492
ا ن ع ق وا ر ص عا م ل ا و ز لغ وا ري ك ف ل ا ور ت ك الد ح ل صا ن! سي ح& ب ق ر ل ا ة ي ل ك ول/ ص3 ا ن! ي الد- عة م ا& ج ل ا ة ي م لا س> لا ا! ن سطي ل ف- ة ز غ ;pma& ع/ة// ب/ ط/ ل ا/ د/ة/ د/ي/& /ج/ ل ا/1431 ه- 2010 م

واقعنا المعاصر والغزو الفكريsite.iugaza.edu.ps/sregeb/files/2010/02/واقعنا... · Web viewوفي إطار الاستعدادات الأمريكية للحرب

  • Upload
    others

  • View
    12

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

واقعنا المعاصر والغزو الفكري

واقعنا المعاصر والغزو الفكري

الدكتور صالح حسين الرقب

كلية أصول الدين- الجامعة الإسلامية

فلسطين - غـزة

الطبعة الجديدة

1431هـ- 2010م

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الكتاب:

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً، وبعد...

فلقد أصبح المسلمون اليوم كماً مهملاً، ليس لهم وزن ولا اعتبار، ولا شأن لهم بين الأمم والشعوب، يتعرضون للذل والهوان والضياع، يستفتى غيرهم-أعداؤهم- في رسم حاضرهم ومستقبلهم، بل ويصنع هذا الغير حاضرهم ومستقبلهم، وسبب ذلك تخلي المسلمين عن مصدر القوة والعزة والسيادة والكرامة، تخليهم عن الإسلام رسالة ومنهجاً ونظاماً للحياة، لقد ضاع الدين الحق منا، ضاع من واقعنا ومجتمعاتنا، ضاع من أخلاقنا وسلوكنا، ضاع من حركتنا مع الحياة وتعاملنا مع الآخرين.قال تعالى:(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) سورة طه: 124.

ولقد تعرض المسلمون إلى حملة ظالمة من قبل الغرب الصليبي والحقد اليهودي استهدفت تلك الحملة فكر الأمة الإسلامية، وعقلها وقلبها، حملة فكرية تناولت حرمات عقيدة الأمة ورسالتها في الحياة، كما تناولت مقدسات أخلاقها وقيمها الدينية الأصيلة، بالهدم والتقويض، والتشويه وإثارة الشبهات والشكوك.

وقد بدأ المفكرون الإسلاميون بحمد الله بمجاهدة أعداء الله تعالى جهاداً فكرياً، من خلال كتاباتهم ومؤلفاتهم وبحوثهم ومقالاتهم، ومن هنا رأيت من واجبي أن أساهم في هذا المجال مسترشداً بخطى هؤلاء المفكرين الأفذاذ.

ولما كُلِّفت قبل عدة سنين بتدريس مادتي (حاضر العالم الإسلامي) و(الإسلام والمذاهب المعاصرة) من قبل كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة، قمت بكتابة هاتين المادتين في مذكرات كنت أمليها على طلابي وطالباتي، ولما رأيت أن الحاجة تتطلب إخراج هذا العمل في كتاب يكون متناولاً بين أيديهم، عزمت على ذلك بعد أن استكملت الكتابة في جوانب الموضوعات والعناصر كلها، مراعياً التصنيف والتبويب والتقسيم سالكاً المنهج العلمي في ذلك.

والله تعالى أسأل أن يكتب لي الأجر والثواب، وأن ينفع به طلاب العلم، ودعاة الحق وأهله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع منهاجه بإحسان إلى يوم الدين.

الباب التمهيدي

الفصل الأول

الجاهلية معناها وخصائص المجتمعات الجاهلية

المقدمة…

شاع في الجزيرة العربية والعالم أجمع قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الفساد والجهل والخرافة والوهم، والانحراف في تصور الحقيقة الإلهية، وعلاقة الإنسان بالله، وعلاقة الله بالكون والحياة والإنسان. كانت الأصنام والأوثان تُعبد إلى جوار الله حول الكعبة وغيرها كانت قوانين الجاهلية وأعرافها تحكم حياة الناس، كانت الأهواء تسيطر على تصرفات الناس وسلوكهم، كان الطواغيت والكهنة وسدنة الأصنام وضَّاعين للشرائع والأعراف والتقاليد، يحرَّمون ما يشاءون، ويحلُّون ما يشاءون وفق أهوائهم ومصالحهم الذاتية وكانت تسود الشهوات من الخمر والنساء والميسر، والقتل والسلب والنهب، والغارات والثأر والعدوان على الناس. لقد كان الناس في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء.

ولقد بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليحارب الفساد والجهل والخرافات والأوهام وليصحح للناس تصوراتهم الاعتقادية في الله وعلاقته بالكون والإنسان والحياة وليقيم دولة الإسلام في نفوس الناس وفي واقعهم. وفي سبيل ذلك تحمل صلى الله عليه وسلم كل أصناف الإيذاء والاضطهاد، وجاهد الكفار والمنافقين، لقد قام بمهمته خير قيام حتى أتاه اليقين والتحق بالرفيق الأعلى.

وحمل الصحابة والتابعون مشعل الهداية والعلم والمعرفة للناس دون تفريق أو تمييز، فحرَّروا العقول من الأوهام والخرافات، وحرَّروا النفوس من الذل والاستعباد. وظَّلت دولة الإسلام قائمة في نفوسهم ومجتمعاتهم. ولما اتسعت الفتوحات الإسلامية ودخلت في الإسلام شعوب كثيرة، ذات مذاهب وعقائد وفلسفات مختلفة، وكثير من هؤلاء دخلوا في دين الله تعالى مستسلمين لأحكامه وأوامره، وعاملين بشرائعه وأنظمته، إلا أنه بقيت بعض رواسب المعتقدات السابقة في أذهان بعض الناس، فقام علماء الإسلام يوضِّحون للناس حقائق العقيدة وأسس التصور، ويدفعون في وجه الشبهات والشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام وخصومه.

وظل المسلمون يعيشون في مجتمعهم الإسلامي ولهم كيانهم السياسي المستقل حتى مطلع القرن التاسع عشر، حيث دبّ الضعف في جسم الدولة الإسلامية، وبدأت سلطة الخلافة تضعف على بعض أقاليم الدولة الإسلامية، وحدثت الحروب الطاحنة بين الدولة وأعدائها. وفي النصف الأول من القرن العشرين سقطت الخلافة الإسلامية وازدادت غفلة الناس عن التفقه في الدين والبعد عنه، وتعرض العالم الإسلامي إلى غزو استعماري استهدف الأوطان والعقول، فازداد المسلمون جهلاً على ما بهم من جهل، حيث شاعت الخرافات والأوهام، وانتشرت العادات والتقاليد الغربية الوافدة، وباختصار عادت الجاهلية من جديد.

تمهيد في معنى الجاهلية:

يستكثر كثير من الناس أن نصف الأوضاع السائدة في معظم أرجاء الأرض اليوم بأنها (جاهلية)، ويحسبون ذلك تزيداً لا يليق، ووصفاً خاطئاً، لا يتناسب مع واقع الحال.()

والسبب في ذلك أنهم يفهمون من الجاهلية صورة معينة، يرونها غير منطبقة على الواقع اليوم، فينبغي أولاً أن نفهم حقيقة الجاهلية، لنرى مدى انطباقها على هذا الواقع أو بُعدها عنه.

ولنعلم - بادئ ذي بدء- أن لفظ (الجاهلية) مصطلح قرآني، وهذه الصيغة بالذات- صيغة "الفاعلية"- لم ترد في استعمال العرب قبل نزول القرآن الكريم، فقد استخدموا الفعل "جَهِلَ"، وتصريفاته المختلفة، واستخدموا المصدر"الجهل" و"الجهالة"، ولكنهم لم يستخدموا صيغة "الفاعلية" (جاهلية)، ولا هم وصفوا أنفسهم ولا غيرهم بأنهم "جاهليون". إنما جاء وصفهم بهذه الصفة في القرآن الكريم، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمصطلح القرآني -كل مصطلح قرآني- هو استخدام خاص للفظ من الألفاظ، يُخصصه بمعنى معين، لا يُفهم من المعنى اللغوي على هذا النحو الخاص إلا بتخصيص القرآن الكريم له، وإن كان يدخل -بداهة- في إطار المعنى العام.

فالصلاة في اللغة مثلاً هي الدعاء، والزكاة هي الطهارة، والدين هو ما يعتقده الإنسان ويدين به، والإيمان هو التصديق.

ولكن "الصلاة" في المصطلح القرآني، هي تلك الهيئة الخاصة التي يقف فيها الإنسان بين يدي مولاه، متجهاً وجهة معينة، راكعاً ساجداً قائماً قاعداً داعياً مسبحاً كما أمر الله، وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

و"الزكاة" هي تلك النسبة المعينة التي يؤديها المسلم من ماله لتنفق في مصارفها المحددة في كتاب الله.

و"الدين" هو الإسلام -إسلام الوجه لله- وما يستتبعه من شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.

والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وما يقتضيه ذلك من أعمال القلب وأعمال الجوارح.()

فإذا ذكر لفظ الصلاة أو الزكاة أو الدين أو الإيمان لم ينصرف ذهن المسلم إلى المعنى اللغوي العام، إنما ينصرف ذهنه ابتداء إلى المعنى الاصطلاحي الذي ورد في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و"الجاهلية"-كسائر المصطلحات القرآنية- لها معناها المحدد، الذي يدخل بطبيعة الحال في إطار المعنى اللغوي العام، ولكنه يتخذ دلالته المحددة من استخدام القرآن له، وتحديده لمعناه.

الجاهلية لغة:

جاء في معاجم اللغة:جهل ضد علم، والجهل ضد العلم. فالجاهلية لغة:هي عدم العلم، أو عدم إتباع العلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان المعنى اللغوي للجهل: "هو عدم العلم، أو عدم إتباع العلم. فإنّ من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلاً مركباً. وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحق".

الجاهلية اصطلاحا:

أمَّا في القرآن الكريم فاللفظ يرد في معنى خاص، وفي الحقيقة يرد في معنيين محدديـن: 1- إما الجهل بحقيقـة الألوهية وخصائصها، 2- وإما السلوك غير المنضبط بالضوابط الربانية، أي بعبارة أخرى: عدم إتباع ما أنزل الله. فحين يقول جلَّ شأنه:(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) سورة الأعراف: 138، فالجهل المقصود هنا هو عدم العلم بحقيقة الألوهية. إذ لو علموا أنه تعالى (لا تدركه الأبصار) سورة الأنعام: 102. وأنه (ليس كمثله شيء) سورة الشورى: 11. وأنه تعالى( خالق كل شيء) سورة الأنعام: 102. وليس بمخلوق، ولا صفاته تشبه صفات الخلق، ما سألوا هذا السؤال الذي ينم عن جهلهم بهذه الأمور كلها.

وحين يقول سبحانه وتعالى:(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون هل لنا من الأمر شيء) سورة آل عمران: 154 فالذي يعيبه الله على هذه الطائفة هو تصور معين لأمر يتعلق بحقيقة الألوهية هو تصورهم أن هناك من يمكن أن يُشارك الله سبحانه وتعالى في تدبير الأمر، وجهلهم بأن ما يتم بالفعل هو إرادة الله وحده، وتدبيره وحده، لا تدبيرهم هم ولا تدبير غيرهم، وأنهم سواء كانوا استشيروا أم لم يُستشاروا، أخذ برأيهم أم لم يؤخذ به، فليس لشيء من ذلك تأثير في قدر الله وتدبيره، كما تصوروا في جهالتهم. لذلك رد عليهم بقوله تعالى:(قل إن الأمر كله لله).

وحين يقول تعالى: (وقال الذين لا يعلمون() لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون). سورة البقرة: 118. فالمقصود كذلك أن هؤلاء الجاهلين أو الجاهليين يجهلون أمراً يتعلق بالألوهية، وهو أن الله لا يكلم الناس إلا وحياً أو من وراء حجاب، كما قال سبحانه:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليٌّ حكيم) سورة الشورى:51. وأنه تعالى لا ينزل الآيات حسب أمزجة الناس، إنما ينزلها حين يشاء سبحانه، لحكمة يريدها، فإذا أنزلت ترتب عليها نتائجها، وهي التدمير العاجل على الكافرين، كما قال سبحانه:(ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون) سورة الأنعام:8.

وحين يقول سبحانه على لسان يوسف عليه السلام:(وإلا تصرف عني كيدهن أصـبُ إليهن وأكن من الجاهليـن) سورة يوسف: 33. فالمعنـى مُتعلق بسـلوك غير منضبـط بالضوابـط الربانية، وهو الصبو إلى النسوة، ومخالفة أمر الله، والوقوع فيما حرم الله وهو الأمر الذي يخشى يوسف عليه السلام أن يقع فيه، ويستعيذ بالله منه.

وحين يقول تعالى:(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) سورة الأحزاب:33. فالمقصود كذلك سلوك غير منضبط بالضوابط الربانية، وإتباع لغير ما أنزل الله من وجوب التحشم وعدم إبداء النساء لزينتهن إلا لمحارمهن. وحين يقول جل شأنه:(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) سورة الفتح: 26. فالمقصود سلوك غير منضبط بالضوابط الربانية، التي تلزم الإنسان ألا يقاتل إلا في سبيل الله، ولا يقاتل حمية، ولا عصبية، ولا لأمر يُغضب الله سبحانه وتعالى.

وأخيراً حين يقول سبحانه وتعالى:(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) سورة المائدة:50. فالأمر متعلق مباشرة بإتباع غير ما أنزل الله من التشريع الذي قال الله فيه:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) سورة المائدة:44.

إذاً الجاهلية مقابل معرفة الله والاهتداء بهديه، والحكم بما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، وليست هي مقابل ما يسمى العلم والحضارة المادية ووفرة الإنتاج. ولم يقل القرآن الكريم قط إن العرب كانوا في جاهلية لأنهم لا يعرفون الفلك والطبيعة والكيمياء والطب، ولا لأنهم لا يعرفون النظم السياسية، ولا لأنّهم متأخرون في ميدان الإنتاج المادي والعلمي، ولا لأنهم خلوا من بعض الفضائل والقيم. إنما قال لهم: إنهم جاهليون لأنهم يحكِّمون أهواءهم، ويرفضون حكم الله. ولقد أعطاهم الله تعالى البديل عن الجاهلية ألا وهو الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

من خلال ما سبق يتبين لنا أن المعنى "الاصطلاحي" للجاهلية، الذي جاء في كتاب الله الكريم، خلاصته هو: الجهل بحقيقة الألوهية، أي الجهل بما يجب لله سبحانه وتعالى من إخلاص العبادة الظاهرة والباطنة له وحده دون شريك، بالإضافة إلى السلوك غير الملتزم بالضوابط الربانية. وهي بهذا المعنى ليست محددة بزمن معين، ولا مكان معين ولا قوم معينين. إنما هي تصورات معينة، وسلوك معين، حيثما وجدت فهي الجاهلية بصرف النظر عن الزمان والمكان والقوم.

الجاهلية المعاصرة:

وبهذا المعيار الرباني، نصف الجاهلية المعاصرة بأنها جاهلية! والذين يظنون أن الجاهلية كانت فترة زمنية معينة في الجزيرة العربية، انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعد لها وجود في أي مكان في الأرض، يغفلون عن الواقع الذي تعيشه معظم الأرض اليوم، كما يغفلون عن أقوال العلماء في هذا الشأن.

يقول ابن تيمية رحمه الله: "فإذا تبين ذلك()، فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جُهَّال، وإنما يفعله جاهل. وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهو جاهلية. وتلك كانت الجاهلية العامة".

"فأما بعدما بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم، فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصرٍ دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم، فإنه يكون في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام".

"فأمَّا في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة". "والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من المسلمين...".()

وخلاصة الكلام الدقيق الذي يقوله ابن تيمية رحمه الله أن الجاهلية العامة التي تشمل كل وجه الأرض قد انتفت بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأرض لا تخلو في أية لحظة من وجود طائفة من أمته ظاهرين على الحق، ولكن الجاهلية المطلقة(التامة الكاملة) قد توجد في بعض البلاد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن الجاهلية المقيدة (أي التي لا تشمل كل شيء ولا كل أحد) قد توجد في بعض ديار المسلمين وفي كثير منهم.

خصائص المجتمع الجاهلي:

المجتمع الجاهلي له سمات وملامح يتميز بها عن غيره، تبرز هويته وتوضح حقيقته.

فمن خصائص المجتمع الجاهلي ما يلي:-

جاهلية التصور والاعتقاد:

من سمات المجتمع الجاهلي عدم الإيمان بالله عز وجل إلهاً مستحقاً لكمال العبادة والخضوع مع كمال المحبة، أي عدم إفراده تعالى بالألوهية، وعدم إفراده بالحاكمية والتشريع، إنما يشرك معه آلهة أخرى سواء كان ذلك في العبادة أم في التشريع. قال تعالى:(أفغير الله تأمرونِّي أعبد أيها الجاهلون) سورة الزمر:64. وقال:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة50.

لقد انحرفت التصورات الاعتقادية فـي كثير من المجتمعات، فمنها مـن يعبد الأوثان والأصنام، ويزعم أن الملائكة بنات الله، ومنها من يقول بتعدد الآلهة، ويجعل لله تعالى ولداً وزوجة، ومنها من يريد أن يكون الإله صورة محسوسة، ويجعلون لله تعالى ابناً(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) سورة التوبة:30. ومن المجتمعات من يعبد النّار أو الأبقار، أو النجوم والكواكب، ومنها من يألَه الطبيعية أو الإنسان، أو المادة.. فأهل الجاهلية يظنون بالله غير الحق كما قال تعالى عنهم:(يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) سورة آل عمران:154.

جاهلية الحكم والإتباع:

ويلزم من عدم معرفة الله وعدم الإيمان به تعالى وحده لا شريك له، جاهلية في الحكم، أي عدم تحكيم شرع الله تعالى في واقع الحياة، بل تحكيم ما يشرعه البشر أنفسهم وفق طواغيتهم،وأهوائهم وشهواتهم، قال تعالى:(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) سورة المائدة:50، وقال تعالى:(قل أفغير الله تأمرونِّي أعبد أيها الجاهلون) سورة الزمر:64، وقال:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) سورة المائدة:44.

ويترتب على ذلك أمران اثنان:-

أولاهما: وجود الطواغيت الذين يهمّهم صرف الناس عن عبادة الله وحده لا شريك لـه وعدم تحكيم شـريعته:إنّ الجاهليين يريدون من النـاس أن يتجهوا إلى عبادة أولئك الطواغيت والحكم بشـريعتهم. يقول الله عز وجل:(يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) النساء:60. وقال تعالى:(الله ولي الذين آمنوا يخرجهـم من الظلمات إلى النـور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) سورة البقرة:257. وقال:(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) سورة النساء: 76.

وصورة الطاغوت تختلف من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أمة، والطاغوت قد يكون فرداً، أو طائفة، أو جماعة، أو عرفاً، أو حزباً، أو أي قوة تستعبد الناس لها فلا يملكون الخروج عن أوامرها، والطاغوت دائماً يحرص أن يكون الولاء لشخصه ولحزبه ومصالحه.

وثانيهما: إتباع الأهواء وطاعتها من دون الله عز وجل، يقول الله تعالى:(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) سورة المائدة:49. ويقول:(ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ِإنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) سورة ص:26. ويقول تعالى:(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) سورة الجاثية:23، والأهواء تختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة، ومن أمة إلى أمة ولكنها دائماً "هوى" فريق من الناس يحكمون به سائر الناس، ومصلحة معينة لفرد أو جماعة أو حزب يسخّر من أجلها بقية الناس على حسب هواه.

3- جاهلية السلوك والأخلاق:

المجتمع الجاهلي يكون فيه سلوك الأفراد والجماعات بعيداً عن المنهج الإسلامي بل يكون السلوك فيه وفق الأهواء والشهوات، خروجاً عمَّا فطر الله عليه الناس، فمثلاً قال الله تعالى مخاطباً النساء: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) سورة الأحزاب: 33، فالخطاب ذم للسلوك الجاهلي المشين المتمثل في تبرج المرأة وسفورها، وإبداء زينتها لغير محارمها.

إنّ الانجراف في تيار الشهوات: الشهوات أسبابها كامنة في فطرة الإنسان، وهي أمر محبّب له، قال تعالى:(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة) سورة آل عمران:14. إنّ قدراً من هذه الشهوات ضروري لقيام الإنسان بمهمة الخلافة التي تولاها في الأرض ولكن عندما تزيد هذه الشهوات عن قدرها المعقول، وتصبح مسيطرة على كيان الإنسان مدمرة لكيانه ومبددة لطاقاته، وصارفة له عن مهمة الخلافة فإنها تهبط به عن مستوى الإنسان الكريم بتكريم الله له إلى مستوى البهائم والأنعام.

إنّ الذي يحدّ من اندفاعها وسيطرتها على كيان الإنسان، هي العقيدة في الله والحياة في ظل نظام يقوم على شريعة وأحكام الله، ولكن الجاهلية التي لا تؤمن بالله ولا تحتكم إلى شريعته فإن الإنسان في ظلها يجرفه تيار الشهوات.() وتجار الشهوات يريدون من الناس أن يبتعدوا عن منهج الله، قال تعالى:(ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) سورة النساء: 27.

4- جاهلية رابطة التجمع والاجتماع:

إن رابطة التجمع في المجتمع الجاهلي رابطة فاسدة تقوم مثلاً على القومية أو الوطنية أو المصالح المشتركة، وقد يجتمع الناس على أساس من اللون كما في التفرقة العنصرية التي سادت في أمريكا وجنوب أفريقيا، قال تعالى:(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) سورة الفتح:26. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما عيَّر بلال بن رباح بسواده:(إنك امرؤ فيك جاهلية).()

خصائص المجتمع الإسلامي:

إنّ المجتمع الذي أقامه المسلمون الأوائل، والذي يسعى المسلمون الصادقون اليوم إلى إقامته وإيجاده يتميز بالخصائص التالية:-

أولاً: التصور الاعتقادي الصحيح:-

إنّ الإسلام جاء لتصحيح التصورات والاعتقادات، ولتصحيح الأوضاع القائمة ولإبطال مقومات الجاهلية وسماتها، لقد أقام الإسلام المجتمع على تصور سليم، وأسس متينة منبثقة عن التصور الإسلامي لله، وعلاقته بالكون والإنسان والحياة. ونستطيع القول أن التصور الاعتقادي في المجتمع الإسلامي يقوم على الأسس الثلاثة التالية:

1- الاعتقاد بأن الله تعالى وحده لا شريك له:هو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي يملك النفع والضر.

2- إفراده تعالى بالعبادة والطاعة،من:الاستعاذة والرجاء والخوف والرهبة،والإنابة والحب والتوكل، والاستعانة والاستغاثة.

3- إفراده تعالى بالأسماء الحسنى والصفات العلا: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشورى:11، (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) سورة الأعراف:180.

ثانياً: الحاكمية لله وحده: -

لابد أن يكون حكم الله وحده هو السائد في المجتمع الإسلامي، وإلا فالمجتمع جاهلي (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) سورة المائدة:50، (إن الحكم إلا لله) سورة الأنعام: 57، (ألا له الخلق والأمر) سورة الأعراف:54. إن سلطة التشريع والحكم لله تعالى، فالحلال ما أحله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما كان محرماً في دين الله تعالى، ولا يملك واحد من الناس مهما بلغت مكانته أن يشرَّع للناس من تلقاء نفسه وحسب هواه، والمسلمون في المجتمع الإسلامي وظيفتهم تنفيذ حكم الله في واقع حياتهم كلها، ووظيفة العلماء أن يبينوا للناس حكم الله، وأن يستنبطوا من كتابه وسنة رسوله أحكاماً لما يستجد من الوقائع والأحداث.

ثالثاً: التجمع على أساس رابطة العقيدة:-

لقد جعل الإسلام آصرة التجمع رابطة العقيدة -رابطة الأخوة الإيمانية- لا رابطة التراب والطين (إنما المؤمنون إخوة) سورة الحجرات:10، (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) سورة آل عمران:103.

لقد آخت العقيدة الإسلامية بين الأسود والأبيض، بين العربي والحبشي، والرومي والفارسي، وقضت على الفوارق المصطنعة بسبب اللون أو المال أو القومية، قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات:13. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على اسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب).() واقتلع عليه الصلاة والسلام جذور الجاهلية في التعصب، وسدَّ كل منافذها فقال: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)()، وحرَّم حمية الجاهلية فقال: (دعوها فإنها منتنة).() وقال صلى الله عليه وسلم في حق سلمان الفارسي:(سلمان منّا آل البيت)، وقال عمر رضي الله عنه في حق بلال بن رباح الحبشي:أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالاً).() يقصد صنيع أبي بكر مع بلال رضي الله عنهما. واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً مؤذناً ينادي المسلمين جميعاً للصلاة، وزوّج عليه السلام مولاه زيد بن حارثة امرأة شريفة من أشراف قريش هي زينب ابنة عمته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)(). قال تعالى: (إنّ يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) سورة النور: 32.

رابعاً: الإنسان له كرامته:-

الإنسان في المجتمع الإسلامي له كرامته ومنزلته، حيث كرّمه الله تعالى وفضّله على غيره من المخلوقات، فهو أشرف المخلوقات، لقد كرّمه الله تعالى إذ جعله خليفته على الأرض (ولقد كرمنا بني آدم) سورة النور: 32. (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...) سورة البقرة: 30.

وزوّده الله تعالى بالمؤهلات والخصائص التي من شأنها القيام بحمل الأمانة وأداء المسئولية على الوجه الذي يريده ويحبه ويرضاه.

والمجتمع الإسلامي يخلو من الإنسان السيِّد الحاكم المطاع، وبتعبير آخر يخلو من الطغاة، ليس فيه سادة وعبيد، فالكل عبيد لله الواحد القهار، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إن الحاكم أو الخليفة عبد لله تعالى كسائر العباد، لا يمتاز عن غيره من أفراد الرعية إلا بثقل المسئولية الملقاة عليه، مسئولية رعاية الناس وفق شرع الله ومنهجه (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته).()

خامساً: السلوك المستقيم مع شريعة الله تعالى:

المجتمع الإسلامي ينضبط أفراده في سلوكهم وتصرفاتهم مع شريعة الله تعالى. ذلك أنّ العقيدة المغروسة في وجدانهم جعلتهم يقولون لشرع الله: سمعنا وأطعنا، وتكاد المعاصي والجرائم الخلقية تغيب عن هذا المجتمع، وقد يكون فيه أناس يرتكبون المعاصي من الزنا وشرب الخمر ونحوها، ولكنهم قلة لا يأبه بها أحد، فضلاً من أن أحكام الله تعالى تطبق عليهم، وقد يسعى هؤلاء إلى الحاكم المسلم طالبين إيقاع العقوبات المقررة شرعاً في حقهم.

إنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر في المدينة أسرع القوم إلى دلق ما عندهم من الخمر في الشوارع، ومن كان بيده قدح ألقاه عن فيه لمّا سمع منادي رسول الله ينادي بتحريم الخمر()، ولمّا نزلت آيات الحجاب أسرعت النساء إلى مروطهن يصنعن منها خماراً ساتراً لعوراتهن(). إنه المجتمع الإسلامي: مجتمع نظيف، ذو سلوك مهذب، وتصرُّف منضبط بأحكام الله عز وجل.

صور للمجتمعات الجاهلية():

أولاً: المجتمعات الوثنية:

المجتمعات الوثنية القائمة في هذا القرن -القرن العشرين- مجتمعات جاهلية منها المجتمعات الهندية واليابانية وغيرها في دول أفريقيا وآسيا، حيث تعبد الآلهة الكثيرة العدد، فالهند مثلاً فيها آلاف من الآلهة، إذ يعبدون كل شيء رائع وجذاب، يعبدون آلات الحـرب والكتابـة والمعادن والأنهـار وآلات التناسـل والحيوانـات، وأعظمهـا عبــادة عندهـم البقرة، وأصبحت الديانة نسيجاً من الخرافات والأساطير، والأناشيد، والعقائد، والعبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستسغها العقل السليم. وفي المجتمع الوثني يستمد الناس تصوراتهم الاعتقادية من الكهنة وسدنة الأوثان، أو من السحرة والعرافين.

ثانياً: المجتمعات اليهودية والنصرانية:

إنّها مجتمعات جاهلية لأن تصوراتها الاعتقادية محرَّفة، يجعلون لله تعالى شركاء في الألوهية، وقد وصفوا الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، يحلون لهم ويحرِّمون عليهم ما يشاءون، ويشرعون لهم ما لم ينزل الله به سلطاناً، وهم لهؤلاء المشرعين مطيعون. وفي ذلك يقول الله تعالى:(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) سورة التوبة: 30-31، (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد)، (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) سورة المائدة:64، (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) سورة المائدة:15، وقالوا:(إن الله فقير ونحن أغنياء) سورة آل عمران:88.

في المجتمعات اليهودية والنصرانية يستمد الناس تصوراتهم الاعتقادية من الكتب المحرفة، التي كتبتها أيدي الكهان والأحبار ورجال الدين، وهي تصورات مشوبة بالخرافات والأساطير، والتي لا تقبلها الفطرة السليمة والعقل الصريح، وفي تلك المجتمعات يفرض رجال الدين نفوذهم وسلطانهم البشري على الناس، ويمارسون تجاههم أنواعاً من الطغيان العقلي والروحي.

ثالثاً: المجتمعات الرأسمالية:

المجتمعات الرأسمالية مجتمعات جاهـلية لأنها مجتمعات فصلت الدين عن جوانـب الحياة المختلفة، ولم يعد الإيمان بالله تعالى له وجود سوى في ضمير الفرد، وداخل جدران الكنيسة، إنها مجتمعات تقدس الدولار والنفع المادي في هذه الحياة العاجلة، وهي مجتمعات يسود فيها الفساد الخلقي، والصراع المدمر بين القوي والضعيف، والاستعمار الوحشي تجاه الشعوب الضعيفة، إنها مجتمعات تمسخ الفطرة وتفسدها بصرفها عن توجهها الفطري إلى عبادة الله الواحد الأحد، لقد أفسدت فطرة الرجل وفطرة المرأة بدعوى المساواة وفتنة التطوير وتحرير المرأة، وأفسدت الحياة الأسرية بصرف المرأة عن رسالتها في البيت والأسرة ورعاية النشء، وتنفيرها من قوامة الرجل لها، وأفسدت حياة الأفراد النفسية والاجتماعية بكثرة المنتجات المدمرة كالخمر والمخدرات، وأصبح الفرد يعيش انتكاسة هائلة في الجانب الروحي والقيم المعنوية اللازمة للحياة السعيدة، فهو يعاني في ظل تلك المجتمعات من: القلق والجنون والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ الجنسي، وأخيراً الانتحار.

رابعاً: المجتمعات الشيوعية:

وهي تلك المجتمعات التي تنكر وجود الله تعالى ولسان حالها يقول: لا إله والحياة مادة، تقول صحيفة برافدا الشيوعية: "نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين، وستالين، ولا نؤمن بثلاثة: الله، الدين، الملكية الخاصة"، وتفسر التاريخ والكون تفسيراً مادياً. والعبودية في هذه المجتمعات لا تكون إلا للحزب الحاكم وفلاسفته من شياطين الإنس الذين يفرضون على الناس تصوراتهم الاعتقادية، وفي ظل هذه المجتمعات أصبح هدف الإنسان في الحياة الحصول على الطعام والشراب والملبس والمسكن، ولا بأس أن هدرت كرامته، وأصبح فرداً في قطيع من البشر يساقون كما تساق البهائم، ولقد أزيلت القيم الاجتماعية التي تعيش في ضمير المجتمع وتحكم علاقاته، كما تم تحطيم القيم الدينية والروحية، ونشر الأفكار والفلسفات الإلحادية، وفي سبيل ذلك قتل عشرات الملايين من المسلمين والنصارى داخل الاتحاد السوفيتي وحده.

المجتمعات الإسلامية المعاصرة والجاهلية:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"فأما بعدما بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم، فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم، فإنه يكون في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام...فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة...والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من المسلمين".()

وخلاصة هذا القول لابن تيمية رحمه الله أن الجاهلية العامة التي تشمل كل وجه الأرض قد انتفت بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأرض لا تخلو أية لحظة من وجود الطائفة المسلمة التي تتمسك بالحق الذي أنزله الله تعالى، ولكن الجاهلية المطلقة التامة قد توجد في بعض البلاد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: (وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهو جاهلية)، كما أن الجاهلية المقيدة أي التي لا تشمل كل شيء ولا كل أحد قد توجد في بعض ديار المسلمين وفي كثير منهم.()

إنّ أغلب أنظمة وزعامات هذه المجتمعات التي تدعي الإسلام اليوم تحارب الله تعالى في أخص خصائص الألوهية، تحارب الله في حاكميته والله يقول:(إن الحكم إلا لله) سورة الأنعام: 57، (ألا له الخلق والأمر) سورة الأعراف:54، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ما قضيت ويسلموا تسليماً) سورة النساء:65،(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) سورة المائدة:50.

إن زعامات هذه المجتمعات تتلقى التشريعات والأنظمة والقوانين من عند غير الله تعالى، وتجعل بعض البشر أرباباً من دون الله تعطيهم سلطة التشريع وإصدار القوانين، إنها مجتمعات يعلن زعماؤها السياسيون ومفكروها أنه لا صلة للدين بالحكم والسياسة والاقتصاد، لا صلة للدين بالحياة، ويحارب هؤلاء السياسيون كل من يدعو إلى تحكيم شريعة الله في المجتمع، ويقوم الإعلام -بوسائله المختلفة- بالصدّ عن حاكمية الله ونشر الافتراءات والشكوك حول منهج الله وشريعته. لقد سادت القيم المادية وعمت المفاسد الاجتماعية، صار الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأصبحت الوطنية-التراب والطين-رابطة التجمع والاجتماع عند كثير من الناس، وأصبح الولاء للحاكم ولحزبه هو البديل عن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

لقد عادت الجاهلية من جديد، وعاش المسلمون في بلدانهم أغراباً، كثرت صور الانحراف عن عقيدة التوحيد، كما تعددت صور الانحراف عن الشريعة الإسلامية، وضاعت كرامة المسلمين بين الأمم، فما عاد لهم وزن ولا شأن، أصبحوا يعانون من الضنك السياسي والاقتصادي والفكري (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى).() إنّ الواقع الذي يعيشه المسلمون له أسبابه الذاتية التي تتعلق بهم، وله أسبابه الخارجية التي تتعلق بمكر أعدائهم ومخططاتهم الشيطانية التي استهدفت القضاء على الإسلام وأهله، وهذا ما نعالجه -إن شاء الله تعالى- في الأبواب والفصول التالية.

الفصل الثاني

الحروب الصليبية

تسميتها بالحروب الصليبية:

سميت الحروب التي قام بها نصارى أوربا ضد المسلمين بالحروب الصليبية لأنها قامت باسم الدين النصراني، كما أن الكنيسة بزعمائها وقادتها ورجالها هم الذين دعوا إلى هذه الحروب، وهم الذين أمدوها بتأييدهم المادي والمعنوي، وقد اتخذ المشتركون فيها الصليب شعاراً لهم، وكان يقدمهم الرهبان وعلى رأسهم بطرس الراهب، وملوك فرنسا والنمسا وإيطاليا وغيرهم.()

الدافع الديني للحروب الصليبية:

ذهب كثير من المؤرخين النصارى إلى إعطاء تفسيرات لأسباب الحروب الصليبية ركزت في الغالب على الأسباب الاقتصادية والسياسية والتجارية، بينما جعلت الأسباب الدينية ثانوية وليست عاملاً رئيساً في هذه الحروب. ولكن الحقيقة العلمية الموضوعية غير ما ذهب إليه هؤلاء المؤرخون، فالأسباب التي ركزوا عليها ما هي إلا روافد استخدمت لتدعيم المحرك الرئيس لهذه الحروب.

ولذا سنذكر من الشواهد والأدلة ما يدل على أن الدافع الأول لهذه الحروب هو الدافع الديني. ()

لقد كان الدافع الديني هو المحرك الرئيس للحروب المسيحية ضد العالم الإسلامي، حيث كان البابوات ورجال الكنيسة هم الداعون إليها،وبيان ذلك:-

1- ذكر المؤرخون أن البابا سلفستر الثاني (1002م) أول من دعا إلى هذه الحروب ثم تلاه البابا خريغوريس (1075م) ثم تلاه البابا أربان الثاني الذي بدأت الجيوش النصرانية الغربية بالتحرك فعلاً في عهده تجاه العالم الإسلامي، وبيان ذلك: أن البابا أربان الثاني وقف في مجمع كارمونت بفرنسا في 26/11 سنة 1095م يلقي موعظة مؤثرة في جموع النصارى الذين احتشدوا لسماع كلام الزعيم الديني، حث البابا في موعظته أتباعه على محاربة المسلمين، وتخليص قبـر المسيح المقدس منهم، وتحرير بيت المقدس والمقدسات المسيحية في بلاد الشام من أيدي المسلمين. وقد وعد المحاربين بأن تكون رحلتهم إلى الشرق الإسلامي بمثابة غفران كامل لذنوبهم. لقد أدرك المستمعون لخطاب البابا ما يعنيه وما يرمي إليه، فصاحوا في حماس جنوني: "هذه هي إرادة الله...إن الله يريدها" وحملوا من ساعتها شارة الصليب وقد توجهوا نحو الشرق الإسلامي كما طلب منهم.

ومما جاء في خطاب البابا أربان:"بأمر الله تتوقف العمليات الحربية بين المسيحيين في أوربا، ويتجه هؤلاء بأسلحتهم إلى هزيمة الكفرة -يقصد المسلمين- الآن اذهبوا وأزعجوا البرابرة، وخلصوا البلاد المقدسة من أيدي الكفار وامتلكوها لأنفسكم فإنها كما تقول التوراة تفيض لبناً وعسلاً".

2- لقد قام البابا بالتنقل بين المدن والبلدان المسيحية داعياً حكامها وشعوبها للحروب الصليبية، وأرسل المبعوثين والرسل إلى مختلف الأقاليم المسيحية داعين للمشاركة في هذه الحروب، كما أرسل إلى القوى البحرية يدعوها كي تساهم في الحروب بسفنها ورجالها وجنودها وأموالها.

3- أناب البابا أربان الثاني عنه الأسقف أدهمار كي يشجع المتطوعين للحرب، ولكي تكون الكنيسة هي المسيطرة على الروح الصليبية لدى المقاتلين، ولتوجههم حسب إرادتها.

- إن البابا نفسه هو الذي اختار مدينة القسطنطينية لتكون مكان تجمع الجيوش النصرانية، وحدد يوم 15/8/1096م - 499هـ تاريخاً لبدء تحرك الجيوش إلى الشرق الإسلامي.

4- ومما يبين مكانة الدافع الديني في الحروب الصليبية حركة الإحياء الديني التي ظهرت في الغرب النصراني في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، حيث ترتب على هذه الحركة عودة البابوية والكنيسة إلى سطوتها القديمة، وإثارة الحماس الديني في نفوس الغربيين، وقد ظهر شعور قوي لدى النصارى الغربيين بضرورة إنقاذ الأرض المقدسة من أيدي المسلمين، كما ترتب على هذه الحركة الازدياد الملحوظ في عدد قوافل الحجاج النصارى المتجهة إلى الشرق، وقد كانت قوافل حربية غايتها أداء الحج والدفاع عن النفس إذا تعرضت لأذى خلال رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.

5- ومن الدلائل التي تشير إلى أن الدافع الديني هو المحرك الرئيس للحروب الصليبية الدور البارز الذي قامت به الجماعات الدينية في الحروب الصليبية، تلك الجماعات التي رغبت في محاربة الإسلام والمسلمين، وخاصة جماعة الفرسان الاسبتارية وجماعة الداوية، اللتان تجردتا من كل الأمور الدنيوية، لقد اتخذت الجماعات الدينية من المدن والحصون قواعد ومراكز للتدريبات العسكرية والاستعدادات الحربية، وكان لها دور كبير في تشجيع الأمراء والنبلاء والشجعان الفرسان من أجل الخروج للحرب. ولما دخلت الجيوش الصليبية بلاد الشام أصبحت جماعة الفرسان يمثلون القوة العسكرية الرئيسة التي تحافظ على الوجود الصليبي في بلاد الشرق الإسلامي.

6- ومن الدلائل أنَّ الروح الصليبية كانت سائدة في أوربا الغربية كلها، والكنيسة كانت مسيطرة على الحياة الأوربية الغربية لدرجة أنه لا يمكن لأحد أن يخالف التعاليم الكنسية، وأن يبتعد عن تأثير الحماس الديني الشديد والتعصب البغيض للديانة النصرانية.

أهداف الحروب الصليبية:

1- إذلال المسلمين بغزوهم في عقر دارهم().

2- إقامة إمارة أو إمارات صليبية -وخاصة في فلسطين- تدوم إلى الأبد، وتتوسع حتى تقضي على الإسلام والمسلمين، يقول غاردنز: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي...والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام". ويقول ليفونيان فيري: "لقد أحب الصليبيون أن ينتزعوا القدس من أيدي المسلمين بالسيف ليقيموا للمسيح مملكة في هذا العالم".()

3- تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات ضعيفة، وإبقاء التبعية الثقافية والسياسية للمستعمر الغربي. وهذا هو حال المسلمين اليوم.

4- التشكيك في العقيدة الإسلامية وتشجيع العقائد والأفكار اللادينية، ومن ثم القضاء على الإسلام وأهله.() وصدق الله تعالى إذ يقول:)يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) سورة التوبة: 32.(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا) سورة البقرة: 217.(ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) سورة البقرة: 109.(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير) سورة البقرة120:.)إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) سورة الأنفال: 36.

حالة العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية الأولى:

كان العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية يعاني من أسباب الضعف والانحلال والتفكك. ()

1- فدولة الأتراك السلاجقة قد ذهبت قوتها، وانقسمت إلى عدة دويلات متحاربة، وذلك بعد وفاة السلطان ملكشاه 1092م، حيث اقتسم أبناؤه الأربعة مملكته الواسعة، فأصبحت الدولة الواحدة أربعة ممالك: فارس -كرمان -العراق -حلب ودمشق -، وخرج عن التبعية للسيادة السلجوقية حكام المدن والولايات، المعروفون بالأتابكة، وحدثت خلافات ومنازعات بين سلاجقة الشام أنفسهم.

2- كما كانت بلاد الشام منطقة نزاع بين الفاطميين والسلاجقة منذ سنة 1070م، وكانت الحرب بينهما سجال، فالسلاجقة تمكنوا من انتزاع فلسطين ودمشق من أيدي الفاطميين، وسيطروا على حلب والرها والموصل...ولما كان الفاطميون يمتلكون أسطولاً بحرياً قوياً فقد تمكنوا من الاستيلاء على جميع مدن الساحل الشامي، ومنها: عسقلان وعكا وصور وجبيل، كما استولوا على القدس للمرة الثانية سنة 1096م وبقيت في أيديهم إلى أن سقطت بأيدي الصليبيين سنة 1099م.

3- لقد كانت الدولة الفاطمية (في مصر وشمال أفريقيا) ذات نزعة شيعية متطرفة، عملت على توسيع سلطانها على حساب المسلمين أهل السنة، وبهدف إضعاف الخلافة العباسية السنية، وقد أصاب الضعف والخور هذه الدولة، ومنيت بأزمات اقتصادية ومجاعات شديدة، وكانت أشدها ضراوة في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، الذي حكم ثمانٍ وخمسين سنة (1036م - 1094م).

4- وأما الخلافة العباسية التي كان مقرها بغداد، فلقد اعتراها أيضاً الضعف والانحلال نتيجة الخلافات والمنازعات بين أبناء الخلفاء أنفسهم، وبين الخلفاء وحكام الولايات الراغبين في الانفصال والاستقلال عن جسم الدولة العباسية، لقد تولى الحكام غير الأكفاء مقاليد الحكم، وأصبح الفرس والأتراك أصحاب قوة ونفوذ سياسي على حساب الخلفاء العرب، وانتشر البذخ والترف والإسراف في أوساط الخلفاء والأمراء، وترك الجهاد في سبيل الله، وانحاز كثير من الناس إلى الدنيا ومتاعها، صدق تعالى فيهم قوله:(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) سورة الإسراء: 16.

ظهر نتيجة ذلك كله دويلات مستقلة انفصلت عن الخلافة العباسية، وقام الشيعة الإسماعيليون بنشر أفكارهم وعقائدهم الضالة، وتعاون الإسماعيليون مع الصليبيين فقاموا باغتيال كثير من القادة المسلمين الفاتحين والسلاطين المشهورين.()

جهاد المسلمين ضد الصليبيين:-

رغم حالة الضعف التي كانت سائدة في بلاد الشام قبيل مجيء الغرب الصليبي ورغم سقوط المدن الشامية بأيدي الصليبيين إلا أن المسلمين لم ييأسوا ولم يستسلموا لعدوهم أبداً، حيث بدأ الجهاد وحروب التحرير من قبل المسلمين، إذ قيَّض الله تعالى للمسلمين عماد الدين زنكي 541هـ، الذي جاهد الصليبيين وهزمهم في معارك كثيرة واستطاع أن يسترد الرّها منهم –وهي إمارة أسسها الصليبيون في الشرق- وكانت فتح الفتوح بالنسبة لعماد الدين والمسلمين. ولقد قتل –رحمه الله- قبل أن يتمكن من مواصلة فتح بقية المدن الأخرى، تولى الأمر بعده ولده الملك العادل نور الدين محمود زنكي 569هـ، الذي صمم على إجلاء الصليبيين عن بلاد الشام وخاصة مدينة القدس، لكنـه مات قبـل أن يكمـل مهمتـه، وخلفه في الحكم أحـد رجال حاشيته وهو الملك الناصـر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر، وجاء صلاح الدين على قدر من الله تعالى، إذ تجمعت فيه خصال التقوى والإخلاص والحرص على الجهاد، وعرف رحمه الله بالتنظيم وحسن القيادة، ومكارم الأخلاق، ومواظبته على الصلاة والقيام والصيام.

أهم أعمال صلاح الدين قبل معركة حطين:-

1- الدفاع عن البلاد والمدن المستهدفة من القوات الصليبية.

2- إصلاح أحوال المسلمين، وإبعاد عوامل الضعف والفساد عن الصف المسلم وذلك من خلال:-

أ- توحيد المسلمين في بلاد الشام ومصر.

ب- وضع حدٍّ للأفكار والعقائد الإسماعيلية المنحرفة.

إقامة المدارس لتربية الناس التربية الإيمانية العقائدية.

د- بث روح الجهاد في نفوس الناس.

هـ- إقامة المعسكرات للمجاهدين مقابل معسكرات النصارى الصليبيين، بهدف إثارة الحماس الديني في نفوس المسلمين، وإثارة الرعب في نفوس الكافرين.

معركة حطين وفتح القدس:

وقف العالم المسيحي الصليبي وقفة رجل واحد إزاء المسلمين، ولكنه لم يستطع أن يزحزح صلاح الدين عن مكانه، لقد ظل جيش صلاح الدين أعواماً مرابطاً مجاهداً قوياً، رغم طول فترة الجهاد والمتاعب العظيمة، لقد دخلت الجيوش المسلمة في عدة معارك مع الصليبيين، استطاعوا فتح وتحرير كثير من المدن، وحصار بعضها، وفي سنة 583هـ – 1187م هزم المسلمون الصليبيين هزيمة منكرة في معركة حطين، واستردوا من أيديهم مدينة القدس، وكانت حطين فتح الفتوح في تاريخ المسلمين().

وتعاقب على حلبة الجهاد أبطال عظام أمثال: الصالح أيوب، وقطز، وبيبرس وقلاوون، وقام كل بدوره في تسديد الضربات إلى قلب الصليبي المنتحر. ولقد انتصر الإسلام في صراعه ضد الصليبية الماكرة والتي عادت تجر ذيول العار والهزيمة من حيث جاءت خاسرة خائبة دون أن تحقق أهدافها الكبرى().

الموالاة بين الصليبية والمغول:

بعد الهجوم الصليبي على الشرق الإسلامي كان الهجوم المغولي الوثني على العراق ومركز الخلافة الإسلامية في بغداد سنة 656هـ، استطاع المغول التتار بالتعاون مع الشيعة الاستيلاء على بغداد، لقد نشروا الخراب والدمار في كل مدينة دخلوها، قتلوا وقتها مئات آلاف الناس، في هذه الفترة التاريخية عقد حلف بين الصليبيين المهزومين والمغول الوثنيين المتقدمين نحو الشرق، بهدف القضاء على الإسلام والمسلمين، وتم عقد الحلف بين الصليبيين الذين بقوا حاكمين لبعض المدن الشامية والمغول.

يذكر بعض المؤرخين أنه لما قضت الحملة المغولية الوثنية وطرها من الدولة العباسية واصلت الزحف إلى الأمام حتى بلغت شواطئ البحر المتوسط في بلاد الشام، غير أنها لم تتعرض للبقية الباقية من المناطق التي ما زالت في حوزة الصليبيين بالشام، وخاصة: يافا وعكا وأنطاكية، وذلك يرجع للعلاقات الطيبة التي كانت بين المغول والصليبيين، وما تخللها من مفاوضات كان البابا زعيم النصارى يتولاها بنفسه للاتفاق معاً ضد الإسلام والمسلمين.()

عين جالوت:

إنّ معركة عين جالوت التي حدثت في أرض عين جالوت الواقعة في بيسان بفلسطين في 25 رمضان 658هـ، غيرت الموازين لصالح المسلمين، إذ ألحقوا هزيمة ساحقة بالمغول، وكانت في الوقت نفسه درساً قاسياً للصليبية المتآمرة.

تغيير خطة الغزاة الصليبيين:

بعد أن جرَّبت أوربا الحروب العسكرية الصليبية الأولى ضد المسلمين، وبعد أن أدركت إخفاقها في تحقيق أهدافها الماكرة إذ لقيت من المسلمين جهاداً ومقاومة واستبسالاً، فكَّرت أوربا في استخدام طرق أخرى ووسائل جديدة، لكي تحقق أهدافها، وكان أمام البابا سلسلتين الخامس أحد طريقين:

الأولى: الأخذ بخطة المبشر الصليبي الأسباني رامون لول، التي تتلخص في غزو المسلمين تبشيرياً فكرياً عن طريق وسائل العلم والتعليم، وإذا ما فشلت أوربا في ذلك تعود لأسلوب القوة المادية في تنصير المسلمين.

الثانية :تنصير المغول الوثنيين واستخدامهم من جديد في حروب مدمرة ضد المسلمين.اعتمد البابا الطريقة الثانية لأنها في نظره أفضل وأسرع في تحقيق الأهداف الصليبية خاصة وأن صلات مودة كانت موجودة مع المغول أثناء زحفهم على بلاد الشرق الإسلامي، ولكون المغول وثنيين يمكن أن يستجيبوا للتنصير أسرع من المسلمين.

لكن جهود الكنيسة في تنصير المغول لم تفلح إذ أبطل الله تعالى كيدهم، حيث أراد الله بالمغول خيراً، لقد دخل معظمهم الإسلام بإرادتهم، طواعية واختياراً.()

بعد فشل الغرب في الأخذ بالطريقة الثانية عاود الأخذ بخطة المبشر رامون لول التي عرضها على البابوية سنة 1229م، ومما شجعهم على ذلك صلات المودة التي كانت سائدة بينهم وبين نصارى الشام، وهؤلاء النصارى العرب وسيلة جيدة يمكن الاعتماد عليها في تنصير المسلمين.في الماضي القريب.

لقد أدرك الأوربيون وساد الاعتقاد بينهم أنّ الصراع العسكري مع الإسلام لا يجدي نفعاً، ولا يكفي وحده لإسقاطه ودحره، وأنّه لابدّ من التفكير بعمق في تنظيم برنامج عمل كامل يقوم بدراسة وفهم مضامين الفكر الإسلامي ومعرفة مواضع القوة والضعف فيه كمرحلة أولى، ثم محاولة نقضه وإحداث الشرخ في جدرانه، لغرض اختراقه وتحطيمه من الداخل، وبالتالي ضرب إرادة المقاومة عند هذا الخصم العنيد ثم استئصاله نهائياً. ذلك لأنّ قوة المسلمين إنما هي بالإسلام، فهو سبب قوة المسلمين وصمودهم في وجه جحافل الصليبية القادمة من أوربا. ومن هنا دخلت المواجهة بين الإسلام والغرب المسيحي مرحلة جديدة تعتمد سلاحاً جديدا بالإضافة للحرب الصليبية العسكرية هو:الغزو الثقافي الفكري لها لضرب الإسلام -الخطر الدائر- على وجوده.

ولكن أوربا لم تعتمد خطة التبشير وحدها في الهجوم الماكر ضد الإسلام والمسلمين، بل استخدمت وسائل أخرى تستهدف من خلالها محو الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً من حياة المسلمين، ومن هنا تعددت محاور الهجوم الماكر، وكثرت وسائلة التي تستهدف العقول والأذهان والأفكار المسلمة.

الحروب الصليبية لم تنتهي بعد:

وفي القرن التاسع عشر عادت أوربا للحروب الصليبية من جديد فكان الاحتلال الفرنسي لمصر ثم الاحتلال البريطاني لها بعد ذلك، فكان احتلال فرنسا للجزائر سنة 1246ه-1830م، وتونس سنة 1299هـ-1881م، ومراكش سنة 1330ه-1912م، وللشام سنة 1338ه-1920م، وكان احتلال بريطانيا سنة 1274ه-1857م للهند إيذانا بزوال إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن السادس عشر. واحتلالها لمصر سنة 1300ه-1882م، والعراق سنة 1332ه-1914م، وفلسطين سنة 1337ه-1918م، كما وقعت ليبيا تحت الاستعمار الإيطالي في أكتوبر 1911م، ولم يكن توزيع العالم الإسلامي بين فرنسا وبريطانيا وليد الصدفة، فلقد كشف الاتفاق المنعقد بين الدولتين سنة 1322ه-1904م عن جانب من السياسة الغربية الصليبية التي تتمثل في تقطيع أوصال العالم الإسلامي. وصحب ذلك التقسيم الغزو الفكري بإثارة القوميات المختلفة كالقومية الطورانية في تركيا، والقومية العربية في البلاد العربية، حتى اقتتل المسلمون تحت قيادة النصارى باسم القومية والتحرير!! كما صحب ذلك دعوة خبيثة إلى العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة تبنتها جماعات كثيرة مشبوهة الصلات والأهداف، من أمثال حزب الاتحاد والترقي في تركيا الذي كان من قياداته يهود من يهود الدونمة.

لقد حاولت السياسة الاستعمارية الصليبية الفرنسية في شمال أفريقيا تحطيم مراكز الثقافة الإسلامية وركزت على التعليم, وسعت إلى دمج شمال أفريقيا في الميدان الحضاري الأوروبي المسيحي، وحاولت إقامة الحواجز أمام بلدان الشرق الأدنى وقطع كل صلة مع المراكز التعليمية العربية الإسلامية، وتعليم اللغة الفرنسية. واتبعت في مناطق غرب أفريقيا التي سيطرت عليها سياسة مشابهة حيث أنفقت على المدارس التبشيرية، واعتمد المبشرون الغربيون -وأغلبهم فرنسيون- على الأعمال الاجتماعية لتنصير بعض الأفراد من بين المسلمين ثم الهرب بهم أو عزلهم عن المناطق الإسلامية بقدر الإمكان حتى لا يعودوا للإسلام.

وفي الخمسينيات من القرن العشرين، قررت الولايات المتحدة أن ترث النفوذين البريطاني والفرنسي في المنطقة لتحقق نفس الأهداف التي كان يحققها هذان النفوذان.() لكن إن اتفقت الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا في الاستراتيجية والأهداف فلقد اختلفت معهما في التكتيك والأسلوب ومارست الولايات المتحدة في مهارة ما يسمى بلعبة الأمم تحقيقا لأهدافها، وكان أهم أساليبها في ذلك الانقلابات العسكرية التي تصنع عن طريقها البطل أو الزعيم الذي تتعلق به آمال الأمة المسلمة، فيمتص بذلك ما يمور في باطنها، وما كان يمكن أن يؤدي إلى ثورة في غير صالحها، ويقوم الزعيم المصطنع بتضييع موارد الوطن وتوجيه الشعوب لتنحرف عن أهدافها الوطنية، وبالتالي تتحقق مصالح الغرب الصليبي.

وفي السابع والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1995م اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط هذا اليوم ليكون موعداً لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونة بأسبانيا، يضم 15 دولة أوربية و12 دولة متوسطية من بينهما 8 دول عربية إضافة إلى تركيا وقبرص ومالطة ودولة العدو الصهيوني، ما مناسبة هذا المؤتمر؟ ولماذا عقد؟ وهل جاء هذا الموعد في زمانه ومكانه محض مصادفة؟. فالجواب: أن كل هذا الترتيب وفي هذا الموعد بالذات لم يكن مصادفة، إنَّ هذا الموعد يوافق ذكرى مرور 900 سنة على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر في عام 1095م، أطلق بابا النصارى "أوربان الثاني" دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض الاستيلاء على بيت المقدس.

ومما قيل في ذلك المؤتمر ما صرح به "ويلي كلاوس" حيث قال:"إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألا تقللوا من شأن هذا الخطر". وقال أيضاً:"إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، ومن واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات". فهل كان هذا المؤتمر تحضيراً لحروب صليبية جديدة؟ ألم تنته الحروب الصليبية بعد؟ ألم يقل القائد "اللنبي" بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب العالمية الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"! هل كان مخطئاً؟ يبدو ذلك، بل بالتأكيد كان مخطئاً، هذا إن أحسنّا به الظنّ، ولم يكن يعلم أن النصرانية لم تشبع بعد من دماء المسلمين ولم تكفها سبع أو ثماني حملات في القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن، بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان منذرة بقيام المزيد من الحروب الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني، وأنها لم تنته بعد، فقد جاء الصرب وافتتحوا حملات جديدة حتى قال وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له:"إن الصرب في معاركهم في البلقان إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة لاستئصال شأفة الإسلام". وقال الرئيس الفرنسي السابق عند زيارته لمطار سرايفو:"لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا". وقال رئيس وزراء بريطانيا:"إن الهدف النهائي لنا هو تقسيم البوسنة، ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً". ولقد رأى العالم بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب المسلمين في البوسنة، فهل تستحق هذه الحرب وصفاً آخر غير الحرب الصليبية؟!.()

وأخيرا عادت الحروب الصليبية العسكرية للعام الإسلامي، وفي هذه المرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية،زعيمة الصليبية المعاصرة، وربَّة العالم الجديد، فاحتلت العراق وأفغانستان، وندرس العراق نموذجا لبيان الأهداف الصليبية الجديدة من هذه الحرب.

العراق نموذجا، والأهداف الحقيقية من الحرب على العراق هي:

1- استغلال الحرب ضد العراق لتأكيد التواجد العسكري الولايات المتحدة في المنطقة العربية: وذلك من خلال ترسيخ القواعد العسكرية والوجود العسكري الأمريكي، حيث أن الولايات المتحدة تحاول حشد أكثر من ربع مليون أمريكي في الأراضي العربية والإسلامية، وهذا في ذاته احتلال عسكري لن أي دولة تفكر في إخراجه هذا في المرحلة اللاحقة, إلا برغبة أمريكية، وبعد أن تكون الولايات المتحدة قد ضمنت إيجاد نظم موالية لها تحقق أهدافها.ثمً إعادة انتشار التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، فمنذ حوالي عامين تكرًرت عدة إشارات أمريكية وسعودية بالحاجة إلى إعادة النظر في التواجد العسكري الأمريكي في السعودية، وقد زادت هذه الإشارات بعد هجمات11 سبتمبر 2001م. وفي إطار الاستعدادات الأمريكية للحرب ضد العراق، تمّ دراسة إعادة تشكيل خريطة التواجد العسكري في منطقة الخليج، حيث برزت أهمية كل من قطر والبحرين. والمرجح أن احتلال الولايات المتحدة للعراق سوف يعيد تشكيل هذه الخريطة مرة أخرى وبصورة جذرية ولمدة طويلة مقبلة. فالعراق الجديد، وبما يتمتع به مساحة جغرافية وموارد وموقع مهم ، وهذا معناه التمركز بكثافة أكبر في العراق. لتكون بمثابة القاعدة الكبرى للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. وسوف يشكل مصدر إزعاج ثقيل لهذه الدول، وبما قد يؤثر على مواقفها تجاه قضايا وملفات إقليمية مهمة، كملف التسوية والعلاقة المطلوبة مع إسرائيل ومستقبل حزب الله اللبناني.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن الولايات المتحدة تخطط لإقامة علاقة طويلة الأمد مع الحكومة التي سيتم تشكيلها في بغداد؛ حيث سيكون عليها منح الولايات المتحدة حق استخدام القواعد العسكرية في العراق. وقال مسئولون أمريكيون في مقابلات مع الصحيفة في موقعها على الإنترنت الأحد 20-4-2003م: إن واشنطن تنوي الاحتفاظ بأربع قواعد عسكرية في العراق لاستخدامها في المستقبل: الأولى في مطار بغداد الدولي. والثانية في تليل قرب الناصرية. والثالثة في مكان معزول في صحراء غرب العراق تسمى H-1 بمحاذاة خط أنابيب النفط بين العراق والأردن. والرابعة في باش ور شمال العراق. وتستخدم القوات الأمريكية بالفعل حاليًا هذه القواعدَ، وتخطط للبقاء فيها لاستخدامها في أي أزمات قد تحدث في المستقبل.

وتقول الصحيفة:إن الوجود العسكري الأمريكي في العراق سيساعد واشنطن على تغيير النظم في كل من سوريا وإيران، ليس بالضرورة عن طريق إسقاطها، وإنما عن طريق إضفاء طابع الاعتدال على سياساتها نتيجة شعورها بالتهديد العسكري الأمريكي.

وتضيف صحيفة نيويورك تايمز إلى أن استخدام القواعد العسكرية في العراق سيمكن الولايات المتحدة من تقليل الاعتماد على القواعد التركية، خاصة بعد رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية بعبور أراضيها لغزو العراق من الشمال، هذا فضلا عن تمكين واشنطن من تخفيض وجودها العسكري في الأراضي السعودية لتخفيف الانتقادات الموجهة للرياض بهذا الشأن.()

2- محاولة الصهاينة المسيحيين التنصير في أوساط الشعب العراقي المسلم:

فقد ذكرت مجلة نيوزويك(10/03/2003م) أنّ أنصار بوش من الإنجيليين الصهاينة يأملون أن تكون الحرب القادمة على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد، كما يشير موقع القس بيلي غراهام على الإنترنت – وهو الأب الروحي للرئيس بوش- إلى "الجوع الروحي في العراق في الوقت الحاضر"، ولذلك مدلوله الخاص في السياق الحالي.

وقد أعلنت منظمتان تنصيريتان أمريكيتان أنهما تعدان فرق عمل لدخول العراق ونشر الديانة المسيحية بين مواطنيه بعد انتهاء الحرب الدائرة حاليا. والمنظمتان هما المؤتمر المعمداني الجنوبي أكبر التجمعات البروتستانتية في الولايات المتحدة، يرأسهما القسين:وفرانكلين جراهام، ساماريتانس بيرس، وفي تصريحات لموقعي (بليف نيت، ونيو هاوس) الإخباريين قالتا:إن أعضاءهما متواجدون حاليا على الحدود العراقية الأردنية في انتظار الدخول إلى الأراضي العراقية عندما تستقر الأوضاع الأمنية.

وقال مترجم حر:إن المنظمتين تشكلان فرقا من المترجمين للقيام بمشروع ترجمة من الإنجليزية إلى العربية. وأشار في تصريحات لشبكة "إسلام أون لاين.نت" الجمعة 28-3-2003م إلى أنه اطلع على مقتطفات من مشروع الترجمة، ولاحظ أنه ذو طبيعة تبشيرية، مشيرا إلى أن ذلك المشروع يستهدف ثلاث دول هي السعودية والكويت والعراق. وأعلنت المنظمتان أن من أولوياتهما تقديم الطعام والمأوى والاحتياجات الأخرى للعراقيين المتضررين من الحرب، وأنهما ستنشران الديانة المسيحية بين العراقيين الذين يبلغ نسبة المسلمين بينهم 98 بالمائة.

وقال فرانكلين جراهام الذي تحمل إحدى المنظمتين اسمه لموقع بليف نيت.كوم الثلاثاء 25-3-2003: إن أعضاء منظمته سيتوجهون إلى العراق لتولي مهمة التبشير. وأضاف في اتصال هاتفي من مقر المنظمة بمدينة بون في ولاية ساوث كارولينا الأمريكية قائلا: "أعتقد أننا عندما نبدأ العمل فسوف يمنحنا الرب فرصا لنخبر الآخرين عن ابنه"، وقال:إن فريق العمل يهدف إلى الوصول إلى العراق لإنقاذ العراقيين"، مشيراً إلى أنه كمسيحي يفعل ذلك باسم المسيح. وأعلن سام بورتر مدير إغاثة الكوارث بالمؤتمر العام المعمداني في أوكلاهوما أن المنظمة تستعد أيضا للقيام بما أطلق عليه "أعمالا إغاثة" في العراق. وأشار إلى أن القيام بذلك النشاط ليس فرصة كبيرة للقيام بأعمال إنسانية فقط، ولكن لنش