872
ون ط ن أ ي س د ق م اذ ت س لأ أ عدأذ أ ي عل م: ذ. ي د ق ت و م ي ق ل أ ورأت ش من أرة ور ة اف ق ث ل أ ة ئ ي ه ل أ عامة ل أ ة وري ش ل أ9 ات ت ك ل ل

الأستاذ - Syrbooksyrbook.gov.sy/img/uploads1/library_pdf20140423095550.doc · Web viewوفي ألمانيا نشر كارل يسبرز (K.Jaspers)عام 1937 (خلاصة وجودية)

  • Upload
    others

  • View
    10

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

الأستاذ

أنطون مقدسي

الأستاذ

إعداد وتقديم: د. علي القيم

منشورات وزارة الثقافة ـ الهيئة العامة السورية للكتاب

الأستاذ

· علي القيّم

زاملت الأستاذ المفكر والفيلسوف الكبير، أنطون مقدسي، في وزارة الثقافة، أكثر من عشر سنوات.. ولم أختلف معه. طيلة هذه المدة، في شيء يذكر، كنت أحترمه، وأقدّر عمله ورجاحة عقله وفكره النيّر، أشاوره ويشاورني، وأزوره ويزورني، وآخذ رأيه ويأخذ رأيي بكل احترام ومحبة وتقدير..

في كثير من الأحيان، كان يأخذنا الحوار إلى رؤى وآفاق وأحلام ثقافية وفكرية وفنية، وكثيراً ما كان موضوع النشر والمعارض الفنية والسينما يأخذ جانباً من أحاديثنا وجلساتنا وخاصة إذا اتصل الموضوع بأحد أصدقائنا الفنانين التشكيليين بمناسبة افتتاح معرضه، أو صدور كتاب جديد لأحد معارفنا من الأدباء.. كنا نختلف في بعض الجوانب، ونتفق في جوانب كثيرة، ولكننا لم نفقد احترامنا لبعضنا في القول والرؤى والآفاق.. وأهم شيء كنت أخالفه الرأي فيه هو موضوع جمعه لكل ما كتب من أبحاث ومقالات ودراسات في كتب حتى تكون مراجع لطلابه ومحبيه وقرّاء العربية.. فقد كان يحسم الموضوع بالقول: إنني أفكر في الأمر.. الوقت لم يحن بعد.. دعنا من هذا الموضوع؟! وكنت أقول له: إن ما كتبته في مجالات النقد والفكر والفلسفة والأدب والفن والترجمة، من الغنى والتنوع والأهمية الكبيرة لنا جميعاً، ويجب جمعه في كتب حتى نفيد منه جميعاً، وظلّ متردداً حتى رحيله..

عندما قمت بجمع ما كتب عن الأستاذ الكبير أنطون مقدسي لإخراجه في كتاب.. اعترتني الحيرة.. كيف أجمع لهذا المفكر ما تردد هو كثيراً في القيام به، وأعتقد جازماً أن كتاباته ودراساته المعمّقة يمكن أن تشكل ما لا يقل عن مجموعة كبيرة من الكتب، فضلاً عن المقالات التي كتبت عنه بعد رحيله عن عالمنا..

بعد تفكير وجدت أن راحلنا الكبير، كتب على امتداد المدة الواقعة بين عامي 1968و1993، مجموعة من الدراسات والمقالات الفكرية والأدبية والفلسفية، في مجلة المعرفة.. ما زالت أفكارها وطروحاتها حاضرة في حياتنا الثقافية والفكرية، وما زالت تحمل الألق والحيوية والرؤى وآفاق المستقبل.. مقالات ودراسات فيها الشيء الكثير من الشخصية الفكرية والفلسفية والثقافية للمقدسي المتعدد الأبعاد والملامح الجمالية.. فيها المكوّن الأساس لعقله الفلسفي الذي شكلت الثقافة لديه الحقل الذي يتم البذر والحصاد فيه، ولعلَّ أهم ما يميّز هذه المقالات والدراسات دلالاتها عن تجربته وعلمه وموسوعيته، كمثقف وأستاذ كبير، كان له دوره الفاعل والكبير في حياتنا الثقافية والفكرية..

* * *

لقد كان "الأستاذ" أنطون مقدسي، كما قال عنه سعد الله ونوس: "فاعل في تاريخه، وشاهد عليه في آن واحد، ولهذا فإن الأفكار المجردة لا تستغرقه، وسرعان ما يتجاوزها إلى الوقائع، إلى ذكرياته، والآلية الخفية التي صاغت تاريخنا المعاصر، وواقعنا".

من عرف "الأستاذ" عن قرب، يدرك جيداً، أنه كان متجدداً في أفكاره وآرائه وطروحاته وآفاقه في مختلف الشؤون الفكرية والثقافية والحياتية.. لقد أمضى حياة سقراطية في الكتابة والقراءة والتفكير والنقاش والسؤال والجواب.. مشروعه الثقافي، كما قال عنه، عباس بيضون: "كان الثقافة نفسها بلا حاجز، ولم يضع المقدسي كتاباً، كان كتابه مكنوزاً فيه، بل كان في نفسه كتاباً مفتوحاً، ومن حضره قرأ واستزاد وسأل وتلقى جواباً، من حضر وسمع فكتاب المقدسي في رأسه، بل إن رأسه كتاب الكتب..، وأما وقد رحل فإن التراب الذي يحويه سيحوي مكتبة ومحاكمات وخرائط فكرية وعوالم وخطابات.. سيحوي مشروعاً، بل مشاريع ثقافية كاملة، فالرجل كان يجمع في حديث واحد أفلاطون وهيديغر بارب وبيكاسو وشوينبرغ وأدونيس، والذي كان ليله ونهاره يعلّم حق التعليم، ويمنح أفكاره لكل طالب".

كانت الثقافة بالنسبة له عقل المجتمع وسلوكه ومساره، لذلك آثر الطريقة السقراطية، أن يعلِّم ويتعلّم ويتساءل ويفكر في الهواء الطلق، والعلن والملأ.. لقد فعل ذلك بوفرة وزرع أسئلته وأفكاره حيث استطاع، ففتح بذلك أمام الفكر آفاقاً وإمكانات للتحليل والتأمل واستجلاء الأفكار.. الفكر بالنسبة إليه لا شرق ولا غرب، فثمة فكر أو لا فكر، صحيح إن الفكر ينبثق من الواقع ليجيب عن أسئلته، ولكن سرعان ما يتخطاه ليفتح أمام مشكلاته آفاقاً جديدة، ويشق للعمل طرقاً غير معبدّة، ولولا هذا لما كان علينا اليوم أن نقيم حواراً مع ماضينا ومع ماضي الأمم الأخرى، فنطلب من أرسطو وابن خلدون، ومن أفلاطون وابن رشد الجواب عن تساؤلاتنا..

* * *

كان يرى إن نقطة الضعف الأساسية في الفكر العربي ليست في تقليد الفكر الغربي أو الشرقي، بل في التقليد ذاته، والأدهى من هذا هو أن فكرنا آني، مفاهيمه، دور فعل انفعالية على الأحداث الراهنة.. أما الفكر الصحيح فيستبق الأحداث ويستثيرها ليخضعها لإرادته عوضاً عن أن يخضع لها.

كان المقدسي يرى إن الشعر هو مقياس إنسانية الأمة، فأول الكلام شعر، ومعه دفعة واحدة، ولد الإنسان وبدأ التاريخ معنى: في التاريخ يتفردّ الإنسان، وفي المعنى يستعيد الوجود، فخصوصية الشعر بنسبة شموله، وفرديته بنسبة كليته.. في الموسيقا يذوب المعنى في الصورة، وكأنه روح"تَرى ولا تُرى".

أما في الشعر، فيجمّع المعنى الصور في آفاق مختلفة ومتباعدة، تصبح ظواهره قوامها، ثم يجسّم الكل في حساسية تتحول إلى إيقاع؟ يجمعها أبعاداً حول محور متحول، هو غياب في حضور وحضور في غياب، هو صمت فيه يتهادى النغم معنى لا متناهياً كالوجود الذي ينشد.. الشعر هو القول الذي يتخطى ذاته فيشق فسحة، فيه يتعرّف المرء إلى هويته القومية والإنسانية..

الثقافة بالنسبة له، كانت فسحة وعي، كلما اتسعت وتعمّقت مكنّت صاحبها (المثقف) من أداء وظائفه ودوره في المجتمع، وهي كالديموقراطية والحرية والإبداع بأنواعه كافة.. الثقافة ككل أنماط الوجود رفيعة المستوى، ليست وضعاً يستقر فيه الإنسان مرة، ولكلّ مرة، بل عليه أن يستحقها دائماً وأبداً، فمتى ضعفت في الإنسان القدرة على الإبداع، متى كفّ عن إغناء ذاته، متى خارت قواه-قل: متى هرم-استسلم لعاداته فحوّلها إلى أصنام يعبدها وصار أسيرها، والجماعة التي تراوح مكانها زمناً، التي تقلّد ولا تبدع، تسقط بسرعة عن المرتبة الثقافية التي بلغتها وتنزلق على منحدر الانحسار.

* * *

ويرى إنّ الأيديولوجيات الأكثر طليعية وعلمية تفقد تدريجياً الكثير من قيمتها وتتحول إلى "كليشهات" وشعارات، عندما لا تطور ذاتها مع تطور الواقع أو بالأحرى عندما تعجز عن تبديل الواقع والتطور معه، وقد تخنق عندها العباقرة الملتزمين بها مواهبهم الخلاّقة، والمدرسة التي يتحول التدريس فيها إلى تلقين معلومات يحفظها الطلاب غيباً ليكرروها – ببغائياً- في الامتحان، وبعده ينسونها، هي ألدّ أعداء الثقافة.

في دراساته المتعمّقة وهي كثيرة، وكان قلم المقدسي قاسياً على الفكر العربي، فقد عارض أفكار وأبحاث كثيرين من المفكرين العرب، وفي مقدمتهم المفكر محمد عابد الجابري، خصوصاً، في أبحاثه عن العقلانية، ودحض فكرته في هذا الشأن، معتبراً إياه منزلقاً إلى أحكام خاطئة ومرتبكة، وفي رأيه لا يمكن فهم العقل والعقلانية إلا بوضع دراسة عن مفهوم العقل، وهذا ما كان أحد أهم مشروعاته الفكرية.. التي حاول من خلالها الكشف عن الإنسان، في منظور الفكر، حيث تتقاطع أسرار الوجود، فهو إياها ويغيض عنها، ومهمة الفكر، شعراً كان أم فلسفة، أدباً أم فناً، تقوم، لا على أن يحل الألغاز أو يكشف عن الأسرار، فهذا ممتنع، ولكن أن يجعلها حاضرة بحضور فعّال أمام الإنسان، فحضورها حضور الإنسان لذاته ولعالمه.

في كتاباته، كان كثيراً، ما يعقد الحوار بين الفلسفة والأدب في محاولة منه كي يقدم لنا عالم الحداثة، كما تتكون صورته لدى المفكرين الذين ينشؤونه ويطورونه، في زمن لا نعرف في تاريخ الفكر الإنساني مرحلة تكاثرت فيها يصبح الثانية وما تزال ممتدة بقوة حتى اليوم..

لقد حاول المقدسي في دراساته أن يأخذ موقفاً من الفلسفات وتعارضها، فقدّم محاولات تفسيرية جيدة من منطلق أن الإنسان قارئ رموز: رموز الماضي والتراث، رموز الحاضر وآفاقه، رموز المستقبل الذي يتبدى في صورة رؤية أو رؤى، وكان في هذا يتفق مع الفيلسوف الشهير "بول ريكور" في فهمه للتفسيرية التي يراها هي فلسفة المرحلة الراهنة، والتفسيرات هي أيضاً متعارضة.

* * *

يرى "الأستاذ" في مجمل كتاباته، أن الفلسفة بدأت على أرض الواقع مع المشكلة السياسية التي هي مشكلة العدالة في المدينة (أي الجماعة والدولة في لغة الإغريق).. فأول فلسفة وصلتنا كاملة، أول فلسفة بالمعنى الحديث للكلمة، بالمعنى الأشمل والأعمق، هي فلسفة أفلاطون التي انطلقت من التمرد على الظلم، فموت سقراط الذي لم يكن له أي مبرر حقيقي هو الذي حرّض أفلاطون على أن يبحث عن تنظيم للمدينة-الدولة بحيث تحقق العدالة للجميع.. ومن المعلوم أن المشكلات الملحّة في عالم اليوم، كلها مشكلات سياسية، اقتصادية، سوسيولوجية، نفسية.. تحاصر الفلسفة من كل الجهات، كما تحاصر العلوم الإنسانية والطبيعية.. ويمكن تجميع هذه المشكلات كلها في مسائل أساسية متلازمة هي من صميم الفلسفة (الشر والحرية-العدالة والحق والقانون-قيمة العلم- أسس العمل) ومن المعلوم أن الفلسفة تستعين لمعالجتها اليوم بعلوم النفس والاجتماع، وبعلوم الاقتصاد والسياسة والحقوق وغيرها..

موقف المقدسي من الفلسفات وتعارضها، لم يمنعه من الانفتاح على فكر الناس وتجربتهم، لقد كان يتصل بعالم الثقافة بأسره، ويغتني بالإبداعات الفكرية قاطبة، وبهذا يلتقي مع الفلاسفة الآخرين حول مسائل وتصورات فكرية وفلسفية عديدة، وقد يختلف معهم في أمور شتى وهذه طبيعة "الأستاذ" الذي يعلِّم ويتعلّم، وينظر إلى الفلسفة على أنها جواب عن سؤال تطرحه المرحلة التاريخية على الفكر، جواب هو بدوره سؤال يستثير جواباً آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له، ولهذا قال أفلاطون وبعده أرسطو، إن الفلسفة نشأت من الدهشة، فالإنسان العادي لا يرى في الحادثة، صغيرة كانت أم كبيرة، إلا ما تبعثه في نفسه من انفعالات، أما المفكرّ فيراها في كلٍ تستمد معناها وحقيقتها ووجودها..

أنطون مقدسي، كان أميناً ومخلصاً للخط الذي اختاره، سار على الدرب الذي وضعه في صف الفلاسفة.. كان ينتمي إلى جيل اعتقدوا أن الوقت قد حان لتحقيق الآمال والأحلام والطموحات الكبيرة.. كان يعلِّم ويتعلّم ويقرأ ويكتب لقناعته بأنه يقوم بمهمة نبيلة سامية، يؤدي واجباً، يقدم خدمة، وابن الإنسان جعل ليخدم..

كان رهانه أن ينشئ تراثاً للقرن العشرين، يضع يوماً وجودنا بمستواه، فالثقافة ليست مضافة إلى الإنسان، إضافة السلعة التي يقتنيها، بل هي إياه، إنها ثمرة الفكر والدليل إليه.. والفكر بالنسبة إليه فعل.. الأدب والفن، الفلسفة والعمل أبعاد هذا الفعل وتجلياته، فقيمة كل منها في فكرته التي هي مرماه، وأيضاً سبيل صاحبه إلى ذاته، فالمستهلك لا يفكر لأنه متلقٍ لا فاعل، وإن الوقائع والصور والمفاهيم ما هي إلا مادة هذا الفعل، فكل قصور في اللغة قصور في الوجود، وهو قصورنا..

* * *

الفكر العربي والقضية الفلسطينية(

ربما كان الأصح إبدال كلمة (مثقف) بكلمة (مفكر) في بحث مثل هذا، لأن الأولى مدعاة للالتباس. فإذا اعتبرناها من حيث المضمون نرى أن العامل –المختص على الأقل- يتمتع بحصيلة ثقافية قد لا تقل عن حصيلة المدرس أو الصحفي أو الكاتب أو غير هؤلاء ممن يطلق عليهم اعتيادياً اسم مثقفين. وإذا اعتبرناها من حيث النتيجة- ونقصد بها عندئذ: القدرة على وعي الوضع العام للمجتمع في مرحلة ما وعلى اتخاذ موقف منه- فقد يكون الفلاح والعامل وابن الشعب أحياناً بمستوى من الوعي لا يقل عن مستوى المثقف بالمعنى الضيق للكلمة. أما المفكر فمن اختصاصه ومن صلاحيته تحليل الأوضاع الاجتماعية تحليلاً علمياً صارماً لتحديد المشكلة ورسم الخطوط الكبرى لحلها. وهو بهذا لا ينوب مناب السياسي، بل ينير أمامه السبيل إذ يبين له الطرق التي يستطيع أن يسلكها، تاركاً له مهمة اختيار أصلحها على مسؤوليته. ففي مجال التنفيذ يبقى القول الفصل للسياسي.

مستويات المشكلة:

المشكلة الفلسطينية كلية، أي أنها تتناول الوجود العربي بمجموعه وفي كل أبعاده، الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، أو، كما يقول الفلاسفة "ربما هو موجود"، وتضعه أمام الاختيار الحاسم: وجود أو لا وجود، حياة أو موت. ذلك أنها ليست مشكلة جماعة مشردة، على المجتمع الإنساني المتحضر أن يجد لها وطناً، كما يزعمون فيما يزعمون. فاليهودي الروسي مثلاً مواطن في روسيا وعليه أن يتبنى هذا الوطن ويعيش فيه، وكذلك اليهودي الفرنسي واليهودي العربي، الخ.. وإنما هي مشكلة جسم حي يزرع، صنعياً، على جسم حي آخر، فإما أن يرفضه هذا أو ينهار.

ويبدو لنا شخصياً أن للمشكلة، من الوجهة السياسية، ثلاثة مستويات مرتبط كل منها بالآخر فهي بآن واحد، قطرية (تتعلق بأبناء القطر الفلسطيني)، وعربية أو قومية، ودولية. فأي حادثة تقع في فلسطين -كبيرة كانت أم صغيرة- ينتقل أثرها فوراً وعبر العالم العربي إلى كافة أطراف العالم وتثير اهتمام الدول كلها.

ولها من الوجهة التي تعنينا، أي الثقافية، ثلاثة مستويات هي أيضاً مترابطة ديالكتيكياً (وبأدق معاني هذه الكلمة): المستوى الشعبي والمستوى الفكري والمستوى السياسي. فالفكر إذن يتوسط بين الشعب وقيادته، يأخذ عن الأول ويعطيه، ويأخذ عن الثاني ويعطيه.

منجزات الفكر العربي:

إن الفكر بحث وحوار وتأمل. الفكر تحليل وتخطيط. الفكر كشف عن المبادئ والأهداف.

وإذا كان للشعب دور حاسم في المشاكل العامة، إذا كان الشعب مصدر إلهام المفكر والسياسي، فابن الشعب، مهما كان وعيه، يعجز عن تحليل مواقفه تحليلاً علمياً كما يعجز عن استجلاء أهدافه المضمرة والتخطيط لتحقيقها (ربط الوسائل بالغايات) وذلك لسبب بسيط هو أن الجماهير الشعبية، في كل زمان وفي كل مكان، تتخذ من القضية المطروحة موقفاً عفوياً يسبق المفكر ويمهد أمامه السبيل دون أن ينوب منابه. فلقد قامت الجماهير العربية بين الحربين وبعدهما بحركات تمردية وثورات دامية حددت فيها موقفها من الاحتلال الأجنبي بمختلف أشكاله وألوانه لبلادها، فرفضت الاستعمار القديم والجديد رفضاً قاطعاً. وبهذا فتحت أمام الفكر آفاقاً وإمكانات للتحليل والتأمل كان ذاهلاً عنها، ومكنته من تحديد أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية تحديداً رفضه الأجنبي وقبله العرب في مختلف أقطارهم وعلى مختلف نزعاتهم وطبقاتهم لأنه يعبر عن معنى وجودهم.

كان ذلك بعيد الحرب العالمية الثانية والعالم المتخلف اقتصادياً ما يزال يغط في سباته.

ولكن هل تمكن الفكر العربي بعدها من تحليل واقعه تحليلاً علمياً على ضوء هذه الأهداف؟ هل تمكن من رسم الخطط لتحقيقها؟ يرى الدكتور بديع الكسم أن الفكر العربي حدد الغاية وقصر عند تحديد الوسائل. ولكن أنستطيع الفصل بين الاثنين؟. إن من لا يضع وسائله بمستوى أهدافه تتشوه نظرته فيصبح شبيهاً بـ(دون كيشوت) يرى عملاقاً في عجلة الطاحونة. والأفكار الكبيرة تتردى إذا لم يكن حاملها بمقياسها عقلاً وعزيمة فتصبح (كاريكاتوراً) لما هي عليه نبراتها.

لقد حدد الفكر العربي الثورة، طريقة لتحقيق أهداف الأمة، والعالم المتخلف اقتصادياً كله الآن في وضح ثوري، وسيستمر هذا الوضع طويلاً. ولكن هل تمكن الفكر العربي من التخطيط لثورته؟

بينما كان الفكر العربي، وهو في بدء يقظته، يستجلي أهدافه فوجئ بغزو استعماري قد لا يكون له مثيل في تاريخ العالم، ألا وهو اصطناع دولة إسرائيل قلعة حربية تهدد وجوده باستمرار وهو ما يزال أعزل، أو شبه أعزل من السلاح مادياً ومعنوياً، حتى لكأن المستعمر -وهذا ما حصل فعلاً- أحسّ باليقظة فهبّ ليخنقها وهي بعد في المهد. وها نحن الآن، وبعد أن مضى ما يقرب من عشرين عاماً على النكبة الأولى نتساءل ما إذا كان الفكر العربي قد لعب حقاً دوره في الكشف عن أبعاد المؤامرة والتخطيط للقضاء عليها. لقد بين الدكتور برهان الدجاني بأمثلة صارخة على أن الفكر العربي ما يزال يجهل حتى المعطيات الأولى للمؤامرة الصهيونية- الاستعمارية.

هذا من جهة؛ وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى تعاقب الأحداث منذ بعيد الحرب العالمية الثانية إلى أيامنا، نلاحظ أنها تسارعت بشكل مذهل –سواء على المسرح العالمي أو على المسرح القومي- بحيث لم تترك مجالاً للفكر العربي كي يلحق بها، بله توقعها والتخطيط لدرء مخاطرها. وهذا ما أفسح المجال أمام الارتجال السياسي؛ فتجاوز السياسي المفكر، لا بل علّق الفكر أحياناً، وبذلك حذف مستوى من مستويات المشكلة، فأصبحت هذه مبتورة وكأنها فقدت عقلها.

لقد خاضت الأمة العربية في هذه الفترة معارك ضارية نكتفي بالإشارة إلى أهمها لأنها معروفة لدى الجميع (1948-1956-تحرر المغرب كله-ثورة الجزائر-النكبة الأخيرة). أضف إلى ما تقدم التهديدات تتوالى دون انقطاع على جمهوريات ناشئة لمّا تستكمل بعد شروط وجودها، تهديدات تحلل الوطن العربي وتعيد تركيبه حتى لكأنه دمية بيد الاستعمار. وبكلمة مختصرة فقد تسارعت معركة التحرر وتسارعت معها ضراوة المستعمر.

الفكر يستلزم، كي يعيش ويثمر، فسحة من الهدوء والتفرغ يبدو لنا ترفاً نعجز عن دفع ثمنه.

نجد، في كل ما تقدم عذراً للفكر العربي. ولكنه ليس كافياً. فالمعارك التحررية والثورات، ضراوة المستعمر وتسلط السياسة على الفكر، كل هذه العوامل وما يشبهها يجب أن تكون بمثابة تحديات تزيد في يقظته فتستفزه وتدفعه إلى التعمق في واقعه وإلى شق طرق مبتكرة لحل مشكلاته. إن العقل السليم يفيد من الهزات العنيفة التي قد تقضي على العقل المريض.

نحن والفكر الغربي:

قيل في ندوة المثقفين العرب وفي غيرها من المناسبات إن الفكر العربي قصّر في لقائه مع الفكر الغربي. كما قيل أيضاً أن الفكر الغربي سممته البرجوازية فلا مجال لإقامة حوار معه. إن إثارة المشكلة على هذا الشكل خطأ. لا بل إنه يدل على أننا ما نزال نتلمس طريقنا إلى التفكير الصحيح الذي يبدأ، أول ما يبدأ، بطرح المشكلات طرحاً منزهاً عن الهوى.

ليست مهمة الفكر الدعاوة، ولا استثارة الحوار أو اللقاء. إن الفكر يلتقي إذا ما استكمل مقومات وجوده، مع الفكر أين وأنى كان. ثم إنّ الفكر لا يتسمم (فقولنا فكر مسمم فيه من التناقض ما في قولنا عقل مجنون) بل المفكر هو الذي يتسمم عندما يستسلم لنزواته فلا يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة. كان المفكرون الغربيون بأكثريتهم الساحقة ضدنا في النكبة الأخيرة، وفيما سبقها من معارك مع إسرائيل. ولو تعمقنا في الموضوع لوجدنا أن أوربا تقاوم بالدرجة الأولى فكرة العروبة، وذلك لأسباب اقتصادية واستراتيجية وسياسية وتاريخية معروفة. ومع ذلك فقد وجدت في الغرب قلة قليلة- نزاهتها لا تقل عن شجاعتها- وقفت إلى جانبنا. وها هي الآن تتسع ويزداد فهمها للقضية العربية شمولاً وعمقاً، مما يدل أن الفكر يجد الحقيقة إذا سعى إليها. فهل استطعنا اللقاء مع هذه الفئة الخيرة وإقامة حوار معها؟.

عندما يستكمل الفكر العربي شروط وجوده، عندما تصبح الأمة العربية قوة سياسية وفكرية (والاثنان متلازمان) فاللقاء مع الفكر، في شرق الأرض وغربها، يأتي تلقائياً وبدون أن نستثيره أو نستجديه.

الفكر لا شرق ولا غرب. فثمة فكر أو لا فكر. صحيح أن الفكر ينبثق من الواقع ليجيب على أسئلته، ولكن سرعان ما يتخطاه ليفتح أمام مشكلاته آفاقاً جديدة ويشق للعمل طرقاً غير معبدة. ولولا هذا لما كان علينا اليوم وفي النصف الثاني من القرن العشرين أن نقيم حواراً مع ماضينا ومع ماضي الأمم الأخرى، فنطلب من أرسطو وابن خلدون، من أفلاطون وابن رشد الجواب على تساؤلاتنا. لولا هذا لما كان علينا، بعد الثورة الصناعية الثانية وقيام الإمبريالية، أن نستلهم في إشادة الاشتراكية ما كتبه عنها منذ قرن ونيف كارل ماركس وغيره.

إن نقطة الضعف الأساسية في الفكر العربي ليست في تقليد الفكر العربي أو الشرقي، بل في التقليد ذاته. والأدهى من هذا هو أن فكرنا آني مفاهيمه ردود فعل انفعالية على الأحداث الراهنة. أما الفكر الصحيح فيستبق الأحداث ويستثيرها ليخضعها لإرادته عوضاً عن أن يخضع لها. وأخيراً فلأننا حريصون على أن يكون فكرنا عملياً نكاد نخسر الفكر والعمل معاً.

المرحلة التاريخية وسماتها:

كي نفهم مواطن الضعف في الفكر العربي علينا أن نلاحظ المرحلة التاريخية الراهنة في سماتها وفي تحدياتها، ومن سماتها الأساسية:

1- التقنية: ولا نقصد بها المنجزات الصناعية التي تكاد تشبه الأساطير (وهي معروفة لدى الجميع)، بل طغيان الأسلوب التقني. ولا نبالغ إذا قلنا:طغياناً، فضمناً أو صراحة أصبح من بيده الحل والربط وفي أي مكان وجد، يعتقد أن الإنسان يمكن أن يصطنع كما تصطنع السلعة. فالجماعات-شعوباً وقوميات ودولاً- يخطط لها مسبقاً وبقرار يجب أن تقسم وتتكون تبعاً للمخطط، وكذلك الرأي العام والإيديولوجيات والأفكار والإنسان ذاته (غسل الأدمغة الحرب النفسية، الخ).

2- العلمية: ولا نقصد بها أيضاً منجزات العلم (ونموذجها الفيزياء الرياضية)، بل تحويل الظواهر إلى مفاهيم ومن ثم إلى دساتير ومعادلات يجب أن ينصاع لسلطانها الواقع، إنساناً كان أم مادياً. فالذرة (في جسيماتها وحبيباتها وحركاتها) الذرة التي لا ترى حتى ولا بالمجهر الإلكتروني، ليست إلا مجموعة معادلات فرضها العقل الرياضي وأجبر المادة على الانتظام ضمنها. لا يوجد عصر من عصور التاريخ أعطى للفكر النظري المجرد من المكانة ما أعطاه عصرنا. فمنذ أن اكتشف الإنسان القاطرة البخارية أدرك بالتجربة أن السبيل الوحيد لزيادة المردود هو الإمعان في التجريد، إذ إن الآلة هي أيضاً معادلة رياضية حولت إلى حديد وصلب فأصبحت قادرة على استقطاب القوى الطبيعية وتسخيرها لخدمة الإنسان. ويقابلها في العالم الإنساني الإيديولوجية. فهذه "منظومة مفاهيم" تستخدم لإدارة الإنسان وتوجيهه كما تستخدم الآلة لإدارة الواقع الطبيعي.

وقد دفع الإنسان ثمن هذه الخطوة الجبارة غالباً، إذ إن التقدم العلمي- التقني يكاد يفقده عفويته.

3- العالمية:إن الخاصتين السابقتين متلازمتان، وربما كانتا بالنتيجة خاصة واحدة، وهما تلخصان الحضارة الحديثة كلها. فالتجريد والتطبيق هما جوهر "الحديث" وفيهما تبدو حضارة القرن العشرين مختلفة جذرياً عن كل الحضارات الماضية. ولما كان التجريد، تعريفاً، مستقلاً عن الزمان والمكان. فالحضارة الحديثة عالمية في طبيعتها حتى لتكاد تصبح الخصائص القومية فيها فولكلوراً.

4- يقظة الشعوب والقوميات: وهي رد فعل طبيعي على السمات السابقة التي إذا ما سيطرت تامة أفقدت الإنسان –فرداً وجماعة- خصائصه الذاتية وأدت إلى نتيجتين بمنتهى الخطورة هما. إلحاق الإنسان بالآلة و"التسطيح". ولهذا نرى الشعوب اليوم، في شرق الأرض وغربها، يحرص، كل منها، على أن يكون صنواً في إنشاء الحضارة العالمية دون أن يفقد أصالته المتمثلة في ماضيه وفي إبداعه الأدبي.

ولكل من هذه السمات وجهان: الواحد إيجابي والآخر سلبي، فهي تعطي الإنسان أكبر فرصة ممكنة لتحقيق إنسانيته كما أنها بذات الوقت تهدده بالانسحاق إذا لم يكن على مستواها.

تحديات الحضارة الحديثة للعالم الثالث وللعرب:

أولها:كلمة (عالم ثالث)أو (عالم متخلف) أو (وفي الكلمة ما فيها من سخرية: عالم نامٍ) فهذه النعوت، هذه المترادفات هي وحدها بمثابة استعمار فكري كامل، إذ إنها (وهي من ابتكار العالم المصنع، قبلها العالم غير المصنع وكأنها حقيقته العميقة) تحشر أكثر من ثلثي سكان المعمورة في مقولةٍ واحدة، أو بالأحرى تصهرهم في بوتقة موحدة، وفي أحسن الحالات تضعهم تحت الوصاية. وبالفعل فليس هذا العالم هو الذي يخطط لتقدمه بل يخطط له، وعليه أن يتكيف تبعاً للمخطط ويندمج في أطره. وهذا هو جوهر الاستعمار وحقيقته العميقة.

لا يوجد تخلف مطلق. ولو صحّ ووجد لكان الإنسان الذي يتسم به كمن حكم عليه بالهلاك الأبدي. إن التخلف وضع طارئ وجدت نفسها فيه أممٌ عاشت في القرون الأخيرة معزولة عن التقدم الصناعي الاقتصادي فلم تنتبه للحدث الجديد الهام الحاسم. وهو يختلف في مواصفاته وفي طرق معالجته من أمة لأخرى ومن شعب لآخر.

إن ما يختبئ وراء هذه النعوت (الاستعمارية) هو الصراع في كل أقطار العالم بين المترف والمحروم، بين الظالم والمظلوم، أوقل إنه الصراع، ولأول مرة في تاريخ الإنسان، في سبيل تحقيق العدالة على مستوى الإنسانية كلها.

ثانيها: الحضارة الحديثة ذاتها، لا في منجزاتها الصناعية (فهذه مجموعة سلع تباع في الأسواق) وإنما في نقطة انطلاقها التي هي الفكر النظري المجرد. إن الخطأ الكبير الذي يرتكبه سياسيو (العالم الثالث) ومفكروه هو اعتقادهم –الضمني أو الصريح- أن اقتناء الآلة أو إنتاجها جزئياً (ولا يمكن أن يكون إلا جزئياً) هو السير في طريق الحضارة الحديثة. فالحضارة ليست في الآلة وإنما في العقل الذي يبدع الآلة وما يزال يغنيها بالمزيد من الفكر النظري. إن من يطلع على النتاج الفكري والأدبي في العالم المصنع تعتريه الدهشة عندما يطلع على ما يقابل هذا النتاج في العالم غير المصنع. لقد أشار الأستاذ جاك بيرك خلال إقامته الأخيرة القصيرة في دمشق إلى مسألة أعتبرها بمنتهى الخطورة ألا وهي هزال الفكر التحليلي في النتاج العربي الحديث بكل ألوانه. وهو محق كل الحق فيما يقول، فتحويل الواقع-طبيعياً كان أم إنسانياً- إلى مفاهيم وربط هذه المفاهيم بعضها إلى بعض في مقدمات تلزم عنها نتائج، ومن ثم نقد هذه المفاهيم في أسسها للكشف عن حدودها، هذه العمليات العقلية التي يعرفها طلابنا من المرحلة الثانوية، والتي كان أرسطو أول من كشف عنها، هي الأساس الذي انطلقت منه الحضارة الحديثة وهي التي تعرف باسم المنهج التحليلي الانتقادي أو باسم المنهج العلمي، ناهيك عما طرأ على هذا المنهج من تعديلات أساسية، منها بشكل خاص النهج الدياليكتيكي بأشكاله المختلفة، مما لا مجال لذكره الآن.

ولهذا فمن المؤكد إن الثورة الحقيقية يجب أن تبدأ من هنا وإلا فكل عمل، مهما كانت التضحيات التي تبذل في سبيله، قليل الجدوى.

ثالثها: موجه نحو العرب بشكل خاص ألا وهو الغزو الصهيوني، وهو نتيجة لما تقدم. إننا نعيش في عالم ما تزال سنته الصراع على البقاء، عالم لم يشف من عقده وغرائزه المكبوتة ولم ينتصر بعد على رواسب التاريخ. لا بل يبدو أن الصراع على البقاء قد بلغ الآن من الضراوة ما لم يبلغه في أي عصر آخر، لأن الآلة أعطت لمن يبدعها قوة هجومية لا حد لها. ولسوف يعاني الإنسان، ولزمن طويل على ما يظهر، كثيراً من الآلام والنكبات قبل أن يشفى من مرض التسلط والانتقام، وحتى تنتصر النزعات الخيرة فيه على النزعات الشريرة.

ما الذي قمنا به لدرء مخاطر هذه التحديات والانتصار عليها؟

لقد ربحنا الجولة الأولى من المعركة ألا وهي التحرر فأصبحنا سادة في بلادنا، ولكن هل وفرنا لأنفسنا أسباب ممارسة هذه السيادة؟

عندما نطرح هذا السؤال يبدو لنا بوضوح قصورنا في المجال الفكري.

إن أكثر من نصف العالم معنا في المعركة-وهذا كسب كبير- ولكنه معنا سياسياً، وهذا غير كاف، فقد تتبدل السياسة ويختل ميزان القوى. إن الصراع بين الكتلتين الكبيرتين لم يعد له من الوضوح ما كان له منذ سنوات قليلة. ومن ثم فإن الواقع الإنساني –وهو على ما هو عليه من التعقيد- لا يمكن، ولا في وقت من الأوقات أن يأخذ هذا الشكل المانوي: هنا النور وهناك الظلمة، هنا الخير وهناك الشر. ولنفرض أنه كذلك، فتحرر العالم الثالث بمساعدة الكتلة الشرقية لا يفيد العرب إلا بمقدار ما يتمكنون من تحرير أنفسهم وأوضاعهم الاجتماعية على كل المستويات ومنها بالدرجة الأولى المستوى الفكري. فالقاصر، بين الأخوة، يبقى دوماً تحت الوصاية.

قد تضطرنا المعركة في حال تأزمها للأخذ بالتصنيف المانوي فنميز على شكل قاطع بين الصديق والعدو. إذ كلما ازدادت المعركة حدة يجب أن يحدد هدفها على كل المستويات. ولكن كلما التزم الفكر باتجاه عليه أن يزداد انفتاحاً. فالمفكر عندئذ كالجندي في المعركة. إن الجندي الذي لا يرى أبعد من أنفه يخسر المعركة. والفكر الحقيقي كالنور، كلما اشتد وسلط نحو نقطة ازدادت الفسحة التي يضيء، وأصبح أشد قدرة على التمييز بين الممكن وغير الممكن.

إن الفكر هو الذي يحرر لا السياسة، لا لأننا نميز بين الاثنين، فالمستويات الثلاثة التي أشرنا إليها مترابطة دياليكتيكياً كما قلنا ولا يمكن الفصل بينها، ولكن الشعب قوة نزوعية والسياسة قرار وتنفيذ، ولا يمكن للقوة ولا للقرارات أن تصبح فعالة إلا إذا اقترنت بالفكر النّير. وعندما يحرر الفكر ذاته يحرر معه الشعب وقادته.

قيل في (ندوة المثقفين العرب) إن آلاف الكتب لا تفيد في معركة كالتي نخوضها مع إسرائيل والصهيونية لأن دولة هؤلاء قاعدة استعمارية موجهة ضد قارتين، وهذا صحيح إذا كانت الثقافة كتباً وحسب. وقيل أيضاً إن الشعب وحده هو الذي يستطيع أن يقاوم الاستعمار وفي المعركة الشعبية تتكون القيادات وثقافة القادة الشعبيين. وهذا صحيح أيضاً. ولكن أيمكننا أن نتصور معركة بدون تخطيط فكري يسبقها ويتكون معها ويستمر بعدها. إن طرح المسألة على هذا الشكل يفقدها بعداً أساسياً من أبعادها.

إن السؤال الحقيقي الذي يجب على الفكر العربي أن يطرحه على ذاته هو التالي:

ما الذي فعله الفكر العربي في سبيل المعركة التي نخوضها جميعاً شعباً ومفكرين وسياسيين؟ وبالمقابل:

ما الذي فعله السياسيون ليمكنوا الفكر من القيام بدوره.

لنأخذ على سبيل المثال الفكرة الاشتراكية. نحن مع المعسكر الاشتراكي في معركة واحدة. ولكن ما الذي فعلناه لنكوّن لأنفسنا فكراً اشتراكياً؟ لا بل هل تمثلنا الفكر الاشتراكي وهو تراث ضخم يغذي الفكر العالمي في شرق الأرض وغربها؟ لا نعتقد، فما كتب في هذا المجال حتى الآن على ما نعلم شخصياً تبسيط يبلغ أحياناً حد الابتذال والتشويه لأفكار ونظريات أقل ما يقال فيها إنها في أعلى المستويات الفكرية. وما ترجم عن الاشتراكية حتى الآن لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو في أكثريته الساحقة (على ما نعلم أيضاً شخصياً) مشحون بالأخطاء. وكله -المؤلف والمترجم على حد سواء- يشوه التفكير السليم ويضلل المفكر المبتدئ.

لقد أصبحت الفكرة الاشتراكية- وكذلك الفكرة القومية وفكرة الحرية، شعارات (وهذا فيه ما فيه من الفائدة) ولكنها لم تصبح نقطة انطلاق لدراسة الواقع العربي دراسة علمية. إن النقطة الأساسية في الاشتراكية – وهي إن العمل الجماعي مصدر الحقوق والواجبات- لم تطرح يوماً على بساط البحث، في حدود ما قرأنا، على شكل جدي يبرز مضمونها ويجعل منها أساساً للتشريع والتخطيط والتفكير.

ولهذا فقضيتنا ليس واضحة لا في الشرق والا في الغرب، وإنما هناك إيمان بعدالتها في الشرق وإنكار مغرض لعدالتها عند الأكثرية الساحقة من مفكري الغرب وسياسييه. والإيمان بدون العقل لا شيء.

ذلك أن الفكر العربي، إلى جانب ضعفه في التحليل الانتقادي وربما لهذا السبب، آني كما قلنا تستثيره الحوادث فيجيب عليها دون أن تكون له القدرة على المبادهة والتطلع، تعوزه دوماً (الفسحة) التي يتسم بها الفكر العلمي أي فسحة التأمل والروية حيث يرى الإنسان العاقل الحادثة في كل ملابساتها المحلية والقومية والأممية وفي معناها القريب والبعيد. فهو كالنقد بدون تغطية (لا يقبضه أحد) أن الفكر في رصيده النظري فإذا ما فقده ذاب في الحادثة وفقد المبرر لوجوده.

قد يكون للسياسي العذر عند اتخاذ قرارات فورية في تسارع الأحداث الذي أشرنا إليه، وهو مع ذلك عذر غير كاف فهل من عذر للمفكر؟ سنجيب على هذا السؤال فيما يلي. نستطيع أن نقول الآن، نتيجة لما تقدم، أنّا ربحنا في معركتنا (جولة التحرر) على الصعيد السياسي، ولكننا لم نربحها على الصعيد الفكري لأن الفكر العربي لم يتكون بعد، أو أننا قمنا بثورة سياسية ولم نقم بثورة فكرية.

حرية الفكر:

أثيرت في (ندوة المثقفين) أكثر من مرة مسألة حرية المثقف، فرأى بعضهم أن المفكر معذور في قصوره لأن الحاكم، لسبب أو لآخر، علق الحريات. ورأى البعض الآخر في هذا الزعم تخلفاً عن ركب حركة التحرر وبالنتيجة، ارتباطاً عن قصد أو غير قصد، بنمط من التفكير يعطل عمل الثورة،ألا وهو التفكير البرجوازي. فالمثقفون في (البلدان المتخلفة) من طبقة مترفة أو شبه مترفة وهم، لهذا، مرتبطون بمصالح طبقتهم وبالتالي بمصالح الاستعمار. ولن يلعبوا دورهم إلا إذا انضموا للثورة التي تستطيع وحدها أن تحررهم إذ تدمجهم بالطبقات الشعبية وفي حركتها المتجددة باستمرار.

والواقع أنّا لو عدنا إلى تاريخ القطر العربي السوري الأخير لوجدنا أن المثقفين في أكثريتهم كانوا من الطبقة الوسطى فما دون، وأنهم، هم، الذين كانوا أول من تمرد على الوضع (العائلي- الإقطاعي) وبعده على الوضع (شبه الرأسمالي) في هذا القطر. وما يصح في سورية يصح، لحد بعيد، في البلدان المتخلفة اقتصادياً. فالثورات تبدو على شكل نزوع غامض عند الشعب، ويحدد معالمها ويخطط لها المثقفون. إن كل ثورة ينقصها البعد الفكري تصبح مجرد حركة تمرد فوضوية سرعان ما تقمعها السلطات الرجعية.

إن المرض المزمن الذي يعاني منه مثقفو (البلدان المتخلفة) هو أنهم كلهم من الموظفين، والموظف مرتبط بالحكم الذي يدفع له مرتبه. وفي ذلك بعض العذر لهم. ولكنه ليس عذراً كافياً. فالفكر أكَّد وجوده في أظلم العهود. لا بل إن الفكر الحر يجد في الطغيان حافزاً يدفعه إلى التمرد والثورة.

وهذا ما فعله الفكر العربي أيام الاستعمار القديم إذ صمد في وجهه، ودحره عندما دقت ساعة اندحاره. ولكنه –وهذه حقيقة يجب أن نؤكد عليها- وقف عند هذا الحد. فلم وقف؟ لا يمكننا أن نضع المسؤولية على الحاكم وحده، ولا على الفكر وحده فكلاهما مسؤول. لو تفحصنا التاريخ العربي الحديث لوجدنا أن حاكم اليوم نشا وترعرع مثقفاً مع المثقفين، سواء منهم الذين يعملون معه أو يعارضونه. لقد كان الحاكم زميلاً للصحفي والمدرّس والمحامي والطبيب والكاتب، الخ.. على مقاعد الدراسة، ثم رافقهم وتبادل معهم الآراء في الحلقات السرية والعلنية التي كانت تعقد لتخطط للثورة.

إن المفكر الذي يتنازل عن حريته لسبب أو لآخر (والسباب عندنا معروفة) يخسرها، ولا عذر له في ذلك لأن الحرية في الإنسان. وكذلك الحاكم الذي يعلق الحريات فهو يصبح أسير أفكار جامدة تفقده. هو أيضاً، حريته، إذ إن الحرية تنشأ وتنمو في الفسحة التي يفتحها للفكر أمام العمل لتفجير إمكانات المستقبل.

الحرية، ككل الأشياء الثمينة، آخر ما يكتسب الإنسان وأول ما يفقد، فليست إذاً وضعاً ثابتاً نستقر فيه، بل نضالاً مستمراً في سبيل التحرر، متى ضعف أو خبا ضعفت الحرية وزالت تدريجياً.

وكذلك الحقيقة، لا نحصل عليها كما نحصل على الأشياء فنمتلكها إلى الأبد، بل هي هدف نسعى نحوه باستمرار دون أن نصل إليه. والحرية والحقيقة أمر واحد. ولهذا فأخطر محنة يتعرض لها الإنسان تأتيه عن ذلك الذي –جماعة أو فرداً- يعتقدان حقيقته هي الحقيقة وما عداها ضلال. إذ عندئذ وباسم الحقيقة يطعن الإنسان في إنسانيته وهي أقدس مقدساته. كلنا –سياسيين كنا أم مفكرين أم أبناء شعب- في الطريق إلى الحقيقة. فعلينا أن نفتح صدورنا لها. والحق وحده وهو الذي يحرر.

الحل.. ومنطلقاته:

لا يمكن ولا يحق لإنسان، كائناً من كان، أن يمنح لنفسه حق الانفراد، لا نظرياً ولا عملياً، بوضع حل لمشكلة يترتب على حلِّها مصير مئة مليون من البشر. ثم إن المعركة طويلة الأمد متعددة الجوانب والمستويات والأبعاد، كل يوم تبدو لنا في وجه لم يكن بالحسبان، وتطلع علينا بمفاجآت تؤثر في معطياتها. وأخيراً فهي جزء من معركة أوسع بكثير من معركتنا القومية: إنها معركة (العالم الثالث) مع استعمار يزداد ضراوة كلما اشتدت، وبشكل أعم، فهي معركة الشعب مع مستغليِّه. ولهذا يجب أن يكون الحل، على الصعيد الفكري (وعلى غيره أيضاً) نتيجة لمناقشات يشترك فيها، وفي حوار مستمر، كل من تمسه المعركة من قريب أو من بعيد، أفراداً أو جماعات، عمالاً ومثقفين وقادة. وتفترض المناقشة الفكرية (أو الحوار) ثلاثة شروط متلازمة كل منها يستدعي الآخر: الأول، الأخذ بالمنهج العلمي التحليلي؛ الثاني، انفتاح كل طرف في الحوار على الآخر، الثالث، حرية المناقشة. وقد برهنت تجربة ربع القرن الأخير أن هذه الشروط غير متوفرة لدينا وخصوصاً الثاني. فالمثقف العربي إجمالاً آحادي النظرة، منطو على ذاته، يعتقد أن الحق بجانبه وحده. ولهذا فما إن يبدأ النقاش حتى يتحول إلى اتهام ضمني أو صريح وتأخذ الأفكار شكلاً انفعالياً يزّيفها ويخرجها من حقيقتها.

الحل كلّي كالمشكلة منطلقاته على ما نرى أربعة:

الأول قومي. أصبح واضحاً لدى العالم أجمع، أصبح واضحاً لدى أعداء العروبة أنفسهم (وما أكثرهم!) أن العرب يؤلفون في المجتمع الإنساني جماعة قومية متضامنة في مصير واحد. ولقد برهن الشعب عفوياً على هذا التضامن في معاركنا القومية الأخيرة (تحرير الجزائر-العدوان الثلاثي-النكبة الأخيرة). ولكن عجزنا حتى الآن عن إنشاء مؤسسات اقتصادية وثقافية وسياسية، الخ.. تحوّل التضامن التاريخي العفوي إلى حقيقة فعلية تقيم لها السياسة الدولية وزناً يتناسب مع ما يجب أن يكون لنا من مكانة. وهذا ما نلمسه في واقعنا اليومي، فما إن ينحسر ظل العدوان حتى نعود إلى خصوماتنا الداخلية ونستهين بنا الأجنبي. يحق لنا أن تختصم في كل الأمور وعلى كل المستويات، ولكن من الجريمة والعار أن نختصم حول مسألة كالمسألة الفلسطينية تهددنا في وجودنا.

الثاني شعبي. إن التعبئة الشعبية التي نكثر الآن من الحديث عنها، ليست شعارات وبيانات واجتماعات قومية، فحسب، وإنما هي بالدرجة الأولى عمل جماعي له مردود فعلي في الزراعة والصناعة، كما في الحرب والثورة، عمل تخطط له كل فئة من فئات الشعب تبعاً لحاجاتها وتنفذه بحرية مطلقة لتعرف ثغراته قبل أن تتغنى بانتصاراته. إن الشعب في عقله لا في انفعالاته، في تنظيمه لا في مسيراته.

الثالث فكري: يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا فنقول أن الفكر العربي في أول يقظته ولما يتكون بعد. فكل ما كتب عن القومية، مثلاً، تقليد نزعم أنه علمي مع أن الأبحاث الاجتماعية تخطته منذ زمن طويل. وكتب وما يكتب عن الثورة صالح لاستثارة الجماهير لا لتربية عقلها.وما كتب عن الاشتراكية قد يكون نقيض الفكر الاشتراكي، فهذا تحليل دقيق لواقع معين على ضوء علم يتكامل باستمرار هو علم الاقتصاد وعلى ضوء منهج ينمو دون انقطاع هو الديالكتيك. ونحن نقتصر على بيانات إن صحت فهي تعبر عن وجه واحد من وجوه الواقع، وفي كل الأحوال لا تحدد الخط الذي يجب أن يسير على هديه هذا الفلاح أو ذاك العامل ليحقق الاشتراكية عملياً.

وبكلمة فإن أدبنا أدب شعارات لم يرق بعد إلى مرحلة التحليل الانتقادي الذي أشرنا إليه مع أن هذا الأسلوب هو الذي اعتمده الذين وضعوا أسس الاشتراكية أو طبقوها عملياً.

الرابع الانفتاح الفكري بالتجاوب مع الفكر العالمي من جهة ومع الشعب وقادته من جهة أخرى. إن الفكر العربي مصاب، إلى جانب أمراضه الكثيرة، بعقدة الخوف، خوف متبادل بين الحاكم والمفكر، تنتج عنه قطيعة متبادلة بين الشعب والمفكر والحاكم؛ مع إن الحاكم هو بالنتيجة أنا وأنت وكل إنسان، وكذلك الشعب والمفكر. ولا يمكن التمييز بين الثلاثة إلا بالتحليل النظري؛ فكلنا، بنسبة موقعنا من المعركة، حاكم ومفكر وشعب. فعلى المفكر أن ينتصر على عقدة الخوف من الحاكم، وعلى الحاكم أن ينتصر على عقدة الخوف من الانفتاح. وعلى الاثنين أن يعرفا أن الانفتاح على الشعب معناه تحرير عقل الشعب لا استثارة غرائزه. ليس الحاكم هو الذي يحررك ويحررني. وإنما نحن الذين نحرر أنفسنا، كل منا بنسبة انتصاره على غرائزه وأنانيته، وكذلك الحاكم ينفتح عليك وعلي عندما ينتصر على كبريائه ليصغي إلى صوتي وصوتك.

وبالنتيجة فإذا لم يتكوّن الفكر العربي على أسس علمية فلن يتكون الشعب ولا الحاكم، ولن تتكون الأمة التي بيدها وحدها حل مشكلة هي، في المرحلة التاريخية الراهنة، مفتاح مشاكلنا كلها.

* * *

من الوجود إلى الوجودية(

نشرت هذه الدراسة لأول مرة بعنوان (من العدم إلى الوجود) في مجلة الآداب (عدد تشرين الثاني 1966) عند ظهور كتاب جان بول ساتر (الوجود والعدم) في ترجمته العربية الأولى، وضعها الدكتور عبد الرحمن البدوي لدار الآداب ببيروت. وكانت الغاية منها تقديم الكتاب لقراء يجهلون اللغات الأجنبية فلا يعرفون عنه إلا اسمه. ولما كان الكتاب محاولة لإنشاء فلسفة شبه كاملة أساسها الوجودية (Existentialisme)، ولما لم يكن بالتالي بالامكان تلخيصه كله، فقد اقتصرنا على تحليل أهم جانب من جوانبه، ألا وهو المسألة الأنطولوجية التي هي أساس الفلسفة كلها.

ومع أننا أحطنا إذ ذاك، على ما نعتقد، بأهم أبعاد هذه المسألة في الكتاب، فنحن لم نبرز بما فيه الكفاية (عقدته) الأساسية، ألا وهي إمكان الانتقال من الوجودية كوصف فينومينولوجي للموجودات في فرديتها، إلى الوجود كمسألة سابقة ومحيطة، هي المسألة الأنطولوجية. كما أننا لم نبين بدقة موقع انطولوجيا (الوجود والعدم) مما كتب عن هذا الموضوع قبل سارتر.

ولهذا رأينا أن نعيد النظر في دراستنا فنز يدها دقة، معنىً ومبنىً، إذ نبين موطن القوة ومواطن الضعف في محاولة سارتر.

فالمسألة الأساسية هنا هي مسألة تحويل الوجودية إلى أنطولوجيا. فلأي حد وفق سارتر في مشروعه. هذا هو السؤال الذي تطرحه دراستنا ونحاول الإجابة عليه.

الإطار التاريخي:

صدر كتاب (الوجود والعدم) عام 1943.

كان جان بول سارتر، إذ ذاك، وقد أدرك الثامنة والثلاثين من عمره في ذروة نشاطه. فقد نجح في الإفلات من معسكرات الاعتقال النازية، وعاد إلى باريس مدرساً في ثانوية كوندورسيه وانخرط في صفوف المقاومة يناضل ضد المحتل.

كان من المتوقع أن يصبح في طليعة الأساتذة الجامعيين، فقد تخرج من المعهد العالي للمعلمين عام 1929 ومارس مهنة التعليم نيفاً وعشر سنوات فأصبح من أمراء الكلام، ومع ذلك فعما قريب سيعتزل التدريس ليكافح بقلمه ولسانه وسلوكه. فالناس في زمن يجب أن تتحول الفكرة فيه مباشرة إلى عمل والكلمة إلى طاقة تؤثر في الواقع الحي.

لم يكن في ذلك الوقت اسمه مجهولاً، لا في المحافل الفلسفية ولا في الأوساط الأدبية، فقد نشر عام 1936 أولى محاولاته الفلسفية (المخيلة)كما نشر مقالاً ما يزال من أسس فلسفته (علو الأنا)، وعام 1938 أولى رواياته (الغثيان Le nausea) التي كشفت عن الوجود (Existence)كشفاً تجريبياً، صنف فيه البشر ضمن فئتين (القذرون Les salauds) و(المخادعون Les tricneurs) وسيصبح هذا التصنيف من مقولات وجودية. ونشر عام1939 (الخيالي L'imaginaire) أو سيكوفينومينولوجيا المخيلة حيث عرض الخطوط الأولى لمنهجه الفينومينولوجي، كما نشر مجموعته القصصية الأولى (الحائط) حيث طبق علم النفس التحليلي الفرويدي على دراسة الإنسان الكاشفة عن العقد والالتواءات اللاشعورية الكامنة وراء السلوك الإنساني، العادي منه والرفيع.

ونشر عام 1940(خطوط لنظرية الانفعالات) وهي تطبيق آخر لمنهجه الفينومينولوجي، وعام 1943 مسرحية (الذباب).

كانت هذه المؤلفات بمثابة تمهيد للمذهب الفلسفي الذي كان يتكامل تدريجياً في ذهنه. والذي أخذ شكله الأكمل لتلك المرحلة في موسوعته الفلسفية التي نحن في صددها، أي (الوجود والعدم).

أجل لم يكن سارتر مجهولاً عندما نشر (الوجود والعدم). فقد كانت مؤلفاته الأدبية منها والفكرية على حد سواء (إذ سرعان ما تتحول الفكرة المجردة عنده إلى صورة فطاقة)، أشبه شيء بصدمات تهز النفس كلها لا العقل فحسب، وتوقظها من جمود فرضته عليها الأعراف السائدة والأطر الاجتماعية التقليدية.

ومع ذلك فقد قوبل المؤلف الشامل الأول لسارتر بشيء من اللامبالاة والذهول. الآن الزمن زمن حرب، والناس-حتى الفلاسفة منهم- في شغل شاغل عن التفكير المحض؟ أم لأن الكتاب تجاهل أطر الفلسفة التقليدية، وحطم المفاهيم الكلاسيكية لينشئ عالماً فكرياً مبتكراً ومناخاً فلسفياً جديداً فبدا بدعة لا مبرر لها؟ ربما كان السبب الأخير هو الأهم، فقد حسب الأخصائيون الكتاب ضرباً من العبث في الفلسفة والتشكيك بها. ولكن ما إن تمر موجة الدهشة الأولى حتى يبدو الكتاب على حقيقته، محكم البنيان قوي الحجة غنياً بالتحليلات المبتكرة الجيد منها والعادي، غنياً بالمفارقات المفتعلة تدهش أحياناً أكثر مما تقنع، غنياً بالكر والفر إن صح التعبير على عادة سارتر، يسهب في الوصف الشيق حتى الإملال. وفي كل الأحوال فهو من إنشاء فيلسوف موهوب، وأديب فذ وأمير من أمراء البيان يتلاعب بالكلم كما يتلاعب العازف الهاوي بآلته. وبالفعل فسرعان ما أقبل القراء على مؤلفه، إذ أثار الإعجاب والفضول عند الذين قرأوه كله أو بعضه، فدهشوا بالمؤلِّف، فهموه أم لم يفهموه. وتتوالى طبعات (الوجود والعدم) حتى ليكاد هذا الكتاب المستعصي على الأخصائيين يلقى من الرواج ما تلقاه الروايات البوليسية.

لم تكن الوجودية(1) عام 1943 أمراً جديداً في عالم الفكر والأدب، لا في فرنسا ولا في أوروبا، فقد كونت بين الحربين العالميتين تراثاً لا يستهان به.

فمؤلفات غبريل مارسيل (G.Marcel) ترجع إلى عام 1927، عندما نشر (يوميات ميتافيزيقية) كان قد بدأ بكتابتها أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم اتبعها عام 1935 بكتاب (الوجود والملك Etre et avoir)كما إنه نشر بين 1911و1938 اثنتي عشرة مسرحية.

وفي عام 1927 نشر لويس لافيل (L'Lavelle)- الذي أصبح بعدها أستاذاً في الكوليج ده فرانس-كتاب (الوجود L'Etre) وعام 1937 كتاب (الفعل L'Acte) وفيهما حاول، كما في بقية مؤلفاته، دمج الوجودية في الأفلاطونية، كما حاول بذات الوقت رينيه لوسين (R.Le senne) دمج الوجودية في المثالية تحت تأثير أستاذه الفيلسوف الفرنسي هملين (Hamelm).

وفي ألمانيا نشر كارل يسبرز (K.Jaspers)عام 1937 (خلاصة وجودية) في الأجزاء الثلاثة من مؤلفه الأساسي (فلسفة philosophie). وكان قد نشر عام 1922 دراستين الواحدة عن ستراندبرج والثانية عن فان جوخ، وبعدها دراستين الواحدة عن نيتشه عام 1936 والثانية عن ديكارت عام 1937 حيث طبق مقاييسه على اثنين من أعلام الفكر الغربي.

أما هيدجر(2) فكان قد نشر عام 1927 الجزء الأول من مؤلفه الأساسي (الوجود والزمان) وهو بمثابة مقدمة لفلسفة ما تزال حتى الآن في طريقها إلى التكامل، وحيث أنشا (الأنطولوجيا الأساسية)، قصد منها الكشف على أبعاد (الآنية Dasein)(1)ومقدماتها. أي الإنسان كنقطة ممتازة فيها ينكشف الوجود (L'Etre) ويتحدث. ومع أن هيدجر ما يزال حتى الآن يعطي المقام الأول في كتاباته للتأملات الأنطولوجية، ففي (الوجود والعدم) استعادة لعدد من موضوعات (الوجود والزمان) الهامة منها على سبيل المثال: زيف الوجود الإنساني في شكله اليومي، خطيئته، تناهيه، عبثية مشروعاته، الخ.

وقد يكون أهم مما تقدم، على أهميته، المناخ النفسي والروحي الذي تكوَّن نتيجة للأحداث الخطيرة، تلك التي عصفت بأوروبا والعالم بين الحربين العالميتين، فوضعت موضع بحث جدي وجذري البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والأوضاع الحضارية والقيم الثقافية في مشارق العالم وفي مغاربه. هذا المناخ هو الذي يفسر ما لاقته من رواج كبير في تلك الفترة روايات فرانتز كافسكا وقصصه القصيرة، وتأملات سورين كير كجارد ومحاولاته ومذكراته، إذ عبرت عن قلق الإنسان الغربي وعن المتاهات التي يضيع فيها فكره، كما عبَّرت عن التساؤلات الميتافيزيقية التي يجب عليه أن يجد لها جواباً حتى يستقيم أمره، ومنها: وحدة الإنسان، غربته في العالم، انفصاله عن المطلق مصدر انبثاقه، خطيئته الأصيلة (الخطيئة القائمة في كيانه) والتي تجره نحو الهاوية، علاقته مع الطبيعة، لا معنى الوجود بذاته، لا معنى الجهد الإنساني في عبثيته الخ..

تلك بعض الأفكار التي سرعان ما انتشرت في أوروبا بتأثير كافكا وكير كجارد، وتتناولها المسرحية والشعر، الرواية والمحاولة، كما عبر عنها بحرارة أدباء من مقياس ألبير كامو وجورج باتاي وبرديايف، وغيرهم وغيرهم في كتب أصبح بعضها معروفاً عند القارئ العربي كأسطورة سيزيف والإنسان التمرد لألبير كامو وغيرهما.

هذه الموضوعات هي التي كوَّنت بتلاقيها مع فينومينولوجيا هوسيرل الوجودية السارترية وغيرها من الوجوديات. إذ إن المنهج الفينومينولوجي الذي يقوم على وصف الظواهر (ما يبدو من الموجود للشعور) والانتقال منها بالتعليق إلى ماهيتها وإلى أسسها (التي هي أسس الوجود) هذا المنهج وحده يلائم فلسفة قصدها الأول تعميق تجربة الشعور وتعليقها عند إنسان أخذ يشعر أكثر فأكثر إنه يحيا في عالم يتنكر له ويسحقه.

* * *

والجامعة ماذا عنها؟

كانت الفينومينولوجيا قد بدأت تبسط نفوذها على بعض معاقل التدريس في ألمانيا مع هوسيرل ومساعديه وتلاميذه، وكذلك الوجودية مع يسبرز، ولكن الفلسفة بجملتها ما تزال تعيش على إرث القرن التاسع عشر، ممثلة في تيارات أهمها ثلاثة:

1- الكنتية الجديدة مع كوهين ونتروب وكسيرر.

2- المثالية الهيجيلية كما تكونت في فرنسا مع رينوفيه وهملن ثم امتزجت مع الكنطية مع برونشفيك وألن.

3- وضعية أوغست كونت التي كانت على أساس أيديولوجية البورجوازية في فرنسا بين الحربين.

أما الماركسية فقد تجاهلتها الجامعة إذ ذاك تجاهلاً كلياً. فلن يتعرِّف إليها سارتر إلا بعد ذلك بكثير. والحديث عن علاقته بها يحتاج إلى دراسة طويلة ومفصلة.

وهكذا فإن الجامعة كانت ما تزال تتعامى عن أفق جديد أخذ يستهوي الجيل الفلسفي الناشئ، ويبشر بعطاء كبير.

لقد بدأت أسس الفلسفة التقليدية تتزعزع. ولكنها لم تتقوض. ويخيل للمرء إذ ذاك إن البرغسونية هي التي ستكون الوريث الطبيعي لكل هذه التيارات. فقد تكونت في الثلث الأول من القرن العشرين روحانية شاملة أخذ بها في فرنسا عدد من كبار المدرسين وقادة الفكر. ولكن سرعان ما يتبين للنظر الدقيق أن البرغسونية نغم شارد من القديم القديم وأن الأفلاطونية التي بُعثت مع برغسون عبر اسبينوزا (وحيوية القرن التاسع عشر) لا يمكنها، على غناها وأفقها الرحب، أن تجيب على أسئلة ملحة كانت تطرحها المرحلة التاريخية إذ ذاك على الإنسان.

فالزمن زمن قلق وصراع:

قلق الفرد على حرية تهددها الفاشية في أقدس مقدساتها.

وصراع بين الطبقات والمعسكرات والإيديولوجيات-أوقل بين قوى قذفت من أعماق اللاشعور- صراع طاحن يجبر الأفراد والجماعات على الانتخاب بين الوجود والعدم.

في ذلك الجو المشحون بالعنف وضع سارتر مؤلِّفه ليطرح المسألة –مسألة الإنسان- من أساسها الأول، وبمختلف أبعادها، طرحاً جديداً كان نقطة الانطلاق لمذهب وجودي ما يزال حتى الآن بالرغم من كل التحولات التي طرأت على أوروبا، وبالرغم من كل التحولات التي طرأت على فكر سارتر، ما يزال يحتفظ بالكثير من قوته وشبابه.

المسألة الأنطولوجية:

يبدأ (الوجود والعدم) بمصارعة المسألة الأولى، وربما الوحيدة- في الفلسفة، تلك التي، كما يقول أرسطو "أثيرت وما تزال تثار"، وستبقى أبداً موضع إشكال، (ما وراء الطبيعة 27-1028 ب1-4) ألا وهي مسألة الوجود:

ما الوجود في الموجود؟

ما الوجود بالنسبة لكل ما هو موجود؟

ما الوجود بما هو وجود، كما يقول العرب في ترجمة أرسطو؟

أي، ماذا نقصد بكلمة (وجود) عندما نقول: هذا الإنسان الموجود، تلك الشجرة موجودة؟

كانت هذه المسألة الحدس الأساسي للفكر الإغريقي، صاغها شعر أرمندس وهيرقليطس، ثم كشف عن أبعادها أفلاطون، وصاغها أرسطو صياغة تحليلية عقلية، فأصبحت بعدهم تلك التي تتركز فيها مشكلات الفلسفة وبها تقوم.

وتغيب المسألة في صياغتها القديمة في أفق الفلسفة بعد أن سدَّد لها كنط، عبر الميتافيزيقا، ضربة محكمة في (نقد العقل النظري المحض). فيعيد لها هيدجر أولويتها في (الوجود والزمان). ولكن هذا الفيلسوف يقتصر فيما يسميه (الأنطولوجيا الأساسية) على تمهيد الطريق لاستعادة المسألة القديمة كما تراءت لمفكري الإغريق قبل سقراط. وما يزال حتى الآن يعد المناخ الفكري والفسحة النظرية حيث يمكن (للوجود) أن يُبعث وتُبعث معه العبقرية الغربية في أصالتها الأولى.

ويبدو غرض (الوجود والعدم) واضحاً في عنوانه الثاني (بحث في الأنطولوجيا الفينومينولوجية) فهو محاولة للإجابة عن السؤال الإغريقي استناداً إلى المنهج الفينومينولوجي. كما يبدو هذا الغرض واضحاً أيضاً في الأسطر الأولى من الكتاب، إذ يطرح سارتر المشكلة ويحدد المنهج ممهداً للجواب، في صفحات هي من أجود أدب سارتر الفلسفي. يقول:

"حقق الفكر تقدماً هائلاً برده الموجود إلى سلسلة من المظاهر التي تكشف عنه، وقد قُصد بذلك إلى القضاء على عدد من المثنويات التي كانت تُربك الفلسفة وإلى استبدالها بواحدية الظاهرة." (13)(1). وبهذا "تم التخلص أولاً من تلك المثنوية التي تضع في داخل الموجود تقابلاً بين الظاهر والباطن"(13) كما تم التخلص من المثنويات الأخرى، فليس ثمة وجود له تجليات هي موضوع ادراكنا المباشر، ولا قوة تنـزع نحو الفعل، ولا جواهر تبدو منها أعراضها، ولا مطلق يقابله نسبي. (14-15) فالظاهرة (ما يبدو من الوجود للشعور) هي الشيء ذاته، وماهية الشيء هي الرابطة التي تجمع بين طواهره. والظاهرة "النسبي-المطلق"(14) وهي، إذا ما تخلصنا من "وهم العوالم الخلفية" الذي أشار إليه نيتشه، الإيجابية المليئة.

إن الأشياء لا تخفي وراءها قوة سريعة توجهها، فالروح والمادة، القوة والطبيعة،الخ، ليست أكثر من مفاهيم عامة تشير إلى مجموعة علائق بين الظواهر هي وحدها موجودة. "فعبقرية بروست ليست مؤلفاته مأخوذة على حدة، ولا القدرة الذاتية على إنتاجها: إنها المؤلفات منظوراً إليها على أنها جماع تجليات الشخص"(15).

"لقد رددنا الأشياء إلى المجموع المرتبط من تجلياته"(31). وإذا لم يكن للأشياء بعد خفي فإنها تبدو لشعورنا على حقيقتها، وباستطاعتنا أن نعرفها. "والظاهرة يمكن دراستها ووصفها بما هي كذلك، لأنها تدل على نفسها دلالة مطلقة"(14).

هذه الدراسة وهذا الوصف يمكناننا، إذا ما كانا دقيقتين، من أن ننشئ الأنطولوجيا (علم الوجود) على أسس لها من اليقين ومن الموضوعية ما لبقية العلوم(18).

ويستعيض سارتر عن كل المثنويات الكلاسيكية بواحدة أخذها عن هيجل، هي مثنوية "المتناهي واللامتناهي"، أو كما يصحح هو نفسه "المتناهي في اللامتناهي" إذ إن الموجود كله في الظاهرة التي يتبدى فيها، وهو بذات الوقت إمكان ما لا نهاية له من التجليات أو الظواهر (15)وكما تقضي "واحدية الظاهرة" على التعارض القائم في الفلسفة الكلاسيكية على شكل مثنويات، فهي تقضي أيضاً على التعارض القائم في المذاهب على شكل مثنويات كثيرة، منها بشكل خاص التعارض بين (الواقعية والمثالية) أو (المادية والروحية) التي قسمت الفلسفات على شكل مفتعل منذ ديكارت حتى أيامنا إلى زمرتين متصارعتين يعسر التوفيق بينهما، وتوقعان الفلسفة في إرباكات لا حصر لها.

يقول سارتر: "أثبتنا عن طريق فحص الشعور.. إن وجود الظاهرة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤثر في الشعور وبهذا نحيَّنا تصوراً واقعياً لعلاقة الظاهرة بالشعور، ولكننا بينا أيضاً.. إن الشعور لا يمكن أن يخرج من ذاته.. لتكوين موجود عال.. وهكذا نكون قد استبعدنا الحل المثالي للمشكلة"(41).

ويقول آخر، لا نرى في مذهب سارتر وجودين منفصلين: الموضوع (الأشياء) والذات (الشعور) لا نعلم كيف يحصل التلاقي بينهما إلا إذا ألحقنا الأول بالثاني كما تفعل المثالية، أو العكس كما تفعل الواقعية والمادية(1). إذ، كما أن الظواهر لا تحيل إلى (نومن) قائم وراء عالم الظواهر كما زعم كنط(2)، كذلك الشعور ليس صفحة بيضاء تنطبع فيها الأشياء على شكل أحاسيس هي أفكارنا كما تزعم التجربية مع لوك، وليس جوهراً كما يزعم ديكارت، وليس ملء الوجود كما يزعم برغسون وتزعم الفلسفات الروحية، وليس انعكاساً للتحولات الخارجية، كما تزعم الماركسية في الشكل الذي أورثه انجلز لخلفائه.

إن سارتر يرفض دفعة واحدة كل هذه المذاهب، ويعتقد أنه فنَّدها وحلَّ إشكالاتها بنظرية جديدة في الشعور، هي واحد من أركان فلسفته، وخلاصتها:

ليس الشعور شيئاً بين الأشياء (ليس جوهراً، ليس قوة، الخ) بل هو لا وجود يحيا من الموجودات، أو هو عدم يتغذى من الأشياء، إن صح التعبير (30) وطالما أنه على هذا الشكل، فلا توجد بينه وبين الأشياء فسحة فاصلة، ولا يمكن أن ينشأ بينه وبينها تعارض ما. فمشكلة المعرفة في شكلها التقليدي إذاً مشكلة زائفة. "إن المعرفة تضعنا في حضرة المطلق" (375).

ولكن الشعور ليس مرآة عاكسة، بل هو، كما يقول سارتر "انعكاس-عاكس"(1) لأنه في الوقت الذي يتلقى الأشياء، تلك التي تنعكس فيه، ينفلت منها بإعدامه (Néantisation)إياها. تلك هي فعاليته الخاصة والمميزة أن يُعدم (ينفي نفياً فعالاً) الظواهر، إذ بهذا يمكن أن تبدو له، ويمكنه أن يرتبها في عالم إنساني ذي معنى. ويوضح سارتر معنى الإعدام في المثال التالي فيقول ما خلاصته:

يخيل لنا أن الامتلاء في كل مكان. ولكن حين ادخل المقهى باحثاً عن بطرس (زيد من الناس) تتوثب الأشياء أرضية فيها يجب أن يبدو بطرس كشكل. وهذا الترتيب إعدام أول، إذ فيه تتلاشى الأشياء ومن ثم الوجوه وتنحل في كل لا معين هو شرط تجلي الإنسان الذي أبحث عنه. فإذا ما عثرت عليه ترتب المقهى حوله في حضور يظهر ويتلاشى في آن واحد. وإذا لم أعثر عليه فغيابه ليس هنا وهناك: إن بطرس غائب من المقهى كله. وغيابه ما يبرح يعدم أشياء المقهى. وهكذا يصبح بطرس كعدم شكلاً –أو يصبح العدم شكلاً- يتبدى على أساس من الإعدام المستمر. فالقضية (بطرس ليس هناك) هي إذاً حكم عقلي نطلقه في حدس لإعدام مزدوج (59-60).

ونقول بتعبير لحد ما أرسططالي- هيجلي: إن الإعدام هو مبدأ حركة الشعور وبه يدخل العدم على الوجود فيحركه ضمن إطار الشعور كما سنرى.

إن حادثة الإعدام هذه أولى انطولوجياً في نظر سارتر، أي لها سمعة المطلق إذا جاز لنا أن نطبق هذه المفهوم الكلاسيكي على فلسفة سارتر، أي لها سمعة المطلق إذا جاز لنا أن نطبق هذه المفهوم الكلاسيكي على فلسفة سارتر، وبهذه الحادثة يصبح الوجود –في ذاته- (الأشياء) إنسانياً، أي عالماً ذا مدلول بالنسبة للإنسان.

يقول سارتر: "اللاشيء هو الآنية (الواقع الإنساني) نفسها، على اعتبار أنه السلب الجذري الذي به ينكشف العالم" (317-318)(1).

ويقول أيضاً: الآنية في الوجود من حيث إنه في وجوده ومن أجل وجوده هو الأساس الوحيد للعدم في حضن الوجود"(160)

ويقول أخيراً: "إن انبثاق الإنسان وسط الوجود.. يجعل العالم ينكشف. لكن اللحظة الجوهرية الأصلية لهذا الانبثاق هي السلب.. إن الإنسان هو الموجود الذي به يأتي العدم إلى العالم"(80)

بالإعدام ينسلخ الشعور عن الأشياء، كما ينسلخ عن ماضيه؛ أي عن كل ما له صفة الوجود السابق، فيقيم بينه وبين موضوعه فسحة تفصل وتجمع في الوقت ذاته بينهما، وهذه الفسحة هي العدم.

وكما أن الشعور يعدم موضوعه فهو يُعدم ذاته. يقول سارتر: الوجود الذي به يأتي العدم إلى العالم "ينبغي أن يعدم العدم في وجوده" أي أن يكون عدم ذاته (78). وبهذا المعنى يطلق سارتر على الشعور اسم (الموجود-لأجل ذاته). والخط (-)، في لغة ساتر وهيدجر إلى أن الارتباط الوثيق بين الحدين لا يمكن أن يتحول إلى اتحاد. وهذا هو أحد الفروق الأساسية بين هذين الفيلسوفين وبين الفلسفة الكلاسيكية المنبثقة عن أرسطو. فهذه تقوم على أولوية الجوهر (الموجود الفردي) بينما تقوم تلك على أولوية العلاقة.

ولهذا نرى الشعور في حركة مستمرة تدفعه بآن واحد نحو الأشياء ونحو ذاته دون أن يستطيع الاتحاد بأحدهما.

هذه الحركة هي ما يسميه سارتر (العلو Transcendance) أو كما يقال أيضاً، (التعالي)، وهي من بنية الشعور، أو هي بنيته الأساسية إذا صح وكانت له بنية. وبهذا المعنى يقول سارتر: "العلو تركيب مؤلف للشعور"(38).

من المعلوم إن الفينومينولوجيا تقوم على مبدأ (القصد intentiona ité) التي تشير في مدلولها اللاتيني (in-tentio) إلى الاتجاه نحو، أو التطلع نحو. ومثلها كلمة (ex-tase): الخروج من الذات، أو أن يوجد الإنسان خارج ذاته. والكلمتان مرادفتان، إلى حد بعيد، لكلمة (علو)أو (تعالي).

ويقرن سارتر بين حركتي العلو والإعدام، كما يقرن الاثنتين بالوجود والمعرفة عندما يكتب: "إن المعرفة في النهاية، والعارف نفسه ليسا إلا واقعة: إن ثم وجوداً، وإن الوجود في ذاته يتراءى ويبرز على أساس هذا العدم.. إن المعرفة لا تضيف شيئاً إلى الوجود ولا تخلق شيئاً، وبها لا يثرى الوجود، لأن المعرفة سكبيةخالصة. إنها تجعل فقط أن ثم وجوداً ويضيف بعدها: "ونحن نطلق كلمة (علو) على ذلك السلب الباطل المحقق الذي يكشف عما هو في –ذاته، بتعيين ما هو من أجل- ذاته في وجوده" (315 وما يلي).

ويلتقي سارتر في نظرية المعرفة هذه مع أفلاطون وديكارت �