http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة

الكتاب : االمثل في تفسير كتاب اللهالمنزل

المؤلف :الشيخ ناصر مكارم الشيرازي20عدد األجزاء :

مصدر الكتاب :الموقع الرسمي للمؤلفhttp://www.makaremshirazi.org/bo

oks/arabic.htm] الكتاب مرقم آليا موافق للمطبوع[

-79األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ )أو إخوانهن(.6 ـ )أو بني إخوانهن(.7 ـ )أو بني أخواتهن(.8 ـ )أو نسائهن(.9

ـ )أو ما ملكت أيمانهن(.10 ـ )أو التابعين غير أولي اإلربة من الرجال( أي11

الرجال الذين ال رغبة جنسية عندهم أصال بالعنن أوبمرض غيره.

ـ )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات12النساء(.

ـ وتبين اآلية رابع األحكام فتقول )وال يضربن4 بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن( أي على النساء

أن يتحفظن كثيرا، ويحفظن عفتهن، ويبتعدن عن كل شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال، حتى ال

يتهمن باإلنحراف عن طريق العفة. ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدة بحيث ال يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم، وهذا كله يؤكد دقة

نظر اإلسالم إلى هذه األمور. وإنتهت اآلية بدعوة جميع المؤمنين رجاال ونساء إلى

التوبة والعودة إلى الله ليفلحوا )وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون( وتوبوا أيها

الناس مما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال، بعدما اطلعتم على حقائق األحكام اإلسالمية، وعودوا إلى

الله لتفلحوا، فال نجاة لكم من كل اإلنحرافات الخطرة إال بلطف من الله ورحمته، فسلموا أمركم

إليه! صحيح أنه ال معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه

المسألة ـ قبل نزول هذه األحكام من الله، إال أننا نعلم بأن قسما من المسائل الخاصة باإلنحطاط

الخلقي ذا جانب عقالني وكما في اإلصطالح أنها من »المستقالت العقلية« ويكفي لوحده في تحديد

المسؤولية.* * *

(11/79)

-80األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بحوث

ـ فلسفة الحجاب1 مما ال شك فيه أن الحديث عن الحجاب للمتغربين

في عصرنا الذي سموه بعصر التعري والحرية الجنسية، ليس حديثا سارا حيث يتصورونه أسطوره

يعود لعصور خلت. إال أن الفساد الذي ال حد له، والمشاكل المتزايدة

والناتجة عن هذه الحريات التي ال قيد لها والحدود،أدى بالتدريج إلى ايجاد األذن الصاغية لهذا الحديث.

وقد تم حل كثير من القضايا في بيئات إسالمية ودينية أخرى، خاصة في أجواء إيران بعد الثورة

اإلسالمية، وأجيب عن الكثير من هذه األسئلة بشكلمقنع.

ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذهالقضية بحثا واسعا وعميقا.

والقضية المطروحة )نقولها مع اإلعتذار(: هل من الصحيح أن تستغل النساء للتلذذ من جانب الرجال

عن طريق السمع والنظر واللمس )باستثناء المجامعة( وأن يكن تحت تصرف جميع الرجال، أو أن

تكون هذه األمور خاصة ألزواجهن؟ إن النقاش يدور حول هذا السؤال: هل يجب بقاء النساء في سباق ال نهاية له في عرض أجسامهن،

وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه األمور من أجواء المجتمع، وتخصيصها باألسرة

والحياة الزوجية؟! اإلسالم يساند األسلوب الثاني. ويعتبر الحجاب جزءا

من هذا األسلوب، في الوقت الذي يساند فيهالغربيون والمتغربون الشهوانيون األسلوب األول!

يقول اإلسالم: إن األمور الجنسية سواء كانت مجامعة أو استلذاذا عن طريق السمع أو البصر أو

اللمس خاص باألزواج، ومحرم على غيرهم، ألن ذلك يؤدي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، وعبارة )ذلك

أزكى لكم( التي جاءت في اآلية

(11/80)

-81األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إن فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد لألسبابالتالية:

ـ إن تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ1 وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خاصة الشباب ـ ويحطم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج

العصبي، وأحيانا يكون ذلك مصدرا لألمراض النفسية، فأعصاب اإلنسان محدودة التحمل، وال تتمكن من

اإلستمرار في حالة الهيجان؟ ألم يقل أطباء علم النفس بأن هذه الحالة من

الهيجان المستمر سبب لألمراض النفسية؟ خاصة إذا الحظنا أن الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز

في اإلنسان وأكثرها عمقا، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل:

إن وراء كل حادثة مهمة امرأة!أليس إثارة الغرائز الجنسية لعبا بالنار؟

وهل هذا العمل عقالني؟ اإلسالم يريد للرجال والنساء المسلمين نفسا

مطمئنة وأعصابا سليمة ونظرا وسماعا طاهرين،وهذه واحدة من فلسفات الحجاب.

ـ تبين إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطالق وتفكك2 األسرة في العالم، بسبب زيادة التعري، ألن الناس

أتباع الهوى غالبا، وهكذا يتحول حب الرجل من امرأةإلى أخرى، كل يوم، بل كل ساعة.

أما في البيئة التي يسودها الحجاب )والتعاليم اإلسالمية األخرى( فالعالقة وثيقة بين الزوج

وزوجته، ومشاعرهما وحبهما مشترك. وأما في سوق التعري والحرية الجنسية، حيث المرأة

سلعة تباع وتشترى، أو في أقل تقدير موضع نظر

وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته، وتنهار أسس األسر بسرعة كانهيار بيت العنكبوت،

ويتحمل هذه المصيبة األبناء

(11/81)

-82األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان األسرة.

ـ انتشار الفحشاء وازدياد األبناء غير الشرعين3 يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب، وال حاجة إلى

إحصائية بهذا الصدد، فشواهدها ظاهرة في المجتمعالغربي، واضحة بدرجة ال تحتاج إلى بيان.

ال نقول: إن السبب الرئيسي في إزدياد الفحشاء واألبناء غيرالشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب وعدم

الستر، وال نقول: إن اإلستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي فيه، بل نقول:

إن التعري من األسباب القوية لذلك. وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد األبناء غير

الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعاتالبشرية قديما وحديثا.

وبهذا تتضح األبعاد الخطرة لهذه القضية. وعندما نسمع أن الوالدات غير الشرعية في بريطانيا

بلغت بحسب إحصائياتهم خمسمائة ألف طفل كل عام، وأن علماءها حذروا المسؤولين من مغبة هذا

الوضع، ليس ألنه ـ كما يقولون ـ بسبب مخالفته للقضايا األخالقية والدينية، وإنما بسبب الخطر الذي أوجده هؤالء األبناء ألمن المجتمع، فقد وجدوا أنهم يمثلون القسم األعظم من ملفات القضايا الخاصة

بالجرائم. ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية، وأنها كارثة حتى

للذين ال يؤمنون بدين وال يهتمون بأخالق. وكلما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اتسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر عليها، وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور

األعمال المنافية للعفة، وتفشي اإلهمال في العمل والتأخر، وعدم الشعور بالمسؤولية، في المدارس

المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها الرجالوالنساء بشكل مختلط.

(11/82)

-83األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ قضية »ابتذال المرأة« وسقوط شخصيتها في4

المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة ال تحتاج إلى أرقام، فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة، فمن

الطبيعي أن يتبعه طلبها الدوات التجميل والتظاهر الفاضح واإلنحدار السلوكي، وتسقط شخصية المرأة

في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلهاوسيلة إعالمية يروج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كل قيمتها اإلنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنه المصدر الوحيد لفخرها

وشرفها، حتى ال يبقى لها من إنسانيتها سوى أنها أداة إلتباع شهوات اآلخرين، الوحوش الكاسرة في

صور البشر! كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علميا

وتسمو أخالقيا؟! ومن المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن، وتشتهر وتكسب المال الوفير، وتنحط إلى حد اإلبتذال في المجتمع، ليرحب بها مسيرو هذا المجتمع المنحط

خلقيا، في المهرجانات والحفالت الساهرة؟! هكذا حال المرأة في المجتمع الغربي، وقد كان

مجتمعنا قبل انتصار الثورة اإلسالمية كذلك، ونشكر الله على إنهاء تلك المظاهر المنحطة في بالدنا بعد تأسيس الجمهورية اإلسالمية، فقد عادت المرأة إلى

مكانتها السامية التي أرادها الله لها، وها هي ذي تمارس دورا إيجابيا في المجتمع مع محافظتها على

حجابها اإلسالمي، حتى أنها ساهمت بشكل فعال خلف جبهات الحرب بمختلف األعمال لدعم الجبهة

والجهاد في سبيل الله. وكان هذا جانبا من الفلسفة الحيوية لموضوع

الحجاب في اإلسالم. وهو ينسجم مع تفسيرنا.اإلشكال الذي يورده معارضو الحجاب:

نصل هنا إلى اإلنتقادات التي يطرحها معارضوالحجاب، فنبحثها بشكل

(11/83)

-84األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مضغوط:

ـ أهم اإلنتقادات التي يذكرها معارضو الحجاب أن1 النساء يشكلن نصف المجتمع، والحجاب يجعلهن في

معزل عن المجتمع، ويكون ذلك سببا في تأخرهن الثقافي، وانعدام اإلستفادة من هذه الطاقات

العظيمة في ازدهار اإلقتصاد. وإذا شغر مكانهن في المنشئات الثقافية واإلجتماعية أصبحن مواد

استهالكية ليست بذات جدوى للمجتمع. إال أن هؤالء المتمسكين بهذا المنطق غفلوا عن عدة

أمور، أو تغافلوا عنها، لألسباب التالية: ـ أوال: من الذي قال: إن الحجاب اإلسالمي يعزل

المرأة عن المجتمع؟ لئن صعب علينا الجواب عن هذا السؤال في السابق، فما نظن أننا بعد قيام الجمهورية اإلسالمية المباركة

بحاجة إلى دليل على نهضة المرأة نهضة كريمة ومشاركتها في تشييد المجتمع اإلسالمي المنشود

مشاركة تحقق النفع للمرأة واألسره والحكومة واألمة، فهي مسؤولة في الدوائر والمصانع

والمتاجر، وفي النشاط السياسي في المسيرات والمظاهرات، في اإلذاعة والتلفزيون، وفي المراكز

الصحية ـ خاصة في معالجة جرحي الحرب ـ وفي المدارس والجامعات، حتى في ساحة الحرب

ومجاهدة العدو. وباختصار: إن الواقع اإلجتماعي في بلدنا خير جواب

عن هذا السؤال: وإذ كنا نتحدث في السابق عن إمكانية حدوث ذلك، فإننا اليوم نراه ماثال بين أعيننا.

وكما يقول الفالسفة: خير دليل على إمكان وجودالشيء حدوثه، وال حاجة للبرهنة على وجود الواقع. ثانيا: إضافة إلى ذلك، أال تعتبر إدارة المنزل وتربية

األبناء األصحاء رجال المستقبل ـ الذين يديرون عجلةاإلقتصاد والسياسة في البالد ـ عمال؟

إن الذين ال يعدون هذه المسؤولية للمرأة أمرا ايجابياجاهلون بحقيقة دور

(11/84)

-85األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - المرأة في األسرة وفي التربية، وفي بناء مجتمع

سليم فعال، بل ال يعترفون إال بمغادرة الرجال والنساء المنازل صباحا ـ كالغربيين ـ ليلتحقوا

بالدوائر والمصانع. ويجعلون أبناءهم تحت رعاية اآلخرين، في دور الحضانة، أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية، حتى يعود الوالدان

من العمل وقد أرهقهما التعب! هؤالء غافلون عن أن إفتقاد األطفال للرعاية والعطف، يؤدي إلى تحطم شخصيتهم ويعرض

المجتمع إلى الخطر. ـ كما يتذرع معارضو الحجاب بادعائهم بأنه يعوق2

المرأة عن نشاطها اإلجتماعي وال ينسجم مع العصر الحديث، ويقولون: كيف تحفظ المرأة حجابها

وطفلها وعملها في آن واحد؟! إنهم غافلون عن أن الحجاب ليس العباءة ونحوها، بل هو غطاء الجسم، فإن تسنى للمرأة اإلحتجاب

بالعباءة فذلك حسن، وإال كفاها غطاء الرأس واللباس المحتشم حجابا. وقد لبت نساؤنا الريفيات

وخاصة العامالت ـ في مزارع الرز المملوكة لعوائلهن ـ هذا اللباس، حيث يمارسن الحراثة والبذار

واإلهتمام بالزرع ثم حصاده، وبرهن عمليا على إمكانية محافظة المرأة على حجابها دون أن يمنع

ذلك ممارستها ال شق األعمال. ـ يعترض المخالفون للحجاب قائلين: إن الحجاب3

يفصل بين الرجال والنساء، ويزيد في حرص الرجال بدال من إخماد هذا الحرص، ألن )المرء حريص على ما

منع(. وهذه سفسطة واضحة، فلو قارن المرء بين مجتمعنا

على عهد الطاغوت واليوم لتجلى له الحق صريحا، فباألمس كان نزع الحجاب إجباريا، واليوم يسود

الحجاب اإلسالمي مجتمعنا كله، والفساد كان ينتشر باألمس في كل أنحاء البالد، ويسيطر التسيب على معظم األسر، ويزداد الطالق بنسبة عالية، وترتفع

نسبة

(11/85)

-86األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - المواليد غير الشرعية، وآالف المصائب األخرى. ونحن ال نجزم بأن كل الفساد قد زال في بالدنا

واقتلعت جذوره، إال أنه مما ال شك فيه أنه قد انخفض بدرجة كبيرة، واستعاد مجتمعنا سالمته بدرجة

كبيرة. وإذا استمر الوضع على هذا المنوال بعون من الله،

فإننا سنتمكن من حل جميع المشاكل. ويبلغ مجتمعنا مرتبة الطهارة الكاملة، ويحفظ للمرأة مكانتها

الرفيعة. ـ استثناء الوجه والكفين2

هناك اختالف في الرأي بين الفقهاء حول شمول حكم حجاب الوجه والكفين من الرسغ إلى أطراف

األصابع، أم ال؟ الكثير من الفقهاء يرى أن تغطية الوجه والكفين مستثنى من حكم الحجاب، في الوقت الذي أفتى

آخرون بوجوب تغطيتها، أو في األقل احتاطوا في وجوب تغطيتها، وطبيعي أن القول باستثناء وجوب

الحجاب على الوجه والكفين هو في حالة عدم نشوبفساد، وإال فيجب تغطيتها.

وهناك قرائن في اآلية الشريفة تؤيد هذا اإلستثناءويؤيد الرأي األول:

أ ـ استثناء الزينة الظاهر في اآلية السابقة، سواء دلت على أنها تقصد موضع الزينة أو الزينة ذاتها،

تكشف عن عدم وجوب تغطية الوجه والكفين. ب ـ إن حكم اآلية السابقة بوجوب رمي أطراف خمار

المرأة على طرفي الياقة يفهم منه تغطية جميع أجزاء الرأس والرقبة والصدر. ولم يتحدث هذا الحكم

عن تغطية الوجه، وهذا دليل آخر على هذا الرأي. وإليضاح ذلك نقول: كانت بعض نساء العرب يلبسن

الخمار ويرمين طرفية على الكتفين بشكل تبقى الرقبة وجزء من الصدر مكشوفين، وقد أصلح

اإلسالم هذه الحالة، فأمر بتغطية الرقبة والصدربرمي طرفي الخمار على جانبي ياقة

(11/86)

-87األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -الثوب، لتبقى دائرة الوجه وحدها مكشوفة.

ج ـ كما جاءت أحاديث إسالمية عديدة في هذا المجال (مع وجود أحاديث معارضة لها،1تؤكد ما ذهبنا إليه)

ولكنها ليست بتلك الدرجة من الصراحة، والجمع بينهما بالقول باستحباب تغطية الوجه والكفين ـ عند

خشية الفساد واإلنحراف ـ أمر ممكن. كما تدل شواهد تاريخية على أن تغطية الوجه بقناع لم تكن

عامة في صدر اإلسالم )ذكر شرح مفصل فقهي وروائي عن هذه القضية في البحوث الفقهية عن

النكاح(. إال أننا نؤكد ثانية أن هذا الحكم في وقت ال يؤدي إلى

استغالل أو انحراف. كما يجب القول: إن استثناء الوجه والكفين من حكم الحجاب ال يعني جواز النظر بشكل عمومي من قبل

الرجال، وإنما هو نوع من التسهيالت التي منحتللمرأة في الحياة.

ـ ما المقصود من نسائهن؟3 ذكرنا في تفسير اآلية السابقة أن تاسع مجموعة

مستثناة باإلطالع على زينة النساء هن النساء األخريات، وبمالحظة عبارة »نسائهن« ندرك أنها

تقصد النساء المسلمات، وال يكشفن عن زينتهن لغير المسلمات، وفلسفة ذلك، أنه من المحتمل أن يصفن

ـ غير المسلمات ـ ألزواجهن ما شاهدنه من زينة النساء المسلمات. وهذا ليس عمال صائبا من قبل

المسلمات. وروي عن اإلمام الصادق)عليه السالم( في كتاب

)من ال يحضره الفقيه(: »ال ينبغي للمرأة أن تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك

(.2ألزواجهن«)--- ،145، صفحة 14 ـ كتاب وسائل الشيعة، المجلد 1

، من أبواب مقدمات النكاح.109الباب ـ من ال يحضره الفقيه، حسبما ذكره تفسير نور2

.593، صفحة 3الثقلين، المجلد

(11/87)

-88األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ تفسير عبارة )أو ما ملكت أيمانهن(4

لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع، ويدل على أنه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور عبدها، إال

أن بعض األحاديث صرحت بأن ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لوكن غير مسلمات، وال

يشمل هذا الحكم العبيد. ففي حديث لإلمام أميرالمؤمنين علي)عليه السالم(: »ال ينظر العبد إلى

(.1شعر سيدته«) ويستفاد من أحاديث أخرى تعميم هذا الحكم على

الجواري والعبيد، إال أن ذلك خالفا لإلحتياط. ـ تفسير )أولي اإلربة من الرجال(5

»اإلربة« في األصل مشتقة من »أرب« على وزن »عرب« وكما يقول الراغب األصفهاني في مفرداته،

شدة الحاجة التي تدفع باإلنسان إلى إيجاد حل لها. كما استعملت بمعنى الحاجة بشكل عام. والقصد هنا

من »أولي اإلربة من الرجال« الذين لهم رغبة جنسية وهم بحاجة إلى زوجة، وعلى هذا، فإن »غير أولي

اإلربة« هم الرجال الذين ال رغبة جنسية لديهم أصال.ولكن من المقصود بذلك؟

هنالك اختالف بين المفسرين. قال البعض منهم: إنهم كبار السن الذين خمد لديهم

دافع الشهوة الجنسية، )كالقواعد من النساء والنسوة الالتي تجاوزت أعمارهن حد الزواج وهن

كالمتقاعدات في هذا المجال(.وقال آخرون: إن المقصود هو الخصي من الرجال.

وقال بعض المفسرين: إنه الرجل الخنثى، أي: الذيال يمتلك آلة الرجولة.

--- ، من مقدمات النكاح،124 ـ وسائل الشيعة، الباب 1

الحديث الثامن.

(11/88)

-89األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إال أن التفسير الذي يمكن اإلعتماد عليه. هو الذي

جاء في أحاديث مؤكدة عن اإلمامين الباقر والصادق)عليهما السالم(: »هو األحمق الذي ال يأتي

النساء« من أن القصد هنا هو األبلة من الرجال الذي ال يحس برغبة جنسية أبدا، ويستفاد منهم في

األعمال البسيطة وخدمة األفراد، وعبارة »التابعين«(.1تؤكد هذا المعنى)

وبما أن هذا الوصف ـ أي عدم الشعور بالرغبة الجنسية ـ فئة خاصة من المسنين يصدق على. فال

نستبعد إمكانية توسعة مفهوم اآلية ليشمل هذه الفئة، وقد روي حديث عن اإلمام الكاظم)عليه

السالم( يؤكد ذلك، بيد أن ذلك ال يعني أنهم يصبحون من المحارم، غاية األمر هو عدم وجوب تغطية الرأس

أو جزء من اليدين بحضور هذه المجموعة. ـ أي طفل مستثنى من هذا الحكم؟6

ذكرنا أن المجموعة الثانية عشرة ـ أي األطفال الذينلم يبلغوا الحلم ـ مستثنون من حكم الحجاب.

وعبارة »لم يظهروا« تعني أحيانا »لم يطلعوا« وأحيانا أخرى »لم يعتدوا« ألنها جاءت بهذين

المعنيين، حيث استعملها القرآن مرة بهذا المعنى،وأخرى بالمعنى الثاني، ومثال ذلك ما جاء في اآليه )

( من سورة الكهف )وأن يظهروا عليكم20يرجموكم(.

ونقرأ في اآلية الثانية من سورة التوبة )كيف وأنيظهروا عليكم ال يرقبوا فيكم إال وال ذمة(.

إال أن هذا الفرق ليس له أثر كبير بالنسبة لآلية موضع البحث. حيث المقصود فيها األطفال الذين ليس لهم ميول جنسية، بسبب عدم قدرتهم وعدم

اطالعهم--- ،29 ـ لتوضح أكثر يراجع جواهر الكالم، المجلد 1

، من مقدمات111، وكذلك الوسائل الباب 94صفحة ( وكذلك التهذيب المجلد148، ص 14النكاح )المجلد .468السابع، صفحة

(11/89)

-90األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وعلى هذا يجب على النساء المسلمات أن يتحجبن

بحضور األطفال الذين بلغوا مرحلة برزت فيهارغبتهم الجنسية وقدرتهم على ذلك.

ـ لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم؟7 يطرح هذا السؤال بعد دراسة اآليات السابقة: لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم ـ قط ـ وهم من

المحارم؟ ربما كان القرآن قد استهدف البالغة في تعابيره

بعدم ذكر أية كلمة إضافية، فقد دل استثناء ابن األخ وابن األخت على أن العمة والخالة تعتبران من

محارم الرجل، ويتضح بذلك أن العم والخال إلحدىالنساء هما من محارمها.

وبعبارة أخرى: إن الحرمة ذات جانبين، فمن جهة بنات األخت وبنات األخ من محارم الرجال، وإنه من الطبيعي سيكون من الجهة الثانية العم والخال من

المحارم »فتدبر«. ـ تحريم سبل اإلثارة!8

آخر كالم في هذا المجال هو أن اآلية السابقة نصت على حرمة المشي بقوة من قبل النساء ليسمعن

صوت الخلخال. وهذا يدل على دقة األحكام اإلسالمية ومبلغ اهتمامها

بالقضايا الخاصة بعفة الناس وشرفهم، بحيث اليسمح معها بالقيام بمثل هذه األعمال.

ومن البداهة أن ال يسمح اإلسالم بإثارة شهوات الشباب، عن طريق نشر الصور الخالعية، واألفالم

المثيرة للشهوات، والقصص والروايات الجنسية، وال ريب في أن البيئة اإلسالمية يجب أن تكون طاهرة

سليمة من هذه األمور التي تجر أفرادها إلى مهاوي الفساد وظلماته، وتدفع بالشباب والشابات نحو

اإلنحطاط الخلقي والرذيلة.* * *

(11/90)

-91األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

لحين من عبادكم وإمآئكم وأنكحوا االيمى منكم والص إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله وسع

(وليستعفف الذين اليجدون نكاحا حتى32عليم )ا يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتب مم

ملكت أيمنكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراال الله الذى ءاتاكم وال تكرهوا فتيتكم وءاتوهم من منا لتبتغوا عرض الحيوة الدنيا على البغآء إن أردن تحصحيم) ومن يكرههن فإن الله من بعد إكرههن غفور ر

ن الذين33 بينت ومثال م ( ولقد أنزلنآ إليكم ءايت م(34خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)

التفسيرالترغيب في زواج يسير التكاليف:

طرحت هذه اآلية ـ منذ بدايتها حتى اآلن ـ سبال أمينة متعددة للحيلولة دون اإلنحطاط الخلقي والفساد،

فكل واحد من هذه السبل يرتقي باألمة فردا وجماعة

(11/91)

-92األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إلى عالم أرحب من الطهر واإلستقامة، ويحول دون

تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرذيلة، وقد أشارت اآليات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة

الفحشاء، أال وهو الزواج اليسير الذي يتم بعيدا عن أجواء الرياء والبذخ، ألن إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل القتالع جذور الذنوب، أو بعبارة

أخرى: كل مكافحة سلبية البد أن ترافقها مكافحةإبجابية.

لهذا تقول بداية اآلية موضع البحث: )وانكحوا االيامىمنكم والصالحين من عبادكم وإمائكم(.

و»األيامى« جمع »أيم« على وزن »قيم« وتعني في األصل المرأة التي ال زوج لها، وكذلك تطلق هذه

الكلمة على الرجل الذي ال زوجة له، فيدخل في هذا المفهوم كل من ليس له زوج، سواء كان بكرا أم

ثيبا. وعبارة »أنكحوا« أي »زوجوا« ـ وبما أن الزواج يتم

بالتراضي وحرية اإلختيار الطرفين، فالمراد من هذا األمر بالتزويج التمهيد للزواج، عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة، أو العثور على زوجة

مناسبة، أو التشجيع على الزواج واإلستفادة منوساطة األشخاص لحل المشاكل المستجدة.

وباختصار: إن مفهوم اآلية واسع، حتى أنه ليضم كل خطوة وحديث في هذا المجال. وال اختالف في أن

أصل التعاون اإلسالمي يوجب تقديم العون من قبلالمسلمين بعضهم لبعض.

وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكد أهمية الزواج الخاصة. وهي أهمية بالغة المدى، إذ ورد حديث بصددها عن

أمير المؤمنين علي)عليه السالم( قوله: »أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع

(1الله بينهما«.) وجاء في حديث آخر عن اإلمام موسى الكاظم)عليه

السالم( قوله: »ثالثة يستظلون--- 12 )الباب 27، صفحة 14 ـ وسائل الشيعة، المجلد 1

من أبواب مقدمات النكاح(.

(11/92)

-93األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بظل عرش الله يوم القيامة، يوم ال ظل إال ظله،

رجل زوج أخاه المسلم، أو خدمه، أو كتم له سرا«)1.)

كما جاء في حديث عن الرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( قوله في الذي يسعى لزواج أخيه

المسلم »كان له بكل خطوة خطاها، أو بكل كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام

(.2نهارها«) وبما أن بعض اإلعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفر

اإلمكانات الالزمة قد تقف حائال دون الزواج، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل األسرة. يقول القرآن

بهذا الصدد: )إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضلهإن الله واسع عليم(.

إن قدرة الله واسعة سعة تشمل عالم الوجود كله، وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من المقاصد

واألفعال، خاصة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم، وبهذا يشمل الله

الجميع بفضله وكرمه. ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل، وسنذكر أحاديث

عديدة في نهاية هذا البحث. ولكن أحيانا بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما ال يفلحون في ذلك، مما

يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروما من الزواج، ولكي ال يظن أن إقدامه على الفساد أمرا مباحا تقتضيه الضرورة أسرعت اآلية التالية لتأمره

بالطهارة والعفة فقالت: )وليستعفف الذين اليجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله(.

فيجب عليه تجنب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأزمة ومواجهة االمتحان اإللهي، حيث ال يقبل أي

عذر منه، فالبد أن يمتحن قوة إيمانه وشخصيتهوتقواه في هذه المرحلة.

--- 12 )الباب 27، صفحة 14 ـ وسائل الشيعة، المجلد 1

من أبواب مقدمات النكاح(. ـ المصدر السابق.2

(11/93)

-94األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ويهتم اإلسالم كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعيا من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن المجيد مسألة

المكاتبة )وهي تعهد الغالم بتوقيعه إتفاقا ينص على القيام بعمل معين أو دفع مبلغ مقابل عتقه(، فتقول

اآلية )والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكمفكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا(.

وتقصد عبارة )علمتم فيهم خيرا( أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صالحية إلبرام العقد،

وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به. أما إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه، فال

ينبغي مكاتبتهم وعتقهم، ألن في ذلك ضررا عليهم وعلى المجتمع، فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر

يؤهلهم من حيث القدرة والصالحية، وألجل أال يقع العبيد في مشاكل ال يتمكنون من حلها ويعجزون عن

تسديد ما بذمتهم، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول: )وآتوهم من مال الله الذي

آتاكم(. هناك اختالف حول هذا المال بين المفسرين: فقال

عدد كبير منهم: ـ إنه حصة من الزكاة، مثلما نصت ( من سورة التوبة. ليتمكن العبيد من60عليه اآلية )

الوفاء بدينهم وانعتاقهم. وقال آخرون: على مالك الغالم أن يتبرع بقسم من أقساط الدين، أو يساعده بإعادته إليه، ليتمكن من

الحياة الحرة. كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغا لإلنفاق، أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من

التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخاصة، ودفع األقساط التي بذمتهم، وطبيعي أن التفاسير الثالثة

هذه غير متناقضة. ويمكن لآلية السابقة أن تستوعبهاجميعا.

والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت

ممكن. وروي عن اإلمام الصادق)عليه السالم( في تفسير

هذه اآلية: »تضع عنه من نجومه

(11/94)

-95األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - التي لم تكن تريد أن تنقصه، وال تزيد فوق ما في

(.1نفسك«) إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر مما يعطونهم، ويتظاهرون بمساعدتهم. وقد نهى اإلمام الصادق)عليه السالم( عن ذلك مبينا

أنه يجب أن يكون التخفيض حقيقيا. وعقبت هذه اآلية بإشارة إلى أحد األعمال القبيحة

التي كان يمارسها عباد الدنيا إزاء جواريهم: )وال تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا

عرض الحياة الدنيا(. قال بعض المفسرين في سبب نزول هذه اآلية: كان عبدالله بن أبي يملك ست جوار يجبرهن على البغاء،

وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وعرضن

شكواهن على سيدهن عنده، فنزلت اآلية أعاله ونهت(.2عن ارتكاب هذا اإلثم)

وهذه اآلية تكشف عن مدى الرذيلة واإلنحطاط الخلقي الذي كان سائدا في عهد الجاهليه. وقد

واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور اإلسالم، حتى نزلت اآلية السابقة، وأنهت هذه

األعمال. ومع بالغ األسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية

القرن العشرين، تمارس البشرية هذا العمل بقوه وعلى قدم وساق في بلدان تدعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق اإلنسان. وكذلك كان الوضع في بالدنا على عهد الطاغوت، إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة، وكان البعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهالت، ويدفع بهن إلى مراكز

الفساد، ويجبرهن على القيام بأعمال الرذيلة والفساد، ويغلق أبواب النجاة بوجوههن ليجني

ثروات طائلة وتفصيل الكالم في ذلك مؤلم وخارجعن عهدة هذا الكتاب.

---.601 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 1 ـ مجمع البيان في تفسير آخر اآلية موضع البحث،2

وتفسير القرطبي )مع بعض اإلختالف(.

(11/95)

-96األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وبالرغم من أن العالم المعاصر يدعي التحضر وإزالة

معالم العبودية القديمة، إال أن الجرائم والمفاسد الخلقية تشيع بشكل أكثر توحشا من كل ما حدث في

غابر األيام، ونسأل الله أن يحفظ اإلنسانية من شر هؤالء الذين يدعون التمدن. كما نحمده ونشكره على

زوال هذه المعالم من إيران بعيد انتصار الثورةاإلسالمية.

وجدير بالذكر أن عبارة )إن أردن تحصنا( ال تعني في مفهومها أنهن إن رغبن في الفساد فال مانع من

إجبارهن، بل تعني نفي الموضوع بشكل تام من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، ألن مسألة اإلكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه. وإال فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة كانت هو من كبائر

الذنوب. وجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن

كان لهم أدنى غيرة، ومفهومها أن الجواري مع أنهن من الطبقة الدانية ولكن ال يرغبن في ارتكاب

الفاحشة. فلماذا ترتكبون هذه األعمال المنحطة علىالرغم من تصوركم أنكم طبقة راقية؟

وفي الختام ـ على حسب األسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين، ويشجعهم على إصالح

أنفسهم: )ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههنغفور رحيم(.

ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين مالك الجواري الذين غلب عليهم

الندم، واستعدوا للتوبة وإصالح أنفسهم. أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي

يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسيادهن. وعلى نهج القرآن، نجد آخر اآليات ـ موضع البحث ـ

تستنتج وتلخص الموضوع المطروح خالل إشارتها إلى البحوث السابقة: )ولقد أنزلنا إليكم آيات

مبينات( وكذلك دروس وعبر من االقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا: )ومثال من الذين خلوا من

قبلكم وموعظة للمتقين(.* * *

(11/96)

-97األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مسائل مهمة:

ـ الزواج سنة إلهية1 على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته األعراف اإلجتماعية من عادات

خاطئة وخرافية أحيانا، فأصبح طريقا صعبا ال يتمكن الشاب من سلوكه، فإنه لو اجتزنا هذه العراقيل

ألدركنا أن الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل اإلنسان، وسكن لروحه، وراحة لجسمه، وحل للمشاكل النفسية واإلجتماعية. فاإلسالم يخطو بانسجام مع الخلق، وله تعابير جميلة

مؤثرة، ومن جملتها حديث مشهور عن الرسول األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم(»تناكحوا

وتناسلوا تكثروا. فإني أباهي بكم األمم يوم القيامة(.1ولو بالسقط«)

ونقرأ حديثا آخر له)صلى الله عليه وآله وسلم( »من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف

(.2الباقي«) والسبب في كل هذا اإلهتمام هو أن الغريزة الجنسية

من أقوى وأشرس الغرائز في اإلنسان، وتنافس الغرائز األخرى بأجمعها، وانحرافها يعرض دين المرء

إلى الخطر، ولذا يعلو صوت حديث نبوي آخر: ( لهذا شجعت اآليات ـ موضع3»شراركم عزابكم«)

البحث ـ وأحاديث عديدة المسلمين على التعاون في تزويج العزاب، وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في

هذا السبيل. وقد حمل الدين اإلسالمي اآلباء مسؤولية كبيرة عن أبنائهم، واآلباء الذين يتصرفون دون مباالة إزاء هذه

القضية، فإنهم يشاركون في إنحراف أبنائهم. كما نقرأ في حديث للرسول األعظم)صلى الله عليه وآله

وسلم( »من أدرك له ولد وعنده ما يزوجه فلم--- )مادة561 ـ سفينة البحار، المجلد األول، صفحة 1

الزوج(. ـ المصدر السابق.2 ـ مجمع البيان، في تفسير اآلية موضع البحث.3

(11/97)

-98األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(.1يزوجه، فأحدث، فاإلثم بينهما!«)

وقد أكدت تعاليم اإلسالم ـ لهذا السبب أيضا ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر، إلزالة الحواجز من طريق العزاب. خاصة إذا علمنا أن المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العزاب. ففي حديث للرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( يقول:

(.2»من شؤم المرأة غالء مهرها«) وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق: »من

(.3شؤمها شدة مؤونتها«) وقد صرحت اآلية السابقة بأن الفقر ال يمكن أنيكون مانعا للزواج، وقد يغني الله المرء بالزواج.

وبهذا حكمت اآلية وأدانت الذين يفرون من الزواج بحجة أنهم فقراء، وال يتحملون هذه المسؤولية

اإللهية واإلنسانية، بأعذار واهية. والسبب في التأكيد على الزواج، هو أن المرء يشعر

بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة، فيزج قواه للكسب الحالل. بينما نجد العزاب في معظم الحاالت

مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية. والمتزوج يكتسب شخصية إجتماعية، حيث يجد نفسه مسؤوال

عن المحافظة على زوجته، وماء وجه أسرته، وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها. ويستغل المتزوج

جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلب على الفقر بأسرع وقت ممكن،

لهذا ذكر اإلمام الصادق)عليه السالم( »الرزق مع(.4النساء والعيال«)

جاء في حديث للرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( حين شكا رجل إليه فقره فأجابه)صلى الله

(.5عليه وآله وسلم(: »تزوج«. فتزوج فوسع له)--- ـ مجمع البيان في تفسير اآلية موضوع البحث.1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الخامس عشر، الباب2

.10الخامس من أبواب المهور صفحة ـ المصدر السابق.3.595 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 4 ،25 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرابع عشر، صفحة 5

»من أبواب مقدمات النكاح«.11الباب

(11/98)

-99األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وال جدال في أن اإلمدادات اإللهية والقوى الروحية

الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها. وعلى كل مؤمن أن يطمئن لما وعده الله،

فقد ذكر رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( »من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظنه بالله،وجل يقول: )أن يكونوا فقراء يغنهم الله إن الله عز

(.1من فضله() وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال، لو تناولناها

جميعا بالبحث لخرجنا عن بحثنا التفسيري هذا. ـ المراد من عبارة )والصالحين من عبادكم2

وإمائكم(.

مما يلفت النظر في اآليات موضع البحث أنها حين التحدث عن زواج الرجال والنساء األيامي تأمر بالتعجيل في الزواج، وعدم وضع العراقيل في

وجهه، أما بالنسبة للعبيد والجوارى، فتطلب توفرشرط الصالح فيهم للزواج.

وذهب عدد من المفسرين )كالكاتب العظيم صاحب تفسير الميزان، وكذلك صاحب تفسير الصافي( إلى صالحيتهم للزواج في حين أن هذا الشرط يجب أن

يتوفر في النساء والرجال األحرار أيضا. وقال البعض اآلخر: إنه يقصد الصالح من ناحية

األخالق والعقيدة، ألن الصالحين يتمتعون بمكانةخاصة من هذه الجهة، ولكن السؤال يبقى على حاله:

لماذا لم يرد هذا الشرط في االحرار؟ ويحتمل أن يكون المراد غير هذا: ـ إذ أن أكثر العبيد

في تلك الفترة في مستوى ثقافي وأخالقي واطيء، فال يشعرون بأية مسؤولية، وال يقدرون المشاعر

المشتركة في الحياة. فلو تزوجوا لتركوا زوجاتهم بسهولة، ومن هنا استوجبت اآلية التأكد من

صالحيتهم للزواج.--- ،24 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرابع عشر، صفحة 1

»من أبواب مقدمات النكاح«.10الباب

(11/99)

-100األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ومفهوم هذه اآلية أن يعدوا العبيد للزواج أوال

بتهذيب أخالقهم وزيادة صالحهم، ليكونوا بمستوىالمسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد الزواج.

ـ ما هو عقد المكاتبة؟3 قلنا: إن اإلسالم وضع برنامج التحرر التدريجي

للعبيد، واستفاد من كل فرصة لعتقهم، فكانت قضية »المكاتبة« حكما يجب اتباعه، كما نصت عليه اآليات

موضع البحث. وتشتق »المكاتبة« من الكتابة، والكتابة في األصل

مشتقة من »كتب« بمعنى »الجمع« أي: جمع الحروف والكلمات. وبما أن العقد بين المولى والعبد يتم بكتابة مواد يتفق عليها، فلذلك سميت »مكاتبة«.

فعقد المكاتبة نوع من اإلتفاقات يتم بين المولى وعبده، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من

عمل حر، ليدفع أقساطا لسيده، فاذا دفع آخر قسطينال حريته.

وأمر اإلسالم أال تتجاوز هذه األقساط ثمن العبدنفسه.

وإذا عجز العبد لسبب ما عن دفع األقساط المترتبة بذمته، وجب أن تسدد هذه األقساط من بيت المال أو

من الزكاة ليعتق، حتى أن بعض الفقهاء قال بصراحة: إذا تعلقت زكاة بذمة السيد، وجب عليه

احتساب هذه األقساط منها، وهذا العقد الزم التنفيذ،وال يمكن فسخه من أي طرف من طرفي العقد. ويتضح بذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيرا، ليعيشوا أحرارا مستقلين حتى في فترة

إعداد األقساط، كما أن أسيادهم ال يتضررون بذلك،فال يدفعهم هذا إلى إلحاق األذى بعبيدهم.

ولعقد المكاتبة أحكام وفروع عديدة مذكورة فيالكتب الفقهية في باب المكاتبة.

* * *

(11/100)

-101األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

موت واالرض مثل نوره كمشكوة فيها الله نور السى جاجة كأنها كوكب در مصباح المصباح فى زجاجة الز

بركة زيتونة ال شرقية وال غربية يوقد من شجرة م يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور

يهدى الله لنوره من يشآء ويضرب الله االمثل للناس ( فى بيوت أذن الله أن35والله بكل شىء عليم)

ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو ( رجال ال تلهيهم تجرة وال بيع عن ذكر36واالصال)

كوة يخافون يوما تتقلب لوة وإيتآء الز الله وإقام الص ( ليجزيهم الله أحسن ما37فيه القلوب واالبصر)

عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير(38حساب)التفسير

آية النور! تحدث الفالسفة والمفسرون والعرفاء االسالميون

كثيرا عن مقاصد اآليات

(11/101)

-102األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أعاله، وهي مرتبطة بما سبقها من اآليات الشريفة

التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلفالسبل.

وبما أن ضمانة تنفيذ األحكام اإللهية، وخاصة السيطرة على الغرائز الثائرة، وال سيما الغريزة

الجنسية التي هي أقوى الغرائز، ال تتم دون اإلستناد إلى اإليمان، ومن هنا إمتد البحث إلى اإليمان وأثره

القوي، فقالت اآلية أوال: )الله نور السمواتواألرض(.

ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إن الله نور السموات واألرض... النور الذي يغمر كل

شيء ويضيئه. ويرى بعض المفسرين أن كلمة »النور« تعني هنا

»الهادي«، وذهب البعض اآلخر أن المراد هو »المنير«. وفسرها آخرون بـ »زينة السماوات

واألرض«. وكل هذه المعاني صحيحة، سوى أن مفهوم هذه اآلية

أوسع بكثير مما ذكر، فالقرآن المجيد واألحاديثاإلسالمية فسرت النور بأشياء عدة منها:

( من سورة15 ـ »القرآن المجيد«: ـ ذكرت اآلية )1 المائدة: )قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين( وجاء

( من سورة األعراف )واتبعوا النور157في اآلية )الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون(.

( من سورة البقرة.257 ـ »اإليمان« ذكرت اآلية )2 )والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى

النور(. ( من122 ـ »الهداية اإللهية« مثلما جاء في اآلية )3

سورة األنعام )أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات

ليس بخارج منها(؟! ( من32 ـ »الدين اإلسالمي« كما نقرأ في اآلية )4

سورة التوبة: )ويأبى الله إال أن يتم نوره ولو كرهالكافرون(.

ـ النبي االكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( ـ نقرأ5 (46عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( في اآلية )

من سورة

(11/102)

-103األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -األحزاب: )وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا(.

ـ األئمة األطهار: كما جاء في الزيارة الجامعة لهم:6 »خلقكم الله أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين«. وكذلك

في نفس هذه الزيارة »وأنتم نور األخيار وهداةاألبرار«.

ف بالنور كما جاء في7 ـ »العلم والمعرفة« حيث عر الحديث المشهور »العلم نور يقدفه الله في قلب من

يشاء«. كل هذه من جهة، ومن الجهة األخرى علينا التدقيق

في خصائص النور وميزانه، ليتضح أنه يمتاز بما يلي: ـ النور أجمل وألطف ما في العالم، وهو مصدر1

لكل جمال ولطف! ـ النور أسرع األشياء، كما ثبت لمشهوري العلماء2

الكبار في العالم، إذ تبلغ سرعته ثالثمائة ألف كيلومتر في الثانية. وبإمكانه الدوران حول الكرة

األرضية سبع مرات في طرفة عين )أقل من ثانيةواحدة(.

ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء، والوحدة المستعملة في هذا

المجال هي السنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة

واحدة. ـ بالنور يمكن مشاهدة األشياء في العالم، ومن3

دونه يستحيل رؤية أي شيء، فالنور ظاهر بنفسهومظهر لغيره.

ـ إن ضوء الشمس يعد من أهم أنواع النور في4 عالمنا، فهو ينمي األزهار والنباتات وبه تستمر

الحياة، بل هو رمز بقاء المخلوقات الحية، وال يمكن لموجود حي أن يستمر في الحياة دون أن يستفيد

من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ـ ثبت اليوم أن جميع األلوان يمكن مشاهدتها بنور5

الشمس أو األنوار األخرى، ولوالها لعاشتالمخلوقات في عتمة قاتمة.

(11/103)

-104األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ إن جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا6

)باستثناء الطاقة النووية( مصدرها الشمس من قبيل

حركة الرياح، سقوط المطر، وحركة األنهر والوسائط فيها والشالالت ولو دققنا في حركة جميع

المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس. مصدر الحرارة وتدفئة األحياء كلها هو الشمس، حتى

أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس. ألن هذه األشياء بحسب الدراسات العلمية

تعود إلى النباتات أو الحيوانات، وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس وحرارتها، فخزنت الفائض

منها في جسمها، لهذا فإن حركة المحركاتوالمكائن أيضا من بركات الشمس.

ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات7 المضرة، وبفقدان هذا النور تتبدل األرض إلى

مستشفى كبير قد ابتلي سكانها بأنواع األمراضويصارعون الموت بين لحظة وأخرى!

وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرةفريدة، يتضح لنا أثره البالغ األهمية وبركاته العظيمة.

وبمالحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لرب العالمين )رغم منزلته العظيمة التي ال

نظير لها وال شبيه( فال نجد خيرا من النور؟! الله الذي خلق كل شيء في عالم الوجود ونوره، فأحيا

المخلوقات الحية ببركته، ورزقها من فضل، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة، ألصبح الجميع في

ظلمات الفناء والعدم. ومما يلفت النظر أن كل مخلوق يرتبط بالله بمقدار

معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار:القرآن نور ألنه كالم الله.

والدين اإلسالمي نور ألنه دينه.

(11/104)

-105األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -األنبياء أنوار ألنهم رسله.

واألئمة المعصومون)عليهم السالم( أنوار إلهية، ألنهم حفظة دينه بعد النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم(.واإليمان نور، ألنه رمز اإللتحام به سبحانه وتعالى.وجل ـ . والعلم نور، ألنه السبيل إلى معرفته ـ عز

ولهذا: الله نور السموات واألرض. وإذا استعملنا كلمة »النور« بمعناها الواسع، أي

الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات الله المقدسة

حقيقة وال تشبيه فيها، ألنه ال يوجد أظهر من الله تعالى في العالم، وكل األشياء تظهر من بركات

وجوده. وجاء في كتاب التوحيد، عن اإلمام علي بن موسى

الرضا)عليه السالم( حين سئل عن معنى قوله تعالى: )الله نور السموات واألرض( قال »هاد ألهل

السموات، وهاد ألهل األرض«. وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور اإللهي،

وال يمكن حصره بهذه الخصيصة، ولهذا يمكن جمع كل ما قيل في تفسير هذه اآلية، وكل تفسير هوإشارة

إلى أحد أبعاد هذا النور الذي ال مثيل له. والجدير بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة واألربعين

من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على صفات الله تعالى: »يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا

مدبر النور، يا مقدر النور، يا نور كل نور، يا نورا قبل كل نور، يا نورا بعد كل نور، يا نورا فوق كل نور، يا نورا ليس كمثله نور« وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها

من نوره وتنتهي بنوره الطاهر. وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك، إذ ذكر مثاال رائعا دقيقا لكيفية النور اإللهي: )مثل نوره

كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة ال شرقية وال غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب

الله

(11/105)

-106األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -األمثال للناس والله بكل شيء عليم(.

ولشرح هذا المثال يجب اإللمام بعدة أمور: »المشكاة« في األصل تعني الكوة التي تخصص في

الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح، وأحيانا تبنى في الجدار فتحة صغيرة، يغطى

جانبها المشرف على ساحة الدار بالزجاج، إلضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح. كما تطلق هذه الكلمة على وعاء )الفانوس القديم( يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيالت له

باب وفتحة في أعاله لخروج الهواء الساخن. وكانوايضعون المصباح فيه.

وباختصار نقول: إن المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة، وغالبا ما يثبت في الجدار لتركيز

الضوء وسهولة انعكاسه. »الزجاجة« تطلق في األساس على األحجار

الشفافة، وسميت الصفائح الشفافة بالزجاج ألنها تصنع من مواد معدنية، والزجاجة هنا تعني الزجاجة

التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته، وتنظمجريان الهواء، لتزيد من نور الشعلة.

»المصباح« يتألف من وعاء للزيت وفتيل. عبارة )يوقد من شجرة مباركة زيتونة ال شرقية وال

ز هذا المصباح غربية( تشير إلى الطاقة التي تجه بوقود ال ينضب معينه. وزيت الزيتون من أجود الوقود

المستعمل للمصابيح، ثم أن هذا الزيت يحصل عليه من زيتون شجر يتعرض للشمس من جميع جوانبه

بشكل متساو، ال أن تكون الشجره في الجانب الشرقي من البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها، كما ال تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس، فال

تنضج ثمرتها بصورة جيدة وال يكون زيتها نقياوصافيا.

وبعد هذا اإليضاح يتبين أننا لإلستفادة من نورالمصباح بإشعاع قوي نحتاج إلى توفر أربعة أشياء.

(11/106)

-107األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »محفظة للمصباح« ال تقلل من نوره، بل تركز هذا النور وتعكسه و »زجاجة« تنظم جريان الهواء حول

الشعلة، ويجب أن تكون شفافة بدرجة ال تمنع تشعشع النور، و»مصباح« هو مصدر النور، وهو عبارة

عن إناء فيه زيت وفي أعاله الفتيل. وأخيرا »مادة اإلحتراق« صافية خالصة شفافة

مستعدة لإلشتعال بدرجة يتصور فيها اإلنسان إنهاسوف تشعل لوحدها دون أن يمسها قبس من النار.

كل هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهرالقضية.

ومن جهة أخرى أورد كبار المفسرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأنه ما هو »المشبه« ومن أي نور

إلهي يكون: قال البعض: المقصود هنا نور الهداية التي يجعله الله

في قلوب المؤمنين، وبعبارة أخرى: المقصوداإليمان الذي استقر في قلوب المؤمنين.

وقال آخرون: إن المشبه يعني هنا القرآن الذي ينيرقلوب الناس.

وآخرون: إنه اشارة إلى شخص النبي األكرم)صلىالله عليه وآله وسلم(.

وآخرون: إنه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل اإللهي. وآخرون: إنه روح الطاعة والتقوى التي هي أساس

كل خير وسعادة. وفي الحقيقة فإن هذه التفاسير قد أوردت كل ما

جاء في القرآن واألحاديث اإلسالمية بعنوان مصاديق للنور، وجوهرها واحد، وهو نور الهداية بذاته،

ومصدره القرآن والوحي ووجود األنبياء، وينهل من أدلة التوحيد، ونتيجته التسليم بحكم الله والتمسك

بالتقوى. وتوضيح ذلك: إن نور اإليمان الموجود في قلوب

المؤمنين يحتوي على العناصر األربعة المتوفرة فيالمصباح المضيء، هي:

»المصباح« وهو شعلة اإليمان في قلب المؤمنيضيء طريق الهداية.

و»الزجاجة« هي قلب المؤمن ينظم اإليمان في ذاتهويحفظه من كل سوء.

و»المشكاة« صدر المؤمن، أو بعبارة أخرى: شخصيتهبما فيها وعيه وعلمه

(11/107)

-108األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -وفكره الذي يصون إيمانه من األعاصير واألخطار.

»شجرة مباركة زيتونة« هي الوحي اإللهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان

المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نور الله الذي ينير السموات واألرض وقد أشرق من قلوب المؤمنين،

فأضاء وجودهم ونور وجوههم. فتراهم يمزجون األدلة العقالئية بنور الوحي، فيكون

مصداق »نور على نور«. ولهذا ترى القلوب المستعدة الستقبال النور اإللهي تهتدي، وهي المقصودة بعبارة)يهدي الله لنوره من

يشاء( وعلى هذا فإن المحافظة على النور اإللهي )نور الهداية واإليمان( يستوجب توفر مجموعة من

المعارف والعلوم والوعي واألخالق وبناء الذات، منأجل أن تكون كالمشكاة تحفظ هذا المصباح.

كما تحتاج إلى قلب مستعد لينظم هذا النور اإللهيكما تنظم الزجاجة شعلة المصباح.

وتحتاج إلى مدد من الوحي، ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سماها القرآن بعبارة )شجرة

مباركة زيتونة(. وتجب المحافظة على نور الوحي من التلوث

والميول المادية واإلنحراف إلى الشرق أو الغربالذي يؤدي إلى التفسخ واإلندثار.

ولتعبيء قوى اإلنسان بشكل سليم بعيدا عن كل فكر مستورد وانحراف، لتكون مصداقا لـ )يكاد زيتها

يضيء ولو لم تمسسه نار(. وكل تفسير يتضمن حكما مسبقا ويتضمن ذوق المفسر وعقيدته الخاصة به، أو رغبة يسارية أو

يمنية، أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة، ويقلل من تشعشع مصباحها. وأحيانا

يطفئه. هذا هو المثال الذي ذكره الله لنوره في هذه اآلية،

وهو الذي أحاط بكل شيء

(11/108)

-109األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -علما.

ومما سلف يتضح لنا أن ما ذكرته الروايات عن األئمة المعصومين)عليهم السالم(بخصوص تفسير هذه اآلية

أن المشكاة هي قلب نبي اإلسالم)صلى الله عليه وآله وسلم( والمصباح نور العلم، والزجاجة وصية

علي)عليه السالم(، والشجرة المباركة إبراهيم الخليل)عليه السالم( الذي يرجع نسب بيت النبوة

إليه، وعبارة )ال شرقية وال غربية( تعني نفي أي ميل إلى اليهودية والنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية

واإليمان، ومصداق واضح لها، وال يعني أن هذه اآليةمختصة بهذا المصداق.

كما أن ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن النور اإللهي هو القرآن، أو األدلة العقالئية، أو النبي)صلى

الله عليه وآله وسلم( بذاته، له جذور مشتركة

بالتفسير أعاله. وقد شاهدنا حتى اآلن خصائص هذا النور اإللهي، نور

الهداية واإليمان من خالل تشبيهه بمصباح قوياإلضاءة.

ويجب أن نعرف اآلن أين موضع هذا المصباح، وشكل موضعه؟ ليتضح لنا ما كان ضروريا إيضاحه في هذا

المجال. لهذا تقول اآلية التالية: إن هذه المشكاة تقع )في بيوت أذن الله أن ترفع( لكي تكون في مأمن

من الشياطين واالعداء واالنتهازيين )ويذكر فيهااسمه( ويتلى فيها القرآن والحقائق اإللهية.

وقد اعتبر العديد من المفسرين هذه اآلية مرتبطة (. غير أن البعض من1كما قلنا باآلية التي سبقتها)

المفسرين يرى أن هذه الجملة ترتبط بالجملة التيتليها، إال أن ذلك بعيد عن الصواب.

أما ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النورالباهر في البيوت

--- ـ هكذا يكون تقدير اآلية »هذه المشكاة في1

بيوت ... أو هذا المصباح في بيوت ... هذه الشجرة في بيوت ... نورالله في بيوت« في الوقت الذي يرى

أصحاب التفسير الثاني أن عبارة »في بيوت«تعود إلى كلمة »يسبح«

ليكون معنى اآلية )في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكرفيها اسمه يسبح له فيها بالغدو واآلصال(

أي في الصباح والمساء. إال أن هذا التفسير الينسجم مع وجود كلمة »فيها«

ألنه يعد تكرارا ال داعي له، إضافة إلى عدم انسجامهامع األحاديث الواردة بهذا الصدد )فتأملوا جيدا(

.

(11/109)

-110األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - المذكورة بتلك الخصوصيات، فجوابه واضح، ألن

البيوت التي ورد ذكرها في هذه اآلية والتي يحرسها رجال أشداء يقظون، هم الذين يحفظون هذه

المصابيح المنيرة، إضافة إلى أن هؤالء الرجال يبحثون عن مصدر نور، فيهرعون إليه بعد أن

يتعرفون على موضع هذا النور.ولكن ماالمقصود من هذه البيوت؟

الجواب يتضح بما ذكرته آخر اآلية من خصائص حيث تقول: أنه في هذه البيوت يسبح أهلها صباحا

(.1ومساءا: )يسبح له فيها بالغدو واآلصال() )رجال ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر الله وإقام

الصالة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار( إن هذه الخصائص تكشف عن أن هذه

نت بأمر من الله، وأنها البيوت هي المراكز التي حص مركز لذكر الله ولبيان حقيقة اإلسالم وتعاليم الله، ويضم هذا المعنى الواسع المساجد وبيوت األنبياء

واألولياء خاصة بيت النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وبيت علي)عليه السالم(. وال دليل يؤيد

حصرها من قبل بعض المفسرين ـ بالمساجد أو بيوتاألنبياء وأمثالها.

وفي الحديث المروي عن اإلمام الباقر)عليه السالم((.2»هي بيوت األنبياء وبيت علي منها«)

وفي حديث آخر حيث سئل النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( لما قرأ اآلية، أي بيوت هذه؟ فقال: »بيوت

األنبياء« فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها، يعني بيت علي وفاطمة. قال: »نعم، من

(.3أفاضلها«)--- ـ »الغدو«1

على وزن »علو« بمعنى الصبح ، ويقول الراغب األصفهاني: الغدوة والغداة من أول النهار، وقوبل في القرآن باآلصال، نحو قوله )بالغدو

واآلصال(. وقوبل الغداة بالعشي

و»اآلصال«جمع »األصل«

على وزن »رسل« وهو بدوره جمع لألصيل بمعنى العصر، والسبب في ذكر الغدو مفردة واآلصال

جمعا؟ يقول فخر الرازي، ألن الغدو ذات بعد مصدريوال يجمع المصدر.

.607 ـ تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، ص 2 ـ تفسير مجمع البيان لآلية موضع البحث.3

(11/110)

-111األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها

األحاديث كعادتها حين تفسير القرآن. أجل، إن كل مركز يقام بأمر من الله، ويذكر فيه

اسمه ويسبح له فيها بالغدو واآلصال، وفيه رجال ال تلهيهم تجارة عن ذكر الله، فهي مواضع لمشكاة

األنوار اإللهية واإليمان والهداية.ولهذه البيوت عدة خصائص:

أولها: أنها شيدت بأمر من الله. واألخرى: إن جدرانها رفعت وأحكم بناؤها لتمنع

تسلل الشياطين.وثالثها: أنها مركز لذكر الله.

وأخيرا: فإن فيها رجاال يحرسونها ليل نهار، وهم يسبحون الله، وال تلهيهم الجواذب الدنيوية عن ذكر

الله.هذه البيوت بهذه الخصائص، مصادر للهداية واإليمان. والبد من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه اآلية هما »التجارة« و»البيع« وهما كلمتان تبدوان وكأن لهما

معنى واحدا، إال أن الفرق بينهما هو أن التجارة عملمستمر، والبيع ينجز مرة واحدة، وقد تكون عابرة. ويجب اإللتفات إلى أن اآلية لم تقل: أن هؤالء ال

يمارسون أبدا التجارة والبيع بل قالت: إنهم التلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر الله.

إنهم يخافون يوم القيامة والعدل اإللهي الذي تتقلب فيه القلوب واألبصار من الخوف والوحشة )ويجب

اإلنتباه إلى أن الفعل المضارع، »يخافون« يدل على اإلستمرار في الخوف، وهذا الخوف هو الذي دفعهم

إلى تحمل مسؤولياتهم، ولبلوغ رسالتهم فيالحياة(.

وأشارت آخر هذه اآليات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشاق الحق والحقيقة، فقالت:

)ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله(،

(11/111)

-112األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وال عجب في ذلك، ألن الفضل اإللهي لمن كان جديرا

به غير محدود: )والله يرزق من يشاء بغير حساب(. وقال بعض المفسرين عما تعنيه عبارة )أحسن ما

عملوا( في هذه اآلية، أنها إشارة إلى جميع األعمال الطيبة، سواء كانت واجبة أم مستحبة، صغيرة أم

كبيرة.

ويرى آخرون أنها إشارة إلى أن الله يكافيء الحسنة بعشر أمثالها، وأحيانا بسبعمائة مثلها، حيث نقرأ في

( من سورة األنعام: )من جاء بالحسنة فله160اآلية ) ( من سورة261عشر أمثالها(. كما جاء في اآلية )

البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل الله أنالمكافأة تعادل سبعمائة مرة أو ضعفها.

كما يمكن أن تفسر العبارة السابقة بأن المقصود هو أن الله يكافيء جميع أعمالهم بموجب أفضلها،

ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلهاالله بمستوى أفضل األعمال حين منحه المكافأة. وليس هذا بعيدا عن رحمة الله وفضله، والعدالة

تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل الله، إال أن رحمة الله وسعت كل شيء، فهو يهب دون

حساب وال حدود، فذاته المقدسة غير محدودة،وأنعمه ال تنتهي، وكرمه عظيم ال حدود له.

* * *مالحظات

بينا كثيرا من مسائل هذه اآليات خالل تفسيرنا لها، وبقيت عدة أحاديث يقتضي األمر ذكرها بغية إتمام

هذا البحث. ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثا عن اإلمام1

الصادق)عليه السالم( في تفسير آية النور: »إن المشكاة قلب محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(

والمصباح النور الذي فيه العلم،

(11/112)

-113األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(.1والزجاجة قلب علي)عليه السالم( أو نفسه«)

ـ وجاء حديث آخر عن اإلمام الباقر)عليه السالم(2 في توحيد الصدوق »إن المشكاة نور العلم في صدر

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( والزجاجة صدر علي ... ونور علي نور إمام مؤيد بنور العلم والحكمة

في أثر اإلمام من آل محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة،

فهؤالء األوصياء الذين جعلهم الله عزوجل ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه، ال تخلو األرض في كل

(.2عصر من واحد منهم«) ـ وفسر حديث آخر عن اإلمام الصادق)عليه3

السالم( المشكاة بفاطمة)عليها السالم(والمصباح

بالحسن)عليه السالم( والزجاجة بالحسين)عليه(3السالم(.)

وكما أشرنا سابقا فإن لآليات مفهوما واسعا، وكل حديث من هذه األحاديث بيان لمصداق بارز من

مصاديقها دون االخالل بعموميتها.وبهذا ال نجد تناقضا في األحاديث السابقة.

ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال: قال4 أبو جعفر)عليه السالم( الباقر لقتادة: من أنت؟ قال: أنا قتادة ابن دعامة البصري فقال له أبو جعفر)عليه السالم(: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال له

االمام الباقر)عليه السالم(: ويحك باقتادة إن الله خلق خلقا من خلقه فجعلهم حججا على خلقه، فهم

أوتاد في أرضه قوام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه، أظلة عن يمين عرشه قال:

فسكت قتادة طويال ثم قال: أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدامهم، فما اضطرب

قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك. فقال له اإلمام الباقر)عليه السالم(: أتدري أين أنت؟ بين يدى: )بيوت اذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو واآلصال رجال ال تلهيهم تجارة

وال بيع عن--- ـ نور الثقلين في تفسير اآليات موضع البحث )مع1

(.603 و 602بعض التلخيص المجلد الثالث، صفحة ـ المصدر السابق.2 ـ المصدر السابق.3

(11/113)

-114األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ذكر الله وأقام الصالة وإيتاء الزكاة( فأنت ثم ونحن

أولئك. فقال له قتادة: »صدقت والله جعلني الله فداك والله

(1ما هي بيوت حجارة وال طين...«) ـ وذكر حديث آخر حول رجال الله حماة الوحي5

والهداية: »هم التجار الذين ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر الله، إذا دخل مواقيت الصالة أدوا إلى الله

(2حقه فيها«) إشارة إلى أن هؤالء الرجال همهم ذكر الله وال يقدمون عليه شيئا، رغم أنهم يمارسون نشاطا

إقتصاديا في الحياة. ـ وصفت شجرة الزيتون في اآليات السابقة بأنها6

شجرة مباركة. وكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن،

وقد اتضح ذلك اليوم، ألن كبار العلماء أخبرونا بخالصة تجاربهم ودراساتهم عن خواص أنواع

النباتات، وحول شجرة الزيتون يقولون: إنها مباركة حقا، وثمرها مفيد جدا، ويمنحنا أجود الزيوت، ولها

دور حيوي في سالمة الجسم. يقول ابن عباس: إن أجزاء هذه الشجرة مفيدة

ومريحة، وحتى رماد خشبها فيه منفعة، وهي أول شجرة نبتت بعد طوفان نوح)عليه السالم(، وقد دعا

لها األنبياء وباركوها. ـ ذكر المفسرون الكبار عدة تفاسير لعبارة »نور7

على نور« فقال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: إنها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون

على النبوة ويواصلون طريق الهداية. ويقول الفخر الرازي في تفسيره: إنها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه، حيث ذكر حول المؤمن:

»يقف المؤمن بين أربعة مواقف، فإذا وهبه اللهشكره،

---.609 ـ المصدر السابق، 1 ـ المصدر السابق.2

(11/114)

-115األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد، وإذا تكلم صدق، وإذا

حكم بين اثنين عدل، وهو إنسان واع بين جهلة ومثله كحي بين أموات. إنه يسير بين خمسة أنوار: كالمه

نور، عمله نور، إقامته نور، رحله نور، هدفه نور اللهيوم القيامة«.

ويمكن أن يكون النور األول الذي ذكرته اآلية إشارة إلى نور الهداية اإللهية عن طريق الوحي، والنور

الثاني نور الهداية عن طريق العقل. أو أن النور األول هو نور الهداية التشريعة، والنور

الثاني نور الهداية التكوينية فهو نور على نور. وبهذا فسرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور، مرة

رت باألنبياء وأخرى بأنواع النور، ومرة ثالثة فس

بمراحل النور المختلفة، وهي ممكنة جميعا في آنواحد، ألن مفهوم اآلية واسع جدا )فتأملوا جيدا(.

* * *

(11/115)

-116األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليتان

والذين كفروا أعملهم كسراب بقيعة يحسبه الظمأن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده

اه حسابه والله سريع الحساب) ( أو كظلمت39فوفن فوقه موج من فوقه ى يغشه موج م فى بحر لج

سحاب ظلمت بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد(40يريها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)

التفسيرأعمال سرابية

تحدثت اآليات السابقة عن نور الله، نور اإليمان والهداية. وإلتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين

الذين نور الله قلوبهم وبين اآلخرين تناولت هذه اآليات عالم الكفر والجهل واإللحاد المظلم، وتحدثت

عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم )ظلمات بعضها فوق بعض( خالفا للمؤمنين الذين أصبحت

حياتهم وأفكارهم )نور على نور(.

(11/116)

-117األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الكالم في اآلية األولى عن الذين يبحثون عن الماء

في صحراء جاقة حارقة، وال يجدون غير السراب فيموتون عطشا، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون

على نور اإليمان، ومنبع الهداية الرائعة، فاستراحوا بجنبها، فتقول أوال: )والذين كفروا أعمالهم كسراب

بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا( ولكن يجد الله عند أعماله )ووجد الله عنده

فوفاه حسابه والله سريع الحساب(. »السراب« مشتق من السرب على وزن »حرب«

بمعنى الطريق المنحدر، وتطلق كلمة السراب على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد

(.1وكأنه ماء، وما هو إال إنعكاس ألشعة الشمس) ويرى البعض أن »القيعة« جمع »قاعة«، بمعنى

األرض الواسعة التي الماء وال نبات فيها، ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم األحيان، إال أن بعض المفسرين واللغويين يرون أنهذه الكلمة مفردة، وجمعها »قيعان« أو »قيعات«)

2.) ورغم عدم وجود الفرق من حيث المعنى، فإن اآلية

توجب أن تكون هذه الكلمة مفردة، ألنها ذكرت السراب مفردا والسراب الواحد يكون في أرض

واحدة طبعا. ثم تناولت اآلية الثانية مثاال آخر ألعمال الكفار

وقالت: )أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه من فوقه سحاب( وبهذا المنوال تكون )ظلمات

بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها(. أجل، إن النور الحقيقي في حياة البشر هو نور

اإليمان فقط، ومن دونه تسود--- ـ يقول علماء الفيزياء المعاصرون: عند إرتفاع1

درجات الحرارة فالهواء المجاور لالرض يتمدد ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له، وبذلك

تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب. ـ تراجع التفاسير التالية: مجمع البيان، روح2

المعاني، تفسير القرطبي، تفسير الفخر الرازي،ومفردات الراغب.

(11/117)

-118األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الحياة الظلمات، ونور اإليمان هذا إنما هو لطف منعند الله )ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور(.

ولفهم عمق هذا المثال البد من اإلهتمام بمعنى كلمة »اللجي« وهو البحر الواسع والعميق. وباألصل

مشتقة من »اللجاج« بمعنى متابعة عمل ما )التي تطلق عادة على األعمال غير الصحيحة( ثم أطلقت

على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد األخرى، ولقد استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى ألن

البحر كلما كان عميقا وواسعا تزداد أمواجه. ولو تصورتم بحرا هائجا عميقا، ومع علمنا أن نور الشمس أقوى أنواع النور، لكنه ال ينفذ إال بمقدار

معين في البحر، وآخر حدود نفوذه في العمق ال يتجاوز سبعمائة متر، حيث يسود الظالم الدائم أعماق

البحار والمحيطات. كما نعلم أن الماء إذا كان هادئا يعكس النور بشكل أفضل، بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس، وال تسمح لها بالنفوذ إلى العمق إال بمقدار أقل. وإذا

أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن اللون فوق هذا البحر الهائج، فإن الظالم يزداد عتمة وسوادا

(.1بشكل كبير) إن الظالم في عمق البحر من جهة، وظلمة األمواج الهائجة من جهة أخرى، وظلمة الغيوم السوداء من

جهة ثالثة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مثل هذا الظالم ال يمكن رؤية أي شيء، مهما

اقترب منا، حتى لو وضع اإلنسان الشيء نصب عينيهلما استطاع مشاهدته.

وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور اإليمان فابتلوا بهذه الظلمات، خالفا للمؤمنين الذين نور الله

قلوبهم وطريقهم وهم مصداق )نور على نور(. وقال بعض المفسرين: إن هذه الظلمات ثالثة

أقسام، قد ابتلي غير المؤمنين--- ـ يجب اإلنتباه إلى أن »السحاب«1

يعني كما جاء من »لسان العرب« الغيوم الممطرة،وعادة تكون السحب المتراكمة أكثر عتمة.

(11/118)

-119األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بها، وهي: ظلمة العقيدة الباطلة، وظلمة القول

الخاطيء، وظلمة السلوك السيء، وبعبارة أخرى: إن أعمال غيرالمؤمنين أساسها الفكري ظلمات. وكذلك

أقوالهم التي هي انعكاس لعقائدهم، ثم انسجامهامع افعالهم الظلمانية.

وقال آخرون: إن هذه الظلمات الثالث عبارة عن مراحل جهل غير المؤمنين، وأولها أنهم ال يعلمون،

وثانيتها أنهم ال يعلمون بأنهم ال يعلمون، وثالثتها أنهم مع كل هذا يتصورون أنهم يعلمون، وبهذا

يعيشون في جهل مركب دامس. وقال البعض اآلخر: إن أساس المعرفة ـ كما يقول

القرآن المجيد ـ في ثالثة أشياء: القلب والعين واألذن )وبالطبع يعني بالقلب العقل(. كما جاء في

( من سورة النحل: )والله أخرجكم من78اآلية )

بطون أمهاتكم ال تعلمون شيئا وجعل لكم السمع (. ولكن الكفار فقدوا بكفرهم1واألبصار واألفئدة()

نور العقل والسمع والبصر، فصاروا في ظلماتمتراكمة.

وال تناقض بين هذه التفاسير الثالثة، كما هو واضح،إذ يمكن أن تشملهم هذه اآلية جميعا.

وعلى كل حال، فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من اآليتين السابقتين. فقد شبهت اآلية أعمال

غيرالمؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة، ال يروي هذا السراب العطاشى أبدا،

وإنما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهمدون نتيجة تذكر.

ثم ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه األعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث

تتعطل فيه حواس اإلنسان، وتظلم عليه الدنيا حتىال يرى نفسه، فكيف يمكه رؤية اآلخرين.

--- ـ تفسير الفخر الرازي، لآلية موضع البحث.1

(11/119)

-120األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وطبيعي أن المرء في هذه الظلمات في وحدة

مطلقة وجهل دائم، ال يجد طريقه، وال رفيق سفره، وال موقف له، وال يملك وسيلة للنجاة، ألنه لم يكتسب شيئا من مصدر النور، أي الله سبحانه

وتعالى، وقد ختم الله على قلبه بالجهل والضالل. ولعلكم تتذكرون أننا قلنا: أن النور مصدر أنواع

الجمال والحياة والحركة، عكس الظالم الذي يعتبرمصدر القبائح والموت والعدم والسكون والسكوت.

الظالم مصدر الخوف والكراهية، وهو توأم الهم والغم، هكذا وضع الذين افتقدوا نور اإليمان، وغرقوا

في ظلمات الكفر.* * *

(11/120)

-121األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليتان

موت واالرض ألم تر أن الله يسبح له من فى الست كل قد علم صالته وتسبيحه والله عليم والطير صف

موت واالرض وإلى41بما يفعلون) ( ولله ملك الس(42الله المصير)

التفسيرالجميع يسبح لله:

تحدثت اآليات السابقة عن نور الله، نور الهدايةواإليمان، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضالل.

أما اآليات موضع البحث، فإنها تتحدث عن دالئل األنوار اإللهية وأسباب الهداية، وتخاطب اآلية

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( فتقول: )ألم تر أن الله يسبح له من في السموات واألرض( وكذلك

الطير يسبحن لله في حال أنها باسطات اجنحتهن في السماء )والطير صافات كل قد علم صالته

وتسبيحه(. )والله عليم بما يفعلون(. وبما أن هذا التسبيح العام دليل على خلقه تعالى

لجميع المخلوقات، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله، وكذلك دليل على أن كل ما في الوجود

يرجع إليه سبحانه، فتضيف اآلية )ولله ملك السمواتواألرض وإلى الله المصير(.

(11/121)

-122األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - كما يحتمل وجود رابطة بين هذه اآلية وسابقتها،

حيث تحدثت اآلية األولى في آخر جملة لها، عن علمالله بأعمال البشر جميعا وعلمه بالمسبحين له.

أما هذه اآلية فقد أشارت إلى محكمة العدل اإللهي في اآلخرة، وأن لله ما في السموات واألرض، وهو

الحاكم والقدير العادل في مصير الناس وما فيالوجود.

* * *مسائل مهمة:

ـ ماذا تعني عبارة )ألم تر(1 حسبما يراها الكثير من المفسرين، تعني: ألم تعلم،

حيث التسبيح العام من قبل جميع المخلوقات فيالعالم ال يمكن ادراكه بالعين، بل بالقلب والعقل. ولكون هذه القضية واضحة جدا وكأنها ترى بالعين

المجردة، استخدمت اآلية عبارة )ألم تر(. كما يجب اإلنتباه إلى أنه على الرغم من كون

المخاطب في هذه اآلية النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( بالذات، فإن عددا من المفسرين يرى أنها تشمل الناس جميعا، ألن ذلك من أساليب القرآن

المجيد اتبعها في كثير من آياته. وقال البعض: إن هذا الخطاب خاص بالنبي)صلى الله عليه وآله وسلم( في مرحلة الرؤيا والمشاهدة، حيث

منحه الله القدرة على مشاهدة تسبيح جميع المخلوقات، وكذلك منح سبحانه وتعالى هذه القدرة

لجميع عباده المخلصين له المتمسكين بهداه. أما بالنسبة لعامة الناس، فالمسألة تخص إدراكهم

لتسبيح الموجودات عن طريق العقل، وليس(.1بالمشاهدة البصرية)

--- ـ تفسير الصافي لآلية موضع البحث.1

(11/122)

-123األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ التسبيح العام لجميع المخلوقات2

تحدثت اآليات المختلفة في القرآن المجيد عن أربع عبادات تمارسها مخلوقات هذا الكون العظيم، هي:

التسبيح، والحمد، والسجود، والصالة، أما اآلية موضعالبحث، فقد تناولت الصالة والتبسيح.

وتحدثت اآلية الخامسة عشرة من سورة الرعد عن السجود العام: )ولله يسجد من في السموات

واألرض(. أما اآلية الرابعة واألربعون من سورة اإلسراء، فقد

تحدثت عن التسبيح والحمد من قبل جميع المخلوقات في الوجود كله )وإن من شيء إال يسبح بحمده(

وقدتناولنا حقيقة الحمد والتسبيح العامين من قبل المخلوقات والتفاسير المختلفة الواردة بهذا الصدد،

في تفسيرنا اآلية الرابعة واألربعين من سورةاإلسراء، ونذكر هنا ملخصه:

هناك تفسيران جديران باإلهتمام، وهما: ـ ـ إن ذرات هذا العالم كلها ـ عاقلة أو غير عاقلة ـ1

لها نوع من اإلدراك والشعور، وهي تسبح في عالمها لله وتحمده على الرغم من عدم إدراكنا لها. ولهذا

التفسير أدلة قرآنية. ـ إن القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه2

بعبارة »لسان حاله« أي نظام الوجود وأسراره

المدهشة الكامنة في كل مخلوق تتحدث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي ال حدود لها، إذ كل

مخلوق جميل، وكل أثر فني بديع يثير الدهشة واإلعجاب، حتى أن لوحة فنية وقطعة شعرية جميلة،

تحمد وتسبح لمبدعها. فمن جهة تكشف عن صفاته )بحمدها له( ومن جهة أخرى تنفي عنه أي عيب أو

نقص )فتسبحه(. فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب وغرائب ال تنتهي! )لإلطالع أكثر على ذلك

من سورة اإلسراء في44يراجع تفسير اآلية تفسيرنا هذا(.

(11/123)

-124األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وإذا قلنا: إن عبارة )يسبح له من في السموات

واألرض( تعني تسبيح كل من في السماوات واألرض، ونحدد كلمة »من« بذوي العقول، فإن التسبيح يخص

هنا المعنى األول، فهو تسبيح بوعي وإرادة والزم هذا القول أن الطيور أيضا لها شعور، ألن كلمة

الطيور جاءت بعد حرف »من«. وال عجب في ذلك، ألن آيات قرآنية أخرى قالت بوجود مثل هذا الشعور

من سورة38لدى بعض الطيور )يراجع تفسير اآلية األنعام(.

ـ التسبيح الخاص بالطيور:3 ما السبب في ذكر تسبيح الطيور من بين جميع المخلوقات، وخاصة في حالة بسط جناحيها في

السماء؟ المسألة تكمن في أن الطيور إضافة إلى تنوعها الكبير، تمتاز بصفات خاصة تجلب نظر كل عاقل

إليها، حيث تحلق هذه األجسام ـ وبعضها ثقيل ـ في السماء خالفا لقانون الجاذبية، وتطير بسرعة من

نقطة إلى أخرى في الجو، وتركب أمواج الرياح وهي باسطة جناحيها دون أي تعب أو جهد. بشكل يثير

اإلعجاب. والمثير فيها هو إدراكها لقضايا األنواء الجوية،

ومعلوماتها الدقيقة لوضع األرض الجغرافي ـ خالل سفرها وهجرتها من قارة إلى أخرى، حتى أن بعضها

يهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي. فهي تمتلك جهاز توجيه خفي عجيب يرشدها إلى

الهدف إيان سفرها الطويل، حتى لو تلبدت السماء

بالغيوم. وهذه من أكثر األمور إثارة للدهشة والعجب،ومن أوضح أدلة التوحيد.

طيور الليل بدورها تملك رادارا مدهشا يخبرها حين الطيران في ظلمة الليل عن كل حاجز أمامها، حتى أن بعضها يرى سمكة تحت الماء، فيخطفها بسرعة

البرق، وهذه ميزة مدهشة في هذه الطيور!!

(11/124)

-125األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وعلى كل حال فإن هناك أمورا عجيبة في الطيور

جعلت القرآن المجيد يخصها بالذكر. ـ عبارة )كل قد علم صالته وتسبيحه(:4

نسب عدد من المفسرين ضمير »علم« إلى كلمة »كل«، وبهذا يصبح معنى العبارة السابقة: كل من

في األرض والسماء، وكذلك الطيور علم صالتهوتسبيحه.

وقال بعض المفسرين: إن ضمير )علم( يعود إلى اللهتعالى، أي أن الله علم صالة وتسبيح كل منهم.

والتفسير األول يالئم اآلية بشكل أفضل. وبهذا الترتيب يعلم كل مسبح لله أسلوب تسبيحه

وطريقته وشروطه وخصائص صالته. فإذا كان التسبيح بوعي من هذه الكائنات يتضح جيدا

مفهوم هذا الكالم، أما إذا كان بلسان حالها فيكون مفهومه أن كل واحد منها له نظام خاص يعبر بشكل من األشكال عن عظمة الله، وكل واحد منها يعكس

قدرة الله وحكمته. ـ ما المقصود بالصالة؟5

قال بعض المفسرين كالمرحوم »الطبرسي« في مجمع البيان، و»اآللوسي« في روح البيان: إن الصالة

هي الدعاء. وهذا هو مفهومها اللغوي، وبهذا تمارس جميع المخلوقات في األرض والسماء الدعاء إلى الله

بلسان حالها أو مقالها وتسأله الرحمة، ألنه أرحم الراحمين، وأنه سبحانه وتعالى يمن عليها برحمته كال

بحسب قابليته. غاية األمر إنهم جميعا يعلمون حاجتهم ومطلبهم وما

ينبغي أن يدعون،

(11/125)

-126األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وإضافة إلى ذلك ـ وفق اآليات التي أشرنا إليها سابقا ـ فهم خاضعون لعظمة الله، وقد سلموا

بقوانين الخلق، ويرددون من األعماق الثناء على صفاته الكاملة سبحانه وتعالى، ونفي كل نقص عنه

جل اسمه المقدس. وبهذا الشكل تتم العبادات األربع »الحمد«

و»التسبيح« و»الدعاء« و»السجود«.* * *

(11/126)

-127األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعلهمآء ل من الس ركاما فترى الودق يخرج من خلله وينز من جبال فيها من برد فيصيب به من يشآء ويصرفه

( يقلب43عن من يشآء يكاد سنا برقه يذهب باالبصر) (44الله اليل والنهار إن فى ذلك لعبرة الولى االبصر)آء فمنهم من يمشى على والله خلق كل دآبة من م

بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشآء إن الله على كل

(45شىء قدير)التفسير

جانب آخر من الخلق العجيب: نواجه ثانية ـ في هذه اآليات ـ جانبا آخر من مسألة

الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمهوالعظمة، وكل ذلك من أدلة توحيد ذات الله الطاهرة.

يخاطب القرآن المجيد النبي)صلى الله عليه وآلهوسلم( ثانية ويقول)ألم تر أن الله يزجي سحابا

(11/127)

-128األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما( وبعد أن تتراكم

السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري )فترى

الودق يخرج من خالله(. وكلمة »يزجي« مشتقة من »اإلزجاء«، أي سوقه

بأسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك

بقصد جمعها. وهذا التعبير يصدق بالنسبة للسحب، حيث ترتفع كل

قطعة منه من جانب من البحر. ثم تسوقها يد القدرةاإللهية. وتجمعها، فتراكم بعضها على بعض.

وكلمة »ركام« على وزن »غالم«، بمعنى األشياءالمتراكمة بعضها فوق بعض.

وأما »الودق« على وزن »شرق«، فيرى الكثيرون أنها حبات المطر، إال أن الراغب األصفهاني يرى في مفرداته أنها ذرات دقيقة من الماء، أي: الرذاذ الذي

يتناثر في الفضاء حين هطول المطر. والمعنى األول أكثر مالءمة هنا، فما يدل بشكل أكبر

على عظمة الله هو ذرات المطر نفسها وليس رذاذه، إضافة إلى أن القرآن كلما ذكر السحاب ونزول

بركات الله من السماء، أشار فيها إلى المطر. فهو الذي يحيي األرض بعد موتها ويبعث الحياة في

األشجار والنباتات، ويروي عطش البشر والحيوان. وأشار القرآن إلى ظاهرة أخرى من ظواهر السماء

المدهشة، وهي السحاب، حيث قال: )وينزل من السماء من جبال فيها من برد( أي من جبال السحب

في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وبرد، فتكون بالء لمن يريد الله عذابه فتصيب هذه الثلوج

المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم )فيصيب به من يشاء( ومن لميرد تعذيبه دفع عنه هذا البالء )ويصرفه عمن يشاء(.

أجل، إنه هو الذي ينزل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يصيره بردا بأدنى تغيير بأمره فيصيب به )باألذى( من يشاء، وربما يكون مهلكا

أحيانا.

(11/128)

-129األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهذا يدل على منتهى قدرته وعظمته ـ إذ جعل نفع

اإلنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزجبعضها ببعض!

وفي نهاية اآلية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية التي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه

)يكاد سنا برقه يذهب باألبصار(. فالسحب المؤلفة في الحقيقة من ذرات الماء تحمل

في طياتها الشحنات »الكهربائية«، وتومض إيماضا

يذهل برقها )العيون( واألبصار ويصك رعدها السمعمن صوته، وربما اهتزت له جميع االجواء.

إن هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرةللدهشة حقا!...

رد على استفسار: السؤال الذي بقي هنا هو: ما هذا الجبل الذي في السماء ينزل منه البرد؟ أجاب المفسرون عن هذا

اإلستفسار بأجوبة مختلفة، هي: ـ قال البعض: إن كلمة الجبال هنا كناية، مثلما1

نقول جبل من غذاء أو جبل من علم. وعلى هذا فإن مفهوم اآلية السابقة، هو أن هناك بردا متراكما

كالجبل في قلب السماء أوجد السحاب، وينزل قسم منه في المدن، وقسم آخر في الصحراء، ويصيب به

من يشاء. ـ وقال آخرون: المقصود من الجبال السحب2

المتراكمة بحيث تشبه الجبل. ـ وذكر صاحب تفسير »في ظالل القرآن«، بيانا3

آخر هو األوفق حسب الظاهر، وهو: »إن يدالله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان، ثم تؤلف بينه

وتجمعه فإذا هو ركام بعضه فوق بعض، فإذا ثقل خرج منه الماء والويل الهاطل، وهو في هيئة الجبال

الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة، ومشهد السحاب كالجبال ال يبدو لنا كما يبدو لراكب

الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو

(11/129)

-130األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تسير بينها، فإذا المشهد مشهد جبال حقا، بضخامتها ومساقطها وارتفاعها وانخفاضها، وإنه لتعبير مصور

للحقيقة التي لم يرها الناس إال بعد ما ركبوا(.1الطائرات«)

ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن العلماء يرون في كيفية تكون البرد في السماء أن قطرات المطر تنفصل من

السحاب، وإذا مرت بطبقة باردة من الهواء أصبحت ثلجا، ثم تدفعها أحيانا العواصف الموجودة هناك إلى

األعلى، فتدخل قطع الثلج هذه إلى داخل السحب، ويكتسب بعضها مياها جديدة ثم تهبط، فتجمد ثانية

عند مرورها بطبقة من الهواء البارد جدا. وكلما تكرر وقوع هذا العمل نمت هذه القطع من

الثلج وآزداد وزنها، إلى أن تقع على األرض بعد أن تعجز األعاصير عن دفعها إلى األعلى مرة أخرى. أو

أن اإلعصار يهدأ فيسقط البرد على األرض. وبهذا الشرح العلمي يتضح لنا المراد من كلمة

»الجبال« التي وردت في هذه اآلية، ألن تكون البرد بقطع كبيرة وثقيلة ممكن في حال تراكم السحب،

حتى يقذف اإلعصار حبات البرد وسطها، لتكسب هذهالحبات قدرا أكبر من مياه السحب.

وذلك ممكن في حالة وجود جبال مرتفعة من(2السحب، لتكون مصدرا جيدا لتكون البرد.)

ونقرأ هنا تحليال آخر ذكره بعض الكتاب، وخالصتهكاآلتي: »أشارت

--- ( صفحة20 ـ 19 ـ تفسير من ظالل القرآن المجلد )1

ـ دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة األولى.110 ـ 109 ـ تكرر حرف )من(2

ثالث مرات في عبارة )وينزل من السماء من جبالفيها من يرد(

أوالها ابتدائية، وثانيتها لها نسبة مع إبتدائية، وأما الثالثة فقد اختلف في تفسيرها كما ذكرنا أعاله، فهي بحسب التفسير األول بيانية، ويكون مفهوم

الجملة هو ينزل من السماء من جبال من برد. وقدحذف مفعول الفعل )ينزل(

وهو البرد، ويفهم ذلك من قرينة في الكالم، وعلى حسب التفسيرين الثاني والثالث اللذين اخترناهما

تكون »من« إما زائدة )حسبما نقله تفسير روح المعاني عن

األخفش( أو هي للتبعيض.

(11/130)

-131األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اآليات موضع البحث بصراحة إلى الجبال الثلج، أي

الجبال التي فيها نوع من الثلوج. وهذا يثير اإلنتباه كثيرا، ألن اختراع الطائرات

والتمكن من التحليق بها في مستوى مرتفع زاد من آفاق علم البشر، فقد تمكن العلماء من الوصول إلى

سحب مستورة ومتكونة من تراكمات ثلجية، وحقاممكن أن تسمى بجبال الثلج.

ومما يثير الدهشة أن أحد علماء السوفيت استخدم ـ

لعدة مرات ـ اسم »جبال السحب« و»جبال الثلج« خالل شرحه موضوع سحب العواصف الثلجية، وبهذا

يتضح لنا وجود جبال من الثلج في السماء. وأشارت اآلية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودالئل

عظمة الله، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص، حيث تقول )يقلب الله الليل والنهار إن في

ذلك لعبرة ألولي األبصار(. وذكرت لمعنى »يقلب« عدة تفاسير، فقال البعض:

إن تقلب الليل والنهار هو أنه إذا حل أحدهما محااآلخر.

وقال البعض: إنه قصر أحدهما وطول اآلخر، ويحدثذلك بصورة تدريجية وله ارتباط بالفصول األربعة. واعتبر آخرون تقلبات الحر والبرد، وحوادث أخرى

(.1تقع في الليل والنهار) وليس بين هذا التفاسير أي تناقض، بل يمكن جمعها

في مفهوم عبارة »يقلب«، وال ريب ـ وقد برهن العلم على ذلك ـ أن لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فعال في استدامة الحياة

وبقاء اإلنسان، وفي ذلك عبرة ألولي األبصار.--- ـ التفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير مجمع1

البيان، وتفسير روح المعاني.

(11/131)

-132األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وإذا كانت حرارة الشمس على نسق واحد، فإنها

ترفع درجة حرارة الهواء، وتقتل األحياء وتتعب األعصاب، لكن وقوع الليل بين نهارين يعدل من أثر

الشمس القوي ويالئمه. كما إن التغييرات التدريجية في ساعات الليل والنهار هي السبب في ظهور الفصول األربعة، وعامل مؤثر

جدا في نمو النباتات وحياة جميع األحياء وهطول المطر وتكوين المياه الجوقية التي هي من كنوز

(.1األرض) وأشارت آخر اآليات ـ موضع البحث ـ إلى أبرز صورة

وأوضح دليل على التوحيد، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة، فقالت: )والله خلق كل دابة من

ماء( أي أن أصلها جميعا من ماء، ومع هذا فلها صور مختلفة )فمنهم من يمشي على بطنه( كالزواحف.

)ومنهم من يمشي على رجلين( كاإلنسان والطيور)ومنهم من يمشي على أربع( كالدواب.

وليس الخلق محددا بهذه المخلوقات، فالحياة لها صور أخرى متعددة بشكل كبير، سواء كانت أحياء

بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آالف األنواع، لهذا قالت اآلية في الختام )يخلق الله ما

يشاء إن الله على كل شيء قدير(.* * *

بحوث ـ ماذا يعني الماء هنا؟1

وإلى أي نوع من الماء أشارت اآلية موضع البحث؟رين بهذا الصدد ثالثة آراء: للمفس

ـ يقصد بالماء النطفة، وقد اختار الكثير من1المفسرين هذا المعنى، وقد

--- ـ بحثنا في هذا المجال في التفسير األمثل عند1

( من سورة يونس.6تفسير اآلية )

(11/132)

-133األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -أشارت إليه بعض األحاديث.

وهناك مشكلة تواجه هذا التفسير، إذ أن االحياء جميعا لم تخلق من ماء النطفة، فمنها أحياء مجهرية

ذات خلية واحدة، وأخرى تخلق من انقسام الخاليا وليس من النطفة إال أن يقال بالنسبة للحكم أعاله:

إن المراد هو الجانب النوعي وليس عاما. ـ والتفسير الثاني يقول: إن المقصود هنا ظهور2

أول مخلوق، فقد ذكرت بعض األحاديث أن أول ماخلق الله الماء، ثم خلق اإلنسان من الماء.

وينسجم هذا مع النظريات الجديدة القائلة: إن أول عنصر حي ظهر في البحار. وهذه ظاهرة سادت

أعماق البحار وسواحلها. )وطبيعي فإن القدرة التي خلقت هذا الموجود الحي بجميع تعقيداته ورعته في

المراحل البعدية، هي قدرة أسمى من الطبيعة، أيإرادة الله تعالى(.

ـ آخر تفسير لخلق األحياء من الماء، هو أن الماء3 يشكل حاليا أساس تكوينها، وأكبر نسبة من بنائها،

وال يمكن لألحياء أن تواصل حياتها دون الماء. وطبيعي أن ال نجد تناقضا بين هذه التفاسير، لكن

التفسيرين األول والثاني أقرب إلى الصواب على ما(.1يبدو)

ـ جواب على استفسار2 يطرح هنا سؤال يقول: إن الحيوانات ال تحدد بهذه

األنواع الثالثة )الزواحف وثنائية األرجل ورباعيتها( إذأن هناك دوابا لها أكثر من أربع أرجل؟

والجواب عنه يكمن في اآلية ذاتها، أي في قولهتعالى )يخلق الله ما يشاء(

--- ـ استند البعض عن دعاة نظرية التطور إلى هذه1

اآليه إلثبات نظريتهم، إال أننا ذكرنا عدم ثبوت هذه ( من سورة الحجر.26النظرية في تفسيرنا لآلية )

والجدير باإلهتمام هو أنه يجب أن ال نطبق اآليات مع النظريات. فاآليات القرآنية تحكي عن حقائق ال

تتغير، أما النظريات العلمية فتتغير.

(11/133)

-134األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فهي تتناول الحيوانات كافة، مضافا إلى أن أهم

الحيوانات التي يستخدمها اإلنسان، هي هذه األنواعالثالثة.

ويرى البعض أن األحياء التي لها أكثر من أربع أرجل، تعتمد على أربع منها، والباقي منها سواعد مساعدة

(.2()1لها) ـ صور الحياة المختلفة:3

ال شك أن الحياة تعتبر أعجب ظاهرة في العالم، ذلك السر الذي لم يقدر العلماء على فك رموزه حتى

اآلن، فالجميع يقول: إن األحياء خلقت من مادة ال حياة فيها، إال أنه ال أحد يعلم كيف حدثت هذه

الطفرة وفي أي ظرف، إذ لم يشهد أي مختبر تبدل موجود عديم الحياة إلى آخر حي، على الرغم من

انشغال اآلالف من العلماء طوال سنين عديدة فيالتفكير بذلك، وإجراء تجارب مختبرية يخطئها الحصر. وهناك خيال من بعيد يتراءى للعلماء في هذا المجال،

ولكنه مجرد خيال وشبح، فان العلم البشري عاجز عن كشف أسرار الحياة مع تقدمه الهائل، وذلك

لتعقد هذه األسرار بدرجة كبيرة. وفي الظروف السائدة تولد األحياء من أحياء أخرى،

وال يولد أي حي من غير حي. ولكن المؤكد أن هذا

الحال لم يكن كذلك في الماضي البعيد. أو بعبارةأخرى: أن الحياة تملك تاريخا لظهورها.

ولكن كيف وتحت أية شروط؟ إن ذلك لغز لم تتضح حقيقته بعد، واألعجب من ذلك

تنوع الحياة في هذه--- ـ تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي لآلية1

موضع البحث. ـ البد من اإلهتمام بهذه المسألة لغويا، وهي أن2

الضمير »هم«في »منهم«

رغم أنه للجمع العاقل، فقد استخدمتها اآلية لغيرالعاقل أيضا. وكذلك حرف »من«

وذلك بسبب استخدام هذه الكلمات أحيانا لغير العاقلأيضا.

(11/134)

-135األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الصور الكاملة، تبدأ من األحياء المجهرية وحيدة

الخلية حتى تصل إلى الحيتان العظيمة التي يتجاوز طول الواحدة منها الثالثين مترا، وتبدو إحداها كأنها

جبل من لحم طائف في المحيط. ومن مئات اآلالف من الحشرات المختلفة إلى اآلف

من الطيور الجميلة، كل له عالمه الخاص به وأسرارهالذاتية.

وتشغل كتب علم الحيوان اليوم حيزا كبيرا من مكتبات العالم، ويستعرض مؤلفوها جوانب من أسرار

هذه األحياء، خاصة األحياء البحرية. والبحر دوما تكمن فيه األسرار التي ما تزال

معلوماتنا قاصرة عن استكناهها، على الرغم من سعة تطورنا العلمي وعمقه، حقا الله اكبر، خلق كل هذه األحياء، ومنحها ما تحتاج إليه، فما أعظم قدرته

وعلمه! سبحانه! كيف وضع كل واحد منها في ظروف

مناسبة له، ووفر غذاءه وما يحتاج إليه، واألعجب من ذلك خلقه سبحانه وتعالى جميع هذه الكائنات، من

ماء وقليل من تراب.* * *

(11/135)

-136األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

بينت والله يهدى من يشآء إلى لقد أنزلنآ ءايت مستقيم) سول46صرط م ( ويقولون ءامنا بالله وبالر

نهم من بعد ذلك ومآ أولئك وأطعنا ثم يتولى فريق م ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم47بالمؤمنين)

عرضون ) نهم م (وإن يكن لهم48بينهم إذا فريق مرض أم49الحق يأتوا إليه مذعنين) ( أ فى قلوبهم م

ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل(50أولئك هم الظلمون)

سبب النزولذكر المفسرون سببين لنزول بعض هذه اآليات:

قيل نزلت اآليات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة، فدعاه اليهودي إلى

رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( ودعاه المنافق إلى كعب بن األشراف )اليهودي( )حتى أن

بعض الروايات ذكرت أن المنافق قال صراحة: يحتملأن ال يعدل محمدا فينا(:

(11/136)

-137األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وحكي أنه كان بين علي)عليه السالم( وعثمان

)وحسب رواية بين علي)عليه السالم( والمغيرة بن وائل( منازعة في أرض اشتراها من علي)عليه

السالم( فخرجت فيها أحجار، وأراد ردها بالعيب، فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله)صلى الله عليه

وآله وسلم(. فقال الحكم بن أبي العاص )وهو من المنافقين(: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له، فال

تحاكمه إليه، فنزلت اآليات واستنكرت عليه ذلك بشدة، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر)عليه

(.1السالم(أو قريب منه)التفسير

اإليمان وقبول حكم الله: تحدثت اآليات السابقة عن اإليمان بالله وعن دالئل

توحيده وعالئمه في عالم التكوين، بينما تناولت اآليات ـ موضع البحث ـ أثر اإليمان وانعكاس التوحيد

في حياة اإلنسان، وإذعانه للحق والحقيقة.

تقول أوال: )لقد أنزلنا آيات مبينات( آيات تنور القلوب بنور اإليمان والتوحيد، وتزيد في فكر

اإلنسان نورا وبهجة، وتبدل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أن هذه اآليات المبينات تمهد لإليمان، إال أن الهداية اإللهية هي صاحبة الدور

األساسي )والله يهدي من يشاء إلى صراطمستقيم(.

وكما نعلم فإن إرادة الله ومشيئته ليست دون حساب، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة لتقبله، أي التي أبدت المجاهدة

في سبيل الله وقطعت خطوات للتقرب إليه، فأعانهاعلى قدر سعيها في الوصول إلى لطفه سبحانه.

ثم استنكرت اآلية الثانية وذمت مجموعة منالمنافقين الذين يدعون

--- ـ »مجمع البيان« وتفسير »روح المعاني« وتفسير1

»التبيان« وتفسير »القرطبي« وتفسير »الفخر الرازي« وتفسير »الصافي« وتفسير »نورالثقلين«

)مع بعض التصرف(.

(11/137)

-138األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اإليمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبهم من نور

الله، فتقول اآلية عن هذه المجموعة )ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد

ذلك وما أولئك بالمؤمنين(. ما هذا اإليمان الذي ال يتجاوز حدود ألسنتهم، وال أثر

له في أعمالهم؟ ثم تذكر اآلية التي بعدها دليال واضحا على عدم

إيمانهم )وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذافريق منهم معرضون(.

ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم، تضيف اآلية )وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين(

وبكامل التسليم والخضوع. والجدير بالذكر أن العبارة األولى تحدثت عن الدعوة إلى الله ورسوله)صلى الله عليه وآله وسلم(. وأما

العبارة التالية أي كلمة »ليحكم« فإنها جاءت مفردة، وهي تشير إلى تحكيم الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( لوحده; وذلك ألن تحكيم الرسول)صلى الله

عليه وآله وسلم( ليس منفصال عن تحكيم الله تعالى،حيث أن كال الحكمين في الحقيقة واحد.

كما يجب اإلنتباه إلى أن ضمير الهاء المتصلة في »إليه« يعود إلى النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم(نفسه، أو إلى تحكيمه. وكذلك البد من اإللتفات إلى أن اآلية نسبت التخلف عن هذا الحكم واإلعراض عن تحكيم الرسول)صلى الله عليه وآله

وسلم( إلى مجموعة من المنافقين فقط. ولعل ذلك ألن الفئات األخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة

وعدم الحياء، ألن للنفاق مراتب أيضا كمراتب األيمانالمختلفة.

وبينت اآلية األخيرة في ثالث جمل، الجذور األساسية ودوافع عدم التسليم إزاء تحكيم الرسول)صلى اللهعليه وآله وسلم( فقالت أوال )أفي قلوبهم مرض(.

هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون باإليمان، ولكنهم ال يسلمون بحكم الله ورسوله، وال يستجيبون

له، إما بسبب انحرافهم قلبيا عن التوحيد أو الشك والتردد )أم ارتابوا( وطبيعي أن الذي يتردد في

عقيدته، لن يستسلم لها أبدا. وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من

المؤمنين: )أم يخافون أن

(11/138)

-139األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يحيف الله عليهم ورسوله(.

في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضا صريحا، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(

ويعتبر حكمه حكم الله تعالى أن ينسب الظلم إلىالرسول)صلى الله عليه وآله وسلم(؟!

وهل يمكن أن يظلم الله أحدا؟أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟

إن الله تعالى مقدس عن كل هذه الصفات )بل أولئك هم الظالمون( إنهم ال يقتنعون بحقهم، وهم يعلمون أن النبي األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( ال يجحف

بحق أحد، ولهذا ال يستسلمون لحكمه. ويرى مفسر »في ظالل القرآن«: في اآلية: )أفي

قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟( أن السؤال األول لإلثبات، أي

الثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض القلب

جدير بأن ينشىء مثل هذا األثر. والسؤال الثاني للتعجب، فهل هم يشكون في حكم

الله وهم يزعمون اإليمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكون في صالحيته

إلقامة العدل؟ والسؤال الثالث الستنكار أمرهم الغريب، والتناقض

الفاضح بين إدعائهم وعملهم. وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس

إنسان، فالله خالق الجميع ورب العالمين، فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق

(.1آخر) وما يورده هذا المفسر هو أن عبارة »أم ارتابوا«

تعني الشك في عدالة الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير

من المفسرين أنه الشك في أصل النبوة كما هوالظاهر.

* * *--- (،20 ـ 17 ـ تفسير في ظالل القرآن، المجلد )1

ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الطبعة115صفحة األولى.

(11/139)

-140األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بحثان

ـ مرض النفاق1 ليست هذه المرة األولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة »المرض« للنفاق، فقد استخدمها في مطلع

سورة البقرة عند بيانه لصفات المنافقين )في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا( وكما قلنا في

المجلد األول في أثناء تفسير اآلية المذكورة، فإن النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن الطريق السوي، فاإلنسان السليم له صورة واحدة هي

انسجام روحه مع بدنه. فإذا كان مؤمنا فكل أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها، وإذا

كان عديم اإليمان فإن ظاهره وباطنه يكشفان عنكفره وانحرافه.

أما إذا كان متظاهرا باإليمان ومبطنا للكفر، فإن ذلكيعتبر نوعا من المرض.

وبما أن هؤالء األشخاص )المنافقين( ال يستحقون لطف الله ورحمته، بسبب عنادهم وإصرارهم على المضي بمناهجهم المنحرفة، فقد تركهم الله على

حالهم، ليزدادوا مرضا. والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع،

ألنه ال يتضح للمؤمن بأي أسلوب يجب أن يعاملهم، فهم ليسوا أصدقاء واليبدون أنهم أعداء، فيستفيدون من إمكانات المؤمنين ويصونون أنفسهم عن العقاب

المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاء حقائقهمالمشؤومة، فأعمالهم أتعس من أعمال الكفار.

ولكن هؤالء ال يمكنهم أن يواصلوا هذا المنهج لمدة طويلة، فالبد أن يفتضح أمرهم وينكشف باطنهم. وكما ذكرت اآليات ـ موضع البحث ـ وسبب نزولها.

افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة وانكشاف باطنهم(.1الخبيث)

--- ـ إليضاح أكثر حول صفات المنافقين يراجع1

التفسير األمثل من بداية سورة البقرة آخر اآليةالعاشرة وما يليها.

(11/140)

-141األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ الحكومة العادلة هي الحكومة اإللهية فقط:2

الشك في أن االنسان مهما سعى في تهذيب نفسه من الصفات الرذيلة، خاصة الكبر والبغضاء وحب

الذات واألنانية، فإنه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه، إال المعصوم من البشر، إذ يعصمه الله من الخطأ

والزلل. ولهذا السبب نقول: الله وحده هو المشرع الحقيقي، ألنه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات اإلنسان، فإنه

يعلم سبل سد هذه الحاجات، وهو الذي ال يزل وال ينحرف بسبب احتياجه وميول الحب والبغض فيه

سبحانه. وقضاء الله والنبي واإلمام المعصوم أفضل قضاء، ويليهم التابعون السائرون على نهجهم المتوكلون

على الله، إال أن البشر الذي يصاب بالكبر وحب الذات ال يرضخ لهذا القضاء، فهو يبحث عن قضاء يشبع

طمعه وشهواته. ما أجمل العبارة التي استخدمتهااآلية الكريمة بحق هؤالء )أولئك هم الظالمون(.

كما أن المرور في مثل هذا اإلمتحان، خير دليل علىإيمان اإلنسان أو عدم إيمانه.

ويستوقفنا قول القرآن في موضع آخر )فال وربك ال يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ال يجدوا

(.1في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما() أجل، المؤمنون الحقيقيون ال يرتضون قضاءك

فحسب، وإنما قد سلموا أنفسهم لك حتى إن لحقهمضرر.

أما المنافقون، فال يقنعون بحكم من الله ورسوله)صلى الله عليه وآله وسلم( إال ما يحقق

مصالحهم، فهم عبيد لها، وعلى الرغم من ادعائهماإليمان، فهم مشركون حقا!

* * *---.65 ـ النساء، 1

(11/141)

-142األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأؤلئك هم

( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله51المفلحون) (وأقسموا بالله جهد52ويتقه فأولئك هم الفآئزون )

أيمنهم لئن أمرتهم ليخرجن قل ال تقسموا طاعةعروفة إن الله خبير بما تعملون) ( قل أطيعوا53م

ل سول فإن تولوا فإنما عليه ما حم الله وأطيعوا الرلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على ا حم وعليكم م

سول إال البلغ المبين) (54الرالتفسير

اإليمان والتسليم التام إزاء الحق: الحظنا في اآليات السابقة رد فعل المنافقين، الذين اسودت قلوبهم، وأصبحت ظلمات في ظلمات. وكيف

لم يرضخوا لحكم الله ورسوله)صلى الله عليه وآله وسلم(، وكأنهم يخافون أن يحيف الله ورسوله

عليهم، فيضيع حقهم!

(11/142)

-143األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أما اآليات ـ موضع البحث ـ فإنها تشرح موقف

المؤمنين إزاء حكم الله ورسوله، فتقول )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم

بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا(. ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد )سمعنا

وأطعنا(! وقد وردت كلمة »إنما« في اآلية السابقة لتحصر

كالم المؤمنين في عبارة )سمعنا وأطعنا( والواقع أنحقيقة االيمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط.

كيف يمكن أن يرجح شخص حكم شخص آخر على حكم الله، وهو يعتقد بأن الله عالم بكل شيء، وال حاجة له بأحد، وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن

يقوم بعمل إزاء حكم الله إال السمع والطاعة؟ فما أحسن هذه الوسيلة المتحان المؤمنين

الحقيقيين ونجاحهم في اإلمتحان؟! لهذا تختتم اآلية حديثها بالقول: )وأولئك هم المفلحون( وال شك في

أن الفالح نصيب الذي يسلم أمره إلى الله، ويعتقدبعدله وحكمه في حياته المادية والمعنوية.

وتابعت اآلية الثانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: )ومن يطع الله ورسوله ويخشى

(.1الله ويتقه فأولئك هم الفائزون() وقد وصفت هذه اآلية المطيعين المتقين بالفائزين، كما وصفت اآلية السابقة الذين يرضخون لحكم الله

ورسوله بالمفلحين. وتفيد مصادر اللغة أن »الفوز« و»الفالح« بمعنى

واحد تقريبا، قال الراغب األصفهاني في مفرداته: »الفوز: الظفر بالخير مع حصول السالمة« و»الفالح:

الظفر وادراك البغية« )وفي األصل بمعنى الشق، وبما أن االشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات منه أطلق الفالح على

الفوز أيضا( وبما أن--- ـ أصل »يتقه«1

بسكون القاف وكسر الهاء »يتقيه« وقد حذفت الياء منها ألنها في حالة جزم وقد حذفت

إحدى الكسرتين المتاليتين ألنها ثقيلة للفظ.

(11/143)

-144األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الكالم في اآلية السابقة كان عن الطاعة بشكل

مطلق، وفي اآلية قبلها عن التسليم أمام حكم الله،وأحدهما عام واآلخر خاص، فنتيجة كليهما واحدة. و ما يستحق المالحظة هو أن اآلية األخيرة ذكرت

ثالثة أوصاف للفائزين: هي: طاعة الله والرسول،وخشية الله، وتقوى الله.

وقال بعض المفسرين: إن الطاعة ذات معنى عام، والخشية فرعها الباطني، والتقوى فرعها الظاهري.

وقد تحدثت أوال عن الطاعة بشكل عام، ثم عنباطنها وظاهرها.

وروي عن اإلمام الباقر)عليه السالم( في تفسير قوله تعالى: )أولئك هم المفلحون(قال: »إن المعني

(.1باآلية أميرالمؤمنين )علي )عليه السالم((«) وال خالف في أن عليا)عليه السالم( خير مصداق لهذه اآلية، وهذا هو المراد من هذا الحديث فال يفقد اآلية

عموميتها. لحن اآلية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته

بعض التفاسير ـ يعني أن بعض المنافقين تأثروا جدا على ما هم فيه، بعد نزول اآليات السابقة والتي

وجهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وأقسموا يمينا مغلظة أننا

نسلم أمرنا إليك، ولهذا أجابهم القرآن بشكل حاسم )وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن( إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم

فقل لهم: ال حاجة إلى القسم، وعليكم عمال اطاعة الله بصدق واخالص)قل ال تقسموا طاعة معروفة إن

الله خبير بما تعملون(. يرى كثير من المفسرين أن كلمة »ليخرجن« في

هذه اآلية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل الله، غير أن مفسرين آخرين يرون أنها تقصد عدم التهالك

على المال والحياة، وأتباع الرسول)صلى الله عليهوآله وسلم( أينما رحل وحل وطاعته.

---.616 ـ تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، صفحة 1

(11/144)

-145األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وقد وردت كلمة »الخروج« ومشتقاتها في القرآن

المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة، وترك المنزل واألهل والوطن في سبيل الله تعالى تارة أخرى، إال أن اآليات السابقة التي تحدثت عن حكم الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( في القضايا

المختلفة يجعلنا نتقبل التفسير الثاني. بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم(ليعربوا عن طاعتهم لحكمه)صلى الله عليه وآله وسلم( والتسليم له، فأقسموا على اخراج قسم

من أموالهم، بل أن يتركوا الحياة الدنيا إن أمرهمبذلك.

وال مانع من الجمع بين التفسيرين، أي إنهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم، والخروج

للجهاد ولتضحية في سبيل الله. ولكن بما أن المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع، فتراهم

يقسمون األيمان المغلظة حتى تشعر بأنهم كاذبون، فقد رد القرآن ـ بصراحة ـ أنه ال حاجة إلى اليمين،

وإنما ال بد من البرهنة على صدق اإلدعاء بالعمل، ألن الله خبير بما تعملون. يعلم هل تكذبون في يمينكم،

أم تبغون تعديل مواضعكم واقعا؟ لهذا أكدت اآلية التالية ـ التي هي آخر اآليات موضع

البحث ـ هذا المعنى، وتقول للرسول)صلى الله عليهوآله وسلم( أن: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول(.

ثم تضيف اآلية أن هذا األمر ال يخرج عن إحدى حالتين: )فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما

حملتم( ففي صورة العصيان فقد ادى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنكم مسؤولون عن أعمالكم حين

أن وظيفتكم الطاعة، ولكن )وإن تطيعوه تهتدوا(ألنه قائد ال يدعو لغير سبيل الله والحق والصواب.

في كل األحوال )وما على الرسول إال البالغ المبين( وإنه)صلى الله عليه وآله وسلم( مكلف بإبالغ الجميع

ما أمر الله به، فإن أطاعوه استفادوا، وإن لم يطيعوه خسروا. وليس على النبي أن يجبر الناس

على الهداية وتقبل دعوته. وما يلفت النظر في اآلية السابقة تعبيرها عن

المسؤولية بـ »الحمل« الثقيل

(11/145)

-146األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهذا هو الواقع، فرسالة النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم( تستوجب اإلبالغ عليه)صلى الله عليه وآله وسلم( وعلى الناس طاعته. إنها لمسؤولية ال يطيق

حملها إال المخلصون. ولذا روى اإلمام الباقر)عليه السالم( حديثا عن

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( قال فيه »يا معشروجل فيما حملكم من قراء القرآن، اتقوا الله عز

كتابه، فإني مسؤول، وأنتم مسؤولون: إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عما حملتم من

(.1كتاب الله وسنتي«)* * *

--- ـ المصدر السابق.1

(11/146)

-147األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآلية

لحت وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الص ليستخلفنهم فى االرض كما استخلف الذين من

قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى ال يشركون

بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفسقون)55)

سبب النزول روى كثير من المفسرين. ومنهم السيوطي في

»أسباب التنزيل« والطبرسي في »مجمع البيان« وسيد قطب في »في ظالل القرآن« والقرطبي في

تفسيره، مع بعض اإلختالف، سبب نزول هذه اآلية أنه: عندما هاجر الرسول)صلى الله عليه وآله

وسلم(والمسلمون إلى المدينة، استقبلهم األنصار بترحاب، ولكن العرب تحالفوا ضدهم. لهذا كان

المسلمون يبيتون ليلتهم والسالح إلى جانبهم ال يفارقهم، إذ كانوا في حالة تأهب تام. وقد شق على المسلمين ذلك. حتى تساءل البعض: إلى متى يدوم

هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئن أنفسنا وال نخشى إال الله؟ فنزلت اآلية السابقة تبشرهم

بتحقق ما يصبون إليه.

(11/147)

-148األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -التفسير

حكومة المستضعفين العالمية: تحدثت اآلية السابقة عن طاعة الله ورسوله

والتسليم له، وقد واصلت اآلية ـ موضع البحث ـ هذا الموضوع، وبينت نتيجة هذه الطاعة أال وهي الحكومة العالمية التي: وعدها الله المؤمنين به. فقالت اآلية

مؤكدة )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في األرض كما استخلف الذين من قبلهم(. )وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم(

ويجعله متجذرا وثابتا وقويا بين شعوب العالم. )وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ال يشركون بي شيئا( وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء

األحكام اإللهية، واستقرار األمن واقتالع جذورالشرك، )ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون(.

وعلى كل حال يبدو من مجمل هذه اآلية أن الله يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون باإليمان

والعمل الصالح بثالث بشائر: ـ استخالفهم وحكومتهم في األرض.1 ـ نشر تعاليم الحق بشكل جذري وفي كل مكان2

)كما يستفاد من كلمة »تمكين«...(. ـ انعدام جميع عوامل الخوف واإلضطراب.3

وينتج من كل هذا أن يعبد الله بكل حرية، وتطبق تعاليمه وال يشرك به، ويتم نشر عقيدة التوحيد في

كل مكان.ويتضح مما يلي متى تم وعد الله هذا؟ أو متى سيتم؟

* * *

(11/148)

-149األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بحوث

ـ تفسير عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم(1 هناك اختالف بين المفسرين حول الذين أشارت

إليهم اآلية الشريفة من الذين استخلفوا في األرضقبل المسلمين.

البعض من المفسرين يرى أنهم آدم وداود ( من30وسليمان)عليهم السالم(، حيث قالت اآلية )

سورة البقرة حول آدم)عليه السالم()إني جاعل في ( من سورة ص جاء26األرض خليفة( وفي اآلية )

بصدد داود)عليه السالم( )يا داود إنا جعلناك خليفةفي اإلرض(.

وبما أن سليمان)عليه السالم( ورث حكم داود)عليه ( من سورة النمل فإنه قد16السالم( بمقتضى اآلية )

استخلف في األرض. لكن بعض المفسرين ـ كالعالمة الطباطبائي في

الميزان ـ استبعد هذا المعنى ورأى أن عبارة )الذين من قبلهم( ال تناسب مقام األنبياء. إذ أن القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص األنبياء.

وإنما هي إشارة إلى أمم خلت، وكانت على درجة من اإليمان والعمل الصالح بحيث استخلفها الله في

األرض. ويرى مفسرون آخرون أن هذه اآلية إشارة إلى بني إسرائيل، ألنهم استخلفوا في الحكم في األرض بعد

ظهور موسى)عليه السالم( وتدمير حكم فرعونوالفراعنة، حيث يقول القرآن المجيد في اآلية )

( من سورة األعراف )وأورثنا القوم الذين كانوا127 يستضعفون مشارق األرض ومغاربها التي باركنا فيها( ويضيف )ونمكن لهم األرض( أي جعلناهم

حكاما بعد أن استضعفوا في األرض. وال شك في أنه كان في بني إسرائيل ـ حتى في

زمن موسى)عليه السالم( ـ أشخاص عرفوا بفسقهم وكفرهم، لكن الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين،

)وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التفسير( ويظهر أن التفسير الثالث أقرب إلى

الصواب.

(11/149)

-150األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ الذين وعدهم الله باستخالف األرض:2

لقد وعدالله المؤمنين ذوي األعمال الصالحة باإلستخالف في األرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم باألمن الكامل، فما هي خصائص هؤالء

الموعودين باإلستخالف؟ هناك اختالف بهذا الصدد بين المفسرين: يرى البعض

من المفسرين أن الوعد باإلستخالف خاص بأصحاب الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( الذين

استخلفهم الله في األرض في عصر النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(. )وال يقصد باألرض جميعها، بل هو

مفهوم يطلق على الجزء والكل(. ويرى آخرون أنه خاص بالخلفاء األربعة الذين خلفوا

الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم(. ويرى البعض أن مفهومه واسع يشمل جميع

المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات. ويرى آخرون أنه إشارة إلى حكومة المهدي )عج( الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم، ويجري

حكم الحق في عهده في جميع أرجاء العالم، ويزول اإلضطراب والخوف والحرب وتتحقق للبشرية عبادة

الله النقية من كل أنواع الشرك. وال ريب في أن هذه اآلية تشمل المسلمين األوائل،

كما أن حكومة المهدي)عج( مصداق لها، إذ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن

المهدي)عج( يمأل األرض عدال وقسطا بعد أن ملئتجورا وظلما.

ومع كل هذا ال مانع من تعميمها. وينتج من ذلك تثبيت أسس اإليمان والعمل الصالح بين المسلمين

في كل عصر وزمان، وأن لهم الغلبة والحكم ذااألسس الثابتة.

أما قول البعض: إن كلمة »األرض« مطلقة وغيرمحددة، وتشمل كل األرض، وبذلك تنحصر

بحكومة المهدي )أرواحنا له الفداء(، فهوال ينسجممع

(11/150)

-151األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - عبارة )كما استخلف الذين من قبلهم(، ألن خالفةوحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل األرض كلها.

وإضافة إلى ذلك فإن سبب نزول هذه اآلية يبين لنا ـ على أقل تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في عصر

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( )رغم حدوثه فيأواخر حياته)صلى الله عليه وآله وسلم((.

ونقولها ثانية: إن نتيجة جهود جميع األنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد واألمن

الكامل والعبادة الخالية من أي نوع من الشرك، وذلك حين ظهور المهدي)عج(، وهو من ساللة

األنبياء)عليهم السالم( وحفيد النبي األكرم)صلى الله

عليه وآله وسلم(، وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرسول)صلى الله

عليه وآله وسلم(: »لو لم يبق من الدنيا إال يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يمأل األرض عدال وقسطا كما ملئت

(.1ظلما وجورا«) ومما يجدر ذكره هنا قول العالمة الطبرسي في

تفسير هذه اآلية: روي عن أهل بيت رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( حول هذه اآلية:

(.2»إنها في المهدي من آل محمد«) وذكر تفسير »روح المعاني« وتفاسير عديدة

لمؤلفين شيعة عن اإلمام السجاد)عليه السالم( في تفسير اآلية موضع البحث أنه قال: »هم والله شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منا،

وهو مهدي هذه األمة يمأل األرض عدال وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، وهو الذي قال رسول الله)صلى

الله عليه وآله وسلم( فيه لو لم يبق من الدنيا إاليوم...«.

وكما قلنا، ال تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه اآلية، بل بيان مصداقها التام، ومما يؤسف له عدم

انتباه بعض المفسرين ـ كاآللوسي في روح البيان ـإلى هذه المسألة، فرفضوا هذه األحاديث.

--- ـ إحتوى كتاب »منتخب األثر«1

على مائة وثالثة وعشرين حديثا بهذا الصدد، من مصادر إسالمية مختلفة خاصة السنية منها. لإلستزادة

، ومايليها.247يراجع هذا الكتاب في صفحة ـ مجمع البيان في تفسير اآلية موضع البحث.2

(11/151)

-152األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وروى القرطبي المفسر المشهور من أهل السنة

عن المقداد بن األسود عن الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( أنه قال: »ما على ظهر األرض بيت حجر

(.1وال مدر إال أدخله الله كلمة اإلسالم«) وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهدي)عج( وشرح أدلتها في كتب علماء السنة والشيعة، يراجع

( من سورة التوبة.33تفسير اآلية ) ـ الهدف النهائي عبادة خالصة:3

إن مفهوم عبارة )يعبدونني ال يشركون بي شيئا( منالناحية األدبية سواء كانت جملة حالية أم مستقبلية)

(، هو أن الهدف النهائي إعداد حكومة عادلة راسخة2 األسس، ينتشر فيها الحق واألمن واإلطمئنان، وتكون ذات تحصينات أسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرته آية قرآنية أخرى تذكر الغاية من الخلق )وما

(.3خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون() عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم.

عبادة ال يحتاج الله إليها، وإنما يحتاج إليها البشرلطي مراحل تكاملهم اإلنساني.

وعلى هذا فإن الفكر اإلسالمي ليس كاألفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة، بل تكون للحياة المادية قيمة في اإلسالم إن أصبحت

وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام، فاإلهتمام بكون العبادة خالية من شوائب الشرك نافية لألهواء

الزائفة، يعني أنه ال يمكن تحقق هذه العبادة الصافيةإال بتشكيل حكومة عادلة.

---.4292 ـ تفسير القرطبي، المجلد السابع، صفحة 1 ـ في الصورة األولى الجملة الحالية للضمير »هم«2

الذي جاء في اآليات السابقة. وفي الصورة الثانيةتقدر بـ »ليعبدونني«

واحتمل آخرون أنها جملة استئنافية وهو احتمالضعيف.

.65 ـ الذاريات، 3

(11/152)

-153األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الحق

بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر، وال يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إال بتشكيل حكومة عادلة

يقودها المؤمنون الصالحون، ولهذا سعى األنبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خاصة الرسول

د األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم(، فبمجر وصوله)صلى الله عليه وآله وسلم( إلى المدينة

المنورة، وفي أول فرصة، شكل نموذجا لها. ويمكن اإلستنتاج من ذلك أن جميع الجهود ـ من حرب وسالم وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية ـ تنصب

في ظل هذه الحكومة في مسيرة العبودية لله

الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك. والبد من القول: إنه ال يعني خلو األرض من المذنبين

والمنحرفين في ظل حكومة الصالحين المؤمنين الذين يمكنهم الله من نشر الحق والعدل، وعبادته

عبادة خالية من صور الشرك، بل مفهوم هذه الحكومة هو أنها تدار من قبل المؤمنين الصالحين،

والصفة السائدة في المجتمع هي خلوه من الشرك. وبما أن اإلنسان خلق حرا، فإن مجال اإلنحراف

موجود حتى في أفضل المجتمعات اإلنسانية )فتأملواجيدا(.* * *

(11/153)

-154األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليتان

سول كوة وأطيعوا الر لوة وءاتوا الز وأقيموا الص ( ال تحسبن الذين كفروا معجزين56لعلكم ترحمون)

(57فى االرض ومأويهم النار ولبئس المصير)التفسير

استحالة الفرار من حكومته تعالى: وعدت اآلية السابقة المؤمنين الصالحين بالخالفة في

األرض، وتعيىء هاتان اآليتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة، وخالل نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا

العمل، تضمن هي بذاتها نجاحه. وفي الحقيقة أن إحدى هاتين اآليتين بينت المقتضي، بينما نفت

الثانية المانع، فهي تقول أوال: )وأقيموا الصالة(. وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق

والمخلوق، وتقرب الناس إلى بارئهم، وتمنع عنهمالفحشاء والمنكر.

)وآتوا الزكاة( وهي الوسيلة التي تربط اإلنسان بأخيه اإلنسان، وتقلل الفواصل بينهما، وتقوي

ارتباطهما العاطفي. وبشكل عام يكون في كل شيء تبعا للرسول:

)وأطيعوا الرسول( طاعة

(11/154)

-155األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين

بقيادة الحكم في األرض )لعلكم ترحمون( وتكونونالئقين لحمل رأية الحق والعدل.

وإذا احتملتم أن األعداء األقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم الله إياه، فذلك غير ممكن، ألن قادر على كل شيء، وال يحجب إرادته شيء، ولهذا

)ال تحسبن الذين كفروا معجزين في األرض( فهؤالء الكفار ال يستطيعون الفرار من عقاب الله وعذابه

في األرض، وال يقتصر ذلك على الدنيا فقط، بلأنهم في اآلخرة )مأواهم النار ولبئس المصير( وكلمة »معجزين« جمع »معجز«، المشتقة من

اإلعجاز بمعنى نفاذ القدرة، وأحيانا يتابع المرء شخصا يفر من يديه، وال يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه، لهذا استعملت كلمة »معجز« بهذا المعنى، وكذلك تشير اآلية السابقة إلى المعنى

ذاته، ومفهومها أنكم ال يمكنكم الفرار من حكومةالله.* * *

(11/155)

-156األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

يأيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمنكمت من قبل والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث مر

ن الظهيرة ومن صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم م بعد صلوة العشاء ثلث عورت لكم ليس عليكم وال

عليهم جناح بعدهن طوفون عليكم بعضكم على بعض ( وإذا58كذلك يبين الله لكم االيت والله عليم حكيم)

بلغ االطفل منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم ءايته والله عليم

( والقوعد من النسآء التى ال يرجون نكاحا59حكيم)جات فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبر

(60بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم)التفسير

آداب الدخول إلى المكان الخاص بالوالدين: إن أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي

مسألة العفاف العام

(11/156)

-157األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -ومكافحة كل انحطاط خلقي، بأبعاده المختلفة.

وقد تناولت اآليات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة، وشرحت خصائصها، وهي استئذان األطفال البالغين وغيرالبالغين للدخول إلى

الغرفة المخصصة للزوجين. فتقول أوال: )يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثالث

مرات( فيجب على عبيدكم وأطفالكم االستئذان في ثالث أوقات )من قبل صالة الفجر وحين تضعون

ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صالة العشاء(. »الظهيرة« تعني كما يقول »الراغب اإلصفهاني«

في مفرداته »والفيروزآبادي« في القاموس المحيط: منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة المالبس اإلضافية، وقد يختلي الزوج

بزوجته. )ثالث عورات لكم( أي هذه ثالث أوقات للخلوة خاصة

بكم. »العورة« مشتقة من »العار«، أي: العيب. وأطلق

العرب على العضو التناسلي العورة، ألن الكشف عنهعار.

كما تعني العورة الشق الذي في الجدار أو الثوب،وأحيانا تعني العيب بشكل عام.

وعلى كل فإن إطالق كلمة )العورة( على هذه األوقات الثالثة بسبب كون الناس في حالة خاصة

خالل هذه األوقات الثالثة، حيث ال يرتدون المالبسالتي يرتدونها في األوقات األخرى.

وطبيعي أن المخاطب هنا هم أولياء األطفال ليعلموهم هذه األصول، ألن األطفال لم يبلغوا بعد

سن التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية. كما أن عمومية اآلية تعني شمولها األطفال البنين

والبنات، وكلمة »ألذين« التي هي لجمع المذكر السالم، ال تمنع أن يكون مفهوم اآلية عاما، ألن هذه

العبارة

(11/157)

-158األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - استعملت في كثير من الموارد وقصد بها المجموع، كما في آية وجوب الصوم، فلفظ »ألذين« هناك يعم

(.83المسلمين كافة )سورة البقرة اآلية والبد من القول بأن هذه اآلية تتحدث عن أطفال مميزين يعرفون القضايا الجنسية، ويعلمون ماذا

تعني العورة. لهذا أمرتهم باإلستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين، وهم يدركون سبب هذا

اإلستئذان، وجاءت عبارة »ثالث عورات« شاهدا آخرا على هذا المعنى ولكن هل أن الحكم المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل

األماء والجواري، هناك أحاديث مختلفة في هذا المجال، ويمكن ترجيح األحاديث التي تؤيد ظاهر

اآلية، أي شمولها الغلمان والجواري. وتختتم اآلية بالقول: )ليس عليكم وال عليهم جناح

بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض( فال حرج وال إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه األوقات الثالثة، أجل: )كذلك يبين الله لكم

اآليات والله عليم حكيم(. كلمة )طوافون( مشتقة من »الطواف« بمعنى

الدوران حول شيء ما، وقد جاءت بصيغة مبالغةلتأكيد تعدد الطواف.

وبما أن عبارة )بعضكم على بعض( جاءت بعد كلمة )طوافون( فإن مفهوم الجملة يكون: إنه مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه األوقات

الثالثة، ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم ويخدم بعضكمبعضا.

وكما قال »الفاضل المقداد« في كنز العرفان، فإن هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة اإلستئذان في غير هذه األوقات، ألن المسألة تتعقد إن رغبتم

(.1في اإلستئذان كل مرة) وبينت اآلية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث

تقول: )وإذا بلغ األطفال---.225 ـ كنزالعرفان، المجلد الثاني، صفحة 1

(11/158)

-159األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من

قبلهم(. وكلمة »الحلم« على وزن »كتب« بمعنى العقل

والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأما لطفرة عقلية

وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة اإلنسان. وقيل أن الحلم بمعنى الرؤيا، فهي كناية عن احتالم

الشباب حين البلوغ. وعلى كل حال يستفاد من اآلية السابقة، أن الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة لألطفال غير البالغين، ألن أولئك يجب عليهم إستئذان الوالدين

في األوقات الثالثة فقط، ألن حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها اإلستئذان كل مرة،

وكما أنهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد. أما الشباب البالغ، فهم مكلفون في جميع األوقات

باإلستئذان حين الدخول على الوالدين. ويخص هذا الحكم المكان المخصص الستراحه

الوالدين. أما إذا كان في غرفة عامة يجلس فيهاآخرون أيضا، فال حاجة لإلستئذان منهما بالدخول.

والجدير بالذكر إن عبارة )كما استأذن الذين من قبلهم( إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من

الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما. وقد أردفت اآليةالشباب الذين بلغوا الرشد بهؤالء، الكبار.

وتقول اآلية في الختام للتأكيد واإلهتمام الفائق:)كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم(. وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر اآلية

السابقة دون تغيير، باستثناء استعمال اآلية السابقة كلمة »اآليات« وهذه استعملت كلمة »آياته« وال فرق

في معناهما. وسنتناول بحث ميزات هذا الحكم، وكذلك فلسفته

في ذيل تفسير هذه اآليات. وفي آخر اآليات ـ موضع البحث ـ استثناء لحكم

الحجاب، حيث استثنت النساء العجائز والمسنات منهذا الحكم، فقال: )والقواعد من النساء الالتي ال

(11/159)

-160األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن

غير متبرجات بزينة(.ولهذا اإلستثناء شرطان:

أولهما: وصول هذه العجائز إلى عمر ال يتوقع أن يتزوجن فيه، أو بعبارة أخرى: أن يفقدن كل جاذبية

أنثوية. وثانيهما: أال يتزين بزينة بعد رفع حجابهن، ويتضح

بذلك أنه ال ضير في رفع الحجاب بعد إجراء هذينالشرطين. ولهذا استثناهن اإلسالم من حكم الحجاب.

كما أن ـ من الواضح ـ أنه ال يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع المالبس كلها والتعري، بل خلع

اللباس الفوقاني فقط. وكما عبرت عنه بعضاألحاديث بالجلباب والخمار.

وجاء في حديث عن اإلمام الصادق)عليه السالم( في شرح هذه اآلية: »الخمار والجلباب«، قلت: بين يدي

من كان؟ قال: »بين يدي من كان غير متبرجة(1بزينة«.)

كما وردت أحاديث أخرى عن أهل البيت)عليهم(.2السالم( بهذا المضمون أو ما يقاربه)

وتضيف اآلية في ختامها )وإن يستعففن خير لهن(. فاإلسالم يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن اإلستفادة من

هذه الحرية، ويتحدثن أو يتصرفن بأسلوب ال يليق بشرفهن، تقول اآلية محذرة إياهن: )والله سميع عليم( كلما تقولونه يسمعه الله، وما تكتمون في

قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه الله أيضا.* * *

--- كتاب النكاح صفحة14 ـ وسائل الشيعة، المجلد 1

.110، الباب 147 ـ لإلستزادة يراجع المصدر السابق.2

(11/160)

-161األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بحثان

ـ فلسفة اإلستئذان والمفاسد المترتبة على عدم1اإللتزام به

ال يكفي اللجوء إلى القوة القتالع جذور المفاسد اإلجتماعية كاألعمال المخلة بالشرف، وال يرجى

نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا اإلجتماعية. وإنما يستوجب اتباع عدة أمور كالتثقيف

اإلسالمي، وتعليم آدابه الخلقية، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية. وإلى جانب هذه األمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن

الطريق السوي. ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع

سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد الرجال الزناة والنساء الزانيات، كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب اإلسالمي، والنهي

عن النظر بلذة وتحريم إتهام اآلخرين بشرفهم وناموسهم، وأخيرا استئذان األبناء حين الدخول إلى

غرفة الوالدين. وهذا يدل على عدم إغفال اإلسالم أي من هذه

التفاصيل التي لها عالقة بمسألة العفاف والشرف. وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة

الزوجين الخاصة اللذين يخدمانهما، كذلك يستوجب على األطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة

المذكورة دون استئذان، وتعليم األطفال غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطا وثيقا بالوالدين، أن ال يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان وعلى األقل

في األوقات الثالثة التي أشارت إليها اآلية »قبلصلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد صلوة العشاء«. وهذا نوع من األدب اإلسالمي، رغم قلة االلتزام به مع كل األسف. ورغم بيان القرآن ذلك بصراحة فياآليات السابقة. فإنه من النادر أن يتناوله الخطباء

(11/161)

-162األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - والكتاب، وال يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني

الحاسم؟! ورغم أن ظاهر اآلية يوجب هذا الحكم، وحتى لو اعتبرناه مستحبا فإنه ينبغي الحديث عنه، وبحث

جزئياته. ورغم تصور بعض السذج بأن األطفال ال يدركون شيئا عن هذه األمور، وأن خدم البيت ال

يهتمون بها، فإن الثابت هو حساسية األطفال بالنسبة لهذه القضية )فكيف بالنسبة للكبار(. وقد

يؤدي إهمال الوالدين ورؤية األطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقيا وأحيانا إلى إصابتهم

بأمراض نفسية. وقد واجهنا أشخاصا اعترفوا بأنهم اثيروا جنسيا، أو أصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا القبيل

وقد شبت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين، إلى درجة الرغبة في قتلهما، أو االنتحار.

كل ذلك بسبب األثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين، وعدم حيطتهم حين الممارسة الجنسية

أومقدماتها. هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم اإلسالمي الذي

بلغه العلماء المعاصرون، بينما جاء به اإلسالم قبل أربعة عشر قرنا. وهنا نجد لزاما علينا توصية اآلباء

واألمهات بالجدية في الحياة الزوجية، وتعليم أوالدهم اإلستئذان حين الدخول إلى غرفتهما، واجتناب كل

عمل قد يثير األوالد ويحركهم. ومن هذه األعمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أوالد بالغون، فيجب اجتناب ذلك بالقدر الممكن. وأن يعلما بأن هذهاألمور تؤثر بشكل كبير في مستقبل أوالدهما.

ومما يلفت النظر حديث للرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( يقول فيه »إياكم وأن يجامع الرجل امرأته

(.1والصبي في المهد ينظر إليهما«)---.295، صفحة 103 ـ بحاراألنوار، المجلد 1

(11/162)

-163األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ حكم الحجاب بالنسبة للنساء العجائز:2

الخالف في أصل هذا اإلستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين، ألن القرآن صريح في هذا األمر. إال

أن هناك أقواال في خصوصيات هذا الحكم. فبالنسبة لعمر هؤالء النسوة، والحد الذي يجب أن

يبلغنه ليكن من القواعد، هناك أقوال. فبعض األحاديث اإلسالمية تنص على أن المراد هو

(1»المسنة«.)بينما فسرته أحاديث أخرى بـ »القعود عن النكاح«)

2.) ولكن عدد من المفسرين يرى أنها تعني »النساء

اللواتي ال يطمئن، فيصلن إلى مرحلة عدم الحمل.(.3وال يرغب أحد في الزواج بهن«)

ويبدو أن جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد، هو بلوغهن سنا ال يتزوجن عادة. وقد يحدث نادرا أن

يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر. كما جاءت تعابير مختلفة في األحاديث اإلسالمية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه، ألن القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام )فليس

عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات( ويقصدبهذه الثياب المالبس الفوقانية.

وجاء في بعض األحاديث جوابا على سؤال: أي الثيابيجوز وضعها؟

(.4يجيب اإلمام الصادق)عليه السالم( »الجلباب« )(.5بينما ذكر حديث آخر أنه »الجلباب والخمار«)

ويبدو أن هذه األحاديث غير متناقضة، وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن، وعدم تغطية الشعر والرقبة

والوجه. كما قالت أحاديث أخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول اإلستثناء إلى حد الرسغ. وال سند لدينا يسمح

بأكثر من ذلك.--- ، كتاب النكاح، الباب14 ـ وسائل الشيعة، المجلد 1

.4، الحديث 110.5 ـ المصدر السابق، الحديث 2 وكنز العرفان،85، صفحة 29 ـ الجواهر، المجلد 3

.226، ص 2المجلد ، الحديث110 ـ وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب 41..4 و 2 ـ المصدر السابق، الحديث 5

(11/163)

-164األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وعلى كل حال، فإن ذلك مسموح لهن بشرط أن يكن

)غير متبرجات بزينة(وأن يخفين الزينة التي تحت الحجاب، والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع

النساء، وأن ال يرتدين المالبس التي تنزين بها النساء، والتي تثير انتباه اآلخرين. وبتعبير آخر: إنه

مسموح لهن بعدم التحجب على أن يخرجن إلىالشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة.

وهذا كله ليس حكما إلزاميا. إذ أن األفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء األخريات، كما جاء في آخر

اآلية المذكورة، إذ هن معرضات إلى الزلل ـ وإن كاننادرا.* * *

(11/164)

-165األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآلية

ليس على االعمى حرج وال على االعرج حرج وال على

المريض حرج وال على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكمهتكم أو بيوت إخونكم أو أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أم

تكم أو بيوت أخوتكم أو بيوت أعممكم أو بيوت عمفاتحه أو بيوت أخولكم أو بيوت خلتكم أو ما ملكتم م صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند

الله مبركة طيبة كذلك يبين الله لكم االيت لعلكم(61تعقلون)التفسير

البيوت التي يسمح باألكل فيها: تحدثت اآليات السابقة عن اإلستئذان في أوقات

معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصباألب واألم.

أما اآلية موضع البحث فإنها استثناء لهذا الحكم، حيثيجوز للبعض

(11/165)

-166األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وبشروط معينة، الدخول إلى منازل األقرباء

وأمثالهم، وحتى أنه يجوز لهم األكل فيها دون استئذان، حيث تقول هذه اآلية أوال )ليس على

األعمى حرج وال على األعرج حرج وال على المريضحرج(.

ألن أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض األحاديث ـ وقبل قبولهم اإلسالم، يمنعون األعمى

واألعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم،ويتنفرون من هذا العمل.

وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسالمها، تفرد لمثل هؤالء موائد خاصة، ليس الحتقارهم

المشاركة معهم على مائدة واحدة، وإنما ألسباب إنسانية، فاألعمى قد ال يرى الغذاء الجيد في المائدة،

وهم يرونه، ويأكلونه، وهذا خالف الخلق السليم، وكذلك األمر بالنسبة لألعرج والمريض، حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء، وتقدم السالمين عليهما. ولهذا

كله لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة. ولهذا كان األعمى واألعرج والمريض يسحب نفسه حتى ال

يزعج اآلخرين بشيء. ويعتبر الواحد منهم نفسهمذنبا إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة.

وقد استفسر من الرسول)صلى الله عليه وآله

وسلم( عن هذا الموضوع، فنزلت اآلية السابقة التي نصت على عدم وجود مانع من مشاركة األعمى

واألعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.)1)

وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثالث من حكم الجهاد، أو أن القصد أنه مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى األحد عشر بيتا التي

أشارت إليها اآلية في آخرها، ليشاركوكم فيغذائكم.

إال أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصداآلية، وال ينسجمان مع

--- ـ ذكرت هذا التفسير أيضا، التفاسير التالية »الدر1

المنثور« و »نور الثقلين« و »مجمع البيان«و»الصافي« و»التفسير الكبير« و»التبيان«.

(11/166)

-167األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -ظاهرها. )فتأملوا جيدا(.

ثم يضيف القرآن المجيد )وال على أنفسكم أن تأكلوامن بيوتكم(.

والمقصود بعبارة بيوتكم األبناء أو الزوجات.)أو بيوت آبائكم(.

)أو بيوت أمهاتكم(.

)أو بيوت إخوانكم(.

)أو بيوت إخواتكم(.)أو بيوت أعمامكم(.)أو بيوت عماتكم(.)أو بيوت أخوالكم(.)أو بيوت خاالتكم(.

)أو ما ملكتم مفاتحه(.)أو صديقكم(.

بالطبع فإن هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتيذكرها في آخر تفسير اآلية.

ثم تضيف اآلية )ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أوأشتاتا(.

ذكر أن مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن األكل منفردين، بل كانوا يبقون جياعا لمدة حتى

يجدوا من يشاركهم غذاءهم، فعلمهم القرآن المجيد

(1أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية أو فردية.) ويرى البعض: إن مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء

الضيف على حدة احتراما له، وال يشاركونه الغذاء)حتى ال يخجل أثناء تناوله الطعام(.

--- ـ تفسير التبيان، لآلية موضع البحث.1

(11/167)

-168األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لقد رفعت اآلية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير

(1محمودة) وقال آخرون: إن البعض كان يرى عدم جواز تناول

األغنياء الغذاء مع الفقراء، والمحافظة على الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام. لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم بذكره العبارة

(2السابقة.)وال مانع من احتواء اآلية السابقة لكل هذه المعاني.

ثم تشير اآلية إلى أحد التعاليم األخالقية فتقول: )وإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة( واختتمت بهذه العبارة )كذلك يبين

الله لكم اآليات لعلكم تعقلون(. وقال بعض المفسرين: إن المقصود من عبارة »بيوتا« في هذه اآلية، هي البيوت األحد عشرة

المذكورة سابقا.وقال آخرون: إنها المساجد.

ولكن بيدو أنها عامة، تشمل جميع البيوت، سواء األحد عشر بيتا التي يجوز للمرء األكل فيها، أو غيرها

كبيوت األصدقاء واألقرباء. حيث ال يوجد دليل علىتضييق المفهوم الواسع لهذه اآلية.

ولكن ما هو المقصود من عبارة )سلموا علىأنفسكم(؟

نجد هنا عددا من التفاسير: حيث يرى البعض من المفسرين أنه سالم البعض على البعض، مثلما جاء

(54في قصة بني إسرائيل )سورة البقرة اآلية )فاقتلوا أنفسكم(.

ورأى آخرون أنه يعني السالم على الزوجة واألبناء واألهل، حيث هم بمنزلة النفس، لهذا استخدمت اآلية

تعبير »األنفس«، كما جاء هذا التعبير أيضا في آية (. وهذا يبين لنا61المباهلة )سورة آل عمران اآلية

أن قرب الشخص من--- ـ المصدر السابق.1 ـ المصدر السابق.2

(11/168)

-169األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اآلخر قد يصل إلى درجة أنه يكون كنفسه، أي يكونان

كنفس واحدة، مثلما كان علي)عليه السالم( منالرسول محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(.

ويرى بعض المفسرين أن اآلية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد، حيث يحيي المرء نفسه عند

دخولها فيقول: السالم عليكم من قبل ربنا. أو: السالم علينا وعلى عباد الله الصالحين. ونرى عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير. حيث يجب السالم

عند الدخول إلى أي منزل كان، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض، ويسلم أهل المنزل

أحدهم على اآلخر. وأما إذا لم يجد أحدا في المنزل فيحيي المرء نفسه، حيث تعود هذه التحيات بالسالمة

على اإلنسان ذاته. لهذا نقرأ في حديث عن اإلمام الباقر)عليه السالم(

يجيب فيه على سؤال يخص تفسير هذه اآلية فيقول: »هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم

(1يردون عليه فهو سالمكم على أنفسكم«.) وفي حديث عن الباقر)عليه السالم( أيضا، يقول فيه:

»إذا دخل الرجل منكم بيته فإن كان فيه فليسلم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السالم علينا من

وجل »تحية من عند الله عند ربنا، يقول الله عز(.2مباركة طيبة«)

* * *بحوث

ـ هل أن تناول غذاء اآلخرين غير منوط بإذنهم؟1 كما شاهدنا في اآلية السابقة، أن الله تعالى سمح أن

يأكل اإلنسان في بيوت أقربائه المقربين وبعض األصدقاء وأمثالهم، وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتا. ولم تشترط اآلية استئذانهم لتناول الطعام، وال

شك في عدم وجوب---

.627 ـ نورالثقلين، المجلد الثالث، ص 1 ـ المصدر السابق.2

(11/169)

-170األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - االستئذان. إذ أن بوجود اإلذن باألكل يمكن تناول

الغذاء العائد ألي شخص، وبذلك ال تبقى ميزة لهذهالمجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتا.

فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء »وكما يقال من شاهد الحال«. بسبب الصلة الوثيقة

بين الطرفين إن ظاهر اطالق اآلية ينفي هذا الشرط، إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة

يحصل الرضى. أما إذا كانت الحالة تؤكد عدم رضى صاحب الطعام

في تناول غذاءه، فبالرغم من اطالق اآلية وشمولها لهذا المورد أيضا، إال أنه ال يبعد إنصراف اآلية عن هذا المورد، وخاصة أن مثل هذا المورد نادر الوقوع، ومن

المعلوم أن اإلطالقات ال تشمل األفراد النادرة. وعلى هذا فإن اآلية المذكورة تخصص اآليات

والروايات التي تشترط في التصرف بأموال اآلخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة. وتكرر القول بأن

هذا التخصيص. في نطاق محدد، أي تناول الغذاءبمقدار الحاجة تناوال بعيدا عن اإلسراف.

والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا. وجاء بعضه بصراحة في األحاديث اإلسالمية، حيث ذكر

رواية معتبرة عن اإلمام الصادق)عليه السالم( أنه قال عند اإلستفسار منه عبارة »أو صديقكم« الوارد في هذه اآلية قال)عليه السالم(: »هو والله الرجل

(.1يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه«) كما ذكرت أحاديث أخرى بهذا المضمون، أكدت أنه ال

يشترط اإلستئذان في هذه الحاالت. )وبالطبع ال يوجد خالف بين الفقهاء حول عدم جواز األكل من

غذاء اآلخرين دون استئذان، الذي نهت عنه اآلية بصراحة مع العلم بهذا النهي. لهذا أهملت اآلية

السابقة ذكره(.--- ، كتاب434، صفحة 16 ـ وسائل الشيعة، المجلد 1

24األطعمة واألشربة ـ أبواب آداب المائدة ـ الباب .1الحديث،

(11/170)

-171األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وحول عبارتي »عدم اإلفساد« و»عدم اإلسراف«

(.1فقد صرحت بعض األحاديث بذلك أيضا) وال بد من اإلشارة إلى أنه ورد حديث في هذا الباب

يقول بأنه يمكن اإلستفادة فقط من غذاء خاص وليس أي غذاء، إال أن الفقهاء أعرضوا عن هذا

الحديث لضعف سنده. واستثنى بعض المفسرين األطعمة الممتازة التي

يحفظها صاحب المنزل لنفسه، أو لضيوفه المقربين، أو لمناسبات خاصة. وهذا اإلستثناء غير بعيد، بسبب

(.2انصراف اآلية عنه) ـ فلسفة هذا الحكم اإلسالمي:2

يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤال بالمقارنة مع األحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم الغصب، هو: كيف سمح اإلسالم بذلك، رغم تشديده في قضية

التصرف بأموال اآلخرين؟! إننا نرى أن هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تماما، كالمجتمع الغربي، حيث يطرد األبناء من المنزل حين البلوغ! وال يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة! حيث نشاهد األبناء

هناك، ال يثمنون أتعاب الوالدين وال يشفقون عليهما، بسبب تسلط التفكير المادي على العالقات

اإلجتماعية في الغرب! وال خبر هناك عن العاطفةاإلنسانية والشفقة!

إال أن التعاليم اإلسالمية والعواطف اإلنسانية التي تمتد جذورها في المجتمع اإلسالمي، خاصة بين

األهل واألقرباء واألصدقاء، قد ميزت المجتمعاإلسالمي عن المجتمع الغربي.

---.4 ـ المصدر السابق، الحديث1 ،36 ـ إليضاح أكثر يراجع جواهر الكالم المجلد 2

، )كتاب األطعمة واألشربة(.406صفحة

(11/171)

-172األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - والواقع أن اإلسالم جعل عالقات األقرباء واألصدقاء أسمى من األمور المادية، وهذا يعكسه الصفاء والود

اللذان يسودان المجتمع اإلسالمي الحقيقي، حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن الصفات غير المحمودة

كالبخل وحب الذات. وال ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة. ولكن اإلسالم في داخل هذه الدائرة يفضل

القضايا العاطفية والروابط اإلنسانية، فهي التي ينبغي أن تسود العالقات بين األقرباء واألصدقاء

جميعا. ـ من هو الصديق؟3

ال شك أن للصداقة مفهوما واسعا، وهي تعني هنا بالتأكيد األصدقاء الخاصين الذين تربطهم عالقات

وثيقة، وهذه العالقة توجب التزاور فيما بينهم واألكل من طعام اآلخر، وال حاجة هنا ـ كما أسلفنا ـ

إلى احراز الرضا، بل يجوز األكل بمجرد عدم العلمبعدم رضا صاحب الغذاء.

لهذا قال بعض المفسرين حول هذه اآلية: الصديقهو الذي يصدق في عالقاته معك.

وقيل: الصديق هو الذي يصدق ظاهره باطنه وكمايبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة.

ويتضح من هذه العبارة أن الذي ال يسمح بمشاركةصديقه لغذائه، ال يمكن اعتباره صديقا!

ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثا عن اإلمام الصادق)عليه السالم( ضم مفهوم الصداقة الواسع

وشروطها الكاملة: »ال تكون الصداقة إال بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فإنسبه إلى الصداقة، ومن لم

يكن فيه شيء منها فال تنسبه إلى شيء منالصداقة.

فأوالها: أن تكون سريرته وعالنيته لك واحدة.

(11/172)

-173األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -والثاني: أن يرى زينك زينه وشينك شينه.والثالثة: أن ال تغيره عليك والية وال مال.والرابعة: أن ال تمنعك شيئا تناله مقدرته.

والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن ال يسلمك عند(1النكبات«.)

ـ تفسير عبارة )ماملكتم مفاتحه(4 جاء في بعض أسباب النزول أن المسلمين في صدر

اإلسالم كانوا يسلمون أحيانا مفاتيح منازلهم إلى الذين ال يشملهم الجهاد. حين توجههم إلى الجهاد في سبيل الله. وكانوا يسمحون له بتناول الطعام

من هذه المنازل، إال أن هؤالء كانوا يمتنعون من األكل في هذه المنازل خوفا من ارتكاب إثم في

ذلك. وحسب هذه الرواية فإن المراد من عبارة )ما ملكتم

(2مفاتحه( هو ما ذكرنا.) وروي عن ابن عباس أيضا أن قصد اآلية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان ومواشي، حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموكل

بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته. كما فسر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له

بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في هذاالمخزن.

ومع مالحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه اآلية، يبدو أنها تقصد الذين يسلمون مفاتيح

منازلهم ألشخاص مؤثقين ومقربين لهم، وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا في صف

األقرباء واألصدقاء المقربين، وسواء كان وكيالرسميا أم ال.

---.467 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، صفحة 1 315 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثاني عشر، ص 2

)وجاء في وسائل الشيعة المجلد السادس عشر، من أبواب المائدة حديث بهذا24، الباب 436صفحة

المضمون(.

(11/173)

-174األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وإذا الحظنا أن بعض األحاديث تفسر عبارة )ما ملكتم

مفاتحه( بالوكيل الذي يتعهد باإلشراف على أموال شخص آخر، فإن ذلك مصداق لآلية وليس لتحديد

معناها وحصرها بهذا التفسير. ـ السالم والتحية5

»التحية« مشتقة من الحياة، بمعنى الدعاء لسالمة اآلخرين، سواء كانت بشكل السالم عليكم، أو السالم

علينا، أو قوال كحياك الله، فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه بآخر، وتدعى

بالتحية. ويقصد بعبارة )تحية من عند الله مباركة طيبة(. ربط

التحية بالله بشكل ما، أي »السالم عليكم«، سالم الله عليكم، أو نسأل الله أن يسلمكم، إذ أن كل موحد

يرى ربط الدعاء بالله، وطبيعي أن الدعاء بهذا الشكل يكون مباركا وطيبا. )تناولنا بحث السالم

وأهميته ووجوب الرد على التحية، في تفسير اآلية من سورة النساء(.86

* * *

(11/174)

-175األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن

الذين يستئذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم

حيم) ( ال تجعلوا62واستغفر لهم الله إن الله غفور رسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله دعآء الر

الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن63أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (أال

موات واالرض قد يعلم مآ أنتم عليه إن لله ما فى الس ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء

(64عليم)سبب النزول

ذكرت عدة أسباب لنزول اآلية األولى من اآليات أعاله، فقد جاء في بعض األحاديث أن هذه اآليه نزلت في »حنظلة بن أبي عياش« الذي صادف زواجه ليلة

معركة أحد، وكان الرسول)صلى الله عليه وآلهوسلم( يشاور أصحابه حول هذه المعركة، فجاءه

(11/175)

-176األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته، فأجازه)صلى الله

عليه وآله وسلم(. وقد بكر حنظلة لإللتحاق بصفوف المسلمين، وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من اإلغتسال.

ودخل المعركة على هذه الحال، وقاتل حتى قتل في

سبيل الله. قال رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( فيه

»رأيت المالئكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائففضة بين السماء واألرض«.

(.1لهذا سمي حنظلة بعدها بـ »غسيل المالئكة«) وذكر سبب آخر لنزول هذه اآلية حيث »روى ابن

إسحاق« في سبب نزول هذه اآليات أنه لما سمع رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( بتجمع قريش واالحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له من األمر ضرب

الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( ترغيبا للمسلمين في األجر، وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا، وأبطأ عن

رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ال

ينجزون إال اليسير من العمل، أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول)صلى الله عليه وآله وسلم( وال إذنه، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة

من الحاجة التي البد منها، يذكر ذلك لرسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(ويسأله في اللحوق

بحاجته فيأذن له. فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان فيه من عمله

رغبة في الخير واحتسابا له، فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين )إنما المؤمنون ...( اآلية، ثم قال

تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي)صلى الله عليه

وآله وسلم(: )وال تجعلوا دعاء الرسول بينكم ...((2اآلية)* * *

--- ـ تفسير علي بن إبراهيم، حسبما نقله تفسير1

.628نورالثقلين، المجلد الثالث، صفحة ـ في ظالل القرآن ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية2

.126ـ الجزء السابع عشر، ص

(11/176)

-177األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -التفسير

ال تتركوا النبي وحده! قال بعض المفسرين حول عالقة هذه اآليات

بسابقتها، وفيهم المرحوم »الطبرسي« في مجمع البيان »وسيد قطب« في تفسير في ظالل القرآن:

بما أن اآليات السابقة طرحت للبحث جانبا من أسلوب التعامل مع األصدقاء واألقرباء. فإن اآليات

موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين مع قائدهم النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(. وقد أكدت

التزام الوقار أمامه، وطاعته وعدم ترك الجماعة إالبإذنه.

ويمكن أيضا أن اآليات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة الله ورسوله)صلى الله عليه وآله وسلم(، ومن

عالئم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه، لهذا تحدثت اآليات ـ موضع البحث ـ حول هذا

الموضوع. فتقول أوال: )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمر جامع لم يذهبوا

حتى يستأذنوه(. والمراد من »أمر جامع« كل عمل يقتضي إجتماع

الناس فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عمال استشاريا، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو

صالة جمعة في الظروف اإلستثنائية وأمثالها. وإذا وجدنا أن بعض المفسرين، قالوا بأنه يعني

اإلستشارة أو الجهاد أو صالة الجمعة أو العيد فنقول: إنهم عكسوا جانبا من معاني هذه اآلية. وأسباب

النزول السابقة أيضا هي من مصاديق هذا الحكمالعام.

وفي الحقيقة إن هذا من شروط النظم والتنظيم وال يمكن ألية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، فغياب

شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضررا بالهدف النهائي، خاصة إذا كان قائد الجماعة رسول

الله)صلى الله عليه وآله وسلم( وكالمه مطاع. كما يجب اإلنتباه إلى أن اإلذن ال يعني اإلستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصة والتفرغ

لتجارته. وإنما أن يكون صادقا في اإلستئذان. فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضررا، فمن

حقه أن ال يأذن له، وعليه أن

(11/177)

-178األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى. لهذا تضيف

اآلية: )إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله

ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمنشئت منهم(.

ومن الواضح أن هؤالء المؤمنين ال يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أنهم اجتمعوا ألمر أهم،

والمقصود من عبارة »شأنهم«، األعمال الضروريةوالمهمة فقط.

ومن جهة أخرى، ال تعني إذن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( لألشخاص دون دراسة جوانب المسألة

وأثر حضور وغياب األفراد، بل جاء هذا التعبير ليطلق يد النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وأن ال يأذن ألحد

حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة. ( من سورة43ودليل هذا الكالم ما جاء في اآلية )

التوبة حيث يالم الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( إلذنه بعض األفراد: )عفى الله عنك لم أذنت لهم

حتى يتبين الذين صدقوا وتعلم الكاذبين(. وتبين هذه اآلية كيف أوجبت على النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( التحقيق قبل اإلذن، وأن يالحظ

أبعاد هذه المسؤولية اإللهية. وتقول اآلية في الختام: )واستغفر لهم الله إن الله

غفور رحيم(. و هنا يطرح سؤال: ما الغرض من هذا اإلستغفار؟

فهل هم مذنبون رغم أخذهم اإلذن من الرسولبالمغادرة، كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟

و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان: أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيها على أن األولى أن ال

يقع اإلستئذان منهم وإن أذن لهم، ألن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصة على مصلحة

المسلمين، و ال يخلو هذا االمر من »الترك االولى«ولذا يحتاج الى االستغفار )كاالستغفار

(11/178)

-179األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1على عمل مكروه(.)

كما تبين هذه العبارة ضرورة عدم اإلستئذان بالقدر الممكن. واتباع التضحية و اإليثار حتى ال يتورطوا بارتكاب عمل تركه أولى كمغادرة الجماعة لعمل

بسيط. و الوجه الثاني: يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر

لهم مقابلة لتمسكهم بآداب الله تعالى في

(2اإلستئذان.) ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين، كما

أنه من الطبيعي أن ال تخص هذه التعاليم التنظيمية الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( وأصحابه فقط.

وإنما هي واجبة اإلتباع إزاء كل قائد إلهي، سواء كان نبيا أم إماما أم عالما نائبا لهما، حيث يتوقف مصير

المسلمين على هذه الطاعة. كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق، ألن االستمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادىء، وال يمكن إدارة

المجتمع بدونها. و المدهش تفسير كبار مفسري أهل السنة لهذه اآلية بأنها دليل على جواز اإلجتهاد وتوقف الحكم

على رأي المجتهد. وال يخفى أن اإلجتهاد المطروح في مباحث األصول والفقه يخص األحكام الشرعية،

وال يتعلق باالجتهاد في الموضوعات حيث أن اإلجتهاد في الموضوع ال يقبل اإلنكار، فكل قائد جيش أو

مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا اإلجرائية الخاصة بدائرة عمله. وليس هذا دليال على إمكان اإلجتهاد في األحكام الشرعية العامة بإيجاب

حكم بدعوى المصلحة العامة، أو نفي حكم أو تشريعآخر.

ثم بينت اآلية التالية حكما آخر له عالقة بتعاليمالنبي)صلى الله عليه وآله وسلم( حيث

--- ـ التفسير الكبير للفخر الرازي، وروح المعاني،1

وتفسير القرطبي لآليات موضع البحث. ـ التفسير الكبير للفخر الرازي ـ في تفسيره لآلية2

من طبعة دار الكتب العلمية39موضع البحث صفحة بطهران ـ الطبعة الثانية.

(11/179)

-180األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تقول:)ال تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم

بعضا(. إن الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( عندما

يدعوكم لإلجتماع، فإنه البد من أن يكون لمسألة إلهية مهمة، لهذا يجب عليكم اإلهتمام بدعوته،

واإللتزام بتعاليمه، وأال تهملوها، فأمره من اللهودعوته منه سبحانه وتعالى.

ثم تضيف اآلية )قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم

فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(. »يتسللون« مشتقة من »تسلل«، وتعني سحب الشيء من موضعه، كأن يقال: سل السيف من

غمده. كما يطلق على الذين يفرون سرا من مكانتجمع محدد لهم، كلمة »متسللون«.

»لواذا« مشتقة من »مالوذة« بمعنى اإلختفاء، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار، أو

بتعبير آخر: استغفال اآلخرين ثم الفرار من مكان تجمعهم، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما

يوجه الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( الدعوة للجهاد أو ألمر مهم آخر، يقول لهم القرآن المجيد:

»إن عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإنه ال يخفى على الله، وسيعاقبكم على هذه االعمال ومخالفتكم الوامر الرسول)صلى الله عليه وآله

وسلم( في الدنيا واآلخرة«. ماذا يقصد به »فتنة« هنا؟ قال بعض المفسرين: إنها

القتل، وآخرون قالوا: إنها تعني الضالل، كما قال بعضهم: إنها السلطان الظالم، وقيل: إنها بالء

النفاق الذي يتوغل في قلب اإلنسان. كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن اإلجتماعية

ومشاكلها، وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع، وابتالئه بالهزيمة، وسائر الفتن االخرى التي يبتلى

بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده. و على كل حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضم

جميع هذه األمور وغيرها، مثلما يضم العذاب األليمعذاب الدنيا أو عذاب اآلخرة أو كليهما.

(11/180)

-181األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - و مما يجب اإلنتباه إليه في تفسير اآلية محل البحث

وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما: األول: أن القصد من قوله تعالى: )ال تجعلوا دعاء

الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا( أنكم عندما تدعو النبى)صلى الله عليه وآله وسلم( فينبغي أن تدعوه

بأدب واحترام يليق بمنزلته، وليس كما تدعون بعضكم بعضا، والسبب يكمن في أن جماعة من

المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ اآلداب اإلسالمية في

التعامل مع اآلخرين، فكانوا ينادون الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( بعبارة: يا محمد! وهذا ال يليق بنداء قائد إلهي كبير. وتستهدف اآلية تعليم الناس

أن يدعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب، كأن يدعوه: يا رسول الله، أو:

يا نبى الله. وهذا التفسير ورد في بعض الروايات أيضا إال أنه ال

ينسجم مع ظاهر اآلية التي تحدثت عن اإلستجابة لدعوة الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( ووجوب

عدم الغياب عن الجماعة دون استئذان منه)صلى الله عليه وآله وسلم( إال أن نقول: إن كال المعنيين مقصودان لآلية واحدة، وأن مفهوم اآلية شامل

للتفسيرين األول والثاني . و اآلخر: ويبدو أنه ضعيف جدا، وهو أال تجعلوا دعاء

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( على أحد االشخاص (، ألن دعاء ولعن1ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض)

النبى)صلى الله عليه وآله وسلم( يتم وفق حسابدقيق وخاضع للتعاليم اإللهية، وهو نافذ حتما.

و لكن ليس لهذا التفسير عالقة بأول اآلية ونهايتها، ولم يرد حديث إسالمي خاص به، ولهذا السبب ال

يمكن قبوله. و تجدر اإلشارة إلى أن علماء األصول فسروا عبارة

)فليحذر الذين يخالفون عن أمره( بأن أوامر الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( تدل على

الوجوب، إال أن هذا اإلستدالل فيه نواقص اشير إليهافي علم االصول.

--- ـ لقد جاء بعد كلمة الدعاء »الم«1

فإنها تعني اإلبتهال والدعاء، أما إذا جاء الحرف»على«

فإنها تعني الدعاء على شخص لغير صالحه، وإذا افتقدت الجملة أي من هذين الحرفين فيحتمل أن

تتضمن العبارة المعنيين.

(11/181)

-182األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - و آخر آية من اآليات موضع البحث، ـ والتي هي آخر سورة النور ـ اشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد

التي تعتبر دافعا إلمتثال التعاليم اإللهية جميعا،

وضمان لتنفيذ جميع األوامر والنواهي، ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول: )أال أن لله ما في

السموات واألرض( فإن الله العالم بكل شيء )قد يعلم ما أنتم عليه( أي

يعلم أسلوبكم في التعامل و أعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم، فكلها واضحة له سبحانه وتعالى. وثابتة

في لوحة علمه )و يوم يرجعون إليه فينبئهم بماعملوا( ويجازيهم بها )والله بكل شيء عليم(.

و مما يلفت النظر تأكيد اآلية ثالث مرات على علم الله بأعمال البشر. ليشعر اإلنسان أنه مراقب بشكل

دائم، وال يخفى على الله شيء من أعمال هذا اإلنسان أبدا. ولهذا اإلعتقاد أثره التربوي الكبير

ويضمن سيطرة اإلنسان على نفسه إزاء اإلنحرافاتوالذنوب.

إلهي، نور قلوبنا بنور العلم واإليمان، وقو مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا اإليمان، لنجتاز صراطك

المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك،ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف.

رباه، نور أبصارنا بنور العفة، وقلوبنا بنور المعرفة، وأرواحنا بنور التقوى، ونور وجودنا كله بنور الهداية،

واحفظنا من التيه والغفلة، وأعذنا من وساوسالشيطان.

إلهي، وطد أركان حكومة العدل اإلسالمي من أجل تنفيذ حدودك، واحفظ مجتمعنا من الزلل والسقوط

في هاوية الرذيلة، إنك على كل شيء قدير.نهاية سورة النور

* * *

(11/182)

-183األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -سورة الفرقان

مكية و عدد آياتها سبع وسبعون آية

(11/183)

-185األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -»سورة الفرقان«

محتوى سورة الفرقان: (، فإن1هذه السورة بحكم كونها من السور المكية)

أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد، وبيان نبوة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

والمواجهة مع الشرك والمشركين، واالنذار منالعواقب الوخيمة للكفر وعبادة األصنام والذنوب.

و تتألف هذه السورة في مجملها من ثالثة أقسام: ـ القسم األول: الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض

منطق المشركين بشدة، و يستعرض ذرائعهم، ويرد عليها، ويخوفهم من عذاب الله، وحساب يوم

القيامة، و عقوبات جهنم األليمة، ويذكرهم بمقاطع من قصص األقوام الماضية الذين افترستهم على أثر

مخالفتهم لدعوة األنبياء ـ الشدائد والباليا والعقوبات، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤالء

المشركين المعاندين. في القسم الثانى: ألجل إكمال هذا البحث، تبحث

األيات بعض دالئل التوحيد ومظاهر عظمة الله في األكوان، بدءا من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة

الليل، وهبوب الرياح، ونزول األمطار، وإحياء األراضي الموات، وخلق السماوات واألرضين في

ستة أيام، وخلق الشمس والقمر، وسيرهما المنظمفي األفالك السماوية، وما شابه ذلك.

--- ـ يصر بعض المفسرين على أن ثالث آيات من هذه1

( نزلت في المدينة، ولعل ذلك70، 69، 68السورة )عت في هذه ألن أحكاما مثل قتل النفس والزنا، شر

اآليات، في حين أن التدقيق في اآليات التي قبلها والتي بعدها، يكشف جيدا عن أن السياق واحد متصل

ومنسجم تماما حول )عباد الرحمن( وبيان أوصافهم، لذا فالظاهر أن السورة نزلت كلها

في مكة.

(11/185)

-186األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فالقسم األول في الحقيقة ـ يحدد مفهوم )ال إله(،

والقسم الثاني يحدد مفهوم )إال الله(. القسم الثالث: مختصر جذاب جدا، وجامع لصفات

المؤمنين الحقيقيين )عباد الرحمن( وعباد الله المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين

ذكروا في القسم األول، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماما. كما أننا سنرى أن هذه الصفات

مجموعة من االعتقاديات واألعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتالك الوعي الكافي، واإلحساس

واإللتزام بالمسؤولية اإلجتماعية. و اسم هذه السورة قد اخذ من آيتها األولى، التي تعبر عن القرآن بـ »الفرقان« )الفاصل بين الحق

والباطل(.فضيلة سورة الفرقان:

ورد في حديث عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أن »من قرأ سورة الفرقان )و تدبر في محتواها

وعمل بما ورد فيها( بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية ال ريب فيها، وأن الله يبعث من في

( )أي مؤمن بأن الساعة...(1القبور«.) و نقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن اإلمام

أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السالم أنه قال له: »يابن عمار، ال تدع قراءة سورة )تبارك الذي نزل

الفرقان على عبده( فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبدا، ولم يحاسبه، وكان منزله في

(2الفردوس األعلى«.) كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كل من

تال بحق صفات عباد الله المخلصين المبينة في السورة كما هي، وامتزجت بقلبه وروحه، وبنى

صفاته أعماله طبقا لها فإن منزله الفردوس األعلى.* * *

--- ـ مجمع البيان آخر اآلية مورد البحث.1 ـ ثواب االعمال للصدوق، طبقا لنقل نور الثقلين،2

.2، ص 4ج

(11/186)

-187األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليتان

ل الفرقان على عبده ليكون للعلمين تبارك الذى نزموت واألرض ولم يتخذ1نذيرا) ( الذى له ملك الس

ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء(2فقدره تقديرا)

التفسيرالمقياس األعلى للمعرفة:

تبدأ هذه السورة بجملة »تبارك« من مادة »بركة«، ونعلم أن الشيء ذو بركة، عبارة عن أنه ذو دوام

وخير ونفع كامل. يقول تعالى: )تبارك الذي نزل(1الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(.)

وجل الملفت لإلنتباه أن ثبوت البركة لذات الخالق عز بواسطة نزول الفرقان، يعني أنه أنزل قرآنا فاصال بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير

والبركة هي أن يمتلك اإلنسان بيده وسيلة المعرفة ـمعرفة الحق من الباطل.

و هنا وقفة مهمة أيضا، وهي أن كلمة »الفرقان« وردت بمعنى »القرآن« تارة، و تارة بمعنى معجزات

مميزة للحق من الباطل، ووردت بمعنى »التوراة«تارة--- (54، آخر اآلية )5 ـ ورد شرح كلمة »البركة« في ج 1

من سروة األعراف، شرح اصل »البركة«.

(11/187)

-188األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -أخرى.

عن القرآن والفرقان، أهما شيئان، أو شيء واحد؟ فقال: »القرآن: جملة الكتاب، والفرقان: المحكم

الواجب العمل به«. وال منافاة بين هذا القول وبين أن الفرقان هو جميع

آيات القرآن، والمراد هو أن آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقا أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين

الحق والباطل. ولموهبة »الفرقان والمعرفة« أهمية بالغة بحيث أن القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: )يا(.1أيها الذي آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا..()

نعم، فبدون التقوى ال يمكن تمييز الحق من الباطل، ألن األهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجابا

كثيفا، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.و على أية حال، فالقرآن المجيد هو الفرقان األعلى.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظامحياة البشر.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية واإلجتماعية، وهو الميزان والمحك على صعيد األفكار والعقائد، والقوانين، واألحكام،

واآلداب، واألخالق.

وهذه الوقفة مهمة أيضا، حيث يقول تعالى )نزل الفرقان على عبده( نعم، فمقام العبودية واإلنقياد

التامين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان،ولتلقي موازين الحق والباطل.

والنكتة األخيرة التي طرحت في هذه اآلية، تبين أن هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، اإلنذار الذي نتيجته اإلحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق اإلنسان. وعبارة »للعالمين«

كاشفة عن أن شريعة اإلسالم--- .29 ـ سورة األنفال، اآلية 1

(11/188)

-189األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - عالمية ال تختص بمنطقة معينة، وال بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، وذلك أن »العالمين« كما أنها غير محدودة من حيث المكان،

فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضا، فـ »العالمين«تشمل جميع األجيال القادمة أيضا )فتأمل!(.

اآلية الثانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي األساس، والبقية نتائج وفروع

لها، فتقول أوال: )الذي له ملك السموات واألرض()1.)

نعم، إنه الحاكم على كل عالم الوجود، وكل السماوات واألرض، فال شيء خارج عن سلطة

حكومته، وباإللتفات إلى تقدم »له« على »ملك السموات« الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية

يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات واألرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك ألن حكومته عامة وخالدة وواقعية، بخالف حاكمية

غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقتفهي مرتبطة به سبحانه.

ثم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد األخرى،(.2فيقول تعالى: )ولم يتخذ ولدا()

و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث األصل إما ألجل اإلستفادة من طاقته البشرية في األعمال، أو ألجل اإلستعانة به حال الضعف والعجز

والشيخوخة، أو ألجل اإلستئناس به في حال الوحدة،

وجل منزهة عن ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عزأي واحد من تلك اإلحتياجات.

وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأن»المسيح«)عليه السالم( ابن الله، أو ما

--- ـ كلمة )الملك(1

كما يقول »الراغب« في »المفردات« بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه، في حين أن )الملك( ليس

دليال على الحاكمية وتصرف المالك دائما. وبهذا الترتيب: فكل ملك ملكا، في حين أن ليس كل ملك

ملكا. ـ ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن الله تعالى،2

( من سورة116ودالئل ذلك في تفسير اآلية )البقرة.

(11/189)

-190األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يعتقده اليهود أن »العزير« ابن الله، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب، ثم يضيف جل ذكره: )ولم

يكن له شريك في الملك(. فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو

الشركاء، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة، ويسألونهم

المعونة لقضاء حوائجهم، حتى آل بهم األمر أنهم كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جمال

قبيحة ملوثة بالشرك، مثل: »لبيك ال شريك لك، إال شريكا هو لك، تملكه وما ملك«. فإن القرآن يدين

ويدحض كل هذه األوهام. و يقول تعالى في العبارة األخيرة: )وخلق كل شيء

فقدره تقديرا(. ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسما من موجودات هذا العالم مخلوقات »الله«، وأن قسما

منها مخلوقات »الشيطان«. و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين

الله والشيطان، ذلك ألنهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من »الخير« و »الشر«، والحال أال شيء في

عالم الوجود إال الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرا، فإما أن يكون ذا جنبة »نسبية« أو

»عدمية«، أو أن يكون نتيجة ألعمالنا )فتأمل(!.

* * *بحث

تقدير الموجودات بدقة: ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من

الدالئل المحكمة على معرفة الله وتوحيده، فتقديراته الدقيقة أيضا دليل واضح آخر، أننا ال يمكن أن نعتبر

مقادير موجودات هذا العالم المختلفة، وكميتها وكيفيتها المحسوبة، معلولة للصدفة التي ال تتوافق

مع حساب اإلحتماالت. و قد تقصى العلماء األمر في هذا الصدد، وأزاحوا

الستار عن أسراره

(11/190)

-191األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - المدهشة التي تذهل فكر االنسان، وتترك لسانه

يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بال اختيار.و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانبا من ذلك:

يقول العلماء: لو كانت قشرة األرض أسمك مما هي عليه اآلن بمقدار بضعة أقدام، لما وجد غاز

»االوكسجين« الذي يعتبر المادة االصلية للحياة، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدة أقدام ال

متصت جميع ما في الجو من الكاربون و االوكسجين، ولما امكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح االرض، ويحتمل أن تقوم قشرة األرض والبحار

بامتصاص كل األوكسجين، وكان على االنسان أنينتظر نمو النباتات التي تلفظ األوكسجين.

وطبقا للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتضح أن لألوكسجين مصادر مختلفة، ولكن مهما كان مصدره

فإن كميته مطابقة الحتياجاتنا بالضبط. ولو كانت طبقة الغالف الجوي أرق مما هي عليه اآلن

مما هو، فإن بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالماليين في الهواء الخارجي، كانت تضرب جميع

أجزاء الكرة األرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميال في الثانية، وكان في

إمكانها أن تشعل كل شيء قابل لإلحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية الرتطمت كلها باألرض

ولكانت العاقبة مروعة، ولو تعرض األنسان لالصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة

الرصاصة تسعين مرة، لتحول الى رماد لمجرد

حرارته. الغالف الجوي سميك بالقدر الالزم بالضبط لمرور

األشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر

باإلنسان، إال إذا عرض نفسه لها مدة أطول من الالزم. وعلى الرغم من اإلنبعاثات الغازية من اعماق األرض طول الدهور، ومعظمها سام، فإن الهواء باق

دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبتهالمتوازنة الالزمة لوجود اإلنسان.

إن الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلكالكتلة الفسيحة من الماء،

(11/191)

-192األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء

والمطر والمناخ المعتدل، وأخيرا استمد اإلنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى، ويقر

بواجباته شاكرا! إن التعادل العجيب بين األوكسجين وثاني أوكسيد

الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النبات كله، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر، غير أن

أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة

ماء الصودا، وهوغاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق باألرض، و اليتم فصله إلى أوكسجين وكاربون إال

بصعوبة كبيرة، وإذا أشعلت نارا، فإن الخشب ـ الذي يتكون غالبا من األوكسجين والكاربون والهيدروجين

ـ يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع األوكسجين بشدة، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد

الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع األوكسجين فنحصل على بخار الماء.

ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره. وحين يتنفس رجل فإنه يستنشق األوكسجين

فيتلقاه الدم، ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه، ويقوم هذا األكسجين يحرق طعامه في كل خلية

ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبيا، النتيجةهي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء.

و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه،

ويعود الى الجو مرة اخرى من خالل الزفير، وكل كائن حيواني حي يمتص االوكسجين ويلفظ ثاني

اوكسيد الكاربون. ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي

حيوان ـ مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أن اإلنسان وحده

بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثال في تطورات آفات

الحيوان

(11/192)

-193األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -والحشرات والنبات.

والواقعة اآلتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود اإلنسان، فمنذ سنوات عديدة زرع

نوع من الصبار )الكاكتوس( في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي

مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة، ولم يجد األهالي وسيلة لصده عن اإلنتشار، وصارت

أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرعالصامت، يتقدم في سبيله دون عائق!

وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة ال تعيش إال على ذلك الصبار وال تتغذى بغيره، وهي سريعة اإلنتشار وليس لها عدو يعوقها

في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار، ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلةللوقاية، تكفي لصد الصبار عن األنتشار إلى االبد. وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائما

مجدية. ولماذا لم تسيطر بعوضة المالريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع

انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شماال في أحد الفصول حتى وصلت إلى

نيويورك. و لماذا لم تتطور ذبابة »تسي تسي« »الذبابة

المنومة« حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها

الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر اإلنسان الطاعون واألوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى األمس القريب، وأن

يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو

(.1حقا إلى الدهشة!)* * *

--- ـ اقتباس من كتاب »اإلنسان ال يقوم وحده« تأليف1

كريسي موريسون، ترجمه محمود صالح الفلكي ،66، 65بعنوان )العلم يدعو لإليمان(، من الصفحات

70 ،71 ،159 ،160.

(11/193)

-194األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

و اتخذوا من دونه ءالهة ال يخلقون شيئا وهم يخلقون وال يملكون ألنفسهم ضرا وال نفعا وال

( وقال الذين3يملكون موتا وال حيوة وال نشورا)إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون كفروا إن هذآ إال

(وقالوا أسطير االولين4فقد جآءو ظلما وزورا ) ( قل أنزله5اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيال)

موت واالرض إنه كان غفورا ر فى الس الذى يعلم السحيما) (6ر

التفسيراإلتهامات المتعددة األلوان:

هذه اآليات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في اآليات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة األوثان. ثم في اإلدعاءات الواهية لعبدة

األوثان، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن، وشخصالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اآلية األولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلىالمحاكمة، ولتحريك وجدانهم

(11/194)

-195األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت

قاطع وداحض: )واتخذوا من دون الله آلهة ال يخلقون

شيئا وهم يخلقون(. المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود، وال يدعي المشركون هذا اإلدعاء ألوثانهم، بل يعتقدون أنها

مخلوقة لله. وبعد، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة األوثان

التي ال تملك لنفسها نفعا وال ضرا، وال تملك موتا وال حياة وال نشورا، فما بالك بما تستطيعه لآلخرين!؟

)وال يملكون ألنفسهم ضرا وال نفعا وال يملكون موتاوال حياة وال نشورا(.

واالصول المهمة عند اإلنسان هي هذه األمور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة،

والنشور. فمن يكن بحق مالكا أصيال لهذه األمور، يكن بالنسبة

إلينا جديرا بالعبادة. لكن هذه األصنام غير قادرة أصال على هذه األمور

لنفسها، فكيف تريد أن توفر هذه االمور لمن يعبدهامن المشركين؟!

أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد اإلنسان ويتذلل على أعتاب موجود ال اختيار له في نفسه، فما بالك

باختياره لآلخرين!؟ هذه األوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنها ال يؤمل منها شيء في

اآلخرة أيضا. هذا التعبير يدل على أن هذه الفئة من المشركين، المخاطبة في هذه اآليات، كانت تقبل بالمعاد نوعا

من القبول )المعاد الروحي ال الجسدي(، أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد ـ يتناول القضية كمسلمة، فيخاطبهم بشكل قاطع

على هذا الصعيد، وهذا مألوف، فاإلنسان أحيانا يكون أمام شخص منكر للحقيقة، لكنه يدلي بكالمه طبقا

ألفكاره هو، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر. خاصة وأن دليال ضمنيا على المعاد قد كمن في نفس اآلية،

ألن خالقا حينما يبتدع مخلوقا ـ وهو مالك موته وحياته وضره ونفعه ـ البد أن يكون له هدف من

خلقه،

(11/195)

-196األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - واليمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس

بدون اإليمان بالنشور، ذلك ألنه إذا انتهى بموت اإلنسان كل شيء، فسوف تكون الحياة فارغة بال

معنى، وهذا يدل على أن ذلك الخالق لم يكن حكيما. إذا تأملنا جيدا وجدنا مسألة »الضرر« جاءت في اآلية

قبل »النفع« وذلك ألن اإلنسان ينفر من الضرر بالدرجة األولى، ولهذا كانت جملة »دفع الضرر أولى

من جلب المنفعة« أحد القوانين العقالئية. وإذا كان »الضرر« و »النفع« و »الموت« و »الحياة« و »النشور« جاءت بصيغة النكرة، أيضا، فألجل بيان

هذه الحقيقة، وهي أن هذه األوثان ال تملك نفعا وال ضرا وال موتا وال حياة وال نشورا، حتى في مورد

واحد، فما بالك بالموارد كلها!؟ وإذا ذكرت »ال يملكون« و »ال يخلقون« بصيغة »جمع

المذكر العاقل« )في حال أن هذه األوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور( فذلك ألن

هذا الخطاب ال يتعلق باألوثان الحجرية والخشبية فحسب، بل بالجماعة التي كانت تعبد المالئكة أو المسيح، وألن العاقل وغير العاقل مجتمعان في

معنى هذه الجملة، فذكر الجميع بصيغة العاقل منباب »التغليب« كما في اإلصطالح األدبي.

أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقا إلعتقاد المخاطبين به، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم،

يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه األوثان ذات عقل وشعور، فلماذا ال تستطيع أن تدفع عن نفسها ضررا،

أو أن تجلب منفعة!؟ اآلية التالية ـ تتناول تحليالت الكفار ـ أو حججهم على

األصح ـ في مقابل دعوة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، فتقول: )وقال الذين كفروا إن هذا إال إفك

افتراه وأعانه عليه قوم آخرون(. في الواقع، إنهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم

مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا

الرسول

(11/196)

-197األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - صلى الله عليه وآله وسلم أوال باإلفتراء والكذب، خاصة وأنهم قد استخدموا لفظة »هذا« ليحقروا

القرآن.

ثم من أجل أن يثبتوا أنه غير قادر على اإلتيان بمثل هذا الكالم ـ ألن اإلتيان بمثل هذا الكالم المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة، وما كانوا يريدون

التسليم بهذا ـ ومن أجل أن يقولوا أيضا: إن هذا خطة مدبرة ومحسوبة، قالوا: إنه لم يكن وحده في

هذا العمل، بل أعانه قوم آخرون، وهذه مؤامرةبالتأكيد، ويجب الوقوف بوجهها.

بعض المفسرين قالوا: إن المقصود بـ )قوم آخرون(جماعة من اليهود.

وقال آخرون: إن المقصود بذلك ثالثة نفر كانوا من أهل الكتاب، وهم: »عداس« و »يسار« و »حبر« أو

»جبر«. على أية حال ـ بما أن هذه المواضيع لم يكن لها

وجود في أوساط مشركي مكة، وإن قسما منها مثل قصص األنبياء األولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ

فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب

الناس من سماع هذه اآليات. لكن القرآن يرد عليهم في جملة واحدة فقط، تلك

(1هي: )فقد جاؤوا ظلما وزورا(.) »الظلم« هنا ألن رجال أمينا طاهرا وصادقا مثل

الرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( اتهموه بالكذب واإلفتراء على الله، وباإلشتراك مع جماعة

من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضا. و »الزور« هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقا، ألن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( دعاهم عدة

مرات إلى اإلتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزواوضعفوا أمام هذا التحدي.

--- ـ »جاؤا«1

من مادة »مجيء«: يراد بها عادة معنى »القدوم«،لكنها وردت هنا بمعنى »اإلتيان«

( سورة يونس أن81، كما نقرأ أيضا في اآلية )موسى)عليه السالم(

قال للسحرة »ما جئتم به السحر«.

(11/197)

-198األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهذا بالذات يدل على أن هذه اآليات ليست من صنع

عقل البشر، ألن األمر لو كان كذلك، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن

يأتوا بمثلها. ومن هنا فإن عجزهم دليل على كذبهم،وكذبهم دليل على ظلمهم.

لهذا فالجملة، القصيرة )فقد جاؤوا ظلما وزورا( ردبليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.

كلمة »زور« في األصل من »زور« )على وزن غور( أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثم أطلقت على كل شيء يتمايل عن حد الوسط، وبما أن »الكذب« انحرف عن

الحق، ومال إلى الباطل، فقد، سموه »زورا«. تتناول اآلية التالية لونا آخر من التحليالت المنحرفة

والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن،فتقول: )وقالوا أساطير األولين أكتتبها(.

ال شيء عنده من قبل نفسه، ال علم وال ابتكار، فكيف له بالنبوة والوحي! إنه استعان بآخرين، فجمع عدة من األساطير القديمة، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من اآلخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف )فهي تملى

عليه بكرة وأصيال(. إنه يتلقى المعونة ألجل هدفه في األوقات التي يقل

فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشيا. هذا الكالم ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح لإلتهامات

التي نقلت عنهم في اآلية السابقة. إنهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن

مجموعة من نقاط الضعف: أولها: أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقا، بل

مجموعة من األساطير القديمة. و الثانية: أن نبي اإلسالم ال يستطيع اإلستمرار

بدعوته ـ حتى يوما واحدا ـ بدون مساعدة اآلخرين، فالبد أن يملوا الموضوعات عليه بكرة وعشيا، وعليه

أن

(11/198)

-199األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يكتبها.

واألخرى: أنه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال: إننيامي، فهي دعوى كاذبة.

إنهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( بواسطة هذه

األكاذيب واإلتهامات، في الوقت الذي يعلم كل العقالء الذين عاشوا مدة في ذلك المجتمع، أن

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( لم يكن قد درس عند أحد، مضافا إلى أنه لم تكن له أية رابطة مع

جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من اآلخرين كل يوم بكرة وعشيا، فكيف أمكن أن يخفى

على أحد؟ فضال عن هذا، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر، بين الناس ومنفردا،

وفي كل حال. مضافا إلى كل هذا، كان القرآن مجموعة من

التعليمات اإلعتقادية، واألحكام العملية، والقوانين، ومجموعة من قصص األنبياء، ولم تكن قصص األنبياء لتشكل كل القرآن، مضافا إلى أن ما ورد من قصص

األقوام األولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين )التوراة واإلنجيل( المحرفين، وأساطير

العرب الخرافية، لذلك ألن ما في العهدين مليء بالخرافات، والقرآن منزه عنها، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنبا إلى جنب، وقايسنا بينهما، فسوف

(1تتجلى حقيقة األمر جيدا.) لذا فاآلية األخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه

اإلتهامات الواهية، فتقول: )قل أنزله الذي يعلم السر في السموات واألرض(. إشارة إلى أن محتوى

هذا الكتاب، واألسرار، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ األقوام األولين، والقوانين

واإلحتياجات البشريه، وحتى أسرار عالم الطبيعةواألخبار المستقبلية،

--- ـ يعتقد جماعة من المفسرين أن المراد من جملة1

)اكتتبها(: هو أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

أراد من اآلخرين أن يكتبوا له هذه اآليات، وكذلك،جملة )تملى عليه(

مفهومها: هو أن أولئك كانوا يلقونها إليه، وكان هو يحفظها. لكنه مع اإللتفات إلى أننا ال دليل لدينا على

حمل هاتين الجملتين على خالف الظاهر، يكون التفسير الذي ورد في المتن هو األصح، ففي الواقع

إن أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النبي)صلى اللهعليه وآله وسلم(

من هذا الطريق، بأنه يقرأ ويكتب، لكنه كان يظهرنفسه أميا عمدا.

(11/199)

-200األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم

ينظم بمساعدة هذا أو ذاك. بل بعلم الذي هو جديربأسرار السماء واألرض، والمحيط بكل شيء علما.

لكن مع كل هذا، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحا أمام هؤالء المغرضين والمنحرفين، فيقول

تبارك وتعالى في ختام اآلية )إنه كان غفورا رحيما(. فبمقتضى رحمته أرسل األنبياء، وأنزل الكتب

السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظلاإليمان والتوبة عن ذنوبكم التي ال تحصى.

* * *

(11/200)

-201األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

سول يأكل االطعام ويمشى فى وقالوا مال هذا الر (7االسواق لوال أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا)

أويلقى إليه كنز أوتكون له جنة يأكل منها وقال رجال مسحورا) ( انظر كيف8الظلمون إن تتبعون إال

(9ضربوا لك االمثل فضلوا فال يستطيعون سبيال) تبارك الذى إن شآء جعل لك خيرا من ذلك جنت تجرى

(10من تحتها االنهر ويجعل لك قصورا)سبب النزول

في رواية عن اإلمام الحسن العسكري)عليه السالم(، أنه قال: قلت ألبي علي بن محمد)عليهما السالم(:

هل كان رسول الله )صلى الله عليه وآله وسلم( يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: مرارا كثيرة وذلك أن رسول الله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبدالله بن أبي أمية المخزومي

فقال: يا محمد لقد أدعيت دعوى عظيمة، وقلت مقاال هائال، زعمت أنك رسول رب العالمين، وما

ينبغي لرب العالمين

(11/201)

-202األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا

مثلنا، تأكل كما نأكل وتمشي في األسواق كما نمشي، فقال رسول الله: اللهم أنت السامع لكل

صوت، والعالم بكل شيء، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه: يا محمد: )وقالوا ما لهذا الرسول...(إلى

(1قوله تعالى )و يجعل لك قصورا(.)التفسير

لم ال يملك هذا الرسول كنوزا وجنات؟! عرض في اآليات السابقة قسم من إشكاالت الكفار

فيما يخص القرآن المجيد، وأجيب عليها، ويعرض في هذه اآليات قسم آخر يتعلق بشخص الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( ويجاب عنها، فيقول تعالى: )وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في

األسواق(. ما هذا النبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من األفراد

العاديين؟ ويمشي في األسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة

الرسل وال طريقة الملوك والسالطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرسول التبليغ بالدعوة اإللهية، ويريد

أيضا السلطنة على الجميع! لقد كان المشركون يرون أنه ال يليق بذوي الشأن

الذهاب إلى األسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أنيرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثم أضافوا: )لوال أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا(، فلم لم يرسل إليه ـ على األقل ـ ملك من عند الله،

شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس!؟ حسن جدا، لنفرض أننا وافقنا على أن رسول الله

يمكن أن يكون إنسانا، ولكن لماذا يكون فقيرا فاقداللثروة والمال!؟ )أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة

--- .6، الصفحة 4 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء 1

(11/202)

-203األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يأكل منها(.

ولم يكتفوا بهذا أيضا، فقد اتهموه آخر األمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء، كما نقرأ في ختام

هذه اآلية نفسها )وقال الظالمون إن تتبعون إال رجال

مسحورا(. ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول األفراد

فيسلبونهم قوام عقولهم! من مجموع اآليات أعاله، يستفاد أن المشركين كانت

لديهم عدة إشكاالت واهية حول الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم(، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم

مرحلة بعد مرحلة. أوال: إنه أساسا يجب أن يكون ملكا، وهذا الذي يأكلالطعام ويمشي في األسواق ليس ملكا بالضرورة.

ثم قالوا: حسن جدا، إن لم يكن ملكا، فيرسل الله ـعلى األقل ـ ملكا يرافقه ويعينه.

ثم تنازلوا عن هذا أيضا، فقالوا: لنفرض أن رسول الله بشر، فينبغي أن يلقى إليه كنز من السماء،

ليكون دليال على أنه موضع اهتمام الله. وقالوا في نهاية المطاف: لنفرض أنه لم يكن له أى من تلك الميزات، فينبغي على األقل أال يكون إنسانا فقيرا، فليكن كأي مزارع مرفه، له بستان يضمن منه معيشته. لكنه فاقد لكل هذا مع األسف، ويقول إنني

نبي!؟ واستنتجوا في الختام، أن ادعاءة الكبير هذا، في مثل

هذه الشرائط، دليل على أن ليس له عقل سليم. اآلية التالية تبين جواب جميع هذه اإلشكاالت في

عبارة موجزة: )انظر كيف ضربوا لك األمثال فضلوافال يستطيعون سبيال(.

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خالل مجموعة من األقوال الواهية التي ال أساس

لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه

الحقيقة.

(11/203)

-204األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حقا، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام

استدالالتنا المنطقية من خالل حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون االجابة عليها بالتفصيل:

انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمامالدليل المنطقي.

و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، ألن: أوال: لماذا يجب أن يكون الرسول من جنس المالئكة؟

بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آالم ورغبات وحاجات

ومشكالت ومسائل حياة االنسان تماما، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلم أن تأمين هذه

األهداف لم يكن ليتحقق لو كان من المالئكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم اإلهتمام بالدنيا:

إنه ملك، وليست له حاجات مادية تجره إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه ال يدري ما

عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات )إذا( مثل تلك. ثانيا: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشرا من أجل

تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية إلدراك هذهالحقيقة، وخاصة معجزة عظيمة كالقرآن!

ثالثا: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في األسواق يكون سببا لإلندماج بالناس أكثر، والغوص

في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل. رابعا: عظمة الرسول وشخصيته مردهما ليس إلى

الكنز والنفائس وال بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر

أن المكانة ـ و حتى القرب من الله ـ في األثرياء خاصة، في حال أن األنبياء جاؤوا ليقولوا: أيها

اإلنسان، إن قيمة وجودك ليست بهذه األشياء، إنهابالعلم والتقوى واإليمان.

خامسا: بأي مقياس كانوا يعتبرونه »مسحورا« أو »مجنونا«؟ الشخص الذي كان عقله معجزا بشهادة

تأريخ حياته وانقالبه العظيم وتأسيسه الحضارة اإلسالمية، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟

أيصح أن نقول إن تحطيم

(11/204)

-205األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - األصنام ورفض اإلتباع األعمى لألجداد دليل على

الجنون؟! إتضح بناء على ما قلناه أن )األمثال( هنا، خاصة مع

القرائن الموجودة في اآلية، بمعنى األقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها بـ )األمثال( بسبب أنهم

يلبسونها لباس الحق فكانها مثله، وأقوالهم مثل(1األدلة المنطقية، في حال أنها ليست كذلك واقعا.)

و ينبغي أيضا اإللتفات إلى هذه النكتة، وهي أن أعداء

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( كانوا يتهمونه ـ بـ »الساحر« وأحيانا بـ »المسحور« وإن كان بعض

المفسرين قد احتمل أن »المسحور« بمعنى »الساحر« )ألن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم

الفاعل أحيانا( ولكن الظاهر أن بينهما فرقا. عندما يقال عنه بأنه ساحر، فألن كالمه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، وألنهم ما كانوا يريدون اإلقراربهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ »الساحر«.

أما »المسحور« فمعناه أن السحرة تدخلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختالل حواسه، هذا اإلتهام

نشأ من أن الرسول كان محطما لسنتهم، ومخالفا لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه

مصالحهم الفردية. أما جواب جميع هذه اإلتهامات فقد اتضح من الكالم

أعاله و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنه لماذا قال تعالى:

)فضلوا فال يستطيعون سبيال(. الجواب هو أن اإلنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما، إذا كان مريدا للحق باحثا عنه،

أما من يتخذ موقفه ـ ابتداء ـ على أساس أحكام--- ـ كثير من المفسرين اعتبروا )االمثال(1

هنا بمعنى )التشبيهات( لكنهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون، وبعض آخر اعتبر

)األمثال( هنا بمعنى )الصفات(، ألن أحد معاني )المثل( ـ طبقا لما قاله الراغب في المفردات هو

)الصفة(، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي ال أساس لها، ذلك ألن ما في صدر وذيل اآلية القرآنية

أعاله يدل على هذا المعنى، فمن جانب يقول بعنوان التعجب: انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول: االوصاف التي تؤدي الى ضاللهم الذي ال

هداية بعده.

(11/205)

-206األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - مسبقة خاطئة ومضلة، نابعة من الجهل والتزمت والعناد، فمضافا إلى أنه ال يعثر على الحق، فإنه

سيتخذ موقعه ضد الحق دائما. اآلية األخيرة مورد البحث ـ كاآلية التي قبلها ـ توجه

خطابها إلى النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(على سبيل تحقير مقوالت أولئك، وأنها ال تستحق اإلجابة

عليها، يقول تعالى: )تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها األنهار ويجعل

لك قصورا(. و إال، فهل أحد غير الله أعطى اآلخرين القصور

والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ ترى أيستحيل على الله

القادر المنان أن يجعل لك أفضل من هذه القصورالبساتين؟!

لكنه ال يريد أبدا أن يعتقد الناس أن مكانتك مردها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كاألفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون

مالذا لجميع هؤالء ولعموم الناس. أما لماذا يقول قصورا وبساتين أفضل مما أراده

أولئك؟ فألن »الكنز« وحده ليس حالل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافا الى أنهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن

معيشتك، أما القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصورا وبساتين، لكن الهدف من بعثتك

ورسالتك شيء آخر. ورد في »الخطبة القاصعه« من »نهج البالغة« بيانمعبر وبليغ: هنالك حيث يقول اإلمام)عليه السالم(:

»... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون)عليهما السالم( على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إن أسلم بقاء

ملكه ودوام عزه فقال: »أال تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون

من حال

(11/206)

-207األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الفقر والذل، فهال ألقي عليهما أساورة من ذهب،

إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان،

وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش األرض لفعل، ولو فعل لسقط البالء وبطل الجزاء،

واضمحلت األنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، وال استحق المؤمنون ثواب المحسنين، وال لزمت

األسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى األعين من

حاالتهم، مع قناعة تمأل القلوب والعيون غنى،وخصاصة تمأل األبصار و األسماع أذى.

و لو كانت األنبياء أهل قوة ال ترام وعزة ال تضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد

الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في اإلعتبار وأبعد لهم في اإلستكبار، وآلمنوا عن رهبة قاهرة

لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون

اإلتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه واإلستكانة ألمره واإلستسالم لطاعته، أمورا له خاصة

ال تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى(1واإلختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل«.)

و الجدير بالذكر أن البعض يرى بأن المراد بالجنة والقصور، جنة اآلخرة قصورها، لكن هذا التفسير ال

(2ينسجم مع ظاهر اآلية بأي وجه.)* * *

--- نهج البالغة.192 ـ »الخطبة القاصعة«، الخطبة 1 ـ وكذلك الذين قالوا: إن المقصود هو جنات الدنيا2

وقصور اآلخرة، فالفعالن الماضي والمضارع )جعل ويجعل( اللذان في االية، ينبغي أال يكونا باعثا على

هكذا وهم أيضا، ألننا نعلم طبقا لقواعد األدب العربي، أن األفعال في الجملة الشرطية تفقد

مفهومها الزماني.

(11/207)

-208األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

اعة سعيرا ) اعة واعتدنا لمن كذب بالس بل كذبوا بالسكان بعيد سمعوا لها تغيظا11 (إذا رأتهم من م

نين دعوا12وزفيرا) قر ( وإذآ ألقوأ منها مكانا ضيقا م ( ال تدعوا اليوم ثبورا وحدا وادعوا13هنالك ثبورا )

( قل أذلك خير أم جنة الخلد التى وعد14ثبورا كثيرا) ( لهم فيها ما15المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا)

(16يشآءون خلدين كان على ربك وعدا مسئوال)

التفسيرمقارنة بين الجنة والنار:

في هذه اآليات ـ على أثر البحث في اآليات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنبوة ـ

يتناول القرآن الكريم قسما آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتضح مع بيان هذا القسم أنهم كانوا

أسارى التزلزل واإلنحراف في تمام أصول الدين، في التوحيد، وفي النبوة، وفي المعاد، حيث ورد

القسمان

(11/208)

-209األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - األوالن منه في اآليات السابقة، ونقرأ اآلن القسم

الثالث:يقول تعالى أوال: )بل كذبوا بالساعة(.

وبما أن كلمة »بل« تستعمل ألجل »اإلضراب« فيكون المعنى: أن ما يقوله أولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة، إنما ينبع في الحقيقة من إنكارهم

المعاد، ذلك أنه إذا آمن االنسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء اإللهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا

اإلستهزاء والالمباالة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النبي وبراهينه الظاهرة، ولن يتذلل أمام

األصنام التي صنعها وزينها بيده. لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استداللي، ذلك ألن

هذه الفئة لم تكن من أهل اإلستدالل والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم

المشؤوم واألليم، فهذا االسلوب قد يكون أقوى تأثيرا لمثل هؤالء األفراد يقول أوال: )واعتدنا لمن

(1كذب بالساعة سعيرا(.) ثم وصف هذه النار المحرقة وصفا عجيبا، فيقول تعالى: )إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا

وزفيرا(. في هذه اآلية، تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدة

هذا العذاب اإللهي: ـ إنه ال يقول: إنهم يرون نار جهنم من بعيد، بل1

يقول: إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عينا وأذنا ـ فسمرت عينها على الطريق بانتظار هؤالء

المجرمين. ـ إنها ال تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون2

منها، حتى تهيج، بل إنها تزفر من مسافة بعيدة.. منمسافة مسيرة عام، طبقا لبعض الروايات.

ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ »التغيظ« وذلك3 عبارة عن الحالة التي يعبر بها اإلنسان عن غضبه

بالصراخ والعويل. ـ إن لجهنم »زفيرا« يعني كما ينفث اإلنسان4

النفس من الصدر بقوة، وهذا--- ـ »سعير«1

من »سعر« على وزن »قعر« بمعنى التهاب النار، وعلى هذا

يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

(11/209)

-210األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -عادة في الحالة التي يكون اإلنسان مغضبا جدا.

مجموع هذه الحاالت يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان

المفترس الجائع لغذائه »نستجير بالله«. هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أما حالهم في

نار جهنم فيصفها تعالى: )وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا(1مقرنين دعوا هنالك ثبورا(.)

( من30هذا ليس ألن جهنم صغيرة، فإنه طبقا لآلية ) سورة ق )يوم نقول لجهنم هل امتألت وتقول هل من مزيد( فهي مكان واسع، لكن أولئك يحصرون

مكانا ضيقا في هذا المكان الواسع، فهم »يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في

(2الحائط«.) كما أن كلمة »ثبور« في األصل بمعنى »الهالك

والفساد«، فحينما يجد اإلنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك، فإنه يصرخ عاليا »واثبورا« التي

مفهومها ليقع الموت علي«. لكنهم يجابون عاجال )ال تدعوا اليوم ثبورا واحدا

وادعوا ثبورا كثيرا(. على أية حال، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء، ولن

يكون ثمة موت أو هالك، بل ينبغي أن تظلوا أحياءلتذوقوا العذاب األليم.

( من سورة16هذه اآلية في الحقيقة تشبه اآلية ) الطور حيث يقول تعالى )أصلوها فاصبروا أو ال

تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون(. من هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل

على أنهم مالئكة العذاب، ذلك ألن حسابهم مع هؤالء.--- ـ »مقرنين«1

من »قرن« بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما، ويقولون للحبل الذي يربطون به األشياء

»قرن«، ويقولون أيضا لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسالسل »مقرن« )من أجل توضيح

( من سورة49أكثر في المسألة راجع آخر اآلية )إبراهيم(.

ـ مجمع البيان، آخر اآلية مورد البحث.2

(11/210)

-211األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وأما لماذا يقال لهم هنا: )ال تدعوا ثبورا واحدا وادعوا

ثبورا كثيرا(؟ ربما كان ذلك ألن عذابهم األليم ليس مؤقتا فينتهي بقول )واثبورا( واحدا، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة، عالوة على أن

العقوبات اإللهية لهؤالء الظالمين المجرمين متعددة األلوان، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل

مجازاة، فتعلوا أصواتهم بـ )واثبورا(، فكأنهم يموتونثم يحيون وهكذا.

ثم يوجه الخطاب إلى الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم(، ويأمره أن يدعو أولئك إلى المقايسة،

فيقول تعالى: )قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعدالمتقون كانت لهم جزاء ومصيرا(.

تلك الجنة التي )لهم فيها ما يشاؤون(.تلك الجنة التي سيبقون فيها أبدا )خالدين(.

أجل، إنه وعد الله الذي اخذه على نفسه: )كان علىربك وعدا مسؤوال(.

هذا السؤال، وطلب هذه المقايسة، ليس ألن أحدا لديه شك في هذا األمر، وليس ألن تلك العذابات

األليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي ال نظير لها، بل إن هذا النوع من األسئلة

والمطالبة بالمقارنة ألجل إيقاظ الضمائر الهامدة، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد، وعلى مفترق

طريقين: فإذا قالوا في الجواب: إن تلك النعم أفضل وأعظم

)وهو ما سيقولونه حتما( فقد حكموا على أنفسهم بأن أعمالهم خالف ذلك. وإذا قالوا: إن العذاب أفضل

من هذه النعمة، فقد وقعوا على وثيقة جنونهم، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شابا ترك المدرسة والجامعة

بقولنا: اعلم أن السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد، ترى السجن أفضل

أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟* * *

(11/211)

-212األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مالحظات

ـ ينبغي اإللتفات أوال إلى هذه النكتة، وهي االيات1 الكريمة وصفت الجنة بالخلود تارة وصفة ألهل الجنة

تارة أخرى، ليكون تأكيدا على هذه الحقيقة، وهيكما أن الجنة خالدة، فكذلك ساكنوها.

ـ قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون( جاءت في2 ( من سورة سبأ54مقابل حال الجهنميين في اآلية ))وحيل بينهم وبين ما يشتهون(.

ـ التعبير بـ »مصير« بعد كلمة »جزاء« بالنسبة إلى3 الجنة، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء،

وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النار، حيث ورد في اآليات السابقة أنهم يلقون في مكان ضيق

محدود مقرنين باألصفاد. ـ قوله تعالى )كان على ربك وعدا مسؤوال( إشارة4

إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنة وجميع نعمها، فهم السائلون، والله »المسؤول

( من194منه« كما نقرأ قول المؤمنين في اآلية ) سورة آل عمران )ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك...(،

لسان حال جميع المؤمنين أيضا، إنهم يطلبون هذا الطلب من الله، ألن لسان حال كل من يطيع أمره

تبارك وتعالى أن يطلب ذلك. والمالئكة كذلك يسألون الله الجنة والخلود للمؤمنين،

( من سورة المؤمن: )ربنا8كما نقرأ في اآلية )وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم...(.

و يوجد هنا تفسير آخر، وهو أن كلمة )مسؤوال( تأكيد على هذا الوعد اإللهي، الحتمي، يعني أن هذا الوعد

على قدر عظيم من القطع بحيث أن المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به، وهذا يشبه ما إذا

أعطينا وعدا ألحد، وأعطيناه ـ في الضمن ـ الحق فيأن يطالبنا به.

قطعا ال يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعانيفي المفهوم الواسع لـ )مسؤوال(.

ـ باإللتفات إلى قوله تعالى )لهم فيها ما يشاؤون(5ينشأ لدى البعض هذه

(11/212)

-213األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - السؤال: إذا أخذنا في اإلعتبار المفهوم الواسع لهذه

العبارة، فنتيجة هذا أن أهل الجنة إذا أرادوا مقام األنبياء واألولياء يعطى لهم، مثال، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم،

يعطون سؤلهم، وما سوى هذه الرغبات؟! و يتضح الجواب مع اإللتفات إلى هذه النكتة، وهو أن الحجب تزول عن أعين أهل الجنة فيدركون الحقائق

جيدا، ويتضح تناسبها في نظرهم كامال، إنهم ال يخطر ببالهم أبدا أن يطلبوا من الله طلبات كهذه،

وهذا يشبه تماما أن نطلب في الدنيا من طفل في اإلبتدائية أن يكون استاذا في الجامعة، أو أن يكون

لص مجرم قاضي محكمة... ترى هل تخطر مثل هذه األمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟ وفي الجنة

أيضا كذلك، فضال عن هذا فإن كل إرادتهم في طولإرادة الله، وإن ما يريدونه هو ما يريده الله.

* * *

(11/213)

-214األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقولبيل) (17ءأنتم أضللتم عبادى هؤآلء أم هم ضلوا الس

قالوا سبحنك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من تعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا أوليآء ولكن م

( فقد كذبوكم بما تقولون فما18قوما بورا)نكم نذقه تستطيعون صرفا والنصرا ومن يظلم م

(19عذابا كبيرا)التفسير

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين:

كان الكالم في اآليات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين

الفريقين، وتواصل هذه اآليات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبين السؤال الذي يسأل الله عنه

معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير، فيقول تعالى أوال: واذكر يوم يحشر الله

هؤالء المشركين وما يعبدون من دون الله: )و يوميحشرهم وما يعبدون من دون الله(.

فيسأل المعبودين: )فيقول أأنتم أضللتم عباديهؤالء أم هم ضلوا السبيل(.

(11/214)

-215األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ففي اإلجابة: )قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن

نتخذ من دونك من أولياء(. فليس فقط أننا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إننا كنا

نعترف بواليتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبودا لناولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو: أن الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم

وآباءهم وبدال من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله: )ولكن متعتهم وآباءهم حتىنسوا الذكر( ولهذا هلكوا واندثروا )وكانوا قوما بورا(.

هنا يوجه الله تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركينفيقول: )فقد كذبتم بما تقولون(.

ألن األمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: )فما

يستطيعون صرفا وال نصرا، ومن يظلم منكم نذقهعذابا كبيرا(.

ال شك أن »الظلم« له مفهوم واسع، ومع أن موضوع البحث في اآلية هو »الشرك« الذي هو أحد المصاديق

الجلية للظلم، إال أنه ال يقدح بعمومية المفهوم. و الملفت للنظر أن »من يظلم« جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أن القسم األول من البحث

وأن كان مرتبطا بمناقشات البعث، لكن الجملة األخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين

تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها )محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة(، فيحول الخطاب

من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: )ومن يظلم منكم

(1نذقه عذابا كبيرا(.)* * *

--- ـ ويحتمل أن تكون الجملة األخيرة استمرارا1

لمحاورة الله مع المشركين في القيامة، وال يضركون الفعل مضارعا، ألن جملة )من يظلم..(

ذكرت بصورة قانون عام )جملة شرطية(، ونعلم أن األفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها

الزماني، وتبقى وحدة اإلرتباط بين الشرط وجوابهمعتبرة.

(11/215)

-216األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مسائل مهمة:

ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟1 في اإلجابة على هذا السؤال، هناك تفسيران بين

المفسرين المعروفين: أوال: أن يكون المقصود بالمعبودين إنسانا )مثل

المسيح( أو شيطانا )مثل الجن( أو )المالئكة(، حيث أن كل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين

معبودا لهم. وألنهم أهل عقل وشعور وإدراك، فيمكنهم أن يكونوا موضع اإلستنطاق والمحاسبة،

وإلتمام الحجة، وإلثبات كذب المشركين الذين يقولون: إن هؤالء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عما

إذا كان هذا اإلدعاء صحيحا؟ ولكنهم يكذبون ادعاءالمشركين بصراحة!

التفسير الثاني: الذي ذكره جمع من المفسرين هو أن الله يمنح األصنام في ذلك اليوم نوعا من الحياة

واإلدراك والشعور، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة، لينطقوا بالجواب الالزم:

إلهنا، نحن ما أضللنا هؤالء، بل هم أنفسهم ضلوابسبب انغماسهم في الشهوات والغرور.

و هناك اإلحتمال آخر، وهو أن المقصود يشمل جميع المعبودين، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون

بألسنتهم عن الوقائع، أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور، حيث يعكسون الحقيقة أيضا، بلسان

حالهم. ولكن القرائن الموجودة في اآلية تتفق أكثر مع التفسير األول، ذلك ألن األفعال والضمائر تدل

جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح

والمالئكة وأمثالهم. إضافة إلى أن قوله تعالى )فقد كذبوكم...( يظهر أن المشركين قد ادعوا من قبل أن هؤالء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم، وبعيد أن يكون المشركون

قد ادعوا هذا بالنسبة إلى األصنام الحجرية والخشبية، ألنهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانواعلى يقين بأن األصنام ال تتكلم )لقد علمت ما هؤالء

(11/216)

-217األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(.1ينطقون()

في حين أننا نقرأ مثال بالنسبة إلى المسيح)عليه ( من سورة المائدة: )أأنت116السالم( في اآلية )

قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله(؟! ومن المسلم أن ادعاء المشركين وعبدة األصنام كان

واهيا وبال أساس، فأولئك لم يدعوهم إلى عبادةأنفسهم.

الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب: إلهنا، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا، بل يقولون:

نحن ما اتخذنا ألنفسنا غيرك معبودا، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك، فمن األولى أننا لم ندعهم إلى أحد غيرك، خاصة وأن هذا الكالم يقترن

مع )سبحانك( ومع )ماكان ينبغي لنا( التي تكشف عنغاية أدبهم، وتأكيدهم على التوحيد.

ـ دافع اإلنحراف عن أصل التوحيد2 المهم هو أن المعبودين يعدون العامل األصلي النحراف هذا الفريق من المشركين هو )الحياة

المرفهة( لهم، ويقولون، إلهنا، متعت هؤالء وآباءهم من نعم هذه الحياة، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم، فبدال من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه، توغلوا في دوامة الغفلة

والغرور. فالحياة المرفهة لجماعة ضيقة األفق، ضعيفة

اإليمان، تبعث على الغرور من جهة، ذلك ألنهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة، ينسون أنفسهم

وينسون الله، حتى أن فرعون كان يطبل أحيانا )أناالله(.

ومن جهة أخرى، فإن هؤالء األفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذاتهم من

قبيل الحالل والحرام، والمشروع والالمشروعوتمنعهم من

---063 ـ األنبياء، 1

(11/217)

-218األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الوصول إلى أهدافهم، ولهذها فهم ال يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية، وال أن

يقبلوا بيوم الحساب والجزاء. و هكذا نجد أن أتباع دين الله وتعليمات األنبياء قليل في أوساط المرفهين دائما ولكن المستضعفين هم

األتباع الصامدون والمحبون األوفياء للدين والمذهب. إن هذا الكالم له استثناءات في كال الطرفين قطعا،

ولكن أكثرية كل من الفريقين هم كما قلنا. ومما تتضمنه اآلية أعاله، أنها لم تركز على رفاهية

حياتهم فقط، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضا، ذلك ألن اإلنسان حينما ينشأ على الدالل

والنعمة فإنه سوف يرى فارقا وامتيازا بينه وبين اآلخرين، ولن يكون مستعدا لفقد المنافع المادية

والحياة المرفهة بسهولة. في حين أن التقيد بأمر الله، وبتعاليم الدين تحتاج إلى اإليثار، وأحيانا إلى الهجرة، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة، وأحيانا إلى التعاطي مع أنواع

المحروميات، وعدم التسليم للعدو، وهذه األمور نادرا ما تتوافق مع مزاج المرفهين، إال إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية، فإذا توفرت يوما ما شكروا الله، وإال فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا، وبعبارة أخرى:

إنهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها،أمراء عليها ال أسارى عندها.

و يستفاد أيضا من التوضيح أن المقصود من قوله تعالى )نسوا الذكر(نسيان ذكر الله، حيث ورد مكان

( من سورة الحشر )وال تكونوا19ذلك في اآلية ) كالذين نسوا الله( أو نسيان يوم القيامة ومحكمة

( سورة ص )لهم26العدل اإللهي، كما جاء في اآلية ) عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب( أو نسيان كل

منهما، وجميع التعاليم اإللهية.

(11/218)

-219األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ كلمة »بور«.3

»بور« من مادة »بوار« وهي في األصل بمعنى شدة كساد الشيء، وألن شدة الكساد تبعث على الفساد، كما جاء في المثل العربي »كسد حتى فسد«، فهذه

الكلمة بمعنى الفساد، ثم أطلقت بعد هذا على الهالك، ولهذا يقولون لألرض الخالية من الشجر

والورد والنبات، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتةكلمة »بائر«.

وعلى هذا فإن قوله تعالى: )كانوا قوما بورا( إشارة إلى أن هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة

المادية المرفهة، ونسيانهم الله واليوم اآلخر، صاروا إلى الفساد والهلكة، وصارت أراضي قلوبهم

كالصحراء جافة وبائرة، وأخليت من أزاهير ملكاتالقيم اإلنسانية، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية.

مطالعة حال األمم الغرقى في الدالل والنعمة اليوم، الغافلة عن الله وعن الخلق، توضح عمق معنى هذه

اآلية في كيفية غرق هذه األمم في بحر الفساد األخالقي، وكيف اجتثت الفضائل اإلنسانية من أرض

(1وجودهم البائرة.)* * *

--- ـ تعتبر بعض المصادر أن كلمة »بور«1

تأتي بمعنى اسم الفاعل، وتأتي واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وبعض يعدها جمع

»بائر«.

(11/219)

-220األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآلية

إنهم ليأكلون ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إال الطعام ويمشون فى االسواق وجعلنابعضكم لبعض

(20فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)سبب النزول

أورد جماعة من المفسرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه اآلية »أن

سادات قريش »عتبة بن ربيعة« وغيره اجتمعوا

معه)صلى الله عليه وآله وسلم(فقالوا: يا محمد، إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله)صلى الله

عليه وآله وسلم( عن ذلك، رجعوا في باب اإلحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف باألسواق! فعيروه بأكل الطعام، ألنهم أرادوا

أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في األسواق حين رأوا األكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة

يترفعون عن األسواق، وكان)عليه السالم(يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يريد

أن يتملك علينا، فما له يخالف سيرة الملوك؟فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه:

(11/220)

-221األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - )وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إال أنهم ليأكلون

الطعام ويمشون في األسواق(فال تغتم وال تحزن،(1فأنها شكاة ظاهر عنك عارها«.)

التفسيرهكذا كان جميع األنبياء

في عدة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة: لماذا يأكل رسول الله

الطعام، ويمشي في األسواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب، أما اآلية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جوابا أكثر تفصيال وصراحة، فيقول تعالى: )وما أرسلنا قبلك من المرسلين إال أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في األسواق( فقد

كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت)وجعلنا بعضكم لبعض فتنة( وامتحانا.

وهذا اإلمتحان، قد يكون بسبب أن اختيار األنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، ألن البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصة إذا كان في مستوى

واطىء من حيث اإلمكانات المادية، وهم في مستوى عال ماديا، أو أن أعمارهم أكبر، أو أنهم أكثر شهرة

في المجتمع. ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة، وهو أن الناس

عموما بعضهم لبعض فتنة، ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى واأليتام والمزمنين فتنة لألقوياء

واألصحاء السالمين، وبالعكس، فإن األفراد األصحاءاألقوياء فتنة للضعفاء والعجزة.

ترى هل أن الفريق الثاني راض برضا الله! أم ال؟--- ـ وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعاله في كثير1

من التفاسير، ولكن ما ذكرناه أعاله مطابق للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره »الجامع ألحكام

القرآن« دار إحياء التراث العربي / بيروت.5، ص 13ج

(11/221)

-222األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهل أن الفريق األول يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء

الفريق الثاني، أم ال؟! من هنا، ال تقاطع بين هذين التفسيرين فمن الممكن

أن يجتمع كالهما في المفهوم الواسع لآلية في أنالناس بعضهم لبعض فتنة.

و على أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطابفقال تعالى:)أتصبرون(؟

ذلك ألن أهم ركن للنجاح في جميع هذه اإلمتحانات هو الصبر واإلستقامة والشجاعة... الصبر واإلستقامة

أمام خياالت الغرور الذي يمنع من قبول الحق... الصبر واإلستقامة أمام المشكالت الناشئة من

المسؤوليات وأداء الرساالت، وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث األليمة التي ال تخلو منها حياة

اإلنسان على كل حال. والخالصة: أن من الممكن اجتياز هذا اإلمتحان اإللهي

(1العظيم بقوة اإلستقامة و الصبر.) ويقول تعالى في ختام اآلية بصيغة التحذير: )وكان

ربك بصيرا( فينبغي أال يتصور أحد أن شيئا من تصرفاته حيال اإلختبارات اإللهية يظل خافيا

ومستورا عن عين الله وعلمه الذي ال يخفى عليهشيء. إنه يراها بدقة ويعلمها جميعا.

سؤال: يرد هاهنا استفسار، وهو أن رد القرآن على

المشركين في اآليات أعاله قائم على أن جميع األنبياء، كانوا من البشر. وهذا ال يحل المشكلة، بل

يزيد من حدتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا

إشكالهم على جميع األنبياء.--- ـ من أجل توضيح أكثر في مسألة اإلختبارات1

اإللهية، والغاية من هذه اإلختبارات وسائر أبعاد ذلك، ( من55بحثنا ذلك بشكل مفصل في ذيل اآلية )

سورة البقرة.

(11/222)

-223األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -و الجواب:

أن اآليات القرآنية المختلفة تدل على أن إشكالهم على شخص النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(،

وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعا خاصا به، ولهذاكانوا يقولون: مالهذا الرسول...

يقول القرآن في جوابهم: ليس هذا منحصرا بالرسول األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم( أن

يأكل الطعام ويمشي في األسواق، فجميع األنبياء كانت لهم مثل هذه األوصاف، وعلى فرض أنهم سيعممون هذا األشكال على جميع األنبياء، فقد

أعطى القرآن جوابهم أيضا حيث يقول: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجال( »كي يستطيع أن يكون أسوة

وأنموذجا للناس في كل مجاالت«. إشارة إلى أن اإلنسان فقط يستطيع أن يكون مرشدا لإلنسان،

فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكالتهومسائله.

* * *

(11/223)

-224األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

وقال الذين اليرجون لقآءنا لوال أنزل علينا الملئكة أوا كبيرا) نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتو عتو

( يوم يرون الملئكة البشرى يومئذ للمجرمين21حجورا) ( وقدمنآ إلى ما عملوا من22ويقولون حجرا م

نثورا) ( أصحب الجنة يومئذ خير23عمل فجعلنه هبآء م(24مستقرا وأحسن مقيال)

التفسيراإلدعاءات الكبيرة:

قلنا أن المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم

اإليمان بالله واليوم اآلخر، فكانوا يقولون تارة: لماذا يحتاج الرسول إلى الطعام ويمشي في األسواق؟

حيث قرأنا اإلجابة عليها في اآليات السابقة. اآليات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم

وتجيب عليها، فيقول

(11/224)

-225األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - تعالى أوال: )وقال الذين ال يرجون لقاءنا لوال أنزل

علينا المالئكة أو نرى ربنا(. فعلى فرض أننا سنقبل أن النبي يستطيع أن يعيش

الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، وال نراه نحن، فهذا ماال يمكن القبول به، ما المانع

من أن يظهر الملك فيؤكد صحة نبوة الرسول؟ أو أن يسمعنا بعضا من الوحي!؟ أو أن نرى ربنا بأعيننا

حتى ال يبقى عندنا مكان ألي شك أو شبهة!؟ هذه هي األسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة

محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(. المهم هو أن القرآن يصنف هؤالء المتعللين بالذرائع

تحت عنوان )ال يرجون لقاءنا(، حيث يدل على أن منبع هذه األقوال الواهية هو عدم اإليمان باآلخرة،

وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله. ( من سورة الحجر نقرأ أيضا شبيها لهذا7في اآلية )

القول، حيث قالوا )لو ما تأتينا بالمالئكة إن كنت من الصادقين( وقرأنا أيضا في مطلع سورة الفرقان

هذه أن المشركين كانوا يقولون: )لوال أنزل إليه ملكفيكون معه نذيرا(.

في حين أن من حق أي إنسان إلثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أما نوع الدليل، فمن المسلم

أنه ال فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح،

إذن فما معنى هذه الذرائع؟ وأفضل دليل على أنهم لم يكونوا يقولون هذه

األقوال من أجل التحقيق حول نبوة النبي، هو أنهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حد جسم

يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو

بني إسرائيل أيضا، فسمعوا الجواب القاطع على .143ذلك، حيث ورد شرحه في سورة األعراف اآلية

لذا يقول القرآن في اإلجابة على هذه الطلبات في آخر اآلية مورد البحث: )لقد استكبروا في أنفسهم

وعتو عتوا كبيرا(. »العتو« على وزن »غلو«، بمعنى اإلمتناع عن

الطاعة، والتمرد على األمر،

(11/225)

-226األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مصحوبا بالعناد واللجاجة.

و تعبير »في أنفسهم« من الممكن أن يكون بمعنى: أن هؤالء صاروا أسارى الغرور والتكبر في أنفسهم.

ومن الممكن أن يكون أيضا بمعنى أنهم أخفوا كبرهموغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

في عصرنا وزماننا أيضا، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا ال نرى

الله في مختبراتنا، وال نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدق! بوجودهما ومنبع اإلثنين واحد

وهوا اإلستكبار والعتو. و من حيث األصل، فإن جميع األشخاص الذين

يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكل

الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أن الحواس ال تدرك إال جزء ضئيال ال يذكر من مادة هذا

العالم. ثم يقول تعالى بصيغة التهديد: إن هؤالء الذين

يطلبون أن يروا المالئكة، سوف يرونهم آخر االمر،لكن )يوم يرون المالئكة ال بشرى يومئذ للمجرمين(.)

1) بلى سوف لن يسروا برؤية المالئكة في ذلك اليوم،

ألنهم سيرون عالمات العذاب برؤيتهم المالئكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنهم سيطلقون

صرخات اإلستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال اإلحساس بالخطر أمام اآلخرين، فيقولون:

األمان.. األمان، اعفوا عنا: )ويقولون حجرا محجورا(. ولكن ال هذه الجملة ـ والغيرها ـ لها أثر على

مصيرهم المحتوم، ذلك ألن النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم

األعمال السيئة التي ارتكبوها، فال يملكون شيئاألنفسهم.

كلمة »حجر« )على وزن قشر( تقال في األصلللمنطقة التي حجروها

--- ـ كلمة )ال(1

ها هنا، قد تكون للنفي، كما قال كثير من المفسرين، ويحتمل أيضا أن تكون النشاء الدعاء

السلبي، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة،هكذا: »في ذلك اليوم ال كانت بشرى للمجرمين«.

(11/226)

-227األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال »حجر

إسماعيل« فألن حائطا أنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضا »حجرا« ألنه يمنع االنسان من

( من سورة5األعمال المخالفة. لذا نقرأ في اآلية ) الفجر )هل في ذلك قسم لذي حجر(، وأيضا »اصحاب

من80الحجر« الذين ورد اسمهم في القرآن )اآلية سورة الحجر( وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون ألنفسهم بيوتا حجرية محكمة في قلوب الجبال،

فكانوا يعيشون في أمانها.هذا في ما يخص كلمة »حجر«.

أما جملة »حجرا محجورا«فقد كانت اصطالحا بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنهم يقولون

هذه الجملة أمامه ألخذ األمان. كان هذا عرف العرب، خاصة في األشهر الحرم، حيث

كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العرف والتعرض لألذى، فإنه يكرر

هذه الجملة، والطرف المقابل ـ أيضا ـ مع سماعة لها كان يعطيه األمان، فيخرجه من القلق واإلضطراب

والخوف. على هذا فإن معنى الجملة المذكورة هو: »أريد

(1األمان، األمان الذي ال رجعة فيه وال تغيير«.) اتضح مما قلناه أعاله، أن المجرمين هنا هم أصحاب

هذا القول، وتناسب األفعال الموجودة في اآلية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط

العرب ـ أيضا ـ يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أن المالئكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع

المشركين من رحمة الله. وقال آخرون: إن أصحاب هذا القول هم المجرمون،

يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى األول، حيث اختاره كثير من المفسرين، أو ذكروه

كأول--- ـ ومن الناحية األدبية فإن »حجرا«1

مفعول لفعل مقدر و »محجورا« جاءت للتوكيد، فهي في األصل )أطلب منك منعا ال

سبيل إلى رفعه ودفعه(.

(11/227)

-228األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1تفسير لذلك.)

أما أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالمالئكة؟ فقد ذكر المفسرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى اإلنسان ملك الموت، كما

( من سورة األنعام: )ولو ترى إذا93نقرأ في اآلية ) الظالمون في غمرات الموت والمالئكة باسطوا

أيديهم أخرجوا أنفسكم(. والثاني: أن المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام

مالئكة العذاب فيشاهدونهم. و مع اإلنتباه إلى اآليات اآلتية التي تتكلم عن

النشور، خصوصا جملة )يومئذ( التي تشير إليه، يتبينأن التفسير الثاني هو األقرب.

اآلية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤالء المجرمين في اآلخرة، فتقول: )وقدمنا إلى ما عملوا من عمل

فجعلناه هباء منثورا(. كلمة »العمل« على ما قاله »الراغب« في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد، ولكن الفعل أعم منه،

فهو يطلق على األفعال التي تكون بقصد أو بغير(2قصد.)

جملة »قدمنا« من »القدوم« بمعنى »المجيء« أو »الذهاب على أثر شيء« وهي هنا دليل على تأكيد

وجدية المسألة، يعني مسلما وبشكل قاطع أن جميع أعمال أولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن

كانت أعمال خير ظاهرا ـ سنمحوها كما تمحى ذراتالغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم.

---

ـ تفسير الميزان، تفسير الفخر الرازي، في ظالل1القرآن، تفسير أبو الفتوح الرازي، ذيل آية البحث.

ـ يذهب )الراغب( الى هذا الفرق في مادة »عمل«2 ، ولو أن له بيانا خالف ذلك في مادة »فعل«. لكن مع

اإللتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحا، طبعا يمكن أن يكون له استثناءات

كما يقولون للثيران التي تعمل »عوامل«.

(11/228)

-229األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -آفات العمل الصالح:

كلمة »هباء« بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدا التي ال ترى بالعين المجردة وفي الحال العادية أبدا إال في

الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كوة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن

مشاهدتها. هذا التعبير يدل على أن أعمال أولئك ال قيمة لها وال

اثر إلى حد كأنهم لم يعملوا شيئا، وإن كانوا قد سعواواجتهدوا سنين طويلة. ( من سورة إبراهيم التي18هذه اآلية نظيرة اآلية )

تقول: )مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماداشتدت به الريح في يوم عاصف(.

الدليل المنطقي لذلك واضح أيضا، ألن الشيء الذي يعطي عمل اإلنسان الشكل والمحتوى، هو النية

والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل اإليمان يتوجهون إلنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس

أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من ال إيمان لهم، فغالبا يقعون أسارى

التظاهر والرياء والغرور و العجب، فيكون سببا فيانعدام أية قيمة ألعمالهم.

على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير،

وبعكسها نرى بيوتا تظهر فيها الشروخ وعالمات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة، فاألولى

بنيت من كل النواحي بناء محكما بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أما الثانية فألن الهدف

من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة

(1فقط.)

من وجهة نظر المنطق اإلسالمي، فإن لألعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون

العمل أحيانا خرابا وفاسدا منذ البداية، كمثل العملالذي يتخذ

--- ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيال في )ذيل1

من سورة إبراهيم(.18اآلية

(11/229)

-230األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -)رياء(.

و احيانا اخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب االنسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة

عمله بسبب ذلك. و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد االنتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل اإلنفاق الذي تتبعه »منة«، أو كاألعمال الصالحة التي يعقبها كفر

وارتداد. حتى ارتكاب الذنوب أحيانا يترك أثره على العمل

الصالح بعدها ـ طبقا لبعض الروايات اإلسالمية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث ال تقبل أعماله

(1عند الله أربعين يوما.) على أية حال، فلإلسالم منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن

اإلمام الباقر)عليه السالم( قال:وجل يوم القيامة قوما بين أيديهم نور يبعث الله عز كالقباطي، ثم يقول له: )كن هباء منثورا( ثم قال:

أما والله ـ يا أبا حمزة ـ إنهم كانوايصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين )عليه

السالم( أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه(2يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس«.)

و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتضح وضع كل منهما بالمقايسة فإن

اآلية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنة فتقول:)أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيال(. ليس معنى هذا الكالم أن وضع أهل جهنم حسن،

ووضع أهل الجنة أحسن، ألن صيغة »أفعل التفضيل«تأتي أحيانا حيث يكون أحد األطراف واجدا

---، مادة »خمر«.427، ص 1 ـ سفينة البحار، ج 1 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين،2

.9، ص 4ج

(11/230)

-231األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -للمفهوم، وآالخر فاقدا له كليا. مثال نقرأ في اآلية )

( من سورة فصلت: )أفمن يلقى في النار خير أم40من يأتي آمنا يوم القيامة(.

»مستقر« بمعنى محل اإلستقرار. و »مقيل« بمعنى محل اإلستراحة في منتصف

النهار، من مادة »قيلولة«، وقد جاءت بمعنى النوممنتصف النهار.

* * *

(11/231)

-232األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليتان

ل الملئكة تنزيال ) مآء بالغمم ونز ق الس و يوم تشقحمن وكان يوما على25 (الملك يومئذ الحق للر

(26الكفرين عسيرا)التفسير

تشقق السماء بالغمام: مرة أخرى يواصل القرآن في هذه اآليات البحث حول

القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوال: إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم

الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم:)ويوم تشقق(1السماء بالغمام ونزل المالئكة تنزيال(.)

»الغمام« من »الغم« بمعنى ستر الشيء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له »الغمام«،

وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمونه »الغم«.--- ـ جملة »يوم تشقق السماء«1

في الواقع عطف على جملة »يوم يرون المالئكة«التي مرت سابقا، وعلى هذا فأن »يوم«

هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في اآلية السابقة،يعني جملة »ال بشرى«

. ويعتقد جماعة أنه متعلق بفعل مقدر، مثل )أذكر( و »الباء« في »الغمام« يمكن أن تكون بمعنى

المالبسة، أو بمعنى »عن«، أو للسببية كما تقدم فيتفسير اآليات أعاله.

(11/232)

-233األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذه اآلية ـ في الحقيقة ـ رد على طلبات المشركين،

وعلى إحدى ذرائعهم، ألنهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والمالئكة ـ طبقا ألساطيرهم وخرافاتهم من

خالل الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضا ـ أن الله أحيانا يظهر ما بين

(1الغيوم.) يقول القرآن في الرد عليهم: نعم المالئكة )وليس الله( يأتون إليهم يوما ما، لكن أي يوم؟ اليوم الذي

تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤالء المجرمين، وينهيادعاءاتهم الباطلة.

ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام، مع أننا نعلم أن ال وجود حولنا لشيء يسمى السماء،

يكون قابال للتشقق؟ قال بعض المفسرين مثل »العالمة الطباطبائي« في

تفسير »الميزان«: المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم

الغيب، فيكون لالنسان إدراك ورؤية تختلف كثيرا عما هي عليه اليوم، فحينئذ تزول الحجب، فيرون المالئكة

وهي تتنزل من العالم األعلى. ثمة تفسير آخر، هو أن المقصود من السماء هو

األجرام السماوية التي تتالشى على أثر انفجارات متوالية، فيمأل الغيم الحاصل من هذه اإلنفجارات

ومن تالشي الجبال صفحة السماوات، وبناء على هذا فاألفالك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من

(2ذلك.) آيات كثيرة من القرآن المجيد، خصوصا التي وردت في السور القصار آخر القرآن، تبين هذه الحقيقة،

حيث تمأل جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة، وانقالب وتحول عجيب، تتالشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار، الشمس تفقد نورها وكذلك

النجوم. ويلتقي الشمس والقمر، وتمأل نواحياألرض

--- )ذيل اآلية مورد154، ص 6 ـ في ظالل القرآن، ج 1

البحث(. ـ »الباء« من الناحية األدبية في هذه الحالة2

للمالبسة.

(11/233)

-234األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -زلزلة وهزة عجيبة.

نعم، في مثل ذلك اليوم، زوال السماء، بمعنى األجرام السماوية، وتلبس السماء بغيوم كثيفة،

سيكون أمرا طبيعيا.من الممكن توضيح نفس هذا التفسير بنحو آخر:

شدة التغيرات، وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سببا في تغطية السماء بغيم كثيف، ولكن توجد

انشقاقات بين هذا الغيم، وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في األحوال العادية، تتشقق بواسطة

(1هذه الغيوم االنفجارية العظيمة.) تفسيرات أخرى قيلت لهذه اآلية أيضا ال تتوافق مع

األصول العلمية والمنطقية، وفي نفس الوقت فالتفسيرات الثالثة اآلنفة ال تتنافى مع بعضها، فمن

الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين اإلنسان من جهة، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة، ومن

جهة أخرى ستتالشى األجرام السماوية، وتظهر الغيوم االنفجارية، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور، يوم أليم

جدا للمجرمين الظالمين المعاندين الذين ال إيمانلهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح عالئم ذلك اليومفيقول: )الملك يومئذ الحق للرحمن(.

حتى أولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضا من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كل النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصة،

وبهذا )وكان يوما على الكافرين عسيرا(. نعم، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماما،

وتكون الحاكمية لله خاصة، فتتداعى قالع الكافرين، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت، وإن كانوا جميعا

في

--- ـ في هذه الحالة »الباء« في »بالغمام«1

للسببية.

(11/234)

-235األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذا العالم ـ أيضا ـ ال شيء أمام إرادته تبارك وتعالى.

واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة، فبأي مالذ يلوذون من الجزاء اإللهي في يوم القيامة، يوم

انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخياالت واألوهام، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوما بالغ الصعوبة

عليهم، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهاليسيرا وهينا جدا.

في حديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( )في يوم كان

مقداره خمسين ألف سنة( فقلت: ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( »والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى

يكون أخف عليه من صالة المكتوبة يصليها في(1الدنيا«.)

والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دالئل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين، ذلك أننا نقرأ

(2من جهة )و تقطعت بهم األسباب(.)(3و من جهة أخرى )ما أغنى عنه ماله وما كسب(.)

و من جهة ثالثة )يوم ال يغني مولى عن مولى شيئا(.(4)

حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة، تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بالله وبأولياء الله )من

(5ذا الذي يشفع عنده إالبإذنه(.) ( فال يسمح لهم6وايضا )فال يؤذن لهم فيعتذرون(،)

باالعتذار، فما بالك بقبول االعذار الواهية!!* * *

--- ،13 ـ تفسير القرطبي »الجامع ألحكام القرآن«، ج 1

.4739، ص 7; ج 23ص .166 ـ سورة البقرة،اآلية 2.2 ـ سورة تبت، اآلية 3.41 ـ سورة الدخان، اآلية 4

.255 ـ سوره البقرة، اآلية 5.36 ـ سورة المرسالت، اآلية 6

(11/235)

-236األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ويوم يعض الظالم على يديه يقول يليتنى اتخذت معسول سبيال) ( يويلتى ليتنى لم أتخذ فالنا خليال)27الر

( لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان28يطن لالنسن خذوال) (29الش

سبب النزول »قال ابن عباس: نزل قوله تعالى: )ويوم يعض

الظالم( في عقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، وكانا متخالين، وذلك أن عقبة كان ال يقدم من سفر

إال صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع

طعاما ودعا الناس، فدعا رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( إلى طعامه، فلما قربوا الطعام قال

رسول الله )صلى الله عليه وآله وسلم(: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن ال إله إال الله وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن ال إله إال الله وأشهد أن

محمدا رسول الله. وبلغ ذلك أبي بن خلف فقال: صبئت يا عقبة؟ قال: ال والله ما صبأت، ولكن دخل

علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إال أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، فقال أبي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتي

فتبزق في وجهه،

(11/236)

-237األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ففعل ذلك عقبة وارتد، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(: ال

ألقاك خارجا من مكة إال علوت رأسك بالسيف، فضرب عنقه يوم بدر صبرا، وأما أبي بن خلف فقتله النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( يوم أحد بيده في

المبارزة«. وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول

الله)صلى الله عليه وآله وسلم( عاد بزاقه في وجهه،

فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى مات. وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في

(1الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى.) نزلت اآليات أعاله لترسم صورة مصير الرجل الذي

يبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضالل. وقلنا مرارا أن سبب النزول وإن يكن خاصا، إال أنه ال

يقيد مفهوم اآليات أبدا، وعمومية المفهوم تشملجميع المصاديق.

* * *التفسير

أضلني صديق السوء يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعض منها

في اآليات السابقة، وفي هذه اآليات اشارة الى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول تعالى أوال: )ويوم يعض الظالمعلى يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيال()

2.) »يعض« من مادة »عض« )على وزن سد( بمعنى

األزم باألسنان، ويستخدم--- .166، ص 7 ـ مجمع البيان، ج 1 ـ جملة )يوم يعض الظالم...(2

عطف على »يوم يرون« التي مضت قبل عدة آيات، بعض يعتبرها أيضا متعلقة

بجملة مقدرة »اذكر«.

(11/237)

-238األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذا التعبير عادة بالنسبة إلى األشخاص المهووسين من شدة الحسرة واألسف، كما في المثل العربي، ألن اإلنسان في مثل هذه الحاالت ال يعض اإلصبع دائما، بل يعض ظاهر اليد أحيانا، وكثيرا ما يقال ـ كما في اآلية اآلية مورد البحث ـ »يديه« يعني كلتااليدين حيث تبين شدة األسف والحسرة بنحو أبلغ.

و هذا العمل يصدر من هؤالء األشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين،

فيصممون على األنتقام من أنفسهم بهذا الشكللتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة. وينبغي حقا، أن يسمى ذلك اليوم )يوم الحسرة( كما

ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضا (، ذلك ألن المجرمين يرون39)سورة مريم اآلية

أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خالل أيام من الصبر واإلستقامة ومجاهدة النفس واإليثار أن يستبدلوا

ذلك بحياة مشرفة وسعيدة، وهو يوم أسف أيضا حتى بالنسبة إلى المحسنين، فهم يأسفون على أنهم:

لماذا لم يحسنوا أكثر. ثم يضيف القرآن الكريم أن هذا الظالم المعتدي

الغارق في عالم األسف، يقول:)يا ويلتي ليتني لم(1أتخذ فالنا خليال(.)

واضح أن المقصود بـ »فالن« هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال، وفردمثل »أبي« لـ »عقبة« الذي ورد في سبب النزول. هذه اآلية ـ واآلية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد، يقول تعالى: )يا

ليتني اتخذت مع الرسول سبيال(، وهنا يقول: )...ليتني لم أتخذ فالنا خليال( حيث كانت التعاسة

كلها في ترك اإلرتباط بالنبي)صلى الله عليه وآلهوسلم(، وقبول اإلرتباط بهذا الخليل الضال.

--- ـ »خليل«1

تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله اإلنسان مشاورا لنفسه. وللخليل معان أخرى أيضا

( من سورة النساء.125قد أوردناها في ذيل اآلية )

(11/238)

-239األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ثم يستمر ويقول: )لقد أضلني عن الذكر بعد

إذجاءني(. لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين اإليمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد، ولكني

كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئا

وأغرقني في دوامة التعاسة. »الذكر« في الجملة أعاله، له معنى واسع، ويشمل

كل اآليات اإللهية التي نزلت في الكتب السماوية، بليدخل في إطاره كل ما يوجب يقظة ووعي اإلنسان.

وفي ختام اآلية يقول تعالى: )وكان الشيطان

لإلنسان خذوال( ذلك ألنه يجر اإلنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثم يتركه حيران ويذهب

لسبيله، وينبغي اإلنتباه إلى أن »خذوال« صيغة مبالغة، بمعنى

كثير الخذالن. وحقيقة الخذالن هي أي يعتمد الشخص على صديقه

تمام االعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عنمساعدته وإعانته تماما في اللحظات الحساسة.

في هذه الجملة األخيرة )وكان الشيطان لإلنسان خذوال( قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل اإلنذار لجميع الظالمين والظالين، أو تتمة لمقولة

هؤالء األفراد المتحسرين في القيامة، ذكر المفسرون تفسيرين، وكل منهما منسجم مع معنىاآلية، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاما.

* * *بحث

أثر الصديق في مصير اإلنسان: ال شك في أن عوامل بناء شخصية اإلنسان ـ بعد

عزمه وإرادته وتصميمه ـ أمور مختلفة، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر، ذلك ألن اإلنسان قابل

للتأثر

(11/239)

-240األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - شاء أم أبى، فيأخذ قسطا مهما من أفكاره وصفاته

األخالقية عن طريق أصدقائه، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة

والمشاهدات الحسية أيضا. قابلية التأثر هذه نالت اهتماما خاصا لدى اإلسالم إلى

حد أنه نقل في الروايات اإلسالمية، عن نبي الله سليمان)عليه السالم( أنه قال: »ال تحكموا على رجل

بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه

(1وأخدانه«.) يقول اإلمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)عليه السالم( في خطبة له: »ومن اشتبه عليكم أمره ولم

تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وإن كانوا على غير دين

(2الله، فال حظ له من دين الله«.)

حقا، إن أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحيانا، فقد يؤدي به إلى

دركات الشقاء األبدي، وقد يرقى به أحيانا إلى غايةالمجد.

اآليات الحالية وسبب نزولها، تبين ـ بوضوح ـ كيف أن اإلنسان قد يقترب من السعادة، لكن وسوسة

شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأسا على عقب وتقلب مصيره، حيث سيعض على يديه من

الحسرة يوم القيامة، وستتعالى منه صرخة»ياويلتى«.

في كتاب »العشرة« وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع، تبين أن اإلسالم شديد ودقيق وثاقب

النظرة في مسألة اختيار الصديق. ننهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا

الموضوع، ومن أراد اإلطالع أكثر في هذا الموضوع.74فليراجع كتاب »العشرة« من بحار األنوار، الجزء

--- مادة )صدق(.27، ص 2 ـ سفينة البحار، ج 1 .197، ص 74 ـ بحار األنوار، ج 2

(11/240)

-241األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة اإلسالم العظام،

اإلمام محمد التقي الجواد)عليه السالم( »اياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن

(1منظره ويقبح أثره«.) وقال الرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم(: »أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب... ومجالسة

الموتى« قيل له: يا رسول الله، وما الموتى؟ قال:(2»كل غني مترف«.)

* * *---.198 ص 74 ـ بحار األنوار ج 1 ،74 ـ الخصال، للصدوق، طبقا لنقل بحار األنوار، ج 2

.195ص

(11/241)

-242األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

سول يرب إن قومى اتخذوا هذا القرءان و قال الرا من30مهجورا) ( وكذلك جعلنا لكل نبى عدو

( وقال الذين31المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا)ل عليه القرءان جملة وحدة كذلك لنثبت كفروا لوال نز

جئنك32به فؤادك ورتلنه ترتيال) ( وال يأتونك بمثل إال ( الذين يحشرون على33بالحق وأحسن تفسيرا)

(34وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيال)التفسير

إلهي، إن الناس قد هجروا القرآن: كما تناولت اآليات السابقة أنواعا من ذرائع

المشركين والكافرين المعاندين، تتناول اآلية األولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرسول

األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم( بين يدي اللهوجل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن، عز

فتقول:

(11/242)

-243األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - )وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن

(1مهجورا(.) قول الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم( هذا، وشكواه هذه، مستمران إلى هذا اليوم من فئة

عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي الله أنهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الذي هو رمز

الحياة ووسيلة النجاة، القرآن الذي هو سبب اإلنتصار والحركة والترقي، القرآن الممتلىء ببرامج الحياة،

هجروا هذا القرآن فمدوا يد اإلستجداء إلى اآلخرين،حتى في القوانين المدنية والجزائية.

إلى اآلن، لو تأملنا في وضع كثير من البلدان اإلسالمية، خصوصا أولئك الذين يعيشون تحت هيمنة

الشرق والغرب الثقافية، لوجدنا أن القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري، والفتتاح

منزل جديد، أو لحفظ مسافر، وشفاء مريض، وعلىاألكثر للتالوة من أجل الثواب.

ويستدلون بالقرآن، أحيانا وغايتهم إثبات أحكامهم

المسبقة الخاطئة من خالل اإلستعانة باآليات، وباإلستفادة من المنهج المنحرف في التفسير

بالرأي. في بعض البلدان اإلسالمية، هناك مدارس في طول

البالد وعرضها بعنوان: مدارس »تحفيظ القرآن« وفريق عظيم من األوالد والبنات مشغولون بحفظ القرآن، في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم عن الغرب

حينا، وعن الشرق حينا آخر، وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من األجانب، أما القرآن فغطاء

لمخالفاتهم فقط. نعم، اليوم أيضا يصرخ النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم(: )يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا(. مهجورا من ناحية لبه ومحتواه، متروكا من

ناحية الفكر والتأمل،--- ـ الظاهر أن جملة »قال«1

فعل ماض، تدل على أن النبي)صلى الله عليه وآلهوسلم(

كان قد ذكر هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا، وأكثر المفسرين أيضا على هذا اإلعتقاد، لكن بعضا آخر مثل »العالمة الطباطبائي« في »الميزان« يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة، والفعل الماضي هنا بمعنى المضارع. وذكر العالمة الطبرسي في مجمع البيان أيضا هذا على سبيل اإلحتمال، لكن

اآلية التي بعدها، والتي فيها جنبة مواساة للنبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

دليل على أن التفسير المشهور هو األصح.

(11/243)

-244األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -ومهمال من ناحية برامجه البناءة.

تقول اآلية التي بعدها في مواساة النبي األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم(، حيث كان يواجه

هذا الموقف العدائي للخصوم: )وكذلك جعلنا لكلنبي عدوا من المجرمين(.

لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة، فقد مر جميع األنبياء بمثل هذه الظروف،

حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من )المجرمين(فكانوا يناصبونهم العداء.

ولكن إعلم أنك لست وحيدا، وبال معين )وكفى بربكهاديا ونصيرا(.

فال وساوسهم تستطيع أن تضلك، ألن الله هاديك، وال مؤامراتهم تستطيع، أن تحطمك، ألن الخالق

معينك، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم، وقدرتهأقوى من كل القدرات.

اآلية التي بعدها، تشير أيضا إلى ذريعة أخرى من ذرائع هؤالء المجرمين المتعللين بالمعاذير، فتقول:

)وقال الذين كفروا لوال نزل عليه القرآن جملةواحدة(.

أليس القرآن جميعه من قبل الله!؟ أليس من األفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة

واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه اآليات تدريجيا وعلى فواصل زمنية

مختلفة؟ و قد يأخذ هذا اإلشكال في كيفية نزول القرآن

مأخذه من األفراد السطحيين، خاصة إذا كانوا من المتمحلين لألعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين، ومحور

كل قوانينهم السياسية و اإلجتماعية والحقوقية والعبادية، لماذا لم ينزل كامال ودفعة واحدة على نبي

اإلسالم)صلى الله عليه وآله وسلم(، حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية فيطلعون على محتواه. واساسا فقد كان األفضل للنبي)صلى الله عليه وآله

وسلم( أيضا أن يكون ذا اطالع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فورا على كل ما

يسألونه ويريدون

(11/244)

-245األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -منه.

ولكن القرآن في تتمة نفس هذه اآلية يجيبهم: )وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيال(.وقد غفل اولئك السطحيون عن هذه الحقيقة، فال شك أن

نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( والمؤمنين،

وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه اآليات. ثم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: )وال يأتونك بمثل إال جئناك بالحق وأحسن تفسيرا(. أي

أنهم ال يأتون بمثل أو مقولة أو بحث الضعاف دعوتك ومقابلتها، إال آتيناك بكالم حق يقمع كلماتهم الجوفاء

وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير. وبما أن هؤالء األعداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد

مجموعة من إشكاالتهم ـ أن محمدا وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شر خلق

الله )العياذ بالله(، وألن ذكر هذا القول ال يتناسب مع فصاحة وبالغة القرآن، فإن الله سبحانه يتناول

اإلجابة على هذا القول في اآلية األخيرة مورد البحثدون أن ينقل أصل قولهم، يقول:

)الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرمكانا وأضل سبيال(.

نعم، تتضح هناك نتيجة منهاهج حياة الناس، فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو، ووجوه منيرة كالقمر، وخطوات واسعة، يتوجهون بسرعة إلى الجنة، في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم إلى األرض، تسحبهم مالئكة العذاب إلى جهنم، هذا

المصير المختلف يكشف عمن كان ضاال وشقيا! ومنكان مهتديا وسعيدا؟!

* * *بحوث

ـ تفسير )جعلنا لكل نبي عدوا(.1 يفهم من هذه الجملة ـ أحيانا ـ أن الله من أجل

مواساة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( يقول:لست

(11/245)

-246األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وحدك لك عدو، بل لقد جعلنا لكل نبي عدوا، والزم

هذا القول إسناد وجود أعداء األنبياء إلى الله تعالى، األمر الذي ال يتفق مع حكمته وال مع أصل حرية

وإرادة اإلنسان. ذكر المفسرون أجوبة متعددة علىهذا السؤال ...

قلنا مرارا أن جميع أعمال اإلنسان منسوبة إلى الله، ألن جميع متعلقاتنا، قدرتنا، قوانا، عقلنا وفكرنا، وحتى حريتنا واختيارنا أيضا من عنده، وعلى هذا فمن الممكن من هذه الناحية نسبة وجود األعداء

لألنبياء إلى الله، دون أن يستلزم ذلك الجبر وسلب اإلختيار، وال يرد خدش في مسؤوليتهم إزاء أعمالهم

)فتأمل(! مضافا إلى أن وجود هؤالء األعداء األشداء

ومخالفتهم لألنبياء، يكون سببا في أن يصبح المؤمنون أقوى في عملهم، وأثبت قدما، فيتحقق

اإلمتحان اإللهي بالنسبة إلى الجميع. ( من سورة112هذه اآلية في الحقيقة مثل اآلية )

األنعام حيث تقول: )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين اإلنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض

زخرف القول غرورا(. أمام األزاهير تنمو األشواك، وفي قبال المحسنين يوجد المسيئون، دون أن تنتفي مسؤولية أي واحد

من هاتين المجموعتين. وقال البعض: إن المقصود من »جعلنا« هي أوامر

ونواهي ومناهج األنبياء البناءة التي تجر بعضالضالين إلى العداوة، شاؤوا أم أبوا.

و إذا أسند ذلك إلى الله فألن األوامر والنواهي منوجل. جهته عز

التفسير اآلخر: أن هنالك فئة يطبع الله على قلوبهم ويعمي أبصارهم ويصم أسماعهم بسبب اإلصرار على الذنب واإلفراط في التعصب واللجاجة، هذه

الفئة يصبحون أعداء األنبياء في نهاية المطاف، أماأسباب ذلك فهي بما قدموا ألنفسهم.

وال منافاة بين هذه التفاسير الثالثة، فمن الممكن أنتجتمع كلها في مفهوم اآلية.

(11/246)

-247األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ اآلثار العميقة لنزول القرآن التدريجي2

صحيح أنه كان للقرآن نزوالن، طبقا للروايات )بل لظاهر بعض اآليات(: أحدهما: »نزول دفعي« مرة

واحدة في ليلة القدر على قلب النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، واآلخر: »نزول تدريجي« في ثالث

وعشرين سنة، لكن بال شك أن النزول المعترف به الذي كان النبي والناس يتفاعلون معه دائما هو

النزول التدريجى للقرآن. وهذا النزول التدريجي بالذات صار سببا الستفهامات

األعداء: لماذا لم ينزل القرآن مرة واحدة ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس، حتى يكونوا أكثر إطالعا

وتفهما، فال يبقى مكان للشك والريبة؟

ولكن ـ كما رأينا ـ فإن القرآن أجابهم جوابا قصيرا وجامعا وبليغا من خالل جملة )كذلك لنثبت به

فؤادك(، فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار النزولالتدريجي للقرآن أوضح.

ـ ال شك أن التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل1 تدريجي تبعا للحاجات، ويكون لكل مسألة شاهد

ومصداق عيني، فستكون مؤثرة جدا من ناحية »تلقيالوحي« وكذلك »إبالغ الناس«.

مباديء التربية تؤكد أن الشخص أو األشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة خطوة،

فينظم لهم لكل يوم برنامج، ويسلكوا من المرحلة األدنى التي شرعوا منها إلى المراحل األعلى

والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبوليةوأعمق أثرا.

ـ إن هؤالء المعترضين غافلون أساسا عن أن2 القرآن ليس كتابا عاديا يبحث في موضوع أو علم

معين، بل هو منهج حياتي لألمة التي تغيرت به،واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة وال تزال.

كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة )بدر( و)أحد( و )األحزاب( و)حنين(،وبذلك سنت التشريعات واإلستنتاجات من هذه

(11/247)

-248األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الحوادث، ترى هل يصح أن تكتب هذه مرة واحدة

وتعرض على الناس!؟ بعبارة أخرى: القرآن مجموعة من أوامر ونواه، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة األحداث التي كانت تبرز أمام مسير األمة اإلسالمية، كتاب ـ كهذا ـ

يبين وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة األمة، ال يمكن أن

ينظم ويدون دفعة واحدة. و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر

جميع بياناته وإعالناته وأوامره ونواهيه ـ التي يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من

أجل تسيير الثورة، ترى هل يعتبر هذا العملعقالئيا!؟

ـ النزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط3

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( الدائم والمستمر بمبدأ الوحي مما يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته

أشد. ومن غير الممكن إنكار تأثيره في المناهجالتربوية.

ـ من جهة أخرى فإن استمرار الوحي دليل على4 استمرار رسالة وسفارة النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم(، وسوف لن يترك مجاال لوسوسة األعداء لكي يقولوا: لقد بعث هذا النبي ليوم واحد! ثم تركه ربه،

كما نقرأ في التأريخ اإلسالمي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية الدعوة، فأنزلت

سورة )والضحى( لنفي ذلك. ـ ال شك أنه إذا كان مقررا لمناهج اإلسالم أن تنزل5

جميعها دفعة واحدة، فقد كان من الالزم أن تطبق دفعة واحدة أيضا، ألن النزول بدون تطبيق يفقد

النزول قيمته، ومن المعلوم أن تطبيق جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد، ورعاية جميع

الواجبات واإلمتناع عن كل المحرمات دفعة واحدة.. عمل ثقيل جدا قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من

اإلسالم. و بهذا يتبين أن النزول التدريجي وبالتالي التطبيق

التدريجي أفضل من جهات كثيرة.

(11/248)

-249األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - و بعبارة أخرى: إن أي واحد من هذه التشريعات في

صورة النزول التدريجي سيتم هضمه واستيعابه بصورة جيدة، وفي حالة تعرضه لبعض االستفهامات

يمكن طرحها واالجابة عليها. ـ وفائدة اخرى من فوائد النزول التدريجي هو6

اتضاح عظمة وإعجاز القرآن، ذلك ألن في كل واقعة تنزل عدة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و االعجاز، وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه العظمة وهذا

اإلعجاز، فينفذ في أعماق قلوب الناس. ـ معنى الترتيل في القرآن:3

كلمة »ترتيل« من مادة »رتل« )على وزن قمر( بمعنى انتظم واتسق، لذا فالعرب يقولون »رتل

األنسان« لمن تكون أسنانه جيدة ومنتظمة ومتسقة. وعلى هذا األساس يطلق الترتيل بمعنى القراءةالمتسقة للكالم أو اآليات بموجب نظام وحساب.

و على هذا فجملة )ورتلناه ترتيال( إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن آيات القرآن وإن نزلت تدريجا

سنة، لكن هذا النزول كان على أساس23وفي مدة نظام وحساب ومنهج بحيث ادى الى رسوخه في

األفكار وغرسه في القلوب. في تفسير كلمة »ترتيل« نقلت روايات جذابة، نشير

إلى بعضها كما يأتي: في تفسير »مجمع البيان« »نقل عن النبي)صلى

الله عليه وآله وسلم( أنه أمر ابن عباس: »إذا قرأت القرآن فرتله ترتيال« فسألته: وما الترتيل؟ قال:

»بينه تبيينا وال تنثره نثر الدقل وال تهزه هز الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، وال يكونن هم

أحدكم آخر

(11/249)

-250األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1السورة«.)

و هناك رواية بهذه المضمون رواه الشيخ الكليني في »أصول الكافي« عن أمير المؤمنين علي)عليه

(2السالم(.) و نقل أيضا عن اإلمام الصادق)عليه السالم(

»الترتيل أن تتمكث به وتحسن به صوتك، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار، وإذا مررت

(3بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة«.) ـ تفسير)يحشرون على وجوههم إلى جهنم(4

أقوال كثيرة بين المفسرين في ما هو المقصودبحشر هذه الفئة من المجرمين على وجوههم!؟

بعضهم فسروا ذلك بنفس معناه الحقيقي، وقالوا: إن مالئكة العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم ملقون على وجوههم إلى األرض، وهذا عالمة على مهانتهم

وذلتهم، ألنهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرورواإلستهانة بخلق الله، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى تجسيد لضاللتهم في هذا العالم، ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة ال يرى ما أمامه بأي

شكل، وغافل عما حوله. و البعض اآلخر أخذوا بمعناه الكنائي، فقالوا تارة هذه

الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا، فهم يسحبون إلى جهنم ألن وجوه قلوبهم ال زالت

(4مرتبطة بالدنيا.)

--- ذيل اآلية مورد170، ص 7 ـ مجمع البيان، ج 1

البحث. )باب ترتيل القرآن449، ص 2 ـ أصول الكافي، ج2

بالصوت الحسن(. ـ مجمع البحرين مادة رتل.3 ـ طبقا لهذا التفسير، فإن عبارة »على وجوههم«4

أخذت محل العلة. فيكون مفهوم الجملة هكذا)يحشرون إلى جهنم لتعلق وجوه قلوبهم إلى الدنيا(.

(11/250)

-251األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وقالوا تارة اخرى: انها كناية مستعملة في األدب

العربي حيث يقولون: فالن مر على وجهه، يعني أنهلم يكن يدري أين يذهب.

لكن الواضح أننا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي، البد من حملها على المعنى األول، وهو المعنى

الحقيقي.* * *

(11/251)

-252األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ولقد ءاتينا موسى الكتب وجعلنا معه أخاه هرون ( فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بأيتنا35وزيرا)

رنهم تدميرا) سل36فدم ا كذبوا الر ( وقوم نوح لم أغرقنهم وجعلنهم للناس ءاية وأعتدنا للظلمين عذابا

س وقرونا بين37أليما ) (وعادا وثمودا وأصحب الر تبرنا تتبيرا)38ذلك كثيرا ) ضربنا له أمثل وكال (وكال

وء39 ( ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر الس(40أفلم يكونوا يرونها بل كانوا ال يرجون نشورا)

التفسيرمع كل هذه الدروس والعبر، ولكن...

أشار القرآن المجيد في هذه اآليات إلى تاريخ األمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكدا على ست أمم

بخاصة )الفراعنة، وقوم نوح، وقوم عاد، وثمود،س، وقوم لوط( وذلك لمواساة وأصحاب الر

النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( من جهة، ولتهديد

(11/252)

-253األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - المشركين المعاندين الذين مر أنموذج من أقوالهم في اآليات السابقة، من جهة أخرى ويجسد دروس العبرة من مصير هذه األقوام بشكل مختصر وبليغ

تماما. يقول أوال: )ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه

أخاه هارون وزيرا(. فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما اآلخر حتى يثمر )فقلنا

إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا( فإنهم قد كذبوا دالئل الله وآياته التي في اآلفاق وفي األنفس وفي كل عالم الوجود، وأصروا على طريق الشرك وعبادة

األصنام من جهة.. ومن جهة أخرى أعرضوا عنتعاليم االنبياء السابقين وكذبوهم.

ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون،بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة، أصروا أيضا على طريق

الكفر واإلنكار، لذا )فدمرناهم تدميرا(. كلمة »تدمير« من مادة »دمار« بمعنى اإلهالك

بأسلوب يثير العجب، حيث كان هالك قوم فرعون في أمواج النيل المتالطمة بتلك الكيفية المعروفة

من عجائب التاريخ حقا. وكذلك: )وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم

وجعلناهم للناس آية، واعتدنا للظالمين عذابا أليما(. الملفت لإلنتباه أنه تعالى يقول: إن أولئك كذبوا

الرسل )ال رسوال واحدا فقط( ذلك أنه ال فرق بين أنبياء الله ورسله في أصل الدعوة، وتكذيب واحد

منهم تكذيب لجميعهم، فضال عن أنهم كانوا مخالفينلدعوة جميع أنبياء الله ومنكرين لجميع األديان.

وكذلك: )وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين(1ذلك كثيرا(.)

--- ـ »وعادا وثمودا«1

عطف على ضمير »هم«في جملة »دمرناهم«

. واحتمل بعضهم أيضا أن العطف على »هم« في»جعلناهم«

، أو يكون عطفا على محل »الظالمين«لكن اإلحتمال األول مناسب أكثر.

(11/253)

-254األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »قوم عاد« هم قوم النبي »هود« العظيم، الذي بعث

في منطقة )األحقاف( أو )اليمن(. و»قوم ثمود« قوم نبي الله »صالح« الذي بعث في

منطقة وادي القرى )بين المدينة والشام(، أما ما يتعلق بمسألة »أصحاب الرس« فسنبحثها في نهاية

هذا البحث. »قرون« جمع »قرن« وهي في األصل بمعنى

الجماعة الذين يعيشون معا في زمان واحد، ثمأطلقت على الزمان الطويل )أربعين أو مائة سنة(. لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبدا، بل )وكال ضربنا

له األمثال(. أجبنا على إشكاالتهم، مثل اإلجابة على اإلشكاالت

التي يوردونها عليك، وبينا لهم األحكام اإللهية وحقائق الدين. أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أي من

ذلك اهلكناهم ودمرناهم تدميرا: )وكال تبرنا تتبيرا(.)1)

وفي نهاية المطاف ـ في اآلية األخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي

تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى األثر الحي الناطق عن المصير األليم ألولئك الملوثين

والمشركين، فيقول تعالى: )ولقد أتوا على القريةالتي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها(.

نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك ألنهم )بل كانوا ال يرجون

نشورا(. إنهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة، وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف وبال أساس، ال يطبع أثرا في ارواحهم وال ينعكس في

مناهج--- ـ »تتبير«1

من مادة »تبر« )على وزن ضرر، وعلى وزن صبر(بمعنى اإلهالك التام.

(11/254)

-255األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حياتهم، ولهذا فهم يأخذون جميع األشياء مأخذ

اللعب، وال يفكرون إال بأهوائهم السريعة الزوال.* * *

بحثان ـ من هم »أصحاب الرس«1

كلمة »رس« في األصل بمعنى األثر القليل، فيقال مثال »رس الحديث في نفسي« )قليل من حديثه في

ذاكرتي( أو يقال: وجد رسا من حمى« )يعني: وجد(1قليال من الحمى في نفسه(.)

وجماعة من المفسرين اعتقدوا بأن »الرس« بمعنىالبئر.

على أية حال فتسمية هؤالء القوم بهذا االسم، إما ألن أثرا قليال جدا بقي منهم، أو ألنهم كانت لهم آبار

كثيرة، أو ألنهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم. أما من هم هؤالء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين

المؤرخين والمفسرين: ـ يرى كثيرون أن »أصحاب الرس« كانوا طائفة1

تعيش في »اليمامة« وبعث لهم نبي اسمه »حنظلة« كذبوه وألقوه في بئر، وذكروا أيضا: إنهم مألوا هذا

البئر بالرماح، وأغلقوا فم البئر بعد إلقاء النبي فيها(2بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي.)

ـ البعض اآلخر يرى أن »أصحاب الرس« إشارة إلى2 قوم »شعيب« الذين كانوا يعبدون األصنام، وكانوا

ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء، و»الرس« كان اسما لبئرعظيم، حيث أغاضه الله، فأهلك أهل ذلك المكان.

ـ بعض آخر يعتقد أن »الرس« كانت قرية في أرض3 »اليمامة« حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم

ثمود، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم.--- ـ مفردات الراغب.1 .149 ـ أعالم القرآن ص 2

(11/255)

-256األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ وذهب آخرون أنهم كانوا جماعة من العرب4

( بين الشام والحجاز.1الماضين، يعيشون)

ـ بعض التفاسير يعرف »أصحاب الرس« من بقايا5 (2عاد وثمود، ويعتبر )وبئر معطلة وقصر مشيد(.)

متعلقة بهم أيضا، وذكر أن موطنهم في »حضرموت« واعتقد »الثعلبي« في »عرائس البيان« أن هذا

القول هو األكثر اعتبارا. البعض اآلخر من المفسرين طبقوا »الرس« على

»أرس« )في شمال آذربيجان(! ـ العالمة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر6

الرازي في التفسير الكبير، واآللوسي في روح المعاني نقلوا من جملة اإلحتماالت، أنهم قوم

يعيشون في أنطاكية الشام، وكان نبيهم »حبيبالنجار«.

ـ في عيون أخبار الرضا، نقل حديث طويل حول7 »أصحاب الرس« خالصته: »إنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها )شاه درخت( كان يافث بن

نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها )روشن آب( وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له »الرس«، يسمين بأسماء: آبان،

آذر، دي، بهمن أسفندار، فرودين، أردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها اشتق العجم

أسماء شهورهم. وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك

الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة، وحرموا شرب مائها على أنفسهم

وأنعامهم، ومن شرب منه قتلوه، ويقولون: إنه حياة اآللهة فال ينبغي ألحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما ـ في كل قرية، عيدا،

يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثم يحرقونها في

النار---.94، ص 1 ـ شرح نهج البالغه، البن أبي الحديد، ج 1.45 ـ سورة الحج، اآلية 2

(11/256)

-257األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون، و الشيطان يكلمهم من

الشجرة. وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان

يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم واسمها )أسفندار( اجتمع إليها أهل القرى جميعا

وعيدوا اثني عشر يوما، وجاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة، وكلمهم إبليس وهو

يعدهم ويمنيهم أكثر مما كان من الشياطين فيسائر األعياد من سائر الشجر.

ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة، بعث الله إليهم رسوال من بني إسرائيل من ولد يهودا،

فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلما رأوا ذلك ساءهم، فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت

هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب آللهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله

فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها، وسدوا فوهتها، فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات، فأتبعهم الله

(1بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم«.) قرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث، ألن مع

وجود ذكر »أصحاب الرس« في مقابل عاد وثمود يكون احتمال أنهم جماعة من هاتين األمتين بعيدا

جدا. كذلك، فإن وجود هؤالء القوم في الجزيرة العربية

والشامات وتلك الحدود ـ و هو الذي احتمله الكثيرون ـ بعيد أيضا، ذلك ألنه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة، في الوقت الذي لم نر

حتى انعكاسا ضئيال ألصحاب الرس لديهم. مضافا الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير

األخرى، من جملتها: أن »الرس«--- ـ عيون أخبار الرضا)عليه السالم(1

، ص15، طبقا لنقل وتلخيص تفسير الميزان، ج والحديث في العيون بإسناده عن أبي الصلت219

الهروي عن اإلمام الرضا)عليه السالم(عن أمير المؤمنين)عليه السالم(

.

(11/257)

-258األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - كان اسما لبئر )البئر التي ألقوا فيها نبيهم( أو أنهم

كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك. و ما ورد في رواية عن اإلمام الصادق)عليه السالم(:

أن نساءهم كن منحرفات جنسيا و يمارسن(1»المساحقة« ال منافاة له مع هذا الحديث أيضا)

( يستفاد أنه180و من عبارة )نهج البالغة، الخطبة كان لهم أكثر من نبي واحد فقط، ألنه)عليه السالم(

يقول: »أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين،وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين!؟«.

و كالم أمير المؤمنين)عليه السالم( هذا ال يتنافى مع الرواية أعاله، ألن من الممكن أن الرواية تشير إلى

مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم. ـ مجموعة من الدروس المؤثرة:2

ست فئات في اآليات أعاله، ذكرت أسماؤهم: قوم فرعون قوم نوح المتعصبون، قوم عاد المتجبرون،

ثمود، أصحاب الرس، وقوم لوط، حيث كان كل منهم أسير نوع من اإلنحراف الفكري واألخالقي أدى بهم

إلى الهالك والشقاء. الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين

واستثماريين وأنانيين. قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين

ومغرورين. قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم

الذاتية. و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ

الجنسي وخاصة نسائهم، وكان قوم لوط غارقين في وحل من الفحشاء، وشذوذ الرجال بخاصة،

والجميع منحرفون عن جادة التوحيد. حيرى فيالضالالت.

و هنا يريد القرآن أن ينذر مشركي عصر النبي)صلىالله عليه وآله وسلم( وجميع الناس على مدى

--- ، ص4 ـ الكافي، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، ج 1

19.

(11/258)

-259األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - التاريخ: ليكن لكم من القدرات واإلستطاعة

واإلمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال وثروات وحياة مرفهة، فإن التلوث بالشرك والظلم

والفساد سيستأصل أعماركم، وإن نفس أسبابتفوقكم تلك ستكون أسباب هالككم!

قوم فرعون: وقوم نوح، أهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة، قوم عاد بالعاصفة والرياح التي هي

أيضا في ظروف خاصة أساس الحياة، قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق، وقوم لوط بمطر من الحجارة نزل بعد الصاعقة، أو انفجار بركان على

قول بعضهم، وأصحاب الرس طبقا لذيل تلك الرواية أعاله، أبيدوا بنار تطلع من األرض، وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب، ليؤوب هذا اإلنسان المغرور

إلى نفسه، فيتمسك بطريق الله والعدالة والتقوى.* * *

(11/259)

-260األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

هزوا أهذا الذى بعث الله وإذا رأوك إن يتخذونك إال ( إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لوال أن صبرنا41رسوال)

عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل (أرءيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون42سبيال )

( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو43عليه وكيال) كاالنعم بل هم أضل سبيال) (44يعقلون إن هم إال

التفسيرأضل من األنعام:

الملفت لإلنتباه أن القرآن المجيد ال يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة، بل

أورد بعضا منها، فكان يتناولها بالرد والموعظة واإلنذار، ثم بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر بهذا

الترتيب. اآليات الحالية، تتناول لونا آخر من منطق المشركين

وكيفية تعاملهم مع رسول اإلسالم)صلى الله عليهوآله وسلم( ودعوته الحقة.

(11/260)

-261األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يقول تعالى أوال: )وإذا رأوك إن يتخذونك إال هزوا

(1أهذا الذي بعث الله رسوال(.) وهكذا نجد هؤالء الكفار يتعجبون! أي ادعاء عظيم

يدعي؟ أي كالم عجيب يقول!؟ ... إنها مهزلة حقا! لكن يجب أال ننسى أن رسول اإلسالم)صلى الله عليه

وآله وسلم(، كان هو ذلك الشخص الذي عاش بينهم أربعين عاما قبل الرسالة، وكان معروفا باألمانة

والصدق والذكاء والدراية، لكن رؤوس الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر، وتلقوا مسألة دعوة النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم( ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدالئل الناطقة ـ بالسخرية واإلستهزاء حتى لقد اتهموه

بالجنون. ثم يواصل القرآن ذكر مقوالت المشركين فينقل عن

لسانهم )إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لوال أن صبرنا(.2عليها()

لكن القرآن يجيبهم من عدة طرق، ففي البداية من خالل جملة واحدة حاسمة يرد على مقوالت هذه

الفئة التي ما كانت أهال للمنطق: )وسوف يعلمونحين يرون العذاب من أضل سبيال(.

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة، كما قال بعض المفسرين مثل »الطبرسي« في

مجمع البيان، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم »بدر« وأمثالها، كما قال »القرطبي« في

تفسيره المعروف، ويمكن أن تكون اإلشارة إليهمامعا.

الملفت للنظر أن هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه، وقعت في تناقض فاضح، فمن جهة تلقت النبي

ودعوته بالسخرية، إشارة إلى أن ادعاءه بال أساسوال--- ـ »هزوا«1

مصدر، وجاء هنا بمعنى المفعول، وهذا اإلحتمال وارد أيضا وهو أن يكون مضافا مقدارا )محل هزو(، أيضا

فالتعبير بـ »هذا«للتحقير ولتصغير النبي.

ـ كلمة )إن(2في )إن كاد ليضلنا(

مخففة، للتوكيد، وفي تقدير »إنه كاد«وضميرها ضمير الشأن.

(11/261)

-262األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد، ومن جهة أخرى أنه لوال

تمسكهم بمذهب أجدادهم، فمن الممكن أن ـ يؤثر عليهم كالم النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

ويضلهم عن ذلك المذهب، وهذا يدل على أنهم كانوا يعتبرون كالمه قويا وجديا ومؤثرا ومحسوبا، و هذا

المنطق المضطرب ليس غريبا عن هؤالء األفرادالحيارى اللجوجين.

و كثيرا ما يرى أن منكري الحق حينما يقفون قبالة األمواج المتالطمة لمنطق القادة اإللهيين، فإنهم يختارون اسلوب اإلستهزاء تكتيكا من أجل توهينه ودفعه، في حين أنهم يخالفون سلوكهم هذا في الباطن، بل قد يأخذوه بجدية أحيانا ويقفون ضده

بجميع امكاناتهم. الجواب القرآني الثاني على مقوالتهم ورد في اآلية

التي بعدها، موجها الخطاب إلى النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( على سبيل المواساة وتسلية

الخاطر، وأيضا على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النبي من قبل أولئك، فيقول:

)أرأيت من اتخذ إلهه هواه( فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه )أفأنت تكون عليه

وكيال(. يعني إذا وقف أولئك أمام دعوتك باإلستهزاء واإلنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك ألن منطقك ضعيف

ودالئلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل ألنهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم

أهواؤهم النفسية، ترى أتنتظر أن يطيعك هكذاأشخاص، أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟

أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة:)أرأيت من اتخذ إلهة هواه(:

قال جماعة ـ كما قلنا آنفا ـ : إن المقصود أن لهم صنما، ذلك هو هواهم النفسي، وكل أعمالهم تصدر

من ذلك المنبع. في حين أن جماعة أخرى ترى أن المراد هو أنهم ال

يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم األصنام، بل إنهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر، أو

شجرة جذابة، أو شيء آخر يثير هواهم، فإنهميتوهمونه »معبودا«، فكانوا يجثون

(11/262)

-263األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - على ركبهم أمامه، ويقدمون القربان، ويسألونه حل

مشكالتهم. وذكر في سبب نزول هذه اآلية رواية مؤيدة لهذا

المعنى، وهي أن إحدى السنين العجاف مرت على قريش، فضاق عليهم العيش، فخرجوا من مكة

وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجرا حسنا هويه فعبده، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها »سعد الصخرة«، وكان إذا أصابهم

داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم واإلبل، فجاء رجل من العرب بإبل يريد أن

يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها، فنفرت إبلهفتفرقت، فقال الرجل شعرا:

أتيت إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحنمن سعد

وما سعد إال صخرة مستوية من األرض ال تهدي لغيوال رشد

و مر به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقالشعرا:

ورب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه (التفسيران أعاله ال منافاة بينهما، فأصل1الثعالب)

عبادة األصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى، كما أن اختيار األصنام المختلفة بال أي منطق،

فرع آخر عن أتباع الهوى أيضا. وسيأتي بحث مفصل في المالحظات اآلتية، بصدد

»اتباع الهوى والشهوات« إن شاء الله. وأخيرا فإن الجواب القرآني الثالث لهذه الفئة

الضالة، هو قوله: )أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أويعقلون، إن هم إال كاألنعام بل هم أضل سبيال(.

يعني ال يؤذينك استهزاؤهم ومقوالتهم السيئة وغير المنطقية أبدا، ألن االنسان إما أن يكون ذا عقل،

ويستخدم عقله، فيكون مصداقا لـ »يعقلون«.--- ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي، طبقا لنقل نور1

.20، ص 4الثقلين، ج

(11/263)

-264األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أو أنه فاقد للعلم ولكنه يسمع قول العلماء، فيكون

مصداقا لـ »يسمعون«، لكن هذه الفئة ال من أولئك وال من هؤالء، وعلى هذا فال فرق بينهم وبين

االنعام. وواضح أنه ال يتوقع من األنعام غير الصياح والرفس واألفعال الالمنطقية. بل هم أتعس من األنعام وأعجز، إذ أن األنعام ال تعقل وال فكر لها،

وهؤالء لهم عقل وفكر، وتسافلوا إلى حال كهذه. المهم هو أن القرآن يعبر بـ »أكثرهم« هنا أيضا، فال

يعمم هذا الحكم على الجميع، ألنه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعا، وحينما يواجهون الحق

تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجيا، فيتقبلوا الحق، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي اإلنصاف في

المباحث القرآنية.* * *

بحثان ـ اتباع الهوى وعواقبه األليمة1

ال شك أن في كيان اإلنسان غرائز وميوال مختلفة، وجميعها ضروري إلدامة حياته، الغيظ والغضب، حب

النفس، حب المال والحياة المادية، وأمثالها، وال شكأن مبدع الوجود خلقها جميعا لذلك الهدف التكاملي.

لكن المهم هو أنها تتجاوز حدها أحيانا، وتخرج عن مجالها، وتتمرد على كونها أداة طيعة بيد العقل، وتصر على العصيان والطغيان، فتسجن العقل، وتتحكم بكل وجود اإلنسان، وتأخذ زمام اختياره

بيدها. هذا هو ما يعبرون عنه بـ »اتباع الهوى« الذي هو

أخطر أنواع عبادة األصنام، بل إن عبادة األصنام تنشأ عنه أيضا، فليس عبثا أن الرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( اعتبر صنم »الهوى« أعظم وأسوأاألصنام، لذا قال: »ما تحت ظل السماء من إله يعبد

(11/264)

-265األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع«،)

ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئمة اإلسالم »أبغضإله عبد على وجه األرض الهوى«.

وإذا تأملنا جيدا في أعماق هذا القول، نعلم جيدا لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة، كما يقول

القرآن: )وال تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع(2هواه(.)

و من جهة أخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم اإليمان، كما يقول القرآن )فال يصدنك عنها من ال

(3يؤمن بها واتبع هواه(.) و من جهة ثالثة فإن اتباع الهوى أسوأ الضالل، يقول القرآن الكريم: )ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى

(4من الله(.) و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة

لطلب الحق، ويخرج اإلنسان عن طريق الله، كما نقرأ في القرآن: )فاحكم بين الناس بالحق وال تتبع

(5الهوى فيضلك عن سبيل الله(.) و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل

واإلنصاف كما نقرأ في القرآن: )فال تتبعوا الهوى أن(6تعدلوا(.)

و أخيرا، فإن نظام السماء واألرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس، فإن الفساد سوف يعم كل

ساحة الوجود: )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت(7السماوات واألرض ومن فيهن(.)

--- ـ تفسير الدر المنثور، في ذيل اآلية مورد البحث،1

.257، ص 15نقال عن تفسير الميزان، ج .28 ـ سورة الكهف، اآلية 2.16 ـ سورة طه، اآلية 3.50 ـ سورة القصص، اآلية 4.26 ـ سورة ص، اآلية 5.135 ـ سورة النساء، اآلية 6.71 ـ سورة المؤمنون، اآلية 7

(11/265)

-266األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وفي الروايات اإلسالمية أيضا، نالحظ تعبيرات مؤثرة

في هذا الصدد: نقرأ في رواية عن على)عليه السالم(: »الشقي من

(1انخدع لهواه وغروره«.) وفي حديث آخر عنه)عليه السالم(، نقرأ أن: »الهوى

(2عدو العقل«.)(3نقرأ أيضا: »الهوى أس المحن«.)

( و»ال عقل4و عنه)عليه السالم(: »ال دين مع هوى«)(5مع هوى«.)

والخالصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من

العقل، وليس عاقبة اتباع الهوى إال التعاسة والمحنوالبالء، وال يثمر إال المسكنة والشقاء والفساد.

أحداث حياتنا والتجارب المرة التي رأيناها في أيام العمر بالنسبة إلينا وإلى اآلخرين، شاهد حي على

جميع النكات التي وردت في اآليات والروايات أعالهبصدد اتباع الهوى.

نرى أفرادا يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم، جزاءساعة واحدة من أتباع الهوى.

و نعرف شبابا صاروا أسارى مصيدة اإلدمان الخطير، واإلنحرافات الجنسية و األخالقية، على أثر انقيادهم

للهوى، بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة ال قيمة لها،وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم الذاتية.

في التأريخ المعاصر والماضي، نلتقي بأسماء الذين قتلوا آالفا وأحيانا ماليين من الناس األبرياء، من أجل

أهوائهم، بحيث أن االجيال تذكر أسماءهم المخزيةبالسوء إلى األبد.

هذا األصل ال يقبل اإلستثناء، فحتى العلماءوالعبابدون أهل السابقة مثل

--- .86 ـ نهج البالغه، الخطبة 1.265 ـ غرر الحكم، الجملة 2 .1048 ـ غرر الحكم، الجملة 3 .10531 ـ غرر الحكم، الجملة 4 .10541 ـ غرر الحكم، الجملة 5

(11/266)

-267األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - )بلعم بن باعورا( سقطوا من قمة العظمة اإلنسانية

إلى الهاوية، نتيجة انقيادهم لهوى النفس، حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي ال ينفك عن

سورة األعراف(.176النباح )اآلية لهذا فال عجب أن يقول النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم( وأمير المؤمنين)عليه السالم(: »إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان، اتباع الهوى وطول األمل، أما

اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول األمل(1فينسي اآلخرة«.)

وردت أيضا في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه المسألة من

وجهة نظر اإلسالم، إلى حد أن يعد مفتاح الجنة

الخوف من الله، ومجاهدة النفس: )وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي

(2المأوى(.) يقول علي)عليه السالم(: »أشجع الناس من غلب

(3هواه«.) و قد نقلت قصص كثيرة في حاالت محبي الحق

وأولياء الله، والعلماء والعظماء، حيث نالوا المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى، هذه المقامات لم تكن

ممكنة بالطرق العادية. ـ لماذا أضل من األنعام!؟2

لتجسيد أهمية الموضوع في اآليات أعاله، يبين القرآن أوال: أن الذين اتخذوا اهواءهم آلهه يعبدونهاهم كاألنعام، وبعد ذلك يضيف مشددا: بل هم أضل!

( من سورة172نظير هذا التعبير ورد أيضا في اآلية ) األعراف في أهل النار الذين يؤولون إلى هذا المصير

نتيجة عدم اإلستفادة من السمع والبصر والعقل،--- )ذيل مادة هوى(728، ص 2 ـ سفينة البحار، ج 1

.42 و28ونهج البالغة، الخطبة .40 ـ سورة النازعات، اآلية 2 )مادة شجع(.689، ص 1 ـ سفينة البحار، ج 3

(11/267)

-268األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يقول تعالى: )أولئك كاألنعام بل هم أضل(.

)أضل(و إن كانت واضحة إجماال، لكن المفسرين قدموا بحوثا جيدة في هذه المسألة، وهي ـ مع تحليل

وإضافات: ـ إذا لم تفهم األنعام شيئا، وليس لها أذن سامعة1

وعين باصرة، فذلك لعدم استعدادها الذاتي، لكن األعجز منها اإلنسان الذي تكمن في وجوده خميرة

جميع السعادات، والذي أفاض الله عليه قدرا عظيما من اإلستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة الله في األرض، ولكن أفعاله الذميمة بلغت به حدا أسقطته

عن مستوى األنعام، وأذهبت كل لياقاته هدرا، وهوى من رتبة مسجود المالئكة إلى حضيض الشياطين

الذليلة. وهذا هو األضل والمؤلم حقا. ـ األنعام غير مسؤولة تقريبا، وليست مشمولة2

بالجزاء اإللهي، في حين أن البشر الضالين يجب

عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم،ليروا جزاء أعمالهم بال نقص أو زيادة.

ـ تؤدي األنعام لإلنسان خدمات كثيرة، وتنجز له3 أعماال مختلفة، أما طغاة البشر العصاة فال تتأتى

منهم أية منفعة، بل يسببون آالفا من البالءاتوالمصائب.

ـ األنعام ال خطر منها على أحد، فإذا كان ثمة خطر4 منها، فخطر محدود، لكن الويل من اإلنسان غير

المؤمن، والمستكبر، عابد الهوى، الذي يؤجج أحيانانار حرب يذهب ضحيتها الماليين من الناس.

ـ إذا لم يكن لألنعام قانون ومنهج، فإنها تتبع5 مسارا عينه الله لها على شكل غرائز، فهي تتحرك

على ذلك الخط. أما اإلنسان المتمرد، فال يعترف بقوانين تكوينية وال قوانين تشريعية، ويعتبر هواه

وشهواته حاكما على كل شيء. ـ األنعام ال تبرير لديها ألعمالها أصال، فإذا خالفت6

فهي المخالفة، وإذا أرادت أن تمضي في طريقهاحين تمضي فذلك هو الواقع، أما اإلنسان المتكبر

(11/268)

-269األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - السفاك، عابد الهوى فكثيرا ما يبرر جميع جرائمه

بالشكل الذي يدعي فيه أنه يؤدي مسؤولياته اإللهيةواإلنسانية.

ولهذها، فال موجود أكبر خطرا وأشد ضررا من إنسانمتبع للهوى، عديم االيمان ومتمرد.

( من سورة األنفال بلقب22ولهذا وصمته اآلية ))شر الدواب( وكم هو مناسب هذا اللقب؟!!

* * *

(11/269)

-270األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ل ولو شآء لجعله ساكنا ألم تر إلى ربك كيف مد الضمس عليه دليال) ( ثم قبضنه إلينا قبضا45ثم جعلنا الش

(وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم46يسيرا )يح47سباتا وجعل النهار نشورا) ( وهو الذى أرسل الر

مآء مآء طهورا) بشرا بين يدى رحمته وأنزلنا من الس

ا خلقنآ أنعما48 يتا ونسقيه مم ( لنحى به بلدة مفنه بينهم ليذكروا فأبى49وأناسى كثيرا) ( ولقد صر

كفورا) (50أكثر الناس إالالتفسير

حركة الظالل: في هذه اآليات كالم في أقسام مهمة من النعم

اإللهية، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله، األمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقربا

منه، ومع اإللتفات إلى أن المحاورات الكثيرة في اآليات الماضية كانت مع المشركين، تتضح صلة

وارتباط هذه اآليات باآليات السابقة.

(11/270)

-271األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - في هذه اآليات، كالم في نعمة »الضالل« ثم في آثار

وبركات »الليل« و»النوم و اإلستراحة« و»ضياء« النهار و»هبوب الرياح« و»نزول المطر« و»إحياء

األراضي الموات« و»سقاية« األنعام والناس. يقول تعالى أوال: )ألم تر إلى ربك كيف مد الظل،

ولو شاء لجعله ساكنا(. ال شك أن هذا الجزء من اآلية إشارة إلى أهمية نعمة

الظالل الممتدة والمتحركة. الظالل التي ال تثبت على حال، بل هي في حركة

وانتقال. ولكن أي ظل هو المقصود باآلية؟ ثمة أقوال في

أوساط المفسرين: بعضهم يقول: هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على األرض بعد طلوع الفجر وقبل

طلوع الشمس، وأهنأ الظالل والساعات هي تلك، هذا النور الشفاف، والظل المنبسط، يبدأ عند طلوع

الفجر، يتالشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانهالضياء.

و يرى البعض اآلخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند

لحظة طلوع الشمس، ألننا نعلم أن الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة األرضية المواجه

للشمس، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف اآلخر ومنتشرا في الفضاء الواسع. وهذا الظل المخروطي

في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة

يزول عنها ليتشكل في أخرى. وقال آخرون: المقصود هو الظل الذي يظهر

لألجسام بعد الظهر فينبسط شيئا فشيئا بالتدريج. طبيعي، أنه لو لم تكن الجمل اآلتية، لكنا نفهم من

هذه الجملة معنى واسعا يشمل جميع الظالل الشاسعة، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التفسير األول أكثر تناسبا، ألنه تعالىيقول على أثر ذلك: )ثم جعلنا الشمس عليه دليال(.

(11/271)

-272األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتضح لو لم تكن

الشمس، فالظل من حيث األصل يخلق بسبب ضياء الشمس، ألن »الظل« يطلق عادة على الظلمة

الخفيفة اللون التي تظهر األشياء فيها، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسما مانعا لنفوذ النور، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناء على هذا فليس

تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقا لقاعدة »تعرف األشياء بأضدادها« فقط، بل إن وجوده أيضا

من بركة النور. بعد ذلك يبين تعالى: ثم إننا نجمعه جمعا وئيدا )ثم

قبضناه إلينا قبضا يسيرا(. من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإن الظالل

تزول تدريجيا، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماما في بعض المناطق، ألن الشمس آنئذ تستقر تماما فوق رأس كل موجود، وفي مناطق

أخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل ال يظهر وال يختفي دفعة واحدة، وهذا نفسه

حكمة الخالق، ذلك ألن اإلنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضارا بجميع المخلوقات. لكن هذا

النظام المتدرج في هذه الحالة اإلنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات، دون أن يكون له أي

ضرر. التعبير بـ »يسيرا« إشارة إلى انقباض الظل

التدريجي، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق.

وكلمة )إلينا( تأكيد على هذه القدرة أيضا. على أية حال، ال شك أن اإلنسان كما يحتاج إلى أشعة

»النور« في حياته، فهو كذلك يحتاج إلى »الظل«

لتعديل ومنع »النور« أوقات اشتداده، فكما أن أشعة النور المستديمة تربك الحياة، كذلك فإن الظل الدائم

الساكن مهلك أيضا. في الحالة األولى تحترق جميع الموجودات، وفي

الحالة الثانية تنجمد جميعا، ولكن هذا النظام المتناوب من »النور« و»الظل« هو الذي يجعل الحياة

ممكنة وسائغة لإلنسان.

(11/272)

-273األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لذا فإن آيات قرآنية أخرى تعد وجود الليل والنهار، الواحد تلو اآلخر، من النعم اإللهية العظيمة، ففي

موضع يقول تعالى: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم

بضياء، أفال تسمعون(. ويضيف مباشرة )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة

من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفال(1تبصرون(.)

و يستنتج من هذا القول أن هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا

فيهما، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله، ولعلكم تشكرون )و من رحمته جعل لكم الليل

والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم(2تشكرون(.)

ولهذا يعد القرآن »الظل الممدود« إحدى نعم الجنة،حيث ال نور معش مرهق، وال ظلمة موحشة.

بعد ذكر نعمة الظالل، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أخريين متناسبتين معها تناسبا تاما، فيكشف

جانبا آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجودالله، يقول تعالى: )وهو الذي جعل لكم الليل لباسا(.

كم هو تعبير جميل ورائع )جعل لكم الليل لباسا(... هذا الحجاب الظالمي الذي ال يستر الناس فقط، بل

كل الموجودات على األرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه اإلنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء

النوم، أو إليجاد الظالم.ثم يشير تعالى إلى نعمة النوم )و النوم سباتا(.

»السبات« في اللغة من »سبت« )على وزن وقت( بمعنى القطع، ثم جاء بمعنى تعطيل العمل

لإلستراحة، ولذا فإن أول أيام األسبوع يسمونه في

لغة العرب »يوم السبت« وهي تسمية أخذت منطريقة اليهود، ألنه يوم تعطيلهم.

---.72 و71 ـ القصص، 1.73 ـ القصص، 2

(11/273)

-274األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع

الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، ألننا نعلم أن قسما مهما من األفعال البدنية يتوقف كليا في حال النوم،

وقسما آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدا، ويستمر بصورة أكثر هدوء

كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى. النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع

طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوة، وأفضل وسيلة لهدوء األعصاب، بعكس األرق خصوصا لفترة

طويلة ـ فهو ضار جدا وقد يؤدي الى الموت أيضا. ولهذا فإن قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب

التعذيب حيث يحطم كل مقاومة اإلنسان بسرعة. وفي ختام اآلية، أشار تعالى إلى نعمة »النهار«

فقال تعالى: )وجعل النهار نشورا(. كلمة »النشور« في األصل من النشر بمعنى البسط،

في مقابل الطي وربما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي

تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه

األرض. نقرأ في حديث عن النبي األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( أنه كان يقول كل صباح: »الحمد لله

(1الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور«.) فضياء النهار من حيث روح وجسم اإلنسان باعث على الحركة حقا، كما أن الظالم باعث على النوم

والهدوء. في عالم الطبيعة أيضا، فإن الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاث فيها بمجرد سطوع أول اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أما عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون،

الطيور تؤوب إلى--- ـ تفسير القرطبي.1

(11/274)

-275األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى اإلستراحة

والنوم، حتى النبانات تغط في نوع من النوم. بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة اإلنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أخرى

مهمة جدا فيقول: )وهو الذي أرسل الرياح بشرىبين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا(. ال يخفى أن دور الرياح هو أنها الطالئع المتقدمة لنزول الرحمة اإللهية، وإال فلن تنزل قطرة مطر

على األرض العطشى أبدا. صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في

الفضاء، وتراكم هذه األبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح

هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه األراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر

وستهطل على نفس ذلك البحر. والخالصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك

بشكل دائم في كل ارجاء األرض، سبب رواء الجفاف على األرض، ونزول المطر الباعث على الحياة

وتشكيل األنهار والعيون واآلبار، ونمو أنواع النباتات. إن قسما من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة مالئمة، تبعث النسيم

المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثلالبشير الذي ينبىء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير بـ »الرياح« بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي،

وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سببا في انتشار الغيوم

(1في كل اآلفاق.) المهم هنا هو أن »الماء« قد وصف بـ »الطهور« التي

هي صيغة مبالغة من--- ـ يجب اإلنتباه إلى أن »بشرا«1

ـ بسكون الشين مخفف ـ »بشرا« ـ بضم الشين ـ

الذي هو جمع »بشور« )على وزن قبول( بمعنىمبشر وبشير.

(11/275)

-276األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير

يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر األشياء الملوثة... ثمة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنها ال تستطيع

أن تكون مطهرة لغيرها! وعلى أية حال، فمضافا إلى خاصية اإلحياء، فإن

للماء خاصية كبيرة األهمية هي التطهير، فلوال الماء فإن أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في

ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتال للميكروب عادة، ولكنه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته

الفذة )اإلذابة(. ومن هذه الناحية فإنه يقدم مساعدة مؤثرة جدا في مسألة سالمة اإلنسان ومكافحة أنواع

األمراض. مضافا إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر

للروح والجسم معا. لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من األهمية،

اعتبرت في الدرجة الثانية، لذا يضيف القرآن الكريم في اآلية التي بعدها بأن الهدف من نزول المطر هو

(.1اإلحياء: )لنحي به بلدة ميتا()وأيضا )ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا(.

* * *مالحظات

و هنا مالحظات مهمة: ـ في هذه اآلية ورد الكالم عن األنعام واألناسي1

الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد منماء المطر!!

هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذينليس لديهم ماء مطلقا

--- ـ ينبغي اإللتفات إلى أن »بلدة«1

هنا بمعنى الصحراء، ومع أن هذا اللفظ مؤنث،فصفته التي هي »ميتا«

وردت بصيغة المذكر، ذلك ألن المراد بالمعنى»المكان« وهو مذكر.

(11/276)

-277األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر

السحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء األراضي المنخفضة من ماء المطر الزالل، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدب

في وجودهم ووجود أنعامهم. ـ جملة »نسقيه« من مادة »إسقاء« وفرقها عن2

»سقى«كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسرين، هو أن اإلسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه اإلنسان متى أراد، في حين أن

مادة »سقى« بمعنى أن يعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن اإلسقاء له معنى أوسع

وأعم. ـ في هذه اآلية، ورد الكالم أوال عن األراضي3

الميتة، ثم األنعام ثم األناسي، وهذا التعبير ربما كان ألن األراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون لألنعام طعام، وإذا لم تعش األنعام، فلن يستطيع اإلنسان

إن يتعذى منها. ـ طرح مسألة اإلحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد4

يكون إشارة إلى اإلرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين )حول آثار اإلحياء بالماء، ثمة بحث مفصل

سورة االنبياء(.30في ذيل اآلية في اآلية األخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى

القرآن فيقول: جعلنا هذه اآليات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خالله على قدرة

الخالق، لكن كثيرا من الناس لم يتخذوا موقفا إزاء ذلك إال اإلنكار والكفران: )ولقد صرفناه بينهم

ليذكروا فأبى أكثر الناس إال كفورا(. وإن أرجع كثير من المفسرين مثل العالمة الطبرسي

في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعالمة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين،

الضمير في جملة »صرفناه« إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق

مختلفة من األرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذهالنعمة العظمى.

(11/277)

-278األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، ألن هذا التعبير )بصيغة الفعل الماضي والمضارع(

ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة،

وأتبع بجملة »ليذكروا« أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جدا أن يأخذ هذا التعبير

مفهوما آخر في هذا المورد الواحد. و من حيث األصل فإن »تصريف« التي هي بمعنى

التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسبا مع آيات

القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحيانا بصورة وعد، وأحيانا بصورة أمر، وأخرى بصورة نهي، وأحيانا

بصورة قصص الماضين.* * *

(11/278)

-279األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( فال تطع51ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيزا) ( وهو الذى مرج52الكفرين وجهدهم به جهادا كبيرا)

البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهماحجورا) ( وهو الذى خلق من المآء53برزخا وحجرا م

(54بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)هم وكان ويعبدون من دون الله ما ال ينفعهم وال يضر

(55الكافر على ربه ظهيرا)التفسير

بحران متجاوران: عذب فرات وملح أجاج: اآلية األولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيا في كل مدينة وبلد، لكننا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك:

)ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا(.وجل ـ طبقا لآليات السابقة ـ قادر كما أن الله عز

على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل األراضي الميتة، فله القدرة أيضا على إنزال

الوحي

(11/279)

-280األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - والنبوة على قلب نبي في كل قرية، وأن يبعث لكل

أمة نذيرا، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح، ألن تمركز النبوة في وجود فرد واحد يكون باعثا على

وحدة وانسجام الناس، ومانعا من كل فرقة وتشتت. و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا االشكال

وهو: ألم يكن من األفضل أن يبعث الله نبيا في كلمدينة وقرية؟!

لكن القرآن يقول في ردهم: لو أراد الله ذلك لفعل، لكن هذا التشتت ليس في صالح األمم والشعوب

قطعا. وعلى أية حال، فكما أن هذه اآلية دليل على عظمة مقام النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، فهي دليل

كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عبءمسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل، يبين الله تبارك وتعالى في اآلية التالية، أمرين إلهيين مهمين يشكالن منهجين

أساسيين لالنبياء، فيوجه الخطاب أوال إلى الرسول األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم( ويقول: )فال

تطع الكافرين(. ال تخط أية خطوة على طريق التوافق مع

انحرافاتهم، فإن التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله، قف أمامهم بقوة، واسع إلى إصالحهم،

لكن كن حذرا وال تتسلم ألهواءهم وخرافاتهم. أما القانون الثاني فهو: جاهد أولئك بالقرآن:

)وجاهدهم به جهادا كبيرا(. جهادا كبيرا بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل

األنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع األبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل األصعدة

المادية والمعنوية. ال شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو

الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح، ذلك ألن هذه السورة مكية، واألمر بالجهاد

المسلح لم يكن قد نزل في مكة. وعلى قول العالمة »الطبرسي« في مجمع البيان، أن هذه اآلية دليل

واضح على أن الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهةوساوس

(11/280)

-281األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد.

وروي عن النبى)صلى الله عليه وآله وسلم(: »رجعنامن الجهاد األصغر إلى الجهاد األكبر«.

وربما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين، هذا

التعبير يجسد أيضا عظمة مقام القرآن، ذلك ألنه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسالحه القاطع، فإن قدرته

البيانية واستدالله وتأثيره العميق وجاذبيته فوقتصور وقدرة البشر.

الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار، والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل، والمحركة

كحركة الرياح الخالقة، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة، حيث أشارت إلى

ذلك اآليات السابقة. و بعد فاصلة وجيزة، يتناول القرآن الكريم مجددا

اإلستدالل على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في اآليات

السابقة إلى عدم اإلختالط بين المياه العذبة والمالحة: )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات

وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا(. »مرج« من مادة »المرج« )على وزن فلج( بمعنى

الخلط أو اإلرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماءالعذب والمالح.

»عذب« بمعنى سائغ وطيب وبارد، و»فرات« بمعنىلذيذ وهنيء.

»ملح« بمعى مالح، و»أجاج« بمعنى مر وحار. )بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب

وفرات(.»برزخ« بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

و جملة )حجرا محجورا( كما أشرنا سابقا )ذيل اآلية من هذه السورة( كانت جملة الخذ األمان بين22

العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونهويرهبونه، يعني )أعف عنا، وآمنا، وابتعد عنا(.

على أية حال، فهذه اآلية تصور واحدا من المظاهرالمدهشة لقدرة الخالق

(11/281)

-282األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي،

وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فاليسمح لهما باالختالط.

و قد اتضح اليوم أن هذا الحجاب الالمرئي، هو ذلك »التفاوت بين كثافة المالح والعذب« وفي اإلصطالح

»تفاوت الوزن النوعي« لهما، حيث يكون سببا فيعدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

و رغم أن جماعة من المفسرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة األرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء

وال يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا، ألننا نعلم أن جميع أنهار الماء، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل، تشكل بحرا من الماء العذب، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف، ويستمر هذا الوضع

إلى مدة طويلة، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن اإلمتزاج مع بعضهما، فكل واحد منهما

يقول لآلخر: )حجرا محجورا(. الملفت هو أن سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصالن مرتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة

التي شكلت بحرا اليابسة في مصبات تلك األنهار وأطرافها، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى األنهار مع البحر، وزرعوا اراض شاسعة

باالشجار، حيث تتم سقايتها بنفس ذلك الماء العذبالذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر. توجد حتى اآلن في جنوب العراق وإيران ماليين من أشجار النخيل، وقد شاهدنا عن قرب أن قسما منها يسقى فقط بهذه الوسيلة، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر، وأحيانا يتغلب الماء المالح حيث تقل

المياه التي تصبها األنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية، فيقلق المزارعون من أهل هذه

المنطقة، ألن ذلك يضر بزراعتهم ضررا بالغا.

(11/282)

-283األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لكن العادة ليست كذلك، فهذا الماء »العذب الفرات« المستقر إلى جوار الماء »المالح واألجاج« يعد ذخيرة

عظيمة لهم. معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه

المسائل ال يقلل من قيمتها أبدا، وإال فما هي الطبيعة؟ ليست هي إال فعل الله وإرادته ومشيئته،

وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات. و الملفت للنظر أن اإلنسان حينما يجتاز هذه

المناطق بالطائرة، يرى جيدا هذان الماءان المختلفان في اللون، غير الممتزجين، فيذكر هذا

المشهد اإلنسان بهذه النكتة القرآنية. إن جعل هذه اآلية وسط آيات تتعلق بـ »الكفر«

و»اإليمان« ربما تكون أيضا إشارة وتمثيال لهذا األمر، ففي المجتمع الواحد أحيانا، وفي المدينة الواحدة،

بل حتى في البيت الواحد أحيانا، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بال إيمان

كالماء المالح األجاج... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، و نمطين من العمل، طاهر

وغير طاهر، دون أن يمتزجا. في اآلية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر،

وفي البحرين العذب واألجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق اإلنسان من الماء، فيقول

تعالى: )وهو الذي خلق من الماء بشرا(. حقا إن النحت في الماء، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء، دليل على عظمة قدرة الخالق، وكان

الكالم في اآليات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر، و الكالم ـ هنا عن مرحلة أعلى،

يعني خلق اإلنسان من الماء.و بين المفسرين أقوال في المراد من الماء هنا: ذهب جماعة أن المقصود من »بشر« هو اإلنسان

األول، يعني آدم)عليه السالم(، ذلك ألن خلقه كان من »طين« يعني عجينا من ماء وتراب، إضافة إلى

أن الماء كان أول موجود خلقه الله تعالى طبقاللروايات اإلسالمية، وخلق اإلنسان من ذلك الماء،

(11/283)

-284األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -وتنكير »بشر« شاهد على هذا المعنى.

و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من »الماء« هو ماء النطفة، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة

الخالق، ومع امتزاج نطفة الرجل »الحيمن« الذي

يسبح في الماء مع »البويضة« نطفة المرأة، تتكون أول نواة لحياة اإلنسان، يعني الخلية اإلنسانية الحية

األولى. لو تدبر اإلنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها، حيث تكفي وحدها لمعرفة

ذاته المقدسة تبارك وتعالى. الشاهد على هذا التفسير، جملة وردت في آخر اآلية،

وسنشرحها )فجعله نسبا وصهرا(. فضال عن هذا، فال شك أن الماء يشكل القسم األكبر

من وجود اإلنسان، بالصورة التي يمكن القول أن المادة األساس لوجود أي إنسان هي الماء، لهذا فإن

مقاومة اإلنسان إزاء العطش قليلة جدا، في حين يستطيع اإلنسان أن يقاوم أياما وأسابيع حيال قلة

المواد الغذائية. و يحتمل قويا أيضا، أن جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم اآلية، أي أن اإلنسان األول خلق من ماء، وأن

تكون جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضا، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم اإلنسان أيضا...

الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا

دليل بين على قدرته تبارك وتعالى. بعد ذكر خلق اإلنسان، يورد جل ذكره الكالم عنانتشار األنسان، فيقول: )فجعله نسبا وصهرا(.

المقصود من »النسب« هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل ارتباط األب

واالبن، أو اإلخوة بعضهم مع بعض، أما المقصود من

(11/284)

-285األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »صهر« التي هي في األصل بمعنى »الختن« هو

اإلرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل ارتباط اإلنسان بأقرباء زوجته، وهذان اإلثنان

هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ»النسب« و »السبب«.

في القرآن المجيد في سورة النساء، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد )األم،

البنت، األخت، العمة، الخالة، بنت األخ، بنت األخت( وإلى المحارم السببية في أربعة موارد )بنت الزوجة،

أم الزوجة، زوجة االبن، زوجة األب(. من المؤكد أن هناك وجهات نظر أخرى لدى

المفسرين في تفسير هذه الجملة، لكن ماقلناهأوضح وأقوى من جميعها.

فمن جملتها أن جماعة منهم اعتبروا »النسب« بمعنى أوالد االبن، و »الصهر« بمعنى أوالد البنت،

ذلك ألن اإلرتباط النسبي يحسب على أساس اآلباء العلى أساس االمهات.

( من61و كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل االية ) سورة آل عمران ـ فإن هذا اشتباه كبير، استمد من سنن أيام ما قبل اإلسالم، حيث اعتبروا النسب عن

طريق األب فقط، وليس لألم أي أثر، في حين أن من المسلمات في الفقه اإلسالمي وبين جميع علماء اإلسالم أن الحرمة النسبية من ناحية األب ومن ناحيةاالم أيضا )ولزيادة االطالع، راجع التفسير ذيل اآلية )

( من سورة آل عمران(.61 و الجدير بالذكر، أن لدينا حديثا معروفا، نقل في

كتب الشيعة والسنة، وطبقا لهذا الحديث فإن اآلية أعاله نزلت في النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

وعلي)عليه السالم(، وذلك أن النبي زوج ابنته فاطمة من علي)عليهما السالم(، ولهذا فقد كان علي)عليه

السالم( ابن عم النبي)صلى الله عليه وآله وسلم((1وزوج ابنته أيضا، وهذا معنى »نسبا وصهرا«.)

--- ـ مجمع البيان، وتفسير روح المعاني، ذيل هذه1

اآلية.

(11/285)

-286األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ولكن هذه الروايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة،

وال تقدح بعمومية مفهوم اآلية، فاآلية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة، وأحد

مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي)عليه السالم(من جهتين مع النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(. في ختام اآلية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد

على المسائل الماضية: )وكان ربك قديرا(. و يبين القرآن الكريم في نهاية المطاف في اآلية

األخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خالل المقايسة بين قدرة األصنام

وقدرة الخالق، حيث مرت نماذج منها في اآليات السابقة، يقول: )ويعبدون من دون الله ما ال ينفعهم

وال يضرهم(. من المسلم أن وجود المنفعة والضرر ال يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبين من خالل هذا التعبير

هذه النكتة، وهي أنهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، ألن األصنام موجودات عديمة الخاصية تماما،

وفاقدة ألية قيمة، وألي تأثير سلبي أو إيجابي. و يضيف القرآن الكريم في ختام اآلية أن الكفرة

يعين بعضهم بعضا في مواجهة خالقهم »في طريقالكفر« )وكان الكافر على ربه ظهيرا(.

إن هؤالء ليسوا وحدهم في طريق الضالل، إنهم يقوي بعضهم بعضا بشكل قاطع، ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيه والمؤمنين الحقيقيين. وإذا رأينا أن بعض المفسرين يحصر

»الكافر« الوارد في هذه اآلية في »أبي جهل« فمن باب ذكر المصداق البارز، وإال فإن الكافر في كل

مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار.* * *

(11/286)

-287األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مسألتان

ـ وحدة القيادة1 في اآلية األولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى:

)ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا( ولكننا لم نفعل مثل هذا... ومن المسلم أن علة ذلك ألن األنبياء قادة األمم، ونعلم أن التعدد في مسألة القيادة يؤدي إلى

إضعاف كل أمة وشعب، خاصة و أن الكالم هنا عن خاتم األنبياء)صلى الله عليه وآله وسلم(، ويجب أن

تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم. لذا تتضح ـ أكثرـ أهمية التمركز والوحدة في القيادة.

القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى، ويمنحها اإلنسجام والوحدة. وفي الحقيقة فإن مسألة وحدة

القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع اإلنساني، ويكون في النقطة المقابلة ظواهر الشرك

والتفرقة والنفاق. ( من سورة فاطر: )وإن من24و ما ورد في اآلية )

أمة إال خال فيها نذير(فليس ثمة منافاة مع البحث

أعاله، ألن الكالم فيها عن األمة، ال أهل كل مدينةوكل بلد.

فلو أغمضنا النظر عن مقام األنبياء، فإن هذا األصل صحيح أيضا حتى في أدنى مستويات القيادة،

والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة، إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها، فضال عن

الضعف والعجز. ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير2

»الجهاد الكبير« تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاحالرباني البناء.

الملفت لإلنتباه في اآليات أعاله، هو أن هذا العنوان قد أعطي للقرآن، أو بعبارة أخرى: لألشخاص الذين

يجاهدون بالقرآن مظاهر الظالل واإلنحرافاتوالتلوثات.

هذا التعبير يبين المواجهات المنطقية والعقائدية منجهة، ويكشف عن

(11/287)

-288األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -عظمة مقام القرآن من جهة أخرى.

ورد في بعض الروايات: أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، واألخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة... خرجوا ليلة ليستمعوا إلى

رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل ال يعلم بمكان صاحبه، فباتوا

يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتالوموا، وقال بعضهم لبعض: ال تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم ألوقعتم في نفسه شيئا!

ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع

الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا

كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: ال نبرح حتى نتعاهد أال

نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح األخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج

حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني ـ يا أبا

حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، وال ما يراد

بها.قال األخنس: وأنا والذي حلفت به.

قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت

من محمد؟ فقال: ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف

الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى

ندرك مثل هذه؟ والله ال نؤمن به أبدا وال نصدقه!!.

(11/288)

-289األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1قال: فقام عنه األخنس وتركه.)

نعم، جاذبية القرآن ردت هؤالء إلى أنفسهم ليالي متوالية، وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه الجاذبية اإللهية، لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح

المادية كان مسلطا عليهم بحيث منعهم من قبولالحق.

وال شك أن هذا النور اإللهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان، ولهذا كان القرآن وسيلة »الجهاد الكبير« في اآليات مورد

البحث.* * *

--- ; وفي ظالل337، ص 1 ـ سيرة ابن هشام، ج 1

.172، ص 6القرآن، ج

(11/289)

-290األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

را ونذيرا) مبش ( قل مآ أسئلكم56و مآ أرسلنك إال من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيال) (57عليه من أجر إال

وتوكل على الحى الذى ال يموت وسبح بحمده وكفىموت58به بذنوب عباده خبيرا ) (الذى خلق الس

واالرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على(59العرش الرحمن فسئل به خبيرا)

التفسيرأجري هو هدايتكم:

كان الكالم في اآليات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم األصنام التي ال تضر وال تنفع، وفي

اآلية الحالية األولى يشير القرآن إلى مهمة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(قبالة هؤالء

المتعصبين المعاندين، فيقول تعالى: )وما أرسلناك(1إال مبشرا ونذيرا(.)

--- ـ »نذير«1

في اعتقاد البعض صيغة مبالغة، في حين أن »مبشر« اسم فاعل فقط، هذا التفاوت التعبيري يمكن أنيكون بسبب أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

كان في مواجهة فئة بال إيمان وكان لها إصرار بالغ على انحرافها، فال بد أن يبالغ في إنذارها. )روح

المعاني ذيل اآلية مورد البحث(.

(11/290)

-291األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إذا لم يتقبل هؤالء دعوتك، فال جناح عليك، فقد أديت

مهمتك في البشارة واإلنذار، ودعوت القلوبالمستعدة إلى الله.

هذا الخطاب، كما يشخص مهمة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، كذلك يسليه، وفيه نوع من التهديد لهذه

الفئة الضالة، وعدم المباالة بهم. ثم يأمر النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أن يقول

لهم أنني ال اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابالغكم رسالة السماء أي أجر وعوض: )قل ما

أسألكم عليه من أجر(ثم يضيف: إن األجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق الله )إال من

شاء أن يتخذ إلى ربه سبيال(. يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط، وبكامل

اإلرادة واإلختيار أيضا، فال إكراه وال إجبار فيه، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( ألتباعه، ذلك ألنه

( أجره وجزاءه سعادتهم.1عد) بديهي أن للنبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أجرا

معنويا عظيما على هداية األمة، ذلك ألن »الدال علىالخير كفاعله«.

و ذكر المفسرون احتماالت أخرى أيضا في تفسيرهذه اآلية من جملتها:

يرى جماعة من المفسرين أن معنى هذه اآلية هكذا »أنا ال أريد منكم أي جزاء إال ما أردتم من إنفاق

األموال على المحتاجين في سبيل الله، وذلك مرتبط(2برغبتكم«.)

لكن التفسير األ.ل .قرب إلى معنى اآلية. اتضح مما قلناه أعاله، أن الضمير في »عليه« يرجع إلى القرآن وتبليغ دين اإلسالم، ألن الكالم كان في

عدم المطالبة باألجر والجزاء في مقابل هذه الدعوة. هذه الجملة باإلضافة إلى أنها تقطع حجج المشركين،

فهي توضح أن قبول--- ـ بناء على هذا فاإلستثناء في اآلية أعاله »استثناء1

متصل« وإن بدا منقطا ألول وهلة. ـ اإلستثناء في هذه الحالة »استثناء منقطع«.2

(11/291)

-292األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذه الدعوة اإللهية سهل ويسير جدا لكل أحد، بال

مشقة وال خسارة. وهذا بنفسه شاهد على صدق دعوة النبي)صلى الله

عليه وآله وسلم(، ونقاء فكره ومنهجه، وذلك ألن األدعياء الكاذبين البد أن يدخلوا في هذا العمل

رغبتهم في األجر والجزاء بصورة مباشرة أو غيرمباشرة.

و تبين اآلية التي بعدها المعتمد األساس للنبي)صلى الله عليه وآله وسلم(: )وتوكل على الحي الذي ال

يموت(. فمع هذا المعتمد والملجأ والمولى الذي ما زال ولن يزال حيا دائما، فال حاجة لك بأجر وجزاء هؤالء، وال

خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم. واآلن حيث األمر على هذه الصورة فسبح الله تنزيها

له من كل نقص، وأحمده إزاء كل هذه الكماالت)وسبح بحمده(.

من الممكن اعتبار هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، ألن تعالى هو المنزه من كل عيب ونقص،

وأهل لكل كمال وجمال، وحقيق بالتوكل عليه. ثم يضيف القرآن الكريم: ال تقلق من بهتان

ومؤامرات األعداء، ألن الله مطلع على ذنوب عبادهوسيحاسبهم: )وكفى به بذنوب عباده خبيرا(.

اآلية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود، ووصف آخر لهذا المالذ األمين، يقول تعالى:

)الذي خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستةأيام(. ثم )استوى على العرش( فأخذ بتدبير العالم.

إن من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة، فكما أن خلق العالم كان بواسطة قدرته، كذلك فإن إدارة وقيادة

وتدبير ذلك العالم بأمر ذاته المقدسة. ضمنا، فإن خلق العالم بشكل تدريجي إشارة إلى أن

الله ال يعجل في أي عمل، فإذا لم يجاز أعداءك سريعا، فألجل أن يمنحهم الفسحة والفرصة حتى

يأخذوا بإصالح أنفسهم، فضال عن أن من يعجل هومن يخاف الفوت، وهذا غير

(11/292)

-293األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -متصور بالنسبة إلى الله القادر المتعال.

في مسألة خلق عالم الوجود في ستة أيام، فإن »اليوم« في مثل هذه الموارد بمعنى »المرحلة«، أو الفترة الزمنية وهذه الفترة من الممكن أن تستغرق ماليين أو مليارات من السنين، وشواهد هذا المعنى

في األدب العربي وغيره كثيرة، بحثناه بشكل مفصل ( من سورة األعراف، وشرحنا54في تفسير اآلية )

هناك هذه المراحل الست. و أيضا فإن معنى »العرش« وجملة )استوى على

العرش( وردت هناك أيضا. وفي ختام اآلية يضيف تعالى: )الرحمن(: من شملت رحمته العامة جميع الموجودات، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي ال

انقطاع فيها. واآلن، حيث ربك الرحمن القادر المقتدر، فإذا أردت شيئا فاطلب منه فإنه المطلع على احتياجات جميع

عباده: )فاسأل به خبيرا(. هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ نتيجة لمجموع البحوث

السابقة. يأمر الله النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(:

أعلن لهم أنني ال أريد منكم أجرا، وتوكل على الله الجامع لكل الصفات، القادر، والرحمن، والخبير،

والمطلع، وأطلب منه أي شيء تريده. للمفسرين أقوال أخرى في تفسير هذه الجملة، فقد

جعلوا السؤال هنا بمعنى اإلستفهام )ال الطلب(، وقالوا: إن مفهوم الجملة هو: إذا أردت أن تسأل في موضوع خلق الوجود وقدرة الخالق، فاسأله هو، فهو

العالم بكل شيء. بعض آخر، باإلضافة إلى أنهم فسروا »السؤال« بـ

»اإلستفهام« قالوا: إن المقصود بـ »الخبير« جبرئيل،أو النبي، يعني: إسألهما عن صفات الله.

التفسير األخير بعيد جدا بالتأكيد، وما قبله أيضا غير متناسب كثيرا مع اآليات السابقة، واألقرب هو ماقلناه في معنى اآلية من أن المقصود من السؤال

(11/293)

-294األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1هو الطلب من الله.)

* * *مسألتان

ـ أجر الرسالة1 نقرأ في كثير من آيات القرآن أن أنبياء الله كانوا يبينون هذه الحقيقة بصراحة: إننا ال نسأل أي أجرمن أي أحد، بل إن أجرنا على الله العظيم فقط.

سورة الشعراء،180 و164 و145 و127 و109اآليات سورة72 سورة هود، واآلية 51 و 29وكذلك اآليات

سورة سبأ، تدل على هذا المعنى.47يونس و ال شك أن عدم المطالبة باألجر هذه، تدفع كل اتهام عن األنبياء، فضال عن أنهم يستطيعون أن يواصلوا

عملهم بحرية تامة، وترتفع الموانع والحواجز التي قدتحدد من حرية ألسنتهم بسبب العالقة المادية.

أما الملفت لإلنتباه فإنه تالحظ ثالثة تعابير مختلفة فيما يخص الرسول األعظم)صلى الله عليه وآله

وسلم(. ـ التعبير الذي ورد في اآليات أعاله )قل ما أسألكم1

عليه من أجر إال من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيال( هذاالتعبير الفذ البليغ الرائع.

( من سورة الشورى23 ـ التعبير الوارد في اآلية )2)قل ال أسألكم عليه أجرا إال المودة في القربى(.

( من سورة سبأ )قل47 ـ التعبير الوارد في اآلية )3ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إال على الله(.

من أنضمام هذه التعابير الثالثة إلى بعضها، تتحصلالنتيجة التالية: فيما يخص

--- ـ طبقا لهذا التفسير فـ »الباء« في »به« زائدة، أما1

طبقا للتفاسير األخرى، فإن »الباء« بمعنى »عن«.

(11/294)

-295األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الرسول األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم(، إذا

عدت المودة في القربى أجر رسالته، فهذه المودة ـ من جانب ـ في نفع المؤمنين أنفسهم ال بنفع النبي.

ومن جانب آخر فإن هذه المودة وسيلة حصولالهداية على طريق الله تبارك وتعالى.

بناء على هذا، فإن مجموع هذه اآليات يشير إلى أن المودة في قربى رسول الله)صلى الله عليه وآله

وسلم( هي استمرار منهج رسالة وقيادة ذلك النبي، وبعبارة أخرى: لمواصلة طريق النبي)صلى الله عليه

وآله وسلم( وهدايته وقيادته يجب اإلرتباط بذوي قرباه، واإلعتماد على قيادتهم، هذا هو األمر الذي

يدافع عنه اتباع أهل البيت في مسألة اإلمامة، فإنهم يعتقدون أن امتداد القيادة بعد النبي سيستمر إلى

األبد، ال في شكل النبوة، بل في شكل اإلمامة. و من الالزم اإللتفات إلى هذه النكتة أيضا، وهي أنالمحبة عامل مؤثر في األتباع، كما نقرأ في اآلية )

( من سورة آل عمران: )قل إن كنتم تحبون الله31فاتبعوني...( ذلك ألني المبلغ بأمره.

ورابطة الحب من حيث األصل، تأخذ اإلنسان باتجاه المحبوب وإراداته، وكلما كانت رابطة الحب أكثر

قوة، كانت هذه الجاذبية قوية أكثر. خصوصا المحبة التي يكون دافعها كمال »المحبوب«، ويكون

اإلحساس بهذا الكمال سببا في أن يسعى اإلنسان(1ليتقرب إلى مبدأ الكمال وإلى تنفيذ إراداته.)

ـ على من يجب التوكل؟2 في اآليات أعاله، يأمر الله تبارك وتعالى النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( بالتوكل، وأن يصرف النظر عن

وجل فقط. جميع المخلوقات، وينظر إلى الله عز ولذلك يعدد صفات لهذه الذات المقدسة، هي في

الحقيقة شرائط أساسية--- ـ من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد، راجع1

سورة آل عمران(.31التفسير األمثل )ذيل اآلية

(11/295)

-296األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -فيمن يستطيع أن يكون مالذا واقعيا وآمنا للناس.

األولى: هي أن يكون حيا، وذلك أن موجودا ميتا فاقدا لخصائص الحياة ـ مثل األصنام ـ ال يمكنه أبدا

أن يكون معتمدا. الثانية: هي أن تكون حياته خالدة، بالشكل الذي ال

يحدث احتمال موته تزلزال في فكر المتوكلين. الثالثة: هي أن يحيط بكل شيء علما، فيكون مطلعا

على احتياجات المتوكلين، وعلى خطط ومؤامراتاألعداء أيضا.

الرابعة: هي أن يكون على كل شيء قديرا، حيث ال وجود فيه ألي شكل من العجز وعدم اإلستطاعة

الموجبين لضعف هذا الملجأ. الخامسة: هي أن تكون الحاكمية له على جميع

األمور، وإدارتها بيده المقتدرة. ونحن نعلم أن هذه الصفات ليست إال لله تبارك

وتعالى، ولهذا فهو وحده الملجأ الباعث علىاإلطمئنان الذي ال يتزلزل أمام كل الحوادث.

* * *

(11/296)

-297األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

حمن حمن قالوا وما الر وإذا قيل لهم اسجدوا للر ( تبارك الذى جعل60أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا)

نيرا) مآء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا م فى الس ( وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن61

(62يذكر أو أراد شكورا)التفسير

البروج السماوية: كان الكالم في اآليات الماضية عن عظمة وقدرة

الله، وعن رحمته أيضا، ويضيف الله تعالى في اآلية

األولى هنا: )وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وماالرحمن(.

نحن ال نعرف »الرحمن« أصال، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، )أنسجد لما تأمرنا( نحن ال نخضع

ألي أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك )وزادهم نفورا( اي أنهم يتكلمون بهذا الكالم

ويزدادون ابتعادا ونفورا عن الحق. ال شك أن أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى

الخضوع والسجود بين يديه،

(11/297)

-298األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هو ذلك االسم الممتلىء جاذبية »الرحمن« مع

مفهوم رحمته العامة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثرا حيال هذه

الدعوة، بل تلقوها بالسخرية واإلستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: )وما الرحمن( كما قال فرعون

حيال دعوة موسى)عليه السالم(: )وما رب العالمين(. ( فهؤالء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا:1)

»ومن الرحمن« أو »من رب العالمين«. ورغم أن بعض المفسرين يرى أن اسم »الرحمن« لم

يكن مأنوسا بين عرب الجاهلية، وحينما سمعوا هذا الوصف من النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( طرحوا

هذا السؤال على سبيل التعجب واقعا، حتى كان يقول البعض منهم: »ما نعرف الرحمن إال رجال

باليمامة« )يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعىالنبوة كذبا، وعرفه وقومه بهذا االسم »الرحمن«(.

لكن هذا القول بعيد جدا، ألن مادة هذا االسم وصيغته كالهما عربيان، وكان النبي)صلى الله عليه وآله

وسلم( يتلو ـ دائما ـ في بداية السور القرآنية، اآلية )بسم الله الرحمن الرحيم(وعلى هذا فلم يكن هدف

أولئك إال التحجج والسخرية، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضا ألنهم يقولون: )أنسجد لما

تأمرنا(. وبما أن تعاليم القادة اإللهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط، فإن عمي القلوب من المعاندين

مضافا الى عدم انتفاعهم بها، فإنها تزيدهم نفورا ألن آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة

تنمي الورد والخضرة في البستان، والشوك في

األرض السبخة، ولذا ال مجال للتعجب حيث يقول:(2)وزادهم نفورا(.)

---.23 ـ سورة الشعراء، اآلية 1 ـ على هذا فإن فاعل )زاد(2

هو ذلك األمر بالسجود الذي ترك أثرا معكوسا في أولئك المرضى قلوبهم، وإن نقل بعض المفسرين

أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( سجد بعد هذا الكالم وسجد المؤمنون أيضا، فسببهذا ابتعاد أولئك أكثر، بناء على هذا ففاعل )زاد(

السجدة، لكن المعنى األول أكثر صحة.

(11/298)

-299األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اآلية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون:

»وما الرحمن«، وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول

تعالى: )تبارك الذي جعل في السماء بروجا(. »البروج« جمع »برج« في األصل بمعنى »الظهور« ولذا يسمون ذلك القسم األعلى واألظهر من جدار

أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية »برج«، ولهذا أيضا يقال حينما تظهر المرأة زينتها

»تبرجت المرأة«، وهذه الكلمة تطلق أيضا علىالقصور العالية.

على أية حال، فالبروج السماوية، إشارة إلى الصور الفلكية الخاصة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثال: استقرت الشمس في برج »الحمل« يعني أنها

تكون بمحاذاة »الصورة الفلكية«، »الحمل«، أو القمر في »العقرب« يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة

الفلكية »العقرب« )تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم لها شكل خاص في نظر

المشاهد(. بهذا الترتيب، أشارت اآلية إلى منازل الشمس

والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: )وجعل فيها(.1سراجا وقمرا منيرا()

تبين هذه اآلية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء )و بديهي أن هذه التغييرات في الحقيقة ترتبط بدوران األرض حول الشمس دائما(. والنظام

الفذ الدقيق الذي يحكمهما ماليين السنين بال زيادة أو نقصان، بالشكل الذي يستطيع الفلكيون ـ أحيانا ـ

أن يتنبؤا. قبل مئات السنين بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين اآلتية، هذا النظام الحاكم على هذه

األفالك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجودالخالق المدبر

--- ـ طبقا للتفسير أعاله، فإن ضمير »فيها«1

يرجع إلى البروج، وينبغي أن يكون هكذا، ذلك ألن الموضوع المهم هو دوران الشمس والقمر ضمن نظام خاص في البروج: وليس وجود البروج في

السماء فقط.

(11/299)

-300األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -والمدير لعالم الوجود الكبير.

مع هذه الدالئل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه

وتقولون: »وما الرحمن«!؟ أما لماذا سميت الشمس، »سراجا«، وقرن القمر

بصفة »منير«؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن »السراج« بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمد

من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس، حيث أن من المسلمات العلمية طبقا للتحقيقات أن نورها من

نفسها. بخالف القمر الذي نوره من ضياء الشمس، ولذا وصفه بـ »المنير« الذي يستمد نوره من غيره

دائما، )في التفسير األمثل، أوردنا القول مفصال في سورة يونس(.6 و 5هذا الصدد، ذيل اآلية

في اآلية األخيرة، يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرة أخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: )و هو الذي جعل

الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا(. هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، حيث يعقب أحدهما اآلخر متناوبين متواصلين على هذا

النظم ماليين السنين... النظم الذي لواله إلنعدمت حياة اإلنسان نتيجة لشدة النور والحرارة أو الظلمة

والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفواوجل الله عز

ومن المعلوم أن نشوء نظام »الليل« و »النهار« نتيجة لدوران األرض حول الشمس، وأن تغيراتهما

التدريجية والمنظمة، حيث ينقص من أحدهما ويزاد في اآلخر دائما بسبب ميل محور األرض عن مدارها

مما يؤدي لوجود الفصول األربعة. فإذا دارت كرتنا األرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى الصور تطول الليالي الى درجة أنها تجمد كل شيء، ويطول النهار الى درجة أن الشمس تحرق كل شيء ... وفي صورة

اخرى فإن الفاصلة

(11/300)

-301األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما. فضال عن أن القوة المركزية الطاردة

كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجوداتاألرضية بعيدا عن الكرة األرضية.

والخالصة أن التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة الله في اإلنسان من جهة )ولعل التعبير

بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة(، ومن جهة أخرى يحي روح الشكر فيه، وقد أشير إلى ذلك بقوله

تعالى: )أو أراد شكورا(. الجدير بالذكر أننا نقرأ في بعض الروايات التي نقلت

عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أو األئمة المعصومين في تفسير اآلية، أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن اإلنسان إذا أهمل اداء واجب من واجباته

تجاه الله سبحانه وتعالى فإنه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت اآلخر منهما. هذا المعنى من

الممكن أن يكون تفسيرا ثانيا لآلية، ومما سبق من كون اآليات القرآنية ذات بطون، فال منافاة بين هذا

المعنى والمعنى األول أيضا. وفي ذلك ورد في حديث عن اإلمام الصادق)عليه

السالم( أنه قال: »كل ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال الله تبارك وتعالى: )وهو الذي جعل الليل

والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا( يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار، وما فاته

(1بالنهار بالليل«.) نفس هذا المعنى نقله »الفخر الرازي« عن النبي

األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم(.

* * *--- ـ من ال يحضره الفقيه، طبقا لنقل نور الثقلين، ج1 ذيل اآلية.4

(11/301)

-302األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

حمن الذين يمشون على االرض هونا وإذا وعباد الر ( والذين يبيتون63خاطبهم الجهلون قالوا سلما)

دا وقيما) ( والذين يقولون ربنا اصرف64لربهم سج ( إنها سآءت65عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما)

( والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا66مستقرا ومقاما)(67ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)

التفسيرالصفات الخاصة لعباد الرحمن:

هذه اآليات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثا جامعا فذا حول الصفات الخاصة لعباد الرحمن، إكماال لآليات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله

»الرحمن« يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور »وما الرحمن«؟ ورأينا أن القرآن يعرف لهم

»الرحمن« ضمن آيتين، وجاء الدور اآلن ليعرف »عبادالرحمن«.

تبين هذه اآليات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب اإلعتقادية، وبعض منها أخالقي، ومنها ما هو إجتماعي، بعض

منها

(11/302)

-303األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يتعلق بالفرد، وبعض آخر بالجماعة، وهي أوال وآخرا

مجموعة من أعلى القيم اإلنسانية. يقول تعالى: )وعباد الرحمن الذين يمشون على

(1األرض هونا(.) إن أول صفة لـ: »عباد الرحمن« هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال

اإلنسان حتى في طريقة المشي، ألن الملكات األخالقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال

وحركات اإلنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسممهم من أخالقه ـ بدقة ـ من أسلوب مشيته.

نعم، إنهم متواضعون، والتواضع مفتاح اإليمان، فيحين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

لقد رأينا بأم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مرارا في آيات القرآن أيضا، أن المتكبرين المغرورين لم

يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كالم القادة اإللهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن

رؤيتهم أبعد من أطراف أنوفهم، ترى أيمكن أنيجتمع اإليمان في هذه الحال مع الكبر؟!

نعم، هؤالء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعالمة األولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ

في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى فيمشيتهم.

فإذا رأينا أن إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيه هي )وال تمش في األرض مرحا، إنك لن تخرق

( فلنفس هذا السبب2األرض ولن تبلغ الجبال طوال()أيضا، وهو أن التواضع روح اإليمان.

حقا إذا كان لإلنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالمالوجود، فسيعلم كم هو ضئيل

--- ـ »هون«1

مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا

للتوكيد، يعني أنهم في ما هم عليه كأنهم عينالهدوء والتواضع.

.37 ـ سورة اإلسراء، اآلية 2

(11/303)

-304األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته

كالجبال، فإن أعلى جبال األرض أمام عظمة األرض أقل من تعرجات قشر )النارنج( بالنسبة إليها، تلكم

األرض التي هي نفسها ال شيء بالنسبة الى األفالكالعظيمة.

ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليال علىالجهل المطلق!؟

نقرأ في حديث رائع عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، أنه كان يعبر أحد األزقة يوما ما، فرأى

جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة،

فقال: رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(: أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقا، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال)صلى الله عليه وآله

وسلم(: »المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي ال يرجى خيره وال يؤمن

شره، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!«. الصفة الثانية لـ »عباد الرحمن« الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه اآلية )وإذا خاطبهم

الجاهلون قالوا سالما(. السالم الذي هو عالمة الالمباالة المقترنة بالعظمة،

وليس الناشيء عن الضعف. السالم دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة

الحمقى، سالم الوداع ألقوالهم غير المتروية، ليسسالم التحية الذي هو عالمة المحبة ورابطة الصداقة.

والخالصة، أنه السالم الذي هو عالمة الحلم والصبروالعظمة.

نعم، المظهر اآلخر من مظاهر عظمتهم الروحية، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف ال يطوي

أي إنسان طريق »العبودية لله« الصعب الممتلىء بالعقبات، خصوصا في المجتمعات التي يكثر فيها

الفاسدون و»مفسدون« وجهلة. وتتناول اآلية الثانية، خاصيتهم الثالثة التي هي

العبادة الخالصة لله، فيقول تعالى: )والذين يبيتونلربهم سجدا وقياما(.

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث المجال للتظاهر والرياء،

(11/304)

-305األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حرموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو

ألذ من ذلك، حيث ذكر الله والقيام والسجود بين يديوجل، فيقضون شطرا من الليل في عظمته عز

مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكرهوباسمه.

ورغم أن جملة »يبيتون« دليل على أنهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أن

المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود

هو كل الليل فإن ذلك يكون في بعض الموارد. كما أن تقديم »السجود« على »القيام« بسبب

أهميته، وإن كان القيام مقدم على السجود عمليا(1في حال الصالة.)

الصفة الرابعة لهم هي الخوف من العذاب اإللهي )والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن

عذابها كان غراما(. أي شديدا ومستديما. )إنها ساءتمستقرا ومقاما(.

و مع أنهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإن قلوبهم

أيضا مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه اإلنسان من

داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو األحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات

الوقت الذي يرى نفسه مقصرا أمام الله. كلمة »غرام« في األصل بمعنى المصيبة، واأللم

(2الشديد الذي ال يفارق االنسان. ويطلق »الغريم«) على الشخص الدائن، ألنه يالزم اإلنسان دائما من

أجل أخذ حقه. ويطلق »الغرام« أيضا على العشق والعالقة المتوقدة التي تدفع اإلنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر،

وتطلق هذه الكلمة على »جهنم« ألن عذابها--- ـ ينبغي اإلنتباه إلى أن »سجدا«1

جمع »ساجد«، »وقياما«جمع »قائم«.

ـ تطلق »الغريم« على »الدائن« و»المدين« أيضا.2)لسان العرب مادة غرم(.

(11/305)

-306األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -شديد ودائم ال يزول.

ولعل الفرق بين »مستقرا« و»مقاما« أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم »مقام«، ومكان

مؤقت للمؤمنين، أي »مستقر«، وبهذا الترتيب يكونقد أشير إلى كال الفريقين الذين يردان جهنم.

ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء،وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.

ومن المحتمل أيضا أن تكون »مستقرا« و»مقاما« كالهما لمعنى واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنة، حيث نقرأ عنها في آخر

هذه اآليات نفسها )خالدين فيها حسنت مستقرا(1ومقاما(.)

في اآلية األخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ »عباد الرحمن« التي هي اإلعتدال

واإلبتعاد عن أي نوع من اإلفراط والتفريط في األفعال، خصوصا في مسألة اإلنفاق، فيقول تعالى: )والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين

ذلك قواما(. الملفت لإلنتباه أنه يعتبر أصل اإلنفاق أمرا مسلما ال

يحتاج إلى ذكر، ذلك ألن اإلنفاق أحد األعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكالم في كيفية

إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل )معتدل( بعيد عن أي إسراف وبخل، فال يبذلون بحيث تبقى

أزواجهم وأوالدهم جياعا، وال يقترون بحيث اليستفيد اآلخرون من مواهبهم وعطاياهم.

في تفسير »اإلسراف« و »اإلقتار« كنقطتين متقابلتين، للمفسرين أقوال مختلفة يرجع جميعها

إلى أمر واحد، وهو أن »اإلسراف« هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبال داع،

و»اإلقتار« هو أن ينفق أقل من الواجب.---.76 ـ سورة الفرقان، اآلية 1

(11/306)

-307األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - في إحدى الروايات اإلسالمية، ورد تشبيه رائع

لإلسراف واإلقتار وحد اإلعتدال، تقول الرواية: تال أبو عبد الله)عليه السالم( هذه اآلية: )والذين إذا

أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(. قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا

وجل في كتابه، ثم قبض اإلقتار الذي ذكره الله عزه كلها، ثم قال: هذا قبضة أخرى فأرخى كف

اإلسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك(1بعضها وقال: هذا القوام«.)

كلمة »قوام« )على وزن عوام( لغة بمعنى العدل واإلستقامة والحد والوسط بين شيئين، و»قوام«

)على وزن كتاب(: الشيء الذي يكون أساس القيامواإلستقرار.

* * *مسألتان

ـ طريقة مشي المؤمنين1 قرأنا في اآليات أعاله أن التواضع أحد عالئم »عباد

الرحمن«، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى

التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحيانا أن يتوهم البعض في التواضع ضعفا وعجزا وخورا وكسال، وهذا

النمط من التفكير خطير جدا. التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة

الخائرة، بل إن الخطوات المحكمة التي تحكي عنالجدية والقدرة هي من صميم التواضع.

نقرأ في سيرة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أن أحد أصحابه يقول: »مارأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(، كأنما

األرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير--- ، ص4 ـ الكافي: طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، ج 1

29.

(11/307)

-308األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1مكترث«.)

ونقرأ في حديث آخر عن اإلمام الصادق)عليه السالم( في تفسير اآلية )الذين يمشون على األرض( أنه قال: »والرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها ال

(2يتكلف وال يتبختر«.) وورد في حديث آخر، في حاالت النبي)صلى الله

عليه وآله وسلم(: »قد كان يتكفأ في مشيه كإنما(3يمشي في صبب«.)

يعني حينما كان الرسول األكرم)صلى الله عليه وآله وسلم( يمشي فإنه يخطو خطوات سريعة دونما

استعجال، كأنما يمشي في منحدر. على أية حال فإن طريقة المشي ليست مقصودة

بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية لإلنسان، واآلية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح

التواضع والخشوع في أرواح وقلوب »عباد الرحمن«.

ـ البخل واإلسراف2 ال شك أن »اإلسراف« واحد من األعمال الذميمة

بنظر القرآن واإلسالم، وورد ذم كثير له في اآليات والروايات، فاإلسراف كان نهجا فرعونيا: )وإن

(4فرعون لعال في األرض وأنه لمن المسرفين(.) والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم )وإن

(5المسرفين هم أصحاب النار(.) ومع اإللتفات إلى أنه أصبح ثابتا اليوم أن منابع

الثروات األرضية ليست--- ـ في ظالل القرآن، ذيل اآلية مورد البحث، وفي1

تفسير القرطبي ينقل رواية أخرى في هذا الصددأيضا لها شبه كبير بما قلناه أعاله.

ـ مجمع البيان، ذيل اآلية مورد البحث.2 ـ تفسير روح المعاني، ذيل اآلية مورد البحث.3.83 ـ سورة يونس، اآلية 4.43 ـ سورة غافر، اآلية 5

(11/308)

-309األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - كثيرة جدا نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن لإلنسان أن يسرف، وكل إسراف سيكون

سببا في حرمان أناس ال ذنب لهم، فضال عن أن اإلسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق

الله. في تفس الوقت فإن التقتير والبخل أيضا، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة، فاألصل على

أساس النظرة التوحيدية، أن الله تبارك وتعالى هو المالك األصلي، ونحن جميعا مستخلفون من قبله،

وكل نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول، ونحن نعلم أن الله لم يأذن باإلسراف

ولم يأذن بالبخل.* * *

(11/309)

-310األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

والذين ال يدعون مع الله إلها ءاخر وال يقتلون النفس

م الله إال بالحق وال يزنون ومن يفعل ذلك التى حر (يضعف له العذاب يوم القيمة ويخلد68يلق أثاما ) من تاب وءامن وعمل عمال صلحا69فيه مهانا) ( إال

فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفوراحيما) ( ومن تاب وعمل صلحا فإنه يتوب إلى الله70ر(71متابا)

التفسيربحث آخر في صفات عباد الرحمن:

ميزة »عباد الرحمن« السادسة التي وردت في هذه اآليات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل

أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقولتعالى: )والذين ال يدعون مع الله إلها آخر(.

فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية واإلجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم

ظلمات الشرك.

(11/310)

-311األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم األبرياء )وال

(1يقتلون النفس التي حرم الله إال بالحق(.) ويستفاد جيدا من اآلية أعاله أن جميع األنفس

اإلنسانية محترمة في األصل، ومحرم إراقة دمائها إال إذا تحققت أسباب ترفع هذا اإلحترام الذاتي فتبيح

إراقة الدم. صفتهم الثامنة هي أن عفافهم ال يتلوث أبدا: )وال

يزنون(. إنهم على مفترق طريقين: الكفر واإليمان،

فينتخبون اإليمان، وعلى مفترق طريقين األمان والالأمان في األرواح، فهم يتخيرون األمان، وعلى

مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنهم يهيئون المحيط الخالي من كل

انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهمواجتهادهم.

وفي ختام هذه اآلية يضيف تعالى من أجل التأكيدأكثر: )ومن يفعل ذلك يلق أثاما(.

»اإلثم« و »آثام« في األصل بمعنى األعمال التي تمنع من وصول اإلنسان إلى المثوبة، ثم أطلقت

على كل ذنب، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب. قال بعضهم أيضا: إن »إثم« بمعنى الذنب و »آثام«

( فإذا رأينا أن بعض2بمعنى عقوبة الذنب) المفسرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في

جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق. و حول فلسفة تحريم الزنا، قدمنا بحثا مفصال في

( سورة اإلسراء.33ذيل اآلية ) ومن الملفت للنظر في اآلية أعاله، أنها بحثت أوال

في مسألة الشرك، ثم قتل--- ـ اإلستثناء في الجملة أعاله »استثناء مفرغ«1

اصطالحا، وكان في التقدير هكذا »ال يقتلون النفسالتي حرم الله بسبب من األسباب إال بالحق«.

ـ تفسير الفخر الرازي.2

(11/311)

-312األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - النفس، ثم الزنا، ويستفاد من بعض الروايات أن هذه الذنوب الثالثة تكون من حيث األهمية بحسب الترتيب

الذي أوردته اآلية. ينقل ابن مسعود عن النبي األكرم)صلى الله عليه

وآله وسلم(، قال: سألت رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(: أي الذنب أعظم؟ قال: »أن تجعل لله ندا وهو خلقك« قال: قلت: ثم أي؟ قال: »أن تقتل

ولدك مخافة أن يطعم معك« قال: قلت: ثم أي؟قال: »أن تزاني حليلة جارك« فأنزل الله تصديقها.)

1) وبالرغم من أن الكالم في هذا الحديث، ورد عن نوع

خاص من القتل والزنا، لكن مع اإلنتباه إلى إطالق مفهوم اآلية يتجلى أن هذا الحكم يشمل جميع أنواع

القتل والزنا، وما في الرواية مصداق أوضح لهما. تتكيء اآلية التالية أيضا على ما سبق، من أن لهذه

الذنوب الثالثة أهمية قصوى، فيقول تعالى: )يضاعفله العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا(.

و يتجسد هنا سؤاالن: األول: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من األشخاص؟ ولماذا ال يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا

مع أصول العدالة!؟ الثاني: إن الكالم هنا عن الخلود في العذاب، في حين أن الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب

األول من هذه الذنوب الثالثة التي ذكرت في اآلية

يكون كفرا، فقط، وأما قتل النفس والزنا فليساسببا للخلود في العذاب.

بحث المفسرون كثيرا في اإلجابة على السؤال األول، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثالثة المذكورة

في هذه اآلية سيكون له عقاب منفصل، فتكونالعقوبات بمجموعها عذابا مضاعفا.

--- ـ صحيح »البخاري« و »مسلم« طبقا لنقل مجمع1

البيان ذيل اآلية مورد البحث.

(11/312)

-313األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فضال عن أن ذنبا ما يكون أحيانا مصدر الذنوب األخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات

وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفةالعذاب اإللهي.

لهذا اتخذ بعض المفسرين هذه اآلية دليال على هذا األصل المعروف أن: »الكفار مكلفون بالفروع كما

أنهم مكلفون باألصول«. وأما في اإلجابة على السؤال الثاني: فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سببا

في الخروج من هذه الدنيا بال إيمان، كما قلنا في( سورة النساء.93مسألة قتل النفس في ذيل اآلية )

(1) ومن الممكن أن يكون األمر كذلك في مورد الزنا

أيضا، خاصة إذا كان الزنا بمحصنة. ومن المحتمل أيضا أن »الخلود« في اآلية أعاله

يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثالثة معا، الشرك وقتل النفس والزنا، والشاهد على هذا المعنى: اآلية

التالية حيث تقول: )إال من تاب وآمن وعمل عمالصالحا(.

واعتبر بعض المفسرين ـ أيضا ـ أن »الخلود« هنا بمعنى المدة الطويلة ال الخالدة، لكن التفسير األول

والثاني أصح. ومن الملفت للنظر هنا ـ فضال عن مسألة العقوبات

العادية ـ عقوبة أخرى ذكرت أيضا هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيرا لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك ألنهم

يعذبون عذابا جسديا وعذابا روحيا. لكن القرآن المجيد كما مر سابقا، لم يغلق طريق

العودة أمام المجرمين في أي وقت من األوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، اآلية

التالية يقول تعالى هكذا: )إال من تاب وآمن وعملعمال صالحا فأولئك يبدل الله

--- ـ التفسير األمثل، الجزء الثالث.1

(11/313)

-314األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما(.

كما مر بنا في اآلية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثالثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت اآلية باب التوبة مفتوحا أمام هؤالء األشخاص، وهذا دليل

على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعالمتها ذلك العمل الصالح

)المعوض( الذي ورد في اآلية، وإال فإن مجرد اإلستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب

ال يكون دليال على التوبة أبدا. المسألة المهمة فيما يتعلق باآلية أعاله هي: كيف

يبدل الله »سيئات« أولئك »حسنات«؟* * *

تبديل السيئات حسنات:هنا عدة تفاسير، يمكن القبول بها جميعا:

ـ حينما يتوب اإلنسان ويؤمن بالله، تتحقق تحوالت1 عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول واإلنقالب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في

المستقبل حسنات، فإذا كان قاتال للنفس المحترمة في الماضى، فإنه يتبنى مكانها في المستقبل

الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانيا، فإنه يكون بعدها عفيفا وطاهرا، وهذا التوفيق

اإللهي يناله العبد في ظل اإليمان والتوبة. ـ أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله2

وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات، نقرأ في رواية عن أبي ذر: قال: قال

رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(: »يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه،

وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقر

ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيرا قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟« قال:

ورأيت رسول الله )صلى الله عليه وآله وسلم( ضحكحتى بدت نواجذه،

(11/314)

-315األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1ثم تال: )فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات(.)

ـ التفسير الثالت هو أن المقصود من السيئات3 ليس نفس األعمال التي يقوم بها اإلنسان، بل آثارها

السيئة التي تنطبع بها روح ونفس اإلنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك اآلثار السيئة من روحه

ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديلالسيئات حسنات.

وال منافاة بين هذه التفاسير الثالثة قطعا، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثالثة في

مفهوم اآلية. اآلية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول

تعالى: )ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله(2متابا(.)

يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي أال تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك

وتعالى. لهذا فإن ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثال، وإن كان حسنا، لكن القيمة األسس لهذا الفعل

ال تتحقق إال إذا استمد من الدافع الرباني. بعض المفسرين ذكروا تفسيرا آخر لهذه اآلية، وهو

أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه اآلية السابقة أحيانا في بعض األذهان، وهو: كيف

يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟!، فتجيب هذه اآلية: حينما يؤوب اإلنسان إلى ربه العظيم، فال عجب

في هذا األمر. تفسير ثالث ذكر لهذه اآلية، وهو أن كل من تاب من

ذنبه فإنه يعود إلى الله، ومثوبته بال حساب.--- ، ص4 ـ عوالي اللئالي، طبقا لنقل نور الثقلين، ج 1

33.

ـ »متاب«2 مصدر ميمي بمعنى التوبة، وألنه مفعول مطلق هنا،

فهو للتوكيد.

(11/315)

-316األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير

الثالثة، لكن التفسير األول أقرب، خاصة وأنه يتفق مع الرواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم

القمي في ذيل هذه اآلية.* * *

(11/316)

-317األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

وا وا بااللغو مر ور وإذا مر و الذين ال يشهدون الزوا72كراما ) روا بأيت ربهم لم يخر (والذين إذا ذك

( والذين يقولون ربنا هب لنا73عليها صما وعميانا)ة أعين واجعلنا للمتقين إماما) يتنا قر من أزوجنا وذر

ون فيها74 ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلق ( خلدين فيها حسنت مستقرا75تحية وسلما)

(76ومقاما)التفسير

جزاء »عباد الرحمن«: في متابعة لآليات الماضية التي كررت القول في

خصائص »عباد الرحمن«، تشرح هذه اآليات بقية هذهالصفات:

الصفة الرفيعة التاسعة لهم، هي احترام وحفظ حقوق اآلخرين: إن هؤالء ال يشهدون بالباطل

مطلقا: )والذين ال يشهدون الزور(.المفسرون الكبار فسروا هذه اآلية على نحوين:

(11/317)

-318األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اعتبر بعضهم »الزور« بمعنى »الشهادة بالباطل«

كما قلنا أعاله، ألن »الزور« لغة بمعنى التمايل واإلنحراف، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من

اإلنحرافات، فإن »الزور« يطلق عليها.

هذه العبارة )شهادة الزور( في كتاب الشهادات في فقهنا، موجودة بنفس هذا العنوان، وقد نهي عنها

في روايات متعددة، وإن لم نرفي تلك الرواياتاستدالال باآلية أعاله.

التفسير اآلخر: هو أن المقصود من »الشهود« هو »الحضور« يعني أن عباد الرحمن ال يتواجدون في

مجالس الباطل. وفي بعض الروايات التي وردت عن طرق أئمة أهل

البيت)عليهم السالم(، فسرت بـ »الغناء« أي تلك المجالس التي يتم فيها إنشاد اللهو مصحوبا بأنغام

اآلالت الموسيقية أو بدونها. ال شك أن مراد هذا النوع من الروايات ليس هو تحديد مفهوم »الزور« الواسع بـ »الغناء«، فالغناء واحد من

مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهوواللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.

وال يستبعد أيضا أن يجتمع كال التفسيرين في معنى اآلية، وعلى هذا فعباد الرحمن ال يؤدون الشهادة

الكاذبة، وال يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك ألن الحضور في هذه المجالس ـ فضالعن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثم يشير تعالى في آخر اآلية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتالك الهدف اإليجابي في الحياة،

فيقول: )وإذا مروا باللغو مروا كراما(. إنهم ال يحضرون مجالس الباطل، وال يتلوثون باللغو والبطالن. ومع اإللتفات إلى أن »اللغو« يشمل كل

عمل ال ينطوي على هدف عقالئي، فإن ذلك يدل على أن »عباد الرحمن« يتحرون دائما الهدف

المعقول والمفيد والبناء، وينفرون من

(11/318)

-319األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الالهدفية واألعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا النوع من األعمال في مسير حياتهم، مروا بمحاذاتها مرور

الالمبالي، وال مباالتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه األعمال، فهم عظماء بحيث ال تؤثر

عليهم األجواء الفاسدة وال تغيرهم. وال شك أن عدم اعتنائهم بهذه االمور من جهة أنهم

ال طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإال فال شك أنهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم

حتى المرحلة األخيرة. الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتالك العين الباصرة واألذن السامعة حين مواجهتهم آليات

الخالق، فيقول تعالى: )والذين إذا ذكروا بآيات ربهملم يخروا عليها صما وعميانا(.

من المسلم أن المقصود ليس اإلشارة إلى عمل الكفار، ذلك ألنهم ال اعتناء لهم بآيات الله أصال، بل

إن المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة،

دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا مايريده الله ويتفكروا فيه، ويستهدوه في أعمالهم.

وال يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فاألذن السامعة والعين الباصرة الزمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن، المتعمقة فياألشياء، واألذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.

ولو تأملنا جيدا ألدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات األعين واآلذان الموصدة وفي ظنها أنها تتبع اآليات اإللهية،

ليس أقل من ضرر األعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق اصرار، بل أن ضررهم

أكثر بمراتب أحيانا. التلقي الواعي عن الدين هو المعين األساس

للمقاومة والثبات والصمود، ألن من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم اإلنحراف

عن الخط األصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفروالضاللة وعدم اإليمان.

(11/319)

-320األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - هذا النوع من األفراد أداة بيد األعداء، ولقمة سائغة

للشياطين، المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ، فال

يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك. نقرأ في حديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد

وجل: )والذين إذا الله)عليه السالم( عن قول الله عز ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا(،

(1قال: »مستبصرين ليسوا بشكاك«.) الصفة الثانية عشر الخاصة لهؤالء المؤمنين

الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤالء

)والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرةأعين(.

بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن الدعاء دليل شوقهم

وعشقهم الداخلي لهذا األمر، ورمز جدهمواجتهادهم.

من المسلم أن أفرادا كهؤالء ال يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم

وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع اإلسالم، وسبل الحق والعدالة وفي ما ال تصل إليه قدرتهم

وطاقتهم، فإنهم يدعون الله، يسألونه التوفيقبلطفه.

فالدعاء الصحيح من حيث األصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار اإلستطاعة، والدعاء خارج حد

اإلستطاعة. »قرة العين« كناية عمن يسر به، هذا التعبير أخذ في

األصل من كلمة »قر« التي بمعنى البرد، وكما هو معروف )وقد صرح به كثير من المفسرين( أن دمعة

الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة حارقة، لذا فـ »قرة عين« بمعنى الشيء الذي يسبب

برودة عين اإلنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب(2من عينيه، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.)

--- .43، ص 4 ـ نور الثقلين، ج1 ـ الشاهد على هذا القول، الشعر الذي نقله2

القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب. فكم سخنت باألمس عين قريرة وقرت عيون دمعها

اليوم ساكب

(11/320)

-321األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - مسألة تربية األبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية

اآلباء واألمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن، وسنفصل القول فيها إن شاء الله

( من سورة التحريم.6في ذيل اآلية ) وأخيرا فالصفة الرفيعة الثالثة عشر لعباد الرحمن

التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنهم ال يقنعون أبدا أنهم على طريق الحق، بل أن

همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات

للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضا. إنهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس

همهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أنينقذوا الغرقى.

لذا يقول في آخر اآلية، إنهم الذين يقولون: )واجعلناللمتقين إماما(.

ينبغي اإللتفات إلى هذه النكتة أيضا، إنهم ال يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافا، بل إنهم يهيئون

أسباب العظمة واإلمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات الالئقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جدا، وله

شرائط صعبة وثقيلة. وال ننس أن القرآن ال يذكر في هذه اآليات صفات

جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان »عباد

الرحمن«. نعم، إنهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامة تشمل الجميع فإن رحمة الله بهؤالء العباد

عامة أيضا من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بال انقطاع

في طريق هداية خلق الله.أولئك نماذج وأسوات المجتمع اإلنساني.

أولئك قدوات المتقين. إنهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة،

ومن السقوط في المزالق.

(11/321)

-322األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - نقرأ في روايات متعددة أن هذه اآلية نزلت في

علي)عليه السالم( وائمة أهل البيت)عليهم السالم(. ونقرأ في رواية أخرى عن اإلمام الصادق)عليه

(1السالم(: »إيانا عنى«.) وال شك أن أئمة أهل البيت)عليهم السالم( من أوضح مصاديق هذه اآلية، لكن هذا ال يمنع من اتساع مفهوم اآلية، فالمؤمنون اآلخرون أيضا يكون كل منهم إماما

وقدوة لآلخرين بمستويات متفاوتة. واستنتج بعض المفسرين من هذه اآلية أن طلب

الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط،(2بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضا.)

وينبغي اإللتفات ضمنا إلى أن كلمة »إمام« وإن

كانت للمفرد، إال أنها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هيفي اآلية.

بعد إكمال هذه الصفات الثالثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤالء مع جميع هذه الخصائص،

وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبين جزاءهم اإللهي)أولئك يجزون الغرفة بما صبروا(.

»غرفة« من مادة »غرف« )على وزن حرف(: بمعنى رفع الشيء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول

»غرفة« )كاغتراف اإلنسان الماء من العين بيده للشرب( ثم أطلقت على األقسام العليا من البناء، ومنازل الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى

منازل الجنة. لذلك فإن »عباد الرحمن« بامتالكهم هذه الصفات، يكونون في الصف األول من المؤمنين، وينبغي أن

تكون درجتهم في الجنة أعلى درجة أيضا. المهم أنه يقول: إن هذا المقام العالي قد أعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر واإلستقامة

في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصفآخر من

--- ـ أورد هذه الروايات في تفسير آخر هذه اآلية1

»علي بن إبراهيم«، ومؤلف كتاب نور الثقلين فيتفسيريهما.

ـ يراجع تفسير »القرطبي« وتفسير »الفخر2الرازي«.

(11/322)

-323األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفا جديدا،

بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإال فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق، ومواجهة

الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور، والتواضعوالخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة. هذا البيان يذكر اإلنسان بالحديث المعروف عن أمير

المؤمنين علي)عليه السالم(حيث يقول: »والصبر من اإليمان كالرأس من الجسد« فبقاء الجسد من بقاء

الرأس، ذلك ألن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر فيدماغ اإلنسان.

وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل

والصمود أمام مشكالت طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي

الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الروايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي،

فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.

ثم يضيف تعالى: )ويلقون فيها تحية وسالما(. أهل الجنة يحي بعضهم بعضا، وتسلم المالئكة عليهم،

وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويسلم عليهم، ( من سورة يس )سالم من58كما نقرأ في اآلية )

( من سورة24 و23رب رحيم(، ونقرأ في اآلية ) يونس )والمالئكة يدخلون عليهم من كل باب سالم

عليكم...(. ترى هل لـ »التحية« و»السالم« هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمة أقوال بين المفسرين، لكن مع اإللتفات

إلى أن »التحية« في األصل بمعنى الدعاء لحياة الغير، و»سالم« من مادة السالمة، وبمعنى الدعاء

للغير. على هذا نستنتج: أن الكلمة األولى بعنوان طلب

الحياة، للمخاطب والكلمة الثانية طلب اقتران هذه الحياة مع السالمة، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان

بمعنى واحد أحيانا.

(11/323)

-324األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »التحية« في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما

يقولونه في بيان اللقاء مع اآلخرين، فيكون سببا فيسرورهم واحترامهم وإظهار المحبة لهم.

ثم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: )خالدين فيهاحسنت مستقرا ومقاما(.

* * *

(11/324)

-325األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآلية

قل ما يعبؤابكم ربى لوال دعآؤكم فقد كذبتم فسوف(77يكون لزاما)

التفسيرلوال دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة:

هذه اآلية التي هي اآلية األخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، ولألبحاث التي

بصدد صفات »عباد الرحمن« في اآليات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطبا النبي)صلى الله عليه

وآله وسلم(: )قل ما يعبؤبكم ربي لو ال دعاؤكم(. »يعبؤ« من مادة »عبء« بمعنى »الثقل«، وعلى هذا

فجملة ال يعبأ يعني اليزن، وبعبارة أخرى ال يعتني. ولو أن احتماالت كثيرة ذكرت هنا في مسألة معنى

الدعاء، لكن أساس جميعها يعود إلى أصل واحد. فذهب البعض: إن الدعاء هو نفس ذلك المعنى

المعروف للدعاء.بعض آخر فسره بمعنى اإليمان.وبعض بمعنى العبادة والتوحيد.

وآخر، بمعنى الشكر.

(11/325)

-326األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -وبعض: بمعنى التضرع إلى الله في المحن والشدائد.

لكن أساس جميعها هو اإليمان والتوجه إلى الله. وبناء على هذا، يكون مفهوم اآلية هكذا: إن ما

يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو اإليمانبالله والتوجه إليه، والعبودية له.

ثم يضيف تعالى: )فقد كذبتم فسوف يكون لزاما(. من الممكن التصور أن تضادا بين بداية اآلية ونهايتها،

أو أنه ال يبدو على األقل اإلرتباط واإلنسجام الالزم بينهما، ولكن إذا دققنا قليال يتضح أن المقصود

أساسا هو: أنكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى الله، ولم نسلكوا

طريق اإليمان به والعبودية له، فلن تكون لكم أيةقيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.)

1) ومن جملة الشواهد الواضحة التي تؤيد هذا التفسير، الحديث المنقول عن اإلمام الباقر)عليه السالم(، أنه

سئل: »كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء«؟ فقال)عليه السالم(: »كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه

(2اآلية«.)* * *

--- ـ اآلية أعاله من اآليات التي هي مورد مناقشات1

كثيرة بين المفسرين، وما قلناه في تفسيرها هو أوضح تفسير، لكن جماعة من المفسرين المعروفين

ذكروا لها تفسير آخر خالصته هكذا. ال اعتناء لله بكم، ذلك ألنكم كذبتم بآياته، إال أن الله

يدعوكم إلى اإليمان )طبقا لهذها التفسير: »دعاؤكم« من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول،

وفاعله ضمير يعود إلى »ربي«. لكن طبقا للتفسير الذي اخترناه فإن »دعاؤكم« من

قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، وظاهر إضافة المصدر إلى الضمير هي أن تكون اإلضافة إلى

الفاعل، إال أن تظهر قرينة على خالفه(. ثمة تفسير ثالث لهذه اآلية وهو أن الهدف بيان: إنكم أيها البشر، غالبا ما سلكتم طريق التكذيب، فال وزن

وال قدر لكم عند الله، إال ألجل تلك األقلية مثل »عباد الرحمن« الذين يتوجهون إلى الله ويدعونه بإخالص

)هذا التفسير وإن كان صحيحا من ناحية المعنى والمضمون، لكنه ال يوافق ظاهر اآلية كثيرا، ذلك ألن

الضمير في »دعاؤكم« و»كذبتم« يعود ظاهرا إلىفئة واحدة ال فئتين )فتأمل!(.

ـ تفسير الصافي، ذيل هذه اآلية ـ نقلوا لهذه2 الرواية أيضا تفاسير أخرى يتفاوت يسير، نقلت أيضا روايات أخرى شاهدة على التفسير أعاله، بعضها عن أمالي الشيخ الطوسي، وبعضها عن تفسير علي بن

إبراهيم ذيل هذه اآلية.

(11/326)

-327األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بحث

الدعاء طريق إصالح النفس ومعرفة الله: معلوم أن مسألة الدعاء أعطيت أهمية كبيرة في

آيات القرآن والروايات اإلسالمية، حيث كانت اآلية أعاله أنموذجا منها، غير أن قد يكون القبول بهذا األمر ابتداء صعبا على البعض، كأنه يقال: الدعاء

عمل سهل جدا، ويمكن أن يؤديه الجميع أو يتوسعون أكثر فيقولون: الدعاء عمل المغلوبين على أمرهم،

األمر الذي ال أهمية له. لكن اإلشتباه هنا ينشأ من أنهم ينظرون إلى الدعاء

الخالي من شرائطه، في حين إذا أخذت الشرائط الخاصة للدعاء بنظر اإلعتبار، فإن هذه الحقيقة تثبت

بوضوح. وهي أن الدعاء وسيلة مؤثرة في إصالحالنفس، واإلرتباط القريب بين الله واإلنسان.

أول شرائط الدعاء، معرفة المدعو. الشرط الثاني: تخلية القلب وإعداد الروح لدعائه

تبارك وتعالى، ذلك ألن اإلنسان حينما يذهب باتجاهأحد، ينبغي أن يملك اإلستعداد للقائه.

الشرط الثالث للدعاء: هو جلب رضاه من يدعوهاإلنسان، ذلك ألنه ال يحتمل التأثير بدون ذلك األنادرا.

وأخيرا فالشرط الرابع الستجابة الدعاء: هو أن يستخدم اإلنسان كل قدرته، وقوته واستطاعته في

عمله، ويؤديه بأعلى درجة من الجد واإلجتهاد، ثم يرفع يديه ويوجه قلبه إلى بارئه بالدعاء في ماوراء

ذلك. ذلك ألنه ورد صريحا في الروايات اإلسالمية، أن

اإلنسان إذا قصر في العمل الذي يستطيع أن يؤديهبنفسه، ثم يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.

من هنا، فإن الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفةصفاته الجمالية والجاللية،

(11/327)

-328األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ووسيلة أيضا للتوبة من الذنب، ولتطهير الروح،

وسبب أيضا ألداء الحسنات للجهاد والجد واالجتهادإلى منتهى اإلستطاعة.

لهذا نجد عبارات مهمة حول الدعاء ال يمكن فهمها إالعلى ضوء ما قلناه، مثال:

نقرأ في رواية عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(: »الدعاء سالح المؤمن، وعمود الدين، ونور

(1السماوات واألرض«.) ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي)عليه

السالم(: »الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفالح، وخير(2الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي«.)

ونقرأ في حديث عن اإلمام الصادق)عليه السالم(:(3»الدعاء أنفذ من السنان«.)

فضال عن كل ذلك، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة اإلنسان، فتغرقه في اليأس من حيث

األسباب الظاهرية، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس

والقنوط.

لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة، يمنح اإلنسان قدرة وقوة وأمال وطمأنينة، وأثرا ال يمكن

إنكاره من الناحية النفسية. وقدمنا بحثا مفصال بصدد مسألة الدعاء، وفلسفته،وشرائطه، ونتائجه، في التفسير األمثل ذيل اآلية )

( من سورة البقرة، فتفضل بمراجعته هناك من186أجل التوضيح أكثر.

اللهم، أجعلنا من خاصة عبادك، وترحم علينا بتوفيقاكتساب خصائص وصفات »عباد الرحمن«.

--- ـ اصول الكافي، الجزء الثاني، أبواب الدعاء باب أن1

الدعاء سالح المؤمن. ـ المصدر السابق.2 ـ المصدر السابق.3

(11/328)

-329األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ربنا، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سببا لتثمين

وجودنا بين يديك. اللهم، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين

يديك، وال تحرمنا من اإلستجابة.إنك على كل شيء قدير وباإلجابة جدير.

* * *نهاية سورة الفرقان

(11/329)

-330األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -

(11/330)

-331األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -عراء سورة الش

مكية وعدد آياتها مئتان وسبع وعشرون آية

(11/331)

-332األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -

(11/332)

-333األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -»سورة الشعراء«

محتوى سورة الشعراء: المعروف بين المفسرين أن جميع آيات هذه السورة

المائتين وسبع وعشرين نزلت في مكة عدا اآليات(1األربع األخيرة.)

إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضا مع إيقاعات السور المكية األخرى، ونعلم أن السور المكية التي

أنزلت في بداية دعوة اإلسالم، تستند على بيان األصول اإلعتقادية: التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء

الله، وأهمية القرآن. وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه

المسائل تقريبا.و يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:

القسم األول: مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثم يتحدث في عظمة القرآن،

وتسلية النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، واإلشارة إلىبعض دالئل التوحيد، وصفات الله تبارك وتعالى.

القسم الثاني: يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، وفي مكابرات وحماقات أولئك حيال هؤالء األنبياء، حيث فصل

الحديث أكثر في بعض منها، كما في قصة موسى وفرعون، واختصره في بعض آخر منها، كما في قصة

إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.--- ـ تفسير »مجمع البيان« وتفسير »الفخر الرازي«1

وتفسير »القرطبي« وتفسير »التبيان«، واستثنى في تفسير »روح المعاني« خمس آيات. لكن بعض

المفسرين مثل العالمة الطباطبائي في »الميزان« لم يقبل استثناء هذه اآليات. وسوف يكون لنا بحث

أكثر إن شاء الله في ذيل هذه اآليات.

(11/333)

-334األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - في هذا القسم بخاصة، أشير إلى منطق المشركين. الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر وزمان في مواجهة أنبياء الله، والذي يشبه كثيرا منطق مشركي

عصر النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(، فكان هذا

سببا في تسلية النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( والمؤمنين األوائل:، ليعلموا تاريخ هذا الصنف من

الناس ومنطقهم، حتى ال يتأثروا ويتراخوا، وحتى اليفسحوا للضعف والفتور ليجد طريقا إلى أنفسهم. وفيه بشكل خاص أيضا، تركيز على العذاب العظيم

واإلبتالءات المروعة التي حلت بهذه األمم، والذي هوبذاته تهديد مؤثر ألعداء النبي في تلك الشرائط.

القسم الثالث: وتغلب عليه جنبه اإلستنتاج من القسمين األوليين، يتناول الحديث حول النبي)صلى

الله عليه وآله وسلم(، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، واألوامر الصادرة إلى النبي)صلى الله

عليه وآله وسلم( فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى

للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين. وبالمناسبة، فإن اسم هذه السورة أخذ من مجموعة

اآليات األخيرة التي تتحدث حول الشعراء غيرالمؤمنين.

وهناك نكتة جديرة باإلهتمام أيضا، وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة من

حيث عدد اآليات، وإن كانت ليست كذلك من حيثعدد الكلمات، بل هي أقصر من كثير من السور.

فضيلة سورة الشعراء: ورد في الحديث الشريف عن رسول االسالم)صلى

الله عليه وآله وسلم( في بيان أهمية تالوة هذهالسورة أنه قال:

»من قرأ سورة الشعراء كان له من األجر عشر حسنات بعدد كل من صدق بنوح وكذب به، وهود

وشعيب وصالح وابراهيم، وبعدد كل من كذب بعيسىوصدق بمحمد«.

(11/334)

-335األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وال يخفى أن كل هذا األجر والثواب ليس على التالوة بدون التفكر والعمل بها، بل ان القرائن المتعدد في

روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التالوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثم العزم والعمل، وقد

أشرتا الى ذلك سابقا. ومما يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس

الحديث اعاله، ألن استحقاق الحسنات بعدد

المصدقين والمكذبين لالنبياء من أجل أن يكونالشخص في صف المصدقين ويتجنب منهج المكذبين.

* * *

(11/335)

-336األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( لعلك بخع2( تلك ءايت الكتب المبين)1طسم) يكونوا مؤمنين) ل عليهم من3نفسك أال ( إن نشأ ننز

مآء ءاية فظلت أعنقهم لها خضعين) ( وما4الس كانوا عنه حمن محدث إال ن الر يأتيهم من ذكر م

( فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به5معرضين)(6يستهزءون)

التفسيرإنهم يعرضون عن كل جديد!

مرة أخرى نواجه في بداية هذه السورة مثال آخر منالحروف المقطعة وهو: )طسم(.

وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مسهبة ومستقلة في مستهل سورة البقرة وسورة

آل عمران وسورة األعراف! فال نرى حاجة إلىالتكرار واإلعادة!

إال أن ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من رواياتمتعددة عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أو

(11/336)

-337األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بعض أصحابه في تفسير »طسم« ويدل جميعها على

أن هذه الحروف عالمات »مختصرة« عن أسماء الله تعالى، أو أسماء القرآن، أو األمكنة المقدسة، أو

بعض أشجار الجنة!... وهذه الروايات تؤيد التفسير الذي نقلناه في مستهل

سورة األعراف في هذا الصدد، كما أنها في الوقت ذاته ال تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من

أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته، حيث أن هذا الكالم العظيم مؤلف من

حروف بسيطة وصغيرة! واآلية التالية تبين عظمة القرآن بهذا النحو: )تلك

آيات الكتاب المبين(.

وبالطبع فإن »تلك« في لغة العرب اسم إشارة للبعيد، ويشار بها للمؤنث »المفرد« و»الجمع«; كما

(1قد يشار بها لجمع التكسير.) وكما بينا آنفا فقد يعبر في لغة العرب عن عظمة

الشيء ـ وإن كان قريبا ـ باسم اإلشارة )للبعيد( فكان الموضوع ألهميته وارتفاع »وعلو« مرتبته بعيد

عنا، ومكانه في السماوات العلى! ومما ينبغي اإللتفات إليه ومالحظته أن هذه اآلية

بنصها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص ـ أيضا ـ دون زيادة أو نقصان. كما أنها وردت بعد

الحروف المقطعة في مستهل السور آنفة الذكر،وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.

ووصف القرآن بـ »المبين« المشتق من »البيان«، هو إشارة إلى كونه جليا بينا عظيما معجزا ـ فكلما أمعن

اإلنسان النظر في محتواه تعرف على إعجازه أكثر فأكثر... ثم بعد هذا فإن القرآن يبين الحق ويميزه عن الباطل، ويوضح سبيل السعادة والنصر والنجاة

من الضالل!--- ـ كقوله تعالى )وتلك األيام نداولها بين الناس(.1

(11/337)

-338األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - واآلية التالية تسري عن قلب النبي وتثبته فتقول:

)لعلك باخع نفسك أن ال يكونوا مؤمنين(. كلمة »باخع« مشتقة من )البخع( )على وزن الدمع(!

ومعناه إهالك النفس من شدة الغم... وهذا التعبير يدل على مدى تحرق قلب النبي وشفقته ألمته، وأداء

رسالته، وما كان عليه من إصرار في خطته، وتجلد في مواجهة شدته ومحنته، ألنه يرى القلوب

المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزالل، ولكنها ال تزال على ظمئها وال ترتوي من معينه

العذب، فكان يتحرق لذلك! كان قلقا ـ وباخعا نفسه ـ أن يرى اإلنسان الذي منحه الله العقل واللب يسير في الطريق المظالم، بالرغم

من كل هذا الضياء، ويهوي في الوادي السحيقليكون من الهالكين!

أجل، كان جميع األنبياء على هذه الشاكلة من اإلشفاق على أممهم وال سيما الرسول

األعظم)صلى الله عليه وآله وسلم( الذي ورد فيشأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرة...

قال بعض المفسرين: إن سبب نزول اآلية األنفة الذكر هو أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( كان

يدعو أهل مكة إلى توحيد الله باستمرار، إال أنهم لم يؤمنوا. فأسف النبي وتأثر تأثرا بالغا حتى بدت

أماراته في وجهه، فنزلت اآلية آنفة الذكر لتسري(1عن قلب النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(.)

ولبيان أن الله على كل شيء قدير حتى أنه يستطيع أن يسوقهم إلى اإليمان به سوقا ويضطرهم إلى ذلك، فإن اآلية التالية تقول: )إن نشأ ننزل عليهم

من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(. وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة

مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذابا شديدا فيذعنوا له، يطأطئوا برؤوسهم خضوعا له،

يستسلموا--- ذيل اآلية محل8 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 1

البحث.

(11/338)

-339األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - األمره وحكمه، إال أن اإليمان بإكراه ال قيمة له.

فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراكوتفكر.

ومن الواضح أن المراد بخضوع األعناق خضوع أصحابها... فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية

عن اإلنسان ألنها جزء مهم منه، ويقال مثال كناية عن البغاة القساة: غالظ الرقاب، وعن المضطهدين

والضعفاء: الرقاب الذليلة! وبالطبع فهناك احتماالت أخر لتفسير »أعناقهم« من

جملتها أن األعناق تعني الرؤساء، كما أن من التفاسير أن األعناق تعني طوائف من الناس. وجميع

هذه اإلحتماالت ضعيفة. ثم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: )وما يأتيهم من ذكر من الرحمن

محدث إال كانوا عنه معرضين(. والتعبير بـ »ذكر« هو إشارة إلى أن القرآن موقظ

ومنبه، وهذا األمر متحقق في جميع آياته وسوره! إال

أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرعن كل ذلك!...

والتعبير بـ »الرحمن« إشارة إلى أن نزول هذه اآليات من قبل الله إنما هو من رحمته العامة، إذ تدعو جميع

الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال! كما أن هذا التعبير ـ أيضا ـ ربما كان لتحريك

اإلحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن

اإلعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه ال يتعجلبإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضا...

والتعبير بـ »محدث« ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدة تلو األخرى، وكل منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق

الجديدة ـ معرضون... فكأنهم اتفقوا على خرافات السلف وتعلقوا بها ـ فهم ال يرضون أن يودعوا

ضاللهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساسا مهما كان

(11/339)

-340األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الجديد موجبا للهداية، فإن الجهلة والمتعصبين

يخالفون الحق وال يذعنون له... منه إذ تقول:68ونقرأ في سورة »المؤمنون« اآلية

)أفلم يدبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءهم األولين( فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين

مخالفين! ثم يضيف القرآن: أن هؤالء ال يقفون عند حدود

اإلعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشد منه ليصلوا إلى اإلستهزاء به، فيقول: )فقد

كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزئون(. »األنباء«: جمع »انبأ«، أي الخبر المهم، والمراد من

هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي واألخروي. على أن بعض المفسرين كالشيخ

الطوسي في »التبيان«، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب اآلخرة. إال أن أغلب المفسرين يعتقدون

بشموله لعقاب الدارين، وهو ـ في الواقع ـ كذلك!...ألن اآلية مطلقة.

وبغض النظر عن كل ذلك فإن للكفر واإلنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة اإلنسان...

فكيف يمكن السكوت عنها!

والتحقيق في هذه اآلية واآلية السابقة يكشف أن اإلنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنه

يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ . ففي المرحلة األولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه

عنه... ثم بالتدريج يبلغ مرحلة اإلنكار والتكذيب.. ثم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية واإلستهزاء...

ونتيجة لذلك ينال عقاب الله وجزاءه »وقد ورد نظير من سورة األنعام«.5 و 4هذا التعبير في اآليتين

* * *مالحظتان

ـ ورد في بعض خطب أمير المؤمنين »في نهج1البالغة« المعروفة بالخطبة

(11/340)

-341األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله

أرسل األنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه، بحيث لو لم

يكونوا كذلك لكان اإليمان إجباريا، إذ يقول: »ولو أراد الله سبحانه ألنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز

الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش األرضين لفعل... ولو

(.1فعل لسقط البالء وبطل الجزاء...«) وورد في كتاب الكافي ذيل اآلية محل البحث »لو

أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس

(2أجمعين«.) ومما يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب

المعروفة كاإلرشاد للشيخ المفيد، وروضة الكافي، وكمال الدين للشيخ الصدوق، وتفسير القمي، أن

اإلمام الصادق)عليه السالم( قال في تفسير اآلية: )إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية...( قال: »تخضع

رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي الصيحة في السماء(3باسم صاحب األمر ـ صلوات الله عليه ـ«.)

وواضح أن المراد من هذه الروايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع لآلية، إذ ستخضع أخيرا

جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية، وذلك عندما يظهر المصلح المهدي)عليه السالم( إمام

الحكومة العالمية، فتستسلم إذعانا لقدرته وحمايةالله له وتنحني له إجالال.

ـ أحد البحوث التي كثر الكالم فيها والتعليق عليها2 في القرون األولى ـ أو الصدر األول ـ لإلسالم هو

البحث أو الكالم عن كون كالم الله قديما أو حادثا؟! وقد انجر هذا الكالم إلى كتب التفسير أيضا، وقد

استدل جماعة من المفسرين بالتعبير الوارد في اآليةآنفا »محدث« على كون القرآن حادثا.

--- 192 ـ راجع نهج البالغة، الخطبة القاصعة، رقم 1

»تواضع األنبياء«. ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل اآلية2

محل البحث. ـ تفسير الميزان، ونور الثقلين ذيل اآليات محل3

البحث.

(11/341)

-342األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إال أنه ـ كما أشرنا من قبل أيضا ـ فإن أساس هذا

البحث ال يمكن أن يكون منطقيا بأي وجه، ويبدو أن ذوي السلطة أو أولي األمر في ذلك الزمان من بني

أمية وبني العباس، كان لهم األثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن

المسائل المهمة والجدية، وليشغلوا علماء المسلمينبهذه المسائل حفاظا على حكومتهم وسلطتهم.

ألنه إذا كان المراد من كالم الله هو محتوى القرآن، فهو من األزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه،

وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآنوحروفه، فذلك حادث قطعا وال خالف فيه.

فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو، وأخرى هو حادث قطعا بهذه الصورة، فعلى المجتمع اإلسالمي أن يكون فطنا وال سيما العلماء، فال يبتلوا

بالبحوث المضلة اإلنحرافية المبتدعة من قبلالجبابرة وأعداء اإلسالم.

* * *

(11/342)

-343األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

أولم يروا إلى االرض كم أنبتنا فيها من كل زوجؤمنين)7كريم) (8( إن فى ذلك الية وما كان أكثرهم م

حيم) (9وإن ربك لهو العزيز الرالتفسير

الزوجية في النباتات: كان الكالم في اآليات المتقدمة عن إعراض الكفار عن اآليات التشريعية )أي القرآن المجيد(، أما في

اآليات محل البحث فالكالم عن اآليات التكوينية ودالئل الله في خلقه وما أوجده سبحانه، فالكفار لم

يصموا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النبي وكلماته فحسب، بل كانوا يحرمون أعينهم

رؤية دالئل الحق المنتشرة حولهم. فتقول اآلية األولى من هذه اآليات: )أولم يروا إلى

(1األرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم(.)--- ـ يتعدي الفعل »يرى«1

عادة إلى المفعول بدون حرف الجر )إلى( وقد تتعدى إلى المفعولين، وإنما تعدت هنا بحرف الجر )إلى(

ألن المراد منها النظر العميق الدقيق ال الرؤيةالسطحية...

(11/343)

-344األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - والتعبير بـ »زوج« في شأن النباتات يستحق الدقة...

فبالرغم من أن أغلب المفسرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف، وأن األزواج معناها األصناف واالنواع، إال أنه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما

يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو اإلشارةإلى الزوجية في النباتات؟!

كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان )ذكر وأنثى( وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر ... وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماما

في النخيل... إال أن العالم السويدي والخبير بعلم النبات »لينه«

وفق ألول مرة في أواسط القرن الثامن عشر الميالدي الكتشاف هذه الحقيقة، وهي أن الزوجية

في عالم النباتات قانون عام تقريبا، والنباتات كسائر

الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر ألنثاه ثمتقذف بالثمار...

غير أن القرآن المجيد أشار إلى هذه الظاهرة »الزوجية في النبات« في آيات مختلفة مرارا قبل

هذا العالم السويدي بقرون، كما هي الحال في اآليات محل البحث. وفي اآلية الرابعة من سورة

الرعد، واآلية العاشرة من سورة لقمان، واآلية السابعة من سورة ق. وهذه اإلشارة بنفسها إحدى

معاجز القرآن العلمية! وكلمة »كريم« في األصل تعني كل شيء قيم

وثمين، فقد تستعمل في اإلنسان، وقد تستعمل فيالنبات، وقد تستعمل في الكتاب

]أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين[ أيضا... كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب

سليمان إليها إذا قالت: )إني ألقي إلي كتاب كريم(.)1)

والمراد من )كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم( هو النباتات المهمة ذوات الفائدة، وطبعا ما من نبات إالوله فائدة أو فوائد جمة، ومع تقدم العلم تتجلى هذه

---.29 ـ النمل، 1

(11/344)

-345األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -الحقيقة يوما بعد يوم.

وتأتي اآلية التالية لتقول مؤكدة بصراحة: )إن فيذلك آلية(.

أجل إن اإللتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا التراب الذي ال قيمة له ظاهرا، بما فيه من تركيب

معين هو مبدأ ظهور أنواع األزهار الجميلة، واألشجار المثمرة الظليلة، والفواكه ذات األلوان الزاهية، وما

فيها من خواص مختلفة. وهو ـ أي التراب ـ يبين منتهى قدرة الله، إال أن أولئك الذين طبع على

قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها،

ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل! لذلك فإن اآلية هذه تعقب قائلة: )وما كان أكثرهم

مؤمنين(. أي إن عدم اإليمان لدى أولئك أمسى كالصفة

الراسخة فيهم، فال عجب أن ال ينتفعوا من هذه اآليات، ألن قابلية المحل من شرائط التأثير األصيلة

(1أيضا كما نقرأ قوله تعالى: )هدى للمتقين(.) وفي آخر آية من اآليات محل البحث يرد الخطاب في

تعبير يدل على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: )وإن ربك لهو العزيز

الرحيم(... »العزيز« معناه المقتدر الذي ال يغلب وال يقهر، فهو قادر على إظهار اآليات العظمى، كما أنه قادر على

إهالك المكذبين وتدميرهم.. إال أنه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ويكفي الرجوع بإخالص

إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليهوتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!

ولعل تقديم كلمة »العزيز« على »الرحيم« ألنه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز ألشعرت اإلحساس بالضعف، إال أنه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليعلم

أنه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!* * *

---.2 ـ البقرة، اآلية 1

(11/345)

-346األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

(10وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظلمين) ( قال رب إنى أخاف أن11قوم فرعون أال يتقون)

(ويضيق صدرى وال ينطلق لسانى فأرسل12يكذبون )(ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون)13إلى هرون )

ستمعون)14 فاذهبا بأيتنآ إنا معكم م (15( قال كالالتفسير

بداية رسالة موسى: قلنا إن في هذه السورة بيانا لقصص سبعة من األنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامة

المسلمين، وال سيما المسلمين األوائل في عصرالنبي)صلى الله عليه وآله وسلم( ...

فأول قصة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى)عليه السالم(، وتشرح جوانب مختلفة من

حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هالكهمبالغرق في النيل!

وقد جاء الكالم عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى اآلن في سور شتى »كالبقرة والمائدة

واألعراف ويونس واإلسراء وطه« كما ورد الكالم فيهذا الشأن أيضا في بعض السور التالية!...

(11/346)

-347األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إال أن

اإلمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كل بحث منها يتناول جانبا خاصا من هذه القصة ذات المحتوى

الغزير، ويعول على هدف معين!... مثال.. حين نزلت اآليات ـ محل البحث ـ كان

المسلمون قلة ضعافا وكان أعداؤهم كثرة أولي قوة وبأس شديد، بحيث ال يمكن الموازنة بين الفرقتين،

فكان ينبغي أن يبين الله قصص األمم السابقة المشابهة لحال هؤالء، ليعلم المسلمون أن هذه

القوة التي يمتلكها األعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أي منهما بنفسه

إلى اندحار المسلمين، ولتزداد معنويات المسلمينوتثبت استقامتهم ومقاومتهم...

ومما يلفت النظر تكرار عبارة: )و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم( بعد تمام

الحديث عن كل نبي... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النبي محمد)صلى الله عليه وآله وسلم(.. وهذا اإلتساق في التعبير شاهد

حي على أن ذكر هذه الجوانب من قصص األنبياء إنما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من

حيث الحالة النفسية واإلجتماعية كما كان عليهااألنبياء السابقون...

فتقول اآليتان األوليان من اآليات محل البحث )وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم

فرعون أال يتقون(. ويتركون ظلمهم وفسادهموعنادهم للحق.

وينبغي اإللتفات إلى أن الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أن

الظلم له معنى جامع واسع ومن مصاديقه الشرك ( من سورة لقمان )إن الشرك13كما تقول اآلية )لظلم عظيم(...

كما أن استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما

قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق األخرى أيضا، ثم بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم

بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوةاألنبياء جميعهم بمبارزة الظلم

(11/347)

-348األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بجميع أبعاده!...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لرب العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في اآلية التالية: )قال رب إني

أخاف أن يكذبون( وأخشى أن أطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما أالقيه من صخب وتكذيب فال يتحقق

الهدف المنشود... وكان لموسى الحق في كالمه هذا تماما، ألن فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم

يكن ألحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسوا بأدنى نغمة مخالفة ألي شخص بادروا إلى اإلجهاز عليه

فورا.. وإضافة إلى ذلك فان صدري ال يتسع الستيعاب هذه

الرسالة االلهية: )ويضيق صدري(. ثم بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها: )وال

ينطلق لساني(... فلذلك فإني أطلب أن تشد أزري بأخي )فأرسل إلى

(1هارون(.) لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في

مواجهة الظالمين والمستكبرين. وبغض النظر عن كل ذلك فإن قوم فرعون

يطاردونني )ولهم علي ذنب( كما يعتقدون ألني قتلت واحدا منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي

مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك )فأخافأن يقتلون(.

وفي الحقيقة إن موسى)عليه السالم( كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه، فكان يطلب من الله حلها

ألداء رسالته وهذه المشاكل هي...مشكلة التكذيب.

مشكلة ضيق الصدر.---

ـ في هذه الجملة حذف وتقديره: فأرسل جبرئيل1إلى هارون.

(11/348)

-349األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مشكلة عدم الفصاحة الكافية.

و مشكلة القصاص! ويتضح ضمنا أن موسى لم يكن خائفا على نفسه، بل

كان خوفه أن ال يصل إلى الهدف والمقصد لألسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه

مزيد القوة لهذه المواجهة!... طلبات موسى)عليه السالم( من الله في هذا الصدد

خير شاهد على هذه الحقيقة، إذ طلب أن يشرح صدره وحل عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون

للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيال إذ قال: )رب اشرح لي صدري

رلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا ويس قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد

به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرككثيرا(.

فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و)قال كال( فلن يستطيعوا قتلك، أو كال لن يضيق صدرك

وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضا في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمة: )فاذهبا

بآياتنا( لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله. وال تظنا بأن الله بعيد عنكم أو ال يسمع ما تقوالن

)إنا معكم مستمعون(... فإنا معكما ولن اتتركما أبدا، وسأنصركما في

الحوادث الصعبة، فاذهبا مطمئني الخاطر، وامضيافي هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!...

وهكذا فإن الله سبحانه أعطى لموسى اإلطمئنان الكافي في جمل ثالث وحقق له طلبه... إذ طمأنه بقوله: )كال( على أن قوم فرعون لن يقتلوه ولن

يستطيعوا ذلك... ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانه وبقوله: )فاذهبا بآياتنا(

أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله: )إنا معكم مستمعون( وعدهما أنهما سيكونان أبدا تحت ظل

خيمته وحمايته!...

(11/349)

-350األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ومما ينبغي اإللتفات إليه ورود الضمير في آخر

الجملة بصيغة الجمع في قوله: )إنا معكم( ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن

يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات، ويسمع ما يدور بينهم جميعا، فينصر

موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!... وما ذهب إليه بعض المفسرين من أن كلمة »مع«

دالة على النصرة والحماية فال تشمل قوم فرعون، غير سديد، بل إن »مع« تعني حضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين،

حتى مع المذنبين، وحتى مع الموجودات التي ال روحفيها، فهو في كل مكان وال يخلو منه مكان.

والتعبير بـ »مستمعون«، أي اإلصغاء المقرونبالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضا.

* * *

(11/350)

-351األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( أن16فأتيا فرعون فقوال إنا رسول رب العلمين) ( قال ألم نربك فينا وليدا17أرسل معنا بنى إسرءيل)

( وفعلت فعلتك التى18ولبثت فينا من عمرك سنين) ( قال فعلتهآ إذا وأنا من19فعلت وأنت من الكفرين)

آلين) ا خفتكم فوهب لى20الض ( ففررت منكم لم (وتلك نعمة21ربى حكما وجعلنى من المرسلين )(22تمنها على أن عبدت بنى إسرءيل)

التفسيرمواجهة فرعون مواجهة منطقية وقاطعة:

انتهت في اآليات المتقدمة المرحلة األولى لمأمورية »موسى)عليه السالم(« وهي موضوع الوحي

»والرسالة« وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدفالكبير!...

وتعقيبا على المرحلة اآلنفة تأتي اآليات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثانية، أي مواجهة موسى

وهارون لفرعون، والكالم المصيري الذي جرىبينهم!

تقول اآلية األولى من هذه اآليات مقدمة لهذهالمرحلة: )فأتيا فرعون فقوال

(11/351)

-352األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -إنا رسول رب العالمين(.

وجملة )فأتيا فرعون( تكشف عن أنهما ينبغي أنيواجها فرعون نفسه بأية قيمة أو أي ثمن كان...

والتعبير بـ »رسول« بصيغة اإلفراد مع أنهما »موسى وهارون« نبيان مرسالن، يشير إلى وحدة دعوتهما،

فكأنهما روحان في بدن واحد لهما خطة واحدة(1وهدف واحد.)

وضمن دعوتكما لفرعون بأنكما رسوال رب العالمين اطلبا منه أن يرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم:

)أن أرسل معنا بني إسرائيل(. وبديهي أن المراد من اآلية أن يرفع فرعون عن بني

إسرائيل نير العبودية والقهر واإلستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال

بني إسرائيل معهما فحسب. وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة

وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقوللموسى: )ألم نربك فينا وليدا...(.

إذ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهالك، وهيأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر

في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشموال به، فتربيت في محيط هادىء آمن منعما... وبعد أن

تربيت في بيتنا عشت زمانا )ولبثت فينا من عمركسنين(.

ثم توجه إلى موسى وذكره بموضوع قتل القبطيفقال: )وفعلت فعلتك التي فعلت(.

--- ـ يقول الراغب في »المفردات«: »الرسول«1

من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع، وإنجمعت أحيانا على »الرسل«

فمنهم من يرى أنها مصدر أيضا ومعناها الرسالة، ونعرف أنه ال تثنية وال جمع في المصدر. وقد ورد

في لسان العرب أن الرسول بمعنى الرسالة، إال أن هذه الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتما، وكثيرا ما

تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه القصةوقصة موسى وهارون: »إنا رسوال ربك«!...

(11/352)

-353األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إشارة إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيا ولديك مثل

هذه السابقة؟! ثم بعد هذا كله: )وأنت من الكافرين(! )أي بنعمة

فرعون( فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت منزادنا فكيف تكون نبيا وأنت كافر بنعمتي؟!

وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوما بهذه التهم المواجهة إليه، وبهذا المنطق

اإلستدراجي. والمراد من قصة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في

منها« حيث جاء فيها أن15سورة القصص »اآلية موسى وجد رجلين يقتتالن هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثة الذي هو من شيعته على الذي من

عدوه فوكزه موسى فقضى عليه انتصارا لشيعته!... وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكاالت فرعون

الثالثة، إال أنه قدم اإلجابة على اإلشكال الثاني نظرا ألهميته. )أو أنه أساسا لم يجد اإلشكال األول يستحق

اإلجابة، ألن تربية الشخص ال تكون دليال على عدم جواز هداية مربية إن كان المربي ضاال، ليسلك سبيل

الرشاد( وعلى كل حال أجابه موسى)عليه السالم(: )قال

فعلتها إذا وأنا من الضالين(. وهنا كالم طويل بن المفسرين على المراد من كلمة »الضالين« الواردة في تعبير موسى)عليه السالم(...

ألنه كما نعلم ال مجال ألن تكون للنبي سابقة سوء حتى قبل مرحلة النبوة.. ألنها تزلزل موقعه في

أفكار عامة الناس، ويبقى الهدف من بعثته ناقصا غير تام، ولذلك فإن العصمة في األنبياء الزمة حتى

قبل زمان نبوتهم!... هذا من جهة... ومن جهة أخرى ينبغي أن يكون هذا الكالم جوابا

مسكتا ومضحما لفرعون! لذلك فإن كثيرا من المفسرين يعتقدون أن المراد من »الضال« هنا هو

كونه أخطأ في الموضوع، أي أن موسى كانت ضربتهللرجل القبطي ال بقصد القتل، بل لكي

(11/353)

-354األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنه ستؤول

ضربته إلى اإلجهاز عليه وقتله، فبناء على ذلك فإن الضال هنا معناه »الغافل« والمراد منه الغافل عن

العاقبة التي أدى عمله إليها. وقال بعض المفسرين: إن المراد من ذلك أنه لم يكن أي خطأ في قتل القبطي الظالم ألنه كان مستحقا،

بل إن موسى)عليه السالم( يريد أن يقول: إنه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه، وأنه ال

يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيدا عنوطنه، وأن يتأخر منهجه »في أداء رسالته«.

ولكن الظاهر أن هذا ال يعد جوابا لفرعون، بل هو موضوع كان لموسى أن يبينه ألتباعه ومن حوله من

محبيه! ال أنه رد على إشكال فرعون!... والتفسير الثالث الذي من المحتمل أن يكون مناسبا

أكثر لمقام موسى)عليه السالم(ـ من جهات متعددة ـ ويتالءم وعظمة كيانه، أن موسى)عليه السالم(

استخدم التورية في تعبيره جوابا على كالم فرعون، فقال كالما ظاهره أنه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكن الله عرفه إياه بعدئذ، ووهب له حكما ـ

فجعله من المرسلين، إال أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة!

من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع أن أصل عمله كان حقا ومطابقا لقانون العدالة »أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى)عليه السالم( قد

ضل طريقه فصادف أمامه هذه القضية«... ونحن نعرف أن »التورية« هي أن يقول اإلنسان

كالما باطنه حق، إال أن الطرف اآلخر يفهم من ظاهره شيئا آخر، وهذا األمر يقع في موارد خاصة يبتلى اإلنسان فيها بالحرج أو الضيق، وال يريد أن(1يكذب، وهو في الوقت ذاته على ظاهر كالمه...)

--- ـ هذا الكالم يوافق مضمون الحديث الوارد عن1

اإلمام الرضا)عليه السالم( ،4في تفسير اآلية، راجع كتاب عيون اخبار الرضا، ج

نقال عن »نور الثقلين«.48ص

(11/354)

-355األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ثم يضيف موسى قائال: )ففررت منكم لما خفتكم

فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين(! وهناك اختالف بين كلمات المفسرين في المراد من

»الحكم« في هذه اآلية، أهو مقام النبوة، أم مقام العلم، أم سواهما؟! لكن مع مالحظة ذيل اآلية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم يتضح أنه غير

الرسالة والنبوة! ( من79والشاهد اآلخر على هذا الموضوع اآلية )

سورة آل عمران إذ قال: )ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا

لي من دون الله...(. إن كلمة »الحكم« تعني في اللغة: المنع من أجل

اإلصالح، هذا هو األصل في ما وضعت له، ولذا سموا لجام الحيوان »حكمة« على وزن )صدقة( ثم أطلقت

هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة، ومن هنا سمي العقل والعلم حكما أيضا لهذا التناسب، وقد يقال:

( من سورة القصص أن14إنه يستفاد من اآلية ) موسى)عليه السالم( كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول: )ولما بلغ أشده واستوى

آتيناه حكما وعلما(. فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة، فكان موسى)عليه السالم( قد بلغ مرحلة منهما من

قبل، وحين بلغ مقام النبوة أدرك المرحلة األكمل!... ثم يرد موسى)عليه السالم( على كالم فرعون الذي

يمن به عليه في أنه رباه وتعهده منذ طفولته وصباه، معترضا عليه بلحن قاطع فيقول: )وتلك نعمة تمنها

علي أن عبدت بني إسرائيل(. صحيح أن يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ

إلى قصرك، ألتربى في كنفك، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم ال تربيت

في أحضان والدي وفي بيتهما؟! ألم يكن ذلك ألنك عبدت بني إسرائيل وصفدت

أيديهم بنير األسر! حتى

(11/355)

-356األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أمرت أن يقتل األطفال الذكور وتستحيا النساء

للخدمة؟!

فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سببا ألن تضعني امي في الصندوق حفاظا علي، وتلقيني في أمواج

النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق األمواج »زورقي« الصغير حتى توصله إلى قصرك... أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منتك وحرمنيمن بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوث!...

وبهذا التفسير يتضح ارتباط جواب موسى بسؤالفرعون تماما.

كما يحتمل في تفسير هذه اآلية أن مراد موسى)عليه السالم( هو اإلعتراض على فرعون بأنه

لو كانت تربيتي عندك نعمة من قبلك، فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل

البحر، فأية نعمة لك علي مع ما عندك من الظلموالجور على الناس؟!

والتفسير الثالث لجواب موسى لفرعون، هو أنه: لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة، فال تنس

بناة قصرك األوائل فهم أرقاء من قومي، والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من بني

إسرائيل، فكيف تمن علي بجهود قومي وأتعابهم؟! وهذه التفاسير الثالثة ال تتنافى جميعا، وإن كان

التفسير األول من بعض الجهات أكثر وضوحا! ويستفاد من عبارة: »من المرسلين« ضمنا بأنني

لست الوحيد المرسل من قبل الله. فمن قبلي جاء رسل عدة، وأنا واحد منهم، إال أن فرعون نسيهم أو

تناساهم!!* * *

(11/356)

-357األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

موت23قال فرعون وما رب العلمين) ( قال رب الس ( قال لمن24واالرض وما بينهما إن كنتم موقنين)

( قال ربكم ورب ءابائكم25حوله أال تستمعون) ( قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم26االولين) ( قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ27لمجنون)

( قال لئن اتخذت إلها غيرى28إن كنتم تعقلون)(29الجعلنك من المسجونين)

التفسيراإلتهام بالجنون والتهديد بالسجن:

حين واجه موسى)عليه السالم( فرعون بلهجة شديدة: وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في رده، غير فرعون مجرى كالمه، وسأل موسى عن

معنى كالمه أنه رسول رب العالمين، و )قال فرعونوما رب العالمين(..

ومن المستبعد جدا أن يكون فرعون قد سأل موسى)عليه السالم( هذا السؤال لفهم الحقيقة

ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنه سأله متجاهالومستهزئا.

(11/357)

-358األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إال أن موسى ـ على كل حال ـ لم يجد بدا كسائر

الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجد... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول

أفكار الناس، فإنه أخذ يحدثه عن آيات الله في اآلفاق وآثاره الحية إذ )قال رب السماوات واألرض

وما بينهما إن كنتم موقنين(. فالسماوات بما فيهن من عظمة، واألرض على

سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث ال تساوي أنت وقصرك بإزائها إال ذرة في مقابل

المجرة! كلها من خلق ربي، فمثل هذا الخالق المدبر لهذا العالم جدير بالعبادة، ال الموجود الضعيف التافه

مثلك!... وينبغي اإللتفات إلى أن عبدة األوثان كانوا يعتقدون

أن لكل موجود في هذا العالم ربا، وكانوا يعدون العالم تركيبا من نظم متفرقة، إال أن كالم

موسى)عليه السالم( يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل

على أن له ربا واحدا... وجملة )إن كنتم موقنين( لعلها إشارة إلى أن

موسى)عليه السالم( يريد أن يفهم فرعون ومن حوله ـ ولو تلويحا ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا

السؤال ليس إدراك الحقيقة... ألنه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدالله كافيا.. فكأنه

يقول لهم: افتحوا أعينكم قليال وتفكروا ساعة في السماوات واألرض بما فيهما من اآلثار وعجائب

المخلوقات... لتطلعوا على معالمها وتصححوانظرتكم نحو الكون!

إال أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرباني السماوي... فعاد لمواصلة اإلستهزاء والسخرية،

واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و )قاللمن حوله أال تستمعون(.

ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوة والظلم والقهر

والمال.

(11/358)

-359األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يقول ابن عباس: كان الذين حول فرعون هناك

(1خمسمائة نفر، وهم يعدون من خواص قومه.) وكان الهدف من كالم فرعون أن ال يترك كالم

موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة ألولئكالرهط... فعده كالما بال محتوى وغير مفهوم.

إال أن موسى)عليه السالم( عاد مرة أخرى إلى كالمه المنطقي دون أي خوف وال وهن وال إيهام، فواصل

كالمه و )قال ربكم ورب آبائكم األولين(. إن موسى)عليه السالم( بدأ في المرحلة األولى بـ »اآليات اآلفاقية«، وفي المرحلة الثانية أشار إلى »اآليات االنفسية«، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤالء المغرورون على

األقل في أنفسهم ويحاولوا التعرف عليها وبالتاليمعرفة من خلقها.

إال أن فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة اإلستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، فـ )قال إن

رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون(... وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى

التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الربانيين!... ومما يستجلب النظر أن هذا الضال المغرور لم يكن

مستعدا حتى ألن يقول: »إن رسولنا الذي أرسل إلينا«، بل قال: »إن رسولكم الذي أرسل إليكم«، ألن التعبير برسولكم ـ أيضا ـ له طابع االستهزاء المقترن

بالنظرة اإلستعالئية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى

بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القوي المتين لئاليترك أثرا في أفكار الحاضرين.

إال أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى)عليه السالم( ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم اإليجاد في اآلفاق واألنفس، مبينا خط التوحيد

األصيل فـ )قال--- ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل اآلية محل1

البحث.

(11/359)

-360األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون(. فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريا في أرض محدودة تدعى مصر، فإن حكومة ربي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعا، وآثاره تشرق

في وجوه الموجودات!... وأساسا فإن هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إال أن العيب

كامن فيكم، ألنكم ال تعقلون، ولم تعتادوا التفكير )وينبغي اإللتفات إلى أن جملة )إن كنتم تعقلون( هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى

إدراك هذه المسألة(. وفي الواقع إن موسى)عليه السالم( أجاب على

اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنه ليس مجنونا، وأن المجنون هو من ال يرى كل هذه اآلثار ودالئل

وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود اآلثار على باب الدار والجدار، فانه يوجد من ال يفكر في هذه

اآلثار!«. وصحيح أن موسى)عليه السالم( أشار بادىء األمر إلى تدبير أمر السماوات واألرض، إال أنه حيث أن

السماء عالية جدا، وأن األرض ذات أسرار غربية، فقد وضع موسى)عليه السالم( أخيرا إصبعه على نقطة ال يمكن ألحد إنكارها; ويواجهها اإلنسان كل يوم، وهي

نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق... وليس ألحد من البشر أن يدعي أن بيده

نظامها أبدا... والتعبير بـ »ما بينهما« إشارة إلى الوحدة واإلرتباط

في ما بين المشرق والمغرب، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات واألرض. )قال رب السماوات

واألرض وما بينهما(. ويبين التعبير )ربكم ورب آبائكم األولين( أيضا ارتباط

النسل والوحدة فيه... غير أن هذا المنطق المتين الذي ال يتزعزع غاظ

فرعون بشدة، فالتجأ إلى

(11/360)

-361األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - استعمال »حربة« يفزع إليها المستكبرون عند

اإلندحار، فجابه موسى و )قال لئن اتخذت إلها غيريألجعلنك من المسجونين(.

فأنا ال أعرف كلماتك، إنما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم باإلعدام

أو السجن!... ويعتقد بعض المفسرين أن األلف والالم في »من

المسجونين« هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص(1من ألقي فيه يبقى سجينا حتى تخرج جنازته.)

وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق االرهابي، ألن مواصلة موسى)عليه السالم(

بمثل هذه الكلمات ستكون سببا في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ

الناس!...* * *

--- ـ راجع تفسير الميزان، والفخر الرازي، وروح1

المعاني ذيل اآلية محل البحث.

(11/361)

-362األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

بين) ( قال فأت به إن كنت30قال أولو جئتك بشىء مدقين) بين)31من الص ( فألقى عصاه فإذا هى ثعبان م

( قال33( ونزع يده فإذا هى بيضآء للنظرين)32 ( يريد أن يخرجكم34للمالء حوله إن هذا لسحر عليم)

ن أرضكم بسحره فماذا تأمرون) ( قالوا أرجه35م ( يأتوك بكل36وأخاه وابعث فى المدآئن حشرين)

ار عليم) (37سحالتفسير

بالدكم في خطر: رأينا في اآليات المتقدمة كيف حافظ موسى)عليه

السالم( على تفوقه ـ من حيث المنطق ـ على فرعون، وبين للحاضرين إلى أية درجة يعول مبدؤه

على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارة يرميه بالجنون، وأخيرا

يلجأ إلى التهديد بالسجن واإلعدام!... وهنا يقلب موسى)عليه السالم( صفحة جديدة، فعليه

أن يسلك طريقة أخرى يخذل

(11/362)

-363األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوة أيضا،

القوة اإللهية التي تنبع من اإلعجاز، فالتفت إلىفرعون متحديا و )قال أو لوجئتك بشىء مبين(...

وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود... ألن موسى)عليه السالم( أشار إلى خطة جديدة!

ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن ال يعتد بكالمه، إلعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادرا على ذلك فلنرى، ونعلم

حينئذ أنه ال يمكن الوقوف امامه، وإال فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كالم

موسى ببساطة... فاضطر فرعون إلى اإلستجابة ال قتراح موسى)عليه

السالم( و )قال فأت به إن كنت من الصادقين(.)فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين( »بأمر الله«.

ثم أظهر إعجازا آخر حيث أدخل يده في جيبه )اعلى الثوب( وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة: )ونزع يده

فإذا هي بيضاء للناظرين(. في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، واألخرى مظهر األمل، فاألولى تناسب مقام اإلنذار، والثانية للبشارة! واألولى تبين

عذاب الله، واألخرى نور وآية رحمة! ألن المعجزة ينبغي أن تكون منسجمة مع دعوة النبي)عليه

السالم(. »الثعبان« معناه الحية العظيمة، ويحتمل الراغب في مفرداته أن »الثعبان« من مادة )ثعب( المأخوذ معناه من جريان الماء، ألن حركة هذا الحيوان تشبه األنهار

المتحركة!

والتعبير بـ »المبين« لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أن عصا موسى)عليه السالم(تبدلت إلى ثعبانعظيم فعال، ولم يكن في األمر من إيهام أو سحر. وال بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا، وهي أن

اآلية محل البحث عبرت ]عن تبدل العصا[ بـ »ثعبان«. أما اآلية العاشرة من

سورة النمل، واآلية الحادية

(11/363)

-364األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - والثالثون من سورة القصص، فقد عبرت عنها بـ

(األرض وما يمشي عليها من1»جان« »ما تجنه) األفاعي الصغار بسرعة وقفز«. أما اآلية العشرون

من سورة طه فقد عبرت عنها بأنها »حية«»المشتقة من الحياة«.

وهذا التفاوت أو اإلختالف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر، إال أن اإلختالف أو التفاوت إنما هو

لبيان واحد من أمرين: ـ لعله إشارة إلى حاالت ذلك الثعبان المتباينة،1

ففي البداية تبدلت العصا إلى جان أو حية صغيرة، ثمبدأت تكبر حتى صارت ثعبانا مبينا!...

ـ أو أن هذه األلفاظ الثالثة »الثعبان، والجان،2 والحية« كل منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة

في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها، والجان إشارة إلى سرعتها،

والحية إشارة إلى حياتها! غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق

في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى)عليه

السالم(، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والمأل من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد )قال للمأل حوله إن هذا

لساحر عليم(. ذلك اإلنسان الذي كان يدعوه مجنونا إلى لحظات

آنفة، وإذا هو اآلن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدة مرات، ويحاولون التشبث بأي شيء

للوصول إلى هدفهم. وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق

به وأكثر قبوال عند السامعين، ألن ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى)عليه السالم( معاجزه

فمن اليسير توجيهها بالسحر. ومن أجل أن يعبىء المأل ويثير حفيظتهم ضد

موسى)عليه السالم(، قال لهم: )يريد أن--- ـ جن يجن »من األضداد في اللغة« والضد في1

األلفاظ ما يحمل معنيين متضادين، مثل الجون يطلقعلى األسود واألبيض، وجن بمعنى ستره وأظهره.

(11/364)

-365األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟(.

والغريب في األمر أن فرعون الذي قال هذا الكالمهو الذي كان يقول من قبل: )أليس لي ملك مصر(؟!

واآلن حيث يرى عرشه متزعزعا ينسى مالكيته المطلقة لهذه األرض، ويعدها ملك الناس، فيقول

لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكممن أرضكم، ففكروا في حيلة!...

فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعدا ألن يصغي ألحد، كان اآلمر بال منازع، أما اآلن فهو في حرج

شديد يقول لمن حوله: »ماذا تأمرون«؟! إنهااستشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!...

( من سورة األعراف أن أتباع110ويستفاد من اآلية ) فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في األمر، وكانوا في حالة من اإلضطراب النفسي بحيث

كان كل منهم يسأل اآلخر قائال: وأنت ما تقول؟وماذا تأمرون؟!

أجل هذه سنة الجبابرة في كل عصر وزمان... فحين يسيطرون على األوضاع يزعمون أن كل شيء لهم،

ويعدون الجميع عبيدهم، وال يفهمون شيئا سوى منطق اإلستبداد. إال أنهم حين تهتز عروشهم

الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر، ينزلون مؤقتا عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم

الناس، فاألرض أرض الشعب، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار، فاذا هم أصحاب األمس و»عادت حليمة

إلى عادتها القديمة«. ورأينا في عصرنا بقايا السالطين القدامى كيف

يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تقبل الدنيا عليهم، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك

البالد قائلين له: اذهب في أرض الله العريضة الواسعة، ففي هذا البلد البد من تنفيذ ما نقول ال

غير. ورأينا هذه الحالة عندما بدأت هبت رياح الثورةاإلسالمية كيف

(11/365)

-366األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه، وحتى أنهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو، ولكن الناس الذينعرفوا سجيتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك.

وبعد المشاورة فيما بينهم التفت المأل من قوم فرعون إليه و )قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن

( أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع1حاشرين(.)المناطق واألمصار.

)يأتوك بكل سحار عليم(. وفي الواقع أن رهط فرعون إما أنهم غفلوا، وإما

أنهم قبلوا اتهامه لموسى واعين لألمر. فهيأوا خطة على أنه ساحر، والبد من مواجهته بسحرة أعظم منه

وأكثر مهارة!... وقالوا: لحسن الحظ إن في بالدنا العريضة سحرة

كثيرين، فالبد من جمع السحرة إلحباط سحرموسى)عليه السالم(.

وكلمة )حاشرين( مأخوذه من مادة )الحشر( ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك، وهكذا

فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهةموسى)عليه السالم( بأي ثمن كان!...

* * *--- ـ )أرجه(1

مشتقة من »اإلرجاء«، ومعناها التأخير وعدم اإلستعجال في القضاء،

والضمير في )أرجه( يعود على موسى، وأصل الكلمةكان )أرجئه( وحذفت الهمزة للتخفيف!

(11/366)

-367األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

علوم) حرة لميقت يوم م ( وقيل للناس38فجمع السجتمعون) حرة إن كانوا39هل أنتم م ( لعلنا نتبع الس

حرة قالوا لفرعون أئن40هم الغلبين ) ا جآء الس (فلم ( قال نعم وإنكم إذا41لنا الجرا إن كنا نحن الغلبين)

بين) (42لمن المقرالتفسير

اجتماع السحرة من كل مكان: في هذه اآليات يعرض مشهدا آخر من هذه القصة

المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم،

وكان الوعد المحدد )فجمع السحرة لميقات يوممعلوم(.

وبتعبير آخر: إنهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في »ميدان

العرض«... والمراد من »اليوم المعلوم« كما يستفاد من بعض

اآليات في سورة األعراف، أنه بعض أعياد أهل مصر، وقد اختاره موسى)عليه السالم( للمواجهة ومنازلة السحرة... وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع

لإلجتماع، ألنه كان مطمئنا بأنه سينتصر،

(11/367)

-368األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والمأل

من حوله للجميع، وليشرق نور اإليمان في قلوبجماعة كثيرين!...

وطلب من الناس الحضور في هذا المشهد: )وقيل للناس هل أنتم مجتمعون(وهذا التعبير يدل على أن المأمورين من قبل فرعون بذلوا قصارى جهودهم

في هذا الصدد... وكانوا يعلمون أنهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان رد الفعل سلبيا، ألن

اإلنسان يكره اإلجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم

مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا األسلوب جر الكثيرإلى حضور ذلك المشهد.

وقيل للناس: إن الهدف من هذا الحضور واإلجتماع هو أن السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار االلهة

وينبغي علينا اتباعهم: )لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين( فالبد من تهييج الساحة للمساعدة في

هزيمة عدو االلهة إلى األبد. وواضح أن وجود المتفرجين كلما كان أكثر شد من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاة ألن يبذل أقصى

جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج

إلى درجة يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحية

الطرف المواجه »الخصم« فال يدعه ينتصر! أجل إن اتباع فرعون بهذه اآلمال كانوا يرغبون أن

يحضر الناس، كما أن موسى)عليه السالم( كان يطلب ـ من الله ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد

الهائل! ليبين هدفه بأحسن وجه. كل هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان السحرة

يحلمون بالجائزة من قبل فرعون )فلما جاء السحرةقالوا لفرعون ءإن لنا ألجرا إن كنا نحن الغالبين(... وكان فرعون قلقا مضطرب البال، ألنه في طريق

مسدود، وكان مستعدا ألن

(11/368)

-369األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يمنح السحرة أقصى اإلمتيازات، لذلك فقد أجابهم

بالرضا و )قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين(. اي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال

أم الجاه، فكالهما تحت يدي!... وهذا التعبير يدل على أن التقرب من فرعون في

ذلك المحيط كان مهما إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعده أجرا عظيما، وفي الحقيقة ال أجر أعظم من أن يصل اإلنسان إلى

مقربة من القدرة المطلوبة!... فإذا كان الضالون يعدون التقرب من فرعون أعظم أجر، فإن عباد الله ال يرون أجرا أعظيم من التقرب

الى الله تعالى حتى الجنة بما فيها من النعيم المقيمال تقاس بنظرة من وجهه الكريم لهم!...

ولذلك فإن الشهداء في سبيل الله الذين ينبغي أن ينالوا أعظم األجر إليثارهم الكبير، ينالون التقرب من

الله بشهادة القرآن! والتعبير القرآني )عند ربهم(شاهد بليغ على هذه الحقيقة!...

وكذلك فإن المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادةالله، يؤديها بهدف »قربة الى الله«...

* * *

(11/369)

-370األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

لقون) ( فألقوا43قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم مة فرعون إنا لنحن حبالهم وعصيهم وقالوا بعز

( فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما44الغلبون)حرة سجدين )45يأفكون) (قالوا ءامنا46( فألقى الس

( قال48( رب موسى وهرون)47برب العلمين)ه لكبيركم الذى علمكم ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنن حر فلسوف تعلمون القطعن أيديكم وأرجلكم م الس

( قالوا الضير إنآ إلى ربنا49خلف والصلبنكم أجمعين) (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطينآ أن كنآ50منقلبون )

(51أول المؤمنين)التفسير

نور اإليمان في قلوب السحرة: حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم باألجر

والقرب منه، وشد من عزمهم، فإنهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خالل ماسخت لهم الفرصة عصيهم وحبالهم، ويظهر أنهم صيروها جوفاء

وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثال ـ بحيث تتحرك

(11/370)

-371األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -وتلمع عند شروق الشمس عليها!

وأخيرا كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخية، ففرعون وقومه من جانب، والسحرة من جانب آخر، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث، كلهم حضروا

هناك! وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من

خالل اآليات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدث عن مواجهة موسى للسحرة حيث

التفت إليهم و: )قال لهم موسى ألقوا ما أنتمملقون(.

( من سورة األعراف، أن115ويستفاد من اآلية ) موسى)عليه السالم( قال ذلك عندما سأله السحرة:

هل تلقي أنت أوال أم نلقي نحن أوال؟ وهذا اإلقتراح من قبل موسى)عليه السالم( يدل أنه

كان مطمئنا النتصاره، ودليال على هدوئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من األعداء وأتباع فرعون...

كان هذا اإلقتراح يعد أول »ضربة« يدمغ بها السحرة، ويبين فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنه

مرتبط بمكان آخر ومتصل به. وأما السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى

جهودهم النتصارهم في هذا »الميدان«، فقد كانوا مستعدين ومؤملين ألن يغلبوا موسى)عليه السالم(

)فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا(1لنحن الغالبون(.)

أجل، لقد استندوا إلى عزة فرعون كسائرالمتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!

وهنا ـ كما يبين القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العصي كأنها األفاعي والثعابين و

(2)يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى(.) وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم،

لتتغلب حسب تصورهم على--- ـ »الحبال«1

جمع »حبل« على وزن )طبل( ومعناها واضح، والعصي جمع

العصا..66 ـ سورة طه، اآلية 2

(11/371)

-372األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - عصى موسى، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوهم

وفضلهم عليه... فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحا، وأشرق األمل في عيني فرعون وأتباعه، وسروا

سرورا لم يكن ليخفى على أحد، وسرت فيهم نشوةاللذة من هذا المشهد!

إال أن موسى)عليه السالم( لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير،

فتقدم )فألقى موسى عصاه( فتحولت الى ثعبان

عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة بسرعة(1بالغة )فإذا هي تلقف ما يأفكون(.)

وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشاهم الوجوم وفغرت األفواه من الدهشة

والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد،

وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة... و تبدل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن

كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة، وألنهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن

سحرا، بل هي معجزة إلهية كبرى )فألقي السحرةساجدين(.

الطريف أن القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ »ألقي« وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير

وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنهم سقطوا علىاألرض وسجدوا دون اختيارهم...

واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقولبلسانهم فـ )قالوا آمنا برب العالمين(.

ولئال يبقى مجال لإلبهام والغموض والتردد، ولئاليفسر فرعون ذلك تفسيرا

--- ـ )تلقف(1

مشتق من )اللقف( على زنه )السقف( ومعناه إمساك الشيء بسرعة،

سواء كان ذلك باليد أم الفم، ومعلوم أن المراد هنااإلمساك بالفم واإلبتالع، و )يأفكون(

مشتق من )اإلفك(ومعناه الكذب، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.

(11/372)

-373األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -آخر فإنهم قالوا: )رب موسى وهارون(.

وهذا التعبير يدل على أنه وإن كان موسى)عليه السالم( متكفال ألمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة

السحرة، إال أن أخاه هارون كان يعاضده في األمر،وكان مستعدا لتقديم أي عون ألخيه.

وهذا التبدل والتغير المفاجيء العجيب في نفوس

السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى

أقحموا انفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية... كل ذلك لما

كان عندهم من »علم« استطاعوا من خالله أنيتركوا الباطل ويتمسكوا بالحق!

إنهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب، بل ركبوا خيول العشق، وقد سكروا من عطر أزهاره،

حتى كأنهم لم يفيقوا من سكرتهم، وسنرى أنهم لهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام تهديدات فرعون

الرهيبة... نقرأ حديثا عن الرسول)صلى الله عليه وآله وسلم(

أنه قال: »ما من قلب إال بين إصبعين من أصابع (1الرحمان، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه«)

)وبديهي أن مشيئة الله في هاتين المرحلتين تتعلق باستعداد اإلنسان، وهذا التوفيق أو سلب التوفيق

إنما هو ألجل قابلية القلوب المختلفة، وليساعتباطا(.

أما فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوما معنويا ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصة

أنه كان يعرف أي تأثير عميق إليمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة

آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و)قال آمنتم به

(2قبل أن آذن لكم(.)--- .208، ص 6 ـ تفسير في ظالل القرآن، ج 1 ( من سورة71 ـ جاء التعبير في هذه اآلية واآلية )2

طه بـ )آمنتم له( ( من سورة األعراف123وجاء التعبير في اآلية )

)آمنتم به( وكما يقول أصحاب اللغة: إن اإليمان إذا تعدى بالالم

فإنه يعني الخضوع، وإذا تعدى بالباء فإنه يعنيالتصديق!

(11/373)

-374األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لقد تربع على عرش اإلستبداد سنين طواال، ولم يكن يترقب من الناس أن ال يسجدوا أو يقوموا بعمل دون

به أن تكون قلوب الناس إذنه فحسب، بل كان ترق وأفكارهم مرهونة به وبأمره، فليس لهم أن يفكروادون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!. هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدا ألن يذكر اسم الله وال اسم موسى، بل اكتفى بالقول )آمنتم له(!

والمراد من هذا التعبير هو التحقير!! إال أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أخريين ليثبت موقعه كما يتصور أوال،

وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةنياما.

فإتهم السحرة أوال بأنهم تواطؤوا مع موسى)عليه السالم( وتآمروا على أهل مصر جميعا، فقال: )إنه

لكبيركم الذي علمكم السحر(. وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه

الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجروهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب

هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتحلوا العبيدمحلهم...

إال أنني ال أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها )فلسوف تعلمون ألقطعن أيديكم وأرجلكم من خالف والصلبنكم

أجمعين(. أي: ال أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتال

بالتعذيب والزجر بين المأل العام، وعلى جذوع النخل، )ألن قطع األيدي واألرجل من خالف يؤدي إلى

الموت البطيء، فيذوق معه اإلنسان التعذيب أكثر(. وهذه هي طريقة الجبابرة والحكام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد اإلستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين

بالحق وال يجدوا معاضدا لهم، فيزيحوهم منطريقهم.

إال أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، ألن السحرة قبللحظة ـ والمؤمنين في هذه

(11/374)

-375األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اللحظة ـ قد غمر قلوبهم اإليمان، وأضرمهم عشق

الله; بحيث لم يهزهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس

قاطع واحبطوا خطته و )قالوا ال ضير إنا إلى ربنامنقلبون(.

فأنت بهذا العمل ال تنقص منا شيئا، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت

هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربنا، وكنا، ضالين مضلين، إال أننا عثرنا اليوم على

ضالتنا )فاقض ما أنت قاض(! ثم أضافوا بأنهم واجهوا النبي موسى)عليه السالم(

من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيرا، ولكن مع ذلك فـ )إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول

المؤمنين(... إننا ال نستوحش اليوم من أي شيء، ال من تهديداتك،

وال من تقطيع األيدي واألرجل من خالف وال منالصلب على جذوع النخل.

وإذا كنا نخاف من شيء، فإنما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل اإليمان وبفضل

الله ولطفه! أية طاقة وقوة هذه التي إن وجدت في اإلنسان

صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد األمور،وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية واإليثار؟!

إنها قوة اإليمان. إنها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في

سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصير الوصالإلى المحبوب أسمى األهداف!

هذه هي القوة التي استعان بها النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وربى المسلمين األوائل عليها، وأوصل أمة جهالء متأخرة إلى أوج الفخر بسرعةمذهلة، فكانت األمة المسلمة التي اذهلت الدنيا!

إال أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غاليا وصعبا على فرعون وقومه، بالرغم من أنه طبق تهديداته ـ طبقا لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة

المؤمنون ـ إال أن ذلك لم يطفىء عواطف الناستجاه موسى فحسب، بل أثارها

(11/375)

-376األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -أكثر فأكثر!...

ففي كل مكان كانت اصداء النبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين،

وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا

بموسى ايضا. وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: كيف عبر السحرة

التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأنهم أولالمؤمنين...

هل كان مرادهم أنهم أول المؤمنين في ذلكالمشهد؟!

أو كان مرادهم أنهم أول المؤمنين من حماةفرعون؟!

أو أنهم أول المؤمنين الذين وردوا »الشهادة«.كل هذه األمور محتملة، وال تتنافى في مابينها.

وهذه التفاسير إنما تصح في صورة ما لو قلنا بأن جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا بموسى

قبل ذلك، أما لو قلنا بأنهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرة وأن يوردوا الضربة األولى

عليه، فال يبعد أن يكونوا أول المؤمنين، وال حاجةعندئذ إلى تفسير آخر.

* * *

(11/376)

-377األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

تبعون ) وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم م ( إن53(فأرسل فرعون فى المدآئن حشرين)52

(55( وإنهم لنا لغآئظون)54هؤالء لشرذمة قليلون)(فأخرجنهم من جنت وعيون)56وإنا لجميع حذرون )

(كذلك وأورثنها بنى58( وكنوز ومقام كريم )57(59إسرءيل)التفسير

مصير الفراعنة: في اآليات المتقدمة... رأينا كيف أن موسى خرج

منتصرا من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إال أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمة،

يعد كل منها انتصارا مهما: ـ آمن بنو إسرائيل بنبيهم »موسى)عليه السالم(«1

والتفوا حوله بقلوب موحدة... ألنهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيا سماويا

في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد ألن

يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر علىفرعون..

(11/377)

-378األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ لقد شق موسى)عليه السالم( طريقة وسط أهل2

مصر من األقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على األقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة

موسى في أرجاء مصر جمعاء! ـ وأهم من كل ذلك أن فرعون لم ير في نفسه3

القدرة ـ ال من جهة أفكار عامة الناس، وال من جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له عصا كهذه

العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى. هذه األمور هيأت أرضية مالئمة ألن ينشر

موسى)عليه السالم( دعوته بين الناس، ويتم الحجةعليهم!

ومرت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى)عليه السالم( يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما أشارت إليها

135 ـ 130سورة األعراف وبيناها في ذيل اآليات منها ـ إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتقون »لمزيد

اإليضاح ال بأس بمراجعة تفسير اآليات آنفة الذكر«... ولما أتم موسى على أهل مصر الحجة البالغة،

وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحي على موسى أن يخرج بقومه من مصر،

واآليات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوال:)وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنكم متبعون(.

وهذه خطة إلهية على موسى)عليه السالم( أن يمتثلها ويسري بقومه ليال، وإن على فرعون وقومهأن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.

والتعبير بـ »عبادي« بضمير اإلفراد، مع أن الفعل )أوحينا( في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع،إنما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين... وفعال امتثل موسى)عليه السالم( هذا األمر، وعبأ

بني إسرائيل بعيدا عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصة لتنفيذ أمر الله لتكون

خطته نافذة. إال أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس

هينا يسيرا يمكن

(11/378)

-379األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع

جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن

لجمع القوات: )فأرسل فرعون في المدائنحاشرين(.

بالطبع فإن في تلك الظروف، وصول إبالغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان

معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البالغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدة فورا، وتؤدي

مقدمة الجيش مهمتها، وتتبعها بقية األفواجبالتدريج...

ولتعبئة الناس ـ ضمنا ـ وتهيئة األرضية إلثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يعلن )إن هؤالء

لشرذمة قليلون(. فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه

الفئة القليلة حتما. و »الشرذمة« في األصل تعني القلة من الجماعة،

كما تعني ما تبقى من الشيء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق »شراذم«، فبناء على هذا يكون

المعنى أن هؤالء »أي موسى وقومه« باإلضافة إلى أنهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا

التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل منحيث أعداد الجيش فيهم...

ثم تضيف اآلية األخرى حاكية عن لسان فرعون )وإنهم لنا لغائظون( فمن يسقي مزارعنا غدا، ومن

يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصورغيرهم؟!

ثم إنا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: )وإنا لجميع حاذرون( ومستعدون

جميعا لمواجهتهم. وقد فسر بعضهم »حاذرون« على أنها من الحذر، بمعنى الخوف والخشية من التآمر، وفسر بعضهم

)حاذرون( على أنها من الحذر، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السالح والقوة. إال أن هذين التفسيرين ال

منافاة بينهما، فربما كان فرعون

(11/379)

-380األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضا.

ثم يذكر القرآن النتيجة اإلجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل،

فيقول: )فأخرجناهم من جنات وعيون... وكنوزومقام كريم(.

أجل )كذلك وأورثناها بني إسرائيل(. وهناك اختالف بين المفسرين في المراد من كلمة )مقام كريم(، فقال بعضهم بأنها القصور المجللة

والمساكن المظللة... وقال بعضهم بأنها المجالس المنعقدة بالحبور

والسرور والنشاط. وقال بعضهم: المراد مقام الحكام واألمراء، الذين

يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهموجنودهم يمتثلون أوامرهم...

وقال بعضهم: بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء »المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته

وجهازه فهي بمثابة أبواق إعالم له«. وبالطبع فإن المعنى األول أنسب من الجميع كما

يبدو، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعا في مفهوم اآلية...

فالمستكبرون )فرعون وقومه( أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم، كما أخرجوا من

مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.* * *

مالحظتان ـ هل حكم بنو إسرائيل في مصر؟!1

على أساس تعبير اآليات المتقدمة )كذلك وأورثناها بني اسرائيل(... فإن جمعا من المفسرين يعتقدون

أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على

(11/380)

-381األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدة.)

وظاهر اآليات المتقدمة يناسب هذا التفسير. في حين أن بعض المفسرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هالك فرعون وأتباعه،

إال أنهم بعد مدة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها(2حكومتهم.)

وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسممع هذا التفسير.

ويعتقد بعض آخر من المفسرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في

مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسىنحو بيت المقدس.

وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى)عليه السالم( وفي زمان النبي سليمان

بن داود، واآلية )كذلك وأورثناها بني إسرائيل( ناظرةإلى هذا المعنى!

إال أنه مع مالحظة أن موسى)عليه السالم( نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدا أن يترك هذه األرض التي

تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد امورها بيده فيذرها كليا دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو

فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، وال سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناء على هذا ال يخرج األمر

من أحد حالين... أما أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعا إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسما

منهم بقوا في مصر بأمر موسى)عليه السالم( واستولوا على العرش وحكموا في مصر!... وفي غير هاتين الحالين ال يتجلى مفهوم الخراج الفراعنة منها

ووراثة بني اسرائيل لها...--- ـ راجع مجمع البيان والقرطبي: ذيل اآليات محل1

البحث، كما أن األلوسي فسر هذا الموضوع في روحالمعاني تفسيرا يستحق النظر!.

ـ روح المعاني ذيل اآليات محل البحث.2

(11/381)

-382األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ ترتيب اآليات2

يشرح القرآن فيما يأتي من اآليات كيفية غرق فرعون واتباعه، وهذا األمر يدعو إلى التساوءل:

كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه »ذلك« بني

إسرائيل! ثم يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أنالترتيب الطبيعي لآليات ليس كذلك...

هذا األمر ربما يكون من قبيل بيان اإلجمال ثم

التفصيل، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوال بصورةمجملة، ثم وضحه في اآليات االخر!

كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة، ثم شرحالمقدمات »فتدبر«.

* * *

(11/382)

-383األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

شرقين) ا ترءا الجمعان قال60فأتبعوهم م (فلم إن معى61أصحب موسى إنا لمدركون) ( قال كال

( فأوحينآ إلى موسى أن اضرب62ربى سيهدين)بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)

( وأنجينا موسى ومن64( وأزلفنا ثم االخرين)63عه أجمعين) ( إن فى ذلك66( ثم أغرقنا االخرين)65م

ؤمنين) ( وإن ربك لهو67الية وما كان أكثرهم محيم) (68العزيز الر

التفسيرعاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة

في هذه اآليات يبرز المشهد األخير من قصة موسى وفرعون، وهو كيفية هالك فرعون وقومه، ونجاة

بني إسرائيل وانتصارهم! وكما قرأنا في اآليات المتقدمة فإن فرعون أرسل

المدائن حاشرين، وهيأ مقدارا كافيا من »القوة« والجيش، قال بعض المفسرين: كان ما أرسله

فرعون على أنه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل،وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل »أي

(11/383)

-384األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1مليون«.)

تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحا كما تقول اآلية األولى من اآليات محل البحث:

( فلما تراءى الجمعان قال2)فاتبعوهم مشرقين)أصحاب موسى إنا لمدركون(.

فأمامنا بحر خضم متالطم باألمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة...

هؤالء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا

األبرياء سنين طواال... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا

جميعا بحد السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا،والقرائن جميعها تدل على ذلك.

وهنا مرت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مرة اليمكن وصف مرارتها... ولعل جماعة

منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم. إال أن موسى)عليه السالم( كان مطمئنا هادىء البال،

وكان يعرف أن وعد الله في هالك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل اليتخلف أبدا ولن يخلف الله

وعده رسله!... لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال

اإلطمئنان والثقة و )قال كال إن معي ربي سيهدين(. ولعل هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه

هارون حين أمرهما بإنذار قومهما، إذ قال لهما:(3)إني معكما أسمع وأرى(.)

إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان، وخاصة تعويله في كالمه على كلمة )ربي( أي الله

المالك والمربي هذا يدل على أن موسى)عليهالسالم( كان يدري أنه

--- ـ كلمة مليون وأخواتها )مليار، بليون الخ( من1

مصطلحات العصر وهي غير عربية، وكان العربيقولون ألف ألف.

ـ قال بعض المفسرين: المراد من »مشرقين«، أن2 بني اسرائيل ساروا نحو الشرق، واتباع فرعون

وقومه باإلتجاه نفسه، ألن بيت المقدس يقع شرقمصر!

.46 ـ سورة طه، اآلية 3

(11/384)

-385األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ال يطوي هذا الطريق بخطاه، بل بلطف الله القادر

الرحيم... وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كالمه

دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: )فأوحينا

إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...(. تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر

آية رحمة ونجاة! فامتثل موسى)عليه السالم( أمر ربه فضرب البحر،

فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشق البحر )فانفلق فكان كل فرق

كالطود العظيم(! و »انفلق« مأخوذ من »الفلق« ومعناه اإلنشقاق و »فرق« من مادة »فرق« على زنة »حلق« ومعناه

اإلنفصال! وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: أن

الفرق بين )فلق( و )فرق( هو أن األول يشير إلى اإلنشقاق )أو اإلنشطار( والثاني يشير إلى

اإلنفصال، ولذا تطلق الفرقة والفرق على القطعةأو الجماعة التي انفصلت عن البقية!...

»الطود« معناه الجبل العظيم، ووصف الطودبالعظمة في اآلية تأكيد آخر على معناه.

وعلى كل حال، فإن الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات

فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر، وأمواجه، فالتحمت األمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت

ما بينها طرق سالكة، فمرت كل فرقة من بنيإسرائيل في إحدى الطرق!

إال أن فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا

عن مركب غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن:

)وأزلفنا ثم اآلخرين(...

(11/385)

-386األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضا، واتبعوا

عبيدهم القدماء الذين استرقوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية،

وأن عذاب الله سينزل فيهم! وتقول اآلية التالية: )وأنجينا موسى ومن معه

أجمعين(. وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر

الله فعادت األمواج إلى حالتها األولى فانهالت عليهم

فجأة، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كلمنهم كالقشة في وسط األمواج المتالطمة.

ويبين القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول:)ثم أغرقنا اآلخرين(...

وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة... فاألرقاء أصبحوا أحرارا، وهلك الجبابرة، وانطوت صفحة من

صفحات التأريخ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والملك

المستضعفون بعدهم. أجل )إن في ذلك آلية وما كان أكثرهم مؤمنين(

فكأن في أعينهم عمى، وفي آذانهم وقرا، وعلىقلوب أقفاال.

فحيث ال يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فال تعجب إذا أال يؤمن بك

المشركون ـ يا محمد ـ وال تحزن عليهم لعدم إيمانهم، فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيرا من

هذه المشاهد! والتعبير بـ »أكثرهم« إشارة إلى أن جماعة من قوم

فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه، ال آسية امرأة فرعون فحسب، وال رفيق موسى المخلص

المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون،بل آخرون أيضا كالسحرة التائبين مثال.

أما آخر آية من هذه اآليات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة

والالمتناهية، فتقول: )وإن ربك لهو العزيز الرحيم(.

(11/386)

-387األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك األمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، وال يحتاج أن يرسل

جنودا من مالئكة السماء إلهالك أمة جبارة... فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم

وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه!! ومن رحمته أنه ال يعجل في األمر أبدا، بل يمهل سنين طواال. ويرسل معاجزه إتماما للحجة، ومن

رحمته أن يخلص هؤالء المستعبدين من قبضةالجبابرة الظالمين.

* * *

مسائل مهمة: ـ معبر بني إسرائيل!1

ورد التعبير في القرآن مرارا عن موسى أنه عبر ( كما جاء في بعض اآليات لفظ1بقومه »البحر«)

(2»اليم« بدال من البحر.) واآلن ينبغي أن نعرف ما المراد من »البحر« و

»اليم« هنا، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر األحمر »المعروف ببحر القلزم في بعض

المصطلحات«؟ يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض

المفسرين ـ أنه إشارة إلى البحر األحمر... إال أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أن المراد منه

هو نهر النيل، ألن »البحر« كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع، واليم بهذا المعنى أيضا. فال مانع إذا من إطالق الكلمتين

على نهر النيل.وأما القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي:

--- ـ77 ـ وطه اآلية 90 ـ اقرأ في سورة »يونس: اآلية 1

، واآلية محل البحث أيضا.63والشعراء اآلية ـ40 ـ والقصص اآلية 78 ـ اقرأ سورة طه اآلية 2

.40والذاريات اآلية

(11/387)

-388األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ أن منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزا لمدن1

مصر العامرة كانت نقطة قريبة من النيل حتما... وإذا أخذنا بنظر اإلعتبار معيار محلهم الفعلي

»األهرام« أوما حولها، فإن بني إسرائيل البد لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى األرض المقدسة، ألن

هذه المنطقة تقع غرب النيل والبد لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى األرض المقدسة!

»فالحظوا بدقة«! ( من مصر1 ـ أن الفاصلة بين المناطق العامرة)2

والتي هي قريبة من النيل بالطبع، بعيدة عن البحر األحمر بحيث ال يمكن أن تطوى المسافة بينها وبين

البحر بليلة أو نصف ليلة... ويستفاد من اآليات المتقدمة بوضوح أن بني

إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليال، وطبيعي أن تكون المغادرة في الليل. أما فرعون وجيشه فقد

اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين »عند الصباح«. ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر األحمر3

حتى يصلوا األرض المقدسة، إذ كانت هناك منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس »أو ما يصطلح

عليها بقناة السويس«... إال أن نفترض أن البحر األحمر كان متصال بالبحر األبيض المتوسط في الزمن

السابق، ولم تكن هناك منطقة يابسة، وهذا الفرضغير ثابت بأي وجه!...

ـ يعبر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في »اليم«4 من سورة طه، كما يعبر عن39»من قبل أمه« اآلية

غرق فرعون وأتباعه بقوله: )فغشيهم من اليم ما من السورة ذاتها. وكلتا القضيتين78غشيهم(اآلية

في قصة واحدة وسورة واحدة أيضا )طه( وكون اللفظين مطلقين ـ )اليم( في اآلية السابقة و)اليم( في اآلية الالحقة ـ يشعر بأنهما واحد... ومع مالحظة

أن أم موسى لم تلق موسى في--- ـ العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي1

المعمورة.

(11/388)

-389األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - البحر األحمر قطعا، بل ألقته في النيل طبقا لما

تذكره التواريخ، فيعلم أن غرق فرعون وقومه كانفي النيل »فالحظوا بدقة«.

ـ كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه2 هناك بعض المفسرين ممن ال يميل إلى كون نجاة

بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزة، بل حادثة طبيعية، كما يصرون على ذلك، فوجهوا ذلك كله

بأسباب طبيعية،. لذلك قالوا: إن هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة

(1الجسور المتحركة المستعملة في العصر الحديث.) وقال بعضهم: إن موسى)عليه السالم( كان مطلعا

على طرق خاصة، وكان يمكنه العبور من البرازخ )أو الطرق الموجودة في بحر سوف( أي خليج السويس،

إلى جزيرة سيناء. وانفالق البحر ـ في اآليات محل(...2البحث ـ إشارة إلى هذا المعنى)

وقال بعضهم: من المحتمل جدا أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره، فاستطاع أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة، ولكن

عندما ورد فرعون وقومه البحر شرع المد فورافأغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا...

ولكن الحق أن أيا من هذه اإلحتماالت ال ينسجم وظاهر اآليات ـ إن لم نقل وصريح اآليات ـ ومع قبول

معاجز األنبياء الوارد بيانها مرارا في سور القرآن، وخاصة معجزة عصا موسى نفسها، فال حاجة لمثل

هذه التوجيهات... فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من قبل

موسى بالعصا بأمر الله الحاكم على قانون العلية في عالم الوجود، وتنجذب متأثرة بما فيها من سر

غامض، لتترك طريقا يبسا بينا )يمر في وسط البحر(ثم تتالشى هذه الجاذبية بعد

--- .622 ـ أعالم القرآن، ص 1 ـ المصدر السابق.2

(11/389)

-390األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - مدة، ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتالطمة!... وليس هذا استثناء في قانون العلية،

بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة، ال نعرفهالقصور علمنا أو لقلة معلوماتنا!

ـ الله عزيز رحيم3 ينبغي مالحظة هذه اللطيفة، إذ جاءت اآلية األخيرة ـ من اآليات محل البحث ـ بمثابه استنتاج لما جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما، وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه اآلية »الله« سبحانه

بالعزيز الرحيم... فالوصف األول إشارة إلى أن قدرته ال تضعف وال تقهر، والوصف الثاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعا، وخاصة بتقديم وصف

)العزيز( على )الرحيم( لئال يتوهم أن رحمته منمنطلق الضعف، بل هو مع قدرته رحيم!...

وبالطبع فإن من المفسرين من يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه، ووصفه بالرحيم

إشارة إلى انتصار أوليائه، إال أنه ال مانع أبدا أن يشمل الوصفان الطائفتين معا... ألن الجميع ينعمون

برحمته حتى المسيئون... والجميع يخافون منسطوته حتى الصالحون...

* * *

(11/390)

-391األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال البيه وقومه ما69واتل عليهم نبأ إبرهيم) (71(قالوا نعبد أصناما فنظل لها عكفين)70تعبدون )

( أو ينفعونكم أو72قال هل يسمعونكم إذ تدعون)ون) ( قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون)73يضر

ا كنتم تعبدون)74 ( أنتم وءابآؤكم75( قال أفرءيتم م رب العلمين )76االقدمون) ( فإنهم عدو لى إال

( والذى هو يطعمنى78(الذى خلقنى فهو يهدين)77 ( والذى80(وإذا مرضت فهو يشفين)79ويسقين )

(والذى أطمع أن يغفرلى81يميتنى ثم يحيين )(82خطيئتى يوم الدين)

التفسيرأعبد ربا... هذه صفاته:

كما ذكرنا في بداية هذه السورة، فإن الله يبين حال سبعة من األنبياء العظام، ومواجهاتهم أقوامهم

لهدايتهم، لتكون »مدعاة« تسلية للنبي)صلى الله عليه وآله وسلم( والمؤمنين القلة معه في عصره، وفي الوقت ذاته إنذار لجميع األعداء والمستكبرين

أيضا...

(11/391)

-392األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لذلك تعقب هذه اآليات على قصة موسى وفرعون

المليئة بالدروس لتبين قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين، وتبدأ هذه اآليات بمحاورة إبراهيم لعمه

( فتقول:1آزر))واتل عليهم نبأ إبراهيم(.

ومن بين جميع األخبار المتعلقة بهذا النبي العظيم يركز القرآن الكريم على هذا القسم: )إذقال ألبيه

وقومه ما تعبدون(؟ ومن المسلم به أن إبراهيم كان يعلم أي شيء

يعبدون، لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما

يعبدون، والتعبير بـ »ما« مبين ضمنا نوعا منالتحقير!

فأجابوه مباشرة )قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين(! وهذا التعبير يدل على أنهم يحسوا بالخجل

من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافيا أن يجيبوه: نعبد أصناما، إال أنهم أضافوا هذه العبارة:

)فنظل لها عاكفين(! التعبير بـ »نظل« يطلق عادة على األعمال التي تؤدى خالل اليوم، وذكره بصيغة الفعل المضارع

إشارة إلى اإلستمرار والدوام. كلمة »عاكفين« مأخوذة من »العكوف«، ومعناه

التوجه نحو الشيء ومالزمته باحترام، وهي تأكيد لماسبق من التعبير.

»األصنام« جمع الصنم، وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما

للعبادة، وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس... وعلى كل حال، فإن إبراهيم لما سمع كالمهم

رشقهم بنبال اإلشكال واإلعتراض بشدة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ )قالهل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون(؟!

إن أقل ما ينبغي توفره في المعبود هو أن يسمعنداء عابده، وأن ينصره في

--- ـ بينا مرارا أن لفظ »األب« يطلق في لغة العرب1

والقرآن على الوالد كما يطلق على العم، وهنااستعمل هذا اللفظ بمعناه الثاني.

(11/392)

-393األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -البالء، أو يضره عند مخالفة أمره!...

إال أن هذه األصنام ليس فيها ما يدل على أن لها أقل إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس، فهي أحجار أو فلزات »أو معادن أو خشب ال قيمة

لها! وإنما أعطتها الخرافات هذه الهالة وهذه القيمةالكاذبة!...

إال أن عبدة األصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائما، فـ

)قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون(. وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم األعمى

ألسالفهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردوا به على إبراهيم)عليه السالم(، وهو جواب

دليل بطالنه كامن فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفو أثر غيره ويصم أذنيه ويغمض عينيه، وال سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، وال

يوجد دليل على تقليدهم األعمى!... والتعبير بـ )كذلك يفعلون( تأكيد أكثر على تقليدهم، أي نفعل كما كانوا يفعلون، سواء عبدوا األصنام أم

سواها. فالتفت إبراهيم موبخا لهم ومبينا موقفة منهم و

)قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم األقدمونفإنهم عدولي إال رب العالمين(...

أجل... إنهم جميعا أعدائي وأنا معاديهم، والأسالمهم أبدا...

ومما ينبغي اإللتفات إليه أن إبراهيم الخليل)عليه السالم( يقول: »فإنهم عدو لي« وإن كان الزم هذا

التعبير أنه عدو لهم أيضا، إال أن هذا التعبير لعله ناشىء من أن عبادة األصنام أساس الشقاء والضالل

وعذاب الدنيا واآلخرة »لإلنسان«، وهذه األمور في حكم عداوتها لالنسان. أضف إلى ذلك أنه يستفاد من

آيات متعددة من القرآن أن األصنام تبرأ من عبدتهايوم القيامة وتعاديهم، وتحاججهم بأمر الله وتنفر

(11/393)

-394األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1منهم.)

واستثناء رب العالمين مع أنه لم يكن من معبوداتهم، وكما يصطلح عليه استثناء منقطع، إنما هو للتأكيد

على التوحيد الخالص. كما يرد هذا اإلحتمال وهو أن من بين عبدة األصنام

من كان يعبد الله إضافة إلى عبادة األصنام، فاستثنى إبراهيم »رب العالمين« من األصنام، رعاية لهذا

الموضوع... وذكر الضمير »هم« الذي يستعمل عادة للجمع »في

العاقلين« وقد ورد في شأن األصنام، لما ذكرناه منبيان آنفا...

ثم يصف إبراهيم الخليل رب العالمين ويذكر نعمه المعنوية والمادية، ويقايسها باألصنام التي ال تسمع

الدعاء وال تنفع وال تضر، ليتضح األمر جليا...

فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: )الذي خلقني فهو يهدين( فقد هداني في عالم التكوين،

ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية، كما هداني في عالم التشريع فأوحى إلي وأرسل إلي الكتاب

السماوي... وذكر »الفاء« بعد نعمة الخلق، هو إشارة إلى أن الهداية ال تنفصل عن الخلق أبدا، وجملة )يهدين( الواردة بصيغة الفعل المضارع، دليل واضح على استمرار هدايته، وحاجة اإلنسان إليه في جميع

مراحل عمره! فكأن أبراهيم في كالمه هذا يريد أن يبين هذه

الحقيقة، وهي إنني كنت مع الله منذ أن خلقني، ومعه في جميع األحوال، وأشعر بحضوره في حياتي،

فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما شاء!... وبعد بيان أولى مراحل الربوبية، وهي الهداية بعد

الخلق، يذكر إبراهيم الخليل)عليه السالم( النعمالمادية فيقول: )والذي يطعمني ويسقين(.

--- ـ لمزيد اإليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير اآلية )1

( من سورة مريم.82

(11/394)

-395األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أجل، إنني أرى النعم جميعا من لطفه، فلحمي

وجلدي وطعامي وشرابي، كل ذلك من بركاته!... ولست مشموال بنعمة في حال الصحة فقط، بل في

كل حال )وإذا مرضت فهو يشفين(. ومع أن المرض أيضا قد يكون من الله، إال أن إبراهيم

نسبه إلى نفسه رعاية لألدب في الكالم... ثم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع

منها... إلى الحياة الدائمة في الدار اآلخرة، ليكشف أنه على مائدة الله حيثما كان، ال في الدنيا فحسب،

بل في اآلخرة أيضا. فيقول: )والذي يميتني ثميحيين(.

أجل، إن موتي بيده وعودتي إلى الحياة مرة أخرىمنه أيضا..

وحين أرد عرصات يوم القيامة اعلق حبل رجائي علىكرمه: )والذي أطمع أن يغفرلي خطيئتي يوم الدين(.

ومما ال شك فيه أن األنبياء معصومون من الذنب،

وليس عليهم وزر كي يغفر لهم... إال أنه ـ كما قلنا سابقا ـ قد تعد حسنات األبرار سيئات المقربين

أحيانا، وقد يستغفرون أحيانا من عمل صالح ألنهم تركوا خيرا منه... فيقال عندئذ في حق أحدهم: ترك

األولى. فإبراهيم)عليه السالم( ال يعول على أعماله الصالحة،

فهي ال شيء بإزاء كرم الله، وال تقاس بنعم الله المتواترة، بل يعول على لطف الله فحسب، وهذه

هي آخر مرحلة من مراحل اإلنقطاع إلى الله!... وملخص الكالم أن إبراهيم)عليه السالم( من أجل أن يبين المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقية الله أوال،

ثم يبين بجالء مقام ربوبيته في جميع المراحل:فالمرحلة األولى مرحلة الهداية.

ثم مرحلة النعم المادية، وهي أعم من إيجادالمقتضي والظروف المالئمة أو

(11/395)

-396األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -دفع الموانع...

والمرحلة األخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار األخرى، فهناك يتجلى وجه الرب بالهبات والصفح

عن الذنوب ومغفرتها!... وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه،

من تعدد اآللهة واألرباب وينحني خضوعا للخالقالعظيم.

* * *

(11/396)

-397األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

لحين) ( واجعل لى83رب هب لى حكما وألحقنى بالص ( واجعلنى من ورثة جنة84لسان صدق فى االخرين)

آلين)85النعيم ) (86(واغفر البى إنه، كان من الض(87والتخزنى يوم يبعثون)

التفسيردعاء إبراهيم)عليه السالم(:

من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤاالته من الله، فكأنه بعد أن دعا قومه الضالين نحو الله، وبين آثار

الربوبية المتجلية في عالم الوجود... يتجه بوجهه نحو الله ويعرض عنهم، فكل ما يحتاجه فانه يطلبه من

الله، ليكشف للناس ولعبدة األصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا واآلخرة، فعليهم أن يسألوه من

الله، وهو تأكيد آخر ـ ضمني ـ على ربوبيته المطلقة. فأول ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو )رب

هب لي حكما والحقني بالصالحين(. فالمقام األول هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من

الله هو الحكم، ثم اإللحاق

(11/397)

-398األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -بالصالحين...

و »الحكم« و »الحكمة« كالهما من جذر واحد... و »الحكمة« كما يقول عنها الراغب في مفرداته: هي

الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات واألفعال الصالحة، وبتعبير آخر: هي

معرفة القيم والمعايير التي يستطيع اإلنسان بها أن يعرف الحق حيثما كان، ويميز الباطل في أي ثوب

كان، وهو ما يعبر عنه عند الفالسفة بـ »كمال القوةالنظرية«.

وهي الحقيقة التي تلقاها لقمان من ربه )ولقد آتينا ( وعبر عنها بالخير الكثير في اآلية1لقمان الحكمة(.)

( من سورة البقرة )ومن يؤت الحكمة فقد269)أوتي خيرا كثيرا(.

ويبدو أن للحكم مفهوما أسمى من الحكمة... أي إنه العلم المقترن باإلستعداد للتنفيذ والعمل، وبتعبير

آخر: إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيحالخالي من الهوى والخطأ!

أجل، إن إبراهيم)عليه السالم( يطلب من الله قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة

بالحاكمية، ألن أي منهج ال يتحقق دون هذا األساس! وبعد هذا الطلب يسأل من الله إلحاقه بالصالحين،

وهو إشارة إلى الجوانب العملية، أو كما يصطلح عليها بـ »الحكمة العملية« في مقابل الطلب السابق

وهو »الحكمة النظرية«!... وال شك أن إبراهيم)عليه السالم( كان يتمتع بمقام

»الحكم« وكان في زمرة الصالحين أيضا... فلم سألالله ذلك؟!

الجواب على هذا السؤال هو أنه ليس للحكمة حد معين، وال لصالح اإلنسان حد، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوما بعد يوم، حتى

وهو---.12 ـ سورة لقمان، اآلية 1

(11/398)

-399األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - في موقع النبوة، وأنه من أولي العزم.. ال يكتفي

بهذه العناوين... ثم ـ إضافة إلى ذلك ـ فإن إبراهيم)عليه السالم(

يعلم أن كل ذلك من الله سبحانه، ومن الممكن في أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم، لذا فهو يطلب دوامها من الله إضافة إلى التكامل،

كما أننا نخطو ونسير إن شاء الله في الصراط المستقيم، ومع ذلك فكل يوم نسأل ربنا في الصالة

أن يهدينا الصراط المستقيم، ونطلب منه التكاملومواصلة هذا الطريق!

وبعد هذين الطلبين... يطلب موضوعا مهما آخر بهذهالعبارة: )واجعل لي لسان صدق في اآلخرين(.

أي اجعلني بحال تذكرني األجيال اآلتية بخير، واجعل منهجي مستمرا بينهم فيتخذوني أسوة وقدوة لهم

فيتحركون ويسيرون في منهاجك المستقيم وسبيلكالقويم...

فاستجاب الله دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في(1القرآن الكريم: )وجعلنا لهم لسان صدق عليا(.)

وال يبعد أن يكون هذا الطلب شامال لما سأله إبراهيم الخليل ربه بعد بناء الكعبة، فقال: )ربنا وابعث فيهم

رسوال منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب(2والحكمة ويزكيهم(.)

ونعرف أن هذا الدعاء تحقق بظهور نبي اإلسالم. وذكر إبراهيم الخليل بالخير في هذه األمة عن هذا

الطريق، وبقي هذا الذكر الجميل مستمرا... ثم ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا،

ويتوجه إلى الدار اآلخرة، فيدعو بدعاء رابع فيقول:)واجعلني من ورثة جنة النعيم(.

»جنة النعيم« التي تتماوج فيها النعم المعنويةوالمادية، النعم التي ال زوال لها

---.50 ـ سورة مريم، اآلية 1.129 ـ البقرة، اآلية 2

(11/399)

-400األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وال اضمحالل... النعم التي ال يمكن أن نتصورها نحن

ـ سجناء الدنيا ـ فهي ما ال عين رأت وال أذنسمعت!...

وقلنا سابقا: إن التعبير باإلرث في شأن الجنة إما ألن معنى اإلرث الحصول على الشيء دون مشقة وعناء، ومن المسلم أن تلك النعم التي في الجنة

تقاس بطاعاتنا، فطاعاتنا بالنسبة ال تمثل شيئا إليها!... أو أن ذلك ـ طبقا لما ورد في بعض الروايات

ـ ألن كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار،فإذا دخل النار ورث اآلخرون بيته في الجنة ...

وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمه الضال، وكما وعده أنه سيستغفر له، فإنه يقول في هذا

الدعاء: )واغفر ألبي إنه كان من الضالين(. ( من سورة114وهذا الوعد هو ما صرحت به اآلية )

التوبة إذ تحكي عنه )وما كان استغفار إبراهيم ألبيه إال عن موعدة وعدها إياه(! وعده من قبل، وكان

هدفه أن ينفذ إلى قلبه عن هذا الطريق، وأن يجره إلى طريق اإليمان، لذلك قال له مثل هذا القول

وعمل به أيضا... وطبقا لرواية عن ابن عباس أن إبراهيم)عليه السالم(استغفر لعمه آزر مرارا، إال أنه حين غادر آزر الدنيا كافرا وثبت عداؤه للدين الحق، قطع إبراهيم استغفار عن عمه، كما نرى في ذيل

اآلية النص التالي: )فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه(.)1)

وأخيرا فإن دعاءه السادس من ربه في شأن يوم التغابن، يوم القيامة، بهذه الصورة )وال تخزني يوم

يبعثون(. )وال تخزني(، مأخوذ من مادة )خزي( على زنة )حزب(

وكما يقول الراغب في مفرداته، معناه الذلواإلنكسار الروحي الذي يظهر على وجه اإلنسان من

--- سورة114 ـ لمزيد اإليضاح يراجع تفسير اآلية 1

التوبة.

(11/400)

-401األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الحياء المفرط، أو من جهة اآلخرين حين يحرجونه

ويخجلونه! وهذا التعبير من إبراهيم، باإلضافة إلى أنه درس

لآلخرين، هو دليل على منتهى اإلحساس بالمسؤوليةواإلعتماد على لطف الله العظيم.

* * *

(11/401)

-402األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

من أتى الله بقلب88يوم ال ينفع مال وال بنون) ( إالزت90(وأزلفت الجنة للمتقين)89سليم ) ( وبر

(وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون)91الجحيم للغاوين ) (93( من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون)92

(وجنود إبليس94فكبكبوا فيها هم والغاون ) (تالله إن96( قالوا وهم فيها يختصمون )95أجمعون)

بين) ( إذ نسويكم برب العلمين )97كنا لفى ضلل م المجرمون)98 ( فما لنا من شفعين)99(ومآ أضلنآ إال

ة فنكون101( وال صديق حميم)100 ( فلو أن لنا كر ( إن فى ذلك الية وما كان أكثرهم102من المؤمنين)

ؤمنين) حيم)103م (104( وإن ربك لهو العزيز الرالتفسير

الخصام بين المشركين ومعبوداتهم: أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة

ومسألة المعاد... أما في هذه اآليات فنلحظ تصويريوم القيامة ببيان جامع، كما نالحظ فيها أهم المتاع

(11/402)

-403األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »في تلك السوق«، وعاقبة المؤمنين وعاقبة

الكافرين والضالين وجنود إبليس، ويدل ظاهر اآليات أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كالم إبراهيم الخليل، وأنه ختام دعائه ربه، وهكذا يعتقد ـ أيضا ـ

أغلب المفسرين... وإن كان هناك من يحتمل أنه هو من كالم الله، وأن اآليات محل البحث هي منه

سبحانه جاءت مكملة لكالم إبراهيم)عليه السالم(وموضحة له، إال أن هذا اإلحتمال يبدو ضعيفا!...

وعلى كل حال، فأول ما تبدأ به هذه اآليات هو )يومال ينفع مال وال بنون(.

وفي الحقيقة إن هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا »المال والبنون« ليس فيهما أدنى نفع

لصاحبهما يوم القيامة، وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبة من األمور الدنيوية ـ من باب أولى ـ

ال نفع فيه، وال فائدة من ورائه! وبديهي أن المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما

يكون ـ من المال والبنين ـ في مرضاة الله، بل المراد منه اإلستناد إلى األمور المادية، فالمراد إذا

هو أن هذه الدعامات المادية ال تحل معضال في ذلك اليوم ... أما لو كان أى من البنين والمال في مرضاة الله فلن يكون ذلك ماديا.. إذ يصطبغ بصيغة الله ويعد

من »الباقيات الصالحات«!... ثم يضيف القرآن في ختام اآلية، على سبيل

اإلستثناء )إال من أتى الله بقلب سليم( . وهكذا يتضح أن أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم، وياله من تعبير رائع جامع، تعبير

يتجسد فيه اإليمان والنية الخالصة، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم ال يكون لمثل هذا

القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟! وبتعبير آخر: كما أن قلب اإلنسان وروحه يؤثران في

أعماله، فإن أعماله لها أثر واسع في القلب أيضا،سواء كانت أعماال رحمانية أم شيطانية!...

(11/403)

-404األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ثم يبين القرآن الجنة والنار بالنحو التالي فيقول:

(وبرزت الجحيم للغاوين(.1)وأزلفت الجنة للمتقين)أي الضالين

وهذا األمر ـ في الحقيقة ـ قبل ورود كل من أهل الجنة والنار إليهما! فكل طائفة ترى مكانها من قريب.. فيسر المؤمنون ويستولي الرعب على

الغاوين، وهذا أول جزائهما هناك! الطريف هنا أن القرآن ال يقول: اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة، بل يقول: )وأزلفت الجنة

للمتقين( وهذا يدل على مقامهم الكريم وعظم

شأنهم!... كما ينبغي اإلشارة إلى هذه اللطيفة، وهي أن التعبير

بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة الشيطان، إذ طرده الله عن ساحته المقدسة فقال له: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إال من اتبعك من

(2الغاوين(.) ثم يتحدث القرآن عن مالمة هؤالء الضالين، وما يقال

لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب، فيقول: )وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله( فهل

يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها، أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة

(...3)هل ينصرونكم أو ينتصرون() إال أنهم ال يملكون جوابا لهذا السؤال! كما ال يتوقع

أحد منهم ذلك!... )فكبكبوا فيها هم والغاوون(. كما يقول بعض المفسرين: إن كال منهم سيلقىعلى اآلخر يوم القيامة! )وجنود إبليس أجمعون(.

وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثالث، األصناموالعابدين لها وجنود إبليس

--- ـ أزلفت1

: فعل مشتق من )الزلفى(على وزن )كبرى( ومعنى الفعل »قربت«.

.42 ـ سورة الحجر، اآلية 2 ـ قد يكون المراد من »ينتصرون«3

هو أن يطلبوا العون والنصر ألنفسهم أو لغيرهم... أو مجموعهما، الننا سنالحظ في اآليات المقبلة أن

العبدة ومعبوديهم يساقون إلى النار.

(11/404)

-405األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الدالين على هذا اإلنحراف، يساقون جميعا إلى

النار... ولكن بهذه الكيفية... وهي أن تلقى الفرق فرقة بعد أخرى في النار. ألن »كبكبوا« في األصل

مأخوذة من )كب(، و )الكب( معناه إلقاء الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها، وتكراره »كبكب«

يؤدي هذا المعنى من السقوط، وهذا يدل أنهم حين يلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من

أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل، فهي تصل أوال نقطة ما في الوادي ثم تتدحرج إلى نقاط أخر حتى

تستقر في القعر!. إال أن الكالم ال يقف عند هذا الحد، بل يقع النزاع

والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثالث، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا، فيقول: )قالوا وهم فيها

يختصمون(. أجل... إن العبدة الضالين الغاوين يقسمون بالله

( إذ1فيقولون: )تالله إن كنا لفي ضالل مبين)( وما أضلنا إال المجرمون(...2نسويكم برب العالمين)

المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا، فأضلونا حفظا لمنافعهم، وجرونا إلى

طريق الشقوة والغواية... كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو االسالف الضالين

الذين جروهم إلى هذه العاقبة الوخيمة.)فيما لنا من شافعين وال صديق حميم(...

والخالصة أن األصنام ال تشفع لنا كما كنا نتصور ذلكفي الدنيا، وال يتأتى ألي صديق أن يعيننا هنالك...

ومما ينبغي اإللتفات إليه، أن كلمة )شافعين( جاءت في اآلية السابقة بصيغة الجمع كما ترى، إال أن كلمة

)صديق( جاءت بصيغة اإلفراد، ولعل منشأ هذا التفاوت واإلختالف، هو أن هؤالء الضالين يرون بأم

أعينهم المؤمنين الجانحين--- ـ )إن كنا(1

مخففة من )إنا كنا(... ـ يحتمل أن تكون )إذ(2

هنا للظرفية، كما يحتمل أن تكون تعليلية...

(11/405)

-406األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يشفع لهم األنبياء واألوصياء أو المالئكة وبعض

األصدقاء الصالحين، فأولئك الضالون يتمنونالشافعين أيضا، وأن يكون عندهم صديق هنالك!...

إضافة إلى ذلك فإن كلمتي )الصديق( و )العدو( كما يقول بعض المفسرين، تطلقان على المفرد والجمع

أيضا... إال أنهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المر، إذ ال جدوى هناك للحسرة وال مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم، فيتمنون العودة إلى دار

الدنيا... ويقولون: )فلو أن لنا كرة فنكون منالمؤمنين(...

وصحيح أنهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون بربهم، إال أن هذا اإليمان نوع من اإليمان

اإلضطراري غير المؤثر، وليس كااليمان اإلختياري، وفي هذه الدنيا حيث يكون أساسا للهداية والعمل

الصالح. ولكن ال يحقق هذا التمني شيئا، وال يحل معضال، ولن

تسمح سنة الله بذلك، وهم يدركون تلك الحقيقة،(...1ألنهم يتفوهون بكلمة »لو«)

وأخيرا بعد اإلنتهاء من هذا القسم من قصة إبراهيم، وكلماته مع قومه الضالين، ودعائه ربه، ووصفه ليوم

القيامة، يكرر الله آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعا، وهاتان اآليتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون، كما وردتا في قصص األنبياء اآلخرين من

السورة ذاتها فيقول: )إن في ذلك آلية وما كانأكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم(...

وتكرار هاتين اآليتين، هو للتسرية عن قلب النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( وتسليته ومن معه

من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئال يستوحشوا في الطريق من قلة أهله

وكثرة األعداء... وليطمئنوا إلى رحمة الله وعزته، كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين.

وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم الله إمهاال فليس ذلك عن ضعف منه

سبحانه، بل هو من رحمته وكرمه!--- ـ تعد )لو(1

من حروف الشرط ـ وعادة ـ تستعمل حينما يكونالشرط محاال...

(11/406)

-407األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مالحظات

ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة1 في اثناء كالم إبراهيم الخليل)عليه السالم( قرأنا

ضمن ما ساقته اآليات المتقدمة من تعابير في وصف القيامة، أنه ال ينفع في ذلك اليوم شيء )إال من أتى

الله بقلب سليم(.

)السليم( مأخوذ من السالمة، وله مفهوم واضح، وهو السالم والبعيد من أي انحراف أخالقي وعقائدي، أو

أي مرض آخر!... ترى... ألم يقل الله القرآن في شأن المنافقين )في

(1قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا(.) ونالحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من األحاديث

الغزيرة المعنى. ـ ففي حديث عن اإلمام الصادق)عليه السالم( ـ1

( ـ يقول فيه: »وكل قلب فيه2ذيل اآلية محل البحث)شرك أو شك فهو ساقط«.

ـ ونعلم من جهة أخرى أن العالئق المادية الشديدة2 وحب الدنيا... كل ذلك يجر اإلنسان إلى كل انحراف

(.3وخطيئة، ألن »حب الدنيا رأس كل خطيئة«) ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من حب

الدنيا، كما ورد هذا المضمون في حديث لإلمام الصادق)عليه السالم( ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول:

(4»هو القلب الذي سلم من حب الدنيا«.) ( من سورة البقرة إذ197ومع اإللتفات إلى اآلية )

تقول: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى( ... يتضح أنالقلب السليم هو القلب الذي يكون محال لتقوى الله.

---.10 ـ سورة البقرة، اآلية 1 ـ راجع مجمع البيان ذيل اآليات محل البحث.2 .239، ص 70 ـ بحار األنوار، ج 3 ـ تفسير الصافي في ذيل اآلية محل البحث.4

(11/407)

-408األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أن القلب السليم هو القلب3

الذي ليس فيه سوى الله، كما يجيب اإلمام الصادق)عليه السالم( على سؤال في هذا الشأن

فيقول: »القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه(1أحد سواه«.)

وال يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه المواردهو روح اإلنسان ونفسه.

وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات اإلسالمية تتحدث حول سالمة القلب واآلفات التي تصيبه،

وطريق مبارزتها ومكافحتها، ويستفاد من مجموع هذا المفهوم اإلسالمي المتين أن اإلسالم يهتم قبل

كل شيء باألساس الفكري والعقائدي واألخالقي، الن جميع المناهج التطبيقية والعملية لإلنسان هي

إنعكاسات لذلك األساس وآثاره!... فكما أن سالمة القلب الظاهرية سبب لسالمة

الجسم، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعا، ألن تغذية الخاليا في البدن تتم بواسطة الدم الذي يتوزع

ويرسل إلى جميع األعضاء بإعانة القلب على هذه المهمة... فكذلك هي الحال بالنسبة لسالمة مناهج

حياة اإلنسان وفسادها، كل ذلك انعكاس عن سالمةالعقيدة واألخالق أو فسادهما...

ونختتم هذا البحث بحديث عن اإلمام الصادق)عليه السالم( إذ قال: »إن القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر

أجرد; »أجرد من غير الله« إلى أن قال)عليه السالم(: وأما األزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر

وإن ابتاله صبر. وأما المنكوس فقلب المشرك )أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم( فإن القلب الذي فيه إيمان

ونفاق، فهم قوم كانوا بالطائف، فإن أدرك أحدهمأجله على نفاقه هلك، وإن أدركه على إيمانه نجا«.)

2) ـ وجاء في الروايات متعددة عن اإلمامين الصادقين2

)أبي جعفر وأبي--- ـ الكافي... طبقا لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل1

اآلية محل البحث. طـ الرابعة، باب في422 ص 2 ـ أصول الكافي ج 2

ظلمة قلب المنافق.

(11/408)

-409األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - عبد الله)عليهما السالم(( في تفسير )فكبكبوا فيها

هم والغاوون( قولهما: »هم قوم وصفوا عدال(1بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره«.)

وهذا الحديث يدل على أن القول بال عمل قبيح ومذموم جدا، إذ يلقي أصحابه في النار، فأولئك قوم

ضالون مضلون، وكالمهم يهدي، الناس إلى الحق، بينما عملهم يجرهم إلى الباطل، بل إن عملهم

كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم!

وينبغي اإللتفات ـ ضمنا ـ إلى أن كلمة »غاوون« المأخوذة من »الغي« ال تعني الضالل مطلقا، بل كما

يقول الراغب في المفردات: هو نوع من الجهلوالضالل الناشيء عن فساد العقيدة.

ـ وردت في ذيل اآلية )فما لنا من شافعين وال3 صديق حميم( روايات متعددة، وبعضها صريحة في(2أن: »الشافعون األئمة والصديق من المؤمنين«.)

وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله األنصاري أنه سمع رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(

يقول: »إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فالن؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله: أخرجوا له

صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي في النار: فما لنا(3من شافعين وال صديق حميم«.)

وبديهي أنه ال الشفاعة بدون معيار ومالك، وال السؤال في شأن الصديق دون حساب، فال بد من وجود ارتباط أو عالقة بين الشفيع والمشفوع له

ليتحقق هذا الهدف... »بينا تفصيل هذا الموضوع في من سورة البقرة48بحث الشفاعة، في تفسير اآلية

ـ فليراجع في محله«.* * *

--- ـ نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن1

أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم، والمحاسنللبرقي.

ـ المحاسن للبرقي. ذيل اآلية محل البحث.2 ـ مجمع البيان ذيل اآلية.3

(11/409)

-410األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال لهم أخوهم105كذبت قوم نوح المرسلين) (107( إنى لكم رسول أمين)106نوح أال تتقون)

(ومآ أسئلكم عليه من أجر108فاتقوا الله وأطيعون ) على رب العلمين ) (فاتقوا الله109إن أجرى إال

( قالوا أنؤمن لك واتبعك االرذلون)110وأطيعون) ( إن112( قال وما علمى بما كانوا يعملون)111

على ربى لو تشعرون) 113حسابهم إال ( ومآ أنابين)114بطارد المؤمنين) نذير م (115( إن أنا إال

التفسير

يا نوح، لم يحف بك األرذلون؟! يتحدث القرآن الكريم بعد اإلنتهاء مما جرى إلبراهيم

وقومه الضالين، عن قوم نوح)عليه السالم( حديثا للعبرة واإلتعاظ... فيذكر عنادهم وشدتهم في موقفهم من نوح)عليه السالم( وعدم حيائهم

وعاقبتهم األليمة ضمن عدة آيات... فيقول أوال:)كذبت

(11/410)

-411األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1قوم نوح المرسلين(.)

وواضح أن قوم نوح إنما كذبوا نوحا فحسب... ولكن لما كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث األصول، فقد عد تكذيب نوح تكذيبا للمرسلين جميعا... ولذا

قال القرآن )كذبت قوم نوح المرسلين(. كما ويحتمل أن قوم نوح أساسا كانوا منكرين لجميع

األديان والمذاهب، سواء قبل ظهور نوح أو بعده... ثم يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة

نوح)عليه السالم(، الذي سبق أن أشار إليه في كالمه حول إبراهيم وموسى)عليهما السالم(، فيقول: )إذ

قال لهم أخوهم نوح أال تتقون(... والتعبير بكلمة »أخ« تعبير يبين منتهى المحبة

والعالقة الحميمة على أساس المساواة... أي أن نوحا دون أن يطلب التفوق واإلستعالء عليهم، كان

يدعوهم إلى تقوى الله في منتهى الصفاء. والتعبير باألخوة لم يرد في شأن نوح في القرآن فحسب، بل جاء في شأن كثير من األنبياء، كهود

وصالح ولوط، وهو يلهم جميع القادة واألدالء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة

المقرونة باإلجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوسنحو مذهب الحق، وال يستثقله الناس!...

وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: )إني لكم رسول أمين

فاتقوا الله وأطيعون( فإن إطاعتي من إطاعة اللهسبحانه...

وهذا التعبير يدل على أن نوحا)عليه السالم( كانت لهصفة ممتدة من األمانة بين قومه،

---

ـ تأنيث لفظ )كذبت(1ألن )قوم(

في معنى الجماعة، والجماعة فيها تأنيث لفظي...وقال بعضهم: إن كلمة )قوم(

بذاتها مؤنثة، ألنهم قالوا في تصغيرها »قويمة« نقل الوجه األول الطبرسي في مجمع البيان، ونقل

الوجه الثاني الفخر الرازي في تفسيره... إال أن »اآللوسى« قال في روح المعاني: إن لفظ »قوم«

يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء...

(11/411)

-412األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية، فهو يقول

لهم: )إني لكم رسول أمين( ولهذا فإني أمين أيضافي أداء الرسالة االلهية، ولن تجدوا خيانة مني أبدا...

وتقديم التقوى على اإلطاعة، ألنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بالله وخشية منه، فلن تتحقق اإلطاعة

لنبيه... ومرة أخرى يتمسك نوح)عليه السالم( بحقانية

دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: )وما أسألكم عليه من أجر

إن أجري إال على رب العالمين(. ومعلوم أن الدوافع اإللهية ـ عادة ـ دليل على صدق

مدعي النبوة، في حين أن الدوافع المادية تدل بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة،

وال سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا يعرفون هذهالمسألة في شأن الكهنة وأضرابهم...

ثم يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول:

)فاتقوا الله وأطيعون(... إال أن المشركين الحمقى، حين رأوا سبل ما تذرعوا

به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة،فـ )قالوا أنؤمن لك وأتبعك األرذلون(.

إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من األتباع، وبعبارة أخرى »إن الولي يعرف من زواره ـ كما يقال« فحين نالحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنة من األراذل والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك االثرياء األغنياء

الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!

وصحيح أنهم كانوا صادقين ومصيبين في أن الزعيم يعرف عن طريق أتباعه، إال أن خطأهم الكبير هو

عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة واأللبسة

والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق،

والصفات العليا

(11/412)

-413األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لإلنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلة من

االشراف. إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ

أشكالها، ولذلك كانوا يسمون الفقراء الحفاةباألراذل.

و »األراذل« جمع )أرذل( كما أنه جمع )للرذل( ومعناه الحقير... ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع

الطبقي، ألدركوا جيدا أن إيمان هذه الطائفة نفسهادليل على حقانية دعوة النبي وأصالتها!

إال أن نوحا)عليه السالم( جابههم وردهم بتعبير متين، وجردهم من سالحهم و )قال وما علمي بما

كانوا يعملون(. فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنهم اليوم

استجابوا لدعوة النبي، وقالوا له: لبيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحق من أن ينفذ إلى

قلوبهم!... وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحا أو

طالحا، فلست محاسبا وال مسؤوال عنهم آنئذ )إنحسابهم إال على ربي لو تشعرون(.

ويستفاد من هذا الكالم ـ ضمنا ـ أنهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤالء الطائفة من المؤمنين، باإلضافة إلى

خلو أيديهم، بسوء سابقتهم األخالقية والعملية، مع أن الفساد واإلنحراف الخلقي عادة في المجتمعات

المرفهة أكثر من سواها بدرجات... فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد، وهم سكارى المقام

والمال، وقل أن يكونوا من الصالحين. إال أن نوحا)عليه السالم( ـ دون أن يصطدم بهم في

مثل هذه األمور ـ يقول: ما علمي بهم وبما كانوا يعملون، فإذا كان األمر كما تزعمون فإنما حسابهم

على ربي لو تشعرون! وإنما علي أن أبسط جناحي لجميع طالب الحق )وما

أنا بطارد المؤمنين(. وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤالء المثرين األغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من

نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله، ليتقربوا

(11/413)

-414األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد أولئك الفقراء...

ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذرالناس فحسب )إن أنا إال نذير مبين(.

فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضالله، فهو من أتباعي كائنا من كان، وفي أي

مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي! ومما ينبغي اإللتفات إليه أن هذا اإليراد لم يتعرض له

نوح النبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب، بل ووجه الى النبي محمد)صلى الله عليه

وآله وسلم( وسائر األنبياء به، فاألغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤالء

الفقراء البيضاء، فيرونها سوداء، فيطلبون طردهم دائما. ولم يقبلوا برب وال نبي يتبعه مثل هؤالء العباد

الفقراء!... إال أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة

الكهف، إذ يقول: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وال تعد عيناك

عنهم تريد زينة الحياة الدنيا وال تطع من أغفلنا قلبهعن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا(.

وهذا اإليراد أو اإلشكال يوردونه حتى على قادة الحق واألدالء على الهدى في كل عصر وزمان، وهو أن

معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون. إنهم يريدون أن يعيبوا بكالمهم هذا الرسالة

والمذهب، مع أنهم من حيث ال يشعرون، يمدحونويطرون ذلك المذهب ويوقعون على أصالته.

* * *

(11/414)

-415األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

(116قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين) ( فافتح بينى وبينهم117قال رب إن قومى كذبون)

نى ومن المؤمنين) عه118فتحا ونج ( فأنجينه ومن م( ثم أغرقنا بعد الباقين)119فى الفلك المشحون)

ؤمنين)120 (121( إن فى ذلك الية وما كان أكثرهم محيم) (122وإن ربك لهو العزيز الر

التفسيرنجاة نوح وغرق المشركين:

كان رد فعل هؤالء القوم الضالين في مواجهة نبيهم نوح)عليه السالم(، هو منهج المستكبرين على امتداد

التاريخ وهو اإلعتماد على القوة والتهديد بالموت والفناء: )قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من

المرجومين(. والتعبير بـ »من المرجومين« يدل على أن الرجم بالحجارة بينهم كان جاريا في شأن المخالفين...

وفي الحقيقة إنهم يقولون لنوح: إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد... واإلستمرار على عقيدتك

ودينك، فستنال ما يناله المخالفون

(11/415)

-416األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ عامة ـ وهو الرجم بالحجارة، الذي يعد واحدا من

(1أسوأ أنواع القتل.) ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها

من منطق بين... وبما يقترن بها من إصطبار، لم تؤثر إال في جماعة قلة آمنوا به... شكا إلى ربه

أخيرا، وضمن بيان حاله، سأل ربه أن ينجيه من قبضة الظالمين، وأن يبعده عنهم... إذ )قال رب إن قومي

كذبون(. وصحيح أن الله مطلع على كل شيء، إال أنه لبيان

الشكوى وتمهيدا للسؤال التالي، يذكر نوح مثل هذاالكالم.

ومما يلفت النظر أن نوحا لم يشتك من المصائب التي أبتلي بها، بل اشتكى من تكذيب قومه إياه

فحسب، إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته االلهيةلهدايتهم...

ثم يلتفت إلى ربه فيقول: واآلن حيث لم يبق طريق

لهداية هؤالء القوم فاقض بيننا وافصل بيني وبينهم:)فافتح بيني وبينهم فتحا(.

»الفتح« معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعماالن... فتارة يستعمل في القضايا المادية

كفتح الباب مثال، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهم ورفع الغم، وكفتح المستغلق من العلوم،

وفتح القضية، اي بيان الحكم حسم النزاع!ثم يضيف فيقول: )ونجني ومن معي من المؤمنين(. وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة الله نوحا، وإهالك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: )فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون( اي المليء بالناس

وانواع الحيوانات )ثم أغرقنا بعد الباقين(... »المشحون« مأخوذ من مادة )شحن( على وزن

)صحن( ومعناه الملء، وقد--- ـ »الرجم«1

مأخوذ من )رجام( على وزن )كتاب( وهو جمع )رجمة( على وزن )لقمة( ومعناها القطعة من الحجر

التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة األوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى

القتل، كما يأتي أحيانا بمعنى القتل بأي شكل كان،ألن القتل كان بالحجر سابقا.

(11/416)

-417األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يستعمل بمعنى التجهيز... و»الشحناء« تطلق على

العداوة التي تستوعب جميع جوانب اإلنسان، والمرادمن »المشحون« هنا هو أن ذلك الفلك

]أي السفينة[ كان مملوءا من البشر وجميع الوسائل... ولم يكن فيه أي نقص... إي أن الله بعدما

جهز السفينة وأعدها للحركة، أرسل الطوفان لئال يبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع

األذى... وهذا بنفسه إحدى نعم الله عليهم! وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما

قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم)عليهما السالم(، فيكرر قوله: )إن في ذلك آلية( أي في ما جرى لنوح)عليه السالم( ودعوته المستمرة وصبرهونجاته وغرق مخالفيه )وما كان أكثرهم مؤمنين(.

ولهذا فال تحزن يا رسول الله من إعراض المشركين

وعنادهم، واستقم كما أمرت... فإن عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من

قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.)و( اعلم )إن ربك لهو العزيز الرحيم(.

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتم عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك

عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خسرا!...* * *

(11/417)

-418األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال لهم أخوهم هود123كذبت عاد المرسلين) ( فاتقوا125(إنى لكم رسول أمين)124أال تتقون )

( ومآ أسئلكم عليه من أجر إن126الله وأطيعون) على رب العلمين) ( أتبنون بكل ريع ءاية127أجرى إال

( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون )128تعبثون) ( فاتقوا الله130(وإذا بطشتم بطشتم جبارين)129

(132(واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون)131وأطيعون ) ( إنى134(وجنت وعيون)133أمدكم بأنعم وبنين )

(135أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)التفسير

جنايات عاد واعمالهم العدوانية: واآلن يأتي الكالم عن »عاد« قوم »هود« إذ يعرض القرآن جانبا من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها مندروس العبر، ضمن ثماني عشرة آية من آياته!...

»عاد« ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في »األحقاف«، وهي منطقة في حضرموت تابعة لليمن،

تقع جنوب الجزيرة العربية...

(11/418)

-419األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1فيقول القرآن: )كذبت عاد المرسلين(.)

بالرغم من أنهم كذبوا هودا فحسب، إال أنه لما كانت دعوة هود هي دعوة األنبياء جميعا، فكأنهم كذبوا

األنبياء جميعا... وبعد ذكر هذا اإلجمال يقع التفصيل، فيتحدث القرآن

عنهم فيقول: )إذ قال لهم أخوهم هود أال تتقون(.

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبر عنه القرآن

بكلمة »أخوهم«... ثم أضاف قائال: )إني لكم رسول أمين( وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإني

لم أخنكم أبدا... ولم تجدوا مني غير الصدقوالحق!...

ثم يضيف مؤكدا: لما كنتم تعرفونني جيدا )فاتقوا الله وأطيعون( ... ألن إطاعتكم إياي إطاعة لله

سبحانه... وال تتصوروا بأني أدعوكم ألنتفع من وراء دعوتي إياكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه،

فلست كذلك )وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إال على رب العالمين(... فجميع النعم والبركات من قبله

سبحانه، وإذا أردت شيئا طلبته منه، فهو ربالعالمين جميعا...

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة»هود« في قومه إلى أربعة أمور على الترتيب... فاألمر األول: هو محتوى دعوة »هود« الذي يدور حول توحيد الله وتقواه، وقرأنا ذلك بجالء في ما

مضى من اآلي... أما األمور الثالثة األخر فيذكرها القرآن حاكيا عن لسان هود في ثوب اإلستفهام اإلنكاري، فيقول:

)أتبنون بكل ريع آية تعبثون(.--- ـ لما كانت »عاد«1

قبيلة، وتتألف من جماعة من الناس أنث الفعل كمايرى، فجاء )كذبت عاد(

ألن لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان...

(11/419)

-420األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - »الريع« في األصل يطلق على المكان المرتفع، أما كلمة )تعبثون( فمأخوذ من »العبث«، ومعناه العمل بال هدف صحيح، ومع مالحظة كلمة )آية( التي تدل

على العالمة يتضح معنى العبارة بجالء... وهو أن هؤالء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال

والمرتفعات األخر مباني عالية للظهور والتفاخرعلى اآلخرين، وهذه المباني

]كاألبراج وما شاكلها[ لم يكن من روائها أي هدف

سوى لفت أنظار اآلخرين، وإظهار قدرتهم وقوتهم ـمن خاللها ـ !!

وما قاله بعض المفسرين من أن المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت تبنى على

المرتفعات، وكانت مركزا للهو واللعب، كما هو جار في عصرنا بين الطغاة... فيبدو بعيدا، ألن هذا التعبير

ال ينسجم مع كلمتي )اآلية( و)العبث(. كما أن هناك احتمال ثالث ذكره بعض المفسرين،

وهو أن عادا كانت تبني هذه البنايات لالشراف على الشوارع العامة، ليستهزئوا منها بالمارة، إال أن

التفسير األول يبدو أكثر صحة من سواه... وأما األمر الثالث الذي ذكره القرآن حاكيا على لسان

هود منتقدا به قومه، فهو قوله: )وتتخذون مصانعلعلكم تخلدون(.

»المصانع« جمع »مصنع« ومعناه المكان أو البناء المجلل المحكم، والنبي هود ال يعترض عليهم ألن لديهم هذه البنايات المريحة المالئمة، بل يريد أن

يقول لهم: إنكم غارقون في أمواج الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في

القصور حتى نسيتم الدار اآلخرة!... فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر، بل اتخذتموها دار مقر دائم

لكم... أجل، إن مثل هذه المباني التي تذهل أهلها،

وتجعلهم غافلين عن اليوم اآلخر، هي ال شكمذمومة!

و في بعض الروايات عن أنس بن مالك أن رسولالله)صلى الله عليه وآله وسلم( خرج فرأى قبة

(11/420)

-421األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من

األنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل

الغضب به وباالعراض عنه، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إلي ألنكر رسول الله)صلى الله عليه

وآله وسلم(ما أدرى ما حدث في وما صنعت؟ قالوا: خرج رسول الله فرأى قبتك فقال: لمن هذه؟

فأخبرناه، فرجع الى قبته فسواها باألرض، فخرج رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم( ذات يوم فلم

ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه

فهدمها فقال)صلى الله عليه وآله وسلم(: »إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إال ما البد

(1منه«.) ويعرف من هذه الرواية وما شابهها من الروايات

نظر اإلسالم بجالء، فكل بناء »طاغوتي« مشيد باإلسراف والبذخ ومستوجب للغفلة... يمقته

اإلسالم، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه األبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله، وال سيما في محيط يسكن فيه المحرومون

والمستضعفون... إال أن ما ينبغي التنويه به، أن النبي)صلى الله عليه

وآله وسلم( لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف اإلنساني أبدا، ولم يأمر بتخريب البناء، بل

استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كاإلعراضوعدم اإلهتمام بالبناء مثال!...

ثم ينتقد النبي »هود« قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: )وإذا بطشتم بطشتم

جبارين(. فمن الممكن أن يعمل اإلنسان عمال يستوجب

العقوبة، إال أنه ال يصح تجاوز الحد واإلنحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته، وأن

يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع

(، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة2بالسيف)والطغاة آنئذ...

--- ـ مجمع البيان: ذيل اآلية محل البحث، نور الثقلين،1

.63، ص 4ج ـ التماصع، التطاحن والقتال. )المصحح(2

(11/421)

-422األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ويرى الراغب في المفردات أن »البطش« على زنة

)نقش( هو أخذ الشيء بقوة وقسوة واستعالء... وفي الحقيقة أن هودا يوبخ عبدة الدنيا عن طرق

ثالثة: األول: عالماتهم التي كانت مظهرا لحب اإلستعالء

وحب الذات، والتي كانت تبنى على المرتفعاتالعالية ليفخروا بها على سواهم.

ثم يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله، وإن الدنيا دار ممر ال

مقر. وأخيرا فإنه ينتقدهم في تجاوزهم الحد والبطش عند

اإلنتقام... والقدر الجامع بين هذه األمور الثالثة هو اإلحساس

باإلستعالء وحب البقاء. ويدل هذا األمر على أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر

الله حتى ادعوا األلوهية... فهم باعمالهم هذه يؤكدون هذه الحقيقة، وهي أن »حب الدنيا رأس كل

(1خطيئة«.) والقسم الثالث من حديث هود مما بينه لقومه، هو

ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا الطريق ـ اإلحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو

الله... وفي هذا الصدد يتبع النبي هود أسلوبي اإلجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من األبحاث،

فيلتفت نحوهم أوال فيقول: )واتقوا الذي أمدكم بما(2تعلمون(.)

وبعد هذا التعبير المجل يذكر تفصيل نعم الله عليهم،فيقول: )أمدكم بأنعام وبنين(...

فمن جهة وفر لكم األمور المادية، وكان القسمالمهم منها ـ خاصة في ذلك

--- ـ تفسير الفخر الرازي ذيل اآلية محل البحث.1 ـ )أمد(2

مأخوذ من »اإلمداد«، ويطلق في األصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم، وحيث أن الله يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه

الكلمة هنا أيضا...

(11/422)

-423األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - العصر ـ األنعام والمطايا من النياق وغيرها. ومن جهة أخرى وفر لكم القوة الكافية وهي »األبناء«

للحفاظ على األنعام وتدجينها... وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة، فعند عد النعم

المادية تذكر األموال أوال ثم األبناء ثانيا، وهم الحفظة لألموال ومنموها، ويبدو أن هذا ترتيب

طبيعي، ال أن األموال أهم من األبناء... إذ نقرأ في ( من سورة اإلسراء... )وأمددناكم بأموال6اآلية )

وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا(...ثم يضيف بعد ذلك: )وجنات وعيون(.

وهكذا فقد وفر الله لكم سبل الحياة جميعا، من حيث األبناء أو القوة اإلنسانية، والزراعة والتدجين

ووسائل الحمل والنقل، بشكل ال يحس اإلنسان معهبأي نقص أو قلق في حياته!.

لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعا، وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار، وال

تعرفون قدره؟! وأخيرا، فإن هودا في آخر مقطع من حديثه مع قومه

ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب الله لهم،فيقول: )إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(...

ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم، وحب الذات وترك عبادة

الله... ترون كل ذلك بأم أعينكم. وعادة ـ يستعمل لفظ )اليوم العظيم( في القرآن،

ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه... إال أنه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش

المؤلم على األمم... كما نقرأ في هذه السورة في قصة »شعيب«، أن

قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه واستهزؤوا به، أرسل الله عليهم صاعقة »وكانت قطعة من الغيم« فعاقبهم بها، فسمي ذلك اليوم

باليوم العظيم، كما تقول اآلية: )فأخذهم عذاب يومالظلة إنه كان عذاب يوم عظيم(.

(11/423)

-424األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - فبناء على هذا قد يكون التعبير بـ »يوم عظيم« في

اآلية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود )عاد( بالعذاب األليم وهو

االعصار المدمر، وسيتجلى الشاهد على هذا المعنىفي اآليات المقبلة...

كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه... أو إلى العذابين معا، فيوم االعصار يوم عظيم،ويوم

القيامة يوم عظيم أيضا...* * *

(11/424)

-425األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ن الواعظين) قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن م خلق ا الولين)136 ( وما نحن137( إن هذآ إال

( فكذبوه فأهلكنهم إن فى ذلك الية138بمعذبين)ؤمنين) ( وإن ربك لهو العزيز139وما كان أكثرهم م

حيم) (140الرالتفسير

ال تتعب نفسك في نصحنا: رأينا في اآليات المتقدمة أحاديث النبي هود المحترق القلب شفقة لقومه المعاندين »عاد« وما حملته هذه

األحاديث من معان غريزة سامية... واآلن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي وال

المعقول، يقول القرآن في هذا الصدد )قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين( فلن يؤثر

ذلك فينا، فال تتعب نفسك. أما اعتراضك علينا بهذه االمور فال محل له من

االعراب )إن هذا إال خلق األولين(. وليس األمر كما تقول، فإنه ال شيء بعد الموت )وما

نحن بمعذبين( ال في هذا

(11/425)

-426األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -العالم، وال في العالم اآلخر.

و »الخلق« ـ بضم الخاء والالم ـ معناه العادة والسلوك واألخالق ألن هذه الكلمة جاءت بصيغة

اإلفراد بمعنى الطبع والسجية والعادة األخالقية... وهى هنا إشارة إلى األعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة األصنام، وبناء القصور العالية الجميلة، وحب

الذات، والتفاخر عن طريق تشييد األبراج على النقاط المرتفعة، وكذلك البطش عند اإلنتقام أو الجزاء... أي إن ما نقوم به من أعمال هو ما كانيقوم به السلف فال مجال لالعتراض واالنتقاد!...

وفسر »الخلق« بعضهم بالكذب، أي إن ما تقوله في

شأن الله والقيامة كالم باطل قيل من قبل )إال أن هذا التفسير إنما يقبل إذا قرىء النص: إن هذا إال

خلق األولين. فيكون الخلق فيه على وزن )الحلق( إالأن القراءة المشهورة ليست كذلك!(.

ويبين القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول:)فكذبوه فأهلكناهم(.

وفي ختام هذه االحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبرتين، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح

وإبراهيم وموسى عليهما السالم... فيقول: )إن في ذلك آلية( على قدرة الله، واستقامة األنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة، ولكن مع ذلك )وما كان أكثرهم

مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم(. فيمهل إمهاال كافيا، ويمنح الفرصة، ويبين الدالئل

الواضحة للمضلين ليهتدوا... إال أنه عند المجازاة والعقاب، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذا عسيرا ال مفر

ألحد منه أبدا...* * *

(11/426)

-427األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال لهم أخوهم صلح141كذبت ثمود المرسلين) ( فاتقوا143( إنى لكم رسول أمين)142أال تتقون)

(ومآ أسئلكم عليه من أجر إن144الله وأطيعون ) على رب العلمين ) (أتتركون فى ما145أجرى إال

(وزروع147( فى جنت وعيون )146ههنآء امنين) ( وتنحتون من الجبال بيوتا148ونخل طلعها هضيم)

( وال تطيعوا150( فاتقوا الله وأطيعون)149فرهين) ( الذين يفسدون فى االرض وال151أمر المسرفين)

(152يصلحون )التفسير

ال تطيعوا المسرفين المفسدين: القسم الخامس من قصص األنبياء في هذه السورة، هو قصة »ثمود« الموجزة القصيرة، ونبيهم »صالح« الذين كانوا يقطنون في »وادي القرى« بين المدينة

والشام، وكانت حياتهم مترفة مرفهة... إال أنهم لطغيانهم وعنادهم أبيدوا وأبيروا حتى لم يبق منهم

ديار ولم تترك لهم آثار...

(11/427)

-428األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وبداية القصة هذه مشابهة لبداية قصة عاد »قوم هود« وبداية قصة نوح وقومه، وهي تكشف كيفيتكرر التاريخ، فتقول: )كذبت ثمود المرسلين(... ألن دعوة المرسلين جميعا دعوة واحدة، فتكذيب

ثمود نبيهم صالحا تكذيب للمرسلين أيضا... وبعد ذكر هذا اإلجمال يفصل القرآن ما كان بين

صالح وقومه، فيقول: )إذ قال لهم أخوهم صالح أالتتقون(...

لقد كان النبي صالح هاديا ودليال لقومه مشفقا عليهم، فهو بمثابه »األخ« لهم، ولم يكن لديه نظرة استعالئية وال منافع مادية، ولذلك فقد عبر القرآن عنه بكلمة »أخوهم«... وقد بدأ دعوته إياهم كسائر

األنبياء بتقوى الله واإلحساس بالمسؤولية!... ثم يقول لهم معرفا نفسه: )إنى لكم رسول أمين( وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا االمر )فاتقوا

الله وأطيعون( إذ ال أريد إال رضا الله والخيروالسعادة لكم...

ولذلك فأنا ال أطلب عوضا منكم في تبليغي إياكم... )وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إال على رب

العالمين( فأنا أدعوكم له، وأرجو الثواب منهسبحانه...

كان هذا أول قسم من سيرة صالح التي تلخصت فيدعوته قومه وبيان رسالته إليهم...

ثم يضع »صالح« اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية،

فيقول: )أتتركون فيما ها هنا آمنين(. وتتصورون أن هذه الحياة المادية التي تستغفل

اإلنسان دائمة له وهو خالد فيها! فلذلك تأمنون منالجزاء، وأن يد الموت ال تنوشكم؟!

وباألسلوب المتين، اسلوب اإلجمال والتفصيل... يشرح النبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة

والمجملة بقوله: وتحسبون أنكم مخلدون )في جناتوعيون

(11/428)

-429األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1وزروع ونخل طلعها هضيم(.)

ثم ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المحكمة فيقول:)وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين(.

»الفاره« مشتق من )فره على وزن فرح( ومعناه في األصل السرور المقرون بالالمباالة وعبادة الهوى... كما يستعمل في المهارة عند العمل

أحيانا... ومع أن المعنيين ينسجمان مع اآلية، إال أنه مع مالحظة توبيخ نبيهم صالح إياهم ومالمته لهم

فيبدو أن المعنى األول أنسب... ومن مجموع هذه اآليات وبمقايستها مع ما تقدم من

اآليات في شأن عاد، يستفاد أن عادا »قوم هود« كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة

على سواهم... في حين أن ثمود »قوم صالح« كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة«... ويهتمون أكبر

اهتمامهم بالتنعم، إال أن عاقبة الجماعتين كانت واحدة، ألنهم جعلوا دعوة األنبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول إلى عبادة الله، جعلوها

تحت أقدامهم، فنال كل منهم عقابه الصارمالوبيل...

وبعد ذكر هذه اإلنتقادات يتحدث النبي صالح)عليه السالم( في القسم الثالث من كالمه مع قومه، فيقول: )فاتقوا الله وأطيعون وال تطيعوا أمر

المسرفين الذين يفسدون في األرض وال يصلحون(.* * *

--- ـ »الطلع«1

مأخوذ من مادة »الطلوع« ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ، وهو معروف وشكله جميل منضوم

نضيد، له غالف ينشق عنه العذق أول الربيع. ثم يلقح بيد اإلنسان أو بالرياح ليكون الثمر... وقد يستعمل

الطلع في الثمرة األولى للنخل! و »الهضيم«من مادة »هضم«

، وله معان مختلفة، فتارة يراد منه الثمرة الناضجة، وتارة يطلق على الثمر اللين القابل للهضم، وتارة

يطلق على المهضوم، وقد يستعمل بمعنى المنضوم المنضد، فإذا كان الطلع في اآلية محل البحث بمعنى

العذق أول طلوعه، فالهضيم معناه المنضود، وإذا

كان الطلع أول الثمر فالهضيم معناه الناضج الليناللطيف...

(11/429)

-430األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -:مالحظة

العالقة بين اإلسراف والفساد في األرض! نعرف أن »اإلسراف« هو التجاوز عن حد قانون

التكوين وقانون التشريع... وواضح أيضا أن أي تجاوز عن الحد موجب للفساد واإلختالل وبتعبير آخر: إن مصدر الفساد هو اإلسراف، ونتيجة اإلسراف هي

الفساد أيضا. وينبغي اإللتفات إلى أن اإلسراف له معنى واسع، فقد يطلق على المسائل المادية كاألكل والشرب،

( من سورة األعراف )كلوا واشربوا31كما في اآلية )وال تسرفوا(.

وقد يرد في اإلنتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ ( من سورة اإلسراء...)فال يسرف33كما في اآلية )

في القتل إنه كان منصورا(. وقد يستعمل في اإلنفاق والبذل عند التبذير وعدم

( من سورة الفرقان:67التدبير، كما في اآلية ) )والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين

ذلك قواما(. وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجر إلى الكذب،

( من سورة غافر: )إن الله ال يهدي28كما في اآلية )من هو مسرف كذاب(!

وقد يستعمل في اإلعتقاد المنتهى إلى الشك ( من سورة غافر34والتردد واإلرتياب كما في اآلية )

إذ تقول: )كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب(. وقد يأتي بمعنى اإلستعالء واإلستكبار واإلستثمار كما

( من سورة الدخان في شأن31جاء في اآلية )فرعون )إنه كان عاليا من المسرفين(.

وأخيرا فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في ( من سورة الزمر )قل يا عبادي الذين53اآلية )

أسرفوا على أنفسهم ال تقنطوا من رحمة الله إنالله يغفر الذنوب جميعا(.

وبمالحظة كل ما بيناه آنفا، تتضح العالقة بيناإلسراف والفساد بجالء...

يقول العالمة الطباطبائي في الميزان: »إن الكونعلى ما بين أجزائه من

(11/430)

-431األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - التضاد والتزاحم، مؤلف تأليفا خاصا يتالئم معه

أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج واآلثار... فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة

مقصودة، وهو بما بين أجزائه من اإلرتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيال خاصا يسير فيها بأعمال خاصة، من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار

أو ينحرف بإفراط أو تفريط، فإن في الميل واإلنحراف إفسادا للنظام المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل... ومن الضروري أن خروج بعض

األجزاء عن خطه المخطوط له، وإفساد النظم المفروض له ولغيره، يستعقب منازعة بقية األجزاء

له، فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط اإلعتدال فهو وإال أفنته وعفت آثاره، حفظا لصالح

الكون واستبقاء لقوامه واإلنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية، فإن جرى على ما

يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدى حدود فطرته وأفسد في األرض، أخذه الله

سبحانه بالسنين والمثالت وأنواع النكال والنقمة، لعله يرجع إلى الصالح والسداد، قال الله تعالى:

)ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس(1ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون(.)

وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم الله بعذاب اإلستئصال وطهر

األرض من قذارة فسادهم قال الله تعالى: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من

السماء واألرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا(3()2يكسبون()

ومن هنا يتضح بجالء، لم ذكر الله سبحانه في اآليات المتقدمة اإلسراف والفساد في األرض وعدم

اإلصالح، في سياق واحد ومنسجم.* * *

---.41 ـ الروم، اآلية 1.96 ـ األعراف، اآلية 2

ـ333، الصفحة 15 ـ راجع تفسير الميزان، الجزء 3334.

(11/431)

-432األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

رين) بشر153قالوا إنمآ أنت من المسح ( مآ أنت إالدقين) ثلنا فأت بآية إن كنت من الص ( قال هذه154م

علوم) ( وال155ناقة لها شرب ولكم شرب يوم موها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) (156تمس

( فأخذهم العذاب إن157فعقروها فأصبحوا ندمين)ؤمنين) ( وإن ربك158فى ذلك الية وما كان أكثرهم م

حيم) (159لهو العزيز الرالتفسير

عناد قوم صالح ولجاجتهم: لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير،

مع قومه المضلين ـ في اآليات المتقدمة ـ واآلنلنستمع إلى جواب قومه في هذه اآليات.

إنهم واجهوه بكالم خشن و )قالوا إنما أنت من المسحرين( فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير

موزونة وال معقولة. ثم بعد هذا كله )ما أنت إال بشر مثلنا( وكل عاقل ال

يبيح لنفسه أن يطيع

(11/432)

-433األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - انسانا مثله )فأت بآية إن كنت من الصادقين( لكي

نؤمن بك ونتبعك. كلمة )المسحر( مشتقة من )السحر( ومعناها

المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل،

وهذا القول لم يتهم به النبي صالحا فحسب، بل اتهم به كثير من األنبياء، حتى أن المشركين اتهموا نبينا محمدا)صلى الله عليه وآله وسلم( به فقالوا:

(. أجل، إنهم كانوا1)إن تتبعون إال رجال مسحورا() يرون معيار العقل أن يكون اإلنسان متوفقا مع

البيئة والمحيط، فيأكل الخبز ـ مثال ـ بسعر يومه، ويطبق نفسه على جميع المفاسد... فلو أن رجال

مصلحا إلهيا دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصالحها، عدوه ـ بحسب منطقهم ـ مجنونا

»مسحرا«. وهناك احتماالت أخر في معنى »المسحرين«، صرفنا

النظر عنها لعدم مناسبتها... وعلى كل حال فإن هؤالء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزة ال من أجل معرفة الحق، بل تذرعا

بالحجة الواهية، وعلى نبيهم أن يتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ قال: )هذه ناقة لها

شرب ولكم شرب يوم معلوم(. و »الناقة« معروفة عند العرب، وهي أنثى الجمل، والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان لها

حالة إعجازية، إال أنه ذكرها بنحو اإلجمال... لكننا نعرف أنها لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، فكما يقول جماعة من المفسرين: كانت هذه الناقة بحالة

من اإلعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنها كانت تشرب ماء الحي في يوم، واليوم

اآلخر ألهل الحي »أو القرية« وهكذا دواليك... كما أشارت اآلية آنفة الذكر إلى هذا المعنى، ووردت

( من سورة28اإلشارة إلى هذا المعنى في اآلية )القمر أيضا.

---.8 ـ سورة الفرقان، اآلية 1

(11/433)

-434األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(.1وقد ذكر المفسرون لها خصائص أخر)

وعلى كل حال، كان على صالح)عليه السالم( أن يعلمهم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن

يدعوها على حالها، وقال: )وال تمسوها بسوءفيأخذكم عذاب يوم عظيم(...

وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى اإلضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة:

( ألنهم رأوا انفسهم2)فعقروها فأصبحوا نادمين()قاب قوسين من العذاب االلهي.

ولما تجاوز طغيانهم الحد، وأثبتوا بأعمالهم أنهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة الله ومشيئته

أن يطهر األرض من وجودهم الملوث )فأخذهمالعذاب(.

( من سورة األعراف، واآلية )78وكما نقرأ في اآلية ) ( من سورة هود، ما جاء عن عذاب الله لهم67

إجماال... أن األرض زلزلت من تحتهم ليال، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما أمهلهم العذاب

وأخذتهم الرجفة والصيحة، فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على حالهم ففارقوا الدنيا

بحال موحشة رهيبة!... ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في

ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم)عليه السالم(، فيعبر تعبيرا بليغا موجزا

يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إن في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه

القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهمللمعجزة البينة، والمصير

--- ـ لمزيد اإليضاح في هذا الصدد يراجع تفسير اآلية )1

( من سورة هود...61 ـ كلمة )عقروها(2

مأخوذة من مادة )عقر( على زنة )قفل( ومعناها في األصل أساس الشيء وجذره، وقد تأتي بمعنى حز الرأس، وتأتي بمعنى

قطع األرجل من الحيوان، وما إلى ذلك.

(11/434)

-435األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - األسود الذي آلو إليه دروس وعبر: )إن في ذلك آلية

وماكان أكثرهم مؤمنين(. أجل، ليس ألحد أن يغلب ربه; فما فوق قوته من

قوة!! وهذه القوة وهذه القدرة العظيمة ال تمنع أن يرحم أولياءه، بل أعداءه أيضا: )وإن ربك لهو العزيز

(1الرحيم()* * *

--- ـ تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان1

واحدا ال غير... إال أن القرآن يعبر عن هذا الفعلبصيغة الجمع )فعقروها(

. وهذا التعبير ألن اآلخرين كانوا راضين بعمله

ويضمون أصواتهم إلى صوته، ويعتقدون بمعتقده... وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسالمي، وهو أن

العالئق الفكرية والمذهبية تجعل المنتمين إليها في صف واحد، وتكون عاقبتهم واحدة. لمزيد اإليضاح

( من سورة هود...65يراجع اآلية )

(11/435)

-436األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال لهم أخوهم160كذبت قوم لوط المرسلين) (162( إنى لكم رسول أمين)161لوط أال تتقون)

(ومآ أسئلكم عليه من أجر163فاتقوا الله وأطيعون ) على رب العلمين ) (أتأتون الذكران164إن أجرى إال

( وتذرون ما خلق لكم ربكم من165من العلمين)(166أزواجكم بل أنتم قوم عادون)

التفسيرالسفلة المعتدون:

سادس نبي ـ ورد جانب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو »لوط«)عليه السالم(، ومع أنه كان يعيش في عصر إبراهيم

الخليل، إال أن قصته لم تأت بعد قصة إبراهيم)عليه السالم(، ألن القرآن لم يكن كتابا تاريخيا ليبين الحوادث بترتيب وقوعها... بل يلفت النظر إلى

جوانبه التربوية البناءة، والتي تقتضي تناسبا آخر... وقصة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة األنبياء

اآلخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد... يقول القرآن أوال في هذا الصدد: )كذبت قوم لوط

المرسلين(.

(11/436)

-437األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ورود »المرسلين« بصيغة الجمع، إما ألن دعوة

األنبياء)عليهم السالم( واحدة، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأي نبي

قبل لوط واقعا وحقيقة... ثم يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة األنبياء اآلخرين الماضين، فيقول: )إذ قال

لهم أخوهم لوط أال تتقون(.

ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودهإليهم، يدل على أنه بمثابة »األخ« لهم.

ثم أضاف لوط قائال: )إني لكم رسول أمين( فلم تعرفوا عني خيانة حتى اآلن... وسأرعى األمانة في

إيصال رسالة الله إليكم أبدا... )فاتقوا اللهوأطيعون(فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.

وال تتصوروا أن هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأن وراءها هدفا ماديا، كال: )وما أسألكم

عليه من أجر إن أجري إال على رب العالمين(. ثم يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسما من

انحرافاتهم األخالقية... وحيث أن أهم نقطة في انحرافاتهم... هي مسألة اإلنحراف الجنسي، لذلك

فإنه ركز عليها وقال: )أتأتون الذكران من العالمين(.فتختارون الذكور من بين الناس الشباع شهواتكم!! أي، إنكم على الرغم مما خلق الله لكم من الجنس

المخالف »النساء« حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشا طاهرا هادئا، إال أنكم تركتم

نعمة الله هذه وراءكم، ولوثتم أنفسكم بمثل هذاالعمل القبيح المخزي...

كما ويحتمل في تفسير هذه اآلية أن »من العالمين« جاء قيدا لقوم لوط أنفسهم، أي إنكم من دون

العالمين وحدكم المنحرفون بهذا اإلنحراف والمبتلون به... كما أن هذا اإلحتمال ينسجم مع بعض

التواريخ إذ يقال أن أول أمة ارتكبت

(11/437)

-438األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - اإلنحراف الجنسي »اللواط« بشكل واسع هي قوم

( إال أن التفسير األول مع اآلية التالية ـ أكثر1لوط،)إنسجاما.

ثم أضاف قائال: )وتذرون ما خلق لكم ربكم منأزواجكم بل أنتم قوم عادون(.

فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواء كانت روحية أم جسمية لم تجركم إلى هذا العمل اإلنحرافي الشنيع

ابدا، وإنما جركم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتمبه...

إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم، ويمضي نحو الغذاء المسموم

الملوث المميت... فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية...

بل هو التجاوز والطغيان!* * *

بحثان ـ االنحراف الجنسي انحراف مخجل1

أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كاألعراف وهود والحجر واألنبياء والنمل والعنكبوت، إلى ما كان عليه

قوم لوط من الوزر الشنيع... إال أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفا ـ يختلف بعضها عن بعض... وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير

إلى بعد من أبعاد عملهم الشنيع: ففي »األعراف« نقرأ مخاطبة لوط إياهم )بل أنتم

(2قوم مسرفون(.) ( سورة األنبياء يتحدث القرآن عن74وفي اآلية )

لوط فيقول: )ونجيناه من القرية التي كانت تعملالخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين(.

أما في اآلية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوطإياهم بقوله: )بل أنتم

--- ـ في شأن انحراف هؤالء القوم، يذكر التأريخ قصة1

( من سورة81يمكن مراجعتها في تفسير اآلية )هود...

.81 ـ سورة األعراف، اآلية 2

(11/438)

-439األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -قوم عادون(.

( من سورة النمل قوله لهم: )بل55وجاء في اآلية )«.55أنتم قوم تجهلون( »اآلية

( من سورة العنكبوت على29كما جاء في اآلية ) لسان لوط مخاطبا إياهم )إنكم لتأتون الرجال

(1وتقطعون السبيل(.) وهكذا فقد ذكر هذا العمل القبيح بعناوين »إسراف«،

»خبيث«، »فسق«، »تجاوز«، »جهل«، و»قطعالسبيل«.

»اإلسراف« من جهة أنهم نسوا نظام الخلق في هذا األمر، وتجاوزوا عن الحد، و»التعدي« ذكر أيضا لهذا

السبب. و»الخبيث« هو ما ينفر منه طبع اإلنسان السليم،

وأي عمل أقبح من هذا العمل الذي ينفر منه؟!

»الفسق« معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة الله ـ والتعري عن الشخصية اإلنسانية، وهو من لوازم هذا

العمل حتما. و»الجهل« لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل

الوخيمة على الفرد والمجتمع!... وأخيرا فإن »قطع السبيل« هو النتيجة السيئة لهذا الفعل، ألنه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند اتساع

هذا الفعل، ألن العالقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العالقة نحو الجنس المخالف بالتدريج )كما هي

الحال بالنسبة للواط والسحاق(. ـ العواقب الوخيمة لإلنحراف الجنسي.2

ـ81بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل اآليات بحثا مفصال في أضرار هذا العمل القبيح، إال أنه ـ83

نظرا ألهميته ـ نرى هنا من الالزم أن نذكر--- ـ قيل أن المراد من )تقطعون السبيل(1

أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل، وفسره آخرون بأن المراد هو أن قوم لوط كانوا قطاع طرق

وسراقا!...

(11/439)

-440األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -مطالب أخر مضافا إلى ما سبق!

في الحديث عن النبي )محمد()صلى الله عليه وآله وسلم( أنه قال: »ال يجد ريح الجنة زنوق وهو

(1المخنث«.) وفي حديث آخر عن اإلمام علي)عليه السالم( أنه

(2قال: »اللواط هو الكفر«.) وفي حديث عن اإلمام علي بن موسى الرضا في

فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال: »علة تحريم الذكران للذكران، واإلناث لإلناث، لما ركب في اإلناث

وماطبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران، واإلناث لإلناث من انقطاع النسل، وفساد

(3التدبير، وخراب الدنيا«.) وهذه المسألة قبيحة جدا في نظر اإلسالم بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حدة القتل دون شك...

حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاقجعل لهم عقابا صارما...

ففي حديث عن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( أنه

قال: »من قبل غالما من شهوة، ألجمه الله يوم(4القيامة بلجام من نار«.)

وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثالثينسوطا إلى تسعة وتسعين سوطا...

وعلى كل حال، فال شك أن اإلنحراف الجنسي من أخطر اإلنحرافات االجتماعية... ألنه يلقي بظله المشؤوم على جميع المسائل األخالقية، ويجر

اإلنسان إلى اإلنحراف العاطفي. »وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل اآلية

من سورة هود«.81* * *

---.67، ص 79 ـ بحار االنوار، الطبعة الجديدة، ج 1 ـ المصدر السابق.2.64 ـ المصدر السابق، ص 3.72، ص 79 ـ بحار االنوار، ج 4

(11/440)

-441األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

(167قالوا لئن لم تنته يلوط لتكونن من المخرجين)ن القالين) ( رب نجنى وأهلى168قال إنى لعملكم م

ا يعملون ) ينه وأهله أجمعين)169مم 170(فنج ( إالرنا االخرين)171عجوزا فى الغبرين) (172( ثم دم

( إن173وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين)ؤمنين ) (و إن174فى ذلك الية وما كان أكثرهم م

حيم) (175ربك لهو العزيز الرالتفسير

عاقبة قوم لوط: إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح

الشهوة، بدال من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد اإللهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من

تلك األمواج الرهيبة، فإنهم نهضوا لمواجهته و )قالوالئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين(...

إن كالمك يبلبل أفكارنا، ويسلب اطمئناننا وهدوءنا،فنحن غير مستعدين

(11/441)

-442األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - حتى لإلصغاء إلى كالمك... وإذا واصلت هذا االسلوب

ولم تنته منه، فإن أقل ما تجزى به هو اإلبعادواإلخراج من هذه األرض...

ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم، وأمروا بإخراج لوط وأهله، فقالوا:

)أخرجوهم من قريتكم إنهم اناس يتطهرون(. إن فعل هؤالء الضالين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى

والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة، وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع

المسرع نحو الفساد! ويستفاد من عبارة )لتكونن من المخرجين( أن هذه

الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اناسا طاهرين من حيهم فهددوا لوطا بهذا األمر أيضا، وهو أنه إذا لمتنته فستنال ما ناله سواك من اإلبعاد واإلخراج... وقد صرح في بعض التفاسير أنهم كانوا يخرجون

(...1المتطهرين من القرية بأسوأ الحال) إال أن لوطا لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم

و )قال إني لعملكم من القالين(. إنه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إياكم... فافعلوا ما شئتم... فأنا ال أترك مواجهة هذه األعمال القبيحة

باإلعتراض والنقد!... والتعبير بـ »من القالين« يدل أيضا على أن جماعة

كانوا مثل النبي لوط يرفضون هذه األعمال ويعترضون عليها... رغم أن المنحرفين أخرجوهم من

قريتهم آخر األمر. كلمة »القالين« جمع »قال« من مادة )قلى( أو

)قلي( »على وزني حلق وشرك« ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب اإلنسان، وهذا

التعبير--- ـ تفسير روح المعاني، والتفسير الكبير للفخر1

الرازي، ذيل اآليات محل البحث.

(11/442)

-443األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -يكشف عن شدة تنفر لوط من أعمالهم...

والذي يسترعي النظر أن لوطا يقول: إني لعملكم من القالين. أي إنني ال أعاديكم بأشخاصكم، بل

أعادي أعمالكم المخزية، فلو ابتعدتم عن هذا العملالشنيع فأنا محب لكم وغير قال لكم.

وأخيرا لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه، فبدل الفساد مجتمعهم كله إلى مستنقع عفن...

وتمت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية... فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة، وأن ينجي من معه ممن استجاب دعوته،

لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم، فسأل لوط ربه أن يخلصه من قومه، فقال: )رب

نجني وأهلي مما كانوا يعملون(. وبالرغم من أن بعضهم احتمل أن يكون المراد من

(36األهل من اآلية جميع من آمن به... إال أن اآلية ) من سورة الذاريات تقول: )فما وجدنا فيها غير بيت

من المسلمين(. ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة

في اآليات محل البحث، تشير إلى أن جماعة منالمؤمنين به كانوا قد أبعدوا وأخرجوا من القرية... ويستفاد مما قيل ـ ضمنا ـ أن دعاء لوط ألهله لم

يكن بسبب العالقة العاطفية واإلرتباط النسبيالقرابتي، بل إليمانهم به...

فاستجاب الله دعاؤه كما تقول اآلية التالية: )فنجيناه(1وأهله أجمعين إال عجوزا في الغابرين(.)

وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين وعقيدتهم،

ولم تؤمن بلوط أبدا، ولذلك ابتليت بما أبتلي به قومهمن العذاب والهالك.

--- ـ »الغابر«1

من مادة )الغبور( ومعناه الباقي، ومتى ما تحركت جماعة وبقي شخص

في المكان فإنه يدعى )غابرا(ولهذا السبب سمي التراب الباقي غبارا... والغبرة

: الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.

(11/443)

-444األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ81وقد بينا تفصيل هذا الموضوع في ذيل اآليات »

من سورة هود«.83 أجل، لقد نجى الله لوطا والمؤمنين القلة معه، فأمر

أن يخرج بهم ليال من تلك المدينة ـ أو القرية ـ فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب الله في الغداة، فتزلزلت بهم األرض وانهارت

عليهم األبنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعا في ديارهم، وقد عبر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: )ثم دمرنا اآلخرين( ولم يكف ذلك بل )وأمطرنا عليهم مطرا(

وأي مطر! إنه وابل من احجار نزل على تلك الخرائبليمحو أثرها من االنظار. )فساء مطر المنذرين(!...

واألمطار عادة تمنح الحياة، إال أن هذا المطر كانموحشا مهلكا مخربا...

( من سورة هود أن قرى قوم82ويستفاد من اآلية ) لوط ومدنهم قلب عاليها سافلها أوال، ثم أمطرت

بالحجر النضيد المتراكم، ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم، فلم يبق منها غير تل كبير

من األحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة... ترى هل كانت هذه األحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على رؤوسهم؟ أوهي أحجار نزلت من السماء بأمر من الله عليهم؟! أو كما يقول بعض المفسرين كان هناك بركان أو

جبل نار قد خمد لفترة، ثم انفجر بأمر الله فأمطرهم بالحجارة، ليس ذلك معلوما على نحو الدقة! إال أن

من المسلم به أن هذه األحجار ـ أو هذا المطرالمهلك ـ لم يترك للحياة في تلك األرض من أثر! ـ81»وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل اآليات

من سورة هود، كما ذكرناه في الجزء الثامن مع83»لطائف« مختلفة فال بأس بمراجعتها«...

ومرة أخرى نواجه في نهاية هذه القصة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه

السورة، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين، إذ يقولالقرآن:

(11/444)

-445األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -)إن في ذلك آلية وما كان أكثرهم مؤمنين(.

وأية آية أجلى من هذه اآلية التي تعرفكم على هذه المسائل المهمة والبناءة، دون أن تحتاجوا إلى تجربة

شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية لآلتين، وليس تجربة، ألن التجربة ينبغي على اإلنسان أن

يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها... إال أننا هنانحصل على النتائج من خسائر اآلخرين!.

)وإن ربك لهو العزيز الرحيم(. وأية رحمة أعظم من أنه ال يعاقب أقواما فاسقين

كقوم لوط فورا، بل يمهلهم إمهاال كافيا لعلهميهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم!...

وأية رحمة أعظم من أن ال يخلط عقابه »األخضر ( أسرة غير1باليابس« بل لو كان في ألف ألف)

صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنه ينجيها منها وينزلالعذاب على اولئك!

وأية عزة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديارالفاسقين قد دمرت تدميرا ولم يبق منها أي أثر! فاألرض التي كانت مهادا ألمنهم أمرت بإقبارهم،

والمطر الذي تحيا به األرض والناس يكون مميتا لهم!* * *

--- ـ ذكرنا آنفا أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي1

الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربية بل هى غربيةفتأمل.

(11/445)

-446األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

( إذ قال لهم176كذب أصحب الئيكة المرسلين) (178( إنى لكم رسول أمين)177شعيب أال تتقون)

(ومآ أسئلكم عليه من أجر179فاتقوا الله وأطيعون ) على رب العلمين ) (أوفوا الكيل وال180إن أجرى إال

( وزنوا بالقسطاس181تكونوا من المخسرين) ( وال تبخسوا الناس أشيآءهم وال182المستقيم)

( واتقوا الذى خلقكم183تعثوا فى االرض مفسدين)(184والجبلة االولين)

التفسيرشعيب وأصحاب األيكة:

هذه هى القصة السابعة، والحلقة األخيرة من قصص األنبياء الواردة في هذه السورة... وهي قصة

»شعيب«)عليه السالم( وقومه المعاندين. كان هذا النبي يقطن في »مدين«، »وهي مدينة تقع

جنوب الشامات«.

و »أيكة« على وزن )ليلة( »قرية أو أرض معمورةعلى مقربة من مدين«.

(11/446)

-447األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ( من سورة الحجر تدل على أن »أيكة«79واآلية )

كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام. تقول اآلية األولى من اآليات محل البحث: )كذب

أصحاب األيكة المرسلين(. إنهم لم يكذبوا نبيهم شعيبا فحسب، بل كذبوا جميع

األنبياء، ألن دعوتهم واحدة... أو ألنهم لم يصدقواويقبلوا بأي رسالة سماوية أبدا...

واأليكة معناها في األصل محل مكتظ باألشجار، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من »مدين«، سميت بذلك ألن فيها أشجارا كثيرة وماء وظالال!... والقرائن تشير إلى أنهم كانوا منعمين مترفين ذوي

حياة مرفهة وثروة كثيرة، وربما كانوا لهذه األمورغرقى الغرور والغفلة!...

ثم يتحدث القرآن إجماال عن شعيب)عليه السالم(وعنهم فيقول: )إذ قال لهم شعيب أال تتقون(.

وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب)عليه السالم( انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر األنبياء، وهي

التقوى ومخافة الله التي تعد أساس المناهجاإلصالحية والتغييرات األخالقية واإلجتماعية جمعاء...

والجدير بالذكر أن التعبير »أخوهم« الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط)عليهم السالم(، لم يالحظ

هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن »شعيبا« كان من أهل مدين أصال ـ وتربطه باهلها روابط نسبية، وليس كذلك مع اصحاب األيكة... ولذلك نرى في سورة هود

حين يشير القرآن إلى إرسال »شعيب« إلى قومه من أهل مدين يقول: )وإلى مدين أخاهم شعيبا( إال

أن اآلية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب األيكة، وشعيب)عليه السالم( ال تربطه رابطة نسبية

بهم لم تذكر التعبير »أخاهم«... ثم أضاف شعيب قائال: )إني لكم رسول أمين فاتقوا

الله وأطيعون(فطاعتكم

(11/447)

-448األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -لي طاعة لله.

واعلموا أني أبتغي ثوابه ووجهه )وما أسألكم عليهمن أجر إن أجري إال على رب العالمين(.

وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر األنبياء أممهم، فهي متحدة المآل ومدروسة، إذ تدعو

إلى التقوى، وتؤكد على سابقة أمانة النبي بين قومه، كما أنها تؤكد على أن الهدف من الدعوة إلى

الله معنوي فحسب، وليس ورائها هدف مادي، وال يطمع أي من األنبياء بما في يد اآلخرين، ليكون مثارا

للشكوك وذريعة للمتذرعين! و »شعيب« كسائر األنبياء الذين ورد جانب من تأريخ

حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامة للتقوى وطاعة الله، إلى إصالح انحرافاتهم

األخالقية واإلجتماعية وينتقدهم على هذه اإلنحرافات، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان

اإلضطراب اإلقتصادي، واإلستثمار والظلم الفاحش في األثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد

اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: )أوفوا الكيل وال تكونوا من المخسرين وزنوا

(المستقيم وال تبخسوا الناس أشياءهم1بالقسطاس)وال تعثوا في األرض مفسدين(.

وفي هذه اآليات األخيرة الثالث يأمر شعيب هؤالء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسرين أن هذه العبارات بعضها يؤكد بعضا، إال أن التدقيق فيها يدل على أن هذه

األوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر

ونتيجة كلية!... ولكي يتضح هذه اإلختالف أو التفاوت، فإنه يلزم

اإللتفات إلى هذه--- ـ »القسطاس«1

، »على وزن نسناس« معناه »ميزان«... قال بعضهم: أصل هذه الكلمة رومية، وقال بعضهم. بل

هي عربية، ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير، أما الميزان نفسه المستعمل في لغة العرب

فهو الصغير، وقالوا: إن للقسطاس مؤشرا ولسانافهو لذلك دقيق الوزن!...

(11/448)

-449األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - الحقيقة... وهي أن قوم شعيب )أهل مدين وأصحاب األيكة( كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى

الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطقأخر.

ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أمور كثيرة... وطالما يسيء أهل المنطقة

اإلستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن »وينبغي اإللتفات إلى أن أكثر المعامالت

في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضةسلعة بسلعة«...

وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرفوها بأحسن

التعاريف، وعندما يزنون ألنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا اآلخرين أو وزنوا لهم ال يهتمون بالميزان

الصحيح واإلستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه األمور على كل حال ومضطر

إليها، فال بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!... وبغض النظر عن القوافل التي تمر عليهم، فإن أهل

المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤالء المطففين، وليسوا بأحس حظا من أصحاب

القوافل أيضا. فقيمة المتاع سواء كان الجنس يراد بيعه أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤالء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف

عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله! ومع مالحظة ما ذكرناه آنفا، نعود اآلن إلى تعابير

اآليات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس

المستقيم، ونعرف أن تقويم األجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماما خاصا... لمزيد التأكيد على

أن ال يبخسوا الناس

(11/449)

-450األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -أشياءهم...

ثم إن التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارة يكون الميزان صحيحا إال صاحبه ال يؤدي حقه،

وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت اإلشارات في

اآليات اآلنفة إلى جميع هذه األمور. وبعد اتضاح هذين التعبيرين )وأوفوا الكيل ... وزنوا

القسطاس( نأتي الى معنى )ال تبخسوا( المأخوذة من »البخس«، وهو في األصل النقص ظلما من حقوق الناس... وقد يأتي أحيانا بمعنى الغش أو

التالعب المنتهي إلى تضييع حقوق اآلخرين... فبناء على ما تقدم، فإن الجملة اآلنفة )وال تبخسوا الناس أشياءهم( لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش

والتزوير والتضليل، والتالعب في المعامالت، وغمطحقوق اآلخرين!

وأما جملة )وال تكونوا من المخسرين( فمع مالحظة أن »المخسر« هو من يوقع اآلخر أو الشيء في

الخسران... فمعناه واسع أيضا، إذ يشمل باإلضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكونسببا للخسارة وإيذاء الطرف اآلخر في المعاملة!

وهكذا فإن جميع ما ذكر من اإلستغالل وسوء اإلستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش

واإلخسار، سواءا كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كلهداخل في التعليمات آنفة الذكر...

وحيث أن اإلضطراب اإلقتصادي، أو األزمة اإلقتصادية، أساس ال ضطراب المجتمع، فإن شعيبا

يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: )وال تعثوا في األرض مفسدين(. فتجروا المجتمع الى هاوية

الفساد واالنحطاط، فعليكم أن تضعوا حدا ألي نوعمن اإلستثمار والعدوان وتضييع حقوق اآلخرين.

وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالمفي عصر شعيب فحسب،

(11/450)

-451األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى

العدالة اإلقتصادية!... ثم إن »شعيبا« في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ

يدعوهم مرد اخرى إلى تقوى الله فيقول: )واتقواالذي خلقكم والجبلة األولين(.

فلستم أول قوم أو جماعة خلقوا على هذه األرض، فآباؤكم واألمم االخرى جاءوا وذهبوا، فال تنسوا

ماضيهم وما تقبلون عليه... )الجبلة« مأخوذة من )الجبل( وهو معروف »ما ارتفع

من األرض كثيرا« ويسمى الطود أحيانا... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في

العظمة...قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آالف!

كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة اإلنسانية،ألنها ال تتغير، كما أن الجبل ال يتغير عادة...

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيبا يقول: إنما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق

الناس ورعاية العدل، ألن ذلك موجود في داخل الفطرة اإلنسانية منذ الخلق األول، وأنا جئتكم إلحياء

هذه الفطرة... إال أنه ـ ولألسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النبي المشفق،

فأجابوه بمنطق »مر وفظ« سنقرؤه في اآلياتالمقبلة...

* * *

(11/451)

-452األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

رين) بشر185قالوا إنمآ أنت من المسح ( ومآ أنت إالثلنا وإن نظنك لمن الكذبين) ( فأسقط علينا186م

دقين) مآء إن كنت من الص ن الس ( قال187كسفا م (فكذبوه فأخذهم عذاب188ربى أعلم بما تعملون )

( إن فى189يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم)ؤمنين) ( وإن ربك لهو190ذلك الية وما كان أكثرهم م

حيم) (191العزيز الرالتفسير

عاقبة الحمقى: لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنهم ال يملكون دليال

ليواجهوا به منطقه المتين... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من

التهم واألكاذيب.

فالتهمة األولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماوالمجرمون باألنبياء، وهي

(11/452)

-453األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -السحر فاتهموه بها و )قالوا إنما أنت من المسحرين(

( واليرى في كالمك ما هو منطقي!! وتظن أنك1) بهذا الكالم تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في

أموالنا كما نشاء!! ثم ما الفارق بينك وبيننا لنتبعك؟! وال مزية لك علينا

)وما أنت إال بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين(. وبعد إلقاء هذا الكالم المتناقض، إذ تارة يدعونه )من الكاذبين( ورجال انتهازيا، وتارة يدعونه مجنونا أو من

المسحرين، وكان كالمهم األخير هو: إن كنت نبيا )فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من

الصادقين( حيث كنت تهددنا دائما بهذا اللون منالعذاب.

و »كسف« على وزن )فرق( جمع )كسفة( على وزن )قطعة( ومعناها قطعة أيضا والمراد من هذه

»القطع من السماء« هي قطع األحجار التي تهويمن السماء...

وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ

الصور. إال أن شعيبا)عليه السالم(، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله،

كان جوابه الوحيد لهم أن )قال ربي أعلم بماتعملون(...

و يشير إلى أن األمر خارج عن يدي، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غير مخول بها ليطلب كل ذلك مني... فالله يعرف أعمالكم ويعلم

بها، وما أنتم أهل له، فمتى لم تنفع المواعظ وتمت الحجة الالزمة، فإن عذابه ال مرد له وسيقطع دابركم

ال محالة!... وهذا التعبير وأمثاله مما يرد على لسان األنبياء، وما

نالحظه في آيات--- ـ »المسحر«1

كما أشرنا من قبل إليه، هو المسحور... أو الذي يقع

عليه السحر من قبل السحرة، لينفذوا في عقلهويبطلوا عمله!!

(11/453)

-454األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - القرآن يدل على أنهم كانوا يوكلون جميع األمور إلى الله، وإنها بإذنه وأمره، ولم يدعوا أنهم قادرون على

كل شيء، أو أنهم يفعلون ما يشاءون!. وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما

يعبر القرآن عنه في اآلية التالية قائال: )فكذبوهفأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم(.

»الظلة« في األصل معناها القطعة من السحابالمظلل: أي ذي الظل...

يقول أغلب المفسرين في ذيل هذه اآلية: إن حرا شديدا محرقا حل في أرضهم سبعة أيام، ولم يهب

نسيم بارد مطلقا، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيام ـ وتحرك نسيم عليل

فخرجوا من بيوتهم، واستظلوا تحت السحاب منشدة الحر.

وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت األرض

وهلكوا جميعا. ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تالقح القوى أو »الطاقة« الموجبة والسالبة، أو ما يعبر عنها

بالشحنات الكهربائية وحين تتالقح هذه الشحنات بين السحاب واألرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة

موحشة، وقد تهتز األرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها... وهكذا يتضح أن اختالف التعابير في آيات

القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة األعراف جاء التعبير

( وفي سورة هود جاء التعبير91بالرجفة )اآلية ) ( أما في اآليات محل البحث فقد94بالصيحة )اآلية

جاء التعبير بـ )عذاب يوم الظلة(... وبالرغم من أن بعض المفسرين »كالقرطبي والفخر

الرازي وغيرهم« يحتمل أن أصحاب األيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص، إال أنه مع مالحظة هذه اآليات

المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلى أن هذا اإلحتمالغير وارد!...

وتختتم القصة هذه بما ختمت القصص الستالسابقة عن أنبياء الله الكرام، إذ

(11/454)

-455األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يقول القرآن: إن في حكاية أصحاب االيكة ودعوة نبيهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول

العذاب على هؤالء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر)إن في ذلك آلية وما كان أكثرهم مؤمنين(.

ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادوا في الغي

واستوجبوا عذاب الله، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.أجل )وإن ربك لهو العزيز الرحيم(.

* * *بحوث

ـ اإلنسجام التام في دعوات األنبياء1 في ختام قصص هؤالء األنبياء السبعة نجة أن هذه

القصص تشكل حلقة كاملة من حيث الدروس (1التربوية... وينبغي أن نلتفت إلى هذه »اللطيفة«)

وهي أن قصص هؤالء األنبياء جميعا جاءت في سور أخر من القرآن أيضا. إال أنها لم تعرض بهذا العرض

بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة، كما أن نهاياتهامنسجمة أيضا.

ولوحظ في خمسة أقسام من هذه القصص أن محتوى الدعوة هو تقوى الله، ثم اإلشارة إلى أمانة

النبي، وعدم مطالبته قومه باألجر على تبليغه إياهم... وبعد هذه المسائل تعالج المسائل

اإلجتماعية، واإلنحرافات األخالقية، من قبل األنبياءبلغة تنم عن اإلشفاق والمحبة...

ثم يبين القرآن رد فعل االمم المنحرفة تجاه أنبيائهم، وأخيرا عاقبتهم الوخيمة، ويذكر عذاب كل

منهم وكيفيته...--- ـ اللطيفة، مما لطف ودق وهي الشيء الخفي1

الذي يحتاج إلى دقة إلدراكه. )المصحح(

(11/455)

-456األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن

إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم ال يؤمنون... ثم يؤكد القرآن أيضا في نهاية كل قصة منها على

قدرة الله )وعزته( ورحمته. وهذا اإلنسجام ـ قبل كل شيء ـ يدل على تجلي

مفهوم وحدة دعوات األنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة... وجميعهم كانوا معلمي مدارس اإلنسانية... وبالرغم من أن محتوى

هذه المدارس كان ينبغي أن يتغير بتقدم الزمن والمجتمع اإلنساني، إال أن االصول والنتائج تبقى

على حالها. ثم بعد هذا كله، فإن هذه القصص كانت تسري عن

قلب النبي والمؤمنين القلة في ذلك العصر )والمؤمنون في كل عصر( وتسلي خاطرهم، لئال

يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين واألعداء الضالين، وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم... وأن

يكون أملهم بذلك كبيرا... كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ

في كل عصر وزمان ـ لئال يتصوروا بأن عذاب الله بعيد عنهم... العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة،

والطوفان والبركان... وانشقاق األرض والخسف، واألمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدمرة،

واإلنسان المعاصر ضعيف أمامها كضعف اإلنسان الغابر... ألن اإلنسان المعاصر ـ بالرغم من جميع

قواه وتقدمه الصناعي عاجز أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة... ويبقى ضعيفا ال حول له وال

طول!... كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو

تكامل الناس وبلوغهم الرشد، والهدف تنوير القلوب ومعالجة الهوى بالتعقل... وأخيرا فإن الهدف هو

مواجهة الظلم واإلنحراف...

(11/456)

-457األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ التقوى، بداية دعوة األنبياء جميعا:2

مما يلفت النظر أن قسما مهما من قصص هؤالء األنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود واألعراف، إال أن في بداية ذكرهم وبيان

سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادة ـ ويبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة )يا قوم

اعبدوا الله مالكم من إله غيره(! إال أنه في هذه السورة )الشعراء( ـ كما الحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم )أال تتقون(... والحق

أنهما تعودان إلى نتيجة واحدة... ألنه إذا لم توجد في اإلنسان أدنى مراتب التقوى، وهي طلب الحق، فإنه ال يؤثر فيه شيء، ال الدعوة إلى التوحيد وال غيرها...

لذا فإننا نقرأ في بداية سورة البقرة قوله تعالى:)ذلك الكتاب ال ريب فيه هدى للمتقين(.

وبالطبع فإن التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو

المرتبة األخرى... كما نالحظ اختالفا آخر بين هذه السورة وسورتي األعراف وهود، ففي سورتي األعراف وهود كانت دعوة األنبياء تتركز على نبذ األصنام، أما المسائل

األخر فكانت تحت الشعاع، إال أنه في سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة اإلنحرافات األخالقية

واإلجتماعية، كالمفاخرة وطلب اإلستعالء، واإلسراف، واإلنحراف الجنسي، واإلستثمار

والتطفيف. إلخ... وهذا األمر يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص، ولكل هدف

معين يعرف من السياق! ـ االنحرافات االخالقية3

مما يلفت النظر أن االقوام المذكورين في هذه السورة، باإلضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيدنحو الشرك وعبادة االوثان، الذي يعد أصال مشتركا

(11/457)

-458األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بينهم، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخالقية

واجتماعية خاصة »وكل قوم لهم انحرافات خاصة«... فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ... كقوم هود)عليه

السالم(. وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح)عليه

السالم(. وبعضهم كانوا مبتلين باإلنحراف الجنسي كقوم

لوط)عليه السالم(. وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتالعبون

بالمعامالت كقوم شعيب)عليه السالم(. وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح)عليه

السالم(. إال أن عقابهم كان متشابها إلى حد ما، وكانت

نهايتهم الهالك... فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب

وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود.وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح)عليه السالم(

وفي الحقيقة، فإن األرض التي هي مهد للدعة واإلطمئنان، وكانوا يمرحون عليها، أمرت

بإهالكهم!... والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا االمر

بإماتتهم! وما أعجب أن تكون حياة اإلنسان في قلب الموت،

وموته في قلب الحياة، وهو مع كل ذلك غافلمغرور!

* * *

(11/458)

-459األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

ه لتنزيل رب العلمين) ( نزل به الروح االمين )192وإن ( بلسان194(على قلبك لتكون من المنذرين)193

بين ) ( أولم196(وإنه لفى زبر االولين)195عربى م(197يكن لهم ءاية أن يعلمه علمؤا بنى إسرءيل)

التفسير(1عظمة القرآن في كتب »السابقين«.)

بعد بيان سبع قصص عن األنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة

القرآن وحقانية هذا الكالم اإللهي المبين، إذ يقول:)وإنه لتنزيل رب العالمين(.

وأساسا فإن بيان جوانب مختلفة عن سير األنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة، والخو من أي نوع

من الخرافات واألساطير الكاذبة، وفي محيط مليء باألساطير والخرافات، ومن قبل إنسان ال يعرف

القراءة والكتابة، أو لم يسبق له---

ـ كلمة »السابقين« نعت ومنعوته محذوف وتقديره1األنبياء )المصحح(.

(11/459)

-460األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أن تعلمهما... كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا

الكتاب تنزيل من رب العالمين، وهذا نفسه دليلعلى إعجاز القرآن!!

لذلك تضيف اآلية التالية قائلة: )نزل به الروحاألمين(.

ولو كان القرآن لم ينزله ملك الوحي »الروح األمين من قبل الله« لم يكن بهذا اإلشراق والصفاء والخلو

من الخرافات واألساطير واألباطيل... ومما يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين فياآلية: األول أنه الروح، والوصف الثاني أنه األمين...

فالروح هي أساس الحياة، واألمانة، هي شرط أصيلفي الهداية والقيادة!...

أجل، إن هذا الروح األمين نزل بالقرآن )على قلبك(1لتكون من المنذرين(.)

فالهدف هو أن تنذر الناس، وأن تحذرهم من مغبة اإلنحراف عن التوحيد، ليحذروا من سوء العاقبة... إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرد شرفا فكريا ولملء الفراغ، بل إيجاد اإلحساس بالمسؤولية

واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصيةاإلنسان!...

ولئال تبقى حجة ألحد وال عذر، فإن القرآن أنزل)بلسان عربي مبين(...

فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح، خال من اإلبهام، لإلنذار واإليقاظ، وال سيما أنه نزل في

محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية، نزل بليغا واضحا... هذا اللسان العربي هو أكمل األلسنة واللغات وأغناها

أدبا ومقاما... والجدير بالذكر أن أحد معاني »عربي« هو ذو

الفصاحة والبالغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان، وكما يقول الراغب في المفردات: العربي: الفصيح

البين من الكالم... وفي هذه الصورة فإنه ليس المعول على لسان

العرب، بل االساس صراحة---

ـ واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح1النبي)صلى الله عليه وآله وسلم(

، ال القلب الذي يعد مضخة للدم... وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أنك يا رسول الله استوعبت

القرآن بروحك وقلبك، وهذه المعجزة السماويةمقرها قلبك.

(11/460)

-461األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - القرآن ووضوح مفاهيمه، واآليات التالية تؤية هذا

( من سورة فصلت44المعنى، كما جاء في اآلية ))ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لوال فصلت آياته(.فالمراد من األعجمي هنا هو االكالم غير الفصيح!...

واآلية التالية تشير إلى دليل آخر من دالئل حقانية(1القرآن فتقول: )وإنه لفي زبر األولين(.)

وخاصة أن أوصاف هذا النبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى)عليه

السالم( بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك، حتى قيل أن إيمان قبيلتي األوس والخزرج

بالنبي محمد)صلى الله عليه وآله وسلم( كان على أثر ما كان يتوقعة علماء اليهود عن ظهور هذا النبي

العظيم، ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم.. لذا فإن القرآن يضيف هنا قائال: )أولم يكن لهم آية

أن يعلمه علماء بني إسرائيل(. وواضح أنه مع وجود اولئك العلماء من بني إسرائيل

في ذلك المحيط المليء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه »جزافا«

واعتباطا.. ألنه كان سيرد عليه من كل حدب وصوب باإلنكار،

وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان جليا في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال لإلنكار حين نزول

اآليات ـ محل البحث ـ ( من سورة البقرة أيضا: )وكانوا89ونقرأ في اآلية )

من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به(.

وكل هذا شاهد جلي على صدق آيات القرآن وحقانيةدعوته!...

* * *---

ـ »الزبر«1 جمع: زبور ومعناه الكتاب، وهو في األصل من مادة

)زبر( على وزن )أسر( اي كتابة...

(11/461)

-462األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

لنه على بعض االعجمين) ( فقرأه، عليهم198ولو نزا كانوا به مؤمنين) ( كذلك سلكنه فى قلوب199م

( ال يؤمنون به حتى يروا العذاب200المجرمين ) (202( فيأتيهم بغتة وهم ال يشعرون)201االليم)

(203فيقولوا هل نحن منظرون)التفسير

لو نزل القرآن على االعاجم... في هذه اآليات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع اإلحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل

البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: )ولو نزلناه على بعض األعجمين فقرأه

عليهم ما كانوا به مؤمنين(. قلنا سابقا أن كلمة »عربي« قد يراد منها من ينتمي

إلى العرب، وقد تطلق على الكالم الفصيح أيضا. و»عجمي« في مقابل العربي كذلك له معنيان، فقد

يراد منه من ينتمي إلى غير العرب، وقد يراد منه الكالم غير الفصيح، وكال المعنيين في اآلية اآلنفة

محتمل، إال أن االحتمال االكثر هو أن المقصود غيرالعرب، كما يبدو.

بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القوميةكانوا متعصبين الى درجة

(11/462)

-463األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به

ورغم أن القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب

السماوية السابقة... وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كله لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيهم ليس فيه أية صفة من الصفات

المذكورة!...

ثم تضيف اآلية لمزيد التأكيد: )كذلك سلكناه فيقلوب المجرمين(.

في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخالقة... وبمحتوى بشرت به

الكتب السماوية السابقة... والخالصة... إننا نسلكه بجميع هذه األوصاف في قلوب المجرمين ليكون

مقبوال سهال مطبوعا إال أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله... فمثله كمثل الطعام الطيب النافع

الذي تلفظه المعدة السقيمة. )التعبير »سلكناه« من مادة )سلوك( ومعناه العبور

من الطريق، فيرد فيه من طرف ويخرج من آخر( ولذلك تقول اآلية: )ال يؤمنون به حتى يروا العذاب األليم( أي إن هؤالء المجرمين المعاندين، يظلون

على حالهم حتى نزول العذاب... واحتمل بعض المفسرين في تفسير اآلية أن المراد

من )كذلك سلكناه في قلوب المجرمين( هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في

قلوب المجرمين، بسبب ذنوبهم وجرمهم. وطبقا لهذا المعنى فاآلية محل البحث تشبه اآلية

(.1)ختم الله على قلوبهم() إال أن التفسير األول أكثر انسجاما مع اآليات السابقة

(2والالحقة، لذلك فقد اختاره أغلب المفسرين.)---.7 ـ سورة البقرة، اآلية 1 ـ في عدد من اآليات المتقدمة وردت خمسة ضمائر2

مفردة في الجمل التالية: »نزلناه«، »قرأه«، »ما كانوا به«، »سلكناه«، »ال يؤمنون به«، وهي تعود

على القرآن طبقا للتفسير األول، وطبقا للتفسير الثاني فإن بعضها يعود على القرآن، وبعضها على

العناد من قبل المشركين، وهذا األمر مع عدم وجودالقرينة مشكل!

(11/463)

-464األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أجل، إنهم ال يؤمنون حتى يروا العذاب )فيأتيهم بغتة

(1وهم ال يشعرون(.) ال شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتة،

هو عذاب الدنيا والبالء المهلك وعقاب اإلستئصال!... لذا فإن القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنهم في

هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب،

ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات وااليمانبالرسالة االلهية: )فيقولوا هل نحن منظرون(...

* * *بحوث

ـ العصبية القومية والقبلية الشديدة!...1 ال شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية

فإنه يعشقها، وهذه العالقة باألرض أو القبيلة، ليست غير معيبة فحسب، بل هي عامل بناء ألبناء المجتمع،

إال أن لهذا األمر حدودا، فلو تجاوز الحدود فإنهسينقلب إلى عامل مخرب، وربما إلى عامل مفجع. والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية

المذمومة والسلبية، هو اإلفراط في التعصب أوالعصبية...

»التعصب« و »العصبية« في األصل من مادة )عصب( ومعناه واضح، وهو الغضروف الذي يربط المفاصل،

ثم أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط... إال أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين يستعمالن عادة في

المفهوم اإلفراطي المذموم. إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو األرض

والوطن، كان مصدرا لكثير--- ـ ينبغي اإللتفات إلى أن جملة »فيأتيهم«1

منصوبة ومعطوفة على »حتى يروا«،وينبغي بيان معناها بهذه العالقة.

(11/464)

-465األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - من الحروب على طول التاريخ، وعامال على انتقال

الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب وسنن فيقبيلة ما أو امة ما! إلى امم أخر!

هذا الدفاع أو اإلنتماء المتطرف، قد يبلغ حدا بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميال، وأحسن

أفراد القبيلة األخرى في نظره سيئا... وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن واآلداب السيئة والحسنة...

وبتعبير آخر: إن التعصب القومي يلقي ستارا من الجهل واألنانية على أفكار اإلنسان وعقله، ويلغي

التقييم الصحيح!

هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بينبعض االمم، ومنهم العرب المعروفون بالتعصب.

وقد قرأنا في اآليات اآلنفة أنه لو أنزل الله القرآنعلى غير العرب لما كانوا به مؤمنين.

وقد ورد في الروايات اإلسالمية التحذير من التعصب، على أنه خلق مذموم، حتى أننا نقرأ حديثا عن

رسول)صلى الله عليه وآله وسلم( يقول فيه: »من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله

(1يوم القيامة مع أعراب الجاهلية«.) ونقرأ حديثا آخر عن اإلمام الصادق)عليه السالم(

يقول فيه: »من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة(2اإليمان من عنقه«.)

ويستفاد من الروايات اإلسالمية أيضا، أن إبليس أولمن تعصب...

يقول اإلمام علي)عليه السالم( في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كالما بليغا

مؤثرا، ننقل جانبا منه هنا: »أما إبليس فتعصب على آدم ألصله، وطعن عليه في

خلقته، فقال: أنا ناري--- ـ اصول الكافي، الجزء الثاني )باب العصبية ص1

32.) ـ المصدر السابق.2

(11/465)

-466األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -(1وأنت طيني(.)

ثم يضيف اإلمام علي في خطبته هذه قائال: »فإن كان ال بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم(2الخصال، ومحامد األفعال، ومحاسن األمور«.)

ويتضح من هذا الحديث ـ بجالء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق وااليجابيات ليس غير

مذموما فحسب، بل بامكانه أن يسد فراغا روحيا قدينشأ من ترك بعض العادات الجاهلية المقيتة.

لذلك نقرأ عن اإلمام زين العابدين علي بن الحسين)عليه السالم( حين سئل عن التعصب قوله:

»العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من

العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن

(3يعين قومه على الظلم«.) والتعبير اآلخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات

أو اآليات هو الحمية )حمية الجاهلية(. وبالرغم من أن األحاديث في هذا المجال كثيرة، إال

أننا نختم بحثنا بحديثين منها: يقول أمير المؤمنين علي)عليه السالم( »إن الله

يعذب ستة بست ـ العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، واألمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة،

(4وأهل الرستاق بالجهل(.) وكان رسول الله يتعوذ في كل يوم من ست »من

الشك والشرك والحمية والغضب والبغي والحسد«.)5)

---.192 ـ نهج البالغه، الخطبة القاصعة، رقمها 1 ـ المصدر السابق.2.233، باب العصبية، ص 2 ـ اصول الكافى، ج 3.289، ص 73 ـ البحار، ج 4 ـ المصدر نفسه.5

(11/466)

-467األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ طلب الرجوع إلى الدنيا...2

من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم، وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا،

ويصرخون ويدعون والت حين مناص... وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد، أكثرها بساطة هذه اآلية محل البحث )هل نحن

منظرون(. ( من سورة األنعام فنقرأ: )يا ليتنا27أما في اآلية )

نرد وال نكذب بآيات ربنا(. ( سورة األحزاب فتقول منها: )يا66أما في اآلية )

ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسوال(. من سورة المؤمنون:100 ـ 99ونقرأ في اآليتين

)حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعليأعمل صالحا فيما تركت(.

وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين من سورة األنعام،27على حافة النار، كما في اآلية

إذ تقول: )ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنانرد وال نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين(...

إال أن هذه العودة لن تتحقق، ألنها سنة الله سبحانه، ولن تجد لسنة الله تبديال، ولن تجد لسنة الله تحويال، فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثم عادت،

ولو سقط الجنين من بطن امه قبل اكتماله، ثم عادالى الرحم... ال مكن أن يعود هؤالء...

فبناء على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول، هو التوقي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من الذنب، واألعمال الصالحة، ما دامت الفرصة سانحة وإال فال

ينفع الندم بعد فوات األوان!... ـ فضل العجم:3

جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن اإلمام الصادقذيل اآليات محل البحث

(11/467)

-468األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أنه قال: »لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب... وقد نزل على العرب فآمنت به العجم،

(1فهذه فضيلة العجم«.) من54»وفي هذا الصدد كانت لنا إشارات ذيل اآلية

سورة المائدة«.* * *

---.165 ـ الجزء الرابع من تفسير نور الثقلين، ص 1

(11/468)

-469األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

تعنهم سنين)204أفبعذابنا يستعجلون) ( أفرءيت إن ما كانوا يوعدون)205 ( مآ أغنى206( ثم جآءهم م

ا كانوا يمتعون) 207عنهم م ( ومآ أهلكنا من قرية إال ( وما209( ذكرى وما كنا ظلمين)208لها منذرون)

يطين) لت به الش ( وما ينبغى لهم وما210تنزمع لمعزولون)211يستطيعون) (212( إنهم عن الس

التفسيرتهمة اخرى للقرآن:

حيث أن اآليات المتقدمة ختمت بجملة )هل نحن منظرون( التي يقولها المجرمون عندما يأتيهم

العذاب بغتة وهم عال أبواب الهالك، طالبين اإلمهال

والرجوع للتعويض عما فاتهم من األعمال. فاآلياتمحل البحث ترد عليهم عن طريقين:

األول قوله تعالى: )أفبعذابنا يستعجلون(. إشارة إلى أنه طالما استهزأتم أيها المجرمون،

وسخرتم من أنبيائكم، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة... لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب

تطلبون اإلمهال

(11/469)

-470األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لتعوضوا عما فات من األعمال، وكنتم ترون األمر لهوا ولعبا في يوم، لكن في اليوم اآلخر وجدتموه

جديا ـ وعلى كل حال فإن سنة الله أن ال يعذب قوما حتى

يتم عليهم الحجة البالغة... لكن اذا تمت الحجة، وفسح لهم المجال، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فال ينفع اإلبتهال، والرجوع نحو ساحة ذي

الجالل. واآلخر أنه )أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما

كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتعون(. فعلى فرض أنهم أمهلوا ثانية )ولن يمهلوا بعد إتمام

الحجة عليهم( وعلى فرض أن يعمروا سنين طواال في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور، اال

يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب المادية فحسب. وهل يعوضون عما فاتهم؟! كال أبدا.. فمن

المسلم أنهم ال يعوضون عما فاتهم. وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئا عند نزول العذاب؟ وهل

تحل مشكلتهم أو تحدث تغييرا في عاقبتهم؟! كما يرد هذا اإلحتمال في تفسير اآليات اآلنفة، وهو أنهم ال يطلبون اإلمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات، بل يطلبون اإلمهال لمزيد التمتع من النعم

الزائلة في هذه الدنيا، إال أن هذا التمتع ال يغني عنهم شيئا، وال بد أن يرحلوا ـ إن عاجال وإن آجال ـ

من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية، وأنيواجهوا أعمالهم هناك...

وهنا يثار سؤال ـ وهو أنه مع اإللتفات إلى أن اللهبمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى اإلمهال؟

ثم أن االمم السالفة كذبت أنبياءها واحدا بعد اآلخر، وبمقتضى قوله تعالى: )وما كان أكثرهم مؤمنين(

الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا،فعالم يأتي األنبياء منذرين ومبشرين؟!

فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله)وما أهلكنا من قرية إال

(11/470)

-471األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - لها منذرون( فنرسل األنبياء لهم إلتمام الحجة

وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من(1غفلتهم )ذكرى(.)

ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من قبل الله ـ لكان ظلما منا

)وما كنا ظالمين(. فمن الظلم أن نهلك غير الظالمين، أو نهلك

الظالمين دون إتمام الحجة عليهم... وما ورد في هذه اآليات هو في الحقيقة بيان

للقاعدة العقلية المعروفة بـ »قاعدة قبح العقاب بال ( من15بيان« وشبيه لهذه اآلية ما جاء في اآلية )

سورة اإلسراء: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسوال(. أجل.. إن العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبدا، وهذا ما يعبر عنه في علم األصول بـ )أصل البراءة( ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنه ينفى بواسطة هذا األصل »لمزيد التوضيح يراجع تفسير

من سورة اإلسراء«..57اآلية ثم يرد القرآن على إحدى الذرائع أو التهم الباطلة من قبل اعداء القرآن وهي أن النبي مرتبط ببعض

الجن، وهو يعلمه هذه اآليات، والحال أن القرآن يؤكدأن هذه اآليات هي من »تنزيل رب العالمين«.فيضيف هنا قائال: )وما تنزلت به الشياطين(.

ثم يبين جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقهااألعداء فيقول: )وما ينبغي لهم(.

--- ـ للمفسرين في محل )ذكرى(1

من اإلعراب أربعة إحتماالت ... األول:أنه مفعول ألجله والعامل »منذرون«

والتفسير المذكور آنفا في المتن هو على هذااألساس.

الثاني:

أنه مفعول مطلق لكلمة »منذرون«ألن معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى.

الثالث:أنه حال من الضمير في منذرون.

الرابع:أنها خبر لمبتداء محذوف تقديره )هذه ذكرى(.

(11/471)

-472األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى

الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدل داللة واضحة على أنه ال شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه. فالشياطين ال يصدر منهم إال

الشر والفساد، وهذا كتاب خير وصالح، فالدقة فيمحتواه تكشف عن أصالته.

ثم إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك )ومايستطيعون(.

فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين

بالشياطين )أو على األقل كان المشركون يدعون بأنهم مرتبطون بالشياطين( أن يأتوا بمثل هذا

القرآن، مع أنهم عجزوا عن اإلتيان بمثله، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بالغتهم

وأفكارهم!... ومضافا إلى كل ذلك، فإن الكهنة أنفسهم كانوا

يعترفون أنهم بعد والدة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( انقطعت عالقتهم بالشياطين الذين كانوا

يأتونهم بأخبار السماء و )إنهم عن السمعلمعزولون(.

ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من المالئكة،

فينقلون ما يدور بين المالئكة من مطالب إلى أوليائهم، إال أنه بظهور نبي اإلسالم)صلى الله عليه

وآله وسلم( ووالدته انقطع استراق السمع تماما،وزال اإلرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم...

وهذا األمر كان يعلم به المشركون أنفسهم، وعلى فرض أن المشركين كانوا ال يعلمون، فإن القرآن

(1أخبرهم بذلك.) ولذا فقد جعله القرآن دليال في اآليات األنفة لدحض

ما يتقوله األعداء... وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا اإلتهام من ثالثة

طرق:--- ـ لمزيد اإليضاح في منع الشياطين عن استراق1

السمع يراجع الجزء األول من سيرة ابن هشام، ص فما بعد.217

(11/472)

-473األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء1

الشياطين. ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك.2 ـ منع الشياطين من إستراق السمع.3

* * *

(11/473)

-474األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -اآليات

(213فال تدع مع الله إلها ءاخر فتكون من المعذبين) ( واخفض جناحك لمن214وأنذر عشيرتك االقربين)

( فإن عصوك فقل إنى215اتبعك من المؤمنين)ا تعملون ) م حيم)216برىء م (وتوكل على العزيز الر

(وتقلبك فى218( الذى يراك حين تقوم )217جدين) ميع العليم)219الس (220( إنه هو الس

التفسيروأنذر عشيرتك األقربين...

تعقيبا على األبحاث الواردة في اآليات السابقة في شأن مواقف المشركين من اإلسالم والقرآن... فإن

الله سبحانه يبين لنبيه ـ في اآليات محل البحث ـ منهجه وخطته في خمسة أوامر، في مواجهة

المشركين... وقبل كل شيء فإن الله يدعو النبي)صلى الله عليه

وآله وسلم( إلى اإلعتقاد التام بالتوحيد; التوحيد الذي هو أساس دعوات األنبياء جميعا... يقول سبحانه: )فال تدع مع الله إلها آخر فتكون من

المعذبين(...

ومع أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( كان منالمقطوع به أنه ينادي إلى التوحيد وال يمكن أن

(11/474)

-475األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - يتصور انحرافه عن هذا األصل... إال أن أهمية هذه

المسألة كانت بحيث أن يكون شخص النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( ـ قبل كل شيء ـ مخاطبا بها.

ليعرف اآلخرون موقفهم... ثم إن بناء اآلخرين يبدأمن بناء شخصية اإلنسان نفسه...

ثم يأمره الله في مرحلة اخرى أن ينطلق إلى مدىأرحب في دعوته قائال: )وأنذر عشيرتك األقربين(.)

1) وال شك أنه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع،

البد من اإلبتداء من الحلقات األدنى واألصغر، فما أحسن أن يبدأ النبي دعوته من أقربائه وأرحامه،

ألنهم يعرفون سوابقه النزيهة أكثر من سواهم كما أن عالئق القربى والمودة تستدعي االصغاء إلى

كالمه أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أبعد من سواهممن حيث الحسد والحقد والمخاصمة!

إضافة إلى ذلك فإن هذا األمر يدل على أن النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( ليس لديه أية

مداهنة وال مساومة مع أحد، ليستثني أقرباءهالمشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل!...

وعندما نزلت هذه اآلية، قام النبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا األمر اإللهي، وسيأتي تفصيل ذلك

كله في حقل البحوث بإذن الله... أما المرحلة الثالثة، فإن الله يوصي النبي في دائرة

أوسع فيقول: عليك أن تعامل اتباعك باللطفوالمحبة: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين(.

وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أن الطيور تخفض

أجنحتها ألفراخها محبة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانة من الحوادث المحتملة،

ولتحفظها من التشتت والتفرق! فكذلك األمر بالنسبة للنبي إذ أمر أن يخفض جناحه للمؤمنين

الصادقين.--- ـ العشيرة مشتقة من »العشرة« العدد المعروف1

[ وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عددا كامال،10] فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة،

ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، ألنها تجعلالناس بصورة مجموعة كاملة.

(11/475)

-476األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة - وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبين دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين، ويمكن إدراكها

بأدنى التفاتة!... وذكر هذه الجملة ـ ضمنا ـ بعد مسألة اإلنذار يكشف

عن هذه الحقيقة، وهي إذا كان التعويل على الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات

التربوية، فإنه وبال فاصلة يأتي التعويل على المحبةوالعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب...

ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي أن االعداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك. فال تبتئس وال تحزن: )فإن

عصوك فقل إني بريء مما تعملون(... ليعرفواموقفك منهم!

والظاهر أن الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة النبي)صلى الله عليه وآله وسلم( األقربين... أي إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم

وعنادهم، فعليك أن تبين موقفك منهم، وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعال، كما سنذكر ذلك في

البحوث القادمة، إذ امتنع الجميع عن قبول دعوة النبي ما عدا عليا)عليه السالم(... فبعضهم الذ

بالصمت، وبعضهم أبدى مخالفته عن طريقاإلستهزاء والسخرية...

وأخيرا فاألمر االلهي الخامس للنبي إلكمال مناهجهالسابقة، هو: )وتوكل على العزيز الرحيم(.

فال تدع لعنادهم مجاال للتأثير على عزيمتك... وال لقلة األعوان واالنصار طريقا لتوهين ارادتك، فلست وحدك... وسندك ومالذك هو الله القادر العزيز الذي

ال يقهر، والرحيم الذي الحد لرحمته... الله الذي سمعت وصفه في ختام قصص األنبياء

بالعزيز الرحيم!... الله الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود، وتمرد قوم نوح، وأنانية قوم هود، واتباع الشهوات لقوم لوط. وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا

قلة، وشملهم برحمته الواسعة. ذلك الله )الذي يراك حين تقوم وتقلبك في

الساجدين(.

(11/476)

-477األمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -أجل )إنه هو السميع العليم(...

وهكذا تذكر اآليات ثالث صفات لله بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكل منها يمنح األمل ويشد من عزم النبي

على مواصلة طريقة، إذ أن الله يرى جهوده وأتعابهوحركاته وسكناته، وقيامه وسجوده وركعاته!...

ذلك الله الذي يسمع صوته.الله الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته...

أجل، فعلى هذا اإلله توكل، وأركن إليه أبدا.* * *

بحثان ـ تفسير )وتقلبك في الساجدين(.1

بين المفسرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى:)الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين(.

وظاهر اآلية هو ما ذكرناه آنفا، أن الله يرى قيامكوانتقالك وحركتك بين الساجدين.

وهذا القيام يمكن أن يكون قياما للصالة، أو القيام للعبادة من النوم، أو القيام للصالة فرادى، وفي

مقام تقلبك في الساجدين... الذي يشير إلى صالةالجماعة.

»التقلب« معناه الحركة واإلنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبي بين

الساجدين في أثناء الصالة، أو إلى حركة النبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان

يتابع أحوالهم ويسأل عنهم... وفي المجموع فإن هذا التعبير إشارة إلى أن الله سبحانه ال يخفى عليه شيء من حاالتك وسعيك،

سواء كانت شخصية فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير امور العباد ولنشر مبدأ الحق

مع االلتفات الى ان األفعال الواردة

(11/477)