األقدار. ال مفر لي من القدر المكتوب"وضمها إلى صدره فاحتضنته بذراعيها، ليبقيا ساكنين وكأنهما في

وقد همس في سمعها أن أخوته هم . صالة تالوتها آيات من الصمتفإسماعيل وصفية وجمال وزينب، وال أستثني الدكتورة أبناء له ولها،

وقال . عائشة، بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم لتخطي مصاعب الحياةإبراهيم بخرم المحب:

."أنا وأنت سنكون سندا دائما لهم"وقد غالب نفسه محتفظا بالسر الذي لم يفض به ألحد، مكتفيا

عدم قدرته على اإلنجاب بعذاب الضمير ألنه أخفى عن ليلى حقيقة . وراضيا عن نفسه أنه مخلص في حبه لزوجته ليلى

مساء ذلك اليوم، أثار اهتمام عبد القادر حديث رئيس عمال رحب . كان قد دخل عليه في الوقت الذي انتهى عمله. مصنع العلف

. عبد القادر به وطلب ان يأخذ له مقعدا، وجعل يسأل عن األحوال. ، وكثيرا ما قال عنه إن اسمه يطابق سلوك حياتهكان المفضل عنده

الميكانيكي والكهربائي واالداري، وهو كذلك يتسم ) صادق(هو وقال صادق إن العمل في المصنع يسير كأفضل . بالصدق واالمانة :ما يكون، واضاف

الرجال في المصنع . عرفتك منذ سنين، وكنت خير رب عمل"وانا ، الرعاية والتعاطف واالحتراموفي الخان ال يلقون منك سوى

."بالرغم من تجاوزي للستين من العمر ال أحس بك إال أبا ورمزا

-٢٠٢-

وتوقف صادق عن االستمرار في الكالم، وكأنه يحتجز غيره فال كان عبد القادر يحترم انفعاله الصادق، ولكن . يستطيع النطق به

:الرجل عاد إلى التدفق بالقولخديجة . منذ زمن ان تترك امها المريضةخديجة ابنتي رفضت"

. فتاة صالحة وجميلة وقد امتنعت عن الزواج لتبقى لترعى أمها ."زوجتي ماتت منذ أسابيع

انتفض عبد القادر ليصيح بانه لم يعلم، وكان عليه واجب العزاء، :إال أن الرجل أكمل قوله هادئا

كرت طويال وقد ف. ليرحمها اهللا فقد كان ميؤوسا من حالتها"بمكافأة خديجه على صبرها وعنايتها بأمها، فلم أجد سواك يا سيد

."عبد القادروهنا مألت الدهشة وجه الحلبي، فهو لم يكن قادرا على فهم قول

:أكمل صادق. رئيس العمالأتمنى من قلبي المحب .خديجة مؤهلة لتكون زوجة لك يا سيدي"

." األرملة الوحيدةأما أنا فسأعيش مع أختي. لك ان تفكركما حدث له مع الحاج الذي قدم له ابنة أخته أم الخير على طبق

وجد عبد القادر . السعادة، يتكرر الموقف وتستكمل الدهشة ألوانها :المسحور يقول

."هل اأستطيع أن أسمع بأذني موافقة ابنتك"

-٢٠٣-

."هذا من حقك يازين الرجال" .هكذا قال صادق وهو يستأذن بالمغادرة

-٢٦-

يوم الكشف عن حقيقة األمر، مساء اصطحب عبد القادر ابنه ابراهيم حافظ أسراره والمحامي الذي استرد له حقوقه، فتوجها

وكان بيت صادق الذي تم التعرف عليه . إلى مكان اللقاءبصعوبه، قد تحول إلى ساحة من حرارة الترحيب التي قابل

الصغيرة قد توزعت فيها كانت الصالة. صاحب البيت ضيفه بهاالتي ) أذن الفيل(أصص النباتات المنزلية، وتوسطتها شجرة

ضمها برميل لون باألخضر، كما علقت سجادتان على الحائط وتوزعت اإلضاءة على . لتشكال بالزخارف خلفية لهذه الشجيرة

السقف والجدران، فكان المنزل بالرغم من وقوعه في حي شعبي ته يشير إلى غير ما هو مألوف في البيوت وبساطة مفروشا

أشاد الحلبي بالحس المرهف لرئيس العمال، فما كان . البسيطة .من صادق إال أن اعترف بلمسة ابنته لما يمكن رؤيته

تلك التي دخلت عليهم تحمل صينية القهوة، ) خديجة(ال بد أنها كانت بثوب . فوقف الرجال الثالثة لها، ليقدمها إلى عبد القادر وابنه

الحزن األسود، ولكن وجهها المشرق وشعرها المعقود خلف رأسها

-٢٠٤-

وبدا لعبد القادر . وابتسامتها المرحبة، ساهمت في إظهار بريق عينيهاان ثوبها الذي امتأل بجسدها هو جزء من األناقة البسيطة التي اتسم

.بها المكان عبد القادر أفسح األب البنته فسحة للجلوس بقربه، بينما احتل

رحبت خديجة بالضيفين، . المقعد المجاور لهما وقد غرق في صمتهفرد عليها عبد القادر بهمس وإيماءة من رأسه، إال أنها قالت بصورة

:مباغتةاقترب عمري من األربعين، ولكني في الحقيقة مازلت في "

وتمنيت ذات يوم أن أنتسب إلى الجامعة لكنني . منتصف الثالثينيات. أستطع ترك أمي وحيده في مرضها الذي امتد لسنوات طويلةلم

."كان ال بد لي من رد الدين لهاتبادل إبراهيم النظرة الخاطفة مع والده، وكأنهما لم يستمعا إلى

وكان عبد القادر يصغى بدهشة إلى خديجة التي . امرأة مثلها من قبل :عادت إلى الحديث بجملة واحدة

."يرحم زوجتيكرحم اهللا أمي، ول"احتار عبد القادر وهو يساءئل نفسه ان كان يحتمل جرأة هذه

بعد قليل اخترق صمت البقية . المرأة، أم أنه بحاجة إلى واحدة مثلها :صوت خديجة يقول

كانت كلماته تحمل اإلعجاب والمحبة . تحدث والدي طويال عنك" ."زعيملك، قد رسم لك صورة الرجل القوي، وكانت لك أكثر من

-٢٠٥-

طالما أحس عبد القادر بقوته، إال أنه أدرك بأن خديجة تتفوق :عليه، وقال لنفسه

جئت تدفعني رغبة لمعرفة كل شيء عن خديجة، فإذا هي ال " ."أيمكن للزمن الحلبي ان يشهد حالة كهذه؟. تخفي أي شيء

إبراهيم لم ينطق بكلمة، وهو من مكانه يراقب ويستمع، وكان بينما كان صادق يبتسم في سره . لخديجة ال حدود لهيحمل إعجابا

لشجاعة ابنته في صراحتها المعهودة، وأما عبد القادر فكان يحاول :أن يتخذ موقفا يستمد من جرأة خديجة، فقال

أقترب من السبعين . عندي ستة أوالد، وابراهيم هذا أولهم"و من ال أشك. واحتماال أن أكون قد تجاوزت منتصف الستينيات

علة أو ما يشبه المرض، وأمضي أيامي في إدارة أعمال الخان أستمع إلى األخبار وأقرأ كتبا أعوض بها عن التعليم . وغيرها

."الذي حرمت منه :واستدرك بالقول إن هذا كل ما عندي، لكنه سمعها تقول

."أنت رجل صالح كما أجمع كل الناس" :ا عبد القادرعينا صادق األب كانتا تقوالن بلغة فهمه

."ها أنت قد سمعت موافقتها"التصق عبد القادر بمقعده فلم يأت بحركة، فوقفت خديجة تراقبها

يقول صادق إن خديجة ستعود، وقد . العيون وهي تخرج من الصالة

-٢٠٦-

لم تنطق بكلمة وكذلك فعل . فعلت فعادت حاملة كؤوس الليمون :قال عبد القادر مثنيا على الشراب. البقية ."لم يكن هذا وقت الليمون يا آنسة خديجة" ."احتفظت به في الثالجة أيام موسمه"

واذا ما توقف الحديث لفترة كانت العيون . هكذا قالت خديجةتسرق النظرات من بعضهم البعض، هب عبد القادر ليستأذن

لحظة الوداع كانت مشحونة . بالمغادرة، وما لبث ابراهيم ان لحق به . لدى الجميعبحرارة التساؤل

إبراهيم هو الذي قاد السيارة، بينما جلس عبد القادر قربه يخيم :في الطريق سأل عبد القادر. عليه الصمت

."ما رأيك في كل ما شاهدته وسمعته؟" "لم يسبق لي ان رأيت امرأة مثل خديجة"

وأضاف إبراهيم بالقول إن ما يحير فيها شجاعة ال تعرفها عند :بالقولواستدرك . النساء ."قرأنا عن أيام العرب منذ قرون أن النساء كن يخترن األزواج"

:وكان عبد القادر يحادث نفسه بصوت مسموعأعلم أن صادق رئيس عمال المصنع يتسم بالصدق وحسن "

اإلدارة، ويبدو أن ابنته قد اكتسبت صفاته، بل كانت نسخة محسنة . !"أتراها كسرت القواعد المألوفة. عنه

-٢٠٧-

:فت عبد القادر إلى ابنه يسأله بغتةوالت ."أليست إلبراهيم رغبة في أن يكون له ولد؟"

واذا ما فوجئ االبن بالسؤال الذي خرج عن سياق الحديث، ابتسم :قائال ."أال يكفي مارزقت أنت من أبناء"

:وعاد عبد القادر إلى موضوعه الذي شغله فقال ."ما تريدابنة صادق فتاة تعرف . هي امرأة قوية"

ورجع الصمت إلى بدايته، فكان الواحد منهما يعود إلى نفسه .يحادثها

هو قد . شغل عبد القادر والعائلة بالمشكلة التي أثارها إسماعيلنجح في امتحانات الشهادة الثانوية، إال أنه قرر عدم االلتحاق

لم يفلح . بالجامعة، متخذا قراره االلتحاق بالخدمة العسكرية االلزاميةالوالد في إقناعه، كما فشل ابراهيم وعائشة في تزيين الدراسة في

وهما يقدمان له مغريات العلم من تقدم في المجتمع واتساع . الجامعةوخير إسماعيل بين جامعة حلب أو أيه واحدة أخرى في . المعرفة

وقال عبد . الخارج، إال أنه ظل متمسكا بموقفه في الخدمة العسكريةوكانت صفيه تستعد . لقادر غاضبا لندع الولد العنيد يختار ما يريدا

المتحانات البكالوريا بعد سنة، فراهن والدها عليها تعويضا عن كسر .حلقة األبناء في اإكمال التعليم الجامعي، وهو المحروم من كل تعليم

-٢٠٨-

ومرت فترة من التأرجح في اتخاذ قرار بين تردد وقبول، حسمه اتفق مع صادق على . بإقدامه على فكرة الزواج من خديجةالحلبي

موعد محدد، إال أن اإلجراءات سارت في اتجاه عقد القران في وكانت في حقيقة األمر . المحكمة الشرعية مراعاة للزوجة المتوفاة

تلبية لرغبة خديجة، وأكبر الحلبي في المرأة التي حفظت ذكرى أمها .زوجه الراحلة جليلةوراعت كذلك مشاعر أبناء

أصرت خديجة على المثول أمام القاضي، رافضة أن يكون وارتسمت الدهشة على وجه . والدها وكيال لها في عقد القران

عبد القادر وابنه وصهره، بينما وقر في ذهن صادق أن ابنته قد الزوجان يستمعان الى قراءة كاتب . ذهبت بعيدا بقوة شخصيتها

ل إلى ذكر المهر قالت خديجة بثقة أن المحكمة، فاذا وصموضوع المقدم والمؤخر ال يعنيها في شيء، ليصاب والدها . بالصدمة، كما أن الزوج والشهود لم يستطيعوا فهم تلك المرأة. وتوقف الكاتب عن التسجيل بانتظار ان يقول عبد القادر شيئا

خرج الزوج من دهشته ليطلب أن يسجل أعلى رقم مر على التعجب يسود وعالمات االستفهام ترسم . سجالت الزواج الحلبي

آثارها على وجه القاضي، بينما إبراهيم فقد أدرك ان والده بات مقتنعا بل مسحورا بهذه المرأة، وكانت خديجة ال تبدي أي

.كانت المحكمة قد شهدت أغرب قران يحدث في مقرها. انفعال

-٢٠٩-

-٢٧-

عبد القادر إلى باب الدار سارع . موكب العرس في الزقاقليستقبل عروسه مع الموكب الصغير الذي ضم والدها وابراهيم

كانت تعاليم . دخل الموكب ليواجه باستقبال ترحيبي. والدكتور طالبعبد القادر قد منعت الزغاريد، فاكتفى أفراد العائلة بالوقوف صفا

على أقدمت خديجة. واحدا في صحن الدار يسلمون على العروستقبيل كل فرد، وأما إسماعيل فمد ذراعه مصافحا على استحياء، وما

.لبث ان ابتعد مختفياصيف الدار كان منعشا، وبالرغم من شمس الظهيرة فقد كانت أشجار النارنج مع مظلة الكرمة والياسمين والفل والتمرحنة، هي

ام في وامتدت مائدة الطع. التي منحت الطمأنينة ألجساد الجميعالليوان ليقوم رجالن استقدما من مطعم معروف بالخدمة، بينما

الزوجان على رأس . تزودهما بصحون الطعام المختلفة ) فاته(وقف إبراهيم في محاولة للفت . المائدة، والجميع على الطرفين

:االنظار إليه ليقولأريد ان أرحب أوال بالعروس خديجة، وأقول لك أهال بك في " ."ائلةالع

الجميع يصفق، وعبد القادر ينظر بإعجاب إلى لباقة ابنه، :ويقول إبراهيم

١٤ م –السيرة احللبية

-٢١٠-

وأود أن . خديجة أصبحت زوجة أبي، واقول إنها ستكون أختا لنا"أفشي سر هذه االسرة التي تعيش في بيت قديم وفي حي أقدم، لكن أهلها من جماعة العصر التي قد تسبق في مفاهيمها معظم أهل

وها هي خديجة الزوجة واألخت قد جاءت لتزيد على أسرة . ةالمدين ."عبد القادر الحلبي قيمة وتمنحها المحبة والشجاعة على طريقتهاكانت . توقف إبراهيم عن خطابه، بقي صامتا لحظات ليجلس

األنظار ترمقه بإعجاب، فما أن سكت عن الكالم حتى اشتعلت .األكف بالتصفيق

ا توشوشه، فكان الجميع يتمنى أن يصل مالت خديجة على زوجهإليه، وهتف صادق ممازحا أن تبادل األسرار بين اثنين غير مسموح به على مائدة الطعام، وعلق عبد القادر على قوله بأن رقابة والد

وسادت روح المحبة فكان يوما مسح فترة . العروس ليست مستحبة .من الحزن والقلق

زواج نهارا، لكن الزوجين دخال الغرفة ولم يكن مألوفا بداية الوكان أول الحديث في طلب عبد القادر ان تعيد عليه . فأقفل الباب

وشوشتها ألنه لم يستمع اليها جيدا، ابتسمت وهي تقول بطريقة :إمالئية

."ما سمعته من ابراهيم كان مؤثرا، أنت أب أحسن رعاية أبنائه" قالفما كان من عبد القادر إال أن:

-٢١١-

."وأرجو ان أكون زوجا بما يليق بك" :فعادت الى الوشوشة التي كانت واضحة في سمع الزوج

."انا التي اسعى حقيقة كي اكون زوجة تليق بك"واكتمل اللقاء بين الزوجين، وهما اللذان كانا يحلمان به شوقا منذ

.بداية االحتفال ظهرابتمامهما كما لم يحدث عن الخان غاب عبد القادر الحلبي ليومين

لم يكن الرجل ذلك . العاملون تساءلوا فاذا حضر دهشوا. منذ سنواتالمهيب بعباءته الصوفية شتاء والحريرية صيفا، كان السيد االنيق المتفتح على المرح وممازحة عماله، شبابه يعود به إلى قامة

نجم مشدودة، وبدلته الصيفية البيضاء المائلة الى الرمادي وكأنهوتقاطر العمال بعد قليل لتحية العريس الذي اخفى زواجه . سينمائي

. عنهم، كما ان رئيس المصنع لم يعلن عن كونه والد العروسوامتألت الغرفة بالمباركين، فأعلن عبد القادر ردا على تحية العاملين

وقيل بعد ذلك إن الرجل . بتوزيع أجر أسبوع عليهم احتفاال بالزواج .ر، إال أن طيبته مازالت تشعقد تغي

وسرعان ما التفت صفية وزينب حول خديجة، فكأنها بحديثها الذكي وتعاملها الرقيق اجتذبت الفتاتين إليها، ودفعت جمال إلى لوحة

تحولت صفية . الشطرنج كي يتعلم تحريك احجارها فأتقن اللعبةغيرة، واعتنت الصبية الجميلة إلى صديقة فكانتا تتبادالن األسرار الص

-٢١٢-

بزينب تضفر لها شعرها وتشاركها الحكايات، واما اسماعيل الذي قابلته مصادفة فلم تملك له سوى السالمة وهو يستعد لاللتحاق بخدمة

وفي الليالي كانت تغمر زوجها بحب ال يذكر أن له شبيها . الجيشقالت خديجة ذات مساء ان صديقة لها، منذ أيام المدرسة . من قبل

باتت أستاذة جامعية في كلية التجارة، قد أخبرتها بقدوم فرقة وقدمسرحية مصرية ستعرض غدا على خشبه اعدت في مجمع

ولم يكن عبد القادر قد حضر عرضا . رياضي، دعتها مع زوجها .مسرحيا إال أنه لم يتردد لحظة بقبول الدعوة

ألنوار شهدت الفرقة ازدحاما في قاعة العرض، وما أن أطفئت اوانفرج الستار عن الخشبة، حتى أمسك عبد القادر بكف زوجته التي تمايلت مع موسيقا المقدمة التي رافقتها فرقة راقصة، لتتالقى عيون

أحداث المسرحية . الزوجين وقد حملت امتنان عبد القادر لخديجةتمشي قدما، فيعبر همسا أن مثل هذا لم يشهده من قبل اال في مرات

ر شاشة التلفزيون، وأحس عبد القادر أن خطوة جديدة يتقدم بها عبويقول لها . في حياته، والفضل لخديجة التي دخلت فجأة مسيرة عمره

:في طريق العودة ."ال أعتقد يا خديجة أن الحياة من دونك، تساوي شيئا"

وكان عبد القادر يعني ما يقول، وأما خديجة بصمتها فتحس .بالسعادة

-٢١٣-

مالمح الخريف برودة الصباح في الدار، فتدثرت خديجة شهدت بشال صوفي، وكانت تشرب القهوة مع زوجها في الليوان، وبينما كان عبد القادر يستعد للخروج، همست في أذنه وهو يقبلها أنها

توقف الوداع الصباحي، ومال إلى الوراء يتأملها فتمأل عينيه . حاملما لبث أن أسرع وهو يقودها الى و. الدهشة التي غرقت في التعجب

ركع على ركبتيه ليقول إنه ال يسمح لها بالتعب، . الجلوس من جديدابتسمت خديجة وهي تقول إن من . فال تفعل شيئا سوى الراحة

:يسمعك يظن أنك لم تعرف األبناء من قبل، فإذا به يهتف ."ولكني لم أعرف مثلك من قبل يا حبيبتي"

ة منذ زواجها به يخاطبها بالحبيبة، آنذاك وكانت تسمعه ألول مرخطفت من كفه قبلة، ليبادلها بأخرى وهو يطبعها بعمق غارقا بوجهه

:جعل يتمتم كشاب عاشق. في بطن كفها ."شكرا هللا أني عرفت امرأة اسمها خديجة"

ومع مرور األيام كان عبد القادر قبل خروجه من الدار يسأل عن فتجيب خديجة بأن األمانة التي وضعتها وضع الجنين الذي تحمله،

كان حديثهما كأغنية يشارك . في أحشائي مازالت في الحفظ والصون .فيها اثنان، فيتلذذان بأدائها

واكفهر خريف تشرين بأخبار هجوم الجيش السوري على إسرائيل، متماشية مع أنباء الجيش المصري وقد تخطى قناة السويس

-٢١٤-

كانت أخبار الراديو التي يستمع إليها . دسيةبجسر اخترعته عبقرية هنعبد القادر قد اعادت اليه األمل في صنع ما يعيد الكرامة إلى االمة

:خرج الرجل من غرفته ليهتف في ساحة الخان. العربية ."اسمعوا يا رجال، جيشنا يهاجم العدو إسرائيل، النصر قادم"

-٢٨-

وكان . أطراف القتالنيران الحرب تتوقف، وتبدأ المفاوضات بيناسم المجند إسماعيل الحلبي على قائمة المفقودين فنزل الغم على

وظهر رئيس البالد على شاشة التلفزيون وهو يرفع . الحلبي وعائلتهالعلم السوري على أرض القنيطرة، بينما احتفظت إسرائيل بمرتفعات

وكانت بقي إسماعيل مفقودا تتطلع األنظار إلى عودته، . الجوالنعين عبد القادر على بطن خديجة يربط بين والدتها وعودة االبن الضائع الذي ظلت غرفته تغرق في صمتها، فال تتكلم سوى صورته التي أطرها األب، ليقف االب أمامها مساء كل يوم لدقائق، يحادثها

ولكن االنتظار يطول مع . فيسمعها وكأنها تقول سأكون في الدار غدا .يام ببطء قاتلتعاقب األ

. في غرفة الخان اجتمع األب وابنه بعدد من المعارف واالصدقاءكان ابراهيم ينتظر من والده أن يبدأ الحديث، لكن االستسالم للحزن

-٢١٥-

بعد قليل هتف ابراهيم وكأنه وجد المدخل . منع االثنين من أي كالم :الى فكرة ظن أنه يكتشفها

وفاة، فهذا يعني أن أخي ما دامت تقارير الجيش لم تشر الى" ."اسماعيل حي يرزق

فأيده عبد القادر بهز رأسه ليؤكد على قوله، وعاد إبراهيم ليقول :من جديد

هناك احتمال أن يكون إسماعيل قد فقد الذاكرة لسبب ما، فهام " ."على وجهه في أرض المعركة

:آنذاك علق االب بصوت واهن ." العثور على جندي؟هل تتصور يا ولدي أن الجيش عاجز عن"

وكان ابراهيم يخشى أن يصرح بشيء عن وقوع إسماعيل في األسر، إال أنه لم يمنع نفسه من اإلفصاح عن الفكرة ليقول إن كان إسماعيل قد وقع في االسر وال تعلم إدارة الجيش عن ذلك، فاشتعل

:ذعر عبد القادر ليقول ."وهل العدو ال يتورع عن قتل أسرانا؟"

رغم من اقتراب موعد الوالدة، فإن خديجة كانت تحرص بالعلى مراعاة القلق الدائم لزوجها، لذا اتفقت مع الدكتورة عائشة وليلى زوجة إبراهيم كي ترافقاها لحظة اقتراب المخاض إلى

وفي عصر ذلك اليوم . مشفى التوليد، لتفادي إزعاج عبد القادر

-٢١٦-

عهما، لالنتقال إلى الموعود هرعت المرافقتان، وكانت صفية موسدت خديجة على الفراش بانتظار . مرافقة الحامل على عجل

واجتمعت . الطبيب الذي صادف انشغاله بوالدة امرأة اخرىالنسوة الثالث مع الممرضه حول السرير، فازداد القلق مع تزايد

وما كان من ليلى اال ان سارعت مستنجدة . لحظات الطلقد قليل من مهمته، و ما إن دخل غرفة بالطبيب الذي فرغ بع

.خديجة حتى فوجئ بقدوم الطفل الذي أطل على الدنيا. خرجت خديجة من المشفى مع زوجها وهي تحمل وليدها

وفي الطريق عاتبها عبد القادر بمحبة . حملتهم السيارة باتجاه الدارممازحة وهو يقول أال أستحق أن أحضر قدوم ابني، فردت بقولها

وكان . ركته ألعماله وهمومه وان عائشة وليلى كانتا تمثالنهإنها تحافال استقبال الجميع للطفل وهم يجتمعون حوله وحول أمه

:هتف عبد القادر بهم. ويتفحصون القادم الجميل ."رحبوا يا أهل الدار بضيفنا القاسم"

وتساءل األخوة عن هذا االسم الذي أطلق على الرضيع، ففوتت ى األب فرصة الجواب بزغرودة، ولكن عبد القادر أشار عل) فاته(

:عليها بالصمت وهو يقول ."ال يحتمل ابننا القاسم أية ضجة"

في المساء، اجتمعت العائلة حول فراش خديجة وهي تحتضن توالى الكبار والصغار على غمر لفافة القاسم بالهدايا الذهبية . ابنها

-٢١٧-

ة مألوفة لدى عائالت كثيرة وقد وكانت عاد. التي يشبكونها بالدبابيسقل هو اهللا (و ) حمدا هللا(و ) ما شاء اهللا. (تفنن بصناعتها صياغ حلب

، كانت الهدايا قد اشتراها عبد القادر )عين الحسود فيها عود(و ) أحدليقدمها األبناء، بينما هدية عائشة مع زوجها طالب فكانت عقدا

قدمت زوجه ليلى سوارا طوقت عنق خديجة، ولكن إبراهيم التي :مطعما بحجرة ياقوت، فقد قال

، أما أنا فسأتنازل )أبو إبراهيم(تعود الناس على مناداة الوالد " "مؤقتا لمناداته بأبي القاسم، وأعود بعد سنين ألستعيد االسم القديم

فلم يتمالك االب نفسه فذرف دمعة سرعان ما مسحها بكفه، :وكانت خديجة تقول

هيم أخي، ليلى وعائشة وصفية وكل العائلة ال يرعانا سوى إبرا" ."رجل واحد اسمه عبد القادر

وذات يوم، تلقى إبراهيم مكالمة من مساعد في الشرطة الجنائية، ليشير فيها إلى وجود شاب يدعى جمال وهو يقول إن المحامي

وهرع مسرعا إلى مبنى الشرطة غير مصدق . إبراهيم الحلبي قريبهن أخاه الذي لم يتجاوز السادسة عشر من عمره قد يرتكب خطأ ما بأ

قابل إبراهيم المساعد طالبا منه معرفة . ليحجز في مكان كهذا :المحتجز وما إذا كانت له عالقة به، فقال

."الشاب اسمه جمال الحلبي، والده عبد القادر"

-٢١٨-

س استدعي جمال من القبو، وإذا بإبراهيم يدهشه لقاء أخيه منكوتمالك . الرأس، وكانت عيناه ال تستطيعان النظر إلى إبراهيم

المحامي نفسه فسأل المساعد عن الجرم المنسوب للشاب، فقال :الشرطي متلذذا بوصف الواقعة

تعاطي المخدرات، فقد دهمت الدورية مجموعة شباب في بيت " ."وهكذا سيقوا الى الجنائية بتهمة الجرم الموصوف. أحدهم

: المساعد هامسا في أذن إابراهيمواقترب ."الشاب حدث، وقد يتفهم حضرة العقيد رئيس الجنائية هذا األمر"

وأدرك ابراهيم بحسه كمحام أن الحل لهذه المشكلة بيد هذا فكان . سأله إن كانت الجنائية قد نظمت تهمة بحق جمال. المساعد :الجواب

."األمر يتعلق بك يا أستاذ إبراهيم"م المحامي وهو يدس في درج مكتب المساعد مبلغا من ابتس

.المال، فما كان من صاحب الدرج إال أن ابتسمإبراهيم يقود السيارة بهدوء، وأما . خرج األخوان من المبنىوتوقف السير عند الضوء االحمر . جمال فكان يعالج صمته بالقلق

:وعنده سأل ابراهيم ." كل الحكاية؟..أال يسمح لي بمعرفة الحكاية"

:تخلص جمال بعد قليل من صمته، فكان يتدفق بالحديث

-٢١٩-

كان رفيق لي جمعني مع جماعة . لم يكن هناك حكاية وال رواية"فوجئت بهم يدخنون السجائر و أنا لم أعرف التدخين . من أصدقائه

عرض علي أحدهم سيجارة فرفضت، وطرق الباب بعد . من قبلأنفسهم بأنهم شرطة الجنائية وأعلنوا قليل ليدخل غرباء كشفوا عن

عرف أحدهم وهو . عن إلقاء القبض علينا بتهمة تعاطي المخدراتذلك المساعد بأني ابن عبد القادر الحلبي وأخي المحامي ابراهيم،

."وهكذا سيق بنا إلى قبو النظارةوسكت جمال، بينما تساءل إبراهيم إن كان يعلم شيئا عما تحتويه

:ال جمال ببراءةالسجائر، فق ."وهل السجائر تعني المخدرات؟"

واكتشف إبراهيم ما رسم لعائلة جمال ليكون فخا، إال أنه تجاوز .المكيدة بالمال

-٢٩-

صفية التي حصلت سابقا على الشهادة الثانوية، كانت تتمنى لو أنها تدرس في كلية الطب كأختها عائشة، إال أن الطموح كان عائقه

ت غير المؤهلة، لذا عقد اجتماع عائلي خيرها عبد القادر فيه العالمااقترح إبراهيم دراسة األدب اإلنكليزي لميلها . لتنتقي دراسة ما تريد

إلى اللغات فساندت عائشة هذا الرأي، بينما انبرت خديجة بقولها إن

-٢٢٠-

أحدا من أسرة عبد القادر لم يتقدم لمساعدة والده في أعماله، صفية االنتساب إلى كلية التجارة لتكون ذات يوم واقترحت على

ويومها . المعين له في اعمال الخان والشراكة في معمل األزميرلي :نظرت صفية بإعجاب إلى زوجة ابيها

موافقة على االنتساب لكلية التجارة، شريطة أن أساعد بابا منذ " ."اآلن

رة في واما ليلى فلم تنقطع عن الحضور الى الدار ألكثر من ميبتسم لها إذا . األسبوع، لتضم القاسم الى صدرها، تالعبه وتناغيه

:تسألها خديجة ذات مرة. حضرت ويبكي إذا غادرت ."إذا أنت تحبين االطفال، لم تأخرت هكذا؟" ."فتجيب بأن عمي ينجب األطفال، وأنا وإبراهيم نحبهم"

تحول وهكذا. وتفتحت أنوثة زينب باكرا، فثارت مخاوف الجميعجمال أحيانا إلى مرافقتها في الذهاب واإلياب، وتارة عبد القادر

كانت زينب تبدو في العشرين . يصطحبها أو واحد من عمال الخانهي الجميلة الممشوقة القوام . من عمرها بالرغم من صغر سنها

وأما . تالحقها العيون مسحورة بجسدها وشعرها المتناثر على الجبين. د أثارت غيرة مدرسات فيها وكثيرات من الزميالتفي مدرستها فق

وحدث ذات يوم أن رجال زار عبد القادر في غرفة الخان، ليفاجأ كان الرجل الذي قدم نفسه بأنه تاجر أقمشة في . األب بطلب الزائر

:قال الحلبي. سوق التلل، يطلب القرب منه في ابنته

-٢٢١-

."ن تكمل تعليمهاامعة، وهي تريد أصفية مازالت طالبة في الج"فصحح الرجل اسم الفتاة ليقول المحروسة اسمها زينب وليس

:ذهل الحلبي وهو يقول. صفية ."زينب فتاة لم تبلغ بعد الخامسة عشر من عمرها! زينب"

وقال من جديد أيعقل أن ابنتي الصغيرة مؤهلة لتكون زوجة :فقال الرجل متباهيا. لواحد من أوالدك

."وأنا أهل لها شبابا وماالي، أطلبها لنفس"وكان االستغراب الغاضب يدور في روح عبد القادر الذي أمسك

:نفسه ليقول ."تطلبها لنفسك يا رجل؟ انت تصلح أبا لها"

:فقال الرجل بعد صبر تمسك به "ألم تكن آخر زوجاتك في عمر ابنة لك؟"

و خطف عبد القادر صبر الرجل ليرميه وراءه، وهب واقفا وه :يضرب بالهدوء عرض الحائط

."واآلن حان وقت المقابلة لتنتهي. استمعت إليك. استقبلتك"قال الرجل وهو يضع ابتسامة صفراء على شفتيه قبل ان يغادر

:الغرفة ."أنت تضيع فرصة على ابنتك. خاب ظني بك"

-٢٢٢-

كظم عبد القادر غيظا كاد أن ينفجر، وحوله إلى أسنانه التي أطبق أي (واذ بقي وحيدا رددت الجدران صياحه وهو يردد . عنفعليها ب .، ليكررها بجنون)جنون

دخل الدار ليتوجه متسلال إلى . حمل الحلبي همه مساء ومضىوقف يتأملها، وبعد . غرفة زينب، فوجدها منكبة على مكتبها تقرأ

فترة تنبهت الى وجوده فهتفت ترحب به، آنذاك هداه الموقف الى :، فقالت)الكفاءة( دراستها واستعدادها المتحان السؤال عن

."بناتك ال خوف عليهن، ولن أكون إال كعائشة وصفية" .فمال عليها يقبلها من رأسها، ويغادر دون كلمة

كان القاسم نائما، وأما . استقبلته خديجة بابتسامتها المرحبة أبدامالها باتت األب فلم يكن على عادته وهو يشتكي بقوله ان زينب بج

:مشكلة، فتساءلت الزوجة مستنكرة ."وهل جمال الصبية بات مشكلة؟"

كانت كلماتها مشحونة بغضب مكبوت، فلزم الصمت، إال أن خديجة أحست بخطأ لم ترتكبه من قبل، وحاولت أن تعود إلى

:الطبيعة السمحة فقالت ممازحة لتشتت الغيوم التي خيمتاما، نجح في نطقه لكلمة مزدوجه هي بعد ان نطق القاسم بكلمة م"

."اتراه يعتبر نفسه صديقا لك؟. بابا قادراقتربت خديجة من زوجها لتقول بجدية وهي تجلس قربه على

:الكنبة

-٢٢٣-

جميع ابنائك يحبونك أبا وصديقا، واتمنى كما كنت معي أن أبقى " ."لك صندوق أسرار ألني أحبك

ن من عبد القادر إال أن وتساءلت عن الذي يخفيه عنها، فما كاحكى لها ما حدث مع الرجل بائع األقمشة، وتوقف عن تدفقه في

:ذكر تلك التفاصيل، ليقول بحذر ."هل شكل لك فارق السن بيني وبينك أية عقبة في اتخاذ قرارك؟"

:كانت أمنيتها في أن تحتضن زوجها، ولكنها لم تفعل وقالتو أن انتظاري الذي طال ما كنت أتصور زوجا لي غيرك، ويبد"

وأما . سنك حكمة، ورجولتك شباب تحسد عليه. قد كوفئت عليهحبيبتنا زينب فلها حق في التعليم وال يعني أن في جمالها فرصة

."لك الحق أن تحميها وأنت من يحمينا. لمنتهزي الفرصوكانت كلماتها قد مدت عبد القادر بدم الشباب، فأحس بأنه يعود

البندقية في جبل الزاوية، ويتذكر زوجتيه الراحلتين وهو الى أيام يتطلع بإعجاب إلى خديجة وكأنها بداية لحياة مختلفة بالرغم من

:وقالت خديجة. بلوغه السبعيناألعشاب واالزهار نباتات موسمية، أما أنت فتشبه شجرة "

".السنديان بقوتها، بل أنت السنديان نفسه

-٢٢٤-

-٣٠-

عذاب الحلبي الخفي، شوهد إسماعيل بعد سنوات بطيئة من وقد . قيل إنه في قرية لبنانية قرب الحدود. المفقود وفقا للوائح الجيش

أقسم رجل، كان يتردد على الخان منذ زمن، لعبد القادر بأن ما رآه تيقظ الحنين عند األب، اال أنه . يؤكد على وجود إسماعيل ملتحيا

ا كان من الرجل الذي يعمل تساءل عن اليقين في صدق الخبر، فم :في تهريب األدوية إال أنه قال

كل ما أعرفه من أهل القرية بأن شابا من مدينة حلب قد لجأ "وأقسم أني يوم لمحته . إليهم لوقوعه في حب فتاة يحتمل أنه تزوجها ."عرفت أني رأيته ذات يوم، وأنه إسماعيل ابنك

س دائرة الشك، وإن وظل الحلبي في استماعه ألقوال الرجل حبيقال . كان األب داخل عبد القادر مال الى بقاء ابنه على قيد الحياة

:عبد القادر ."أتراك لمحته، أم أنك حادثته وجها لوجه؟". وما دام الشاب من حلب فهو اسماعيل. أقول إني لمحته فعرفته"

."هو ابنك وأقسم على ذلك. رجل مثلي ال يمكن أن يخطئ في تقديره : جاء التأكيد من الرجل، لكن الحلبي قال لنفسههكذا

."إذا كان هو إسماعيل، فلم لم يتصل بي أو بأحد من أهله؟"

-٢٢٥-

.شكر للرجل اهتمامه، إال أنه احتفظ بشكوك االحتماالت لنفسهوما هي إال أيام قليلة تمر على اللقاء مع الرجل، والذي أخفاه عن

في المدينة خبر اغتيال حقوقي األسرة بمن فيهم إبراهيم، حتى انتشرقيل ان متطرفي جماعة اسالمية هم من . وأستاذ جامعي في دمشق

وذهب . أطلقوا النار فأردوه قتيال أثناء خروجه صباحا من منزلهآخرون الى رأي مفاده أن الشهيد بصفته محاميا خسر دعوى موكله

.فكان نصيبه اإلعدام للموكل والقتل للمحاميمن أسبوع، حوصرت ضاحية دمشقية فطوقتها قوات من بعد أقل

الجيش واألمن وكان ثالثة من مجهولي الهوية قد اشتبه في اغتيالهم لألستاذ، اختبؤوا في بيت ريفي فأسرعت القوات إلى اإلحاطة

وتبادل الطرفان إطالق الرصاص، . بالمكان فلم تترك للهرب منفذا وكا هي التي هدمت أحجار المنزل ولكن القنابل اليدوية ومدافع الباز

ونقلت . على رؤوس الثالثة وأجسادهم، وهي التي حسمت المعركة .جثث الثالثة، الذين كانوا من الشباب، لتستقر في المشرحة

وتلقى عبد القادر الحلبي إشعارا من جهة أمنية بضرورة القدوم علم الى العاصمة، وذلك من مسؤول في وزارة الداخلية، وإذا ما

إبراهيم أصر على اصطحابه وكان االثنان في طريقهما الى الموعد إبراهيم يقود السيارة . يتناوالن في سرهما عن سبب تلك المقابلة

:واألب صامت، في منتصف الطريق قال إبراهيم١٥ م –السيرة احللبية

-٢٢٦-

ال بسبب االستعدادات لتكريم رجال إلي أنك لم تستدع إيخيل " ."الثورة أيام االحتالل الفرنسي

:فرج عبد القادر عن صمته الحائر ليقولو ."أعتقد أن وزارة الدفاع هي التي تستعد للتكريم"

. صارع أمواجه استعاد السباحة في بحر الماضي فوما لبث أنسماعيل الذي إفقد زوجه أم الخير، ومن بعدها جليلة، واختفى ابنه

توقف عند إسماعيل. ادعى رجل أنه سالم يعيش في قرية لبنانيةليتساءل إن كان استدعاؤه إلى دمشق ليقال إنه تم القبض عليه

:قال إبراهيم عند أبواب الوزارة. كهارب من الخدمة ."ما زلت أتصور أن هدف الزيارة هو لتكريم المجاهدين"

ودارت في خيال عبد القادر الحلبي صورة األيام في جبل :الزاوية، فحدث نفسه

لكنت أستحق أن أكرم مع لو أن تلك المرحلة استمرت " . !"المجاهدين

ومن ثم . استقبل مسؤول كبير القادمين من حلب بترحيب متحفظتوجه بالحديث لعبد القادر يسأله عن العالقة التي تربط عبد القادر

الذي تبين لنا اسمه وهو إسماعيل الحلبي، ) أبو عبيدة(الحلبي بالمدعو :فما كان إال أن هتف األب بفرح

."هل عثرتم على ولدي، هل أستطيع رؤيته؟"

-٢٢٧-

:وسأل إبراهيم الذي توجس شرا ."ال بد أن أخي موجود في مكان عندكم"

المسؤول يتأمل الرجلين، وامتدت يده الى الهاتف ليأمر أحدهم قال للقادم أن يصطحب السادة من أهل حلب . بالحضور فورا

.للتعرف على أبو عبيدةال الملح على عبد القادر يتعلق بما سمي وفي الطريق كان السؤ

أبو عبيدة، وإما إبراهيم فقد لعب الفأر في عبه، فلم يستطع أن االثنان صامتان، لكنهما لم يستطيعا الفرار من . يتخلص من تشاؤمه

بعد قليل توقفا أمام مبنى قديم قام على حراسته عدد . الحيرة القاسيةفي ممر تحت األرض فوصلوا وقادهم المرافق . من رجال الشرطةكانت هناك خزائن حديدية، فتحت إحداها وسحب . غرفة فتحت لهم

الوجه تمأل . مجرورها التي تتبين أنها ثالجة، فظهرت جثة شابنصفه لحية، وأما المشهد الذي انكشف لألب وابنه فكان معروفا

هو إسماعيل ومن غير إسماعيل الذي لم يغير الموت فيه . لديهم :هتف األب بضعف. شيئا ."ماذا فعلت بنفسك يا إسماعيل؟"

.ومألت الدموع عينيه، وتهاوى فأمسك إبراهيم بهوفي العودة إلى المسؤول، مكثا في غرفة السكرتير لفترة حسباها دهرا، واذا ما سمح لهما بالدخول قال المسؤول إن ابنك من لقب بأبي

-٢٢٨-

ال إن كنت سأستلم جثة ابني عبيدة، فأطرق الحلبي برأسه متسائ : إسماعيل ألدفنه، فما كان من المسؤول إال أن قال

غير مسموح لك، فالتحقيق ما زال مستمرا للتأكد من أعوان "االرهابيين الثالثة، يؤسفني القول بأن ابنك قاتل، لذا سيدفن في مقبرة

."لن تدل عليه :وقال المسؤول واقفا، كمن ينهي اللقاء

أن نكشف عن محاوالت إرهابية أخرى، ونرجو أن ال نتوقع " ."يكون أحد من األقارب له عالقة

االثنان ال يريدان ان . استمر الصمت في الطريق إلى حلبهو الحزن الفاجع الذي تحكم في أنفاس . يفصحا عن مقتل إسماعيل

الحلبي وابنه، فال يسمح لهما باإلحاطة بهول المصيبة، وهما يفكران :واحدةبأمنية

لو أن إسماعيل ظل مفقودا أو هاربا، ولم تكن له عالقة بأي " ."إرهاب

واحترمت خديجة صمت زوجها الذي استمر إلى صباح اليوم لم يقصد الخان عبد القادر كعادته، بل توجه سيرا على األقدام . التالي

ضريح الزعيم في حديقة قامت على حراستها . إلى قبر ابراهيم هنانووقبر هنانو محاط بقبري سعد اهللا الجابري . ار السرو السامقةأشج

والجندي المجهول، فوقف الحلبي أمامهم مطأطئ الرأس، وهو يقرأ :خاطب الزعيم الذي لم يقابله. الفاتحة هامسا

-٢٢٩-

سيدي، اغفر البن عبد القادر الحلبي الذي شرفه قتال الفرنسيين "صلبي، فقد وقع في فخ تحت لوائك، وأما إسماعيل الذي جاء من

."الخديعة، وقتل دون قضية :وقال عبد القادر جاثيا على ركبتيه عند الضريح

واغفر لي أني لم أزرك من قبل، فقد شغلتني عنك الحياة " ."بأطماعها وهمومها

وآنذاك لم يعلم الحلبي إن كان بكاؤه في تلك اللحظات على فقد أم انه التفكير من عدم زيارة إسماعيل، أم على انشعاله عن الزعيم،

.رجل أمضى حياته يناضل من أجل تحرير البالد

-٣١-

لقاء الجمعة العائلي عقد بعد أيام في الدار، وأعقبه آخر دون أن عبد القادر مع ابنه إبراهيم استطاعا أن يخفيا مقتل . يكشف السر

أو إسماعيل، فكانا يحافظان على الحزن مكبوتا، ولم ينطق بكلمة وكانت خديجة قد سألت ذات مرة عن سبب الزيارة السابقة . إشارة

وإذا ما تعاقبت . لدمشق، فكان الجواب هو من أجل وداع صديق. األيام تناقل الناس أخبار اغتياالت وقعت في أكثر من مدينة

قالق راحة الحكومة، وعملت إجماعات دينية متطرفة نشطت في . وفكرعلمعلى تصيد عدد من رجال أحزاب و

-٢٣٠-

. وكان إبراهيم قد استمر في مكتبه إلى وقت متأخر من الليلانصرف كاتبه بينما بقي هو يراجع أوراق الدعوى التي كان الغد

سمع جرس الباب فتوجه منه ليفتحه، وكان ملثمان يسدان . موعدا لها. فتحه الباب يشهران خنجرين هائلين، فانقضا بهما على ابراهيم

وقد بدا ان . السابقة في األمن قد جعلته يتفادى الطعناتكانت خبرتهالملثمين لم يلجآ إلى المسدسات حرصا على عدم إثارة ضجة في

وإذ كشف ابراهيم عن لثام أحدهما، تبين له أنه لم . العمارة السكنيةرجع ابراهيم مسرعا . يتجاوز العشرين من عمره، فتذكر إسماعيل

شهر . دسا احتفظ به طويال دون استعمالالى خزانة يخرج منها مس .المسدس في عودته ليهدد به الملثمين، لكنهما هربا

كان إبراهيم قد أصبح في مجلس نقابة المحامين، وهو المستقل الوحيد كمرشح يفوز في االنتخابات لذا لم يكن هناك من مبرر

نه اهتدى هكذا قال عبد القادر الحلبي البنه بعد أيام، ولك. لالغتيالفجأة الى فكرة نبتت عنده، خاف ان يفصح عنها لفترة قصيرة، اال

:انه ما لبث ان حكاها ليقولأنت لم تكن في حزب ما، كما لم يكن لنجاحك في انتخابات "

وال أظن أن لعملك القديم في . النقابة سبب في محاولة االغتيالن األمر يتعلق بظني يا إبراهيم أ. الشرطة أو األمن دورا في ذلك

."بشيء له عالقة بمواقفك التي لم تتردد في ذكرها أو إعالنها :سأل ابراهيم عن قصده بذكر المواقف، فكان الجواب

-٢٣١-

تكرر في عديد من المناسبات انتسابك إلى العقالنية، وباألحرى "ويبدو ان مشكلة المتدينين تكمن في عدائهم لكل ما يمت . العلمانية

."يةبصلة الى العلمانهي التزام باعطاء ما هللا هللا . ولكن العلمانية ال تعني العداء للدين"

وما لقيصر لقيصر، اعني ان الحياة المدنية التي تشكل العلمانية .عمادها ال تمس عقائد الناس

:وبينما توقف إبراهيم عن كالمه، جعل عبد القادر يقول ."ذه؟وهل يمكن للجماعات المتعصبة أن تفهم أقواال كه"

:قال. كان الوالد يفكر والهموم تحاصرهأحدهما أبحر في تيار التعصب، واآلخر . ال أريد أن أفقد الولدين"

."يسبح ضد التيار :وقال الحلبي مقتربا أكثر من ابنه

احتفظ بها . ما عادت أحوال البلد بقادرة على احتمال مثل افكارك" ."لنفسك يا ولدي

:سموعوكان إبراهيم يهمس بصوت م . !"أأرثيك يا مستقبل. بات الزمن يتراجع الى الماضي"

طالبة كلية التجارة . احتلت صفية ركنا في غرفة والدها الواسعةتراجع وتدقق في حسابات الخان ومعمل العلف، وكانت تحتفظ

وقبل . بحسابات مصنع األزميرلي الذي كان عبد القادر شريكا فيه

-٢٣٢-

غرفة خاصة، فكانت تشارك في لى إفترة من تخرجها، انتقلت كانت المرأة الوحيدة بين كافة . عمال المحاسبية واإلداريةكافة األ

العاملين قد منحت حق تمثيل عبد القادر الحلبي في حضوره وتعامل الجميع معها باحترام ال لكونها ابنة الحلبي، بل . وغيابه

كان العمال والزبائن. لى ذلكإإن مؤهالتها دفعتهم أيضا . ذاته يخاطبونها بالست صفية، فوجد والدها نفسه يفعل األمر .كانت الست صفية في الخان كما تعود مخاطبتها في الدار

وخلت شوارع حلب من المارة إال قليال، وقد حدث ذلك منذ لى المدينة لجأ إساعات الصباح، فمنذ دخول الجيش بجنوده ودباباته

الدكاكين، وامتنع الكثير من االلتحاق الناس إلى بيوتهم، وأقفلت معظمكانت قوات الجيش قد أعلنت الحرب على جماعات . بأعمالهم

ولهذا . عمال التخريب واالغتيال بشكل واسعأالتطرف منذ انتشار دهمت المنازل تفتيشا عن السالح، وكانت دار الحلبي واحدة من تلك

.التي نالت نصيبها من التفتيشادق على باب الدارنمع ضرب بأعقاب البوفي صباح باكر س .

. ذا بالجنود يتدفقون بأسلحتهم على الحوشإلتفتحه، ف) فاته(هرعت خرج عبد القادر من غرفة المربع مذعورا ليشاهد المسلحين في كل

نودي على الجميع، وهكذا اجتمعت العائلة في . زاوية من فسحة الدارو يسأل عبد القادر ليدل ه. صحن الدار يصطفون أمام قائد الجنود

:هله، فقال يقدم عائلتهأعلى كل فرد من

-٢٣٣-

زوجتي خديجة وطفلها القاسم، ابنتي صفية خريجة التجارة "وجمال طالب في الجامعة، زينب، فاته تعمل عندنا، وأنا أدعى عبد

وأمامكم غرف الدار . القادر الحلبي صاحب خان للمنتجات الزراعية ."تشاءونوأقبيتها تفتشونها كما

انتشر الجنود منتشرين في كل األرجاء، من غرف ومطبخ بحث التفيش . وانتقلوا من المربعات الثالثة إلى السطح. وأقبيه

في األثاث واالسرة والكتبيات، فاستمر ذلك البحث ألكثر من وإذ وضع جندي أمام القائد مجموعة صغيرة من الكتب . ساعة

عالقة بالتاريخ والسياسة العناوين دلت على ماله. تفحصهاومستقبل اإلسالم، منها ما هو مؤلف أو مترجم، فأمر القائد أن

وأعلن جندي آخر عن خلو الدار . تصطحب معهم للتنقيب فيها .من األسلحة، فكان األمر باالنسحاب

عائلة الحلبي تتبادل النظرات المتسائلة، وكان عبد القادر هو كان . تنتهى بكل واحد من أهل الدارمركز العيون التي تبدأ به و :التعليق األول لصفية في قولها

."أال يراعي الجنود سمعة رجل اسمه عبد القادر الحلبي؟"فتبعته آراء ومالحظات من البعض وقد تناولت خيبة التفتيش، كما حملت السخرية بعثور الجنود على كتب حملت في صفحاتها

إن كانت فكره، فتساءل في سره قادر يقلبوقف عبد ال. تفجراتمالالبنه إسماعيل الراحل عالقة في تفتيش الدار، وان كانت الدار قد

١٦ م –السيرة احللبية

-٢٣٤-

إال أنه عاد بنفسه إلى الزوجة واألبناء . وضعت عليها شارة االتهام ):فاته(مناديا على

."ليكن إفطارنا اليوم على مبدأ خمس نجوم"م تدرك معنى وتساءلت المرأة عن معنى تلك النجوم والتي ل

. عددها

-٣٢-

أصرت العائلة على االحتفال بميالد عبد القادر الحلبي الذي قيل واجتمع الكل من حوله يساهم في فرحهم . إنه بلغ الثمانين منذ أشهرأطفئت الشموع، وبينما انجرف الكل في . هذا الهدوء الذي عم المدينة

زوجان بال أبناء، ابراهيم وليلى. الغناء له، جعل يتفحص الوجوهعائشة وطالب وابنهما سعد . ولكن احتضانهما لألخوة بات تعويضا

الست صفية التي أصبحت أهم شريك له . الذاهب الى شباب جميلوترفض العرسان الذين يالحقونها دون طائل، فالست لم تجد بعد

جمال الوديع وزينب الجميلة، وخديجة مع ابنها . رجال يليق بها : وقال الحلبي فجأة.الفتىلكن . كنت فقيرا، ولكني جمعت ثروة لها قيمة بين الناس"

بالعلم الذي سعيتم إليه، . المال ال يعنيني في شيء فأنتم ثروتيأحبوا بالدكم، وأحبوا بعضكم . وبروح العصر التي تلبستكم

-٢٣٥-

وأنا أعترف أمامكم بأن خديجة لم تكن لكم زوجة أب، . بعضا ."يقة دربفهي أم وأخت ورف

وسكت عبد القادر عن الكالم الذي أخرج ما بداخله، وتحول مع وكان إبراهيم . األهل غارقين في صمت عكس ذهوال في وجوههم

يفكر إن كانت خطبة وداع تلك، وأما عائشة مع زوجها طالب فكانا .يفكران في كشف كامل عن صحة عبد القادر

-٢٣٦-

-٢٣٧-

ربسالم احملا

يراجع نفسه

كان يفكر . توقف المحارب عن متابعة الكتابة في السيرة الحلبيةليه عبد القادر الحلبي، كما أنه يحاول أن إفي المصير الذي سيذهب وفجأة تساءل إن كانت تلك السيرة قد . يتابع مستقبل أفراد أسرته

الحوار استوفت حقها، وأن عليه أن يعيد كتابتها تلفزيونيا بالمشاهد وقرر أن تتوقف . بعد أن توافق على الحكاية أجهزة المحطة الفضائية

ستبديه السيرة عند ما وصلت إليه، وأن يرسلها كما هي بانتظار ما .المحطة من مالحظات

وبانتظار الصبية التي ستعمل على طباعتها بالكومبيوتر، عاد ل في أرجاء يجو. لى حياة طبيعية خالعا عنه رداء الكاتبإالمحارب

يعتني . يستسلم للنوم، بعد طعامه ويشرب القهوة. المنزل والحديقة. بنباتات الحديقة فتخرج له سعاد من بين األزهار وأوراق الشجر

وفجأة تطل عليه زوجات عبد القادر الحلبي، فيحس بأن ذلك الرجل

-٢٣٨-

ن المرآة قد عكست صورته، وما عاد أما عاد غريبا عنه، وحدث ن كان يقارب الحلبي الذي ابتدأ إه من بطل السيرة، فتساءل يميز نفس

حياته منخرطا في ثورة تقاوم االحتالل، وكانت خطوات مستقبله تبشر بثروة مالية وأخرى عائلية، وصحا المحارب على حياته التي فقد فيها ارتباط األسرة، فكان وحيدا يمشي في ليل صحرائه التي

ثناء أن سالم المحارب يعيش حياة أخرى كا. باتت سماؤها بال نجوم . ن توقف عنها حتى عاد وحيدا كما كانأكتابة السيرة الحلبية، وما

وإذا ما توقف عن كتابة السيرة اكتشف أنه . الوحشة من جديديسقط هاويا في حفرة ال قرار فيها، وذات يوم مد له عبد القادر

أنفاس الحلبي تالقي . الحلبي حبل النجاة، ليصبح أمامه وجها لوجه :وجهه وهو يقول

."افترض أني أكبر منك سنا، فلم ضعفك هذا؟" ."لم أكن ضعيفا، ولن أكون"أال يفترض بمن كتب السيرة في أشهر قليلة ليغطي بها تاريخا "

."طويال، أن يكمل المشوار؟ن تبلغ من العمر قرنا، وأن تزوج أأي مشوار؟ أم أنك تريد "

واألحفاد، وأن تراقب األحداث كشاهد على بلد وما سيؤول األوالد

-٢٣٩-

لنكن واضحين يا عبد القادر الحلبي . ليه في المنطقة والعالمإالحال نها مجرد كتابة للتلفزيون إفكتابتي لسيرتك لم تكن تاريخا، بل

."لى الكتابة وملء الفراغإنها حكاية تريدني العودة أواعترف ب :ماته بقسوةغضب الحلبي وتجلدت كل

هل كنت نموذجا لواحدة من حكاياتك، وهل كانت السيرة " ."مخترعة؟

وأطل شاب برأسه على اللقاء الذي جمع المحارب بالحلبي، ن كان المحارب يستطيع أن يستدل عليه، فما كان من إويسأل متخابثا

:سالم إال أن صاح قائال

."ت إبراهيمنعم فأن. ال بد أنك إبراهيم ابن عبد القادر"

أنت دقيق المالحظة يا سيدي، وأسألك كيف أنقذتني من عدوان " ."اإلرهاب

بخبرتك أنت في القتال، وقد اكتسبته من عملك في الشرطة " ."واألمن

."أعتقد أن مشاهداتك لألفالم السينمائية قد دفعتك إلى تصور ذلك"

.وخيم سكون عجز فيه المحارب عن اإلجابة أو التعليق

-٢٤٠-

أدرك سالم المحارب . خديجة عليه من صورة سعادوخرجت أبعاد اللعبة التي يخطط لها أبطال السيرة الحلبية فحاول أن يستعد

:بادر خديجة بالسؤال وهو جالس على المقعد بمواجهه الصورة. لهالقد كنت سيدة حقيقية ساعدت زوجها، بل . كن صادقا معكأألم "

."انتقلت به من زمن إلى آخرهي التي ساهمت في جعله عصريا، ووكامرأة حاولت الكشف عن . ال أنكر تقديمك لي كابنه وفيه ألمها"

رغبة زوجها في التقدم، إال أنك قلصت دوري كزوجة يمكن أن اقول انك لم تحجبني تماما، بل إنك لم تبرز دوري . تصبح نموذجا

بية إعطاء ألم يكن هدفك من السيرة الحل. في مساندة زوجي وعائلته ."صورة عن العائلة المعاصرة؟

لم يكن هربا من أطياف الشخوص التي أطلت عليه من صفحات السيرة، بل ان سالم المحارب الذي جال في أرجاء المدينة بحثا عن

لم يكن المحارب قد زار . ماكن التي جاء ذكرها في السيرة الحلبيةاألأ بزيارة واحد يقع في أو رأى خانا منذ أكثر من نصف قرن، فابتد

دخله متجوال فلم يشاهد فيه أيا مما تخيله في السيرة، ) . باب الحديد(فهل خرجت كل تلك الشخصيات من مخيلته أيضا، أو أن خياله هو

الذي صنعها؟

-٢٤١-

في الجولة التي دار في أحياء من حلب القديمة، كانت ابتسامة ه قد يكون وهما تظهر على وجهه من حين آلخر، فالحلبي وعائلت

ن اآلخرين في السيرة مع الواقع واألحداث، ألحقت أاخترعه، كما . أثار استغراب المحارب وجود مكتبة في تلك المناطق. بهذا الخيال

وقف يتأمل واجهتها الزجاجية التي تعرض عددا من الكتب، دينية :وتساءل. وتاريخية، وقليال من الروايات

ك الكتب، أم أنها تعبر عن حقيقة تفكير ما مقدار الخيال في تل" ."كاتبها؟

مشاعر تتقلب عليه في طريق العودة، وهي تبحث عن مقدار دخل المنزل متعبا إال أنه ما إن فتح الباب، و. يةمصداقية السيرة الحلب

:رأى ليلى في الصالة تقف منتصبة لتقولجرة إلى الطفلة التي دفعتها اله. لم تعطني حقي كفتاة فلسطينية"

المرأة التي وجدت . الفقر في مخيم ال يصلح أن يكون أسطبال ."خالصها في الزواج من إبراهيم

:وسمعها تقول في العتمةحملت وطني في صدري، وبالرغم من حبي لزوجي وحبه لي، "

فجرح فلسطين مازال ينز".

-٢٤٢-

وكانت ليلى في كل مكان يكاد سمع المحارب يالحق صوتها : قالت.ليحدد موقعها

وهل . هل كتب علينا إال ننجب أوالدا حتى ال يعرفوا الهجرة" ."قررت أال تكون لنا خلفة تعمل على استعادة ما ضاع لي من أرض

:وسمعها المحارب تردد في فضاء المكان ."تبا لك يا سالم المحارب"

وكان الفراغ الذي لم .. وتوالت األيام القاسية عليه، ولكنها هادئةحينما و. من المنزلفيه فرصة لفعل شيء من قراءة أو خروج تكن

أحضرت الصبية نسخة جاهزة من السيرة، وضع أوراقها على مكتبه .ال يعيرها اهتماما

في اليوم اآلخر، دخلت أشعة الشمس من شقوق الستارة لتنبه إلى كانت ليلته قد قضاها في غرفة المكتب وهو يحدق في الظالم، . حالهنظر . عرف النوم وكان القلق يرافق يقظته، وكان الفراغ حياديافلم ي

هو لم . إلى األوراق القادمة، فلم يقلبها من أجل تصحيح أخطائهارفع الستارة عن النافذة فتدفقت . يقترب منها وكأنها ال تعنيه

الشمس على وجوده، وهكذا ابتدأ يصحو من ذلك الفراغ الذي لى قلمه إفي جسده، وامتدت يده تسللت ةاليقظ. احتل روحه

:تكتب على الصفحة البيضاء

-٢٤٣-

.السيد مدير المحطة الفضائيةعداد المسلسل من بعد التحية، فقد تم اختياري من بين الكتاب إل

الذي ستنتجونه، وأنا إذ كنت اشكر لكم هذه الثقة، أعلن عجزي عن وفر المشكلة هي في الفكرة التي لم تت. وضع مخطط لهذا المسلسل

كنت أظن أني سأعود إلى الكتابة من جديد، . لي، وأظنها لن تتوفرنهاية اإلنسان موت الجسد، وأما نهاية الكاتب فموت . ولكني فشلت. سيدي. هل أعلن عن نهايتي، أم أن األمر ال يعنيك. األفكار الكاملة

ال أخفى عنك سرا، فقد أمضيت شهورا في كتابة السيرة الحلبية، .وداعا أليام الكتابة. ني فشلت، فمزقتها، فهل أصبتوأعتقد أ

سالم المحارب: مع االعتذار. مشى في الممر تحف به نباتات وشجيرات. وخرج إلى الحديقة

وإذ وقف أمام شجرة الجوز التي زرعها منذ سنوات طويلة وابتدأت . توقف متأمال بؤس الشجرة. تثمر، اكتشف أن أوراقها بدأت بالتساقط

سالم بذعر راجيا أن تبقى له هذه الشجرة التي كان المارة همس .يقطفون ثمارها، وفجأة داهمته نوبة الربو

٤/٧/٢٠٠٩حلب

-٢٤٤-

-٢٤٥-

وقائع وتواريخ ما كتب حكاية السرية احللبية

-١٩٠٥: عبد القادر الحلبي :أوالدها. ١٩٤٩الوفاة : زوجته أم الخير

-١٩٣٨ئشة عا -١٩٣٦إبراهيم

:أوالدها . ١٩٦٧الوفاة : زوجته جليلة أوائل الثمانينيات - ١٩٥٢إسماعيل

-١٩٥٤ صفية -١٩٥٦ جمال

-١٩٥٨زينب

:ولدها : زوجته خديجة -١٩٧٤ القاسم

-٢٤٦-

-٢٤٧-

٢٠١٠/ الطبعة األوىل نسخة١٠٠٠عدد الطبع