154
١ ﻧﺸﻮﺀ ﺍﳊﻀﺎﺭﺓ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ: ﺃﲪﺪ ﺍﻟﻘﺼﺺ

نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١

نشوء احلضارة اإلسالمية

أمحد القصص: الكاتب

Page 2: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢

الفهرس

٤ مقدمة ٨ املصطلح والتعريف واملاهية: احلضارة :مدخل

٩ املصطلح والتعريف :توطئة ١٠ احلضارة واملدنية والثقافة :أوال

١٠ نشأة املصطلح - أ ١٥ احلضارة - ب ١٦ املدنية - ج ١٧ الثقافة - د

١٨ رية؟حضارة عاملية أم حضارات بش :ثانيا ١٩ احلضارة اإلسالمية :ثالثا

٢٤ نشوء احلضارة اإلسالمية :الباب األول ٢٥ قيام اتمع اإلسالمي :الفصل األول

٢٥ جمتمع عرب اجلاهلية :توطئة ٢٨ مولد احلضارة اإلسالمية وقيام اتمع اإلسالمي األول :أوال ٣٣ مع اإلسالميانتشار احلضارة اإلسالمية وتوسع ات :ثانيا ٣٨ مقومات وخصائص... اتمع اإلسالمي :ثالثا ٤١ ثقافة اتمع اإلسالمي :رابعا

٤٩ نشأة احلضارة اإلسالمية :الفصل الثاين ٤٩ نشوء احلضارات البشرية :توطئة

٥١ كيف نشأت احلضارة اإلسالمية؟ آراء ونظريات :أوال ٥٩ سالميةالنشأة الصافية للحضارة اإل :ثانيا ٦٢ مىت اكتملت احلضارة اإلسالمية؟ :ثالثا ٦٤ حضارة عربية أم إسالمية؟ :رابعا

٦٥ مظاهر ازدهار احلضارة اإلسالمية ومظاهر تراجعها :خامسا ٦٧ ما هو أثر املؤثرات والدواخل احلضارية على اتمع اإلسالمي؟ :سادسا

٧٠ كاك احلضاري والثقايفاتمع اإلسالمي واالحت :الفصل الثالث ٧٠ ملاذا االحتكاك احلضاري والثقايف؟ :توطئة

٧٢ الفتوح اإلسالمية واالحتكاك احلضاري :أوال

Page 3: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣

٧٤ انتفاع اللغة العربية :ثانيا ٧٦ رون وروايات أهل الكتاباملفس :ثالثا ٧٧ املكذوبة واألحاديثثون احملد :رابعا

٧٩ بالتشريع الروماين؟ ه اإلسالمير الفقهل تأث :خامسا ٨٢ بنظام احلكم الفارسي؟ رت الدولة اإلسالميةهل تأث :سادسا

٨٨ ومناذج ظواهر مؤثرات يف اتمع اإلسالمي :الباب الثاين ٨٩ توطئة

٩٠ علم الكالم :الفصل األول ٩٠ نشأة علم الكالم؟ :أوال ٩٣ املذاهب الكالمية :ثانيا ٩٣ املعتزلة يف مواجهة الزندقة - أ

٩٦ قضايا املعتزلة - ب ٩٨ املعتزلة يف مواجهة اتمع - ج ١٠٠ شاعرةاأل -د ١٠٤ ومنهج علماء الكالم بني منهج احملدثني والفقهاء :ثالثا ١٠٦ واملؤثرات الثقافية اإلسالمية األصالةبني : علم الكالم :ارابع

١٠٩ كالم واملنطقعلم ال :خامسا ١١٣ علم الكالم واتمع اإلسالمي :سادسا

١١٨ الفلسفة والتصوف :الفصل الثاينالأو: تمع اإلسالمي١١٨ الفالسفة وا

١٢٥ اجلذور التارخيية: التصوف :ثانيا ١٢٨ اتمع اإلسالمي نشأة التصوف يف :ثالثا

١٣٦ تمع اإلسالمين يف االتصوف يتمك :رابعا ١٤٢ خالصة البحث

١٥١ خامتة

Page 4: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤

مةمقد

جمتمع ن ما ميتلكه أيمثفاهلوية احلضارية هي أ. أخطر ما ميكن أن يصيب أمة من األمم، هو أن تفقد هويتها احلضارية إن إال ق اطمئناا وجتلب هلا املعاناة،وقد تصاب اتمعات بالعديد من أنواع الكوارث اليت تقض مضجعها وتؤر .من اتمعات

ه وتدعوه إىل املواجهة ما دامت من شأنه أن يواجه تلك الكوارث اليت تستفز ه احلضارية،تك هلويته وشخصياتمع املدر أناحلضارة اليت ينتمي إليها متلك من املقوى أشكاهلامات واحللول ما يكفي ملواجهة أعباء احلياة بشت.

تلك األزمات والكوارث، ولكن مبجتمع غافل عن ذاته وهو حني تلميته وشخصيا أن فإن مات وجوده،ته ومقومن شأ .ما تودي به إىل الزوال من خارطة احلضارات البشريةحتى ترديه صريعا،ورب تفتك به الواحدة تلو األخرى،

ت مبراحل من االحنطاط يندى من النكبات واألزمات، بل مر العديد ،يدت باألمة اإلسالمية خالل تارخيها املدـملقد ألكا سياسيا بدأ منذ عهد ضعف اخللفاء فقد شهدت يف بعض مراحل ذلك التاريخ تفك. هلا اجلبني وتدمع عليها العيون

تمع . املغول والتتار بل سقط كثري من تلك الديار أمام غزوات. وسقطت بعض ديارها أمام الغزو الصلييب. اسينيالعبوعاىن ا تلك األمة كانت بعد كل كبوة، أن إال. ية وغريها من األزماتداإلسالمي يف بعض حقبات التاريخ من بعض األزمات االقتصا

ومتها بناء على عقيدا الراسخة، ومن خالل منظ ا من سوء ولتعاجل ما أرقها من املشاكل واألزمات، أمل تنتفض لتواجه ماة وشخصيةالثقافية، ولتستعيد دور الريادة وموقع الغلبة يف الساحة الدوليولعل. تها احلضاري كان وائلني األعهد اخللفاء العثماني

.النهضوية اليت مضت بعد مراحل من السبات والركود واالنكفاءأبرز تلك االنطالقات

من ذلك النوع الذي من شأنه القضاء على -والسيما نكبة املغول والتتار-ت باألمة ولقد كانت بعض النكبات اليت أملة تنا متابعة مسريا من جديد ماخرة عباب التاريخ لعدمملا استطاعت أ تها احلضارية،ولوال رؤيتها هلوي. تهامبر يةكيانات حضار

.قرون تالية

وذلك حني ظهر .ت برأسها منذ بداية القرن التاسع عشرأطل ذه األمة،ت الكارثة العظمى اليت مل يسبق أن حل نأ إالا ها عدوبعد قرون مضت مل تعرف تلك األمة خالل على الساحة الدولية غرمي حضاري دعا األمة اإلسالمية إىل ساحة النـزال،

اليت خاضتها األمة اإلسالمية منذ صدر اإلسالم ووصوال فبعد املنازالت احلضارية .العسكرية واآللةينازهلا بغري السيف والرمح ة األوىل،إىل العهود العباسي ة وغريها، واليت سقطت خالهلا سائرة وفارسية ورومانيأمام صرح صريعة احلضارات من يوناني

حضارم هي آخر مني وكأنوبدا للمسل .فكر اتمع اإلسالمي نازل يستفزخلت الساحة من م احلضارة اإلسالمية،ب فلم يعد يتوج .رسالة حضارية ذات شأن ية عزىل من أيشعوب أم إاله مل يعد حول األمة اإلسالمية وأن حضارات التاريخ،

عسكريه عدوان لميكن أن يشك يخطر ماد لتحافظ على جمتمعها من أي ظة،أن تكون متيق إالعلى الدولة اإلسالمية بالتايل

Page 5: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥

ف عن اجلهاد لفتح البالد وحتويلها إىل دار مع الشعور بالتقصري حني التوق يقوم به أحد الشعوب ااورة على دار اإلسالم، .اإلسالم

كان أخطر حتد بعد اكتمال معاملها وقيام كياناا السياسية، ظهور احلضارة الغربية املعاصرة على مسرح التاريخ، أن إالية األمة متحد ة باملبادرة إىل النـزال احلضاري والثقايف،هي اليت قامت هذه املر تلك احلضارة، ذلك أن .لك األمةيواجه ت

وعاش على تراث املاضني من نعدمت احليوية الفكرية فيه،او ر تفكريه،واجهت جمتمعا حتج نأعاا على ذلك أ .اإلسالميةفراحت ترشق .ت يف كيانهبدينه ونظامه ومنط عيشه وهيبة دولته،غري فاطن إىل عوامل االحنطاط اليت دب امعتز الفقهاء والعلماء،ى ذلك بطبيعة احلال إىل أن تكون فأد. اجم ا اإلسالم وحضارته وأحكامه ومعاجلاته وأنظمته ومنط عيشه سهامها الفكرية،

.سالمية يف حال الدفاعواألمة اإل احلضارة الغربية يف حال اهلجوم،

غلب فلقد أدرك بعد قرون من املواجهة معها أنها ال ت .لقد استهدف الغرب القضاء على اهلوية احلضارية لألمة اإلسالميةعسكريا ومادة"ما دام يقاتلها بوصفها ا،ية إسالميأم." تها تلك فكان القرار أن يتمحتويلها عن هوي. بيل هذه خذ يف سوقد ات

".التفاعل احلضاري"كان من أبرزها وأمضاها أثرا موضوعة .الغاية العديد من الوسائل

من أنت، رة حول نشوء احلضارالطاملا مسعنا وقرأنا املعزوفة املتكر نشوء أي ما هو مثرة تفاعل حضارات شتى،حضارة إن إاله ما من حضارة وأن ت من غريها واغتنت واستمدة على ن سبقها،بنتاج مى قامت مستويوتثاقفت مع سائر احلضارات حت

أصوهلا، وأنه ال ميكن حلضارة أن تستمر مبعزل عمها حني تنغلق على نفسها، تكون قد حكمت ا حوهلا من احلضارات، وأن ...لعلى نفسها باملوت والزوا

احلضارة اإلسالمية مل إن: لتقول لنا يد تلك املعزوفة على أمساعنا،دأبت تلك الغزوة احلضارية والثقافية على ترد وهكذا،لوا منها مزجيا وهضموها وشك بعد أن شرب العرب عصارة احلضارات السالفة واملعاصرة هلم، إال تنتصب شاخمة يف التاريخ،

وإن ،"اإلسالمية العربيةاحلضارة " همأو على حد تعبري بعض" العربية" كانت احلضارة ،جديدة فأفرزوها حضارة جديدا،ا انغلق اتمع فلم املسلمني بقوا أصحاب حضارة زاهرة بقدر ما تابعوا عملية التثاقف مع احلضارات والثقافات األخرى،

ازدهار حضاري،إىل إن أرادوا عودا واعتراه الركود واجلمود، فما على املسلمني اليوم، فيه الوهن، دب اإلسالمي على نفسه،لوا ما لدى احلضارة الغربية املعاصرة من مقوالت وأطروحات ومفاهيم ومقاييس فيتقب أن يستأنفوا عملية التبادل احلضاري، إال

...وأنظمة للحياة واتمع

بعض مثار -األمر ادئظ ببتحف-لون فراحوا يتقب ،"النصيحة املخلصة"فني املسلمني بعد حني ذه لقد اقتنعت مجهرة املثق .حتى زالت كل العوائق اليت كانت تقف أمام تلك احلضارة ا استساغوا طعمها راحوا يطلبون املزيد،فلم احلضارة الغربية،

وطارت يف اهلواء دعاوى اقتباس ما الكامل، دون خطاب احلضارة الغربية مبضمونه األصلين يردمم فظهر الكثري يف جمتمعنا، .ال مدلول واضح هلا يترمجها على أرض الواقع وظهر أنها كلمة فضفاضة، من احلضارات األخرى،" تناافق مع شخصييتو"

تستورد وتستهلك األفكار وأمست مسلوبة الشخصية، وهكذا وجدت األمة اإلسالمية نفسها فجأة وقد فقدت هويتها، .لناسره إىل هؤالء اوال جتد ما تصد واألنظمة الغربية،

Page 6: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦

يقول أحد كبار رموز التخطيط االستراتيجي ة،حدة األللواليات املتلقد كانت (": برنارد لويس"املستشرق املعاصر مريكيهيعادتنا اليت تعو دناها يف العامل الغريب: كلما اتجه الشرقيللفضيلة كنا بالغرب لنجعل أنفسنا مثاالون إلينا كلما ازداد متس

موالتقد. هوا بنا عددنا ذلك أمرافإذا تشب احسنا وإذا مل يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءا وشر. فالتقده بنا،م هو يف التشب ا أمفعندما تصطدم حضارتان تسيطر .األمر ليس كذلك بالضرورة أن إال!! إذا مل يقتدوا بنا فذلك هو التقهقر واالضمحالل

ثون بطالقة وسهولة عن تزاوج بني أحسن العناصر من رون فيتحدون واملفكي املثاليقد ينرب .م األخرىإحدامها وتتحط ١.)النتيجة العادية يف هذا التالقي هي تعايش بني أسوء العناصر من االثنني أن إال احلضارتني،

احلضارة الغربية تريد أن أن ،مريكيةحدة األالذي رفعته الواليات املت وملةلقد ظهر يف السنني األخرية،مع ظهور شعار العفرانسيس "فلقد انتهى التاريخ كما يرى .اليت تصوغ حياة مجيع شعوب األرض ،ةجتعل من نفسها حضارة العامل الوحيد

يعيش وفق طراز أكثر حيث على البشر مجيعا يف هذه املعمورة أن يصبحوا جمتمعا واحدا، خري،ووصل إىل هدفه األ ،"فوكوياما !!وهذه هي احلضارة العاملية ما،ت التاريخ تقدحضارا

بل تستدعي من كل مؤمن حبضارته غيور عليها، هذه املوجة الغربية العارمة اليت تريد إغراق العامل يف حبر حضارا، إنخذها الغرب سالحا يف اتاليت "الذرائع"أن يعيد النظر يف تلك املقوالت ،األقلمن كل من ملس فساد احلضارة الغربية على

".تفاعل احلضارات"وأبرز تلك الذرائع ذريعة .غزوه للعامل

تعود إىل حماكمة األفكار من أصوهلا، البد أن تكون إعادة نظر جذرية، ومن أجل أن تكون إعادة النظر وافية باملطلوب، .نذ بدايتهاالرحلة احنرفت م له،فلعلبل تعود إىل أو فال تبدأ من منتصف الطريق،

مة ألحباث أخرى تبىن والذي أرجو له أن يكون مقد يت يف هذا البحث املتواضع يف حجمه،جعلت مهم بناء على ذلك، :أن أعود لطرح التساؤالت التالية عليها،

لنا إدراجه وبالتايل ما الذي حيق جنازات املادية؟وما صلتها بالعلوم واإل ؟ ما صلتها بالثقافة؟"احلضارة"ما هي • لنا إدراجه فيه؟ وما الذي ال حيق ،"احلضارة"يف نطاق مدلول

وما سواها؟"حضارة إسالمية "وما هي احلدود الفاصلة بني ما يطلق عليه ؟"احلضارة اإلسالمية"ما هي •

وما صلتها باحلضارات األخرى؟ كيف نشأت هذه احلضارة ؟ •

والثقايف بني احلضارة احلضاري خذه االحتكاك توجه الذي اما طبيعة ثقافة اتمع اإلسالمي؟ وما ال • سواها من احلضارات والثقافات؟ وما تأثري ذلك االحتكاك على اتمع اإلسالمي؟ما اإلسالمية و

:اآليتنفة جاءت العناوين الرئيسة هلذا البحث على النحو جابة على التساؤالت اآلويف ضوء اإل

.املصطلح والتعريف سالمية،احلضارة ، واحلضارة اإل •

.٦٠ت، ص.تعريب نبيل صبحي، بريوت، د" وسطالغرب والشرق األ"برنارد لويس -١

Page 7: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧

.نشوء احلضارة اإلسالمية •

.اتمع اإلسالمي واالحتكاك احلضاري والثقايف •

• تمع اإلسالمية يف اة واحلضاريمناذج من املؤثرات الثقافي.

النتائج يف خدمة الواقع ضافة إىل خامتة تضع تلك باإل ل إليها البحث،د النتائج اليت توصحتد مث أتبعت ذلك كله خالصة،تنا يف عصرها احلاضرالثقايف الذي وصلت إليه أم.

Page 8: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨

:مدخل

احلضارة املصطلح والتعريف واملاهية

Page 9: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩

:توطئة املصطلح والتعريف

.فاتحباث والدراسات واملؤلي إىل إجهاض كثري من األإمهاله قد يؤد مهية حبيث إنحتديد معاين املصطلحات من األ إنحتتاج يف بدايتها إىل اء هلا،د أفهام القرة من تلك اليت قد تتعدالدراسة اليت تستخدم مصطلحا ما أو مصطلحات عد ك أنذل

القارئ سوف يعجز عن الوصول إىل مراد فإن الإو د يف نصوصها،ني يرح توضيح املعىن املراد أداؤه من املصطلح املشكلى غموض املصطلح إىل أن يفهم القارئ معىن آخر ما أدورب ها املطلوب،أداء الدراسة هدف األمر الذي سيحول دون الكاتب،

.خري حبال من األحوالوهذا ما ال يرضي هذا األ غري الذي أراده الكاتب،

ن ر عنها أهل املعارف والفنوغراض اليت يعبوتزداد أمهية توضيح املصطلح أكثر فأكثر كلما تعددت املعاين واألالدراسة صاحب وقد ال جيد اختيار .واالختصاصات بواسطة ذلك املصطلح، وكلما ازداد اخلالف حول حتديد معناه

إىل وقوف القارئ على مراد قلألي على احتديد مدلوله سيؤد أن إال للمصطلح الذي يستخدمه قبوال لدى مجيع القارئني، .الكاتب حني ورود املصطلح

ولكنه يف الوقت نفسه من .هو من أكثر املصطلحات تداوال اليت حنن بصددها تتمحور حول مصطلح، وهذه الدراسة ."احلضارة"أعين مصطلح ر عنه،ويعب من حيث املعىن الذي يفيده أكثر املصطلحات إشكاال

هم يال مث لقارئنفسهم أوأل-ا دون أن حيددو وكم من الباحثني والدارسني خاضوا دراسات وأحباثا حتت هذا العنوان،وال دة وواضحة،وبالتايل أتى معظم تلك الدراسات أحباثا فضفاضة غري ذات مدلوالت حمد .دا لذلك املصطلحمعىن حمد - ثانيا

أو عن مدى سعة ر حضارة بأخرى،أو عن مدى تأث سيما حني الكالم عن اخلطوط أو اهلوامش الفاصلة بني حضارة وأخرى، ...أو عن مدى تبدل وتغير املظاهر احلضارية يف جمتمع من اتمعات من احلضارات، حضارة

احلضارة"يف دراسيت هذه على حتديد مصطلح من هنا حرصت "مث انتقلت إىل تعريف ال،ونشأته واملعىن املراد منه أو :ع بالقولفأسار! ما الفرق بني هذين االثنني؟: وقد يتساءل القارئ هنا ."احلضارة"

وبني تعريف ذلك املعىن الذي مت اختيار املصطلح للتعبري ن،عيما للتعبري عن معىن م هناك فرقا كبريا بني اختيار مصطلح إن :ولتوضيح ذلك املعىن أضرب هذا املثال الواضح .عنه

نزاع وال ز ا عن سائر احليوان ليست حملع ا اإلنسان ويتميكة اليت يتمتللداللة على املل» العقل«إن استخدام مصطلح ق عليه اجلميع اسم العقل هو تعريف ذلك الشيء الذي يطل أن إال .هامعت اختصاصام وتوجمهما تنو خالف بني الناس،

Page 10: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠

،١"اك العلوم النظريةأ ا إدرغريزة يتهي"فه بأنه فهناك من عر .فنقع على تعريفات عديدة للعقل الذي يثري كثريا من اخلالف،وهناك من عر٢"انعكاس الواقع على الدماغ"ه فه بأن، ة ربط احملسوسات باملعلومات املخزونة يف "فه بأنه وهناك من يعرعملي

.٣"دماغ العاقل إلصدار احلكم على الواقع

وهو العرض الذي عليه، استقرره وما ة تقع على عاتق هذه الدراسة هي عرض نشأة املصطلح وتطول مهمأو لذلك فإن، وهو الشرط الذي "للحضارة"الوصول إىل تعريف جامع مانع مومن ث ستصحبه بطبيعة احلال التعريفات املتداولة للحضارة،

.تعريفا صحيحا ومنضبطايعد تعريف حتى ره يف أيجيب توف

ين أجده من أن إال قد أخذ منها حيزا كبريا، -ملصطلح وتعريفهأعين ضبط ا- هذا اجلانب من الدراسة وقد جيد البعض أنف ذلك أن موضوع هذه الدراسة يتوق .وال سيما يف املوضوع الذي حنن بصدده هذا القدر من البحث، مهية حبيث يستحقاأل

من أجل معرفة ما الذي ،مية خصوصاملعىن احلضارة اإلسال مومن ث إعطاء الرأي فيه على دراسة وافية ملعىن احلضارة عموما،يدخل ضمن ذلك املصطلح وما الذي ال يدخل فيه؟ وما هي احلدود الفاصلة بني ما يعبر عنه باحلضارة اإلسالمية وما سواه؟

...المية؟ر ا سوى احلضارة اإلسوبالتايل ما مدى انصهار اتمع اإلسالمي ذه احلضارة وما مدى املؤثرات اليت تأث

ة والثقافة :الأواحلضارة واملدني نشأة املصطلح –أ وهي ة،يخالف الباد: واحلضر واحلضرة واحلاضرة ...يف احلضر اإلقامة(: "لسان العرب"اللغة وكما ورد يف يف "احلضارة"

.أي سكىن املدن والقرى س البداوة،ه يقصد ا ما هو عكذكر احلضارة يف اللغة فإنحني ت إذن،. )املدن والقرى والريف

ومرادنا يف هذا .ولو كان ذا صلة به هو غري املعىن االصطالحي واملعىن اللغوي .للكلمة هذا املعىن هو املعىن اللغوي أن إالللحضارة البحث الوقوف على املعىن االصطالحي. ا الرجوع إىل نشأة ذلك املصطلحوهذا يتطلب من.

أوالذي ،]هـ٨٠٨ت [ "عبد الرمحن بن خلدون"ع يف الكالم عن احلضارة والتفريق بينها وبني البداوة هو ل من توسوحصل هلم ما فوق احلاجة من الغىن والرفه، دعاهم ذلك إىل (وا يف كسبهم للمعاش ما هو ضروري الناس حني ختط يرى أن

ق فيها وتوسعة البيوت واختطاط املدن قوات واملالبس والتأنا من األالسكون والدعة وتعاونوا يف الزائد على الضرورة واستكثروق يف عالج القوت واستجادة املطابخ مث تزيد حالة الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها يف التأن .رمصار للتحضواأل

ة البيوت والصروح وإحكام وضعها يف تنجيدها وانتقاء املالبس الفاخرة يف أنواعها من احلرير والديباج وغري ذلك ومعاال

.٨٥ص، ١ج، م١٩٨٣هـ ١٤٠٣، عرفة، بريوتدار امل، إحياء علوم الدين، اإلمام أبو حامد حممد بن حممد الغزايل: انظر -١ .الفكر: مادة، ١٩٨٧دار الطليعة، بريوت ، ترمجة مسري كرم، يودين .إشراف روزنتال وب، املوسوعة الفلسفية: انظر -٢ .وما بعدها ٢٠ص، ١٩٨٥بريوت دار الكتاب اللبناين،، الفالسفة والفكر اإلسالمي، حممد أبو محدان: انظر -٣

Page 11: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١

واالنتهاء يف الصنائع يف اخلروج من القوة إىل الفعل إىل غايتها فيتون فيها املياه ويعالون يف رجخذون القصور واملنازل ويوهؤالء هم .ونخذونه ملعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعصرحها ويبالغون يف تنجيدها وخيتلفون من استجادة ما يت

.١)مصار والبلداناحلضر، ومعناه احلاضرون أهل األ

ع وكل ما كان منه أن توس .عنده مل خترج عن معناها اللغوي" احلضارة"كلمة جيد أن" ابن خلدون"ق يف كالم واملدقمن اخلطأ إدراج ابن خلدون يف لذلك كان .قليال يف شرح حال أهل احلضر أو املدن والتمييز بينهم وبني البدو أهل البادية

".للحضارة"عداد أهل االصطالح احملدث

وذلك من .ة قرون خلتوذلك لعد للحضارة إنما تعود إىل الدراسات األوربية، نشأة املعىن االصطالحي والواقع أنالت والتبديالت على ذلك مث طرأت التعدي نة،اليت ظهرت حتمل مدلوالت معيCivilization ""خالل استخدام العبارة

.عليه اليوم من معىن حتى وصل إىل ما استقر املصطلح،

Civiliséفهي تنحدر مباشرة من صفة: وأصلها واضح ،١٧٣٤بالفرنسية سنة " Civilization"ظهرت كلمة (]٢)يف القرن السابع عشر ]رمتحض. خدمت هذه الكلمة ويف هذه احلقبة است-ة أو حضارةومعناها يف العربيللداللة -ة مدني

شني والربابرة،رياف أو من أهل الغابات املتوحوللتفريق بينهم وبني من هم خارجها من أهل األ على صفات أهل املدينة،)وحالة التحضر،مجلة الصفات املكتسبة خارج الطبيعة،ر واملتحض زة للحياة يف هذا العامل وهي أخريا جمموع الظواهر املميقنا يف هذا املعىن سنجد أنه ال خيتلف كثريا عن املعىن الذي أراده ابن خلدون وإذا دق .٣)ر الذي بناه اإلنسان املديناملتطو خلاصا

متهيف مقد.

ولكن ة األخرى وصار يعين هذا املعىن أخذ يتغييجمموعة من اخلطط (ر بعد قليل، حني انتشر املصطلح يف اللغات األوربنوار يف مفهوم ، واأل٤)نوار، وبتأمني انتصار األديبر البشرية الفكري واألنظم القمينة بإشاعة النظام والسالم والسعادة، وبتطووال

ففي ذروة العصر (. ري القرن الثامن عشر األوربيني هي الثقافة األوربية واملفاهيم اجلديدة اليت أحدثتها الثورة الصناعيةمفكز به اتمع أي ما يتمي ،٥)ر احلضارة بصيغة املفردا جرى تصوا وسياسياألوربيون يهيمنون فيه على العامل فكري الذي كان

.األوربي من خصائص

- بدأوا منذ القرن التاسع عشر يستخدمون هذا املصطلح -وال سيما املؤرخني منهم-اب األوربيني املفكرين والكت أن إالcivilization - للداللة على ما متلكه أي ة من األمم من خصائص تتمياأم وهكذا بدأ . عن األمم والشعوب األخرى ز

- ١٨٢٢[الروسي " نيقوالي دانيليفسكي"ا يقوله مثال فمم. بدال من احلضارة الواحدة" احلضارات"الكالم بينهم على

.١٣٢ص، دون تاريخ، بريوت دار اجليل،، ةاملقدمبن خلدون، عبد الرمحن بن حممد مةالعال -١ .١٩ص، ١٩٩٣الطبعة األوىل ، باريس بريوت منشورات عويدات،، تعريب خليل أمحد خليل، جغرافيا احلضارات، روالن بريتون -٢ .٢٠ص، املرجع السابق -٣٤ - ة فريد داغر وفؤاد أبو رحيان إىلنقله ، كروزيهإشراف موريس ، تاريخ احلضارات العامجملد ، ١٩٦٤الطبعة األوىل ، بريوت منشورات عويدات،، العربي

.١٧ص، ١ ٢٠ص –جغرافيا احلضارات -٥

Page 12: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢

والتاريخ البشري يف . زاااحلضارات لكل منها خصائصها وممي ا هناك طرز منليس هناك حضارة واحدة، وإمن(: ]١٨٨٥جاهات ما هو يف احلقيقة مكون من حركات خمتلفة االتجاها واحدا ونزعة بذاا، وإنبع اتمستقيم يت جمموعه ال يسري يف خط

. ١)ةولكل حضارة قيمها اخلاص. راتتتبع خطوطا متباينة وتكشف عن وجهات أو قيم كثرية خالل الطرز املختلفة من احلضاعي الرئاسة احملتومة، فهذا دة ال حضارة واحدة ليس بينها ما يدا أن نكون أمام حضارات متعدأم(": موريس كروزيه"ويقول لكل مجاعة بشرية مجاع أنهؤالء باإل ني، إذ يقرخني والعلماء االجتماعيجناس البشرية واملؤرألم به اليوم بني علماء اأمر مسل

ا اخلاصى أنعلى شيء من النظام، حضارة، حت لألقوام املتوحا اخلاصاشة حضار ا اليوم عدم مور املسلكذلك من األ. ة م .٢)خذ بالنظرية الضيقة اليت تقول بتاريخ واحد للحضارةاأل

ات أهل املدينة اخللقية واالجتماعية والشكلية وأساليب عيشهم ل من الداللة على مواصفهذا املصطلح تبد وهكذا نرى أن- مة ذات الثقافة العالية والعلوم املزدهرةزات األمم والدول املنظرياف والغابات إىل الداللة على مميوالفرق بينهم وبني أهل األ

ريا للداللة على أمناط اتمعات اليت شهدها التاريخ مث أخ - وهو مفهوم القرنني الثامن عشر والتاسع عشر لدى الدول األوربية .شة هلا حضارا اليت تصوغ عيشهاقوام املتوحاأل البشري، بصرف النظر عن مدى ثقافتها وعلومها، حتى إن

احلضارة "من معىن، يظهر ارتباط واضح بني " احلضارة"عليه مصطلح ووفق ما استقر من خالل ما سلف من البحث،ولوال ذلك اتمع جمتمع من اتمعات، عيش منط إالواحلضارة ما هي . د اتمعاتدة بقدر تعدفاحلضارات متعد". اتمعو

ة" .ث عن تلك احلضارةملا أمكننا التحدتمع اليوناين، و إالما هي " فاحلضارة اليونانية اة"عبارة عن هوياحلضارة املصري "... عبارة عن هوية اتمع اإلسالمي إالما هي " احلضارة اإلسالمية"القدمي، و تعبري عن هوية اتمع املصري إالالقدمية ما هي

ويف الوقت نفسه يراه تاريخ التاريخ البشري تاريخ حضارات، يرى أن" أرنولد توينيب"الشهري خ الربيطاينفها هو املؤر. وهكذاستعمالن كمترادفني يف ي حضارة وجمتمع ياصطالح ة أنمور ذات الداللة اخلاصمن األ( ":تونرالف لن"ويقول . ٣جمتمعاتمها األفراد مة من االستجابات اليت تعلمة من األفراد، واحلضارة جمموعة منظفاتمع عبارة عن جمموعة منظ... حيانغالب األ

وأصبحت من ممي٤)نزات جمتمع معي.

آخر سيزامحه هناك اصطالحا وسنجد أن. خني الغربينيوفاق لدى مجيع املفكرين واملؤر صطلح مل يكن حملهذا امل أن إالرجم بوصفه ، وإن ت"الثقافة: "، وترمجته اللغوية إىل العربية"culture" ، أعين به املصطلحقليف مدلوله أو بعض مدلوله على األ

.م عنها الحقااصطالحا بواسطة عبارات أخرى سنتكل

زات جمتمع للتعبري عن مميCivilization" " ففي الوقت الذي اصطلح فيه معظم املفكرين الغربيني على استخدام عبارةختصيص هذا املصطلح -وال سيما األملان-فضل بعضهم ... أو أمة من األمم وخصائصها الفكرية والتشريعية والروحية والتقنية

.٤٧٦ص، ١٩٩٢الطبعة األوىل ، دار النفائس، بريوت، مدخل إىل التاريخ اإلسالمي، حممد فتحي عثمان: نقال عن -١ .١٨ص، ١م، العام ،اراتتاريخ احلض -٢مة املقد، ١ج، ١٩٦٠الطبعة األوىل ،دارة الثقافية يف جامعة الدول العربية، القاهرةاإل ،تعريب فؤاد حممد شبل ،خمتصر دراسة للتاريخ، أرنولد توينيب: انظر -٣

.وما بعدها ٣ص .٦٥ص، ١ج، دون تاريخ ،مصرية لوجنمكتبة األ، ترمجة أمحد فخري، شجرة احلضارة، رالف لنتون -٤

Page 13: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣

" Civilization"الذي يطلق مصطلح " ألفرد فيرب"ومن هؤالء .١)والكتابة اليت بلغت مرحلة التنظيم احلضريباتمعات (م املتماسك الذي له نظام منتظم ينتقل من شعب م سبل السيطرة على القوى الطبيعية، ذلك التقدفروع املعرفة وتقد منو(على

واضح املعامل كما ال تسري يف خط(اليت " Culture"فها حتت اسم ظاهرة اليت يصنويفرق بني هذه الظاهرة وال ،)إىل آخراملصطلح لدى هؤالء العلماء حمل) Kulturباألملانية " (reCultu"املصطلح وهكذا حيل. ٢)تسري عملية املدنية

"Civilization "د الذي يشتمل ذلك الكل املعق(" وارد تايلورإد"ما، والذي هو يف نظر للداللة على منط العيش يف جمتمعة املواهب والقابليات والعادات اليت على املعارف واملعتقدات والفنون واألخالق والقوانني والتقاليد والفلسفة واألديان وبقي

لدى شعب معين، أي جمموعة طرائق احلياة(" كاليد كلوكهون"وهو يف رأي . ٣)اكتسبها اإلنسان من جمتمعه الذي يعيش فيهالذي حيصل عليه الفرد من جمموعته اليت يعيش فيها، أو هي اجلزء الذي خلقه اإلنسان يف حميطه وهي اليت املرياث االجتماعي

د األحتدة، أو هي طريقة يف التفكري والشعور واملعتقدات، إة خمزونة يف ذاكرة أفساليب احلياتيرادها ا معلومات اجلماعة البشريوخالصة القول( .٤)دواتواأل أو يف الكتب أو يف املواد :ي ملفهوم الحظ أنيهناك تداخال كبريا يف تناول الفكر األورب

"Civilization" فهناك من جعل املفهوم مرادفا ملفهوم ،"Culture " مثل تايلور، وهناك من جعله قاصرا على نواحيمن التقد يآم املادسات واختراعاتالت ومؤس... وهناك من قصر املفهوم على . موهناك من جعله شامال لكل نواحي التقد

نواحي التقدها مفهوم عاملي م اخلاصها تشمل الفرد واجلماعة، وهناك من رأى أنهناك أي أن-ة بالفرد، وهناك من رأى أن"Civilization "تمعات تساهم فيها واحدة دائما وأنبنصيب ماكل ا- ا أم"Culture" ة بكل شعب، فهي خاص

.٥)وهناك من رأى العكس

هذين املصطلحني تزامحا يف الثقافة األوربية للداللة على معىن مشترك إىل حد كبري، وهو جمموعة وهكذا نرى أنوقد حرصت على إيراد هذين املصطلحني . اخلصائص الفكرية والتشريعية والشعورية اليت تسم جمتمعا ما بنمط معين من العيش

)Civilization وCulture (ة ألنيباللغات األورباب واملؤله مل يكن هناك اتفني العرب على وجه ترمجتهمافاق بني الكت . .لالنتقال إىل وجوه استعمال تلك املصطلحات يف الثقافة العربية املعاصرةن وهذا ما يدفعنا اآل

فات والترمجات العربية ثالثة مصطلحات تقوم ان املصطلحان يف اللغات األوربية، جند يف الكتابات واملؤلفبينما تزاحم هذ ".احلضارة واملدنية والثقافة: "وهي أالذا الدور،

كلمة إن: احلضارة واملدنية والثقافة(: اد يضع العبارات الثالث مقترنة يف حماولة لتعريفها، فيقولهو جورج حدفهاجنبية هلا مفهوم يقرب من وهناك كلمة باللغات األ) ...(ة باألساس من احلضر ومن حياة املدينة مشتق" مدنية"أو " حضارة"

وترمجتها بالعربية هي الثقافة، ومعناها أوسع، ويفهم منها الطريقة ) باألملانية culture) "Kultur"مفهوم احلضارة وهي

.٣١ص، جغرافيا احلضارات -١ . Civilizationمادة ، ١٩٨٠الطبعة األوىل ، دار الطليعة، بريوت، إحسان حممد احلسن: ترمجة ومراجعة، معجم علم االجتماع، دينكن متشل -٢ .Cultureمادة ، املرجع السابق -٣ .٢١ص، م١٩٩٥، املعهد العاملي للفكر اإلسالمي، فرجينيا، ةاملدني - الثقافة – احلضارة، نصر حممد عارف -٤ .٤٠-٣٩ص، املرجع السابق -٥

Page 14: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤

للداللة على احلضارة واملدنية يف اللغات " Culture"وكثريا ما تستعمل كلمة ) ...(ر ب ويفكاليت مبوجبها يعيش الشع .١)ال تكفي لترمجة معناها" ثقافة"ن كلمة إجنبية، ولذلك قلنا األ

الذي حيمل "ديورانت ول"فكتاب ". حضارة"حيان إىل العربية بعبارة يف أغلب األ ترجم" civilization"فمصطلح ، وعرب املصطلح إىل كلمة "ة احلضارةقص"ترجم إىل العربية حتت عنوان " The story of civilization" اسم

د تلك العبارة، وال سيما دروكذلك األمر يف معظم ترمجات الكتب اليت حتمل ذلك العنوان وت. يف معظم موارده" حضارة"تمعاحني تكون تلك الكتب متخصة منها واملعاصرةصة يف موضوع اة التارخييت البشري.

بكلمة " Civilization"رين باصطالح األملان ومن هم على جهم، يترمجون كلمة بعض الكتاب العرب املتأث أن إالب يعر "ور دينكن متشلره الربوفسمعجم علم االجتماع الذي حر"الذي ترجم " إحسان حممد احلسن" فها هو". مدنية"

.٢"املدنية"بعبارة "Civilization"املصطلح

ا املصطلح أم"Culture"الثقافة"رجم باستخدام كلمة ، فغالبا ما ت"ال ، وهي الترمجة اليت تراعي املعىن اللغوياب املعاصرين يرون أن أن إال. االصطالحيثقافة"كلمة كثريا من الكت " ال تفي مبعىن املصطلح الغريب"culture" - كما مر

ادمعنا سابقا يف كالم جورج حد- رمجت لذلك ت"Culture" ة بـحضارة"إىل العربي."

) مقابل اللفظ اإل" حضارة"برز استخدام اللفظ العريبنكليزي "Culture "نتروبولوجيا كتابات علماء االجتماع واأل يفواملقصود به ،م فقد شاع احلديث عن مفهوم احلضارة، ومن ثفات األوربية يف هذين احلقلنيالعرب يف ترمجام للمؤل

فنجد مثال الذين ترمجوا كتابات كاليد كلوكهون ورالف لنتون ولويس مورغان . يف املدلول األوربي "Culture"ـالمجني عندما هؤالء املتر الحظ أنويCulture" "استخدموا يف ترمجام لفظ حضارة كترمجة لـ ،خلإ... وجوردن تشايلد

يتعرضون للفظ األوربي "Culture" ة"يطلقون عليه اللفظ العريب٣)"املدني.

حتت عبارة " Culture"دينكن متشل يعرب مادة لمترجم معجم علم االجتماع " احلسنإحسان حممد "وهاهو أيضا لعربية املعاصرة للداللة على معىن واحد أو على معان يف الكتابات ا" املدنية"و" احلضارة"وهكذا تزامحت العبارتان ". احلضارة"

هذين اللفظني ال يدالن عند أن إال. ما مرادفة للثقافة احلضارة مبعىن(: مثال يف معجمه الفلسفي" مجيل صليبا"فيقول . اخلةمتدلق لفظ الثقافة على جمموع عناصر العلماء على معىن واحد، فبعضهم يطلق لفظ الثقافة على تنمية العقل والذوق، وبعضهم يط

على حالة من الرقي) ...( بعضهم يطلقه وكذلك لفظ احلضارة، فإن. احلياة وأشكاهلا ومظاهرها يف جمتمع من اتمعاتتمع بكاملهاوالتقدة، ولفظ احلضارة على املظ. م يف حياة اياهر وإذا كان بعض العلماء يطلق لفظ الثقافة على املظاهر املاد

.٤...)خر يذهب إىل عكس ذلكبعضهم اآل دبية، فإنالعقلية واأل

١- ة، املدخل إىل تاريخ احلضارة، ادجورج حد١٨-١٧ص، م١٩٥٨، مطبعة اجلامعة السوري. .املدنية: مادة، معجم علم االجتماع -٢ .٢٩ص، املدنية –الثقافة - احلضارة -٣ .»احلضارة«مادة ، دار الكتاب اللبناين، نكليزية والالتينيةاملعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإل ،مجيل صليبا -٤

Page 15: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥

ني والعرب، ال بدل لواقع املصطلح لدى املفكرين الغربيلنا من الوصول إىل اختيار التعريف املنضبط بعد هذا العرض املفص .بني سطورها ويف أحباثها" ضارةاحل"املناسب للمصطلح، وهو املعىن الذي ستعتمده هذه الدراسة يف إيرادها مصطلح

احلضارة –ب Cultureأو لعبارة Civilizationسواء اعتربناها ترمجة لعبارة - " احلضارة" يستفاد من النصوص السابقة أن

يتني ووفق املعىن الذي استقرتمعات ، أي -تا عليهاألوربة ذلك يراد منها التعبري عن طراز العيش الذي يسود جمتمعا من اهويمة من مة من األفراد، واحلضارة جمموعة منظفاتمع عبارة عن جمموعة منظ(" رالف لنتون"وعلى حد تعبري . اتمع

لكل جمتمع طريقة يف وواضح للعيان تارخيا وحاضرا أن. ١)نزات جمتمع معيمها األفراد وأصبحت من ممياالستجابات اليت تعلزه عنالعيش متي ة معية ذات شخصيتمعات جتعل منه مجاعة بشريسائر اة خاصز وهوية هذه الطريقة من العيش نة ولون متمي

ز جمتمعا عن آخر هي ما يعبباحلضارة"ر عنه اليت متي ."من معرفة العوامل " تعريف احلضارة"من أجل الوصول إىل لذلك ال بدتمعاتة اليت جتعل للمجتمع طريقته اخلاصزه عن سائر ايف العيش، ومتي.

ة، ا يقوم ذلك اتمع وبتميزها يتميز، أو على ف بينهم عالقات مستمراتمع هو جمموعة من الناس تؤل من املعلوم أنالذي يربط األفراد وهذا النظام . ٢)اتمع البشري هو يف ذاته نظام للعالقات بني الكائنات البشرية إن(" توينيب"حد تعبري

فسلوك . فيشكل اتمع إنما هو جمموع ما حيمله هؤالء الناس من أفكار ومشاعر وما يرعى شؤوم من تشريعات وقواننيالتشريعات اليت تقوم السلطة ه اليت هي مزيج من الفكر والشعور، كما أنم ا مفاهيمخرين إنما تتحكاإلنسان وعالقاته مع اآل

.ر إىل حد بعيد يف منط العيش فيهم إىل حد كبري بعالقات اتمع، وبالتايل تؤثاية شؤون اتمع ا، تتحكعلى رع

ف حبسب هذه هذا اتمع يصن ، وإن"جمموعة من الناس تربطهم أفكار ومشاعر وأنظمة"اتمع هو وبناء عليه فإنوهذه هي ...ايا، وإن كانت ليربالية كان ليرباليكانت إسالمية مثال كان إسالم املنظومة من األفكار واملشاعر واألنظمة، فإن

نون اتمع صالن ببعضهما عن طريق األفراد الذين يكويت(" رالف لنتون"فاحلضارة واتمع على حد تعبري . عني احلضارة . ٣)ويفصح سلوكهم عن نوع حضارم

قاليم واأل فالقرى. احلضارة هي كيان ثقايف ما؟ إن ث عن حضارةعنيه عندما نتحدنالذي فما( :"صامويل هانتغتون"يقول ع ثقايفاحلضارات هي أعلى جتم وهكذا فإن ...زةات واموعات الدينية هلا مجيعها ثقافات متميثنية والقوميواموعات اإل

د يف آن معا بالعناصر وهي حتد. نواع األخرىألز البشر عن اما ميي إالبقها للناس وأوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب وال يسة املشتركة، مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات واملؤس٤)الذي يقوم به الشعب نفسه سات، وبالتحديد الذايتاملوضوعي.

.٣٥٤ص، ١ج، تاريخللخمتصر دراسة : انظر أيضا يف هذا املوضوع. ٦٥ص، ١ج، شجرة احلضارة -١ .٣٥٣ص، ١ج، خمتصر دراسة للتاريخ -٢ .٧١ص، ١ج، شجرة احلضارة -٣ .١٩-١٨ص، ١٩٩٥، ستراتيجية والبحوث والتوثيق، بريوتإلمركز الدراسات ااألوسط، إصدار جملة شؤون ، صدام احلضارات، صامويل هانتنغتون -٤

Page 16: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٦

ل يف النظام الذي تعتمده يتمث معينة نة، يف بيئةاحلضارة هي منط عيش جمموعة بشرية معي(": مصطفى علم الدين"ويقول حضارته الذاتية " جمتمع"لكل نإوفق هذا التعريف، نستطيع القول . دها لنفسهام القيم االجتماعية اليت حتداموعة ويف سل

وبناء عليه، خنلص إىل التعريف التايل للحضارة. ١)زةاملتمي :"واملشاعر واألنظمة اليت تصوغ طريقة ها جمموعة األفكار إن ."العيش يف جمتمع من اتمعات

هي تلك املنظومات من األفكار ... فاحلضارة املصرية القدمية مثال، أو احلضارة اليونانية أو حضارة أوربا العصور الوسطىا واملشاعر واألنظمة اليت صاغت كالهذه املنظومات هي إذ إن ...العصور الوسطىمن جمتمعات مصر القدمية واليونان وأورب

تها وشخصيتمعات هويتهااليت تعطي هذه ا.

املدنية -ج موعة اليت تتكواحلضارة"ن منها احلضارة ضمن مدلول وبناء على هذا التعريف، من اخلطأ إدراج ما ليس من هذه ا" ،

ا ال يرتبط بوجهة نظره ئل املادية اليت يستعملها اإلنسان يف حياته اليومية ممشكال والوساوال سيما املستوى العلمي والتقين واألته، شكال املستحدثة ليست هي اليت تعطي اتمع هويفالصناعات واملبتكرات والعلوم الطبيعية والوسائل املادية واأل. عن احلياة

ر حيان دون أن يؤثت، بل هي مما تتبادله الشعوب يف كثري من األوليست هي اليت تصوغ طراز عيشه ومتيزه عن سائر اتمعاومن . ٢ة اشة هلا حضارا اخلاصقوام املتوحيرى أنه حتى األ" موريس كروزيه" وقد سبق وأسلفنا أن. على هويتها احلضارية

- ل فخصوا األوCulture .""و" Civilization" هذا املنطلق حرص بعض املفكرين الغربيني على التمييز بني املصطلحنيم املتماسك الذي م سبل السيطرة الفنية على القوى الطبيعية، ذلك التقدفروع املعرفة وتقد منو(بعملية -"ألفرد فيرب" كما فعل

دة املنظومة املعق ، وخصوا الثاين بتلك"مدنية"اب العرب بكلمة ، وعبر عنه بعض الكت٣)له نظام منتظم ينتقل من شعب آلخراليت اكتسبها اإلنسان من جمتمعه الذي يعيش فيه، وعبر عنه بعض الكتاب العرب ... من املعارف والعادات واألخالق والقوانني

.٤"حضارة"بكلمة

يت تتشابه احلضارات ال ق بني عناصر احلضارة وبني اجلهاز التقين الذي ميلكه اتمع، ويرى أنيفر" رالف لنتون"هو وهاجدا يف تكنولوجيتها قد ختتلف اختالفا تاما يف تكوينها االجتماعي علماء الدراسات ( مث يفيدنا أن. ٥هاويف ديانتها ويف فن .٦)ن إىل إخراج تلك األشياء نفسها من مفهوم احلضارةنتروبولوجية مييلون اآلاأل

.٦ص، ١٩٩٢، دار النهضة العربية، بريوت، اتمع اإلسالمي يف مرحلة التكوين، مصطفى علم الدين -١ .١٨ص، ١م، تاريخ احلضارات العام: انظر -٢ . "املدنية"مادة ، معجم علم االجتماع -٣ . "احلضارة"مادة ، املرجع السابق -٤ .٧٥ص، ١ج، شجرة احلضارة: انظر -٥ .٧٨ص، ١ج، املرجع السابق -٦

Page 17: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٧

شكال املادية املستعملة يف االبتكارات والوسائل واأل -وال زالت تنتج- جت توكذلك األمر بالنسبة للعلوم الطبيعية اليت أنمتها سما لنة، وإنليست موروثة تمع قومي وال جلماعة عرقية وال ألمة معي(" تويب هاف"شؤون احلياة، فهي على حد تعبري

أوربا يف القرن السابع عشر مل أن يعرف العامل أن ه ألمر مهمإن(: مث يضيف. )هلا القدرة على أن تتجاوز احلدود العاملية، فإنالعلم احلديث يف مقابل العلوم القدمية : ه العلم العاملي، أو بتعبري آخرما القول الصحيح إنوإن" الغريب"أو " األوربي"تنشر العلم

.١)والعصور الوسطى

والوسائل املادية املستخدمة يف شؤون احلياة، األشكالى جمموعة للداللة عل" املدنية"لذلك كان ال بد من ختصيص كلمة ال التقين والصناعية يف اأو للداللة على املستوى الذي وصلت إليه البشري .أن يتم الفصل بني وبالتايل كان من احلري

ر العلمياليت تتناول تاريخ التطو الدراسات اليت تتناول التاريخ احلضاري لألمم والشعوب واتمعات وبني الدراساتة، واليت من األ والصناعيا أن تندرج ضمن ما يعرف بتاريخ العلوملدى اجلماعات البشري إذ لكل منهما مساره . حرى

ة املستقل. به اخلاصا البشريفللحضارة وحداة مسارها العاملية، بينما للمدني العام.

الثقافة –د ". الثقافة"من إعطاء الرأي يف مسألة ، ال بد"املدنية"و" احلضارة"دنا تعريفا لكل من فائدة البحث، وبعد أن حدوإمتاما ل

نا نرى بعض ، فإن"باحلضارة"وجعلها مرادفا ملا اصطلحنا عليه " الثقافة"بعبارة "Culture"ن ترجم البعض املصطلح ئفل. نساناإلطلق عادة على املعارف العقلية لدى فهي ت. قافة حتمل مدلوال أوسع من احلضارةالث ذلك أن. التمايز بني املصطلحني

ق من مدلوهلا، وهي املعارف اليت يطل" املعارف العلمية البحتة"اب إىل إخراج هناك ميال لدى كثري من املفكرين والكت أن إالبالسمة العاملية والتواصل -كما سبق لنا القول-سم تلك األخرية تت نذلك أ. Scienceعليها يف اللغات األوربية مصطلح

ر يف هذا التواصل من خالل احلضارات والشعوب واألمم املتعدبينما تكون الثقافة يف العادة مسة . دةاملطرد، وإن كانت تعبنة فتكون يف مدلوهلا قريبة إىل حد كبري من ب إىل حضارة معيفالثقافة قد تنس. حلضارة أو شعب أو أمة أو لغة أو حتى فرد

فالثقافة اإلسالمية مثال، هي جمموع املعارف اليت كانت العقيدة اإلسالمية سببا يف . احلضارة، وإن بقيت حتمل مدلوال أوسعح احلديث وعلم أصول ومصطل -بوصفها لغة القرآن- حبثها، مثل علم التوحيد والفقه والتفسري واحلديث وعلوم اللغة العربية

التعبري عنها أساسا ة على جمموعة املعارف العقلية اليت متنسب الثقافة إىل اللغة كالثقافة الفرنسية مثال، فتكون دالوقد ت ...الفقهال ثقافة زيد واسعة ما، فيق ب الثقافة إىل فرد، للداللة على املستوى املعريف الذي وصل إليه إنساننسوقد ت. باللغة الفرنسية

..."الغزايل"وثقافة " شبنجلر"وثقافة " هيغل"وثقافة عمرو متماسكة أو فوضوية، أو للداللة على منط ثقافته، فيقال ثقافة

:نقول" احلضارة"و" الثقافة"ق بني ولتوضيح جمال الوفق والفر

.٨٤-٨٣ص، ١ج، ١٩٩٧ الطبعة األوىل، سلسلة عامل املعرفة، الكويت، ترمجة أمحد حممود صبحي، فجر العلم احلديث، تويب هاف -١

Page 18: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٨

ا له وصاغ ل عرفا عامحبيث شك. ما كة يف جمتمعاحلضارة هي ذلك اجلانب من الثقافة الذي حتول إىل مفاهيم مشتر إن(م، فجعله جمتمعا معية شؤومشاعر الناس فيه واستأثر برعاية خاصنا ذا شخصية متميوبناء عليه، من اخلطأ إدخال . زةة وهوي

ة اليت مل تتحوة احلديثة فإ. ل إىل واقع يعيشه الناس يف جمتمعهم يف مفهوم احلضارةاملعارف الثقافيذا كانت الثقافة الغربيأن ندخل يف مفهوم فال يصح -ورمبا املتضاربة-ارات الفكرية املتفاوتة تيلحتوي العديد من ا - على سبيل املثال-واملعاصرة

ا وأم. ومنط عيشه ا أسهم يف صياغة اتمعلت عرفا عام، فتحوتلك اليت وجدت قبوال لدى الرأي العام إال" احلضارة الغربية"ة مهما كثر أتباما سواها فإناحلضارة هي إن: وبتعبري خمتصر". األفراد"عها من ها تبقى ثقافات فردي"للمجتمع، " نةالثقافة املكو

.١)"Bildung"وهو املصطلح الذي اقترحه بعض املفكرين األملان، ولفظه يف األملانية

؟ت بشريةحضارة عاملية أم حضارا :ثانياوهي ". احلضارة اإلنسانية الواحدة"أو " احلضارة العاملية"ي بالضرورة إىل رفض فكرة رناه للحضارة يؤداملعىن الذي قر إن

العامل كله مبا فيه من أمم وشعوب وجمتمعات عديدة يسري عرب التاريخ ضمن مسرية واحدة هي مسرية اليت ترى أن ةالفكر يف العيش نتج عن ذلك أن ا كان لكل جمتمع منطه وطرازه اخلاصاريخ البشري هو تاريخ جمتمعات، وملإذ الت". احلضارة"

عرب العصور دد يف العصر الواحد، وتستجها احلضارات اليت تتعدإن. التاريخ هو تاريخ حضارات، ال تاريخ حضارة واحدةما هناك طرز من ليس هناك حضارة واحدة، وإن(، ]١٨٨٥- ١٨٢٢روسيا [" نيقوالي دانليفسكي"وعلى حد تعبري . املتوالية

ااحلضارات، لكل منها خصائصها وممييف جمموعه ال يسري يف خط. زا والتاريخ البشري جاها واحدا ونزعة مستقيم يتبع اتا، وإنبذااينة وتكشف عن وجهات أو قيم كثرية اهات تتبع خطوطا متبن من حركات خمتلفة االجتما هو يف احلقيقة مكو

لكل حضارة ( أن ]١٩٣٦-١٨٨٠[ "اشبنجلر"كما يرى . ٢)ةخالل الطرز املختلفة من احلضارات ولكل حضارة قيمها اخلاصا املنعزل عن غريها من احلضارات، وكل منها يكون وحدة أو دائرة مقفلة بنفسهاكيا .د من تشابه يف املوضوع بنيوما يشاه

وإذا . روح، والروح ختتلف بني حضارة وحضارة كل حضارة تعبري عن حضارة وحضارة فهو تشابه يف الظاهر، ألنل مباين كل املباينة للنحو الذي تتقب لت كل منهما هذه العناصر على حنورة يف حضارتني تقباشتركت العناصر اخلارجية املؤث

وهكذا تبطل . إذا أحالتها إىل طبيعتها إالمنها ال تستطيع أن ضم هذه العناصر اكل ألن عليه احلضارة األخرى هذه العناصر، .٣)أوهام املؤرخني عن التأثري واالستمرار والوحدة التارخيية

اتمع نجيد أنها من صنع بعض املؤرخني الغربيني الذين يرون أ" وحدة احلضارة اإلنسانية"الذي يتابع نشأة فكرة إناخلطى لتلحق بركب ثحإىل ذروا، وعلى بقية الشعوب واألمم أن ت" احلضارة اإلنسانية"الغريب املعاصر وصل يف مسرية

م لنا يقد" برنارد لويس"مريكي املعاصر فها هو املستشرق األ". احلضارة اإلنسانية"اتمع الغريب وتصل إىل غاية ما وصلت إليه

.٢١ص، جغرافيا احلضارات: انظر -١ .٤٧٦ص، مدخل إىل التاريخ اإلسالمي: نقال عن -٢ .٤٨٣ص، املرجع السابق -٣

Page 19: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٩

كنا ون إلينا ازداد متسجه الشرقيكلما ات: دناها يف العامل الغريب هيلقد كانت عادتنا اليت تعو(: واضحا بذلك، إذ يقول إقراراهوا بنا عددنا ذلك أمرا حسنا وإذا مل يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءا فإذا تشب. مللفضيلة والتقد بالغرب لنجعل أنفسنا مثاال

اوشر .فالتقدأه بنا، م هو يف التشب١)!!ا إذا مل يقتدوا بنا فذلك التقهقر واالضمحاللم.

وها يرفض فكرة وحدة احلضارات اليت يرى أنها فكرة أملتها آراء املؤرخني الغربيني اخلاطئة اليت استمد(" توينيب"وها هو قتصاديا غريبا على العامل بأسره طبقا للنموذج الغريب بالذات، قوا نظاما امن بنيتهم من نظرم اخلادعة اليت أرادوا ا أن حيق

توطئة لتوحيده سياسيا على النمط الغريب .ما احملدثون منهم يرون أنفاملؤرون ال سيخون الغربي ا للحضارة هو هناك منبعا أساسي .٢)العامليةاملنبع الغريب، لذا فهم ينتهون، حبكم نظرم هذه، إىل وحدة احلضارة

)احلضارة الغربية هي حضارة كونية كلية تناسب كل الناس بأن(وكذلك يعترض صامويل هانتنغتون على الذين يقولون املفاهيم الغربية، على مستوى ا باقي العامل، فإنلت حقاحلضارة الغربية ختل أن إذا كان صحيحا على املستوى السطحي(: بقوله

ة عن تلك السائدة يف احلضارات األخرىبد أساسية واللربا. رجة أكرب، ختتلف بصورة أساسية عن الفردية لفاألفكار الغربيية وفصل الكنيسة عن الدولة، ليس سواق احلروالدستورية وحقوق اإلنسان واملساواة واحلرية وحكم القانون والدميقراطية واأل

املفهوم إن ...رثوذكسيةات اإلسالمية والكونفوشيوسية واليابانية واهلندوسية والبوذية أو األهلا عادة، جاذبية كبرية يف الثقافة"ه ميكن أن تكون هناك القائل إنتمعات " حضارة عاملية معظم اة تتناقض بصورة مباشرة مع خصوصيهو نفسه فكرة غربي

.٣)سيوية وتركيزها على ما مييز شعبا عن آخراآل

م يف وسائل احلياة أم حرم من زة، سواء أكان لديه تقدلكل جمتمع حضارته الذاتية املمي نستطيع القول إن(: يف النهايةوالتطوا كما للمجتمع األ .ر التقينفلشعوب أقاصي أفريقيا حضار٤)املعاصر حضارته مريكي.

احلضارة اإلسالمية :ثالثافات اليت حتمل عنوان احلضارة اإلسالمية أن تتناول كل الظواهر اليت شهدها اتمع اإلسالمي، العادة يف أكثر املصنجرت

من عقائد وتشريعات وأخالق ولغة وأدب وشعر وفلسفة وفنون وعمارة وعلوم طبيعية وإجنازات تقنية وصناعية وعسكرية سنقتصر على تناول املظاهر اليت تنضوي -مدركني انضباط مدلوله وقد اخترنا عنواا-نا يف دراستنا هذه أن إال. وغري ذلك

ضمن مفهوم احلضارة، التزاما منا أوق اهلدف من هذه الدراسةرناها به، مث اكتفاء مبا حيقال بالعنوان الذي صد.

.٦٠ص، دون تاريخ، بريوت، نبيل صبحي: تعريب، وسطالغرب والشرق األ، برنارد لويس -١ .٤٧-٤٦ص ، ١٩٨٦، عالم، بغدادقافة واإلوزارة الث، توينيب، منهج التأريخ وفلسفة التاريخ، ي الدين إمساعيليحم -٢ .٣٤-٣٣ص، صدام احلضارات -٣ .٦ص، اتمع اإلسالمي يف مرحلة التكوين -٤

Page 20: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٠

أكله ويعطي مثاره يف ضبط الغاية من البحث السالف يف تعريف احلضارة والتمييز بينها وبني املدنية، أن يؤيت كما أن" احلضارة اإلسالمية"نه كلمة نات هذه احلضارة وعناصرها وما تتضمم بالتايل معرفة مكوتعريفنا للحضارة اإلسالمية، ومن ث

.من معان ومدلوالت

وبناء على تعريفنا للحضارة عموما، ميكن أن نعرة بأناحلضارة اإلسالمي واملشاعر واألنظمة اليت جاء جمموعة األفكار"ها فا ما ع ا اإلسالم وصاغتمع اإلسالميموعة من األفكار واملشاعر واألنظمة اليت أتى". رف يف التاريخ باا فما هي هذه ا

؟اإلسالم لتشكل ذلك اتمع

ة-ل ما جيدر ذكره إن أووبالتايل هو األساس الذي قام -حني الكالم عن احلضارة اإلسالمي ،عليه الدين اإلسالميالفكرة الكلية اليت أتى ا : أعين ذا األساس. األساس الذي قام عليه اتمع اإلسالمي والدولة اإلسالمية واحلضارة اإلسالمية

اإلسالم عن الكون واإلنسان واحلياة وعمر عنها ا بعدها وعن عالقتها مبا قبلها ومبا قبل احلياة الدنيا وعما بعدها، واليت عبخر وتؤمن أن تؤمن باهللا ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآل« :بقوله �، وعبر عنها الرسول "العقيدة"علماء اإلسالم مبصطلح

ويتوق. ١»هبالقدر خريه وشرذه العقيدة دخول اإلنسان يف اإلسالم، وال ي ف على اإلميانقبل منه دينيا أي التزام عمل أو أيذه العقيدةبأحكام الشريعة ما مل يكن مبني ا على اإلميان. وقد أمر اإلسالم باعتناق هذه العقيدة اعتناقا فكريا على العقل، ا مبني

ياتآل والنهار الليل واألرض واختالف السموات يف خلق إن� :قال تعاىل، وحرم اعتناقها تسليما أو تقليدا للمجتمع واآلباءهم ال ان آباؤو كلونا أا عليه آباءينلفما أ قالوا بل نتبع اهللا نزلبعوا ما أهلم ات وإذا قيل�: وقال سبحانه ،�٢لبابألويل األ

ل ر يف آيات السماوات واألرض من أجويف القرآن الكرمي العديد من اآليات اليت تدعو إىل التفك .�٣لون شيئا وال يهتدونيعقوإن �: ر، واآليات اليت حتاجج الناس يف كون القرآن كالم اهللا املرتل، كقوله تعاىلالوصول إىل اإلميان باخلالق الواحد املدب

كنتيبم يف ر مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعهداءوا شن كإ اهللا كم من دون٤قنينتم صاد� وقوله عز ة والربهان والسلطان يف جمال وهو كثريا ما يطالب باحلج. �٥دوا فيه اختالفا كثرياجول اهللا غري ندولو كان من ع� :وجل

.�٧وه لناجخرتف ن علمم مكندل هل عق �:ويقول .�٦قنينتم صادم إن ككرهانل هاتوا بق�: العقائد، فيقول

اإلنسان عبد هذه العقيدة تصورقه وخلق حياته والكون الذي حيتضنه، وبالتايل عليه أن يكون يف هذه ، خلوجل ا هللا عزرا أعماله كلها وفق أوامر اهللا ونواهيه، متقيكما . دا مبا يرضاه له من ضوابط لسلوكهاحلياة الدنيا خاضعا له شاكرا ألنعمه، مسي

تفتتح باحلساب على سريته يف احلياة الدنيا، فيكون مآل ر هذه العقيدة لإلنسان مآله بعد املوت، وصوهو احلياة األخرى اليت ت

، كتاب اإلميـان ، ٣٧ص، ١ج، دون تاريخ، دار إحياء التراث العريب، حتقيق حممد فؤاد عبد الباقي، صحيح مسلم، مسلم بن احلجاج النيسابوري اإلمام -١ .٨: رقم احلديث

.١٩٠اآلية ، سورة آل عمران -٢ .١٧٠اآلية ، سورة البقرة -٣ .٢٣اآلية ، سورة البقرة -٤ .٨٢اآلية ، سورة النساء -٥ .٦٤اآلية ، سورة النحل -٦ .١٤٨اآلية ،نعامسورة األ -٧

Page 21: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢١

املؤمنني الذين أسلموا وجوههم لرباة عرضها السمهم وخضعوا له إىل جنوات واألرض، وأما مهم وجحدوا نعمه ن كفروا بربومترم وبئس املصريدوا على أوامره ونواهيه فسيكون مآهلم إىل جهن .ة بكلمات قليلةوالقرآن الكرمي يصور هذه الرحلة البشري .

: ويقول �١نونم حيزم وال هعليه فال خوف دايه عبن تمف كم مني هدىطوا منها مجيعا فإما يأتينلنا اهبق�: إذ يقول�فمن اتبع هداي لفال يض وال يشقى ون أمعرض عشةه معيل كري فإنن ذ نكاض وحنشره ية ومقال � مىعأ القيام

ل ربم حشي أعمى وقد كنرتقال � بصريا نت كذلك نا فأتتك آياتسنيتها وكذلك اليوم ٢نسىت�.

اجلازم يأيت طبيعي ي التشريعا دور تلقوبعد هذا اإلميان العقلي .وجل ويأيت دور التسليم والتفويض هللا عز .ن وجب فلئاهللا هو اخلالق وقد علم أن-على اإلنسان أن حيكم عقله يف مسألة اإلميان حتكيما مطلقا، فقد وجب عليه يف دور التشريع

ض أمره إىل ربه الذي خلق اإلنسان ويعلم ما أن يفو -رسالته نزلت رمحة للعاملني احلكيم العليم اللطيف اخلبري اهلادي وأنما يف كفبعد أن كان عقله ح. ه وجنواه ويعلم ما يصلح لغرائزه وحاجاته من معاجلات وأنظمةفسه ويعلم سرتوسوس به ن

العقيدة وجب عليه أن يتحوة، من أجل استخراج األحكام ل يف جمال التشريع إىل أداة لفهم نصوص الوحي من قرآن وسن .الشرعية وفق داللة تلك النصوص

وهي النظام الذي ينظم عالقات اإلنسان كلها، . ألحكام الشرعية ما يسمى بالشريعة اإلسالميةوقد شكل جمموع تلك امها مبجموعة من األخالق وأحكام مها مبجموعة من العبادات، أو كانت عالقة مع نفسه، نظعالقة مع ربه، نظ تسواء كان

أي أحكام -وهذه األخرية . مبنظومة كبرية من أحكام املعامالت مهااملطعومات وامللبوسات، أو عالقة مع غريه من الناس ، نظى املفاهيم اليت حتكم سلوك الناس، إذ بتطبيقها تتجل. هي صاحبة األثر األكرب يف تشكيل حياة الناس يف جمتمعهم -املعامالت

ا تالقائمة شؤون الناس يف سياستها لطةرعى السوهي اليت تشكل أنظمة احلكم واالجتماع واالقتصاد والعقوبات والتعليم، و .الداخلية واخلارجية

وهكذا تكون العقيدة اإلسالمية مبا انبىن عليها من مفاهيم وما انبثق عنها من أنظمة وما نجم عنها من مشاعر، كالوالء هللا ة واخلوف رضوانه والشوق إىل اجلن ورسوله واملؤمنني والشعور بالصلة باهللا تعاىل والثقة بشريعته واإلحساس بالسعادة يف ظل

.ذي قامت عليه احلضارة اإلسالميةهي األساس ال ...ز اهدة املشركني وأعداء الدينمن النار والبغض للكفر وأوليائه والتحف

وعلى على العقيدة اإلسالمية : إنما جيب أن تقتصر داللته على هذه املعاين" احلضارة اإلسالمية"مصطلح لذلك فإن ما من هذا التشريع ما يتعل- التشريع اإلسالميتمعاتوال سيتمع وغريه من اتمع وما بني اق بتنظيم العالقات ضمن ا -

ا من مفاهيم ومشاعر ومقاييس وقناعات ونظرة إىل الفضيلة والرذيلة واخلري والشر والعدل والظلم لدى وعلى ما يرتبطتمع اإلسالمير ولقد .اد أسد"عبة بقوله ]ليوبولد فايس[" حممعن ذلك املعىن للحضارة اإلسالمي :)نا نعين حبضارة اإلسالم إن

تلك النظرة اخلاصة، وذاك املنهاج االجتماعيسلوب الذي رمسه اإلسالم حلياة البشر، فال املتمايز، واأل ة إىل الفضائل اخللقي نقصد حبضارة اإلسالم حدثا بذاته أوضة مم٣)قطر من أقطارهم أو فترة من فترات تارخيهم ا استحدثه املسلمون يف أي.

.٣٨اآلية ،سورة البقرة -١ .١٢٦حتى ١٢٣اآليات ،سورة طه -٢ .٢٢ص، ١٩٩٢الطبعة األوىل ، دار الكاتب العريب، بريوت، ترمجة حممد حممود غايل، احلضاري م والتحدياإلسال، حممد أسد وآخرون -٣

Page 22: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٢

أحد أن وال حيسنبذه التعابري املختصرةنا ضي رنا عنهاة اليت عبالكالم عن أنظمة ذلك أن. قنا جمال احلضارة اإلسالميوالقوانني واألنظمة اليت بذل فقهاء املسلمني منذ مئات اإلسالم هو يف احلقيقة كالم عن ثروة عظيمة وحبر هائل من األحكام

ى يف تلك املوسوعات الضخمة من ارة إلبرازها والتعبري عنها، األمر الذي جتلجهودا جب -وال زالوا حتى اليوم-السنني ة وعلم التفسري ومصنوما اقتضته من دراسات وفنون كدراسات اللغة العربي مصطلح احلديث الشريف فات الفقه اإلسالمي

هذه املفاهيم الناظر يف حياة اتمع اإلسالمي الباحث يف ظواهره سيجد أن وإن ...وعلم أصول الفقه وعلم تراجم الرجال .مت حقيقة يف منط عيشه وطراز حياتهواملشاعر والتشريعات هي اليت حتك

إلسالمية ما أبدعه رجاالت العامل اإلسالمي يف جمال العلوم وعلى هذا األساس، من اخلطأ أن ندخل يف مدلول احلضارة اات واهلندسة، ويف جمال الفنون كالتصوير والنحت ب والكيمياء والفيزياء والفلك واملالحة واحلساب والرياضيالطبيعية كالط

درس حتت عناوين مثل ذه املواضيع أن تحرى فاأل. التقنية والصناعية والعسكرية والعمرانية اإلجنازاتواملوسيقى، ويف جمال ...تاريخ العلوم عند املسلمني وفنون الشعوب اإلسالمية ومدنية املسلمني

مور اليت مل يستطع جاءت يف األ األصيلةاحلضارة اإلسالمية ( أيضا عن هذا املعىن حني قرر أن" أمحد شليب"ولقد عبر مة ، وحاول أن مييز يف مقد١)اءت يف نظم السياسة واالقتصاد والتشريع واألخالقالعقل البشري أن يصل إليها بنفسه، ج

بني ما أتى به اإلسالم من مفاهيم عن احلياة وأنظمة للمجتمع وبني ما "فنيدراسات يف احلضارة اإلسالمية موعة من املؤل"ن الشعوب واألمم، ن سبقهم مابع فيها املسلمون مسرية مترعرع ومنا يف اتمع اإلسالمي من فنون وعلوم وإجنازات مادية ت

احلضارة اإلسالمية هي جاه سائد يرى أنفقد كان هناك ات. ح خطأ طال مداهاحلديث عن احلضارة اإلسالمية يصح إن(: فقالم يف جمال العمران أو يف جمال الطبة، ويتجاهل هذا والرياضة ونظائرها من ما وصل إليه املسلمون من تقدالعلوم التجريبي

االتة، بأن جنعل جاه أو جيهل ما سوى ذلك، ولكنموضوعنا هنا يقود إليضاح الطريق الصواب حول احلضارة اإلسالمية، وهذا النوع من احلضارة هو ما نسمة الرئيسية "يه التركيز على احلضارة املنبثقة من املصادر اإلسالمياحلضارة اإلسالمي

ت ت وجودها من الفكر اإلسالمي، واليت هي منحة اإلسالم هلداية البشرية، أو بعبارة أخرى استمدأي اليت استمد" صيلةألا وجودها من القرآن الكرمي وأحاديث الرسول وغريها من مصادر التشريع اإلسالمي .ة ضح أنوعلى هذا يتاحلضارة اإلسالمي

:نوعان مها

ة األاحلضارة : الأواإلسالميقها ووضع هلا ى حضارة اخللق واإلصيلة، وتسما اإلسالم، أو عم بداع، وهي تلك اليت جاءالنظم والتفاصيل، ومل تكن كذلك قبل اإلسالم، مثل رأي اإلسالم يف السياسة واالقتصاد ويف احلياة االجتماعية ويف التربية

...والتعليم ويف جمال السلم واحلرب

حياء، وهي تلك احلضارة اليت كانت موجودة قبل اإلسالم اإلى حضارة البعث واحلضارة اإلسالمية التجريبية وتسم :ثانياوازدهرت قبل اإلسالم كالتقدها ذبلت واختفت قبل اإلسالم لعوامل متعددة م يف الطبواملوسيقى والفلك والعمران، ولكن ...

.٥٤ص، ١ج، ١٩٨٩الطبعة الثالثة عشرة ، مكتبة النهضة املصرية، القاهرة، موسوعة التاريخ اإلسالمي، أمحد شليب -١

Page 23: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٣

جه املسلمون حبماسة بالغة إلحياء هذه احلضارات، كل العلم الذي ينفع البشرية، فاتعلى خدمة العلم مث جاء اإلسالم وحث١)جهوا لتطويرها والتأليف فيهابل ات.

. على ذلك القسم الثاين الذي ذكره" احلضارة اإلسالمية التجريبية"يف إطالقه اسم " شليب"نا خنالف الدكتور أن إالكما سبق -اليت هي أشياء مغايرة للحضارة " املدنية والعلوم والفنون"ف ضمن مصطلحات صنجنازات أن تحرى ذه اإلفاألوإن طالت احلضارة جانبا منها ببعض التأثري أحيانا -رناوقر.

ة"نا حني نطلق تعبري مث إناحلضارة اإلسالمي "فإنوالتاريخنا ال نتكلم عن جمر تمع اإلسالميد ظواهر شهدها ا ،اإلسالمي، وكان هلا ذلك الفضل يف قيام � بل نتكلم عن أشياء منسوبة إىل اإلسالم بوصفه الدين الذي نزل به الوحي على الرسول

جمتمع ذي حضارة معية، أي إننا نتكلم عننة هي احلضارة اإلسالمي "تلك وال خيفى على أحد أن". حضارة الدين اإلسالمير يف آيات حني دعا إىل التفك-بداع فيها عظم يف توجيه الناس حنو اإلاملدنية، وإن كان لإلسالم الفضل األجنازات العلمية واإل

الكون وخلق اهللا وحني أمر بإعداد القوض هلا يف إال -ع بزينة الدنياة وحني أباح التمتها ليست من نتاجه وال هو تعرأنفهذه العلوم والفنون وما نتج . الفكر اإلنساين إىل آيات اهللا ونعمه ودقيق صنعه ة إىل تنبيهينصوصه، سوى بعض اللمحات الرام

بل كان لغري . عنها من إجنازات مادية إنما هي سابقة على اإلسالم، فأخذها املسلمون وأسهموا يف إعالء بنياا وتوسيعهنسب إىل جنازات أن تال جيدر ذه اإل وبالتايل. و معلوماملسلمني من رعايا الدولة اإلسالمية باع غري قليل يف إمنائها، كما ه

العلوم لدى املسلمني، : وىل أن يقالاملدنية اإلسالمية أو الفنون اإلسالمية عليها، بل األ اإلسالم بإطالق لفظ العلوم اإلسالمية أوال ب ألشخاص املسلمني وواقعهم التارخييأي أن تنس... ليمقومدنية املسلمني يف عصر كذا، وفنون املسلمني يف هذا اإل

.لإلسالم بوصفه عقيدة وشريعة

ة اإلجنازاتض دراستنا هذه لتلك لذلك لن تتعريف جمال العلوم والفنون واملدني تمع اإلسالمياليت شهدها ا.

ة وإن كانت لغة ذلك أن. ق إىل مسائل األدب واللغة والشعركذلك لن تتطرة الشريفةاللغة العربيالقرآن الكرمي والسن -أنها ليست نتاج إال -هي تندرج ضمن الثقافة اإلسالميةوبالتايل لغة اإلسالم الذي حافظ عليها وحال دون اندثارها وضياعها ف

ها وإن كانت من العوامل . اإلسالم نفسه، بل هي سابقة عليه تارخييا، وهي من التراث البشريساعدة على امل واألدواتكما أنانصهرت يف بوتقة احلضارة عجميكثريا من الشعوب اإلسالمية اليت بقيت على لساا األ أن إالنشر احلضارة اإلسالمية،

ة وأصبحت جزءا ال يتجزةاإلسالميأ من احلضارة اإلسالمي.

وأما األدب والشعر، فما كان منه معبة، فإنةه ال خيررا عن مفاهيم إسالميه إال. ج عن إطار مظاهر احلضارة اإلسالميأنة واإل حريصبالدراسات اللغوية أن تة اإلسالمية والشعريبداعات األدبية" ف حتت عنواننالثقافة اإلسالمي" ا جنم باعتبارها مم

.عن العقيدة اإلسالمية بوصفها القاعدة الفكرية للمسلمني

.١٨ص ،١م ،١٩٨٥ ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،دراسات يف احلضارة اإلسالمية ،أمحد شليب وآخرون -١

Page 24: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٤

لالباب األو:

ضارة اإلسالميةنشوء احل

Page 25: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٥

لالفصل األو: تمع اإلسالميقيام ا

جمتمع عرب اجلاهلية :توطئةفالقرآن الكرمي نزل بلغة العرب، . عامل اجلزيرة العربية هو العامل الذي شهد والدة احلضارة اإلسالمية بني أحضانه إن

مدينة يف اجلزيرة العربية، فهي احلاضرة الروحية، أهم ةوحامل هذه الرسالة هو عريب ينطق بلغة قريش، وقريش هم أهل مكبلة العرب، وأوثان مجيع قبائلهمفيها الكعبة ق .تمع الذي نشأت فيه تلك لذلك كان ال بدمن إلقاء نظرة على حضارة ذلك ا

".احلضارة اإلسالمية: "احلضارة اجلديدة

العرب عقائد سادت جمتمع عدأن إال. أديان فيه ةة نتيجة وجود عد ة أهموهي تقوم . تلك العقائد وأكثرها انتشارا الوثنيبون بعبادا إىل اهللا الذي خلق ا بوصفها آهلة يتقروثان اليت عبدها العرب، ال بوصفها أربابا خالقة، وإمنعلى تأليه عدد من األ

ن ئول� :اجة املشركني يف أكثر من آية، مثل قوله تعاىلر القرآن الكرمي عن ذلك يف سياق حموقد عب. السماوات واألرضما أولياء اهللا وا من دونذخوالذين ات�: ، وقوله تعاىل�١كونؤفى ينأاهللا ف نليقول رضواأل السموات قلن خم مهلتسأ

نعبدإالم ه لقيرة كانت هذه األويف العصر الذي شهد . �٢لفىبونا إىل اهللا زظهور الرسالة اإلسالميتها شأن وثان تأخذ قدسي. جداد وإعالء شأم إىل درجة التقديس اليت التصل إىل حد العبادةسائر األعراف والتقاليد والعادات من طريق تقليد اآلباء واأل

لون شيئا وال هم ال يعقآباؤ و كانلونا أا عليه آباءينلفما أ عبتل نالوا بق اهللا لنزوا ما أعبات همل يلوإذا ق� :قال تعاىلي٣دونهت� .ة، وإنة أو فكرية لديهم ليست عقائد عقليفالعقائد الدينيةما هي جمروالكالم ذاته ينطبق . د مفاهيم موروثة تقليدي

.على ما تفرع من هذه العقائد من طقوس روحية كهنوتية

جداد، أي األعراف والتقاليد املتوارثة جمموعة من املفاهيم السلوكية اليت تتمحور حول االنتماء إىل اآلباء واألوقد ساقت فالرابطة هي عصبية قبلية، والوالء واالنتماء السياسي هو للقبيلة، والكيان . بتعبري آخر حول االنتماء إىل القبيلة أو العشرية

هو كيان قبلي ة والنجدة امةروءة والشجاعة والشهوامل. السياسيوإن باتت مسة-والفروسي ا أن إال -راسخة للجاهلينشأ

.٦١اآلية ، سورة العنكبوت -١ .٣اآلية ، الزمر -٢ .١٧٠اآلية ، البقرة -٣

Page 26: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٦

انصر أخاك ظاملا أو «من هنا نشأت مفاهيم العصبية، مثل مفهوم . تعود إىل الدفاع عن وجود الذات الفردية مث القبليةتطاولت يف الزمان واملكان، ومنها نشأت عادات كثرية يف ذلك وعنها جنمت حروب قبلية. وفق املعىن اجلاهلي» مظلوماه عجز ؤنشووأد البنات باملقابل م. إنما منشؤه قدرة الذكر على الدفاع عن القبيلة وخوض احلروب فالتفاخر بالبنني .اتمع

على بالقبيلة وأهلها، فكان شؤما لحق العارسر، ما ييف األ من وقوعهن واخلوف وقبيلتهن ناث عن الدفاع عن أنفسهناإلبه رما بش من سوء يتوارى من القوم � ظيما وهو كدمسو هوجه نثى ظلم باألهأحد وإذا بشر� :العريب أن يرزق بأنثى

ى بقتل العشرة بالواحد أو احلرمفهوم الثأر الذي قض مث إن. �١حكمونما ي ساء أال رابيف الت هأم يدس ونعلى ه هكمسيأسرة ة القبيلة والعشرية واألويف جمتمع يقوم على قو. سرةب للقبيلة والعشرية واألنثى، إنما مرده إىل التعصبالعبد أو الذكر باأل

يكونوا من سر أو القبائل ذات املكانة والنفوذ أنالضعفاء الذين ال ينتمون إىل إحدى األ كان من الطبيعي أن يكون حظوحتى نظام احلكم . املستضعفني واملقهورين أو حتى املستعبدين بسبب عجزهم عن الوفاء بتكاليف احلياة وديوا وأعبائها

لون خمتلف فالسلطة بيد جملس من كبار رجال القبيلة الذين ميث. رة من مثار تلك الرابطة القبليةالذي ساد تلك القبائل إنما هو مثوهكذا وبسبب هذه الروابط القبلية مل يكن العرب ليفكروا . وبطوا وهم الذين حيظون باحترام سائر أفراد القبيلة عشائرها

موح يوما بقيام كيان عريبم ألنظمة د، مع أنا، وختضع عالقات األفراد يف جمتمعاهم حيملون املفاهيم واألعراف والتقاليد ذاومع ذلك مل تكن . از العيش وشكل اتمع واهلوية احلضارية لدى معظم عرب اجلاهلية كان واحدافطر. متشاة إىل حد كبري

إىل هم السنويل يف حجالعروبة بالنسبة إىل أهل اجلزيرة العربية أكثر من لغة مشتركة وجمموعة من اجلوامع املشتركة اليت تتمثة اليت تعارف عليها العرب كانت يف حقيقتها تعبريا عن عمق الشرخ الذي األعراف ا بل إن. الكعبة والتبادل التجاريلسياسي

ة املتعدا السياسيفتحرمي القتال يف األ. دةيفصل بني القبائل وكياناالقتال بني القبائل أمر دليال على أن إالمل يكن مشهر احلر .وإخضاعه لقوانني متكن العرب من التعايش معهحمتوم ال قبل هلم بدفعه، لذلك كان ال بد من تنظيمه

ة احتكاكه بسائر احلضارات، وال سيما عرب وسط اجلزيرة واحلجاز ومن أبرز السمات اليت ميزت ذلك اتمع هي قلوعرب منطقة ني ني وعرب اجلنوب اليمنيفإذا استثنينا قبائل عرب الشمال كالغساسنة واملناذرة اللخمي. مهد الدعوة اإلسالميةمواطن احلضارات الكربى كالشام االحتكاك حصل فقط عن طريق القوافل التجارية اليت وصلت إىل أهم البحرين، فسنجد أن

والعراق وفارس واحلبشة واهلند، وهذا االحتكاك كانت تغلب عليه السمة التجارية، وال جند للناحية الثقافية أو السياسية أو الصحراء املقفرة مل تكن لتنال اهتمام أحد من تفسري لتلك الظاهرة هو أن أهم ولعل. ا فيهأثرا مهمحتى العسكرية

بل هي مضيعة للجهود ستراتيجية،إات الكربى القدمية، إذ ال مطمع فيها من مال أو ثروات طبيعية أو مواقع مرباطورياإلتني ااورتني الفارسية والبيزنطية أن تصطنع من قبائل عرب الشمال اطوريمربوالطاقات العسكرية واملالية، وكان يكفي اإل

لني من اجلنوباع الطرق املتسلها بعض اللصوص وقطدويالت تابعة حتميها من خطر الغارات اليت يشن .ا سائر العرب فكانوا أمللداللة على وجود احتكاك ذي شأن بني هؤالء شرم وال تكفي غزوة كغزوة أبرهة األ .مبنأى عن تلك العالقات السياسية

ها بقيت جزرا جمتمعية ا األديان اليت اخترقت اجلزيرة العربية كاليهودية والنصرانية والقليل من اوسية، فإنوأم .العرب وغريهمدوا البساطة يف عرب اجلاهلية الذين تعو منعزلة إىل حد كبري عن جمتمع اجلزيرة العربية، ومل تكن أديام تلقى آذانا مصغية لدى

.مية وندر فيهم القراء والكتاب ومل يعهدوا التأليف والتصنيف وتعاطي األفكارالتفكري وسادت بينهم األ

.٥٩-٥٨ تانياآل، النحل -١

Page 27: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٧

تت سم بالبساطة وهي أبعد ما تكون عن التعقيدفحياة العريب .ما استطعنافاألشياء اليت يراها حوله يف الصحراء قليلة، ورب ها بالرمال واجلبال، وباملياه والنخيل يف الواحة، واإلأن نعدة والدوابة البسيطة، بل وبعض املاشيواخليام وبعض البيوت الطيني

وها هو القرآن الكرمي حني خياطبهم . طعمة وغريهاقمشة واألوالشمس يف النهار والقمر والنجوم يف الليل، والقليل من أنواع األ تعفكيف ر وإىل السماء � تقكيف خل بلرون إىل اإلنظال يفأ� :مثلة ما يقع عليه نظرهم، فيقولأليراعي يف ضرب ا

� وإىل الالجب صكيف نرضوإىل األ � تب طكيف س�١تح.

ة وثان وتعظيم العشريص يف عبادة األفهي تتلخ. هم وأفكارهم، سنجدها بسيطة تافهةوكذلك إذا نظرنا إىل عقائدوتبعا . والشجاعة واملروءة والنجدة والكرم وما شابه ذلك كالشهامةك ببعض القيم والشيم موال والبنني مع التمسوالتفاخر باأل

م وتقاليدهم تتم . سم بالبساطة وبعيدة كل البعد عن التعقيدلبساطة تلك العقائد واألفكار، كانت عاداوبالتايل كانت أذهامساء نساب واألت يف حفظ األت أكثر ما جتلر متيزهم بذاكرة قوية جتلذلك كله يفس لتشويش والتعقيد، ولعلصافية بعيدة عن ا

وللجاحظ . ية كبرية من التعبريات عبروا ا عن قليل من املعاين، فكانوا أروع الناس بالغة وأدبارت لديهم كموتوف. شعارواأله إهلام، وليست هناك معاناة وال ما هو بديهة وارجتال وكأنوكل شيء للعرب فإن(: ولتعبري رائع عن هذه الصفات إذ يق

ا هو أن يصرف ومهه إىل الكالم، وإىل رجز يوم اخلصام، أو حني ميتح عن رأس بئر، مكابدة، وال إجالة فكر وال استعانة، وإمنأن يصرف ومهه إىل مجلة املذهب، وإىل إالحرب، فما هو أو حيدو ببعري، أو عند املقارعة أو املناقلة أو عند صراع أو يف

. سه أحدا من ولده، مث ال يقيده على نفسه، وال يدر، وتنثال عليه األلفاظ انثياالالعمود الذي إليه يقصد، فتأتيه املعاين أرساالوكانوا أمن ال يكتبون، ومطبوعني ال يتكلفونيي .د عندهم أوكان الكالم اجلي ظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد

يف نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكالم أوجد، والكالم عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إىل علق ما إالوليس هم كمن حفظ علم غريه، واحتذى على كالم من كان قبله، فلم حيفظوا . ظ، وحيتاجوا إىل تدارسحتف

م، والتحم بصدورهم، وات٢)ظ وال طلبصل بعقوهلم من غري تكلف وال قصد، وال حتفبقلو.

رت فيها احلضارات القدمية كالرومانية والفارسية واهلندية وذلك خبالف سائر اتمعات احمليطة باجلزيرة العربية اليت جتذة واة، واليت سادت فيها أديان النصرانية وغريهاوالصينية والغنوصيوسي .ها كانت جمتمعات مثقفإننة، ازدمحت يف فة متمد

وكانت حياا . أذهاا األفكار واملعلومات اليت أغدقتها الفلسفات واألديان والنظم واحلضارات والثقافات واملعارف العديدةتتة، ممة وعمران ووسائل ماديا جعل أذسم بالتعقيد مبا فيها من مدنيهان الناس فيها مشوسم بالتعقيد والتكلفشة تت .ا فلم

أديان هؤالء اجلزيرة اخترقت بعض ة محلت معها ذلك التكلف وامتزجت بالفلسفات والثقافات اليت يعسر على العريبالعربي :"ارسامي النش علي" تعبري وعلى حد. مضغها وهضمها، فلم يستسغها وركن إىل اللقمة السائغة اليت ورثها عن آبائه وأجداده

)ة من الشمال ومن اجلنوب، ومشيخة العرب من أوالد إمساعيل يهزم املسيحيوأسرعت . ون رؤوسهم وال يبدون حراكاجاءة إليهم وهي حتمل التوراة احملرفة، فأنكروها ووقفوا ينظرون إليها بازدراءاليهودي .م بل ولوا ظهورهم جلماعة منهم أعلنوا أ

مشيخة العرب نأوا يف فردوسهم الساكن، ويف ولكن. خذين الوحدانية دينا هلم ة إبراهيم حنيفا، خمتتنني، متعلى مل" احلنفاء"ة فصنام زلفى إىل اهللا، الذي عجزت األديان املختلكان يكفيهم أن يعبدوا األ. لياليهم الصافية يف قلب الصحراء عن كل هذا

.٢٠حتى ١٧اآليات من ، الغاشية -١ .٢٨ص، ٣ج، دون تاريخ، جليل، بريوتدار ا، حتقيق عبد السالم هارون، البيان والتبيني، أبو عثمان عمر بن حبر اجلاحظ -٢

Page 28: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٨

هم من الفكر فلتات من اللسان أو خطرات من احلكمة، وأن يسودهم من القانون العرف ، وأن يكون حظعن أن تردهم إليهالأباء، واآلة والتقاليد، وأن يعرفوا من قانون األخالق ما وجدوه يف سن ١)صيخوا السمع إىل قادم أو دخيلي.

هم آياتم يتلوا عليهنهسوال مر نييميف األ ثعالذي ب وه� :بلغ، إذ يقول اهللا تعاىلوىف واألهو األ ويبقى التعبري القرآينوييهكزم ويلعمهم الكتاب واحلإو ةكمفي ضاللل بلن قن كانوا م �٢بنيم.

ة :الأومولد احلضارة اإلسالمي األو تمع اإلسالميلوقيام ا �اسمأ باقر ربالذي ك لخق � لخنساناإل ق مقلن ع � اقرأ ورباأل ككرم� لالذي عملالقب م � لعم

.�٣معلم يما ل اننساإل

حممد بن عبد "ها افتتاحية الوحي اإلهلي الذي نزل على إن. ت مسرية نشوء احلضارة اإلسالميةذه اآليات الكرميات بدأ .ياة مل يعهده العرب منذ قرون خلتنزل هذا الوحي يعلن ظهور مفهوم جديد عن احل". القرشي ياهللا اهلامش

ه دين جديدإن .ولكن ة بالتعبري عنه، وال كافية ملا يتضممن مضامنيكلمة دين غري وافي فهو مل . نه هذا الوحي اإلهليية وحسب، بل استهدف كل ما حيملون من أفكار عن احلياة والكون يستهدف تغيري العقائد الدينية والطقوس الكهنوتية اجلاهل

فهو بعد أن حوهلم عن عبادة آهلة . واإلنسان، وكل ما يعتنقون من مفاهيم سلوكية، وكل ما اعتادوا عليه من طريقة يف العيشة تافهة متعدال� دة إىل عبادة اهللا الواحد الذي خلق السماوات واألرض والذيمادي كدرتاأل هبصار دروهو ياأل كبصار وهو

، بدل وجهة نظرهم يف احلياة، وبدل نظرم إىل السعادة، وبدل قيمهم ومثلهم العليا، وصاغ سلوكهم �٤برياخل طيفالل .وعالقام وحيام كلها بنظام دقيق متكامل يطال كل جوانب احلياة وال يغفل عن شيء منها

ة وحياة اإلسالم ما رواه ن أوىفومجعفر بن أيب "يف سريته على لسان "ابن هشام" التعبريات يف التفريق بني حياة اجلاهليا قوما أهل جاهلية، نعبد ها امللك، كنيأ(: ملك احلبشة حني اهلجرة األوىل إليها بالعبارات التالية "النجاشي"خماطبا "طالب

ا على ذلك، حتى ا الضعيف، فكنمن رحام، ونسيء اجلوار، ويأكل القوييت الفواحش، ونقطع األصنام، ونأكل امليتة، ونأاألبعث اهللا إلينا رسوال منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إىل اهللا لنوحا نعبد حنن وآباؤنا من ده ونعبده وخنلع ما كنعن احملارم والدماء، وانا سن اجلوار والكفمانة وصلة الرحم وحوأداء األ وثان، وأمرنا بصدق احلديثدونه من احلجارة واأل

عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف احملصنات، وأمرنا أن نعبد اهللا وحده، ال نشرك به شيئا، وأمرنا بالصالة

.٣١ص، ١ج، ١٩٧٧الطبعة السابعة ، دار املعارف، القاهرة، نشأة الفكر الفلسفي، علي سامي النشار -١ .٢اآلية ، سورة اجلمعة -٢ .٥حتى ١ن م: اآليات، سورة العلق -٣ .١٠٣، سورة االنعام -٤

Page 29: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٢٩

فعبدنا اهللا وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم بعناه على ما جاء به من اهللا، ا به واتقناه وآمنفصد... والزكاة والصيام .١...)علينا، وأحللنا ما أحل لنا

ولكن ال السؤال املهمتمع الذي جتل: الذي يطرح نفسه يف هذا اكيف قام اة ألول مرة؟ت فيه احلضارة اإلسالمي

عث رسول اهللالقد ب � تسوده املفاهيم وامليف جمتمع جاهلي ،ة، فكانت مهمتمع شاعر واألنظمة اجلاهليول هذا اته أن حيتيان بآخرين بدال منهم، بل بتغيري مفاهيمه ومشاعره وأنظمته، أي بإزالة واإل هإىل جمتمع آخر متاما، وليس ذلك بتغيري أفراد

.أنظمة إسالميةوأفكار اجلاهلية ومشاعرها وأنظمتها وإجياد أفكار ومشاعر

؟بعها يف ذلكيقة اليت اتفما الطر

:ن لنا أنها تنقسم إىل ثالث مراحلابتداء من نزول الوحي، يتبي � رسولالمن خالل التدقيق يف سرية

.ل من الصحابة على أساس اإلسالم، وتثقيفه بالثقافة اإلسالميةمرحلة إعداد تكت: املرحلة األوىل -

.ل مع اتمعمرحلة الصدع بالدعوة والتفاع: املرحلة الثانية -

.تطبيق اإلسالم عمليا من خالل الدولة اإلسالمية: املرحلة الثالثة -

ا املرحلة األوىلأم:

ي صلى اهللا عليه وسلم ت ثالث سنوات ، قام رسول اهللافقد استمرخالهلا بغرس العقيدة يف نفوس الصحابة، فكان يقوة والرباهني على فساد العقائد واملفاهيم دلثقافة اإلسالمية احلية، ويقيم هلم األفهم بالمهم أحكام اإلسالم، ويثقفيهم اإلميان، ويعل

واألنظمة اجلاهلية، وينـزع من قلوم مشاعر اجلاهلية كاحلمية اجلاهلية والعصبية القبلية، ويبعث فيهم املشاعر اإلسالمية وللرسول وللمؤمنني، ويشحذ فيهم اهلمم من أجل إحقاق احلقاملنسجمة مع املفاهيم اإلسالمية، فيعودهم على الوالء هللا

فالعقيدة تغلي يف صدورهم، واملفاهيم . وإزهاق الباطل، حتى وصلوا إىل حالة ال يطيقون معها أن يبقى املبدأ حبيس نفوسهمهترئة بالية، وظلم ال يطاق، وفساد الصادقة تتزاحم يف أذهام، والواقع مبا حيويه من قناعات وعادات وتقاليد، وأنظمة فاسدة م

با، وتقاتل من أجل العصبية، هذا الواقع رط من شرار القوم، ووأد للبنات، وتطفيف للكيل، وافتراس للناس بالال حيتمل، وتسل .زهم ويدعوهم إىل مواجهته من أجل تقوميهحيف

الرسول استمر � ى أعديف هذه املرحلة حت ال من الصحابتكتة، فقد تكونت فيهم ة الذين نضجوا يف الثقافة اإلسالمية، وأصبحت نفسية اإلسالميةالعقلية إسالميوبذلك اطمأن. تهم نفسي ه أوجد تكتإىل أنة الناضجة ال من الشخصيات اإلسالمي

.تهاتمع القائم بكل جاهليا ملواجهة ل أضحى مستعدالتكت وأيقن أن ،اليت ال متت إىل اتمع اجلاهلي بصلة

.٣٦٢ص، ١ج ،م١٩٩٣/ الطبعة الرابعة، دار الكتاب العريب، بريوت، مر عبد السالم تدمريحتقيق الدكتور ع، السرية النبوية، ابن هشام -١

Page 30: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٠

ةوأما املرحلة الثاني:

فيها الرسول فقد استمر� صعب خطر واألة أعمال كانت األيف بناء كتلته وتثقيفها وزيادة عددها، وأضاف إىل ذلك عد :هي األعمالل الصحابة، وهذه يف حياة الدعوة اليت عاشها تكت شدواأل

.اإلسالمي لنشر اإلسالم وإجياد الرأي العامية اجلهرية ريالدعوة اجلماه

.الصراع الفكري لعقائد اجلاهلية وأنظمتها وأفكارها وللعادات الفاسدة واملفاهيم املغلوطة، ببيان زيفها والدعوة إىل تركها

لوقوفهم يف وجه الكفاح السياسي، الذي تقصد فيه زعماء قريش، إلصرارهم على الكفر وحكم الناس بأنظمة اجلاهلية، و .الدعوة اإلسالمية

وفوق ذلك فقد . الدعوة، وأظهر الكتلة اليت حتمل معه الدعوة سافرة � يف مرحلة اجلهر بالدعوة هذه، محل الرسولا تتضمتمع يف مككانت هذه الدعوة بذان كفاح قريش واها كانت تدعو إىل توحيد اهللا وعبادته وحده، وإىل ترك ة ألن

� قالع عن النظام الفاسد الذي يعيشون وفقه، فاصطدمت بقريش اصطداما كليا، فقد سفه الرسولصنام واإلاألعبادة م الرخيصة، ونعى على وسائل عيشهم الظاملةأحالمهم، وحقر آهلتهم وندويرتل عليه القرآن فيهامجهم ويقول هلم . د حبيا

، مث يهاجم الربا الذي يعيشون عليه مهامجة عنيفة �١وندها وارم لنتأ منهج بصح اهللا ونن دون مدعبم وما تكنإ�صراحة د الذين ويتوع ،�٢اهللا ندو عربي الف اسالن مواليف أ وربيبا لن رم ميتوما آت� :من أصوله، فيقول تعاىل يف سورة الروم

و م أوهذا كالإو � ونوفستي اسوا على النتالإذا اك الذين � فنيفطلمل يلو� :ىليطففون الكيل وامليزان، فيقول تعاه وة ضددعاوهلذا أخذوا يقفون يف وجهه، ويؤذونه هو وأصحابه بالتعذيب تارة وباملقاطعة أخرى، وبال �٣ونوزنوهم يخسر

ه ظل وضددينه، غري أن اهدة يف سبيل نشر الدعوةعلى م يهامجهم، واستمركافحة اآلراء الباطلة، وهدم العقائد الفاسدة، وا .حيايب وال يداهن، ورغم ما القاه من ال وكان يدعو إىل اإلسالم بكل صراحة، ال يكين، وال يلوح، وال يلني وال يستكني، و

.ذى، ورغم ما يصيبه من مشقاتقريش من صنوف األ

ه فرد أعزل ال مومع أنعني له وال نصري من الناس، وال عدة معه وال سالح، فإنه جاء سافرا متحدة يا، يدعو لدين اهللا بقوق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف الدعوة، والقيام باألوإميان، ال يتطريف عباء اجلسام من أجلها، فكان لذلك كله األثر

أن يصل إىل الناس � وقد استطاع الرسول. يف وجهه لتحول بينه وبني الناسب على الصعوبات اليت كانت تضعها قريش التغلويبلغهم، فأقبلوا على دين اهللا، وأخذت قوتعلو على الباطل، وأخذ نور اإلسالم يزداد كل يوم انتشارا بني العرب، ة احلق

.فأسلم الكثري من العرب

.٩٨ اآلية، سورة األنبياء -١

.٣٩ اآلية، سورة الروم -٢

.٣-١ اآليات، سورة املطففني -٣

Page 31: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣١

� من كتلة الصحابة حني خرج الرسول لمني وكافرين، بدأ ذلكى يف هذه املرحلة الكفاح بني فكر وفكر، بني مسجتلينشر الدعوة على الناس � ومنذ ذلك احلني صار الرسول. مل تعهده العرب من قبل، ويف كتلة واحدة ومعه أصحابه يف ترتيب

ت قريش، إذ ازداد حقدها وأحس أثر على فيكون هلذه الدعوة اجلماعية والتثقيف اجلماعي. ياة جهارا ارا سافرا متحدكافباخلطر يقترب منها، وبدأت تتد وال لدعوته، فتجلى خذ اخلطوات اجلدة للمقاومة، بعد أن كانت بادئ األمر ال تأبه حملمي

: ة، حيث قال تعاىلوأحد زعماء مك �عم الرسول "أبا هلب"الكفاح السياسي أكثر فأكثر، فلقد نزل القرآن الكرمي يهاجم �تبت يي لبا أدبه وتب � ا أمغنى عنه المه ا كومسب � سصليارا ذى نل اتونزل القرآن الكرمي يهاجم �١به ، وداعص هقرهأس � نيداا عناتيآل انك هنإ كال�: عالمية للدعوة فقال تعاىلى احملاربة الفكرية واإلالذي تول "الوليد بن املغرية"

� إنه فكر قودل كف � رقتيف قدل كث � رقت ميف قدث � رن ظمث � رم عبس وبسث � رأ مدبر واستكبر � وعلى � ذى واالضطهاد على النيبازداد األف. �٢رقأصليه سس � رشول البق إالذا ن هإ � رؤثسحر ي إالن هذا إ القف

.دواراملراحل، وكان هذا الدور من أعظم األ ن أشقفكانت هذه املرحلة م. أصحابه

لة الدعوة قد يتنازلون عن بعض أفكارهم ومواقفهم مح أن -لو مل يكن رسول اهللا هو حامل الدعوة- ر لنا أن نتصو وإنام، وحتى يستميلوا إليهم أتباعا لدينهم بعد إجراء فوا من نقمة اتمع واحلكتى خيفويداهنون أعداءهم، ويسايروم ح

�الرسول وعلى الرغم من أن. ات الناس وأمزجتهم، كما يفعل كثري من أصحاب الدعواتحنو يوافق عقلي ىالتعديالت علمعصوم ال ية اليت حييكها صناديد قريش، ره من الوقوعالقرآن الكرمي حيذ نأ إالر منه ذلك، تصويف تلك احلبائل الشيطاني

ف� :فيقول تعاىل. قما املداهنة واملسايرة والتملالسيال تبذكامل عطني � ووا لدو تدهف نيده�٣ونن. ح وبعض اآليات تصر كوننفتيوا لادن كإو� :عاىل له، حني قال تعاىلعن بعض اإلسالم لوال تثبيت اهللا ت �ار كادوا أن يصرفوا الرسول الكف بأنالذي أ نعوحلا إينيك لترفتي لعا غينريه ذا الإوتذخوك خيالل � ن ثوال ألوبتنقل اكد كدت ركتيهلإ نلياليئا قم ش �

.�٤رياصا نينلع كل دجال ت مث اتمامل عفضو احلياة عفض اكقنذإذا أل

يف تفسري هذه اآليات قال القرطيب :)ا: � هو قول أكابر قريش للنيبى جنلس معك ا هؤالء طرد عنالسقاط واملوايل حتإىل الصبح يكلمونه ذات ليلة �قريشا خلوا برسول اهللا كر لنا أنذ: وقال قتادة. هي عنهبذلك حتى ن همونسمع منك، ف

دنا، وما زالوا به حتى يا سيسيدنا ك تأيت بشيء ال يأيت به أحد من الناس، وأنت إن: ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه، فقالوا تناكولوال أن ثب�ا نزلت هذه اآلية مول... كاد يقارم يف بعض ما يريدون، مث عصمه اهللا من ذلك، وأنزل اهللا تعاىل هذه اآلية

معصوما، ولكن � كان رسول اهللا: اسوقال ابن عب »...كلين إىل نفسي طرفة عنيال ت همالل«: اآلية، قال عليه السالم �... .٥)يركن أحد منهم إىل املشركني يف شيء من أحكام اهللا تعاىل وشرائعه الهذا تعريف لألمة لئ

.٣-١اآليات ، سورة اللهب -١

.٢٦-١٦اآليات ، سورة املدثر -٢

.٩–٨يتان اآل، سورة القلم -٢ .٧٥-٧٤-٧٣اآليات ، سراءورة اإلس -٣ .٣٠٠-٢٩٩ص ،١ج، دون تاريخ، دار الكتاب العريب، بريوت، اجلامع ألحكام القرآن ،نصاري القرطيبحممد بن أمحد األ -٤

Page 32: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٢

ة، جلبت الكثري من الضغوط املادية على محلة الصحابة الكرام يف مكو � جواء اليت عاشها الرسولهذه األ وهكذا، فإنة، وقائد تأثري على الدعوة وال على الفكر اإلسالمي، فهي حقبة النبو هذه الضغوط مل يكن هلا أي نا رأينا أنأن إال. الدعوة

.، فأنى للجاهلية أن تفلح يف ذلك�الدعوة هو حممد رسول اهللا

السائد يف ل الصحابة الذي صدع معه بالدعوة إىل اإلسالم كان يستهدف تغيري العرف العامتكت �شأ الرسول منذ أن أنيف عملية تغيري اتمع همهو اخلطوة األ تغيري ذلك العرف العام ذلك أن. إسالمي جاهلي إىل عرف عام ة، من عرف عاممك

جمموع ما لدى اتمع من أفكار إالما هو يف حقيقة األمر ذلك العرف العام فإن واالنتقال به من اجلاهلية إىل اإلسالم،ف سلوكه وعالقاته ومواقفهومشاعر تكي .تهم يف مكفإذا ما انتشر اإلسالم واعتنقه الناس بغالبيهم يكونون قد محلوا ة فإن

ولو- تشكل على أساس اإلسالمقد أفكاره، واعتملت يف نفوسهم مشاعره، وبذلك يكون العرف العام ام -على حنو عمومي يؤدي إىل وجود رأي عام يبقىعندها لن . س اإلسالم يف مواقفه وآرائهيتلم تمع وبني أن يصبح إسالميأن يوضع إالا بني ا

ة احلكم اإلسالم إىل سدالنظام اإلسالمي موضع التطبيق من خالل السلطة واحلكم، سواء أسلم أهل احلكم والسلطة وأوصلوا بأنفسهم، أو أطيحوا بالقويف مك ة بعد أن يصبح الرأي العامةة إسالمية أن تغدو وبذلك ميكن ملك. ا يريد أن يعيش حياة إسالمي

النواة األوىل للمجتمع اإلسالمي.

إاليني زاد عددهم يف تلك املرحلة، املك الذين دخلوا يف اإلسالم من ة، فرغم أنيف مك �ق للرسول ذلك مل يتحق أن إالأنالذي ميكن أن يقال معه إن هم مل يصلوا إىل احلد العرف العام والرأي العام املكي أصبح إسالميالسائد ا، فما زال العرف العام

والرأي العام ،هو العرف اجلاهلي تمع يف وجهه يف مك �وقد وصل األمر مع الرسول . نهو رأي اجلاهلييد اة إىل أن جتمر حبيث مل يعد هناك أيرهاب الذي مارسه صناديد قريش جتاه املسلمني وكل تفاعل بني الدعوة وبني الناس بسبب اإل وحتج

ثه نفسه بالدخول يف الدين اجلديدمن حتد .ر ا دفع الرسول عليه الصالة والسالم إىل البحث عن جمتمع جديد حياول فيه نشمممن خالل ة، نقطة الرتكاز الدعوة تنتقل فيها من مرحلة الدعوة إىل مرحلة التطبيق العمليه يكون بديال عن مكاإلسالم لعل

يثرب بأن يكونوا أهل نصرة اإلسالم ة، إىل أن أكرم اهللا تعاىل أهلوصار يعرض نفسه على القبائل الوافدة إىل مك. احلكم .�والرسول

، وعادوا إىل املدينة ليدعوا قومهم إىل � على يدي الرسول أسلم وفد من املدينة يف أحد مواسم احلجحصل ذلك حني ة اإلسالم، فبايعوا الرسول عليه الصالة والسالم عند ياإلسالم وليأتوا يف املوسم التايل مبزيد من الذين انشرحت قلوم هلدا

ههم فيه ولينشر اإلسالم يف مهم اإلسالم ويفق، ليعل"مصعب بن عمري"البارع ي اجلليل الداعية الصحاب � العقبة، فأرسل معهماإلسالمي يف املدينة بعد أن دخل زعماؤها وقد تشكل العرف العام إاليف املدينة "مصعب"ومل متض سنة على وجود . املدينة

ومها أالدينة بركنني من أركان اتمع اإلسالمي اإلسالمي يف امل وبذلك تكفل العرف العام. وكثري من أهلها يف اإلسالمان املبنية، فلم يبق املفهوم والشعور اإلسالميإىل املدينة ليضع األنظمة املنبثقة من � أن يأيت الرسول إالان على العقيدة اإلسالمي

.لالمي األوتلك العقيدة موضع التطبيق من خالل السلطة واحلكم، وبذلك يكون قد قام اتمع اإلس

Page 33: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٣

إىل املدينة تتوجيا ملسرية تأسيس جمتمع اإلسالم، حيث شرع منذ وصوله بتطبيق أنظمة �وهكذا كانت هجرة الرسول �ووصل بذلك . اإلسالم على كل الصعد، يف احلكم واالقتصاد واالجتماع والتعليم والعقوبات والسياسة الداخلية واخلارجية

".الدولة"ا من خالل احلكم والسلطان، أي من خالل لة تطبيق اإلسالم عمليإىل املرحلة الثالثة، مرح

ع اتمع اإلسالميوتوس انتشار احلضارة اإلسالمية :ثانياة قد نشأت يف بالد العرب، وبالتحديد يف أرض احلجاز، فهذا ال يعين البتة ة أنإذا كانت احلضارة اإلسالميتها حجازيهوي

ةأو عربي .وإنها ارتكزت أوما يعين ذلك فقط أنانطلقت إىل خارجهان ثل عهدها فيها، وم م .ل يوم فهذه احلضارة منذ أوةولدت فيه كانت تتا لإذ مل تشك. سم بالسمة اإلنسانياألو تمع اإلسالميل تشكيال عرقيا وال قوميا فقر .اا وال إقليميآ

لكم هيعا الذي لمم جيكلإ اهللا ولسي رنإ اسها النيا أل يق�: ويقول �١منياللعل ةمحر إال اكنلسرا أوم�يعلن بوضوح السملإ ال رضواأل واتإال ه هو يحىي ويمف يتآماهللاوا بن ورسوله الناأل يبمي الذي يؤماهللاب ن وكلامتبو هاتعل وهم كلع

تهتل القول. �٢وندورسوهلا يفص :»إن ها الناس،يا أي أال ،وأباكم واحد كم واحدرب على عجمي وال ال فضل لعريب ،وال لعجمي ،٣»بالتقوى إال أسود على أمحر، وال أمحر على أسود على عريب.

ة لذلك كان نشر اإلسالم هو أحد أهمأهداف الدولة اإلسالمي .الطرق لتحقيق هذا وقد جعل اإلسالم اجلهاد إحدى أهمره بعض املؤرخني، من كما يصو � موا الدولة اإلسالمية بعد الرسولاهلدف الذي مل يكن من إنشاء اخللفاء الذين تسل

وال حاديث على حنو ال حيتمل الشكاآليات واألت عليه نص ما هو هدف إسالمي قرآينوإن. ٤الغربيني والعرب على السواءم حتى ال وهلاتقو�: قال تعاىل. بسط سلطانه على اجلزيرة العربيةبعد أن �اجلدل، وشرع بالعمل على حتقيقه الرسول

ونكت فةتن وونكي الداق�: وقال سبحانه �٥هللا ينلتوا الذين ال يؤماهللاب ونن ب الواآل وماليرخ وال يحرونم ما حراهللا م ورولسه وال يدونين دين احلق من أ الذينوتوا الكتاب ى يعطحتوا اجلزية عن يد ومه صاغفاجلهاد مل يشرع من . �٦ونر

ة وحسب، كما يدعي بعض املعاصرين من املثقأجل احلاالت الدفاعياب وأصحاب الرأي، وإنفني والكتمنه ما اهلدف األساسي .هو محل اإلسالم رسالة إىل العامل

دت فيها أركاا، أزف وقت انتشارها خارج بعد أن مدت احلضارة اإلسالمية جذورها يف أرض اجلزيرة العربية ووط. هلبطيئا يستغرق مئات السنني حتى تنضج مثاره ويؤيت أك كن ذلك االنتشار من النوع الذي عرفه التاريخ، انتشارايمل . اجلزيرة

.ا كان انتشارا سريعا أذهل أصحاب النظرة الواعية واملتأنية من املؤرخنيوإمن

.١٠٧اآلية ،سورة األنبياء -١ .١٥٨اآلية ،سورة األعراف -٢ .٢٦٦، ص٣، ج١٩٨٢ومنبع الفوائد، دار الكتاب العريب، بريوت، احلافظ نور الدين علي بن أيب بكر اهليثمي، جممع الزوائد -٣ .٤٢ص ،١٩٩٣الطبعة األوىل ،منشورات عويدات، بريوت باريس ،خليل أمحد خليل.تعريب د ،احلضارة العربية ،جاك ريسلر: انظر -٤ .١٩٣اآلية ،سورة البقرة -٥ .٢٩اآلية ،سورة التوبة -٦

Page 34: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٤

ظهر اإلسالم يف أمة . ون يف تاريخ اإلنسانعجب الذي دكاد يكون نبأ نشوء اإلسالم النبأ األ(: "لوثروب ستودارد"يقول ة الشأن، فلم ميض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر يف نصف بل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبالد منحطكانت من ق

جيال، ومغيرا ما بنفوس األمم طراف، وهادما أديانا قدمية كرت عليها احلقب واألاألرض، خمترقا ممالك عالية الذرى مترامية األ .١)ركان، هو عامل اإلسالماأل قوام، وبانيا عاملا حديثا متراصواأل

ومن العسري . ظاهرة مثل هذه من قبل التاريخ مل يشهد قط إن(: عن سرعة انتشار اإلسالم" فاغلرييلورا فيشيا "وتقول ر السرعة اليت حقعلى املرء أن يقدا من دين يعتنقه بضعة نفر من املتحم لا اإلسالم فتوحه، واليت حتو دين يؤمن سني إىل قية اليت مكنت مجاعة من احملاربني اجلفاة من وال يزال العقل البشري يقف ذاهال دون اكتشاف القوى السر. به ماليني الناس

االنتصار على شعوب متفوقة عليها تفو٢)احلرب قا كبريا يف احلضارة والثروة واخلربة والقدرة على شن.

هؤالء القوم الشجعان الذين لبوا دعوة حممد، وغدوا أمة أن واحلق(: حلدث بقولهعن ذلك ا" غوستاف لوبون"ويعبر هذه الدولة بدت أكثر دول األرض هيبة من قرنني، وأن يف أقل االتساعواحدة، أقاموا دولة بلغت ما بلغته دولة الرومان من

٣)ناومتد.

سحابة "ه هو الذي جعل من إن .وهذا الطراز من احلضارة الرجال، إىل حممد يدين هذا الطراز من(": ينيونماس"ويقول إليه وإىل محالته .ملدنية عاملية لغة ومن هلجة بالكاد تكتب، ومن شتات العشائر املتناحرة دولة، القبائل العربية أمة،" غبار

اإلسالم مع ع ذلك التنامي الواسع الذي مدإىل تلك السرايا يرج العسكرية األوىل إىل واحات الصحراء بصالبتها العجيبة، .٤)ن والترك واهلند والبلقان والصني وماليزيا والسودانيرانييالفتح العريب إىل بالد اإل

إنة اليت سبقت هذا الفتح احلضارية اإلسالمية . نا ال نتكلم هنا عن الفتوحات العسكريفلقد عرف التاريخ فتوحا عسكريالذي مل يعرفه ولكن. سكندر املقدوين وفتوح جنكيزخان وهوالكولفتح اإلسالمي سرعة وانتشارا، كفتوح اإلعن ا ال تقل

رته تقويض إمرباطوريات وهزمية جيوش وزوال أنظمة التاريخ قبل اإلسالم، ذلك االنتشار احلضاري السريع الذي مل تكن مثن أدياا وعقائدها ولغاا وتشريعاا وطرائق عيشها باجلملة، لتغدو رته حتول شعوب وأمم عمث ما كانتوإن. حكم وحسب

معا أمة واحدة ذات عقيدة واحدة وتشريع واحد وثقافة متكاملة ولغة رئيسة، وختضع لراية خليفة واحد، ولتعيش حياة من ه جمتمع طراز جديد ومنط خمتلف، ولتشكل معا جمتمعا جديدا، إن"ةاحلضارة اإلسالمي. "

حركة دينية غلب أنه مل حيصل يف التاريخ أناأل .اظهور اإلسالم يف العامل ليس حدثا اعتيادي إن( ":ألربت حوراين"وبتعبري وبعد .مراكز السلطة واحلضارة يف العامل املعروف ناشئة يف منطقة خمتلفة استطاعت خالل جيل واحد أن جتتاح بعضا من أهم

لقد بل على العكس، .أو موضة احنسرت بالسرعة نفسها اليت اندفعت ا د غزوة مهجية عابرة،كثر من جمرذلك أثبتت أنها أى ا أدما ابتدأ وعظا ديني. وعلى كافة ااالت احلضارية واتمعية تركت أثرا على ألف وثالمثائة سنة من التاريخ يف ربع العامل،

.١ص ،الد األول ،هـ١٣٥٢القاهرة ،ترمجة عجاج نويهض ،عامل اإلسالميحاضر ال ،لوثروب ستودارد -١ .٢٢ص، ١٩٨١الطبعة اخلامسة ، دار العلم للماليني، بريوت ،ترمجة منري البعلبكي، دفاع عن اإلسالم ،لورا فيشيا فاغلريي -٢ .١٧٦ص، دون تاريخ، القاهرة، تعريب عادل زعيتر، حضارة العرب، ونبغوستاف لو -٣

4- Massignon, L.-Situation de L'Islam- Opera Minora, vol (1) Beirut-1963-p(12) .

Page 35: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٥

عجب واأل ...ا، ونظاما حلياة اتمعارت الدولة تركت خلفها ثقافة أدبية ونظاما تشريعيوعندما ا. بسرعة إىل تأسيس دولةأنها انبثقت من -يف التحليل النهائي-سات، يظهر هذه احلركة الواسعة للشعوب واألفكار والقوانني واملؤس من ذلك كله أن

من أبعد ختوم العامل املتمد ١)، والذي وسم بصبغته عصورا وشعوبا بعيدة عن عصره وشعبهن يف زمنهرجل واحد، آت.

!فكيف حصل ذلك؟

ففتح املسلمون العراق وكان يسكنه خليط من . تابع اخللفاء مسرية محل اإلسالم رسالة إىل العامل �بعد وفاة الرسول ني، عجم وقليل من اليهود والرومانيتحت فارس وكان يسكنها الوف النصارى واملزدكية والزرادشتية من العرب والفرس،

ني ويدين بالنصرانية ويسكنه السوريون ا يتثقف بثقافة الرومانيوفتحت الشام وكانت إقليما بيزنطي ،وكانت تدين بالزرادشتيةس ندلألمان، وفتحت اوواليهود وبعض الرومان، وفتحت مشال إفريقية وكان يسكنها الرببر وكانت يف يد الر واألرمن

دة متباينة قطار املتعدألوكانت هذه ا. النصرانية، وفتحت بالد السند وخوارزم ومسرقند مبا فيها من أديان وأعراق خمتلفةةالقومية والنفسية . ات واللغات واألديان والتقاليد والعادات والقوانني والثقافات، وبالتايل كانت خمتلفة العقليلذلك كانت عملي

كوين أمة واحدة منها جتتمع على دين واحد ولغة واحدة وثقافة وقوانني من نوع واحد أمرا عسريا وعمال صهرها ببعضها وتهذه الشعوب مجيعها فإن. للحضارة اإلسالمية إالق ، ومل حيصل لغري اإلسالم، ومل يتحقالنجاح فيه شيئا غري عادي ا، يعدشاق

.٢دخلت يف اإلسالم، صارت أمة واحدة هي األمة اإلسالميةلتها الراية اإلسالمية وبعد أن ظل

التاريخ اإلسالمي سار يف وجهة معاكسة للتاريخ األوربي على حنو يثري االستغراب، كالمها إن(": هاملتون جب"يقول ج ال جت أوربا على حنو متدرفبينما خر: بينهما فرقا أصيال مرباطورية الرومانية يف حوض املتوسط، ولكنإلقام على أنقاض ا

شعوري ة قرون من الفوضى النامجة عن غزوات الربابرة، انبثق اإلسالم انبثاقا مفاجئا يف بالد العرب وأقام بسرعة تكاد بعد عدا أم... بيةمن قرن من الزمن إمرباطورية جديدة يف غريب آسيا وشواطئ البحر املتوسط اجلنوبية والغر تعز على التصديق يف أقل

ومن ضمنها فارس اليت كانت قد قضت قرونا وهي يف -ة ه بعد أن أقام نظاما سياسيا مشل مجيع املناطق املنشقاإلسالم فإنة منافسة صراع سياسيمع روما، صراع تسنده عقيدة ديني- ة أخرى هي إدخال هذه املناطق يف نظام ثقايفواجه مهم ديين

أي [السابق فكان عليه من أجل حتقيق هذا اهلدف أن يقاوم تأثري املفهوم العاملي. الشامل هومه العامليمشترك قائم على مفم الزرادشتية والديانات ط ويضعفه إىل أقصى حد ممكن، وأن حيطمن حوض املتوس آسيا والنصف اجلنويب يف غريب ]املسيحية

.٣)حاجزا يف وجه انتشار البوذية يف أواسط آسيا الثنوية يف فارس وما بني النهرين، وأن يقيم

يف " لإلسالم"عراق والشعوب املكونة األعلى الرغم من تنوع (": جاك ريسلر"يقول . قه اإلسالموهذا بالفعل ما حقالقرن السابع والقرن الثامن، كان املسلمون قد بدؤوا يتمي ،العصر األمويون تقريبا بالطريقة فزون مبزايا مشتركة، وكانوا يتصر

ا على الرغم ممق بني احلضر والبدو، بني األذاذاك أن. غنياء والفقراءا كان ميكنه أن يفر خة بقوة، كانت عقيدة واحدة مترس

1- Hourani, Albert, Europe and the middle east, the Macmilan press LTD–1980–p19-20

.١٦٣-١٦٢ص ،م١٩٩٧/ هـ١٤١٨الطبعة السادسة ،دار األمة، بريوت ،الدولة اإلسالمية ،تقي الدين النبهاين: انظر -٢ .٥-٤ص، دون تاريخ ت،بريو ،اس وحممد جنم وحممود زايدرمجة إحسان عبت ،دراسات يف حضارة اإلسالم ،هاملتون جب -٣

Page 36: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٦

ل من خاللا، وتتوص، وتشيع جوا حيويكانت روحية القرآن تنظم السلوك اليومي. تثري ردود فعل واحدة لدى كائنات خمتلفة١)ات والطبائعتغلغلها يف األفكار إىل توحيد شكل العقلي.

ا نتيجة الغزو العسكري ة وانصهار الشعوبمل حيصل االنتشار اهلائل للحضارة اإلسالمي حبد ه مل يتمذاته، كما أن حبد النتشار احلضاري الذي يستهدف راضي والبالد وبني االبحت الذي يستهدف غزو األ ان بني االنتشار العسكريوشت. السيف

بالفكر واحلوار والدعوة إال ىالثاين ال يتأت ل سالحه السيف والرمح، فإنفإذا كان األو. غزو القلوب والعقول والضمائر .واحملاجة

:ة ميكن تلخيصها مبا يليى إىل هذا االنقالب احلضاري عوامل عدالذي أد إن

.أوامر اإلسالم -

.سلمني الفاحتني بشعوب البالد املفتوحةاختالط املو -

٢.دخول أهل البالد جبملتهم يف اإلسالمو -

إالوما اجلهاد . ا أوامر اإلسالم، فهي تقضي بأن يدعو املسلمون مجيع الناس إىل دينهم حيثما استطاعواأم مة هلذه مقدوبعد ذلك يقضي اإلسالم بترك . أمام الدعوة اإلسالمية ل وظيفته يف حتطيم احلواجز املادية اليت تقف عائقاالدعوة، حيث تتمث

واكتفى بإخضاعهم ألحكامه يف شؤون املعامالت والعقوبات، ،وا على دينهموإن شاءوا ظل اخليار للناس، إن شاءوا اعتنقوههم كاملسلمني سلمني بأنم أعماهلم، وليشعر غري املليحصل االنسجام يف أعمال الناس بتوحيد النظم اليت تعاجل مشاكلهم وتنظ

ة مل تكن عامال يف انتشار القرآن ما ترك العرب املغلوبني أحرارا القو إن(": لوبون"ويف تعبري . يشاركون اتمع يف تطبيق النظامعدل العرب رأوه من اخذوا العربية لغة هلم، فذلك ملوات قوام النصرانية اإلسالميف أديام، فإذا حدث أن اعتنق بعض األ

ومل ينتشر (: مث يضيف )الغالبني ما مل يروا مثله من سادم السابقني، وملا كان عليه اإلسالم من السهولة اليت مل يعرفوها من قبلرا كالترك خالقرآن، إذن، بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب اليت قهرت العرب مؤ

.٣)واملغول

ق تقضي أوامر اإلسالم بأن ينظر إىل احملكومني نظرة إنسانية ال نظرة عنصرية أو طائفية أو مذهبية، ولذلك تطب كماوا لتعدلوا اعد ال نلى أع موق آننش مكنمرجال يو�:األحكام على اجلميع بالسواء ال فرق بني املسلم وغري املسلم، قال تعاىل

هقأ ورب لقلتاهللا نى إو خب بريما تع�٤ونلم.

.٥٧ص ،احلضارة العربية -١ .٨٥ص، ١٩٧٩الطبعة احلادية عشرة ،دار الكتاب العريب، بريوت ،فجر اإلسالم ،أمحد أمني -٢ .١٢٨-١٢٧ص ،حضارة العرب -٣ .١٥٢ اآلية ،سورة املائدة -٤

Page 37: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٧

ا اختالط املسلمني الفاحتني بغريهم فكان من أكرب العوامل أثرا يف دخوهلم اإلسالم وانصهارهم مع باقي املسلمنيوأم .قافة اإلسالمية، وسكنوا معهم يف فوم بالثاملسلمني بعد أن فتحوا البالد سكنوها وصاروا يعلمون أهلها اإلسالم ويثق ذلك أن

ى صارت البالد مسكونة بالفاحتني وأهل البالد األصليوقد اشتركوا يف مجيع شؤون احلياة وصاروا مجيعا . نيبيوت متجاورة حتام أوا يف احلكور. ما كانوا مجيعا رعية الدولةق عليهم نظام واحد، ومل يعودوا فئتني غالبني ومغلوبني، وإنان بلد واحد يطبسك

ني الذين كان يبغي ان البالد ااورة األصليصلوا منذ الوقائع األوىل بسكهم اتذلك أن(نوعا آخر من الناس مل يكونوا يعرفوم، عليهم قاهروهم منذ قرون كثرية والذين كانوا مستعدف وطأة احلياة عنهم، فاتح خيف ين ألن يستقبلوا بترحاب وحبور أي

ة على ترك دينه جمون عن محل أحد بالقوحت الطريق اليت جيب على اخللفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يوكانا، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن مل يسلم، وأعلنوا يف كل مكان أنهم حيترمون عقائد الشعوب وعرفها وعادا

وقد بالغ ) ...(ا كانت تدفعه إىل سادا السابقني من الضرائب عم تقل مكتفني بأخذهم، يف مقابل محايتها، جزية زهيدةهذه الشروط والتقي العرب يف الوقوف عند حدا فأحب دهم املصريون الذين ذاقوا األمرة ين من ظلم عمال قياصرة القسطنطيني

لونتائج مث. ما إقبالالنصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أي نال بالقو١)ةهذه ال ت.

ام وسائر املسلمني وكان احلك. بت إليهم اإلسالمبتهم إليهم وحبام صفات عالية حبلقد رأت الشعوب يف هؤالء احلكيتزوهم رأوا أثر اإلسالم جون من أهل الكتاب ويأكلون ذبائحهم وطعامهم، فكان هذا االختالط حافزا لدخوهلم اإلسالم، ألن

.٢الفاحتني يف هؤالء

ى وأمة، وكان أهل كل قطر يدخلون يف اإلسالم أفواجا، حتا دخول البالد املفتوحة يف اإلسالم فقد كان ظاهرة عاماجلمهرة الساحقة من أهل البلدان املفتوحة اإلسالم، وصار الناس يف مجلتهم مسلمني، ومل يبق اإلسالم مقتصرا على تدخل

فذلك الذي كان يعتنق اإلسالم، كان (. د يف اإلسالم انصهروا مع الفاحتني فصاروا أمة واحدةوبدخول أهل البال. الفاحتنيتلك كما أن. يف ذلك لواقعة عظمى على صعيد تاريخ احلضارة اإلسالمية ه عريب، إنويبدو كأن العربية يتكلم ويكتب اللغة

ة وأعطت بطريقالقوة ألغت احلدود السياسية التوحيديدة لبلدان متفاوتة ومنتشرة فوق ثالث قارات، مل يعد ة ما صبغة موحوبفضل هذه . ففي كل مكان كان املسلم جيد الدين نفسه، الصلوات ذاا، الشرائع عينها. نيفصل بينها فاصل منذ اآل

.٣)جنبيةار البلدان األقاته مع جتالشعائر، كان يشعر يف كل مكان أنه يف داره، سواء يف أثناء رحلته خارج احلدود، أم يف عال

لقد حق ة أن تتحسفتلك الفتوح هي اليت أنقذت الشعوب اليت كانت . ر على نفسهالألمم اليت مل تصلها الفتوح اإلسالميغوستاف "يقول . على وشك ولوج عامل العصور الوسطى اليت كابدت أوربا أهواهلا وظالمها واحنطاطها أكثر من ألف عام

ر، بعد فتح إسبانية، يف العودة إىل سوريا من بالد الغول وأملانية، ويف فك "موسى بن نصري" يروى، مع التوكيد، أن(": وبونلة ويف إخضاع العامل القدمي ألحكام القرآن، وأناالستيالء على القسطنطينياه ه مل يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر اخلليفة إي

نة وحدا الدينية وألنقذ أوربا، ق لألمم املتمدلذلك جلعل أوربا مسلمة، وحلق "موسى بن نصري"ق ، فلو وفبأن يعود إىل دمشق

.١٣٥-١٣٤ص ،حضارة العرب -١ .١٦٥-١٦٤ص ،الدولة اإلسالمية: انظر -٢ .٥٤ص ،احلضارة العربية -٢

Page 38: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٨

لنفرض جدال، أن(: ويقول يف موضع آخر. ١)سطى الذي مل تعرفه إسبانيا بفضل العربوعلى ما حيتمل، من دور القرون ال قامةوا جو مشال فرنسا غري بارد وال ماطر كجو إسبانيا، فطابت هلم اإلالعرب وجد النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن

كان يصيب أوربا النصرانية املترببرة مثل ما أصاب إسبانيا من احلضارة الزاهرة حتت راية ؟الدائمة به، فماذا كان يصيب أورباا، اليت تكون قد هذ النيبوكان ال حيدث يف أورب ،ة وملحمة سان بت، ما حدث فالعريبيها من الكبائر، كاحلروب الديني

بارتلمي ومظامل حماكم التفتيش وكل ما مل يعرفه املسلمون من الوقائع اليت ضرا بالدماء عد٢)ة قرونجت أورب.

مات وخصائصمقو. ..اتمع اإلسالمي :ثالثاولقد أدرك اإلنسان منذ القدم . عا إلشباع حاجاته وغرائزهاهللا تعاىل خلق اإلنسان، وجعل فيه طاقة حيوية جتعله مندف إن

ع الناس فكان جتم. له من االجتماع مع غريه من الناس لتبادل املنافع واملصاحل بد ن من تلبية مطالبه الفطرية الأنه حتى يتمكأن إال. ا يف هذه احلياةمظهرا طبيعي د اجتماع الناس بعضهم ببعض ال جيعلجمر ما جيعل منهم مجاعة، ويبقون منهم جمتمعا، وإن

فإذا نشأت بينهم عالقات دائمة جللب املصاحل ودفع املفاسد، جعلت هذه . د االجتماعمجاعة فقط إذا اقتصروا على جمرم إىل هذه العالقات دت نظرإذا توح إالهذه العالقات ال جتعل منهم جمتمعا واحدا غري أن. العالقات من هذه اجلماعة جمتمعا

بتوحيد أفكارهم، وتوحورضاهم عنها وسخطهم منها بتوحيد مشاعرهم، وت دم هلذه العالقات بتوحيد النظام دحت معاجلاها هي اليت جتعله جمتمعا من النظرة إىل األفكار واملشاعر واألنظمة حني النظر للمجتمع، ألن ولذلك كان ال بد. الذي يعاجلها

ن نامعي٣له لون معي.

فكيف استطاع اإلسالم أن يصهر تلك الشعوب اليت دخلت حظرية الدولة اإلسالمية على اختالف ألواا وألسنتها وقوميا وأعراقها، وبعد أن كانت تعتنق أديانا متعدادة وتنهل من ثقافات خمتلفة وختضع ألنظمة شتى وتتمتات ع بعقليليش... ات متفاوتةونفسيا سبقه من جمتمعات؟كل منها جمتمعا واحدا خمتلفا كل االختالف عم!

ة، فجعلها . القد أحدث اإلسالم يف الشعوب اليت اعتنقته انقالبا عاموأوجد لديهم العقيدة اإلسالمي ،فرفع مستواهم العقلية تبىن عليها مجيع املفاهيم، ومقياسا لصحونقلهم من اإلميان الوجداين. اة األفكار وفسادهقاعدة فكري التقليدي إىل الوراثي

وما تقتضيه هذه العبادة من احنطاط يف النظر وإسفاف يف ،شخاص وما شاكلهاألصنام والنار وااإلميان العقلي، ومن عبادة األروا بالصورة اليت ويتصو قون باحلياة األخرى،وجعلهم يصد. الفكر إىل عبادة اهللا وما تقتضيه من فكر مستنري ونظر واسع

ة، وأوضح ما فيها من عذاب ونعيم، فصاروا يتصوةأوضحها هلم يف الكتاب والسنها هي احلياة احلقيقيا ويرون أنوبذلك .رو٤ها طريق حلياة أخرى أسعد وأخلدصار للحياة عندهم معىن وقيمة ألن.

.٢٦٧ص ،حضارة العرب -١ .٣١٧ص ،املرجع السابق -٢ .٥٢ص ،الدولة اإلسالمية تقي الدين النبهاين، :انظر -١ .١٦٥ص ،املرجع السابق -٤

Page 39: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٣٩

ة دية حبتة، حيث الغاية هي املنفعة املادية واملال والكسب والقوفبعد أن كان الكثري منهم ينظرون إىل احلياة نظرة مام، أصبحوا يف يإىل ما بعد هذه احلياة الدنيا من بعث ونشور وحساب، فال أثر للناح والنفوذ، من غري التفاتة يف حياة الروحي

دا بشرعه مسيرا أعماله بأوامر ه متقييعربها طائعا لرب اإلسالم يرون احلياة الدنيا معربا إىل احلياة األخرى، فعلى اإلنسان أن ظل. فمقياس أعماله بات احلالل واحلرام. اهللا تعاىل ونواهيه، فيأخذ متاع احلياة الدنيا وزينتها وزخرفها وفق حالله سبحانه وحرامه

سنال تو ةرخاآل ارالد اهللا ا آتاكيمف غتابو�: ن ذلك قوله تعاىلويبي. فكانت فلسفة اإلسالم للحياة هي مزج الروح باملادةنصيبك من الدنيأا وسحك نا أمحسلإ اهللا نيك وال تالف غبسيف األ اداهللا نإ ضر ال يحسفامل ب١يند�.

بنيل إالى ن املتع اجلسدية، باتت السعادة ال تتأتى لدى معظم الناس يف نيل أكرب قسط موبعد أن كانت السعادة تتجل ةعيشم هل نإي فركذ نع ضرعأ نمو�، �٢ةبيط ياةح هنييحنلى فثنأأو ركذ نحا مالص لمن عم� :هللا تعاىلارضوان

ض�٣كان.

وغير مراتب . ب اليت اعتنقته للحياة ولألعمال اليت يقومون ا يف هذه احلياةر يف وجهة نظر الشعواإلسالم أث وهكذا فإنمنها، ةمرتب عند اإلنسان، واملبدأ هو أقل فبعد أن كانت احلياة هي أعلى مرتبة. األشياء، فرفع مرتبة أشياء وخفض مرتبة أخرى

دمة املبدأ، فجعلها يف مرتبة أعلى، وبذلك صار املسلم يبذل قلب هذه املراتب فجعل املبدأ يف املرتبة األوىل، وسخر احلياة خلحياته يف سبيل اإلسالم ألنل املشقه أغلى قيمة من احلياة، فاسترخص حتمضعت ات واملصاعب يف سبيل اإلسالم، وبذلك و

سالم للناس مثال أعلى واحدا ال ولقد رسم اإل. فسمت احلياة، وشعر املسلم بالطمأنينة الدائمة. األشياء يف املراتب الالئقة ايتعدأالر، د وال يتغي وهو رضوان اهللا تعاىل، بعد أن كانت لتلك الشعوب مثل عليا متعدر املثل األ. رةدة متغيعلى عند وتبعا لتغي

رت معاين األشياء عندهم عمالشعوب تغير مفهوم الفضائل عمى الكربى تتجل ا كان عليه، وصارت أهدافهما كانت عليه وتغيا الشجاعة وأم... يف نصرة الدين وجماهدة الكفر وإعالء كلمة اهللا واحلكم مبا أنزل وإخراج البشرية من الظلمات إىل النور

للقبيلة أو ص خالسراف واإلحساب والكرم إىل حد اإلموال واألالفردية واملناصرة العصبية والتفاخر باأل هامةالشخصية والشخذ بالثأر وما شاكل ذلك من الصفات اليت كانت أصول الفضائل لدى عرب اجلاهلية وذات سوة يف االنتقام واألللقوم والق

فقد جاء اإلسالم ليعطيها حجمها الصحيح، فلم جيعلها أصول الفضائل، ومل يتركها كما هي عليه . مراتب متفاوتة لدى غريهما وال ملا فيبل جعلها صفات يتا، ال لذا صفها عادات وتقاليد وتراث ينبغي أن حيافظ عليها، ها من منافع ومفاخر، وال ألن

فقد جعل اخلضوع هللا وألوامره ونواهيه هو الواجب، وهلذه االعتبارات . بالتزامها طاعة له بل بوصفها فضائل أمر اهللا تعاىل .جيب أن ختضع منافع الفرد والقبيلة والشعب واألمة مجيعا

هم قبله، يف تهم، فأصبحوا بعد دخوهلم يف اإلسالم غريسالم عقلية الشعوب اليت اعتنقته، كما نقل نفسيوهكذا نقل اإلم للكون واإلنسان واحلياة ومقاييسهم جلميع األشياء يف احلياةشخصي٤تهم كلها ويف نظر.

.٧٧اآلية ،سورة القصص -١ .٩٧اآلية ،سورة النحل -٢ .١٢٤اآلية ،سورة طه -٣ .١٦٧-١٦٦ص ،املرجع السابق :انظر -٤

Page 40: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٠

ة، وملوفضال عن ذلك كله، مل يكن اإلسالم جمرة وتوجيهات خلقيهداف واملثل يقتصر على رسم األد عقائد دينيفلم يلتحق . نه مبجموعة من األنظمة املتكاملةى ذلك كله إىل بناء جمتمع متكامل، تتماسك أركاما ختطوإن. وتصوير معىن احلياة

. يرة العربعت حتى مشلت جزل أمرها يف املدينة، مث توسبعد أن اكتمل بناء دولة ارتكزت أو إالعلى بالرفيق األ �الرسول ولكنها دولة جديدة من منط جديد، تقوم على أساس جديد، هو . كانت دولة متكاملة بكل ما حتمله كلمة دولة من معىن

ة، وتطبق أنظمة من منط جديد مل يعهدها العرب وال غريهم من قبل، سواء على صعيد احلكم أو االقتصاد أو العقيدة اإلسالمي .ه نظام اإلسالمإن... اسة اخلارجيةاالجتماع أو على صعيد السي

ووضع هلا إالوهكذا مل يترك اإلسالم بعقيدته ومفاهيمه وأنظمته مشكلة ميكن أن تواجه اإلنسان يف حياته وجمتمعه ودولته األساس واملقياس الذي يؤهل املسلم ملواجهتها على حنو حيفظ عليه شخصيتناغم بني كامل والته، وعلى حنو يكفل التته وهوي

رالف " يقول. الشمولية والتكامل: ز ا حضارة من احلضاراتوهذه من أعظم السمات اليت ميكن أن تتمي .أفكاره وسلوكهتها، وتصل حضارة يف جمموعها هي ضمان بقاء اجلماعة اليت تسود فيها تلك احلضارة واستمرار رفاهي ة أيمهم إن(": لنتون

) ...( د أمامهم من مشاكلبة ليجاوا ا كل ما يستجة إذا ما أمدت أعضاء تلك اجلماعة بطرائق جمراحلضارة إىل هذه الغايعلى احلضارة ، متكلما"حممد أسد"ويف تعبري . ١)فناء اجلماعة يصبح أمرا ال حميص عنه وما مل توجد هلا حلول مناسبة فإن

فقامت يف جمتمع واضح . مات األساسية حلضارة مكتملة شاملةا، كل املقومجعت هذه احلضارة، من فجر نشأ(: اإلسالميةاملعامل، له نظرته اخلاصة يف احلياة، وله نظامه التشريعي جه احملد د للعالقات بني األفراد بعضهم ببعض داخل هذا الكامل وله

.٢)اتمع

، أو سياسي د انقالب عسكريلشعوب اليت اعتنقته، ليس جمرانقالبا شامال يف ا -باعتراف اجلميع- دث اإلسالم لقد أحة خمتلفةبل هو انقالب يف طريقة العيش كلها، انقالب جمتمعات وحتوة جديدة وهويهلا إىل جمتمع آخر ذي شخصي... ه إن

.انقالب حضاري بكل ما حتمله الكلمة من معان

أيعقل أن تولد : حني يقفون أمام صدر التاريخ اإلسالمي للتاريخ يتساءلون حبريةكثريا من املؤرخني واملفكرين القارئني إنوتؤيت ر مأيعقل أن تولد وتث! حضارة شاملة، حتمل وجهة نظر متكاملة عن احلياة واتمع والدولة، ال متت إىل املاضي بصلة؟

ف وعشرين عاما، مث تستمرأكلها خالل ني من قرن حضارات وتصهر جمتمعات وتذيب ثقافات أقلبيد، يف بعد ذلك، لتض إمرباطوريات عمرت التاريخقرونا متطاولة؟ وتقو!

جابات على هذا السؤال، وتعددت التفسريات للظاهرة احلضارية اإلسالمية، وأحدثت جدال بني املفكرين لقد تعددت اإلخني من املسلمني وغري املسلمني، وحتكمت اخلواملؤرا لفي بعيد يف اآلراء اليت أدىل ة بطبيعة احلال إىل حدات الفكري

وهي على قدر . وهي اليت سنعقد ملناقشتها فصال بعد الكالم على ثقافة اتمع اإلسالمي. املتخاصمون واملختلفون فيما بينهم .ها مخ هذا البحثواخلطورة، بل ميكن أن نصفها بأن يةمهكبري من األ

.٧٥-٧٤ص ،١ج، شجرة احلضارة -١٢- ٢٠ص ،اإلسالم والتحدي احلضاري.

Page 41: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤١

ثقافة اتمع اإلسالمي :بعارار عن ذاته، يعب قسم خيتص بكل جمتمع حبد: من يستقري واقع املعارف لدى األمم واتمعات جيد أنها تنقسم قسمني إن

هوية أو ربة أو املذهبيببعض اجلماعات الديني وقسم آخر ال خيت. ما ببعض األفرادته ووجهة نظره يف احلياة، وقد خيتصة صبأمة، حبيث ميكن أن تتداوله كل األمم والشعوب دون أخرى وال مبجتمع دون آخر وال جبماعة أو فرد، وإنما هو ذو مسة عاملي

واجلماعات دون أن يكون له أي ة تأثري حتميتها احلضاريعلى وجهة نظرها يف احلياة أو طريقة عيشها أو هوي.

فأما عن القسم األوكل واحد منها بثقافة د أننا جنل، فإن تمعات تتمايز فيما بينها مبجموعة من املعارف، فيختصافلكل جمتمع عقائده ووجهة نظره عن احلياة، ولكل جمتمع مفاهيمه ومقاييسه وقناعاته ومثله العليا . دون غريه تكون له مسة

وهذه العناصر تأتلف فيما بينها. ةوأهدافه الكربى وقيمه اخلاص لتشكل بنيانا ثقافيا متمايزا، متأل جوانبمن املعارف جمموعة هة واأل. فت وتشكلت وفق طرازهاليت تكية والتارخيية وغريها، عليها أن تساهم يف إبراز تلك الثقافة، فالدراسات اللغويدبي

، وليست دراسة التاريخ لدى دب اهلندي كاألوال دب الصيينفليس األدب العريب كاأل. فتتمايز هي بدورها بني جمتمع وآخر .وهكذا... نيمريكيني كما هي لدى الروس أو لدى اليابانياأل

ا القسم املعريفوأم هنا جندالثاين، فإن علوما تتسم باملعرفة البحتة اخلالصة من أي ة ميكن أليجمتمع انتماء، فهي حياديهذه العلوم تنشأ يف أرض جمتمع من اتمعات، صحيح أن. اوجد يف نفسه حاجة إليهأخذها واالنتفاع ا أو بقسط منها ما

ة أنها ال ترتبط باهلوية اخلاص إالبعض العلوم حتظى باهتمام لدى بعض الشعوب أكثر مما حتظى به لدى أخرى، وصحيح أنة املتمية السمة وليست حملوالشخصيةزة لتلك الشعوب، فهي عامليف. يعلوم الطب ات واهلندسة والفيزياء والكيمياء والرياضي

بني اتمعات تبعا الختالف أمناطها - يف طبيعة دراستها-والفلك وما شاكلها ال تنتسب إىل أمة دون أخرى وال تتمايز .ق جمتمع على آخر يف دراستها واستخدامها وتطويرهاتفو وطرائق عيشها، وإن

وكما يدرسها اهلندي والرياضيات وما شاكلها من العلوم يدرسها الغريب كما يدرسها الصيين والطبفالفيزياء والكيمياء إالوميكن هلؤالء مجيعا أن يدرسوا يف جامعة واحدة وأن يعملوا معا يف خمترب واحد، . واملسلم والروسي هم بكل تأكيد أن

.وجهم من قاعة الدراسة أو املختربة، بعد خرصسيفترقون، كل إىل طريقة عيشه ليمارس ثقافته اخلا

ضتهم ذلك الفارق املهم وكان مث. بني صنفي املعرفة وقد أدرك املسلمون يف عصور رة هذا التفريق أن انضبطوا إىل حدعلتهم أمة من دون واليت ج-ة م زون بني املعارف اخلاصمن األمم األخرى، حبيث كانوا ميي كبري يف عملية االقتباس املعريف

صيلةها األالناس، فطلبوها من مظان- وبني الفروع ذات الطابع العاملي من املعرفة، واليت هي خالية من أي ة خاصة، هويتهم قت هلم من أهداف تنسجم مع شخصيفأخذوها من غريهم وأسهموا فيها بقدر ما كانوا حباجة إليها، وبقدر ما حق

.احلضارية

العلوم اليت خيوض فيها البشر اعلم أن(: ليوضح لنا ذلك التقسيم، إذ يقول" عبد الرمحن بن خلدون" امةكالم للعلولنترك الن يأخذه عم لإلنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي صنف طبيعي: مصار حتصيال وتعليما هي على صنفنيويتداولوا يف األ

Page 42: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٢

، وهي اليت ميكن أن يقف عليها اإلنسان بطبيعة فكره ويهتدي مبداركه البشرية ١فلسفيةل هي العلوم احلكمية الواألو. وضعهإىل موضوعاا ومسائلها وأحناء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وحبثه على الصواب من اخلطأ فيها، من حيث هو

إالتندة إىل اخلرب عن الواضع الشرعي، وال جمال فيها للعقل والثاين هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مس. إنسان ذو فكرات من الكتاب والسنة اليت هي وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعي) ...( صوليف إحلاق الفروع من مسائلها باأل

ذلك علوم اللسان العريب الذي هو لسان ها لإلفادة، مث يستتبعؤق بذلك من العلوم اليت يمشروعة لنا من اهللا ورسوله وما يتعلاملكلف جيب عليه أن يعرف أحكام اهللا تعاىل املفروضة عليه وعلى وأصناف هذه العلوم النقلية كثرية، ألن. ة وبه نزل القرآناملل

ة بالنص٢)حلاقمجاع أو باإلأو باإل أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسن.

ة، فيذكر علم التفسري وعلم القراءات وعلوم احلديد فروع العمث يعدة وما تبعها وأصوله والفقه ثلوم النقليوالعقائد اإلمياني .٣)ة اإلسالمية وأهلهاة بامللوهذه العلوم النقلية كلها خمتص(: مث يقول. دابمن علم الكالم وعلوم اللغة والنحو والبيان واآل

: ى كل واحد من هذه العلوم النقلية، ينتقل إىل التفصيل يف أصناف العلوم العقلية، فيقولوبعد أن يعقد فصوال للكالم عل)ة اليت هي طبيعة لإلنسان من حيث إنوأما العلوم العقلية، بل بوجه النظر فيها إىل أهل امللل ة مبله ذو فكر، فهي غري خمتص

علوم : ى هذه العلومنوع اإلنساين منذ كان عمران اخلليقة، وتسمكلهم ويستوون يف مداركها ومباحثها وهي موجودة يف ال .٤)الفلسفة واحلكمة

ة، فيقولمث يعداملنطق : وهي سبعة(: د فروع تلك العلوم العقلي-وبعده التعاليم، فاأل -م منهاوهو املتقدرمتاطيقي ال، مث أواإلات مث اهلندسة مث اهليئة مث املوسيقى مث الطبيعياتهلي .ع عنهلكل واحد منها فروع تتفر .فمن فروع الطبيعيومن ات الطب ،

وهي قوانني حلساب حركات الكواكب - زياحفروع علم العدد علم احلساب والفرائض واملعامالت ومن فروع اهليئة األ .٥)النجوميةومن فروعها النظر يف النجوم على األحكام -وتعديلها للوقوف على مواضعها مىت قصد ذلك

ا يتكلم عن كل واحد منها على وجه اخلصوص ليميز ما هو منإبتعداد العلوم العقلية وحسب، و" ابن خلدون"وال يكتفي يف إبطال الفلسفة وفساد (فيعقد فصال . ا هو مرفوض لتعارضه مع اإلسالم ومفاهيمهمعمقبول حسب وجهة النظر اإلسالمية

ات وخطأ منهجها وتعارضها مع العقيدة اإلسالمية ومفاهيمها، مث يعقد هليعن فساد آراء الفالسفة يف اإل ، فيتكلم فيه٦)منتحلها .٧)يف إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها(فصال

١- ة"ابن خلدون يعين بكلمة ضح يف السطور الالحقة أنسوف يتة غري اليف هذا املوضع مجي" الفلسفيةع فروع املعرفة العقليةدينيمبا فيها العلوم الطبيعي ، . .٤٨٣-٤٨٢ص، مقدمة ابن خلدون -٢ .٤٨٣ص، السابق صدرامل -٣ .٥٢٨ص، السابق صدرامل -٤ .٥٣٠ص، السابق صدرامل -٥ .٥٦٨ص، السابق صدرامل -٦ .٥٧٤ص ،السابق صدرامل -٧

Page 43: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٣

هو من معارف ي املعرفة والتمييز بني ما تشري إىل مدى انضباط املسلمني يف تلق" ابن خلدون"مة هذه النصوص من مقد إنة خاصة اإلسالميالبشر قاطبة، وما هو من معارف األمة وملحقاتها وبني ة، أي بني العلوم الطبيعي"تمع اإلسالميثقافة ا. "

فرق ه إىل الالبحتة، جيدر بالباحث يف التاريخ الثقايف لألمم واتمعات التنب" العلوم"و" الثقافة"ية التفريق بني وفضال عن أمهعلى وجه اخلصوص، وال سيما حني يكون البحث يف الثقافة من حيث تأثريها يف " ثقافة اتمع"بإطالقها و" الثقافة"بني

.١تشكيل عالقات اتمع، أو بتعبري آخر، من حيث وظيفتها يف صياغة النمط احلضاري لذلك اتمع

ما خالل حقبة من التاريخ دون التدقيق يف سرية الذي شهده جمتمع ذلك أنه إذا نظر الباحث يف التراث الفكري والثقايفكبريا أن يقع يف اخلطأ والضالل يف حكمه على هوية ذلك هناك احتماال فإن ذلك اتمع وما يصوغ حياته وطريقة عيشه،

تمع والثقافة اليت تعطيه خصوصيةاإالوما ذلك . ته احلضاري ذلك التراث حني النظر يف- ه ألن- ق بني مل يستطع أن يفرر عن العرف العاماجلانب الذي يعب ه حركته وينظللمجتمع والذي يوجعن إالرا م عالقاته، وذلك اجلانب الذي مل يكن معب

- نةعبرا عن شرحية معيأفراد اشتغلوا ببعض الدراسات الفكرية والثقافية اليت ال تعبر بالضرورة عن اهتمام اتمع، أو كان م. يف اتمع، أو عن بعض اجلماعات املنفصلة فكرا وشعورا عن اتمع واملنخرطة بني جنباته -صغرية كانت أو أكرب قليال

الباحث د أنة على اتمع، ري إىل إطالق أحكام ال أساس هلا من الصحمن شأن الوقوع يف هذا اخلطأ أن يؤد وهكذا، فإن .ثقافة اتمع وقد ال تعبر عنه فات وآراء قد تعبر عنقرأ ما أنتجته حقبة من الزمان من دراسات ومؤل

فات ودراسات تربز خمتلف مريكية، من مؤلحدة األأن نعد كل ما يصدر اليوم يف الواليات املت هل يصح: فعلى سبيل املثالة واألاآلراء واألفكار والتيرةيارات املذهبية، معبتمع األ ديولوجيلذلك عن ثقافة ا مريكي، وبالتايل عن النمط احلضاري

م عالقاته ك مشاعره وينظذاته، ما يصوغ تفكريه وحير من النظر إىل ذلك اتمع حبد إذ ال بد. ال: اتمع؟ اجلواب هو بالطبعات فعلهويثري نشاطه ورد .ش من ذلك التراكم الثقايف فإذا ما أمعن الباحث النظر يف اتمع على هذا النحو، أمكنه أن يقم

تمع ومقاييسه وقناعاته وضوابط سلوكه، فريمالكبري، تلك األفكار اليت تشكل مفاهيم ذلك ا ر عن والفكريم منها صورة تعباحلقيقي بنيانه الثقايف ومنطه احلضاري.

أن -ذلك اتمع الذي شهد حركة معرفية مل يسبق هلا مثيل يف التاريخ- سالميوكم جيدر بالباحث يف تاريخ اتمع اإليتك الفعلي لنشاطه وردة، فيبحث عن احملرتمع ومسريته احلضاريات فعله، وعن بع هذه القاعدة حني النظر يف ثقافة ذلك ا

كوامن حساسيته وحتس سه، وما الذي يثري اهتمامه؟ وما الذي يستفزك فكره؟ وما الذي يبعثه على مشاعره؟ وما الذي حير ...ه؟ما الذي يبقيه راكنا؟ وما الذي يكترث له؟ وما الذي ال يقيم له وزنا يف حياته؟ ملن تصغي آذانه؟ وملن يدير ظهروالثورة؟

ى له تراتب فروع إذ لن يتبد. لةقة للباحث، فسوف يكون صورة ال متت إىل ذلك اتمع بصسئلة مرافإن مل تبق هذه األفيسو ،تمع اإلسالميالثقافة واملعرفة يف اف الفلسفيوأدب الزهد ي بني كتب العقائد وكتب الفلسفة وبني أحباث التصو

رب من فات السياسة الشرعية وما عاإلسالمي وأدب الفسق واون، وبني الفقه يف الدين وأفكار املدينة الفاضلة، وبني مؤلوهكذا، لن يكون لدى الباحث امليزان واملقياس الذي ميكنه من معرفة الثقافة ... كتب سياسات امللك من فارسية وغريها

. ة والثقافةتعريف احلضار: راجع يف حبثنا هذا -١

Page 44: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٤

ضواء على جوانب دون أخرى على حنو جيانب ما قادته ميوله الفكرية أو العصبية إىل تسليط األورب. احلقيقية للمجتمعإىل أن جتذب تلك اجلوانب اهتمامه فال يعود كادمييقة باختصاصه األي اجلوانب املتعلماكه يف حترى اما أدأو لرب. املوضوعية

وفر منها األ واليت يستأثر باحلظ-فات األدبية والشعرية ص يف اآلداب نظره على املؤلكأن يركز متخص. يرى يف اتمع غريهاإىل احلكم -من حيث ال يدري- نغماس يف ذلك البحر من األدب والشعره هذا االفيقود - غاينشعراء اون وأدباء كتاب األ

بأن تمع اإلسالميالبحث عن وبناء على ما سبق، فإن. وما شاكل ذلك ...ه جمتمع ترف وجمون وغزل وتشبيب ومخرعلى اته وطريقة عيشه من اتمع إنما يأخذ هوي رنا أنولقد سبق وقر. نطلق من النظر يف طبيعة تكوينهيجيب أن " ثقافة اتمع"

م عالقاتهف سلوكه، ومن أنظمته اليت تنظأفكاره ومشاعره اليت تكي.

ما كان إسالميإن تمع اإلسالمية، مبا ينبين عليها من أفكار وينبثق عنها من أنظمةواا ملا قام على أساس العقيدة اإلسالمي .اتمع بتلك األفكار واملشاعر واألنظمة إنما هو وليد الرسالة اإلسالمية، اليت بنت عقلية ونفسية فانتظام املسلمني يف ذلك

ة متمية إسالمية اليت جعلت للمسلمني نظرة جديدة إىل إالوما ذلك . زةجديدتني، فأوجدت لنا شخصيبتأثري العقيدة اإلسالميفكان ذلك األساس هو مركز . ص يف وجوب تسيري احلياة وفق أوامر اهللا ونواهيهاحلياة الدنيا ومعىن جديدا للعيش، يتلخ

م داخل جمتمعهمتنبفمفهوم اإلميان والكفر يلعب . ههم، فهو الذي حتكم يف تفكريهم، وبالتايل يف سلوكهم وانتظام عالقال واحلرام يلعب دورا أساسيا يف حياة املسلمني ومفهوم احلال -وهو أساس تفكري اإلنسان-دي قدورا أساسيا يف اجلانب الع

.جمتمعهم ودولتهم وعالقام عامةو

ا على العقيدة اإلسالمية وهادفا إىل معرفة يف حياة املسلمني مبني والثقايف األساسي بسبب ذلك كله، كان النشاط املعريفة اليت حيرصون على التمساالقواعد واملعايري السلوكي وبالتايل كانت املعرفة . لتسيري أعماهلم وفق أوامر اهللا تعاىل ونواهيه ك

ة، بوصفهما امل: ني، مهامتمحورة حول قطبني أساسيعني الذي القرآن والسنوأوامره وهداه ت ستقى منه توجيهات الوحي اإلهليه، وعالقته مع ا يف حياته اخلاصة، يف عالقاته مع ربد فاملسلم الفرد حباجة إىل معرفة أحكام شريعته ليتقي. ١على وجه العموم

ة والنفقة والوالية وآداب العائلة حتى م أحكام الزواج والطالق والبنوسرة حباجة إىل تعلواأل ...نفسه يف أخالقه ولباسه وطعامهحتى تسري عالقام على انتظام واجلماعة حباجة إىل تعلم أحكام املعامالت. ونواهيهتسري أمورها على انتظام بأوامر اهللا

ى أنظمة احلكم واالقتصاد واالجتماع وأحكام احلرب والسلم واملعاهدات وأحكام دار اإلسالم ودار والدولة تتحر. بالشريعةالكفر، من أجل أن ترعى شؤون املسلمني باإلسالم داخلياا وخارجي .والقضاة يتحرد نات والعقوبات من حدوون أحكام البي

...وقصاص وغريها ليحكموا بني الناس مبا أنزل اهللا

أكثر العلماء احلركة الدينية يف صدر اإلسالم كانت أكثر احلركات انتشارا وأوسعها ميدانا، وإن(": أمحد أمني"يقول أوا فيه سبب وحدم الدين ملك على الناس نفوسهم ور السبب يف ذلك أن الذين ظهروا يف هذا العصر كانوا علماء دين، وإن

وا حدود بالدهم، العرب شيعا وأحزابا يضرب بعضهم بعضا، ولواله لقبعوا يف كسر بيتهم، وملا تعد ة ضتهم، ولواله لظلوعلوأخلص له قوم من غري العرب فاعتنقوه وآمنوا . خرةهم يف الدنيا ورجاؤهم يف اآلخوا املمالك، فهو عزمصار ودووملا فتحوا األ

.١٢-١١ص، ٢ج ،دون تاريخ ،الطبعة العاشرة ،دار الكتاب العريب بريوت ،ضحى اإلسالم ،أمحد أمني: انظر -١

Page 45: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٥

ه هو السبيل لسعادتأنمونه، واحلديث جيمعونه ويشرحونه، وأخذوا يستنبطون منها هم، فأقبل هؤالء وهؤالء على القرآن يتفه .١)طراف من حوادثأحكام ما يعرض يف هذه الدولة املترامية األ

تمع اإلسالمية كبرية يف اا علماء اإلسالم بش. على هذا النحو قامت حركة ثقافي قاممتى اختصاصا .ها فهم غرضفهم الشريعة اإلسالمية يستلزم أن وال شك. الشريعة اإلسالمية واستنباط أحكامها لتسيري أعمال الفرد واجلماعة والدولة ا

ة، اليت ال يتأتالعديد من الوسائل املعرفيالفهم ى لوال استيفاؤها فهم نصوص الشريعة حق.

ما املصدرين الرئيسيني للتشريع، شكال معا احملور الذي تدور حوله الثقافة اإلسالمية ومعارف فالقرآن والسنة، بوصفهفتفسري القرآن واحلديث النبوي واستنباط األحكام الشرعية منهما كان الشغل الشاغل ملعظم العلماء . املثقفني وعامة الناس معا

كانت تستوجب العديد -مهمة فهم القرآن والسنة واستنباط األحكام منها- الكربى إال أن هذه املهمة. والدارسني واملثقفني، ويسميها البعض بالعلوم "العلوم اآللية" - ومنهم ابن خلدون-من الدراسات اليت تعني عليها، وهي اليت يسميها بعض العلماء

.املوصلة

املعرفة، دون معرفة اللغة العربية حق -ت منه الشريعة اإلسالميةعني الذي نبعومها امل-ال ميكن فهم القرآن والسنة ففكانت الدراسات اليت وضعت لضبط قواعد النحو والصرف وغريها ...بنحوها وصرفها ومعانيها ووجوه دالالت ألفاظها

من اجزءا مهم ةحركة الثقافة اإلسالمي.

حيتاج إىل قواعد ينضبط -ر عنه يف الفكر اإلسالمي باالجتهادبيعهو ما و- ة الشرعيةدلاستنباط األحكام من األ كما أنة وإمجاع الصحابة، فيعرفون داللة العامتهدون حني النظر يف القرآن والسنا ا واخلاص موداللة ان واملطلل واملبيد ق واملقي

من هنا نشأ علم أصول الفقه الذي وضع . لنهي وما شاكل ذلكداللة األمر واقون بني الناسخ واملنسوخ، ويقفون على ويفراألساس فيه اإلمام حجر"د بن إدريس الشافعيهـ٢٠٤ى سنة املتوف ٢"حمم .فروع فكانت الدراسات يف أصول الفقه من أهم

.٣الثقافة اإلسالمية

ذلك أن. ت دراسة الشريعة اإلسالميةمقتضيا معرفة احلديث الصحيح من الضعيف أو املوضوع كانت من أهم كما أنمن هنا نشأ علم مصطلح احلديث وما . خذه دليال على األحكام ويستبعد ما سواهحاديث ليتاتهد حباجة ملعرفة املقبول من األ

.١٩٤ص، فجر اإلسالم -١٢- هـ٢٠٤-١٥٠(اإلمام الشافعي(

ولد يف . وإليه نسبة الشافعية كافة. مة األربعة عند أهل السنةأحد األئ: حممد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع اهلامشي القرشي املطليب، أبو عبد اهللا كان الشافعي أشعر الناس وآدم : قال املربد. هـ فتوفي ا١٩٩وقصد مصر سنة . وزار بغداد مرتني. غزة بفلسطني وحمل منها إىل مكة وهو ابن سنتني

أقبل على الفقه واحلديث، وأفىت وهو ابـن . أحد ممن بيده حمربة أو ورق إال وللشافعي يف رقبته منة ما: وقال اإلمام ابن حنبل. وأعرفهم بالفقه والقراءاتيف أصول الفقـه والعديـد مـن " الرسالة"و. يف احلديث" املسند"يف الفقه، و" األم"له تصانيف كثرية، أشهرها كتاب . وكان ذكيا مفرطا. عشرين سنة

) الزركلي. (املصنفات .وما بعدها ٥٠١ص ،مقدمة ابن خلدون: انظر -٣

Page 46: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٦

فكان ذلك . فاءعاقتضاه من علم الرجال الذي عين بتراجم رواة احلديث، لتمييز الثقة الذي تقبل روايته من غريه من الرواة الضة االختصاص أيضا من أهم١فروع الثقافة اإلسالمي.

لدى املسلمني الذي كانت نشأته " علم التاريخ" ومبناسبة الكالم على علم احلديث ومصطلحه، البد من وقفة قصرية، عندوكان يف منهجه من خصائص . لرجالمرتبطة بالعديد من فروع الثقافة اإلسالمية، والسيما احلديث والسرية النبوية وعلم ا

.الثقافة اإلسالمية مبا متيز به من أصالة وتفرد

فإنهم اضطروا ، أول من نظم نقد الروايات التارخيية ووضع القواعد لذلك علماء الدين اإلسالمي(" أسد رستم"يقول فأحتفوا علم ، فانربوا جلمع األحاديث ودرسها وتدقيقها ...اضطرارا إىل االعتناء بأحوال النيب وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل

٢.)حمترمة يف األوساط العلمية حتى يومنا هذا، يف أسسها وجوهرها، تزال التاريخ بقواعد ال

سرية النيب ل ما عين به من التاريخ اإلسالميمد فيها على ما رواه الصحابة والتاب. وما يتبعها من مغاز �فأوعون وقد اعتومن بعدهم عن حياة النيب من والدته ونشأته ودعوته إىل اإلسالم وجهاده املشركني وغزواته وغري ذلك من سير حياته إىل

.وفاته

وكان الدافع األساسي وراء هذا . مث اتجه املؤرخون بعد ذلك إىل تدوين أحداث عهد اخللفاء الراشدين ومن بعدهميف التعامل مع البلدان املفتوحة يف عهدهم ويف االقتتال الداخلي فيما ، فأعمال اخللفاء الراشدين. تشريعياالنشاط التأرخيي دافعا

عدت من قبل العديد من الفقهاء فيما بعد أدلة شرعية على العديد من األحكام الفقهية املتعلقة باألراضي ، بني املسلمنيى األحكام املتعلقة بأهل الذمة واملعاهدين واملستأمنني وأحكام احلرب والسلم واألحكام وعل، وتقسيمها بني خراجية وعشرية

أن تصرفات اخللفاء الراشدين مل تكتسب أمهيتها من حيث هي ، واجلدير بالذكر يف هذا اال. املتعلقة بقتال البغاة واملرتدينوإنما من حيث هي تعبري يف كثري من ، ادات صحابة كبار فقطوليس أيضا بوصفها اجته، تصرفات لرؤساء الدولة وحسب

فالعصر هو عصر الصحابة الذين يعد إمجاعهم لدى مجهور فقهاء املسلمني من . وهذا هو األهم، األحيان عن إمجاع الصحابةالتشريع. أدلة التشريع اإلسالمي ة من موادفتاريخ الصحابة إذا ماد.

قهاء كانوا حباجة إىل تتبع تاريخ الفتوح حتى بعد العهد الراشدي من أجل معرفة أي البالد فتح أضف إىل ذلك أن الف. ألنه يترتب على ذلك حتديد احلكم الشرعي هلذه األراضي من حيث هي أراض خراجية أم عشرية، صلحا وأيها فتح عنوة

.ديث تشمل هذه األخبار التارخييةلذلك رأينا أن قسطا وافرا من مدونات السنن واحل

كل هذه العوامل دفعت عددا من املؤرخني إىل متابعة تدوين التاريخ اإلسالمي بقرونه العديدة وفق املنهج ذاته الذي مزيد من وإن كانت تلك األخبار التارخيية حباجة إىل. أي األخبار مسندة إىل سلسلة رواا، اعتمده احملدثون ورواة السنن

.وما بعدها ٤٨٨ص ،املرجع السابق: انظر -١ .٥ص، ٢٠٠٢، املكتبة العصرية، بريوت، مصطلح التاريخ، أسد رستم -٢

Page 47: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٧

. وصحابته من بعده �إذ مل حتظ بتلك العناية اليت حظيت ا أخبار الرسول ، والسيما من حيث السند، التحقيق والتدقيق ١.فالنصوص التارخيية املتأخرة ليست مادة تشريعية كما هو شأن أخبار العهد النبوي والراشدي، وهذا ليس مستغربا

كما ، "تاريخ الرسل وامللوك"الذي بدا كتابه " ابن جرير الطربي"التاريخ على هذا النحو اإلمام وكان أبرز الذين دونوا إذ مل يؤلف مثله طوال ، وتاريخ التاريخ يف العامل، من األعمال احلامسة يف تاريخ الفكر العريب كله(" حسني مؤنس"يقول

٢.)العصور الوسطى يف الشرق والغرب

ذلك أن. ى مراتبهمالكربى يف ثقافة اتمع اإلسالمي إنما وقعت على عاتق اتهدين وسائر الفقهاء بشت ةاملهم أن إالرين يف العلوم الشرعية، فهم حباجة إىل اللقمة السائغة اليت يقتاتوا من الناس والغالبية منهم، ليسوا من العلماء وال املتبح العامة

-تهدون . وإىل الشراب السلس بعد مزجه، وإىل الدواء الناجع بعد استخالصه ،نضجها بعد -يف سلوكهم اليوميفكان ام من الفقهاء هم قةوتالمذم اليوميمون مثرة جهود سائر العلماء . بلة أنظارهم يف حيافهم الذين يقد-من لغويرين ني ومفس

وحمدتمع والدولةنا فقها متكامال شامال، هو قوام حياة الفرد واألة، لتثمر لبعد مزجها بعناية ودق - نيثني وأصوليسرة وا .وكلما استجدت يف حياة املسلمني مسائل جديدة ومشاكل مستجدد األة بتجديام وتوسهت أنظارهم حنو ع دار اإلسالم، توج

فيت ،وا منهم احلكم الشرعيفكان موقف الفقهاء من هذه املشاكل ( .لسلوكهم ومعيارا خذوه رأيا ومفهوما هلمالفقهاء ليستمدمن أصعب املواقف وأشد٣)ال للعبءها عناء، وكانوا هم من جانبهم من أكثر الناس نشاطا وحتم.

مقتصرة على عامة الناس يف اتمع، بل كانت الدولة تدين هلم يف تبين -ظاهرة اتباع الفقهاء-ومل تكن هذه الظاهرة ق منها باحلكم أو االقتصاد أو سواء ما تعل-فتلك األنظمة يف حقيقتها . زمها من أنظمة لرعاية شؤون الناسمجيع ما يل

ى اتهدون استنباطها، وأدرجها الفقهاء جمموعة من األحكام الشرعية اليت تول إالما هي -االجتماع أو السياسة اخلارجيةم ومصنة، ضمن موسوعام الفقهييضع النظام املايل" اخلراج"أينا أبا يوسف يف كتابه فر(فا ر نظام األرض لدولة الرشيد، فيقر

خرج البحر وغريه، ويضع نظام ومسحها، وما يؤخذ منها وكيف يكون ذلك، ويضع نظام الضرائب على غري األرض مما يار بار واألمن اآل الري .وجند األربعة جيتهدون يفربعة وغري األة األئمة وما يسمة وجنائيى باألحوال وضع القوانني من مالي

.٤)الشخصية

يف رسالته إىل "عابن املقف"وقد ألف بعض الكتاب من غري الفقهاء بعض الكتب يف سياسة احلكم وإدارة الدولة، كما فعل ا كانوا يلجؤون إىل علماء أمثال هؤالء، وإمناخللفاء مل يكونوا يلتفتون إىل أن إال، »رسالة الصحابة«اها اخلليفة، واليت مس

...٥"الشافعي"و" أيب حنيفة"و" أيب يوسف"و" اإلمام مالك"الشريعة أمثال

.٣٤٠إىل ص ٣١٩، من ص٢ضحى اإلسالم، ج: انظر يف هذا املوضوع -١ .١٦٦اإلسالمي، صحممد فتحي عثمان، املدخل إىل التاريخ : نقال عن ٢-

.٢٤٦ص ،فجر اإلسالم -٣ .٢٧١ص، ١ج ،ضحى اإلسالم -٤ .٢١٦ص ،١ج ،املرجع السابق -٥

Page 48: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٨

تمع وحسامني على فكر اوهكذا كان علماء الشريعة هم القوه واملوج هني حلركته، وكانوا أصحاب السلطان احلضاريته مان الذي أنيطت به مسؤولية ضبط مسار اتمع ومحايته من االحنراف عن هويم األيف اتمع اإلسالمي، بل كانوا صما

ة اليت وكلوا ا، حتول وها هم حني أساؤوا يف أداء املهم. على اتمع برمته اإلسالمية، فإذا قصروا فيها انعكس األمر وباالالناس إىل مذهبيحيابة، يتقاتلون يف بعض األات متعصن بدافع من عصبيم وقراهم تهم ملذهبهم، فيجروا اخلراب إىل مد

.الفقهاء على اتمع امةتنتصب دليال على قو - تهاعلى مأساوي-حداث بقيت تلك األ أن إال. ١وأحيائهم

اولة النظر إىل ماهية ما سلف من الكالم عن علماء الشريعة وما هلم من أثر يف احلياة اإلسالمية، إنما تربز مثرته يف حم إن"تمع اإلسالميثقافة ا "ن األساسيهلا واملكو .صدرون يف علمهم وفقههم وآرائهم عن ه إذا ثبت أنفإنما يهؤالء العلماء إن

يستلهم ثقافة اتمع هي ثقافة إسالمية بقدر ما اإلسالم عقيدة وشريعة، وينطلقون من القرآن والسنة، ثبت بطبيعة احلال أن .اعاته ومقاييسه من هؤالء العلماءأفكاره وأحكامه ومواقفه وقن

سلطان الشريعة لقد أدرك مجيع الباحثني سواء أكانوا من املسلمني أو غريهم من املستشرقني وسائر املؤرخني الغربينيدومينيك وجانني "سبيل املثال ما يقوله فمن ذلك على . حضاري ال مادي وعلمائها على اتمع اإلسالمي، وهو سلطان ثقايف

ز على الصعيد العقلي بربوز العلوم الفقهية والدينية اليت قامت على ا نوع من الثقافة يتميجيب أن يربط باإلسالم حق(": سورديلإىل جانب سلطة -ل املقام األو يويل ويصدر عن اإلسالم أيضا منط اجتماعي. املذهبية تهرت لإلسالم بنياحترام التقليد، واليت وف

ا أكثر مما هي مرب ة مسلمرةزمني - عتربون جدمن قبل معاصريهم-ا للعلماء والفقهاء والقضاة الذين ي- ة لني مكانةخمومعنويذان ي الشريعة اللرمن هنا يأيت هذا احلرص على التقليد الشرعي وهذا االحترام ملفس. ال تطال، هذا إذا مل نقل آمرة قاهرة

يلونان أخالقي ة-اتة أو فردية -عام٢)يسيطر عليها التطبيق الدائم للفرائض الديني.

أن ينسبوا الشريعة اإلسالمية إىل مصادر تارخيية سابقة أو معاصرة لظهور الدعوة إالكثريا من الباحثني الغربيني أبوا أن إالفما مدى . ر بالتشريع الروماين إىل حد كبريالفقه اإلسالمي تأث والت يف ذلك اال القول بأنفكان من أبرز املق. اإلسالمية

؟عاءصدق هذا االد

ت مقولة هذا الفريق، فإنإذا صح هذا يعين سقوط القول بأي تفرالفقه هو ذلك أن. د ذي قيمة للمجتمع اإلسالميعدم أصالته، فلم يعد هناك الكثري من األشياء اليت ميكن أن جتعلنا نتكلم عن متيز أو عماد حياة اتمع اإلسالمي، فإذا ثبت تمع اإلسالمية ذات شأن يف اوبعبارة أخرى. خصوصي :ة مستقلال يعود هناك مربار للكالم عن حضارة إسالمية قائمة بذا .

ة، وفقه (: ريأن يطرح سؤاله اخلط" دومينيك سورديل" وسيكون حينئذ من حقوثقافة إسالمي ،هل يوجد، أم ال، فكر إسالميومهمة الصفحات القادمة من هذا البحث . ٣)قة؟ وهي تساؤالت تبقى دائما معلالمي، واقتصاد إسالمي، وحضارة إسالميةإس

.البت يف هذه القضايا

.٥-٤ص ،٢ج ،دون تاريخ، الطبعة اخلامسة ،دار الكتاب العريب، بريوت ،ظهر اإلسالم ،أمحد أمني: انظر ١ .١١ص ،١ج، ١٩٨٠الطبعة األوىل ،دار احلقيقة، بريوت ،حسين زينة ترمجة ،احلضارة اإلسالمية يف عصرها الذهيب ،دومينيك وجانني سورديل ٢ .٢٠٨ص ،١٩٨٣ ،بريوت ،التنوير ،اإلسالم يف القرون الوسطى ،دومينيك سورديل ٣

Page 49: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٤٩

الفصل الثاين نشأة احلضارة اإلسالمية

يةنشوء احلضارات البشر :توطئة

احلضارات البشرية ال تولد يف التاريخ على حنو مفاجئ أن -إن مل نقل مجيعهم-م ا معظم املؤرخني سس اليت يسلاألمن مة لنشوئهادون سابق إنذار، أو دون عوامل وإرهاصات تكون مقد .ما هي طريقة يف العيش استقرعليها مجاعة فاحلضارة إن

ا حيمل الناس من أفكار ومشاعر وما ينتظم كانت طريقة العيش هذه تعبريا عمما ول. زا عن غريهمتميمن الناس جعلتهم جمتمعا ع والدة هذه احلضارة يف فجاءة من التاريخ، ما دامت تقوم على أسس من املفاهيم عالقام من أنظمة، فمن الطبيعي أن ال نتوقا إىل خماضات عسريةواألنظمة والعادات والتقاليد اليت حيتاج تكو ى األـنمن شتتمع وفقها واع، وبعد أن تتكون ويتشكل ا

فإنه يتمسا متس ك األكتمع وفقها سيكون أيضا يف غاية وبالتايل فإن. بوحيدها متبديلها بعد استقرارها وتشكل حياة اليت قد تكون مزجيا من العوامل التارخيية والسياسية والعسكرية را، ما مل تتوافر العوامل الكافية، االصعوبة، إن مل يكن متعذ

.واالقتصادية والفكرية وغريها

لذلك من املعتاد حني نقرأ التاريخ، مبا فيه من جمتمعات وما تلونت به من حضارات، أن نتتبما ع عوامل نشوء حضارةأنه إال ...الكامنة وراء تأجيل ظهورها أو تعجيل هذا الظهور ابسبقبل نضوجها واستوائها قائمة بني صفوف احلضارات، واأل

من الصعب أن حندد تارخيا معيإذ احلضارات تنساب من ثنايا بعضها البعض انسيابا، حبيث جند أنفسنا . ما نا لوالدة حضارةأمكننا حتديد والدة دولة من ئنفل. دثارهاان مات ومن ثمرباطوريعاجزين عن التعامل معها كما نتعامل مع نشوء الدول واإل

الدول يف اليوم الذي حصل فيه انقالب عسكري ة أدسر أسرة من األ تسلمت إىل قيام تلك الدولة أو أو معركة عسكريالتأريخ لنشوء ى يف هذا ما ال يتأت أمكننا التأريخ لنهاية هذه الدولة على األساس ذاته، فإن مللسلطة وعضها عليها، ومن ث

.احلضارات

قد يصطلح املؤرتلك الدولة قامت على أسس تلك ما مع قيام دولة من الدول، باعتبار أن خون على التأريخ حلضارة هم بالتأكيد لن يعدوا قيام هذه الدولة حدثا حضارياأن إال. احلضارة وتشكلت ا وأبرزا حية قائمة يف معترك احلياة السياسية

بل يدرسون تلك املراحل بوصفها مهدا لتلك احلضارة، أو بوصفها التربة اليت نبتت . منقطعا عن املراحل التارخيية السابقة لهأعمال الرجال وآثارهم تعبر عن نعم، إن(: "غوستاف لوبون"وبتعبري . أصوهلا فيها وترعرعت حتى قامت مستوية على

Page 50: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٠

تنهذا ال يكفي، فاألمم نتيجة ماض طويل وليست األمم ب ر الذي كانوا فيه، ولكنتصو ننا منأفكارهم ومشاعرهم ومتكخون فإذا اصطلح املؤر. ١)ساعة واحدة، وهي حمصول ما خضعت له من البيئات املختلفة التأثري، ولذا يفسر حاضرها مباضيها

هم قطعوها عن احلضارات ة احلضارة الرومانية، فهذا ال يعين أنعلى جعل قيام الدولة الرومانية األوىل يف روما بداية لدراسواحلضارة اليونانية يف . السالفة، بل هم يعدون احلضارة الرومانية وريثة احلضارة اليونانية، بل يرى الكثري منهم أنها امتداد هلا

...ة، إضافة إىل إبداع الشعوب اليونانية وتأثري بيئتهانظرهم هي مثرة امتزاج العديد من الظواهر احلضارية السابقة هلا واملعاصر

ة واحدة بل تنشأ رويدا فإذا كانت احلضارات ال تولد مر. مثلة تقودنا إىل استكمال مسألة نشوء احلضاراتوهذه األبشرية تشكل دوائر ذلك أنه وإن كانت اتمعات ال. مبعزل عن بقية احلضارات نشوءها هذا ال ميضي مستقال رويدا، فإن

جدرانا فوالذية ضربت فيما بينها وجعلتها منعزلة متام االنعزال بعضها عن ذلك ال يعين أن أن إالة وكيانات فريدة، مستقلد قد تتعد. ، وال سيما حني تكون متجاورة يف الزمان واملكاناالحتكاك بني هذه اتمعات أمر حتمي خر، بل إنالبعض اآل

من هنا، . ، املتبادل أو غري املتبادلجيايبأو اإل أنه بالنتيجة احتكاك له تأثريه، القليل أو الكثري، السليب إاله هذا االحتكاك، وجور تلك األخرية حبضارات بالد ما بني النهرين، وهذه بدورها وليدة ر احلضارة الرومانية باليونانية، وتأثنقرأ يف التاريخ عن تأث

...شكالة السومرية اليت تأثرت باحلضارة املصرية بشكل من األاحلضار

ولنفسح اال أمام أحد أفضل التعابري عن ... ٢قصى املختلفةمن هنا أيضا نقرأ عن التأثري املتبادل بني حضارات الشرق األحضارة ما واستوائها، فقد يستبني صورة بنظره إىل ما وراء نضج ف أن ميتدإذا حاول املؤل( ":حممد أسد"هذه احلقائق، بقلم

ة األوىلهذه احلضارة يف مراحلها الغض .ه سوف يعجز عن أن يتبين توقيت ميالد هذه احلضارة أو طريقة نشوئها على حنو ولكندحمد.

ها فراد، بل إنال ميكن أن تولد كما يولد األ احلضارات بوجه عام راجع إىل أن ي التارخييهذا العجز عن التقص ولعلتنساب يف غري متايز إحداها يف األخرى دون أن تكون بني كل منها مرحلة انتقال بيدةنة حمد.

ها إىل أصوهلا إذا تناولنا بالتحليل ما تركت من أساطري ا يف أحيان كثرية أن نتبين نسبة حضارة ما فنردولقد نستطيع حق .اليت عاصرا أو سبقتها اركت فيه غريها من احلضاراتفت من تراث فكري شوعادات وخرافات، وخل

ولكنن فترة االنتقال بني حضارة سلفت وأخرى تلتها نعنيها بالبحث والتمحيصنا ال نستطيع أن حندويصدق . د أو نعي .٣)ما هو قائم منها وما اندثر وزال: هذا القول على احلضارات كلها

وكم يف التاريخ البشري من حركات تفوق احلصر، انفردت كل منها ( :تارخيية يقولمثلة الألوبعد أن يضرب العديد من ابلون خاص ٤)ت فدعوناها لذلك حضاراتزت به واستقلمتي.

.٣٢ص، حضارة العرب -١ .٢٤حتى ١٥من ص ،اإلسالم والتحدي احلضاريوآخرون، حممد أسد: انظر -٢ .١٦ص، املرجع السابق -٣ .١٩ص، ع السابقاملرج -٤

Page 51: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥١

الباحث جيب أن يستوقف نفسه عن االنسياق وراء هذه األفكار حني يشرع يف دراسة احلضارة إن... ولكن مهالهل ينطبق بالضرورة ما سلف من أفكار، على دراسة احلضارة اإلسالمية ونشوئها؟ . تمدادهااإلسالمية ونشوئها ومصادر اس

ألي انسياقنا وراء هذه القواعد إىل تقويض األيس لكل قاعدة استثناء؟ أليس من املمكن أن يؤد؟ رناها لبحثنا هذاسس اليت قر اإلجابة على هذه التساؤالت مهمة إذا نشأت هذه احلضارة؟ ، فكيف إن مل تنطبق هذه القاعدة على احلضارة اإلسالميةو

.الصفحات التالية

ة؟ :الأوكيف نشأت احلضارة اإلسالمي اتآراء ونظري أو هل نسجت من اخليوط املنسولة ! تات احلضارات؟نت من فهل تكو! هل احلضارة اإلسالمية وليدة حضارات أخرى؟

!ارات؟من أثواب تلك احلض

ة، وتفتقت بني جذور زروعها، ونبتت يف هل كانت بذرة هذه احلضارة خمتبئة منذ مئات السنني يف تربة صحراء اجلاهليا، واستقت مبياهها، واغتذت بسمائها، وأورقت يف جوأرضها، وترعرعت يف رحات هواءها، والتفحت بشمسها، ها، وتنفس

ت فروعها إىل خارج اجلزيرة فعانقت فروع احلضارات، هلا على الصحراء، مث مدوكربت فالتهمت ما سواها، وأورفت بظالة ز بطعم جديد ونكهة خاصرها وتؤيت أكلها الذي يتميفأذابتها وشربت عصارا واغتذت من عديد فروعها، لتثمر بعد ذلك مث

!!؟هة مزيج الفاكهةذوا بنكحوت سائر النكهات، مزجتها كما ميزج الناس الثمار ويذيبوا ليتلذ

أن يعتمدوها حني تفسري -والسيما الغربيني منهم ومن ج جهم-هل هذه الصورة اليت حياول العديد من املؤرخني نشوء احلضارة اإلسالمية ودخوهلا ميدان التاريخ هي الصورة الصحيحة اليت تنطبق على واقع احلضارة اإلسالمية وتاريخ

١!نشوئها؟

تصوير، يستدرك على كل ذلك ر لنا عملية نشوء احلضارات ومتازجها وتأثريها املتبادل أدقالذي صو" مد أسدحم"ها هو نا مهما أوغلنا يف التنقيب والبحث يف ما سلف من حضارات البشر، فلن جند توقيتا معينا نستطيع أن واضح إذن أن( :فيقول

ده بدءا حلضارة ما، أو تارخيا ملولحنددها، وال أن نعيا فاصالن حد ز بني حضارة ولمييت ت وأخرى أشرق عليها النور وتبد .للوجود

، فلم يذكر تاريخ األلسنةولكن هناك استثناء واحدا لكل ما أسلفنا من قول، استثناء تكاد لغرابته تذهل العقول وتنعقد للوجود من عامل الغيب دفعة واحدة، واستوت للناظرين البشر فيما عرفه الناس من حضارات سوى حضارة واحدة برزت

.ها حلضارة اإلسالموإن فريدة من نوع حضارة فذ حمدودة من تاريخ البشر، تلك وال شكيف فترة قائمة على أصوهلا

.١٣٩، وأمحد أمني، فجر اإلسالم، ص٤٥٣، ص١لوثروب ستودارد، حاضر العامل اإلسالمي، م: انظر على سبيل املثال -١

Page 52: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٢

فلئن قامت كل احلضارات األخرى ونشأت رويدا رويدا من تراث املاضي مبا حوى من ضروب الرأي وتيارات الفكر،واستغرقت يف تبلورها إىل شكلها اخلاص ا احملدد آمادا طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة اإلسالم وحدها وكيا

.١)بانبجاسها إىل احلياة دون سابق عهد أو انتظار

ر أنيتصومل يكن لباحث من باحثي احلضارات والفكر أن ( ر أنه عشية ظهور اإلسالم،يقر" ارسامي النش علي"وها هو تا يف وار مشتطدورة الدين ودورة احلضارة والفكر ستنتقل إىل اجلنوب، إىل اجلزيرة العربية، حيث يعيش شعب غريب األ

عهم شظف احلياة وجدب وجودهم أمة صحراوية ال رابط بينهم، يتقط ...بوادي وجناد الصحراء الشاسعة الواسعة القاسية .٢)القاسي

وجهات نظر مناقضة لذلك الرأي تقف له باملرصاد، إذ ترى احلضارة اإلسالمية شأن سائر احلضارات ويف املقابل هناك ة هي . يان واملذاهب واألنظمة والثقافاتمبا حوى من ضروب احلضارات واألد وليدة الواقع التارخييفاحلضارة اإلسالمي

بداع خذ منحى جديدا نتيجة اإلات -على أبعد تقدير-متداد ذلك اال بالدرجة األوىل امتداد حلضارة عرب اجلاهلية، غري أنعنهقت الذي تفت عبقريد وصحابته مث الذين اتة اقتباس من احلضارات . بعوهمات املسلمني، بدءا مبحممث هي بالدرجة الثاني

أن نتكلم عن حضارة -وفق هذه النظرية-كننا وهكذا فال مي ...السالفة واملعاصرة من يونانية ورومانية وفارسية وهندية وغريهاة مكتملة املعامل قبل مرور عدإسالميمثال، فإن" أمحد أمني"ت إىل ذلك التفاعل، ووفق رأي ة قرون على ظهور اإلسالم، أد

.٣القرن الرابع اهلجري هو العصر الذي بلغت فيه احلضارة اإلسالمية ذروا

اهني حملاكمتهما واملوازنة بينهما حيتاج إىل تقرير امليزان الذي جيب اعتماده للبت يف قضية جتالوقوف أمام هذين اال إنصيل حوهلا، أو دون وكم من الباحثني تعاطوا مع مسألة احلضارة اإلسالمية ونشوئها متجاهلني الرتاع األ. عظيمة الشأن كهذه

يف موضوع خطري كهذاوالدراسة دوا األرض اليت يقفون عليها قبل رحلة البحثأن حيد.

خاذ موقف من مسألة جوهرية، هي ب بالدرجة األوىل اتإدالء الرأي يف تفسري نشوء احلضارة اإلسالمية يتطل احلقيقة أنو هل اإلسالم دين الوحي؟: وهي أال. مهية واخلطورةغاية يف األ

قد يسارع البعض إىل إبداء االستغراب من إقحام موضوع ديين حبت، ختاصم الناس فيه قرونا، يف حبث تارخيي أكادميي ! !؟أبعد تقدير، فلم اخلوض فيه ههناه أحباث علم األديان أو الفلسفة على هذا املوضوع حمل وإىل القول إن

ملوقف من ا ر فقط أنما هي تقروإن. هذه الدراسة لن ختوض يف اجلدل حول مصدر الدين اإلسالمي إن: أسارع إىل القولالذي ينكر الوحي اإلهلي مصدرا ذلك أن. تفسري نشأة احلضارة اإلسالميةهذه املسألة يشكل حجر الزاوية واألساس يف

لإلسالم، فإنا هذا ه حتما سيبحث ها هنا وهناك يف طي ة أتىات التاريخ وجوانبه وزواياه ومنعطفاته عن مصدر كل جزئي

.١٩ص، املرجع السابق -٢ .٣٠ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم -١٢- "ة يف القرن الرابع اهلجريآلدم متز" احلضارة اإلسالمي ،بريوت ،د عبد اهلادي أبو ريدةتعريب حمم ،تصدير الترمجـة ،الطبعة اخلامسة ،دار الكتاب العريب

.٧ص، العربية بقلم أمحد أمني

Page 53: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٣

للمصادر التارخيية واحلضارية، إضافة إىل إال -يف سياق الكالم عن نشأة احلضارة اإلسالمية- جمال الدين، فال يعود هناك .فسريهم لنشوء احلضارة اإلسالميةوعلى هذا األساس حسم الغربيون موقفهم يف ت. � عبقرية املسلمني وعلى رأسهم حممد

وأم،ا الذين يؤمنون بالوحي منبعا للدين اإلسالمي فإنهم بال شك رون دورا ما لذلك الوحي يف تكوين احلضارة سيقرهم بكل تأكيد لن يعزوا تلك أن إال ،يف حجم ذلك الدور -أو بغري حق حبق-وهؤالء قد خيتلفون فيما بينهم . اإلسالمية

.لق األواحلضارة بكاملها إىل املصادر التارخيية وسائر املؤثرات احلضارية، كما يفعل الفري

. الرتاع حول تفسري نشوء احلضارة اإلسالمية هو يف حقيقة األمر وبالدرجة األوىل حول اإلسالم نفسه وهكذا، فإنما ، وبني من ينكر ذلك الوحي، ويرى بالتايل أن� وبتعبري آخر، هو نزاع بني من يؤمن باإلسالم دينا أوحاه اهللا إىل رسوله

املسلمني من بعدهم مع البيئة واملؤثرات ونه إبداعا تضافرت على إجنازه عبقرية حممد وصحابته أتى به اإلسالم ال يعدو كوفاق هذين الفريقني على تفسري نشوء ه من اخلطأ أن يفترض الباحث احتمال اتوبالتايل فإن. احلضارية والعوامل التارخيية العديدة

عني الذي نبعت منه امل- فاملوقف من رسالة اإلسالم . ه على أساس مغاير لآلخرإذ كل منهما يبين نظرت. احلضارة اإلسالميةل يف نفوس الذي تأص والتقليدي هذا إذا تغاضينا عن العداء التارخيي. هو األساس يف حبث هذه املسألة - احلضارة اإلسالمية

فات عدد من الغريب ظاهرة يف مؤل ب الديينتزال آثار التعص ال(": برنارد لويس"يقول . الغربيني جتاه اإلسالم واألمة اإلسالميةعلى الرغم من (": نورمان دانييل"ويقول . ١)حباث العلميةالعلماء املعاصرين ومستترة يف الغالب وراء احلواشي املرصوصة يف األ

ر من املواقف التقليدية للكتاب النصارى لتحراحملاوالت اجلدية املخلصة اليت بذهلا بعض الباحثني يف العصور الوسطى واحلديثة لم مل يتمكمن اإلسالم فإنوا أن يتجر٢)دا تامادوا منها جتر.

ى هؤالء الذين حرصوا على التجرد من األوحتحقاد والتحيم بطبيعة احلال حمكومة ز ضداإلسالم وأهله، بقيت نظرم يخضعون التاريخ اإلسالمي للنظرة ذاا اليت أ ا، طامل� ة حممدوبإنكارهم نبوبإنكارهم املصدر اإلهلي لرسالة اإلسالم

تمع الغريبينظرون من خالهلا إىل تاريخ ا .حنن معشر املستشرقني، عندما نقوم اليوم بدراسات ( ":رودي بارت"ا يقوله فممنربهن على ضعة العامل العريب اإلسالمي، بل على العكس، حنن نربهن لكي يف العلوم العربية والعلوم اإلسالمية ال نقوم ا قط

وحنن بطبيعة احلال ال . له اإلسالم، ومظاهره املختلفة، والذي عبر عنه األدب العريب كتابةعلى تقديرنا اخلالص للعامل الذي ميثأو يبدو م وزنا فحسب ملا يثبت أمام النقد التارخيينأخذ كل شيء ترويه املصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر، بل نقي

وكأنق على اإلسالم وتارخيه وعلى املؤله يثبت أمامه، وحنن يف هذا نطبا املعيار النقدي ة اليت نشتغلنفسه الذي فات العربينطب٣)نة لعاملنا حننقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى املصادر املدو.

ق يف ذلك على كثري الذي بذل جهده إلنصاف احلضارة اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي، وتفو" ف لوبونغوستا"وها هو ني، يقره من الباحثني الغربير أن)د من فصيلة املتهوحمم مسني من الناحية العلجيب عدة كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسسي ي

وس وحدهم، ال ذوو املزاج البارد من املفكرين، هم الذين ينشئون الديانات ويقودون ية لذلك، فأولو اهلالديانات، وال كبري أمه

.٧٣ص، ١٩٨٣طبعة أوىل ، قطر كتاب األمة،، االستشراق واخللفية الفكرية للصراع احلضاري ،حممود زقزوق: نقال عن -١ .٧٣ص، نقال عن املرجع السابق -٢ .٧٧ص، نقال عن املرجع السابق -٣

Page 54: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٤

عترف بأنبحث يف عمل املفتونني يف العامل يدول وأثاروا اجلموع ه عظيم، وهم الذين أقاموا األديان وهدموا الالناس، ومىت يقول خبداع حممد ثانية وال يقف أي. لكان للتاريخ جمرى آخر، ولو كان العقل، ال اهلوس، هو الذي يسود العاملوقادوا البشر

د كان جيد يف هوسه ما حيفزه إىل اقتحام كل عائق، وجيب على من يودأن يفرض إميانه أمام سلطان النقد كما يلوح يل، وحمم .١)مانع أمام أي ى، وال يرتدد من اهللا، فيتقوخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء، وحممد كان يعتقد أنه مؤيعلى اآل

ستتراوح يف استمدادها، بني أهل " إسالمه"املصادر اليت استقى منها حممد وهكذا، وعلى أساس ما مضى من آراء، فإنة وغريهاثني احلنفاء من العرب واألالكتاب واملتحنة واهلندير املعزوفالذي "غوستاف لوبون"ولنبق مع . ديان الفارسيةيكر

يف بصرى ف عليه يف دار نصراينتعر علم التوراة من راهب نسطوري" حممد الشاب"م املعتادة لدى الغربيني حول تعلة ثانية بالراهب الذي أطلعه مر(ر له االجتماع الرجولة تيس حممدا حني سافر بالتجارة إىل الشام بعد ذلك يف سن أن" يفترض"و

اإلسالم إنما هو نسخة جديدة اصطنعها حممد عن الديانتني النصرانية واليهودية، وهكذا يصل إىل أن. ٢)على علم التوراة سابقالتني ظهرتا قبل اإلسالم، أي اليهودية تني العظيمتني الا يف الديانتني الساميوتقرب فكرة الكون الفلسفية يف القرآن مم(: إذ يقول

يف ريآلرية الفارسية أو اهلندية ذات نصيب ظاهر يف النصرانية واإلسالم، وحنن نرى النفوذ اات اآلالعنعن والنصرانية، وزعم أند أن يقيم دينا سهال يستمرئه قومه، وقد وف) ...( ااإلسالم ضعيفا جدق لذلك حني أخذ من األديان وكان من مقاصد حمم

مه من أنبياء بين ، وهو الذي أعلن أنه يسري على غرار من تقددين جديد قطر حممد يف إبداع األخرى ما يالئمهم، ومل يفكاليهودية والنصرانية واإلسالم فروع ثالثة أن ما أوحي إليهم صحيح، واحلق إسرائيل من إبراهيم إىل عيسى عليه السالم قائال إن

دا كما أن. ٣)ها ذات قرىب وشيجةألصل واحد ، وأنرا عن شوق إالمل يكن يف إعالنه لرسالته -ي لوبونوفق رأ-حمممعبهلة ونشأ عن وحدة لغة العرب وحشر آهلتهم يف الكعبة إمكان صهر عبادات هذه اآل(: العرب وتوقهم إىل دين جديد، فيقول

وقت مجع العرب على أن احلقو. هلة الكثرية بلغة واحدة وحتويلها إىل عبادة إله واحد، ومما يسر هذا الصهر تكلم عباد هذه اآلدين جديد إقامةيف ر قطته، وهو الذي مل يفك، وهذا ما عرفه حممد، ويف الوجه الذي عرفه فيه سر قودين واحد كان قد حل

لعرب جيلونه براهيم الذي كان اإله الواحد هو إله باين الكعبة، أي إله اإل خالفا ملا يقال أحيانا، وهو الذي أنبأ الناس بأنوثان يف ام ظهور حممد إىل الوحدة السياسية والدينية كثرية، وما حدث من الثورة على األجاه العرب أيوعالئم ات. مونهويعظ

اهلرم يف صنام نفوذها ودبعهد القياصرة الرومان حدث مثله يف جزيرة العرب حيث ضعفت املعتقدات القدمية وفقدت األ .٤)ا جيب أن ال يهرمهلة ممآهلتها، واآل

كانت يف البالد شيعة من العرب تدعى باحلنفية أبت أن تقر(ر أنه الذي يقر" ول ديورانت"وهذا الرأي نفسه يراه أيضا وكان حممد، كما . لوهية إىل أصنام الكعبة وقامت تنادي بإله واحد جيب أن يكون البشر مجيعا عبيدا له وأن يعبدوه راضنيباأل .٥)ان كل داع ناجح يف دعوته، الناطق بلسان أهل زمانه واملعبر عن حاجام وآماهلمك

.١١٤ص،حضارة العرب -١ .١٠٣ -١٠٢ص، املرجع السابق -٢ .١١٨-١١ص ، املرجع السابق -٣ .١٠٠-٩٩ص، املرجع السابق -٤ .٢٤ص، دون تاريخ، دار اجليل، بريوت، ترمجة حممد بدران، ١٣اجلزء ، قصة احلضارة، ول ديورانت -٥

Page 55: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٥

، بينما كان بعض معاصري النيب(: الذي يقول" كارل بروكلمان"ونرى الرأي ذاته أيضا، وعلى حنو أكثر سفورا لدى ث عامة، كان حممد يأخذ بأسباب التحن ة، يكتفون بوحدانيةكأمية بن أيب الصلت شاعر الطائف، وهي بلدة حبذاء مك

والتنسك، ويسترسل يف تأمعقيدة ق عنده أنلقد حتق. ة، ليايل بطوهلا يف غار حراء، قرب مكالته حول خالصة الوحي الروحية فاسدة فارغة، فكان يضجيف أعماق نفسه هذا السؤال مواطنيه الوثني :هم اهللا يف ضالهلم، ما داإىل مىت ميدقد وجل م هو عز

إىل أداء هذه الرسالة، رسالة ى، آخر األمر، للشعوب األخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت يف نفسه الفكرة أنه مدعوجتلالنبوة، ولكن حياءه الفطري حال بينه وبني إعالن نبوبعد أن خضع إلحدى اخلربات إالد شكوكه ته فترة غري قصرية، ومل تتبد

اهللا ه حممد يف ما بعد، فأوحى إليه أنلك جربيل، على ما متثى له هناك يوما، هو امللطائفا جتل ذلك بأن. يف غار حراء اخلارقةرت احلاالت ر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكرسة، وحتروآمنت زوجه يف احلال برسالته املقد. قد اختاره هلداية األمة. أنه قد مسعه، كوحي من عند اهللا ومل تكد هذه احلاالت تنقضي حتى أعلن ما ظن. اإلهلي وتكاثرت اليت ناداه فيها الصوت

ولكن ل األمر، اهتماما كبريا بني مواطنيه ومل يلهب أحاسيسهم ومشاعرهمذلك مل يثر، أو .دين أن يظهر يف فقد كانوا متعوق باخلالفات واملشكالت الغامضة املعروضة يع أن يعزو أحكامه فيما يتعليستط" كاهن"كل قبيلة تقريبا، كما يظهر الشاعر،

فيما ، وأن يذيعها يف الناس نثرا مسجوعا، كما فعل النيبإىل صاحب له غييب -من قتل وسرقة، أو شرود إبل وضياعها-عليه د أن حيتاط مرل عليه من وحي، ومن هنا كان على حممزنة، من أن يضعة بعد مرهؤالء الكه ان ه مواطنوه يف مصف

ال جيوز أن نطلق احلكم على دين حممد على أساس القرآن وحده طبعا، وليست (أنه " بروكلمان"كما يرى . ١)ومرتبتهمأقوى جوانبه على اإلب، إذ مل تكن الدقاملسألة مسألة نظام مرت من إبداعه . طالقة والتماسك الفكري ومل يكن عامله الفكري

صغري إال اخلاص د تكييفا بارعا وفقا حلاجات شعبه . إىل حدفه حممة، فكية والنصرانيفقد انبثق يف الدرجة األوىل عن اليهودييبذل جهده " مانلبروك" وبناء عليه فإن .٢»واحلساسية اخللقية وبذلك ارتفع م إىل مستوى أعلى من اإلميان الفطري. الدينية

إنما (: يقول اآلخرففي اإلميان باليوم . كل ما أتى به حممد عليه الصالة والسالم إىل استمداده من األديان السالفةيف أن يعزو .٣)تصل بصورة غري مباشرة مبصادر فارسية وبابلية قدميةخر إىل مصادر يهودية، وهكذا تق باليوم اآلترجع معتقداته يف ما يتعل

ه ويف القصص القرآين يرى أن)يف أن ليس من شك معرفته مبادة إىل أبعد احلدود، وحافلة ة الكتاب املقدس كانت سطحي، ولكنه مدين بذلك دينا خطاء لألساطري اليهودية اليت حيفل ا القصص التلموديخطاء، وقد يكون مدينا ببعض هذه األباأل

سكندر، وغريها من فولة ، وحبديث أهل الكهف السبعة، وحديث اإلمني املسيحيني الذين عرفوه بإجنيل الطأكرب، للمعللسنا نعرف حتى (: ى هلا عن مصدر إذ يقولوحتى فريضة الصوم يتحر. ٤)املوضوعات اليت تتواتر يف كتب العصر الوسيط

روهم إىل بالد العرب نفذ مبش ني الذينن ما إذا كان حممد قد اقتبس هذه الفريضة عن إحدى الفرق الغنوستية أم عن املانياآل .٥)انيني يف العراق، الذين كانوا يصومون كذلك شهر آذار، متجيدا للقمرفقد كان ال يعرف شيئا، أو يكاد، عن احلر. أيضا

.٣٧-٣٦ص، ١٩٩٣، وتبري ،دار العلم للماليني، نقله إىل العربية نبيه أمني فارس ومنري البعلبكي، خ الشعوب اإلسالميةتاري، كارل بروكلمان -١ .٦٩ص، املرجع السابق -٢ .٧١ص، املرجع السابق -٣ .٣٩ص، املرجع السابق -٤ .٤٨ص، املرجع السابق -٥

Page 56: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٦

ففي أحد كتبه يتكلم على أوضاع عرب احلجاز عشية ظهور الدعوة ،"المنس" قوعلى النهج ذاته يسري املستشر-رة يف عقلية حممد وثقافته وبالتايل كانت ظاهرة التأثري كانت هي املؤث ز على انتشار عدد من الديانات فيها،ويرك اإلسالمية،ة عشية ون يف مكاملسيحي(الكتاب حتت عناوين مثل تىفأ ".صورته األوىل"يف الدين اإلسالمي كما ظهر يف -كما يرى

ه هذه الفصول وللداللة على توج .)املواكب الدينية لدى عرب ما قبل اإلسالم(و )رةة عشية اهلجاليهود يف مك(و ١)اهلجرةل مجلة نقرؤها يف الكتابأورد مثال أو :)ة هي اليت مارست ،"وهلاوزن" قإذا ما أردنا أن نصدة ال اليهوديفالديانة النصراني

ات والتقاليد اليت كانت سائدة قبل اإلسالم حماوال جعلها البدايات مث يعمد إىل بعض العاد )تأثريا راجحا على بدايات اإلسالمحياول الربط بني )ي للثأر لدى عرب ما قبل اإلسالمالطابع الدين(فتحت عنوان .األوىل لبعض التشريعات واألنظمة اإلسالمية

حابيش والتنظيم األ(ه يف مواضيع أخرى مثل ويتابع النهج نفس .مفهوم الثأر يف اجلاهلية وأنظمة القصاص والديات يف اإلسالمة واحلجاز(و )ة يف قرن اهلجرةيف مك العسكرياحلدود القدمية بني سوري(. حيث حياول تلموالروماين على س التأثري احلبشي

م من صنعه ال من وحي اهللا اإلسال واليت تفيد بأن )س الديانة اإلسالميةحممد مؤس(د عبارة وكثريا ما يرد .الديانة اإلسالمية ٢.له

خالل القرن (: فقال ناقدا هلا، ،"اتو"عبر عنها املستشرق املعروف زت خالل القرن التاسع عشر،هذه النظرة اليت تعز إنر بالعودة إىل أصول األفكا وأكثر عموما،. والتارخيي ديبا بأسئلة االرتباط األني جدأصبح العلماء مهتم التاسع عشر،

اتوالسلوكي. عن النشوء واالرتقاء" داروين"كانت مرتبطة بالشهرة اليت وصلت إليها نظريات هذه املوضة بدون شك. واالعتقاد السائد أنهذا .استطعت أن تعلم فعال ما هو شيء أو أساسه، ك لو استطعت أن تضع إصبعك على مصدر أي

املنحى املدرسي كان يساء استخدامه ويولذلك قيل .على ما يكرهه الباحث ،فاخفمسته االست ساسا إلطالق حكم،خذ أت - .٣)سئ موعة من أفكار الكتاب املقدالقرآن هو اختيار سي إن -صراحة أو تلميحا

حدث من بني الديانات اإلسالم هو األ(: قرؤه يف إحدى موسوعات األديان الفرنسية احلديثةنما وأصرح من ذلك كله،من الديانة اليت ،وبتعبري أدق ،سرائيليا من الديانة القدمية للشعب اإلتارخيي ه مشتقإن .ى العاملية ذات العقيدة التوحيديةالكرباية األتطو رت حتت تأثريات خمتلفةل قبل عصرنا لف األو)واليت جتل ،)املسيحيت يف نص العهد : س إىل أعلى درجةمقد

.٤)القدمي

ة العديد عليها، فموضع ذلك يف دراسات أخرى، وقد قام ذه املهم هذه الدراسة بصدد مناقشة هذه اآلراء والردلسنا يفننا أوردنا هذه النماذج للتنبيه إىل األساس الذي بىن عليه الغربيون نظرم إىل نشوء احلضارة ولك. من الباحثني والكتاب

جديد اإلسالم مل يأت بأي مد عليه الصالة والسالم من أساسها، من الطبيعي أن يروا أنة حمفهم حني ينكرون نبو. اإلسالميةيذكر على الصعيد الروحي ة عموماواخللقية والتشريعية واالقتصادية واالجتماعيى حني . ، فضال عن اجلوانب السياسيوحت

.جرة الرسول بالذاتاملقصود باهلجرة هنا وقت ظهور اإلسالم،ال حدث ه - ١2- H.Lammens s.j –L'Arabie occidentale avant L'Hégire – Imprimerie catholique– Beyrouth, 1920. 3- watt,w.montgomery – wattis, Islam- second edition-Librairie du Liban-1990-p12. 4- Encyclopédia des religions – Histoire(1)- sous la direction ole "Fréderic le noir" et. Ysé

T.Mosquelier-Bayard Editions- Deuxieme édition, 1997– p.931.

Page 57: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٧

ه ال يعدو بعض التعديالت والتحريفات والتشكيل اجلديد ملا بعده، فإنيتكلمون عن اجلديد الذي أتى به حممد أو املسلمون من .متيز عن سائر احلضارات د هلا أو أيتفر وبذلك تفقد احلضارة اإلسالمية أي. اقتبسوه من غريهم من األمم السالفة واملعاصرة

فلقد اعتاد هؤالء منذ . يست مدعاة لالستغرابهذه النظرة من املؤرخني الغربيني إىل احلضارة اإلسالمية ونشوئها ل إنحتى فيما يتعلق بدراسة تاريخ الشعوب عصر النهضة األوربية على الفصل بني الدراسات التارخيية والدراسات الدينية،

فالعقل .لدينية للعقلر إخضاع الدراسات اد، بينما يتعذالدراسات التارخيية تعتمد البحث العقلي ار باعتبار أناملسيحية، خون الغربيون عن املسيحية ومعتقداا على وإذا تكلم املؤر .والدين نقيضان، وال ميكن اجلمع بينهما على حنو متوافق منسجم

الذي يعتمد تصوير معتقدات الناس وأوهامهم ديبسلوب األذلك يكون على سبيل ااز أو األ حنو يوحي بالتسليم ا، فإنخ الغريب هو ابن بيئته وجمتمعه، وبالتايل املؤر وال ننس أن. للقارئ قبوله أو رفضه الذي حيق ساطريهم بصيغة السرد التارخييوأوسباب سيجد نفسه متأله للعديد من افإنتمعرة لذلك اة والذاكرة التارخييوبطبيعة احلال، حني ينظر . عا عن استفزاز العقلي

املؤرخ الغريب فإن ،إىل التاريخ اإلسالميه تلقائيبوصفه وحيا نزل على ا سيطب ق قاعدته هذه عليه، فال يقيم وزنا للدين اإلسالمياملاضي واملعاصر، مع وليدة الواقع التارخيي إال، وبالتايل فاحلضارة اليت شهدها التاريخ اإلسالمي ما هي يف نظره � رسول اهللاية يف إطالق أحكامه على تاريخ جمتمع ال ينتمي إليه، وال سيما إذا كان هذا خ سيشعر باملزيد من احلررذلك املؤ فارق أن

اب املسلمني جمرى هؤالء الغربيني، يف الفصل املستغرب هو أن جيري بعض املؤرخني والكت أن إال. اتمع هو األمة اإلسالميةفيتغاضون أثناء دراستهم للحضارة اإلسالمية . ي إىل إظهارمها شيئني متناقضنيى حنو يؤدبني الدراسات التارخيية والدين، عل

تمع اإلسالمية ودوره يف تشكيل ايف تكوين احلضارة اإلسالمي عن فعل الوحي اإلهلي . فدراستهم للتاريخ اإلسالمية توحي بأنواحلضارة اإلسالميم اإلسالميم وعقيدة جانبا وراحوا يقرؤون ويكتبون مبعزل عنهاهم وضعوا إميا .ا يقوله فمم

كما أن(: "احلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري: آدم متز"مة تعريبه لكتاب مثال، يف مقد" حممد عبد اهلادي أبو ريدة"ؤ الدولة ات وجتزومقترنة مبيالد القومي حضارة عصر النهضة يف أوروبا كانت قائمة على إحياء احلضارة القدمية يف نواح كثرية

ا إىل دول صغرية، فكذلك كانت حضارة اإلسالم بوجه عامالواحدة اليت قام عليها بناء العصر الوسيط يف أورب صلة بإحياء متة كانت منتشرة يف العراق والشا أن(" أمحد أمني"ويرى . ١)مة عليهاثقافات وحضارات متقدة، م واإلالثقافة اليونانيسكندري

هذه املدارس وهذه التعاليم أصبحت حتت حكم املسلمني، وامتزج هؤالء ني، وأناملدارس انتشرت فيها على يد السرياني وأناحملكومون باحلاكمني، فكان من نتائج هذا أن تشعبت هذه التعاليم يف اململكة اإلسالمية، وتزاوجت العقول املختلفة كما

العادات الفارسية والرومانية ( كما يرى أن. ٢)املختلفة، فنتج من هذا التزاوج الثقافة العربية أو اإلسالمية جناستزاوجت األامتزجت بالعادات العربية، وقانون الفرس والقانون الروماين امتزجا باألحكام اليت أوضحها القرآن والسنة، وحكم الفرس

مجال كل ، ومنط احلكم الفارسي ومنط احلكم الروماين امتزجا بنمط احلكم العريب، وباإلوفلسفة الروم امتزجت حبكم العربوإذ كانت األمم املفتوحة أرقى من . را كبريا ذا االمتزاجرت تأثمرافق احلياة والنظم السياسية واالجتماعية والطبائع العقلية تأث

تهم وحضارم ونظمهم، وإذ كان العرب هم كان من الطبيعي أن تسود مدنيالعرب مدنية وحضارة وأقوى نظما اجتماعية

.١٢ص، ١ج، حممد عبد اهلادي أبو ريدة: تعريب، احلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري، آدم متز -١ .١٣٢ص، فجر اإلسالم -٢

Page 58: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٨

العنصر القوي الفاتح عدلوا هذه النظم مبا يتفق وعقلي١)بعة قبل الفتحتهم ، فسادت يف البالد املفتوحة النظم اليت كانت مت . اقاا، وكلها تستحق الثناء والتقدير ، وال ننكر أناحلضارة بساط نسجته أيد كثرية، كلها به ط(": شوقي أبو خليل"ويقول

رها وازدهارها على حضارات عربية وشرقية سبقتها، ولكنها واصلت ها وتطوالعربية اإلسالمية اعتمدت يف منواحلضارة اليت جرت جمرى مناذج قليلة من الدراسات إالوهذه ليست .٢)مت إىل بساط احلضارة ما طلب منها وأكثرالعطاء، وقد

.ليل احلضارة اإلسالمية ونشأاالغربيني يف حت

صلة بطبيعة ة متمن التنبيه إىل حقيقة مهم ال بد - آراء الغربيني ومن ج جهم- اآلراءقبل أن ننتقل إىل مناقشة هذه و .الدين اإلسالمي وعالقته بدراسة التاريخ

كما سبق -الدين اإلسالمي بل إن. على العقل حبث مبين عقل، وبالتايل مع أياإلسالم مل يكن يوما ليتعارض مع ال إناوبين- املستنري واعتماد احلج فاإلسالم ال . ة والربهان والدليلطلب من الناس اعتناق عقيدته بناء على العقل والبحث الفكري

ا يوجب على أتباعه أن يدرسوحسب، وإمن يتوافق مع البحث التارخييد الباحث منهم حبقائقه وا التاريخ على ضوئه، وأن يتقيوا يف ريسف ننس مكلبق نم تلخ دق� :قال تعاىل. يف التاريخ اإلسالميالقطعية حني اخلوض يف التاريخ احلضاري، والسيما

.�٣نيبذكامل ةباقع انك فيوا كرظناف ضراأل

بأن النقاش، مع إدراكه التام اس بىن صاحب هذه الرسالة حبثه، وعليه أيضا سيديل برأيه حول القضية حملعلى هذا األسالبناء على ذلك األساس لن يلقى قبوال لدى الذين ال يؤمنون باإلسالم وحيا من عند اهللا تعاىل، سواء كانوا من الغربيني أو

ل اجلدل األو أي إن. داية يف احلوار بني الفريقني جيب أن تكون من حيث بدأ اإلسالمإذ نقطة الب. فهذا أمر طبيعي. سواهمفقا على هذا ؟ وبالتايل هل اإلسالم هو دين اهللا؟ فإذا ما اتهل القرآن كالم اهللا؟ وهل حممد رسول اهللا: حول مسألة بينهما هو

.مناقشة هذه القضايا حمل تليس هذه الرسالة أن إال .حبثنا األساس أمكنهما االنتقال إىل هذا احملور، موضوع

القارئ هلذه الرسالة، يف كل األحوال، وإن مل يكن مؤمنا باإلسالم رسالة من عند اهللا، مدعو ولكن س فيها إىل أن يتلم توافق والتناغم بني إميانه بأنوهو انسجام الباحث يف سطور دراسته مع أفكاره األساسية، أي مدى ال أال. مهيةجانبا يف غاية األ

إىل إدراك التناقض لدى الذين ه مدعووباملقابل فإن. اإلسالم رسالة من وحي اهللا وبني نظرته إىل احلضارة اإلسالمية ونشأالدرجة م منهج هذا البحث باوهؤالء هم الذين خياصمه. جروا جمرى الباحثني الغربيني يف تفسري نشوء احلضارة اإلسالمية

.األوىل

.٩٤-٩٣ص، فجر اإلسالم -٣ .١٨٥ص، ١٩٩٤الطبعة األوىل ، دار الفكر املعاصر، بريوت ،احلضارة العربية اإلسالمية وموجز عن احلضارات السابقة، خليل شوقي أبو -٢ .١٣٨ اآلية، سورة آل عمران -٣

Page 59: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٥٩

النشأة الصافية للحضارة اإلسالمية :ثانيافوفق ". للحضارة اإلسالمية"رناه إعطاء الرأي يف مسألة نشوء احلضارة اإلسالمية يقودنا إىل التذكري باملدلول الذي قر إن

ة ما حقالتعريف الذي تبنة قه املسلمته هذه الدراسة، ليس املراد باحلضارة اإلسالمية وماديون عرب تارخيهم من إجنازات عمراني رنا أنولقد سبق أن قر. دارية اليت اعتمدا الدولة اإلسالمية عرب تارخيهاساليب اإلشكال واألوتقنية وعلمية، وليس املراد به األ

بأمة دون أخرى أو مبجتمع دون آخر، ا ال خيتصسم بكوا نتاجا عامليها تتوأن" املدنية"هذه املدلوالت تنضوي ضمن مصطلح .وال شأن هلا يف تشكيل منط العيش وطراز احلياة فيه

متغافلني عن اجلانب طون األكثري من الباحثني، حني يسل ويظن تمع اإلسالمية يف تاريخ اضواء على تلك اجلوانب املدنيوالتشريعي الثقايف الفكريهم ميدحون احلضارة اإلسال، أنا وأنة ويعلون شأة خدمة جليلة مية اإلسالميسدون إىل األمهم ي

ة وما شاكلهامة يف ركب العلوم والعمران واإلبإظهارها مساهة والفنية والطبيجنازات التقني .األمر يف الواقع هو خالف ولكنيف توجيه الناس إىل عمارة احلياة الدنيا وتسخري احلضارة اإلسالمية ذات فضل هذا الكالم يلفت النظر إىل أن صحيح أن. ذلك

التركيز على هذا اجلانب أن إال. طاعة اهللا ضمناملادة خلدمة اإلنسان وإىل اكتشاف أسرار الطبيعة وأخذ متاع احلياة الدنيا والتفصيل فيه ال ية حبديف احلقيقة كالما على احلضارة اإلسالمي ا عدة والفنون الذي بل هو كالم على . ذاقطار العلوم واملدني

عابرا مجيع احلضارات واألمم، لتتزو انطلق منذ فجر التاريخ البشريده د كل واحدة منها مبا حتتاجه أو يلزمها من محولته، ولتزوأساس احلضارة ق علىفكان أن جاء دور اتمع اإلسالمي حني ض وازدهر وتأل. هي بدورها مبا قامت بإجنازه وابتكاره

ة، فوجب على ذلك القطار املرور يف أراضيه ليزوقا، ومل يتابع ده مبا يلزمه وحيتاج إليه ويزخرف جوانبه ويزيده تألاإلسالميولكن، يف . د ا لوال مروره فيهاصناف اجلديدة اليت مل يكن ليتزوراضي مبزيد من احلمولة ذات األدته تلك األوقد زو إالسريه

كل األحوال سيتابع هذا القطار مسريته ليزوة على وجه د يف كل حمطد ويتزواته، ما دام التاريخ، وما دامت الشعوب حي .البسيطة

نة أو أكثر وضعها بحديثا عن ل إالية يف اتمع اإلسالمي ليس احلديث عن املظاهر املدنية والعلمية والفن وبتعبري آخر، إنضواء على هذه اجلوانب دون ط األمن يسل اإلسالمي يف البنيان املادي الذي تستهم عليه اتمعات البشرية وبالتايل، فإن اتمع

ة ألنمن شأن احلضارة اإلسالمي غريها، يسهم يف الغضه جيردها من نتاجها اخلاص ت اخلالص ومثارها املتميدزة اليت ألجلها ع .احضارة قائمة بذا

فاحلضارة هي جمموعة األفكار واملشاعر واألنظمة اليت . إذن، فاحلديث عن احلضارة اإلسالمية هو حديث عن شيء آخرتمع ومتيتصوغ اة هي جمموعة األفكار واملشاعر واألنظمة اليت من العيش، وبالتايل فإن زه بنمط خاصاحلضارة اإلسالمي

ل يف مضمون احلضارة اإلسالمية يتمث وعليه فإن. زومنط متمي منه جمتمعا ذا طراز خاصصاغت اتمع اإلسالمي وجعلت م جمموعة العقائد واإلميانيات واملفاهيم األساسية اليت تشكل النظرة إىل احلياة الدنيا وما قبلها وما بعدها، ويف املفاهيم عن القي

عمال من حالل وحرام، واملعايري السلوكية والفضيلة والرذيلة، ومقياس األ الشرالكربى يف احلياة، ويف مفاهيم السعادة واخلري واليت توجا شؤون الناس، من نظام حكم حيد رعىتمع، ويف األنظمة اليت تسس اليت د طبيعة الدولة واأله طبيعة العالقات يف ا

Page 60: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٠

موال من مشروعة وغري يبين أنواع األ من نظام اقتصاديام باحملكومني، وجهازها احلاكم وعالقة احلك لتقوم عليها وشكمشروعة ومن ملكيةة ات خاصة ومصارفها وعامة إمنائه ووجوه إنفاقه وموارد الدولة املالية احلصول على املال وكيفيوكيفي... م شؤون األم عالقة الرجل باملرأة من زواج وطالق وينظينظ ومن نظام اجتماعية ونفقة ووالية وإرث وغريها، سرة من بنو

ة حتدة، ومن أنظمة للمحاكمات والعقوبات، ومن سياسة خارجية وتعليميبسائر ومن سياسة تربوي تمع اإلسالميد عالقة ا ...اتمعات

وهذه هي مثرة . والذي ميعن النظر يف هذه اجلوانب اليت صاغت اتمع اإلسالمي، جيد أنها يف األصل نتاج إسالمي خالص .هذا الفصل

ل فاإلسالم مبا قام عليه من عقيدة وأتى به من تشريعات وجنم عنه من أهداف عليا وقيم ومفاهيم عن احلياة، هو الذي شكللمجتمع اإلسالمي النمط احلضاري .ة فهذه املضامني اليت عددناها للحضارة اإلسالمي-واليت تشكل حبد ا مقوتمذاع مات ا

اإلسالمي- ةترجع مجيعها إىل مصدرين أساسية هنا كل ما صدر عن الرسول . ني، مها القرآن والسنمن قول أو �ونعين بالسن، هو الذي مأل �١ءييانا لكل شبت تابالك كيلا عنلزنو�ه اليت عبرت عنه اآلية الكرمية فاإلسالم بشموليت. فعل أو تقرير

د دين روحي يقدم جمموعة من الشعائر اإلسالم ليس جمر فاجلميع يعرف أن. البنيان احلضاري للمجتمع اإلسالميجوانب ة واألخالقية والطقوس وبعض التوجيهات العامة، هي بل إن. اتالكهنوتيا عقيدة روحية، فضال عن كوالعقيدة اإلسالمي

ا نظام كامل للحياة واتمع والدولة، وانبىن عليها بنيان ثقايف كامل حيوي مفاهيم عن مجيع نهمعقيدة سياسية، مبعىن أنه انبثق .جوانب احلياة

املؤثرات والعوامل حتري أو عن ه ال يعود هناك مكان للكالم عن املصادر التارخيية للحضارة اإلسالمية،فإن وعليه،ة اليت أدة توالتالقحات والتمازجات احلضاريفلئن قامت كل احلضارات ونشأت رويدا رويدا (. إىل نشوء احلضارة اإلسالمي

من تراث املاضي مبا حوى من ضروب الرأي وتيارات الفكر،واستغرقت يف تبلورها إىل شكلها اخلاص ا احملدد آمادا وكياوقد مجعت هذه . ون سابق عهد أو انتظارطويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة اإلسالم وحدها بانبجاسها إىل احلياة د

ا، كل املقوة حلضارة مكتملة شاملةاحلضارة، من فجر نشأمات األساسي .ة إىل فقامت يف جمتمع واضح املعامل، له نظرته اخلاصاحلياة، وله نظامه التشريعي جه احملد تمعالكامل ولهومل يكن قيامها مثرة . د للعالقات بني األفراد، بعضهم ببعض داخل هذا ا

وهو ترتيل القرآن هذه احلضارة كانت وليدة حدث تارخيي ولكن. تقاليد زخر ا املاضي، وال وليد تيارات فكرية متوارثةجاء الدين اجلديد الذي خذوه قاعدة حيام، أنقوا بالقرآن فاتبعوا حممدا وصدفلقد أدرك الذين آمنوا باإلسالم وات ...الكرمي

فكان . فوه من مناهج السري فيهاا توارثوه من عقائد يف احلياة وما ألب منهم هجرة بائنة إىل ما جاءهم به عمبه القرآن، يتطلوقد جاء نظاما -اإلسالم هم أدركوا أنة حدث جديد يف حياة البشر وتارخيهم، إذ إنيبدا -وهم أهل بادية- قبوهلم ملا جاء به

نوا فتبي .ا اإلرهاصا حضارة جديدة، وما كان دوره ليقتصر على التمهيد لغريه من احلضارات أو د افتتح حقق -شامال للحياة

.٨٩ اآلية، سورة النحل -١

Page 61: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦١

-مبعث رسول اهللا كان إيذانا ببدء عهد جديد بكل ما ينطوي عليه هذا البدء من أن -ن من جاء بعدهم من املؤمننيكما تبي .١)حقائق ومعان

كالكرم وحسن قد ينربي بعض الناس للتحد ث عن األخالق والفضائل اليت استبقى عليها اإلسالم من العهد اجلاهليرت حبضارة اجلاهلية أو احلضارة اإلسالمية قد تأث ل على أنوالشجاعة والنجدة وما شاكل ذلك، ليدل والشهامةالضيافة

ه كما هي بسيطة هذه الفكرة، فكذلك اجلواب . ت منهااستمدعليها يف غاية البساطةوالواقع أن .ها اإلسالم فالفضائل اليت أقرونات ها باعتبارها جزءا من مكقاإلسالم مل يستب واستبقى عليها إنما هي بالدرجة األوىل فضائل وأخالق إسالمية، مبعىن أن

ولو . فها موجودة لشرعها ابتداءاتمع اجلاهلي، بل شرعها من جديد باعتبارها جزءا من اإلسالم، حبيث أنه لو مل يصادرنا أنتصو عث يف أياإلسالم ب ما صادف فضائل وقيما أخرى تتوافق مع ما أتى به من أوامر ونواهجمتمع آخر فلرب .ه لذلك ينب

ل اهلية قد تسلهذا القدر الذي استبقي من حياة اجل ز من أن ينصرف بنا الفكر إىل أنجيب علينا أن نتحر(إىل أنه " حممد أسد"بقاء كان إذعانا من الرسول الكرمي ملا ساد بالده هذا اإل إىل جوهر عقائد اإلسالم وغلب على عقل بين اإلسالم، أو أن

وعصره، من تقاليد ومعتقدات، كما يد٢)دون يف أكثر ما يكتبونعي أهل الغرب ويرد.

ني عن عناصر مشتركوكذلك ما يتحداإلسالم ة بني اإلسالم وأديان أهل الكتاب للتدليل على أنث عنه كثري من الغربيم، استمدرساالت األ يندفع بتأكيد اإلسالم أن من ثقافتهم والهوها إىل مصدر واحد،نبياء مجيعها مرد فما .هو الوحي اإلهلي

ا ما أتوا به من وأم .إنما هو شيء واحد ،خرمن اعتقادات حول اإلميان باهللا ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآل األنبياءأتى به مصداق قوله فمن الطبيعي أن يكون هناك تشابه كبري فيما بينه، وإن اختلفوا يف بعض التفاصيل، توجيهات خلقية وتشريعية،

.�٣اجاهنمو ةعرم شكنا منلعلكل ج� :تعاىل

فق فيه مع ما ذهبت إليه اليهودية واملسيحية من فكر جتماع وكل ما اتفكل ما شارك فيه اإلسالم اجلاهلية من نظم اال(وآراء، جزء ال يتجزأ من اإلسالم، من يوم أن دويف بالد اجلزيرة ى به صوت النيب ٤)العريب.

لسالم من وحي عليه الصالة وا احلضارة اإلسالمية هي نتاج إسالمي خالص، أنتجها ما نزل على النيب خالصة الكالم، أنالفرعية، ومنهما استنبطوا فمنهما استقى املسلمون عقائدهم ومفاهيمهم األساسية و. القرآن والسنة: نيل يف مصدرين أساسيمتث

.م وتفاعلهم مع احلياةذان صاغا مشاعر املسلمني وانفعاالتشريعام وأنظمة حيام، ومها الل

، ولكنها األغلبتعبري، رغم أنها ليست من قناعام على م عن هذه احلقيقة أدقلقد عبر بعض من املستشرقني أنفسهم اإلسالم، الدين الوحي، يف نظ(": دومينيك وجانني سورديل"فمن ذلك ما يقوله .قناعة أهل احلضارة اإلسالمية قلعلى األ

ة مفهومه األوة واألخالقيةل، مجيع نشاطات اإلنسان، يف حياته الروحية والسياسيب اإلسالم مل يتطل.كما يف حياته االجتماعي

.٢٠-١٩ص، اإلسالم والتحدي احلضاري، حممد أسد وآخرون -١ .٢١ص، املرجع السابق -٢ .٤٨اآلية ، ة املائدةسور -٣ .٢١ص، املرجع السابق -٤

Page 62: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٢

على هذا الوحي . ألمة املؤمنني م يف التنظيم الزمينقناعة ببعض احلقائق فحسب، بل فرض جمموعة من الفرائض اليت تتحك ١.)وحضارته مرباطورياستندت حياة املسلم، ومن حوله انتظم منذ حقبة قدمية العامل اإلسالمي اإل

هكذا نرى اإلسالم يسيطر على جممل حياة اإلنسان، سواء يف ذلك حياته الروحية واألخالقية، أو(": رميون بلوخ"ويقول ة اإلسالم .نشاطه االجتماعي والسياسي٢.)كل شيء يستند إىل الوحي، وهو الرباط الوثيق الذي جيمع أم

ي أبرزه هذا الفصل، يقود إىل جمموعة من املنازعات أو االختالفات الرتاع يف تفسري نشوء احلضارة اإلسالمية الذ إن :التابعة له، مثل

ما هو عصر اكتمال احلضارة اإلسالمية؟ •

هل هي عربية أم إسالمية؟: ما هي هوية هذه احلضارة •

وما هي مظاهر تراجعها؟ ما هي مظاهر ازدهار هذه احلضارة، •

؟أم سليب اتمع اإلسالمي؟ هل هو إجيايبما هو أثر املؤثرات احلضارية على •

.على تلك التساؤالت باإلجابةلذلك نشرع فورا

؟مىت اكتملت احلضارة اإلسالمية :اثالثل حكمه باكتمال احلضارة عد احلضارة اإلسالمية مزيج حضارات وثقافات وأديان أن يؤجن يع مممن الطبيعي أن نتوق

خري إىل التاريخ الذي يستكمل معه املسلمون احتكاكهم مبعظم احلضارات اليت كانت قائمة استوائها األاإلسالمية ونضوجها و" توينيب"فاتمع اإلسالمي يف نظر . نحتى يقف ذلك االحتكاك وما صاحبه من تفاعل عند حد معي قليف عصرهم، أو على األ

ني كانا يف األصل ممثال هو حصيلة اندماج جمتمعيرايناإل: زين مهاتمي يف " أندريه ميكيل"وهو الرأي نفسه الذي يراه . ٣والعريبخري يف أحد حواراته يف تعداد مصادر تلك احلضارة، ويرى أنها بلغت ذروا يف ع هذا األويتوس. ٤"اإلسالم وحضارته"كتابه

الذي العصر العباسي)سجل أوحبضاراصل ات تمع اإل ات وثقافات غريبة عنه،ل عميق للعامل العريبيراينكانت أوالها ثقافة ا ااور له، وهي ثقافة عريقة بلغتها وآداا، أغنت مبوضوعاا احلضارة اإلسالمية اجلديدة، كما نقلت إليها، كوسيط خالصة

ة، ذلك الكنـز ضافة إىل احلضارننسى، باإل أالينبغي (: ويضيف )ة حضارة اهلنداحلضارات األخرى، وخباصة واهلنديتني اليونانيونقصد احلضارة القدمية لشبه اجلزيرة الذي وصل إلينا عن طريق اإلسالم نفسه والذي تفاعل بعمق مع احلضارة اإلسالمية،

.١٠١ص، احلضارة اإلسالمية يف عصرها الذهيب - ١ .٨ص ،توطئة بقلم رميون بلوخ، املرجع السابق - ٢ .وما بعدها ٢٧ص ،١ج ،خمتصر دراسة للتاريخ: انظر -٣ .١٤٣-١٤٢ص ،دون تاريخ، ورات املكتبة العصرية، لبنانمنش، زينب عبد العزيز. د: ترمجة ،أندريه ميكيل، اإلسالم وحضارته: نظرا -٤

Page 63: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٣

ها يف العربية، وتلك احلضارات اليت انقرضت يف مصر الفرعونية ويف بالد ما بني النهرين، حيث أذاب اإلسالم بعض عناصرة العليا بوتقته، مث خلع عليها رداء اجلالل والسموى أصبحت متالئمة مع روحه وجوهره ومثله الدينيوأخريا جاءت العلوم .، حت

ة ديرة املسيحية وخباصس يف األهذه العلوم كانت تتكد ومن املعلوم أن. غريقية، وكان تأثريها عظيما يف احلضارة اإلسالميةاإلا بشكل غري مباشر عن طريق مإغريقية، وا مباشرة عن اإلوقد بعثها العرب من مرقدها عن طريق الترمجة، إم .ية منهاالنسطور

خ للدولة اإلسالمية يف القرن يعنون كتابه الذي يؤر" آدم متز"و. ١)غريقإلالسريانية، اليت قامت بدور وسيط بني العرب واعلى وجهته هذه يف تصديره للترمجة العربية للكتاب، " أمحد أمني"ويتابعه ". هضة يف اإلسالمعصر الن"الرابع اهلجري بتعبري

هو العصر الذي بلغت فيه (هذا القرن ، حيث يرى أن"احلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري"واليت صدرت حتت عنوان ة عقلية عربية هلا طبيعة خاص(: ، يقول"فجر اإلسالم"برياته، يف كتابه ويف أحد تع. ٢)احلضارة والعلوم والفنون اإلسالمية ذروا

ة خاصهي نتاج بيئتها، وعيشة اجتماعيأتى بتعاليم جديدة ورسم للحياة مثال أعلى ة يعيشها العرب يف جاهلي تهم، دين إسالميمد ة، وفتح إسالمية سلطان خيالف املثل الذي كانت ترمسه تقاليد اجلاهليه على فارس وما حوهلا وعلى مستعمرات روماني

كثرية، فأذاب ما كان للفرس من دين ومدنية وعلم، وما كان للمستعمرات الرومانية من دين ومدنية وعلم، يف اململكة .٣)اإلسالمية مجيعها، وكون منها مزجيا واحدا خمتلف العناصر

ة نتاج إ ا من يرى أنوأمخالص، وأناحلضارة اإلسالمي هذه احلضارة هي طراز العيش الذي رمسه القرآن الكرمي سالمية الشريفة، فمن احملتوالسناية عهد النبو ة معة، وهو العهد الذي دام ثالثة وعشرين م عليه أن حيكم باكتمال احلضارة اإلسالمي

امه اآلية الكرميةعاما، ونزلت يف أواخر أي :�اليوكأ ملمكل تم دكينم أوتممت لعم نكيعمتي ورضيكل تاإل مالسم �٤يناد .ويف أواخر أيقد (: متامها واكتماهلا بقوله �ة الوداع بالتحديد يعلن حامل الرسالة ام هذا العهد أيضا ويف حج

٥)هالك إالة البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها تركتكم على احملج.

ا متكامال لقد بدأت حضارة اإلسالم إذن، رغم كل هذه العوامل والظروف واملؤثرات، كائنا حي(": حممد أسد"يقول ة اليت قضاها متمايزا، انبثق جنمها فكان ظهورها يف توقيت تارخيي حمدود امتدزهاء ثالثة وعشرين عاما، هي احلقبة التارخيي

.٦)علىر هذه احلياة من يوم بعثته حتى لقي الرفيق األعلى ظه � رسول اهللا

-١٦٩ص ،١٩٩٣مركز احلريري الثقـايف ،ترمجة منري إمساعيل وهاشم صاحل، أندريه ميكيل ودومنيك شفالييه وعز الدين فلوز ،العرب، اإلسالم وأوربا -١١٧٠.

٢- ة يف القرن الرابع اهلجرية بقلم أمحد أمنيتصدير الترمجة ا ،احلضارة اإلسالمي٧ص ،لعربي. .١٣٩ص ،فجر اإلسالم -٣ .٣اآلية ،سورة املائدة -٤ .١٧١٤٢رقم احلديث ،٨٢ص، ٦ج، م١٩٩٤الطبعة الثانية ، دار الفكر، بريوت، حتقيق صدقي حممد مجيل العطار، بلناملسند لإلمام أمحد بن ح -٥٦- ٢٤ص ،اإلسالم والتحدي احلضاري.

Page 64: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٤

حضارة عربية أم إسالمية؟ :رابعايف تصنيف هذه احلضارة وتسميتهاومم ة، اختالففتفاوتت هذه . ا ينشأ عن االختالف يف تفسري نشأة احلضارة اإلسالمي

كثريا ما (": مصطفى الشكعة"يقول ". ضارة العربية اإلسالميةاحل"و" احلضارة العربية"و" احلضارة اإلسالمية: "التسميات بنياحلضارة اإلسالمية واحلضارة : ويقف الدارسون أمام تسميتني. حضارتنا: جتري حماورات فكرية حول تسمية هذه احلضارة

فني حدث ذلك بني املؤل. اأو إسالمي ف يف هذه احلضارة أن خيتار هلا نسبا عربياوتبعا لذلك أصبح حتما على كل مؤل. العربيةةممية، كما حدث أيضا بني من كتب فيها بلغات أورببآدم متز وجوستاف فون جرون إن. ن كتبوا باللغة العربيا ام يسميا

ة، بينما جوستاف لوبون يصرة، وجيعل عنوان كتابه املشهور احلضارة اإلسالميالعربحضارة "على تسميتها حضارة عربي " .١)احلضارة العربية: وكذلك فعل جاك ريسلر حني أمسى كتابه يف نفس املوضوع

فأمة، فإنة البحتة اليت هم حيرصون على هذا اإلا الذين يطلقون عليها اسم احلضارة العربيم التارخييطالق انطالقا من نظرما هو بنظرهم أحدال تعترف باإلسالم وحيا من عند اهللا، وإن تمع العريبإفرازات ا .ال يرون ما شهده قلهم على األأو إن

من طريقة يف العيش نتاجا إسالمي تمع اإلسالمياةما اجلانب األا خالصا، وإنبرز فيه هو املزايا واملواصفات العربي.

ة "ي يطلق عبارة ا الفريق الذوأمةاحلضارة العربية هذه . سابقه كثريا ، فهو ال خيتلف عن"اإلسالميفاألساس عنده يف هوي :"ي احلضارة العربيةعصر"فقط، أي للتمييز بني ، باعتبار مدلوهلا التارخيي"اإلسالمية"أنه يزيد عبارة إال. احلضارة هو العروبة

.اجلاهلي الذي سبق ظهور اإلسالم، واإلسالمي الذي يبدأ بعد ظهور اإلسالم

هذه احلضارة موضوع البحث مل يقتصر جمتمعها وهي أنأال واجههما مشكلة يف تصنيفهما هذا، ني معا تالفريق أن إالعلى العرب وحدهم، وإنات عديدةما صهرت يف بوتقتها شعوبا وقومي .ل كثري من الباحثني اختيار اسم وعلى هذا األساس فض

مسة رافقت ظهور تلك ما اعتبارا منهم ألهمإىل اإلسالم بوصفه دينا، وإن هم ينسبون هذه احلضارة، ال ألن"احلضارة اإلسالمية"احلضارة، أو اعتبارا ألحد أهم ا، العوامل احملرهذا : وبتعبري آخر. وهو ظهور اإلسالم أالكة لنشاط تلك احلضارة منذ نشأ

حبت التصنيف يف نظرهم هو تصنيف تارخيي.

ا الفريق الذي يؤمن بأنوأم فعليه، بناء على إميانه هذا، أن يصن ،ة هي نتاج خالص للدين اإلسالميفها احلضارة اإلسالمية، ال بناء على االعتبار التارخيي وحسب، وإنباحلضارة اإلسالميما بالدرجة األوىل بناء على االعتبار الفكري :العقدي

والثقايف والتشريعي.

هو الذي صاغ بعقيدته وشريعته ، ل من عند اهللابوصفه الوحي املرت، ألن اإلسالم ،"حضارة اإلسالم"فهذه احلضارة هي ومل - وهذا اتمع الذي تمثل أمة منتشرة يف بقاع األرض . وبالتايل هو الذي صاغ اتمع اإلسالمي، منط عيش املسلمني

.مية على أرض الواقع ويف معترك التاريخهو الذي جسد احلضارة اإلسال - يكن العرب إال جزءا صغريا منها

.١٣ص ،١٩٨٢طبعة رابعة ،بريوت ،دار العلم للماليني ،معامل احلضارة اإلسالمية ،كعةمصطفى الش -١

Page 65: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٥

ومظاهر تراجعها مظاهر ازدهار احلضارة اإلسالمية :خامسااحلضارة ومظاهر اخنفاضه تشكل ذهالنظرة إىل مظاهر ارتقاء اتمع الذي : هذا أيضا حمور جديد من حماور اخلالف

ا للتمازج يف تفسري نشوء احلضارة اإلسالمية يقيمون اعتبارا أساسي" يةالتارخي"عة رتأصحاب ال فلقد سبق ورأينا أن .وتراجعهفيجعلون كثرة التآليف . اورة واخلاضعة للدولة اإلسالميةبني العرب وغريهم من األمم والشعوب ا احلضاري والثقايف

ة، ذات األواملصنة وغريهاتفاوتة، وكثرة اإللوان املختلفة واالجتاهات العديدة واملنابع املفات الفكرية والفلسفيبداعات األدبي... والتقد ا دليال على االزدهار احلضاريتمعجيعلوم يف ذلك ا .كما أنة كربى ملدى التطوهم يعطون أمهير العلمي والتقين

فحني ينعم . مهلى مدى ارتقائه وتقدوملظاهر الترف والزخرف اليت اتسم ا اتمع، للحكم ع واملادي وللمستوى العمراينة، عندها فقط حيكمون عليه باالرتقاء والنهوض والتقدية واملظاهر املادمبستوى عال من املدني تمع اإلسالميما...

تاريخ ق إىل البحث يف ستشرقا أو غريه، تطرم اينبجأين ما رأيت كاتبا ، أنواحلق(: "حممد سعيد رمضان البوطي"يقول :سم حبثه بظاهرتنيوات إالاحلضارة اإلسالمية،

ة منها، من ا، يف استعراض منجزات احلضارة اإلسالمية، ال سيما املاديالكاتب حيصر حديثه حصرا تام الظاهرة األوىل أنق بأساس ى ذكر شيء يتعلوحياذر أن يعرج من خالل ذلك عل .، وعلوم إنسانية وكونية، وحنو ذلكعمران، وصناعة، وفنون

!...يت انفلقت عن غراسهاتلك املنجزات والروح الباعثة عليها والنواة ال

أنه ينهي مدحيه وإعجابه بتلك املنجزات احلضارية، بطرح السؤال الذي حيوك وراء صدور مجيع املسلمني : الظاهرة الثانيةه التقوقع على إن: االزدهار العجيب؟ ليجيب على هذا السؤال قائال رت هذه احلضارة اليوم بعد ذلكفلماذا حتج: اليوم، وهو

.١)...!خرالذات، وعدم االنفتاح على العامل اآل

هذه النظرة من هؤالء املؤرخني تعبر عن اجلانب الذي يستويل على اهتمامهم حني البحث يف تاريخ اتمع احلقيقة أنفالذي يسترعي انتباههم ب. اإلسالمية هو اإل شكل أساسية اليت ظهرت يف كنف الدولة اإلسالمية والفلسفينتاجات األدبي

الذي وصلت إليه واملدين كما يسترعي انتباههم املستوى املادي والعمراين. واليت أسهم ا عديد األمم والشعوب واللغات .ها بالتأكيد شيء آخر غري احلضارة اإلسالميةلك اجلوانب، فإنفقنا يف مدى أمهية تومهما اختلفنا أو ات. البالد اإلسالمية

املؤرخني بل إن. ذاا دليال على مدى ارتقاء اتمع أو احنطاطه دبية ليست حبدبداعات الفكرية واألإلفات واكثرة املؤل إنيت اكتنفت جمتمعها يف جوانبه املختلفة، بداعات، كي يقفوا من خالل مضامينها على األحوال اليعمدون إىل نصوص تلك اإل

رة عن األحوال يف إذ غالبا ما تكون مضامني تلك النصوص معب. من سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية وغري ذلك .تقدير، عن شرحية من شرائحه ذلك اتمع، أو على أقل

وعن حالة من التماسك واالرتقاء والنهوض ن الوعي الفكري والسياسيعن حالة م -تهاعلى قل- فات فقد تعبر تلك املؤلا يف عهد النبوتمع، كما كان شأر . ة واخلالفة الراشدةيف اا- وقد تعبعلى كثر- ط عن حالة من االحنطاط والضياع والتخب

.١٥٩ص ،م١٩٨٢ ،الطبعة األوىل ،دمشق ،دار الفكر ،منهج احلضارة اإلنسانية يف القرآن ،حممد سعيد رمضان البوطي - ١

Page 66: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٦

شأا يف العامل اإلسالمي يف تارخينا ، كما هوك السياسي والضعف العسكرييف التفكري وعن حالة من االحنطاط والتفك .املعاصر

وأموالعمراين ا املستوى املدين والتقينة تسهم يف إعالء صرحه، أن ، فال شكإالالنهضة احلضاري ه ليس حبدذاته دليال أنعلى الرقي يف أي حيان مؤذنا باحنطاط سيابل قد يكون بعض األ. مرحلة من املراحل احلضاريوتفك سيواندثار ك جمتمعي

وها . حضاري، كما كان شأن احلضارة الرومانية يف أواخر عهدها، وكما يتوقع الكثري من املفكرين للحضارة الغربية املعاصرةبة لقياس االرتقاء ال يعد قاعدة مناس سلوب الفيناألأو حتسني ع السياسي واحلريبا من التوسأي ه إىل أنينب" أرنولد توينيب"هو

ة . احلقيقية، سوى ارتباط قليل -"توينيب"يف رأي -وال تبدي التحسينات التكنولوجية أو صناعيأو ال -سواء أكانت زراعيا فقد يرتقي متاما األوحق. بينها وبني االرتقاء الصحيح -ةشيء البتسلوب الفين وقتما يكون التحضيف مرحلة ر الفعلي .١والعكس بالعكس .االحنطاط

لذلك ال يفرحن كثري من الغيورين على احلضارة اإلسالمية حني يكيل بعض الباحثني الغربيني املديح للحضارة اإلسالمية " حضارة العرب"م تغنى هؤالء الغيورون بكتاب كلف. وهم يشخصون بأعينهم إىل أشياء ليست من احلضارة يف شيء

ما أجنزه املسلمون من علوم طبيعية إالتلك احلضارة وفنت ا، وهو ال يعين بتلك احلضارة " هلب تسلب"لغوستاف لوبون الذي ة يف الطبة وموسيقية أو من إبداعات أدبيولكم . وغريها... والفيزياء والكيمياء أو من عمران وفنون وزخارف وإجنازات تقني

وحني يتكلم هؤالء . ، وهو أيضا على ج الذي سبقه"على الغرب مشس العرب تسطع" "زيغريد هونكه"تغنوا بكتاب فإن ،تمع اإلسالمييف ا ضواء على من عرفوا بفالسفة اإلسالم الذين طون األهم يسلالباحثون عن اجلانب الثقايف والفكري

.٢ىن تعبري عن احلضارة اإلسالميةناقلني للفلسفة اليونانية وغريها، والذين ال يعربون أد إالة قليسوا يف احلقي

م احلضاري كل ما سبق، من املظاهر اليت أوردناها، ليست مقياسا يف مسألة احلكم على مدى االزدهار والتقد اخلالصة أنتمع اإلسالميما اتمع، وال سييف ا .ما املقياس هو شيء آخروإن.

سالم بعقائده ضي أنه إذا كان اتمع اإلسالمي قد ارتقى حبضارة أنتجها اإلقاعدة السببية اليت حتكم احلياة، تقت إنه بقدر ما يبتعد فكريا وإن. تماهذه املقوعيشه وفق صياغة مكحهذا اتمع سيدوم راقيا ما أ ، فإنوتشريعاته وأفكاره

البياين امللتزم ذه السببية الفكرية والتارخيية سيتابع اخلطخ واملؤر. كف وينخفض ويتفكعني الصايف يتخلوسلوكيا عن هذا املاالرتقاء يترافق مع قدر متناسب من االنسجام فيكتشف أن. حلركة االرتقاء واالخنفاض يف التاريخ اإلسالمي على هذا األساس

حممود "خ مثل صدر مؤرى هذا األساس يوعل. له بةاالخنفاض يترافق مع قدر متناسب من جمافاته واان مع اإلسالم، وأنوخلفائه الراشدين رضوان اهللا � أسس احلضارة وأصوهلا قد بلغت أوجها يف عهد رسول اهللا إن(: حكمه فيقول" شاكر

مت احلضارة منذ وضوح مظاهرها إذ الترف قد أعطى آثارا ترفيهية، فتهد أن إال. عليهم، وبدأت آثارها تظهر بعد الفتوحات .٣)الت أسسهاز

.٣٣٠حتى ص ٣٢٢من ص ،١ج ،خمتصر دراسة للتاريخ: انظر -١ .وضوع الفالسفة اإلسالميني حمل حبث يف فصل الحقسوف يكون م -٢ .٤٠ص ،٥ج ،م١٩٩١/ هـ١٤١١الطبعة اخلامسة ،املكتب اإلسالمي، بريوت ،التاريخ اإلسالمي ،حممود شاكر -٣

Page 67: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٧

على اتمع اإلسالمي؟ ما هو أثر املؤثرات والدواخل احلضارية :سادساالنظرة إىل الدواخل احلضارية والفكرية : وهو أال. كل ما سبق من البحث يقودنا إىل حمور جديد من حماور اخلالف إن

تمع اإلسالميعلى ا :ة اليت ترتقيهل هي من العوامل الصحبه، أم هي من عوامل املرض؟ ي!

لقد اعتاد املؤرون على التغنة املؤلخون الغربية اليت أتت من كل ي باللوحة الفسيفسائية والثقافيفة من العناصر احلضاريوع لوان أتقن العرب سبكها ومزجها والتوفيق بينها، فكانت من أرجانب من جوانب احلضارات لتشكل معا لوحة رائعة األ

أمة موهوبة (العرب كانوا الذي يرى أن" لوثروب ستودارد"مريكي على ذلك تعبري األ ولنعط مثاال. اللوحات أناقة يف التاريخاقة إىل ارتشاف العلوم، حمسنة يف اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم اليت قد انتهت إليها احلضارات جليلة األخالق والسجايا، تو

شاع بني الغالبني واملغلوبني التزاوج ووحدة املعتقد، كان اختالط بعضهم ببعض سريعا، ومن هذا االختالط وإذ . السالفةة، وهي مجاع متجدنشأت حضارة جديدة، احلضارة العربيذلك اجلماع الذي نفخ فيه . د التهذيب اليوناين والروماين والفارسي

حد ومتاسك بعضه ببعض ني عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح اإلسالمية فاتالعرب روحا جديدة، فنضر وأزهر، وألفوا ب١)ا كبريافأشرق وعال علو.

فاملؤرون ومن جرى جمراهم ملخون الغربية ا أسها مزيج من العناصر احلضارية على أنم إىل احلضارة اإلسالميسوا نظرواحملت العديدة، كان من الطبيعيها تتلقم أن يزدادوا تغنذه احلضارة كلما بدا أن ف العناصر اجلديدة من شرق وغرب ومن يا

أهو : وال يلتفتون يف هذا السياق إىل ما حتدثه هذه العناصر من تأثري يف اتمع. قا وزهواولتزداد حسب رأيهم تأل. هنا وهناكتأثري إجيايب عيشه أم متناقضة؟ هل سامهت يف بلورة هذه احلضارة أم عملت على تعكري؟ هل هي منسجمة مع طبيعة أم سليب

الغاية من التاريخ هي أن يرسم هلؤالء املؤرخني وكأن ...!شت تفكريه؟قا أم شو؟ هل زادت عقلية اتمع حيوية وتألصفوهاة عمالقة أو مسرحية أو فسيفسائيلوحات زيتية طويلة، ليمتا أنظارهم، بعد أن فصلت بي عواات ملحمي نها وبينهم مسافة من

ط ا ما جيري به التاريخ من ارتقاء ووض واستقرار وأمن وطمأنينة، أو من احنطاط واخنفاض ونكبات وختبوأم. مئات السننيرهم ون أمام أنظار به هؤالء، وال سيما حني تكواضطراب وويالت على اتمعات والبشر الذين عايشوه، فهذا آخر ما يفك

.اللوحة امللحمية اإلسالمية

جيب أن ينأى بنفسه ويعد نفسه من محلة لوائها والعاملني على إحيائها، خ الذي ينتمي إىل احلضارة اإلسالمية،املؤر إنصفها طريقة العيش اليت رمسها بو-احلضارة اإلسالمية فهو يرى أن .ية املتعالية واخلالية من حس املسؤوليةنناعن هذه النظرة األ

ال تقبل االمتزاج والتزاوج بينها وبني سائر احلضارات، إذ لكل من هذه احلضارات وجهتها يف احلياة وطريقتها يف -اإلسالمة حضارة مكتمومل. ة وأهدافها الكربى ومثلها العلياالعيش ومفاهيمها عن األشياء وقيمها اخلاصلة ا كانت احلضارة اإلسالمي

ة،كانت غنية ة مواقف احلياة واستحقاقاا منذ أن اكتمل الدين اإلسالمي يف عهد النبولكاف ركان شاملة اجلوانب مستجيبةاألفتك ذا اتمع إن عاجال أو يس ،اغريب عنصراا من املؤثرات احلضارية حني يدخل إىل جمتمعها يكون أي بل إن .عن غريها

عندما (: "برنارد لويس"يقول . الكالم ألحد كبار املستشرقني الغربيني ليعبر عن هذا املعىن بتعابري خمتصرةع ولند .آجال

١- ٣،٤ص ،١م ،حاضر العامل اإلسالمي.

Page 68: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٨

ثون بطالقة وسهولة عن تزاوج بني رون فيتحدون واملفكقد ينربي املثالي. م األخرىتصطدم حضارتان تسيطر إحدامها وتتحط .١)نيتة العادية يف هذا التالقي هي تعايش بني أسوأ العناصر من االثنالنتيج أن إالأحسن العناصر من احلضارتني،

بل واجبها أن . ا احلضارة اإلسالمية جيب أن تنكفئ على نفسها فال تواجه سائر احلضارات وال حتتك هذا ال يعين أن نكلو ضراأل تدسفل ضعبب مضهعاس بالن اهللا عفد الولو� احلضاري، لتقوم بدورها املرسوم هلا،ترتل إىل ميدان الصراع

هذه بالتأكيد . ر، أن تقتحم ال أن يقتحم عليهار ال أن تتأثة املوكلة ا هي أن تؤثاملهم أن إال .�٢نيمالى العلع لضو فذ اهللا .لوا هذا التفكريا أن يتقبوجهة النظر الذاتية للحضارة اإلسالمية، وال ميكن لغري أتباعه

شكال رفض احلضارة اإلسالمية لألشكال والوسائل واملظاهر ما سلف من كالم ال يعين بشكل من األ ونعود لنذكر أنهلا املادية واملدنية اليت تنساب بني خمتلف احلضارات واتمعات البشرية واليت ال شأن هلا باهلوية احلضارية للمجتمع، وال شأن

جنازات املادية والوسائل العملية املستخدمة، وكل ما كان من فكل ما كان من العلوم الطبيعية واإل .بوجهة النظر يف احلياةهو تلك الدواخل ما املعينوإن. ا ذه القاعدةليس معني ...داب اخلالية من املضامني املتعارضة مع احلضارة اإلسالميةالفنون واآل

.ثرات الفكرية اليت جنمت عن حضارات ذات وجهة خمالفة للحضارة اإلسالمية، واليت هي غنية عنهاواملؤ

بقي خاليا من -والكيان التارخيي للحضارة اإلسالمية وهو النموذج احلي- اتمع اإلسالمي هذه الدراسة ال تدعي أن إنه إىل قاعدة ه وتنبأنها تتنب إال. ل هذه العناصر هي ما ستتقصاه الفصول املقبلة منهاب. تلك املؤثرات والعناصر احلضارية الدخيلة

لت إىل اتمع اإلسالمي، د أنها تسلوهي أنه ال جيوز أن تنسب هذه العناصر واملؤثرات إىل احلضارة اإلسالمية ر: أساسيةفاتمع اإلسالمي هو كائن . شكال عوامل ازدهار وارتقاء يف اتمع اإلسالميعد بشكل من األهذه العناصر ال ميكن أن ت وأنحية يف عروقه وتغذي أعضاءه بأسباب احلياة، ويستمدتسري احلضارة اإلسالمي ، هذا أن إال. ة والعافيةمنها أسباب الصح

ة األخرى، فمن ا الكائن احليأن يتأثيعيش يف بيئة مليئة بالكائنات العضوي ا وأن تتسللطبيعي ل إىل أعضائه كلما غفل عن رإال. جل القريب أو البعيدألاات من عوامل ضعفه وانتكاسه يف احلال أو رعاية نفسه وإتقان اغتذائه، فتكون بعض هذه العضوي

حممد "وعلى حد تعبري . سالميةأنها يف كل األحوال شيء آخر غري روح ذلك الكيان ودمه، أي هي شيء آخر غري احلضارة اإله ر بنية الطفل وخصائص تكوينه يف أساسه وجوهره من يوم لفظته أحشاء أمفكما ال تستطيع كل مؤثرات البيئة أن تغي(": أسد

ر من خصإىل هذه احلياة الدنيا، فكذلك ال تستطيع املؤثرات الطارئة املتأخائصها األوىل رة اليت اعترت حضارة اإلسالم أن تغيأي فكان جلتغيري أساسي ، ٣)مات أو تعطيلها إىل حنيما أصابته هذه املؤثرات هو تغطية هذه اخلصائص واملقو.

اية هذا الفصل نلفت النظر إىل ناحية مهم وهي أن .ةويف ة اليت االنسياق مع النظرة اليت تالعناصر واملؤثرات احلضاري عد وهي حتمية تبدل هذه احلضارة، أال ي إىل نتيجة خطرية جدا،يؤد نات احلضارة اإلسالمية،من مكو إلسالمي،دخلت اتمع ا

ى يومنا هذا .اندثارها وبتعبري أصحعرب مئات السنني حت تمع اإلسالميالزمان با ه كلما امتدالدواخل كانت ،ذلك أنحتى وصل األمر إىل أن غزت األفكار الوافدة من احلضارات اتمع ر فأكثر يوما بعد يوم،واملؤثرات احلضارية تتغلغل فيه أكث

.٦٠ص ،وسطالغرب والشرق األ -١ .٢٥١اآلية ،سورة البقرة -٢ .٢٣ص ،حدي احلضارياإلسالم والت -٣

Page 69: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٦٩

لته يف التاريخ املعاصر عن كونه جمتمعا إسالميحو لدرجة م على إلصاق كل هذه املؤثرات . ااإلسالميفهل يواصل هؤالء دأة، فيتجرة؟حاضر ا على القول إنوؤباحلضارة اإلسالمير عن احلضارة اإلسالمية يعبة اإلسالمية أو إن! األماحلضارة اإلسالمي

ة يف العصر احلاضر؟قد وصلت إىل هذا الشكل الذي تتة اإلسالميفقد وصل هؤالء إىل باإلجيابإن كان اجلواب ! سم به األم ،وإن كان اجلواب بالنفي، !! افظة على امسها فقطوهو تبديل احلضارة اإلسالمية، أي القضاء عليها مع احمل أالهدف واضح،

قاعدة : فهذا يعين أنه وجب عليهم أن يعيدوا النظر يف قاعدم اليت جروا عليها يف دراسة التاريخ احلضاري اإلسالمي، أعين !!يش هذه احلضارة من رقع التاريختقم

Page 70: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٠

:الفصل الثالثتمع اإلسالميوالثق ا ايفواالحتكاك احلضاري

ملاذا االحتكاك احلضاري والثقايف؟ :توطئة

االحتكاك الثقايف مصطلح يشري إىل جمموعة من العالقات بني أفراد اتمع الواحد، وبني اجلماعات اإلنسانية املختلفة (يترتب عليها حدوث تغيخذ أشكاالر ثقايف يت متعددة، بعضها مادشكال بعادات تبط هذه األوغالبا ما تر. ي وبعضها معنوي

ة من جمتمع آخر دون احتكاك ثقايف، وما اجلماعة وتقاليدها ومثلها العليا، ومن الصعب على أيجمتمع استعارة عناصر ثقافييترتة تؤدإي ب عليه من تفاعالت ثقافية حمد١)دةىل ظهور مسات ثقافي.

شرع اجلهاد والفتوح والسياسة حني اليت أراد اإلسالم حتقيقها،هداف األ االحتكاك احلضاري والفكري هو من أهم إنى لع لضو فذ اهللا نكلو ضراأل تدسفل ضعبب مهضعب اسالن اهللا عفال دولو�: قال تعاىل .اخلارجية للدولة اإلسالمية

الالعك�ف األكرب للمسلمني يف هذه احلياة، فحمل اإلسالم رسالة إىل العامل هو اهلد .�٢نيمنتم خية أ رأمرخجت لاسلن أتماملب ونرعروف وتنهنو امل نعركن وتؤم�٣اهللاب ونن ،�ذكولك جلعاكنم ة وأمسطا لكتونوا شهاءد لعساى الن وونكي

الرولس لعكيم �٤هيداش .وعجمي وال بني وهؤالء الناس الذين تذكرهم اآليات السالفة هم مجيع الناس، ال فرق بني عريب .�٥نيمالعلل ةمحر إال اكنلسرا أمو�أمحر وأسود،

واجلهاد . لة إىل العاملبناء على هذه اآليات وكثري غريها، وضع املسلمون نصب أعينهم منذ فجر اإلسالم محل دعوم رسا. ة السيفالدعوة إىل اإلسالم اعتمدت قو هذا ال يعين أن أن إال. يف سبيل اهللا إنما شرع ومارسه املسلمون حتقيقا هلذه الغاية

قا أمام تلك وظيفته تنحصر يف حتطيم احلواجز املادية اليت تقف عائ توطئة للقيام بأعمال الدعوة، إذ إن إالفاجلهاد مل يكن

.٢٨ص ،٣٥مادة رقم ،١٩٨٤الرياض /دار الوطن ،املعجم التربوي ،لطفي بركات أمحد -١ .٢٥١ اآلية ،سورة البقرة -٢ .١١٠اآلية ،سورة آل عمران -٣ .١٤٣اآلية ،سورة البقرة -٤ .١٠٧اآلية ، سورة األنبياء -٥

Page 71: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧١

ل كثري من املقاتلني أنفسهم إىل دعاة ما حتوة الدعوة،بل ربلمحفإذا ما زالت تلك احلواجز أخلى املقاتلون الساحة ل.الدعوة ١.اللسان واحملاجة إليصال رسالتهميعتمدون الفكر و

ة من يوال تواجه نفوسا خاو القناعات،دعوة يراد نشرها بني الناس، ال تواجه عقوال فارغة من الفكر و أي ومعلوم أنق األمر وال سيما حني يتعل دا من املقاييس والقواعد السلوكية وأنظمة العالقات،ة، وال تواجه جمتمعا جمرهواء اخلاصاملشاعر واأل

نت عملية نشر اإلسالم من هنا كا .مرباطورية الفارسية أو البيزنطيةمبجتمع عريق احلضارة والثقافة والتشريع،كمجتمع اإلتمعات حبضارته، مهموثقافته، وبالتايل صهر ايت سلكها فما هي الطريق ال. ، واستحقاقا تارخييا عظيماة من أصعب املهام

؟املسلمون إىل هذا اهلدف

عة الفكر بالفكر والرأي ق يف آيات القرآن الكرمي جيدها تدعو املسلمني ومجيع الناس إىل اجلدال واحملاججة ومقاراملدق إنة قبل قيام منذ أول عهده يف مك هذا املنهج هو املنهج القرآين. ةوتدعو ألد خصوم الدعوة إىل النقاش واملنازلة الفكري .يبالرأ

:رآن الكرميفنقرأ يف الق. بعد قيامها يف املدينة يثرب، وثابر عليه املسلمون من بعد عرب العصور املتطاولة واستمر دار اإلسالم،�ك نإونتم في ربي ما نملزنلا عى عبدأا فنوا بتسورة من ثمله وادعوا شهكاءدم من دك نإ اهللا وننتم صادونقرأ ،�٢نيق: وجيعل القرآن الكرمي التحاكم .�٤انل وهجرختف ملع نم مكدنع له لق�: ونقرأ ،�٣نيقادص متنك نإ مكانهروا باته لق�

هارالنو ليالل فالتاخو ضراألو واتمالس قلي خف نإ� :فيقول. إىل العقل يف أصل العقيدة األساس يف جمادلة الكافرينلالفوك اليت تي فرجي البب رحما يفنع الناس وا أمنهللا لز من الساءم من حيا بأف اءماأل هرض بعد موتها وثب فيها من

كل دابة وترصيف الراحي امل حابوالسسرخ بين ماءالس األوآل ضرلقوم يات يع�٥لونق.

. ية وكل املراحل اليت تلتهاومن معه من الصحابة، الصراع الفكري يف املرحلة املك � على هذا األساس خاض الرسول ة وسائر اجلزيرة العربية، فإنوثان من مشركي مكدة األبية استهدف، بالدرجة األوىل، عوإذا كان اجلدال يف املرحلة املك

ي املزيد من احلرص ر اإلسالم جبداهلم مع توخفأم. هود ونصارىاملرحلة املدنية أضافت إىل ذلك، اجلدال مع أهل الكتاب من ينا لنجد يف القرآن الكرمي عشرات من وإن. �٦نسحأ ياليت هب إال ابتالك لهوا ألادجال تو�: قال تعاىل. وحسن اخلطاب

د القرآن أنها عقيدة مجيع دة التوحيد اليت يؤكاآليات اليت حتاجج أهل الكتاب فيما ذهبوا إليه من عقائد وآراء ختالف عقيوفدوا وكانت مناسبة تلك اآليات احتكاك الدعوة اإلسالمية بيهود املدينة ومن حوهلا، مث احتكاكها بالنصارى الذين أ. نبياءاأل

.� الوفود من بعض أحناء اجلزيرة العربية إىل املدينة ملناقشة الرسول

.٢٣١ص ،١ج ،ضحى اإلسالم: انظر -١ .٢٣اآلية ،قرةسورة الب -٢ .٦٤اآلية ،سورة النحل -٣ .١٤٨اآلية ،نعامألسورة ا -٤ .١٦٤اآلية ، سورة البقرة -٥ .٤٦اآلية ،سورة العنكبوت -٦

Page 72: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٢

مية واالحتكاك احلضاريالفتوح اإلسال :أوالحني توسة، ودخلت شعوب ذات أديان وثقافات متعدر املسلمون عن سواعد دة يف دار اإلسالم، مشعت الدولة اإلسالمي

م إىل اإلسالم اجلددف دعو مملخاطبة هؤالء الناس وحماور .وملا ترك اإلسالم البقاء على دينهم أو اعتناق للناس حقهم وجدوا اال أمامهم مفتوحا ليدافعوا عن أديام وأفكارهم وقناعام اليت عاشوا عليها قرونا، ومل اختيارا، فإن اإلسالم

ود فدافع الفرس واوس عن ديانتهم، ودافع النصارى عن ديانتهم، وكذلك فعل اليه. وا عنها بسهولة وبساطةيكونوا ليتخل .وغريهم من أهل األديان وامللل

ة ونشاطا وهكذا نشأ اجلدال والنقاش بني املسلمني وأهل األديان، فكان ذلك من أهمالعوامل اليت أثارت حركة فكريثقافيمت إىل دار اإلسالم من ختوم الصني شرقا إىل احمليط األا يف البالد اليت ضغربا مث إىل ختوم بالد الفرجنة مشاال طلسي .

ة العقائد ثبت صحفكل فريق يريد أن ي. قاشات واملناظرات، منصبة على القضايا الدينية بشكل أساسيوكانت اادالت والنياؤها خر والنعيم والعذاب، ولكل ديانة أنبإذ لكل ديانة نظرا إىل اإلميان باهللا وصفاته وإىل اليوم اآل. اليت تشكل أساسا لدينه

.إىل احلياة واإلنسان والكون ةواحدة منها نظرا اخلاص، ولكل ورجاهلا الذين تعلي شأم

حة الشعوب اليت غزاها اإلسالم كانت يف غالبها متسل ذلك أن .اجلدال مل يقتصر على القضايا الدينية املالحظ أن أن إالفة اليونانية، وراحوا يستخدموا، حوا بالفلسبأفكار فلسفية،هلا مدارسها وأوساطها املزدهرة، وال سيما النصارى الذين تسل

ة أمام الفاحتني اجلدد، الذين خرجوا باإلسالم للتوة من جهة، وإلثارة التساؤالت واملعضالت الفكريمن لتأييد آرائهم الديني ،جزيرة ١فلسفة من الفلسفات مل يكن هلا سابق عهد بأي.

ف ت كبرية واسعة، هنالك مدارس قدمية يعرفها الناس، كانت تؤلفبالد الشام والعراق وفارس ومصر كانت مهدا لثقافا(سكندرية، ويف العراق مدرسة للصابئة، ويف ، ويف مصر واإلها مدرسة الرها، ونصيبني، وحراناشتهرت من: فيها الكتب وتترجم

وكانت أشهر هذه املدارس كانت هذه املدارس تتفاعل بثقافة يونانية وبعلوم دينية مسيحية،. فارس مدرسة جنديسابور فالطوينوقد أحدثت هذه املدرسة مذهبا فلسفيا جديدا دعي باملذهب األ. ولعلوم اليونان سكندرية، وهي مدرسة للطباإل

.٢)احلديث

الفةيف مواجهته للعقائد واألفكار عن احلياة، يعتمد عرض الفكرة املخ منهج القرآن الكرمي، أن من املعلوم لدى املسلمني،ومن ث ة والربهان وإبراز التناقض فيها،له ونقضها ببيان ضعفها وافتقارها إىل احلجة بديلة عنها مفمن . تثبيت العقيدة اإلسالمي

ةمسإذا ق كلت � ىثناأل هلو ركالذ مكلأ � رىخاأل ةثالالث اةنمو � زىالعو تالال متيأرفأ�: ذلك مثال قوله تعاىلضينإ � ىز أ إالي هساءم سميتوها أمنتم وآبكاؤم ا أمناهللا لز ا من طلسنإ ان يبتالظ إال ونعن وما تهى األوفنس

.١٣٤حتى ص ١٢٨من ص ،فجر اإلسالم: انظر -١ـ ١٤٠٢الطبعـة األوىل ، قدار الفكر، دمش ،حه حممد أبو الفرج العشراجعه ونق ،تاريخ عصر اخلالفة العباسية ،يوسف العش -٢ تصـوير ،م١٩٨٣ /هـ

.٢٦١حتى ٢٥٣ص ،١ج، ضحى اإلسالم: وانظر أيضا، ٢٣٦ص، م١٩٩٠

Page 73: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٣

قلود اءجهم من رهباهل موقوله سبحانه ،�١ىد: �القوت اليهود ياهللا د ملغ ةوللغأ تيدهيم لوعالما قوا بنلوا ب يداه مبوطستان ينفك قيف ي�٢اءشوجل ، وقوله عز :�القوت اليهود عزير اباهللا ن القوت النصارى املسيح ابذ اهللا نلق كلوهم .�٣ونكفؤى ينأ اهللا مهلقات لبق نوا مرفك نيالذ لوق ونئهاضي مهاهوفأب

ارات فلسفية تسند أديان أهل البالد ا وجد املسلمون أنفسهم أمام مدارس وتيهكذا، وانقيادا ملنهج القرآن الكرمي،ومل. اراا لنقضها، وتركيز العقائد واألفكار اإلسالمية بدال عنهاهذه املدارس وتي الع على أحباثهلم من االط كان ال بد املفتوحة،

ا بآرائهم للردتبعوفمن بني العلماء . عليها كما قام بعض أهل األديان باملقابل بوضع دراسات يعرضون فيها آراء اإلسالم، ويما من أجل محاية إخوام النصارى ال من أجل اعتناقه، وإن- ر اهتماما بدراسة اإلسالمالنصارى الذين أظهروا يف وقت مبك

حماورة " فاته يف هذا الصدد إلخوانه يف الدين كتابومن بني مصن. ]م٧٤٩- ٦٧٦[ ا الدمشقييوحن كان العامل النصراين -منه .٤سلم كذا فأجبه بكذاذا قال لك املإ: وكانت كتابته على حنو. "إرشادات النصارى يف جدل املسلمني" وكتاب "مع مسلم

العصر أن إال. هذه احلركة الفكرية نشطت بشكل واضح بعد استقرار الفتوح اإلسالمية، وال سيما يف العهد األموي إنالعباسي ته وسعته، وذلك بفضل حركة الترمجة والتصنيف اليت بدأت تظهر جعل النشاط الثقايف يبلغ الذروة يف غزارته وحيوي

.اسيق وبلغت أوجها يف العهد العبعهد األموي على نطاق ضييف ال

تصنيف الكتب على أسلوب التصنيف ابتدأ يف العصر العباسي، ومعىن هذا أن القول بأن يصح( ":يوسف العش"يقول ما كان األمر، فاحلركة يف اوأي، اسيالكتابة والتأليف واجلمع حدث قبل العصر العب أن إال م بدأ يف العصر العباسي،دقيق منظ

ف الكتب وتستخرج اآلراء، وتضع النحو، وهذه الكوفة فهذه البصرة تؤل: العصر العباسي كانت قوية بدرجة تذهل اإلنسان ما هائال من العلماء، يتكاثرون يف املساجد، ويكتبونخض ف يف النحو، وهذه بغداد تضمدب، وتؤلتكتب يف التاريخ واأل

.٥)ون على التأليف، وعلى إخراج الكتبمني ينكبالعلم، حتى إذا وصلنا إىل عصر املأمون، رأينا معظم املتعل

وقد اتم . اس بعلماء املدارس اليت كانت قائمة يف بالد فارس والعراق والشام ومصرصل خلفاء بين العبفقد كانوا يستدعوه ما الكتب إىل اللغة العربية؛ وقد وضع نظام دقيق هلذه احلركة املعرفية، لذلك فإن لترمجة األموالإىل بغداد، وينفقون عليهم

. ، وأحتفه باملترمجني والعلماءاظع عليه احلفضي ببيت احلكمة، الذي وعصر املأمون حتى كان قد ظهر يف بغداد ما مس حلنظبلة العلماء، وأن يواستطاع اخلليفة أن جيعل من هذا البيت قرف هذا البيت باسم املأمون، واشتهر مه التنظيم الدقيق، وقد ع

له كتب اليونان املخزونة، وكان الروم آنذاك ال يعنون ا، وقد أقفلوا حضروقد أرسل هذا اخلليفة بعثة إىل بالد الروم لت. به

.٢٣حتى ١٩اآليات من ، سورة النجم -١ .٦٤اآلية ، سورة املائدة -٢ .٣٠اآلية ، سورة التوبة -٣ .١٣٤ص، فجر اإلسالم: ضاوانظر أي، ١٩ص، االستشراق واخللفية الفكرية للصراع احلضاري: انظر -٤ .٢٣٦-٢٣٥ص ،تاريخ عصر اخلالفة العباسية -٥

Page 74: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٤

ن قبل ذلك قد طلب عددا من الكتب من ، وكان املأمو١قفال، فاستخرجتها هذه البعثة وعادت ا إىل بيت احلكمةعليها األ٢ه هادن ملك قربص على أن يعطيه خزانة من الكتب كانت لديهبالد الروم أرسلت إليه، مث إن.

، ووضع بني يديه الكتاب احلذاق بالسريانية "ا بن البطريقيوحن"م املأمون عمل الترمجة، فوضع عليها أمينا، وهو وقد نظحة يف ، فخرجت الكتب تتواىل مترمجة مصحكبار املترمجني، وكلف بعض العلماء بالتصحيح اللغوي واليونانية، وأحضر

.٣نسخها األخرية

. وهكذا شهد ذلك العصر ظاهرة مل يسبق هلا مثيل، ال من قريب وال من بعيد، من حيث احليوية الفكرية والنشاط الثقايفجيابية، اليت استهدفت هي السمة العملية اإل -من غزارة التأليف وهي أهم-حلركة الفكرية زت هذه ابرز اليت ميالسمة األ أن إال

.فلم يكن اهلدف من هذه احلركة الترف الفكري. أمزجة مفاهيم وتغيري وقلب ة عقلياتصياغ

• ة أن تصمد كليوالثقايف؟ فهل استطاعت الثقافة اإلسالمي ا بعض االنكفاء ا أمام جبهة الصدام الفكريه أصاأم أن ر مبا سواها من الثقافات؟واعتراها التأث

رت الثقافة اإلسالمية بسائر الثقافات أم انتفعت منها؟هل تأث •

• ه عاش يف ظل هل استمرة، أم أنة نقير عن ثقافة إسالمية خالصة، تعبيعيش يف كنف حضارة إسالمي تمع اإلسالميا ؟منط حضاري ملون

؟رحد وصل هذا التأث رت بغريها، فإىل أيوإن كانت الثقافة اإلسالمية قد تأث •

.رض بالفصول التالية أن جتيب عليههذا ما يفت

انتفاع اللغة العربية :ثانيا يقع كثري من الدارسني للتاريخ الثقايف اإلسالمي -ما عند حديثهم على االحتكاك الثقايف والفكريمغالطة يف - وال سي

سه عند الكالم عن احتكاك من تلم هناك فرقا ال بد إذ إن. رأعين بذلك عدم التمييز بني االنتفاع والتأث. وخلط كبريينوهو الفرق بني أن ينتفع املسلمون من التراث الثقايف لدى األمم األخرى دون أن يكون لذلك أال. املسلمني بسائر الثقافات

ةاتهم تأثري على هويحلضاري -تأثري على طريقة تفكريهم وجمموعة أفكارهم ومشاعرهم وأنظمة أي دون أن يكون هناك أي .روا مبا حتويه تلك الثقافات من مفاهيم ووجهات نظر عن احلياة وأنظمة للمجتمعوبني أن يتأث - حيام

.٣٩٦-٣٩٥ص، م١٩٩٦ /هـ١٤١٦الطبعة األوىل ، دار الكتب العلمية، بريوت، الفهرست، مي، حممد بن أيب يعقوب إسحقابن الند: انظر -١ .٢٣٨-٢٣٧ص، تاريخ عصر اخلالفة العباسية: انظر -٢ .٢٣٨ص، بقاملرجع السا: انظر -٣

Page 75: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٥

ى يتبيوحتن ذلك الفرق، ال بد ة ميكن ذلك أن. املوضوع مة صغرية ينبين عليها البحث يف هذامن مقدالثقافة اإلسالمية، ومعارف اللغة: ني، مهاتصنيفها إىل قسمني أساسية. املعارف الشرعيالتفسري وعلوم احلديث والفقه : ونعين باملعارف الشرعي

ونثره ومعانيه دب بشعره النحو والصرف، واأل: ونعين مبعارف اللغة. وأصول الفقه وعلم التوحيد وأصول الدين وما شاكلها .وبيانه وبديعه وما شاكل ذلك

بقدر ما كانت خادمة للمعارف الشرعية، إالمل تعد من الثقافة اإلسالمية -أي معارف اللغة-ومعارف هذا القسم الثاين معانيها لذلك عين علماء املسلمني بدراستها وضبط قواعدها واخلوض يف. أي بقدر ما كانت الزمة لفهمها والتعبري عنها

كما أنها فضال . بوصفهما مصدر عقائد اإلسالم وتشريعه وأساليبها من أجل احلفاظ عليها وسيلة لفهم نصوص القرآن والسنة،. لذلك عين املسلمون بنشر اللغة العربية جنبا إىل جنب مع الدعوة اإلسالمية. عن اإلسالم ا عن ذلك أفضل لغة ميكن التعبري

.فظت على اللغة العربية قواعدها وحنوها وصرفها، فكانت من أصمد اللغات يف التاريخوهذه العناية ح

ع وتنمو وتزدهر، كلما القى أصحاا مزيدا من األشياء واملعاين اليت ميكن التعبري آداب هذه اللغة من شأا أن تتوس أن إالصيغ والصور ال يضريها أن تقتبس من هنا وتستعري من هناك، ساليب والوهذه األ. عنها بتعابري وأساليب وصيغ وصور جديدة

بعد التجوة من شتى اللغاتل بني جنبات النصوص األدبي .ة وهي يف كل األحوال، ليست مضطرة إىل أن حتمل معها العقلي .١ت، إنما هو انتفاع وحسبرا بسائر الثقافاعد ذلك تأثأن ي ألذلك من اخلط. اليت حوا تلك النصوص واآلراءواملفاهيم

جعلهم يقفون على أنواع من النبات واحليوان والطعوم وسائر مرافق العمران،(ع العرب يف بالد العامل توس ذلك أنكل بلد مفتوح أدخل مث إن. يف اجلزيرة مل يكونوا يعرفون اهلرم وال الربايب فالعرب ون كل ذلك يف معامجهم،وأدخل اللغوي

عربوا كثريا من ا فتح العرب مصرفمثال مل. وا منهاغة كلمات استعملها العرب الفاحتون، وأدخلوها يف لغام، بل واشتقعلى اللة األصل، وم ودمهتور واإلأمساء البلدان كبنها والفية، وغري ذلك، وأدخلوا يف اللغة من مصر كلمة بطاقة وهي يونانيسكندري

أن يكون العرب قد أخذوا تراكيب وال بد. ٢)وا منها نشر ينشر نشرا إخلواشتق. مصرية األصلواستعملوا منها منشار وهي .٣جديدا، أغنوا ا أدم وأساليب تعبريهم للجمل جديدة ومعاين جديدة وخياال

ن األلفاظ من اللغات فهي حني نزول القرآن الكرمي بلساا، كانت قد اقتبست العديد م. وهذا ليس بدعا يف اللغة العربيةفهذه األلفاظ بعد تعريبها . �٤ونلقعت مكلعءانا عربيا لرق اهنلزنا أنإ� :األخرى، وأوردها القرآن يف آياته، مع أنه يقول

فارسية والسريانية ما ال يف القرآن من اللغات الرومية واهلندية وال(": اإلمام الشوكاين"يقول . أصبحت جزءا من اللغة العربيةيف القرآن من كل لغة من اللغات، ومن أراد الوقوف على حتى قال بعض السلف إن جيحده جاحد وال خيالف فيه خمالف،

وهذه األلفاظ . ٥)ورباريق والتنستربق والسجيل والقسطاس والياقوت واألمثل املشكاة واإل يف احلقيقة فليبحث كتب التفسري،

.٢٧٦ص، اجلزء األول، م١٩٩٧الطبعة اخلامسة ، تودار األمة، بري، الشخصية اإلسالمية، الدين النبهاين تقي: انظر -١ .٨٨ص، ٢ج، ظهر اإلسالم -٢ .١١٧ص، انظر فجر اإلسالم -٣ .٢اآلية ، سورة يوسف -٤ .٢٨ص، دون تاريخ، تدار املعرفة، بريو، إرشاد الفحول، حممد بن علي الشوكاين -٥

Page 76: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٦

ى إىل ع الدولة اإلسالمية وانتشار اللغة العربية، أدفكل ما يف األمر إذا، أن توس. بها أصبحت جزءا من اللغة العربيةبعد تعري١عاجمبست من لغات األاملزيد من تعريب األلفاظ اليت اقت.

ة وأموهي اليت يتوف-ا عن املعارف الشرعيم وقواعد خر فيها رصيد األفكار واألنظمة اليت اتذها املسلمون مفاهيم حليافهي معارف إسالمية حبتة، وإن كان بعضها -نبع اهلوية احلضارية لألمة اإلسالميةتلسلوكهم وضوابط لعالقام، أي منها

وأعين بذلك علم التوحيد وأصول الدينيت ،سلك فيه منهج البحث العقلية ويم اإلسالم لذلك فإن. سم بالسمة العقليحيرة حترميا باتي هذه وكان حرص املسلمني شديدا على حصر تلق. ااستمداد شيء من هذه املعارف من غري املصادر الشرعي

وأفلحوا يف ذلك إىل أبعد احلدود، . استمداد شيء منها من الثقافات األخرى وعدمصيلة،املعارف من مصادرها اإلسالمية األ .ا كانت عليه األمة اإلسالمية يف معارفها الشرعيةيف ثقافتها مم أكثر استقالالومل يعرف التاريخ أمة كانت

رون وروايات أهل الكتاباملفس :ثالثالوا على تأثري اليهودية والنصرانية يف علم فني إىل ورود أخبار أهل الكتاب يف بعض التفاسري ليدللقد استند بعض املؤل

: الذي يقول عن روايات أهل الكتاب ودخوهلا يف التفاسري" أمحد أمني" ومن هؤالء . الثقافة اإلسالمية التفسري، وبالتايل يف)خبار ودخلت يف تفسري القرآن ب منهم إىل املسلمني كثري من هذه األوقد دخل بعض هؤالء اليهود يف اإلسالم فتسر

ا الشرح، ومل يتحر ى كبار الصحابة مثل ابيستكملونج حتروي أن. اس من أخذ قوهلمن عب قال � النيب :»ثكم إذا حدبوهمقوهم وال تكذأهل الكتاب فال تصد«ولكن ، العمل كان على غري ذلك، وإنم وينقلون عنهمهم كانوا يصد٢)قو.

خذ ما فيها من مفاهيم مل يكن يوما أل -اتسرائيلياة باإلوهي املسم-رين ألخبار أهل الكتاب إيراد املفس والواقع أنفالقرآن الكرمي، . الفجوات التارخيية اليت كان يشعر املسلمون بوجودها ما كانت حماولة لسدوإن. وأحكام ووجهات نظر

ة مل يفصة النبويوكذلك السنق غاية اهلداية والتشريعما اقتصرا على ما حيقال يف تاريخ بدء اخلليقة وأخبار األمم السابقة، وإن ،فكان لدى بعض املسلمني فضول يف معرفة هذه التفاصيل، فلجؤوا إىل أهل الكتاب يسمعون ما عندهم من أخبار، قد تكون

ما هي أخبار تارخيية فقط، وال يضرأنها يف كل األحوال ليست من الدين يف شيء، وإن إالصحيحة وقد تكون كاذبة، بوهاقوها أو يكذاملسلمني يف شيء أن يصد ة ما دامت ال متسوهذا هو مفهوم حديث . شيئا من العقائد واألحكام الشرعي

روا بالعربية ألهل كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعربانية، ويفس: عن أيب هريرة قال روى البخاري. � رسول اهللا .٣»زل إليكمننزل إلينا وما أا باهللا وما أآمن :بوهم، وقولواقوا أهل الكتاب وال تكذال تصد« :� اإلسالم، فقال رسول اهللا

.٢٤٨ص، ٢ج، ضحى اإلسالم: انظر أيضا يف هذا املوضوع -١ .٢٠١ص، فجر اإلسالم -٢، ١٩٩٣، دار الفكر، بريوت، حتقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد اهللا بن باز، بن حجر العسقالين احلافظ أمحد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري - ٣

.٧٣٦٢رقم احلديث ، ٢٧٥ص، ١٥ج

Page 77: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٧

العرب مل يكونوا أهل كتاب وال علم، والسبب يف ذلك أن(: عن هذه النظرة تعبريا واضحا إذ قال" ابن خلدون" روقد عبما غلبت عليهم البداوة واألوإنة، وإذا تشوميقوا إىل معرفة شيء ممة ا تتشونات وبدء ق إليه النفوس البشرييف أسباب املكو

ما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم اخلليقة وأسرار الوجود، فإنما تعرفه العامة من أهل الكتاب إالوأهل التوراة الذين بني العرب يومئذ بادية مثلهم، وال يعرفون من ذلك . من النصارى

ا ال تعلق له باألحكام الشرعية اليت ا أسلموا بقوا على ما كان عندهم مممعظمهم من حمري الذين أخذوا بدين اليهودية، فلموحبار ووهب بن منبه وهؤالء مثل كعب األ. حيتاطون هلا، مثل أخبار بدء اخلليقة وما يرجع إىل احلدثان واملالحم وأمثال ذلك

ا غراض أخبارا موقوفة عليهم، وليست مممثاهلم، فامتألت التفاسري من املنقوالت عندهم يف أمثال هذه األوعبد اهللا بن سالم وأيرجع إىل األحكام فتتحرا العملى فيها الصح ١)ة اليت جيب.

مون علما قائما وإن عده العلماء املسل-هذا الفرع من املعارف اإلسالمية أن إال. هذا يف التفسري من حيث هو تفسريوحني يكون ". افقهي"ر حني يكون بصدد تفسري آية تشريعية يكون حبثه فاملفس. قد حوى أنواعا من العلوم اإلسالمية -بذاته

ض لآليات اليت تتكلم عن بدء اخلليقة وحني يتعر. بصدد تفسري آيات العقائد، يكون حبثه ملحقا بعلم التوحيد وأصول الدينة يقال عنها ما يقال يف هذه العلوم بوصفها مستقل لذلك فإن. وهكذا ...حبثه سيكون على صلة بالتاريخ السالفة، فإنواألمم

فا لكتاب ر عقلية الكاتب بني أن يكون مصنولن تتغي. املوضوع هو واحد بوصفها جزءا من كتب التفسري، من حيث إنأيضا .فا لكتاب يف التفسريوأن يكون مصن - مثال-يف التوحيد

ق ذه العلوم، يف الفصول الالحقة من البحث، يتناول هذه اجلوانب من ما سيجري الكالم عليه، فيما يتعل وعليه فإن .حلاقالتفسري بطريق اإل

املكذوبة واألحاديثثون احملد :رابعاتراث احلديث الشريف لدى املسلمني قد ة إىل أناملكذوب األحاديثوكذلك حاول بعض املؤرخني النفاذ من مسألة وضع

.اعني من أي فئة كانوار بالوضأخذ املسلمني هلا والعمل مبا ورد فيها يعين التأث امتأل بالروايات املوضوعة، وأن

ال، ال بدويف هذا ا م واألفكار من سائر ر هو أخذ املفاهيفالتأث. روبني التأث من تنبيه هؤالء إىل وجوب التفريق بني الدسا أخذ أم. األمم واألديان الستحساا أو شبهة توافقها مع اإلسالم، بوصفها مفاهيم وأفكارا من األمم واألديان األخرى

هم أخذوها بوصفها فإن. ر يف شيءاملدسوسة والعمل ا، على فرض حصوله، فليس من التأث األحاديثاملسلمني لبعض األحاديثهذه هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن. ال بوصفها من دين آخر أو أمة أخرى، � أحاديث لرسول اهللا

تمع اإلسالمية العظمى من اة اليت اعتنقتها الغالبياملوضوعة مل تستطع أن ختترق جدار الثقافة اإلسالمي .بت إىل فهي وإن تسرلة يف علماء اإلسالم، استطاعت أن تقضي على ة الفكر اإلسالمي، املتمثمناع أن إالأذهان بعض املسلمني يف بعض أزمنة الفتنة،

.٤٨٧ص، املقدمة -١

Page 78: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٨

وحصل ذلك عندما قام رجال احلديث بتدوين ما روي هلم من .اليت حاولت الفتك بكيان الثقافة اإلسالمية الدسائسهذه وهذا ما عرف بعلم مصطلح احلديث، . حاديث مع أسانيدها، مث التحقيق يف هذه الروايات من نقد أسانيدها ورواا ومتوااأل

ى يتميوما تبعه من علم الرجال الذي عين بتراجم الرواة، حتن سواهز الثقة الذي تقبل روايته مم.

)ومن البدهيا هنا أن ات اليت ال بدمن إثبا ل العظيم الذي حال دون تسل مدرسة احلديث أو أهل األثر كانوا هم السداخلرافة وتفشة إىل اجلادة، وكانوا دائما وراء حركات التصويب وإعادة األمة والوقوف باملرصاد ي البدعة يف احلياة اإلسالمي

...مل يعد جيرؤ معها أحد أن يقول يف الدين دون حتقيق به الطريق، إىل درجة لكل دارس أو باحث أو عابد تضل

ة كل مث اجتهدوا يف االستيثاق من صح -وإن مل يكن صحيحا-رواة لقد اجتهد علماء احلديث يف رواية كل ما رواه الم، واحتاطوا أشدشبهة، االحتياط، وحكموا بضعف احلديث ألقل حديث وكل حرف رواه الرواة، ونقدوا أحواهلم وروايا

موا اجلرح على التعديل، فكانت قواعدهم أصحوقد ١)القواعد لإلثبات التارخيي.

" أمحد أمني"يقول . رنا إىل دور علم مصطلح احلديث وتراجم الرجال يف نشأة املنهج التارخيي عند املسلمنيوقد سبق وأشعين به املسلمون قدميا عناية غريبة فاقت غريهم من األمم يف عصورهم، فما إن يظهر أحد بالعلم (": تراجم الرجال"عن علم وما إن ميوت هذا ... إال ويهجم عليه العلماء ويرحلون إليه يأخذون عنه -ولو برواية حديث واحد أو خرب واحد-واملعرفة

املروي عنه احلديث أو اخلرب، أو من اشتهر بعلم أو معرفة، حتى يتسابق املؤرخون إىل تدوين أصله ونسبه، والبالد اليت تنقل فلما اتسعت احلركة العلمية ... ريخ وفاته وغري ذلكفيها، والشيوخ الذين أخذ عنهم، واألحداث اليت عرضت له يف حياته، وتا

وكثرت رواية احلديث، ورأى العلماء أنفسهم بني أصناف من الرواة، صادق وغري صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم .٢)وقام احملدثون يف هذا الباب مبا يستخرج العجب، فبحثوا عن كل راو وشرحوه وحللوه... باحلكم على األشخاص

من من املؤرخني غريهم عين باإلسناد عنايتهم، فيسند الرجل إىل امرأته وإىل أمته، ويدور على الناس يف (: مث يضيفأخبيتهم ومنازهلم يتلمس األخبار ويطبق ما يسمع على املشاهد؟ ومن من املؤرخني يف مثل عصرهم يتشدد تشددهم يف الرواية

خذ عن الصحيفة إال أن يكون ضعيفا مطعونا فيه؟ ومن من املؤرخني يف مثل عصرهم صرب على ما والسماع، وال يستجيز األصربوا عليه من فاقة وبؤس، ورحل من غانة إىل فرغانة، مع بعد الشقة ووعورة الطرق، مث قيد كل ما مسع مع اإلفالس وغالء

.٣)القرطاس؟

ر الفقه اإلسالمي ر اتمع اإلسالمي بسائر احلضارات هي تأثخون للداللة على تأثاملؤرالشبهة الكربى اليت أوردها أن إال .ص له الفصل التايلوهذا ما سنخص. بتشريعات وأنظمة أخرى، وال سيما التشريع الروماين

.١٠ص، هـ١٤٠٨، كتاب األمة، قطر، الفكر املنهجي عند احملدثني، مهام عبد الرحيم سعيد -١ . ٣٥٣-٣٥٢، ص٢ضحى اإلسالم، ج -٢

.٣٦٠، ص٢املرجع السابق، ج ٣-

Page 79: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٧٩

بالتشريع الروماين؟ ر الفقه اإلسالميهل تأث :خامسار الشريعة اإلسالمية بالقانون الروماين، على اختالف فيما بينهم يف درجات القول بتأثمعظم املستشرقني مييلون إىل إن(

الشريعة اإلسالمية يذهبون إىل القول بأن" شيلدون آموس"و" فون كرمير"و" جولد تسيهر"فمنهم فريق من أمثال . رهذا التأثأقام فقهاء املسلمني على أساس من قواعده الكيان القانوين ة من القانون الروماين، فهذا القانون هو املصدر الذيمستمد

القانون الروماين إالليس الشرع احملمدي إن: "بصريح العبارة" شيلدون آموس"ويف ذلك يقول . للشريعة اإلسالميةة معدة الشرقيةلإلمرباطورية يف املمتلكات العربيإن" :، ويقول أيضا"ال وفق األحوال السياسي ديليس سوى قانون القانون احملم

١)"جستنيان يف لباس عريب.

كني بالنصوص الدينية، والفقهاء الذين أن يفصم عروة االرتباط الوثيق بني احملدثني، بوصفهم متمس" آدم متز"وحياول الواقع أنه ظهر يف هذا (: فيقول. ر من تلك النصوص واالستمداد من التشريعات السابقة لإلسالمالتحر -حسب رأيه- حاولوا

ما ظهر يف غريه من امليادين، وأهم امليدان الفقهي ب آراء يف التشريع ما حدث هو تسر -إىل الفقه - ا كان قبل عهد اإلسالمممأصحاب احلديث لها الفقهاء، وخيالفهموكان ميث. ات اليونانية والرومانية القدميةحييت من جديد بعض النظرياإلسالمي، كما أ

ةاملتمسة النبوية القدمية والذين يقيسون احلياة مبقياس نصوص الوحي والسنكون بالسن .كون بالقدمي أن ومل يشأ هؤالء املتمس .٢)لوا عن مكانتهم بسهولةيرت

يث يصل ا إىل معرفة معرفة النفس ما هلا وما عليها حب(، وهو تعريفا للفقه لدى املذهب احلنفي" دافيد سانتالنا"ويورد طريق احلق وجيمل بنا أن نورد ما قاله فقهاء القانون الروماين عن صناعتهم (: ، مث يقول)ؤها للحياة األخرىيف احلياة الدنيا ويهي

ء الكبري بالتشريع ر الفقها، ليصل من خالل هذه املقارنة إىل القول بتأث٣)"هليةمور اإلنسانية واإلالفقه الروماين هو علم األ"تلك، غريقية عميقا وهنا ندرك كم كان تأثري األفكار اإل(: بتعامل املسلمني بالنقود املضروبة قبل اإلسالم ليقول ويستدل. الروماين

.٤)ونفوذها بعيد الغور

لألنظمة اليت يبخذ مبعطيات الواقع والتراث، وخاصة النظام الضريت دولة اإلسالم إىل األاضطر(": أندريه ميكيل"ويقول .٥)ان بيزنطة وطيسفون القدماءومل تكن الضريبة العقارية والعشرية واجلزية من املفاجآت لسك. سبقتها

كان يف الشام مدارس للقانون الروماين عند (: وقد أورد هؤالء املستشرقون بعض االستدالالت على زعمهم هذا، فقالوات هذه وت، وكان هناك حماكم تسري يف نظامها وأحكامها حسب القانون الروماين، واستمرالفتح اإلسالمي يف قيصرية ويف بري

نة نظروا ماذا وافر إذا فتحوا بالدا ممد قوما مل يأخذوا من املدنية حبظ أن وطبيعي: احملاكم يف البالد بعد اإلسالم زمنا، قالوا

.١٠٧، صاالستشراق واخللفية الفكرية للصراع احلضاريحممود محدي زقزوق، - ١ .٣٨٨-٣٨٧ص، ١ج، سالميةاحلضارة اإل -٢ .٤١٩ص، ١٩٧٨طبعة ثالثة ، دار الطليعة، بريوت، تعريب جرجيس فتح اهللا، مجهرة من املستشرقني بإشراف سريتوماس أرنولد، تراث اإلسالم -٣ .٤١٥ص، املرجع السابق -٤ .١٠٨ص، اإلسالم وحضارته -٥

Page 80: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٠

املقارنة بني بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الروماين تقنعنا إن: لوايفعلون، ومب حيكمون، مث اقتبسوا عن أحكامهم، وقاكلميت الفقه وأن" عى واليمني على من أنكرنة على من ادالبي: "ها مثلقلت من القانون بنصهناك قواعد ن مبا نقول، بل إن

على الفهم واملعرفة ، وهي تدل"Juris"ستعملون كلمة والفقيه استعملتا وفاقا ملعىن الكلمة املستعملة عند الرومان، فهم يهذا التلمود أخذ كثريا ا مباشرة أو عن طريق التلمود، فإنالفقه اإلسالمي أخذ عن القانون الروماين إم إن: وقالوا. واحلكمة

١)...خذ ببعض أقوال التلمودنهم من األصال املسلمني باليهود مكمن القانون الروماين، وات.

ال حتتاج إىل كثري من العناء يف النظر، فهي -من مستشرقني وغريهم- اليت أوردها هؤالء الغربيون حماكمة هذه املزاعم إن :هاظاهرة البطالن من وجوه عديدة، أمه

املسلمني يعتقدون أن أن: الأو ة مجيع البشر، مبا أتى به حمموامر ونواه من أ � داهللا خاطب يف الشريعة اإلسالميحكم غري حكم اإلسالم هو من أحكام أي فهم يعتقدون أن. يؤمن بالشريعة اإلسالمية كافراوختيريات، ويعدون كل من ال

حكم من غري اإلسالم، وال سيما يف صدر ى ملن حيمل مثل هذا االعتقاد أن يأخذ أيفال يتأت. الكفر، حيرم عليهم أخذهما سواه هو الصاحل وأن ما عندهم من تشريع إهلي ان املسلمون فيه حيملون رسالة اإلسالم واثقني بأناإلسالم، العصر الذي ك

.٢!؟محلته هذه الرسالة ويأخذون غريه ون عماهو الضالل والفساد، فكيف يتخل

يأخذوا من أحكامهم وأنظمتهم، حضارة من غريهم، وبالتايل كان من الطبيعي أن املسلمني كانوا أقل القول بأن أن: ثانياحيمل مغالطة كبرية، فضال عن تعبريه عن نظرة ازدراء إىل املسلمني الذين خرجوا من اجلزيرة وهم حيملون معهم طريقة يف

خال خرجوا هادفني إىل إد. تغاير كل املغايرة طرائق العيش اليت عرفتها األمم املفتوحة -وهي ما يعبر عنه باحلضارة- العيشمجيع تلك األمم يف حضارم تلك، وهم يعتزون ا ويروا حياة اهلداية والنور، ويزدرون ما سواها من طرائق العيش، ويرون

لوا عن طريقة عيشهم وأفكارهم أهل تلك البالد مل يلبثوا أن حتو ا بدليل أنقوى حضاريوكانوا هم األ. فيها الضالل والظلماتم بقوة تأثريوأدياال بقو ،ة الدين اإلسالمية اإلسالمية، ليكونوا جزءا من األمة السيف، وانصهروا يف احلضارة اإلسالمي

.٣العاملية

إشارة إىل القانون الروماين، ال قد أشار أي -غريهم سواء من الفقهاء أو- أيا منهم أنه مل يرو أحد عن املسلمني، أن: ثالثااملسلمني يف فإن. ةحبث البت على أنه مل يكن حمل ا يدلعلى سبيل التأييد، وال على سبيل االقتباس، مم على سبيل النقد وال

ل ا يدروا يف ترمجة مجلة من التشريع الروماين، فضال عن أن يترمجوا كتابا، ممالوقت الذي ترمجوا فيه كتب الفلسفة، مل يفك .٤يف البالد منذ فتحها ذلك التشريع قد ألغي ورذل على أن

أنه يف احلقبة اليت يزعم املستشرقون أنه كان يف بالد الشام مدارس للتشريع الروماين وحماكم حتكم بالقانون : رابعا -على فرض حصوله- ن الطبيعي أن يقع هذا التأثري ام، فكان مالروماين، كانت الشام غاصة باتهدين والفقهاء والقضاة واحلك

.٢٤٧-٢٤٦ص، فجر اإلسالم -١ .٤٠٥ص، ١ج، الشخصية اإلسالميةاين، تقي الدين النبه :انظر -٢ .٤٠٦-٤٠٥ص، ١ج، املرجع السابق: انظر -٣ .١٠٨ص، االستشراق، حممود زقزوق: وانظر أيضا. ٤٠٤ص ،١ج ،املرجع السابق: انظر -٤

Page 81: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨١

مجيع ما ورد يف فإن. رإشارة إىل ذلك التأث التراث املنقول بغزارة إىل يومنا هذا خيلو من أي شخاص، ولكنألى هؤالء اعل .النصوص الفقهية يستند إىل الكتاب والسنة وإمجاع الصحابة

موطن ،د إقامته يف بريوتين ررا بالتشريع الرومايكون متأثح بعض املستشرقني أن الذي رج. ١"وزاعياأل"وحتى اإلمام نت آراؤه يف كثري من كتب الفقه دو - مستند على زعمهم هذا دون أن يكون لديهم أي- أكرب مدارس التشريع الروماين

عد األاملعتربة، ويتبيا بشكل واضح بن من قراءعد األرض عن السماء عن القانون وزاعي٢الروماين ب.

فقه وفقيه، قد وردت يف القرآن الكرمي ويف احلديث الشريف، قبل عهد الفتوحات، وقبل أن يكون كلمة أن: خامساللمسلمني أي بتلك الشعوبات لف�: قال تعاىل .صال حضاريوفال نر من رقكل فة منهاط مةفئ ليقفتهوقال �٣ينوا يف الد ،

عاء انتقال الكلمة من القانون ظهر مدى افت ادوهذا ي. ٤»ه يف الديناهللا به خريا يفقهرد من ي«: عليه الصالة والسالمفقد . قبل حقبة الفتوحات �فهي مفهوم ما قاله الرسول "عى واليمني على من أنكرنة على من ادالبي"ا قاعدة وأم .الروماين

ه قالعن األ روى البخاريفقال � رجل خصومة يف بئر، فاختصمنا إىل رسول اهللا كانت بيين وبني« :شعث بن قيس أنوكذلك األمر ٦.»عى عليهاليمني على املد قضى أن � النيب أن« :وعن ابن عباس ٥.»شاهداك أو ميينه: �رسول اهللا

ما هي أحكام شرعية يه ضريبة عقارية، والعشور واجلزية، إنفاخلراج الذي يسم". أندريه ميكيل"بالنسبة لألمثلة اليت ضرا ة وإمجاع الصحابةاستواملدق. نبطت من القرآن والسنعموما ق يف التشريع االقتصادي وقد حوته كتب الفقه مثل -اإلسالمي

.من األنظمة األخرى يلمس ملس اليد أن ال عالقة تربطه بأي - ٧"اخلراج أليب يوسف"كتاب

د، فإنا مسألة استمداد الفقهاء من التلمووأم ا ظاهر يف محلة القرآن الكرمي على اليهود وعلى حتريفهم للتوراة، وأنبطال كل ذلك يناقض . ما بأيديهم كتبوه من عند أنفسهم، وليس هو من عند اهللا، وهذه احلملة تشمل التلمود بوصفه من افترائهم

وأحـد الديار الشامية يف الفقه والزهد،إمام : وزاع، أبو عمروعبد الرمحن بن عمرو بن يحمد االوزاعي، من قبيلة األ )هـ١٥٧-٨٨: (وزاعيألاإلمام ا -١ا ولد يف بعلبك، ونشأ يف البقاع،. اب املترسلنيالكت كان عظيم الشأن بالشام، وكان أمره فيهم أعز .وعرض عليه القضاء فامتنع .وسكن بريوت وتويف

)الزركلي( .ندلس على رأيه، إىل زمن احلكم بن هشامباأل وكانت الفتيا تدور. ويقدر ما سئل عنه سبعني ألف مسألة أجاب عليها كلها. من السلطان .٢٤٧ص ،فجر اإلسالم: انظر -٢ .١٢٢ اآلية، سورة التوبة -٣ .٧١: رقم احلديث ،كتاب العلم ،٢٢١ص ،١جملد ،فتح الباري بشرح البخاري -٤ .٢٥١٦ :رقم احلديث ،كتاب الرهن ،٤٤٥ص ،٥جملد ،املصدر السابق -٥ .٢٥١٤رقم احلديث ،٤٤٥ص ،٥جملد ،بقاملصدر السا -٦ .)هـ١٨٢-١١٣(القاضي أبو يوسف - ٧

، من مةكان فقيها عال. ل من نشر مذهبهصاحب اإلمام أيب حنيفة، وتلميذه، وأو: ، أبو يوسفالبغدادي الكويف نصاريبراهيم بن حبيب األإيعقوب بن ومات يف . واهلادي والرشيد ام املهديي القضاء ببغداد أيول". الرأي"ة، مث لزم أبا حنيفة، فغلب عليه ه باحلديث والروايولد بالكوفة، وتفق. اظ احلديثحف

ل من وضع الكتب يف أصول الفقه على مذهب وأو. قاضي قضاة الدنيا: ، ويقال له"قاضي القضاة"ل من دعي وهو أو. خالفته، ببغداد، وهو على القضاء )الزركلي( ".اخلراج"فات أشهرها له العديد من املصن. ام العربلم بالتفسري واملغازي وأيوكان واسع الع. أيب حنيفة

Page 82: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٢

لمني، ال يعيشون مع املسلمني، بل ال خيتلطون م، فضال اليهود كانوا قبائل منفصلة عن املس عالوة على أن. خذ من كتبهماألى أخرجوهم من بينهمعن العداوة الدائمة بينهم وبني املسلمني واحلروب املتواصلة اليت كان يشن١ها املسلمون عليهم حت.

ي خرافة ال أصل هلا من ر الفقه اإلسالمي بالتشريعات الرومانية هدعوى تأث بشكل واضح على أن ة تدلدلكل هذه األة وما أرشدا إليه من أد. ةالصحما الفقه أحكام استنبطت من القرآن والسنة دلوكل ما ال يستند إىل أحد تلك األ. ة األحكاملإن

.ال يعد من الفقه اإلسالمي بشيء

هو تباين األساس الذي ينطلق منه و الأوأخريا، البد أن يعيدنا هذا الفصل إىل استحضار ما سبق وأن تكلمنا عليه سابقا ن ال يؤمن إذ ليس مستغربا مم. ني يف حكمهم على احلضارة اإلسالمية وحمتواها الثقايف الفكريمن املسلمني والغربي كل

ة أليا الوحي، أن يبحث عن مصادر تارخيي باإلسالم رسالة من عند اهللا نزل هو األصل بل هذا. فيه فكر أو حكم تشريعي .يف نظرته إىل اإلسالم واحلضارة اإلسالمية

بنظام احلكم الفارسي؟ رت الدولة اإلسالميةهل تأث :سادسايف سياق الكالم على اقتباس املسلمني عناصر حضارية من األمم األخرى، يورد بعض املؤرخني أمثلة وشواهد، من تاريخ

مثلة والشواهد مسألة ومن أبرز تلك األ. قة باحلكم من الفرس وغريهمقتبست بعض األنظمة املتعلالدولة اإلسالمية، ليثبتوا أنها ا .والكتاب والوزارة ٢الدواوين

استعانوا يف بالد ة ولكنها حسنة التنظيم، فبوا على جمتمعات مضمحلهم قد تغلأدرك العرب أن(: مثال" ول ديورانت"يقول دىن على النسق أن تسري احلياة يف الشرق األ ني، وكان ال بد، ويف بالد فارس بنظام الساسانييدارزنطة اإلالشام بنظام بي

.٣)القدمي

منصب كما يرى أن. ٤تقليدا للنظام الفارسي إالإىل حد القول بأن تكون طبقة الكتاب ليس " أمحد أمني"ويذهب ع، وأنما هو إنشاء مبتدالوزارة إنه منصب فارسي ومل يكن معروفا قبل العب٥نياسي.

ى إىل إدخال مفاهيم احلكم ي الفرس ملعظمها، أددخول هذه الوظائف إىل الدولة اإلسالمية وتول ويرى بعض املؤرخني أنوالكتاب ني، من حيث كان مفهوم احلكم لدى الوزراءاسيمرباطورية الفارسية إىل اخلالفة عهد العباليت كانت سائدة يف اإل

.٤٠٧ص ،١ج ،الشخصية اإلسالمية: انظر -١ .٣٠-٢٩ص ،١٩٨٩طبعة أوىل ،دار النهضة العربية، بريوت ،دراسات يف تاريخ احلضارة اإلسالمية ،ان حالقحس: انظر يف مسألة الدواوين -٢ .١٤٦ص ،١٣ج ، قصة احلضارة -٣ .١٦٩ص ،١ج ،ضحى اإلسالم -٤ .١٦٥ص، ١ج، املرجع السابق -٥

Page 83: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٣

دارية والدينية، ويعترب سلطات احلاكم مطلقة ينطوي على إدارة مركزية قوية متنح احلاكم السيطرة على النظم العسكرية واإل(ألن١)ها من اهللاه يستمد.

ف مللوك حال، شيخا من شيوخ القبائل، بل خل فخليفة بغداد مل يكن، بأي(: يف هذا الرأي حني يقول" بروكلمان"ويبالغ ويف السنوات التوايل نشأ عند خلفاء بغداد شوق إىل استطالع الكتب الفارسية عن أسلوب التشريفات الذي . الفرس الكبار

كان يتون، ورغبة يف حماكاته وتقليدهبعه الساساني(....

ة أدخلت يف نظام الدولة ا ا للداللة على أن؟ وهل تصلح حقستشهاداتة هذه املقوالت وتلك االفما مدى صحإلسالمي ؟مها بعضا من أنظمة الدول األخرىحك

ة، فهي ليست ظاهرة ا فيما يتعلأمة يف جهاز الدولة اإلسالميق مبسألة الدواوين والكتاب من حيث هي وظيفة إدارية منذ عهد الرسول. ةمستجديقول. � بل هي جزء من أجهزة الدولة اإلسالمي "لقد (": ان حالقحسجد الديوان منذ عهد واء من الصحابة بلغ كتبة وقر �ة هذا القول، أنه كان للرسول وللداللة على صح. التسمة هى ذدون أن يتسم � الرسول

بن أيب طالب وخالد بن سعيد ان يكتب له أحيانا، وأحيانا عليعددهم أكثر من اثنني وأربعني شخصا، فقد كان عثمان بن عفوأبان بن سعيد والعالء بن احلضرمي .ل من كتب له أوكان أوبن كعب، وإذا غاب كتب له زيد بن ثابت، وقد كتب له يب

شخاص ألويكفي هذا العدد من ا. سيديأيضا عبد اهللا بن سعد بن أيب سرح، وكتب له أيضا معاوية بن أيب سفيان وحنظلة األثقافة باللغة العربية وليس بلغة ثانية، بل إن -بطبيعة احلال-وكان مجيع هؤالء يكتبون . دارةإلفوا ديوانا للكتابة واألن يؤل

إجادته لعد ة من النادر أن جتتمع يف شخص واحد يف تلك الفترة ، فقد كان زيد بن ثابت أحدهم بلغت حدة لغات أجنبي .ها إىل اللغة العربيةومية والقبطية واحلبشية واليهودية، يترمجبالفارسية والر �ترمجان رسول اهللا

ظ اكتبوا يل من تلف: أراد مرة إحصاء املسلمني فقال � النيب ومن الدالئل على وجود املفاهيم الديوانية عند املسلمني، أن. سلمني كتاب حافظ، أي ديوان مكتوبومل يكن قبل ذلك جيمع امل. باإلسالم من الناس، فكتبوا له ألفا ومخسمائة رجل

ل خطوة أوىل حنو التدوين، إذ مبثل لقد كان إحصاء املسلمني األو. ل عددهمأحصى املسلمني وسج � الرسول بالرغم من أنخذ هذه اخلطوة ليقف على أعداد من اعتنق اإلسالم، وذلك لدفع أموال ات �الرسول والظاهر أن. حصاءاإل هذه الطرق مت

د أيضا من أعداد املسلمني الذين ميكن ب عليهم الدفع، وللتأكن يتوجخذ ممالزكاة ولصرفها على احملتاجني من املسلمني واألةهلم االشتراك يف العمليات القتالي .يق مبا ساد يف عصر الرسولوقد اقتدى اخلليفة أبو بكر الصد � ة، إذ إنمن أنظمة أولي ن م

فيه ا ال شكعلى أنه مم. انيق، ومنهم زيد بن ثابت وعثمان بن عفان يكتب أيضا للخليفة أيب بكر الصدك � كتب للرسول .ام اخلليفة أيب بكروجدت يف أي" بيت املال"نواة أن

ففي . الد فارسبعة يف بر األنظمة السائدة يف الدولة وأضاف إليها أساليب إدارية متاب اخلالفة، طوى عمر بن اخلطا تولومل .٢)هـ فرض على املسلمني الفروض ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة يف اإلسالم١٥سنة

.١٠١-١٠٠ص، ١٩٩٣الطبعة األوىل ،دار البشري، عمان ،الفكر السياسي عند أهل السنة تطور، خري الدين يوجه سوي -١ .٣١-٣٠ص، دراسات يف تاريخ احلضارة اإلسالمية -٢

Page 84: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٤

وغاية ما . � وضعت أسسه يف عهد الرسول - حصاءاتفون والسجالت واإلاب املوظمبا فيه الكت- داريإذن فاجلهاز اإل .وهو الدواوين أالدارة واحملاسبة أدخل إىل هذا اجلهاز، يدا من أشكال اإلشكال جد اب أنحصل يف عهد اخلليفة عمر بن اخلط

.اوين إىل جهاز الدولة اإلسالميةولنلق نظرة على بعض النصوص التارخيية اليت تتكلم عن دخول الدو

. مت عليهخرة فسلفلقيته يف صالة العشاء اآل: نه قدم على عمر من البحرين، قالأ(" أيب هريرة"عن " البالذري"روى جئت خبمسمائة : قلت! هل تدري ما تقول؟: جئت خبمسمائة ألف، قال: به؟ قلت ما جئت: فسألين عن الناس، مث قال يل

ك ناعس، فارجع إىل أهلك فنم، فإذا أصبحت إن: مخسة، فقال مائة ألف، ومائة ألف، فعددت: قلت! ماذا تقول؟: ألف، قالذاك، فقال إالنعم ال أعلم : أطيب؟ قلت: مخسمائة ألف، قال: به؟ قلت ما جئت: دوت إليه فقالفأتين، قال أبو هريرة، فغ

يا أمري املؤمنني : يال، فقال له رجله لكم عددا، وإن شئتم أن نكيله لكم كه قدم علينا مال كثري، فإن شئتم أن نعدإن: للناسنون ديوانا يعطوي قد رأيت هؤالء األإنن الديوان: ن الناس عليه، قالعاجم يدو١...)فدو.

م كل سنة ما تقس: بن أيب طالب استشار املسلمني يف تدوين الديوان، فقال له علي �اب عمر بن اخلط أن(وروى ن مل وا حتى يعرف من أخذ ممكثريا يسع الناس، فإن مل حيص أرى ماال: اجتمع إليك من مال وال متسك منه شيئا، وقال عثمان

دوا نوا ديوانا، وجنالشام فرأيت ملوكها قد دو قد جئت: يأخذ حسبت أن ينتشر األمر، فقال له الوليد بن هشام بن املغرية .٢...)جندا، فدون ديوانا، وجند جندا، فأخذ بقوله

وهنا ال بد واالنتفاع املدينمناها يف هذا البحث، للتفريق بني االقتمن الرجوع إىل املعايري اليت قد فلقد . باس احلضاريرنا أنقر تمع وجهة نظره عن احلياة، وبالتايل متنحه هويما هي املفاهيم اليت تعطي ااحلضارة إنة وطرازه يف العيشته اخلاص .

ضارة من احلضارات، واليت بالضرورة حب اليت ال ختتص" املدنية"عة ضمن خانة والوسائل املادية املتنو األشكالبينما تنضوي . ميكن لألمم واتمعات أن تتبادهلا وتأخذها من بعضها البعض، دون أن يكون هلا بالضرورة تأثري على هويتها احلضارية

.طار، إطار املدنيةدارية ال خترج عن هذا اإلساليب اإلشكال واألواأل

حصاء واحملاسبة، ميكنه أن دارة واإلهي شكل من أشكال اإل إنما: وعلى هذا األساس نطلق حكمنا على الدواوين فنقولمن حيث تصنيفه-فهو ال خيتلف . نوع من أنواع أنظمة احلكم واالقتصاد وما شاكل ذلك خيدم أي- ا نعرفه اليوم من عم

علما يدر عدم واالقتصاد املختلفة، ودون أن را بأنظمة احلكس يف جامعات العامل كله، دون أن يكون متأثأنظمة احملاسبة اليت تلتلك اجلامعات أي ة وهو شبيه أيضا بأجهزة الكومبيوتر اليت ال تعرف احلدود اإل. تأثري فيه يكون لالنتماء احلضاريثني

اب، إذ وهذا ما فعلته أنظمة الدواوين والكت. واحلضارية والقومية والسياسية، بل هي على استعداد خلدمة اجلميع دون استثناءإنها قبل أن تقدا للفرس واملسلمني، قدلذلك يستغرب . متها للدول اليت سبقتهام خدما"أكثر املراجع أن(من " ان حالقحس

.٤٩٧-٤٩٦ص، م١٩٩٢ /هـ١٤١٢بريوت الطبعة األوىل دار الفكر، ،سهيل زكار. حتقيق د ،البلدان وفتوحها وأحكامها ،البالذريأمحد بن حيىي -١ .٤٩٣-٤٩٢ص، املصدر السابق -٢

Page 85: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٥

الفرس أنفسهم كانوا قد اقتبسوا نظام الدواوين وغريه من أنظمتهم من نظم إدارية لشعوب واملصادر العربية ال تشري إىل أن .١)من قبل سيطروا عليها

ا فيما يتعلوأمة، فوظيفة الوزير اليت يقولون إنق مبنصب الوزارة يف الدولة اإلسالميليست ها استجد ،اسيت يف العهد العبةيف احلقيقة وظيفة مستجد .ها اتخذت يف ذلك العهد أمهوغاية ما يف األمر أنة أكرب، بسبب اتساع النفوذ الذي منحه اخللفاء ي

ني ويف كتب الفقهاء، وباتوا أكثر من ذي قبل على لسان السياسي" الوزارة"ون هلؤالء الوزراء، وشاعت كلمة اسيبالع": الفخري"يقول . يستخدموا أكثر من غريها من الكلمات، للتعبري عن معىن كان موجودا منذ عهد النبوة واخلالفة الراشدة

)الوزارة مل تتمهإالنينها ر قواد قواعدها وتقر يف دولة بين العباس، فأما قبل ذلك فلم تكن مقنرة القوانني، بل نة القواعد وال مقركان لكل واحد من امللوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي احلجى واآلراء الصائبة، فكل منهم جيري جمرى وزير،

فلما ملك بنو العباس تقري الرت قوانني الوزارة ومس٢)ى كاتبا أو مشرياوزير وزيرا وكان قبل ذلك يسم.

وما زال األمر يف الدول قبل (: من وجوده يف الدول، إذ يقول ال بد منصب الوزارة أمر طبيعي أن" ابن خلدون"ويرى من بيعياإلسالم هكذا حتى جاء اإلسالم وصار األمر خالفة، فذهبت تلك اخلطط كلها بذهاب رسم امللك إىل ما هو ط

منه، فكان املعاونة بالرأي واملفاوضة فيه، فلم ميكن زواله إذ هو أمر ال بد � ة يشاور أصحابه ويفاوضهم يف مهمم العاماواخلاصة، وخيص ى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحواهلا يف كسرى وقيصر مع ذلك أبا بكر خبصوصيات أخرى حت

ون أبا بكر وز والنجاشيعرف بني املسلمني لذهاب رتبة امللك بسذاجة اإلسالم، وكذا عمر . يرهيسمومل يكن لفظ الوزير يوعثمان مع عمر مع أيب بكر وعلي(وها هو . ٣"للوزارة فيقول" أبو احلسن املاوردي يوضح األصل الشرعي :) وليس ميتنع

ة والسالمه موسى عليه الصالجواز هذه الوزارة، قال اهللا تعاىل حكاية عن نبي :�واجلع لزي ويرا مأ نيهل � هأ وناريخ ما وكل إىل اإلمام من أجوز، وألن اإلمامةة كان يف ، فإذا جاز ذلك يف النبو�٤يرمي أف هكرشأو � يرزأ هب ددشا �

ده ا مور من تفريف تنفيذ األ املشارك له يف التدبري أصح باستنابة، ونيابة الوزير إالتدبري األمة ال يقدر على مباشرة مجيعه .٥)ليستظهر به على نفسه، وا يكون أبعد من الزلل وأمنع من اخللل

فالوزير هو معاون يعية احلكم والسلطاننه اخلليفة ليتحموإجياد املعاون من املباحات، فيجوز للخليفة أن . ل معه مسؤوليا وزيراي من أهل األرض فأبو بكر وأم« :� اته وأعماله، قال رسول اهللانه ويساعده يف مسؤوليعين معاونا له يعاوي

على جواز أن يستوزر اخلليفة من وجعل أيب بكر وعمر وزيرين يدل. عني واملساعدوكلمة الوزير يف احلديث تعين امل. ٦»وعمراب معاونا له، وكانت ى اخلالفة عمر بن اخلطر بعد أن تولوقد استوزر أبو بك. يعينه ويساعده يف شؤون احلكم وأعماله

.٢٨ص، دراسات يف تاريخ احلضارة اإلسالمية -١ .٢٠٦ص، ٢ج، النجوم الزاهرة -٢ .٢٦٢ص، مقدمة ابن خلدون -٣ .٣٢حتى ٢٩من اآليات ،سورة طه -٤ .٢٥ص ،م١٩٨٥، دار الكتب العلمية، بريوت ،األحكام السلطانية، بن حممد بن حبيب البصري املاوردي ليأبو احلسن ع -٥كتـاب ، م١٩٨٧الطبعـة األوىل ، دار الكتب العلمية، بريوت، حتقيق كمال يوسف احلوت، )سنن الترمذي(اجلامع الصحيح ، حممد بن عيسى الترمذي -٦

.٣٦٨٠رقم احلديث ، املناقب

Page 86: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٦

ام عثمان كان مروان بن احلكم ويف أي. أم أنت ال ندري أعمر اخلليفة: معاونته له ظاهرة، حتى قال بعض الصحابة أليب بكر .١يقوم مبعاونة عثمان يف أعمال احلكم

اب الفرس على مفاهيم احلوأما عن تأثري الوزراء والكتة، فإنكم يف الدولة العبة املدق اسيق يف أحوال الدولة اإلسالمي .بالغة يف الكالم على هذا التأثريهناك م وخلفائها جيد أن

عماق اليت رين مبفاهيم األني، الذين كانوا حديثي عهد يف اإلسالم، متأثفني الفارسيليس مستبعدا أن يكون بعض املوظوليس مستغربا أن حياول بعضهم نقل هذا التأثري إىل الدولة اإلسالمية، وقد تكون هذه . جدادهمتوارثوها عن آبائهم وأ

ال تكفي هذه احملاوالت لتبعثنا -ويف كل األحوال-أنه إالاحملاوالت ناجتة عن عداء للدولة اإلسالمية، وقد ال تكون كذلك، هل : والسؤال الذي جيب أن يسبق ذلك احلكم هو. فنيالء ليسوا سوى موظفهؤ. رت االدولة اإلسالمية تأث على القول بأن

روا ا؟استجاب اخللفاء املسلمون هلذه احملاوالت أو تأث

دارة والرسوم واملظاهر هم كانوا يف الوقت الذين يعتمدون فيه على الوزراء وغريهم يف جمال اإلتاريخ اخللفاء أثبت أن إنللفقهاء الذين بذلوا إاليلقون السمع، يف قضايا أنظمة احلكم واالقتصاد وغريها من قضايا التشريع، والتشريفات، كانوا ال

وحني حاول بعض هؤالء الكتاب إقحام مفاهيمهم عن . ٢طاقتهم لضبط مسار الدولة اإلسالمية وفق أحكام الشريعة اإلسالميةع نطاق نشاط الكتاب، وزاد وحني توس(. ٣ان الفقهاء يقفون هلم باملرصاداحلكم يف أذهان اخللفاء وحكام الدولة اإلسالمية ك

ة، ظهر الصراع علنية الساسانيى األخالقية وحتة واالجتماعيا بني تأثريهم على اخلالفة، ودافعوا بشكل واضح عن املثل السياسيعن املفاهيم واملثل اإلسالمية السياسية واالجتماعية وبني الذين دافعوا -الذين أطلق عليهم اسم الشعوبية- هؤالء الكتاب

ة، وانتهى الصراع بانتصار االتواألخالقي٤)جاه اإلسالمي.

وبقي ما أورده املؤرا لدى خاذ املظاهر والتشريفات والرسوم واألخون من ات زياء واملصطلحات اليت كان معموالالفضل أن(من " اجلهشياري"عن " أمحد أمني"، وكالذي ينقله "بروكلمان"ونقلناه عن مرباطورية الساسانية، كالذي سبق اإل

جمنح، ويحمل فيه إذا أراد الدخول على املأمون، فال يزال كان جيلس على كرسي -ذا الرياستني- بن سهل بن زادا نفروخ حتى يوضع بني يدي املأمون، شى، وحمل الكرسييحمل حتى تقع عني املأمون عليه، فإذا وقعت وضع الكرسي ونزل عنه فم

وزيرا من وزرائها كاسرة، فإنما ذهب ذو الرياستني يف ذلك إىل مذهب األوإن... م ذو الرياستني ويعود فيقعد عليهمث يسلحمل يف مثل هذا الكرسيه . )ى محله اثنا عشر رجال من أوالد امللوك، ويقعد بني أيديها عليه ويتولكان يوينقل عنه أيضا أن

)كان من رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كل طبقة ممن يف غري تلك الطبقة، فإذا وصل ن يف خدمتهم لبسة ال يلبسها أحد مموكانت ملوك ...فكان الكتاب يف احلضر يلبسون لبستهم املعهودة. الرجل إىل امللك عرف بلبسته صناعته والطبقة اليت هو فيها

.١٣١-١٣٠-١٢٩ص، م١٩٩٦الطبعة الرابعة ، دار األمة، بريوت، نظام احلكم يف اإلسالم، عبد القدمي زلوم: انظر -١ .٣٧١وكذلك ص ٢١٦حتى ٢٠٥من ص، ١ج، ضحى اإلسالم: انظر -٢ .١٠٠ص، نةتطور الفكر السياسي عند أهل السخري الدين يوجه سوي، : انظر -٣ .١٠١ص، املرجع السابق -٤

Page 87: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٧

وهناك العديد من النصوص اليت تصف دخول تلك املظاهر إىل الدولة . ١...)تسمي كتاب الرسائل ترامجة امللوك الفرسةالعباسي.

- سراف والبذخمنها ملا حتويه من عالمات الكربياء واإل وإن حتفظ اإلسالم على بعض-هذه األشياء واملظاهر والواقع أنال يصح ف يف خانة اهلويةأن تصنة احلضاري .وإنة اليت تظهر يف أيدولة تصل إىل درجة عالية ما هي من مظاهر الرفاهية واملدني

.حبضارة دون أخرى وال ختتص. من االزدهار واد والرخاء

.١٦٩ص، ١ج، ضحى اإلسالم -١

Page 88: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٨

:الباب الثاين

مؤثرات يف اتمع اإلسالمي

ومناذج ظواهر

Page 89: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٨٩

:توطئة

مت دليال على تأث كثريا رنا يف الصفحات املاضية أنلقد قرما من النماذج اليت قدبسائر احلضارات، إن تمع اإلسالمير اة والشواهد التارخيية اليت تنقض تلك دلر األة والرباهني التارخيية، فضال عن توفلدهي دعاو واهية تفتقر إىل أدىن مراتب األ

.الدعاوي وتسقطها

فلقد ظهرت يف اتمع اإلسالمي فعال بعض ظواهر . صف بقدر من الواقعيةاال، تتمسائل أخرى أثريت يف هذا أن إالوهناك تفاوت بني تلك الظواهر، من حيث مدى تأثريها يف ذلك اتمع ومبلغ مفارقتها . املؤثرات احلضارية والفكرية اخلارجية

.للحضارة اإلسالمية

حيان حلقت ا يف كثري من األحباث، ظاهرة علم الكالم، وأاستدعت الدراسات واألاليت أثارت جدال وأبرز تلك الظواهر دون النشأة اإلسالمية الصافية لتلك الظواهر، خني يؤكفبينما جند باحثني ومؤر. ظاهرة الفالسفة اإلسالميني، مث ظاهرة التصوف

ة الجند آخرين جيزمون بأنة للمؤثرات احلضاريها مناذج حيتمع اإلسالميأن جند سائر اآلراء . يت تغلغلت يف ا ومن الطبيعي .موقعا ما بني هذين املوقفني - على حنو متفاوت- تأخذ

فما هو الرأي الذي من شأن مقدة أن تقدال؟مات هذا البحث ومنهجه يف دراسة تاريخ احلضارة اإلسالميمه يف هذا ا

.البحثى من هذا ما سيجيب عليه ما تبق

Page 90: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٠

:الفصل األول علم الكالم

؟نشأة علم الكالم :أوالإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل (: يف علم الكالم" أبو حامد الغزايل"يقول اإلمام

.١)البدعة

على املبتدعة عقلية والردة الدلن احلجاج عن العقائد اإلميانية باألهو علم يتضم(": عبد الرمحن بن خلدون"ويقول .٢)املنحرفني يف االعتقادات عن مذاهب السلف الصاحل وأهل السنة

احلضارة اإلسالمية كلها إنما تقوم على أساس يكتسب أمهية كبرية يف هذا البحث من حيث إن" علم الكالم"موضوع إنللتعبري عن هذه العقيدة والدعوة إليها -بعد حني من ظهور اإلسالم- انربواعلماء الكالم ومبا أن. واحد، هو العقيدة اإلسالمية

يف البحث والتدليل على تلك العقيدة، وكان هلم دور يف تشكيل ثقافة والدفاع عنها أمام خصومهم، وكان هلم منهج خاصا ره مبإىل احلضارة اإلسالمية أو مدى تأثية مبكان الوقوف على علم الكالم، ملعرفة مدى انتمائه مهاتمع اإلسالمي، كان من األ

.سواها من احلضارات من جهة أخرى

كتني اثنتني ميتلكهما كل إنسان من حني نزل القرآن الكرمي على عرب اجلزيرة خاطبهم بالعقيدة اإلسالمية معتمدا على مل .الفطرة والعقل: ومها أالحيث هو إنسان،

أمة من شعور باحلاجة تعاىل يف ها ما غرزه اهللاا الفطرة، فإنالنفس البشريوهو الشعور الناشئ عن . رإىل اخلالق املدبلدى اإلنسان بالعجز والنقص والضعف، من حيث إن ا وسيخرج منها ه أتى إىل هذه احلياة وتوفاإلحساس الطبيعيرت له أسبا

يشرع يف البحث -حيانومن غري تفكري يف كثري من األ-يا اإلنسان تلقائ وبالتايل فإن. ة منهمن غري حول وال طول وال قون يلجأ إليه لسدذلك النقص والعجز لديه عم.

ةلذلك اعتمد القرآن، يف جمال اإلميان باهللا اخلالق املدبفالعديد من اآليات تلفت . ر سبحانه، على تلك الفطرة اإلنسانيقال تعاىل. االنتباه إىل ذلك الشعور الفطري :�ذ أإوذخ ربك من نبي آدم مظ نورههذ مريتهم أوشهدهم ى ألعهسفنم

.١٤ص، دون تاريخ ،مكتبة اجلندي، القاهرة ،املنقذ من الضالل، أبو حامد الغزايل -١ .٥٠٧ص، مقدمة ابن خلدون -٢

Page 91: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩١

يفا نح ينلدل كهجو مقأف�: وجل وقال عز. �١نيلافا غذه نا عنا كنإ امةيالق مووا يولقت نا أندهى شلوا بالق مكبرب تسلأطفطاليت ف اهللا ةرال رناس لعيها ال تبيلد لذ اهللا قلخلك الدالق ينيم لوكثكأ نر اسالن ال يلع�٢ونم.

هذه الفطرة غري ، إذ إنخطاب القرآن مل يقتصر يف جمال الدعوة إىل اإلميان باهللا على االعتماد على الفطرة ا العقل، فإنوأماتمع من د أنالعبادة، ر لة، فتلجأ إىل عبادة خملوقات ال تستحقطريقها حني تترعرع يف بيئة موبوءة ومضل العاقلة قد تضل

ةبها آهلة من دون اهللا ونسب إليها صفات األحوهلا نصفأبواه كل مولود يولد على الفطرة«: قال عليه الصالة والسالم. لوهي ،يهودانه أو ينصدة واأللذلك عمد اإلسالم إىل العقول املتبل. ٣»سانهرانه أو ميجرة، وراح يصعقها صعقة تلو ذهان املتحج

ا ذإو�: قال تعاىل. جدادعمى وتراث اآلباء واألاألخرى، لتقوم بالدور املنوط ا، والذي تنازلت عنه لصاحل اهلوى والتقليد األقل ليهم باتعا أوا منالق اهللا لزلوا ب نبتع فلا أمينلا عيآباء ها أنلوانك و آباؤهم ال يعونلق شيئا وال يهت�٤وند.

ر امللزمة، فال ينبغي أن يتجاهل أحد ما يف القرآن من ضروب االستدالل القائم على البحث عن العلل، على قواعد الفك(ومن التنبيه املستمر يف الكون، والتأم على النظر العقليف بعضها على بعض، ومن ر يف بناء العوامل وتوقل ملا فيه وعلى التدب

هلية وعن إشارات كونية ونفسية من شأا أن توصل بالضرورة العقلية إىل الغاية منه، وهي إنشاء وجهة نظر عن الذات اإل، هي تنبيه وإيقاظ للعقل لكي ينظر "تذكرة"الدعوة الدينية والقرآن يشري يف كثري من املواضع إىل أن. الكون واحلياةاإلنسان و

ر م املدبتقان والنظام والتدبري على املنظر، ومن اإليف الكون، ويؤمن مبوجده، على سبيل االستدالل العقلي من األثر على املؤثلاملتقن، وذلك بالتأم نإ�: هذه اآليات مثل. ي إليه ذلك من معارفيف الكون ويف اإلنسان وما يؤد فقلي خ السموات

األوضر واختالل الفلي والناره لالفوك اليت ترجب حري يف البما يفنع الناس ما أوناهللا لز مماءن الس مأف اءن ميا بحه موقل اتيآل ضرواأل ماءالس نيب رخسامل ابحالسو ياحالر يفرصتو ةابكل د نفيها م ثبا وهتوم دعب ضراأليع�٥ونلق ،�وي األفضر آيات للمنينوق � يف أوكسفنفأ مال تبص�٦ونر، �سرنهيم آياتاقفا يف اآلن يف أوهسفنى محتيتبيل نهه ال مأنأ حقلوم كيب فربك ه علأنى كل شءي أ�، �٧يدهشم لقخوا مغ نري شأ ءيم هاخل مأ � ونقالم وا قلخ

السموات األورض لب ال يوقأ�، �٨ونني اهللاف شك رفاط السمواأل واتوهكذا يف سائر موضوعات الفكر �٩ضر ، .١٠)واحلياة

.١٧٢اآلية ، سورة األعراف -١ .٣٠اآلية ، سورة الروم -٢ .١٣٨٥رقم احلديث ، كتاب اجلنائز، ٦١٦ص، ٣جملد ،اريفتح الباري بشرح صحيح البخ -٣ .١٧٠اآلية ، سورة البقرة -٤ .١٦٢اآلية ،سورة البقرة -٥ .٢١-٢٠يتان اآل ،سورة الذاريات -٦ .٥٣اآلية ،سورة فصلت -٧ .٣٦-٣٥يتان اآل ،سورة الطور -٨ .١١اآلية ،سورة إبراهيم -٩

حممـد عبـد . ق عليه دلنقله إىل العربية وع، دي بور. ج.ت، تاريخ الفلسفة يف اإلسالم: مأخوذ من هامش كتابالنص ،حممد عبد اهلادي أبو ريدة -١٠ .٧٠-٦٩ص، ١٩٨١الطبعة اخلامسة ،بريوت دار النهضة العربية، ،اهلادي أبو ريدة

Page 92: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٢

واملالحظ يف تلك اآليات اليت ختاطب العقل وحتكمه يف جمال اإلميان باهللا تعاىل خالقا مدبها ال تعتمد أيشكل من را ، أنأشكال املنهج املنطقيبأي صلة إىل منط ال ، وال متتبحث الفلسفي .ة وإنما هي تعتمد ما لدى اإلنسان من بديهيات عقلي

ة من الواقع احملسوس، دون اإلمستمدةغراق يف املقدة واالفتراضات املنطقية والتالزمات الذهنيمات النظري.

أعلى مثل للشخصية على هذا النحو صيغت عقلية جيل الصحابة وطريقته يف التفكري يف العقيدة، وهو اجليل الذي ضرب .١»خري الناس قرين«: اإلسالمية واتمع اإلسالمي، كما قال عليه الصالة والسالم

ون هذه العقائد ببساطة وصفاء، دون أن تثري لديهم صفاء أذهان عرب اجلزيرة جعلهم يتلق وعالوة على ذلك، فإن، دون اخلوض يف � ردت يف القرآن وعلى لسان الرسولفقد آمنوا بصفات اهللا تعاىل كما و. مشاكل افتراضية ونظرية

، حبيث زادت من بل تعاطوا مع هذه العقائد يف اجلانب العملي. تفاصيلها، ودون التساؤل عن كنهها وكنه ذات اهللا تعاىلم باهللا تعاىل وثقتهم به وتوكلهم عليه وخشيتهم منه، والتضرمومراقبته يف مجيع سلوكهم وحيع إليه إمياا.

س لدى اوضاع ما غير ذلك املنهج يف فهم العقيدة ومحلها إىل النمسار الدعوة اإلسالمية جلب من الظروف واأل أن إال .فيهمفريق من علماء املسلمني ومثق

عرب ت إىل دار اإلسالم بالدا ذات حضارات وثقافات وأديان وعقائد عريقة، ضاربة جبذورها عميقا الفتوح ضم ذلك أنى والصراع الفكري اليت ال يتأت ايففأوجب ذلك، بطبيعة احلال ووفق توجيهات اإلسالم، فتح جبهات االحتكاك الثق. التاريخ

وكان من الطبيعي أن يستنفر صناديد تلك الثقافات واألديان كل قواهم الفكرية واملعرفية . محل رسالة اإلسالم مبعزل عنهاة، أمهها وكان هؤالء أتباع ديانات عد. ام اليت ورثوها عن أجيال مضتام وخصوصيذب عن هويواللسانية حماولني ال

حت بأنواع الفلسفة، وكانت معظم تلك الديانات قد تسل. اليهودية وغريهاواملانوية والزرادشتية والربامهية والدهرية والنصرانية .حتا بالفلسفة اليونانية بالدرجة األوىلتسل وال سيما اليهودية والنصرانية، اللتني

ومل يكن يتسنحاطة بالفرق تهم، فدفعهم ذلك إىل اإلالع على أقواهلم وأدلبعد االط إالعلى هؤالء، ى لعلماء املسلمني الرد ويتجادل فيها، وال شكفأصبحت البالد اإلسالمية ساحة تعرض فيها كل اآلراء وكل الديانات (جنبية وأقواهلا وحججها، األ. ٢)عنده من قول خمالفه خذ مبا صحل، وحتمل كل فريق على األاجلدل يستدعي النظر والتفكري، ويثري مسائل تستدعي التأم أن

ن دخلوا يف اإلسالم بعد الفتح كانوا أتباع تلك الديانات املختلفة، وكانوا قد نشأوا على كثريا مم أن(أضف إىل ذلك . ٢)خمالفهت وا وهدأت نفوسهم، واستقرا اطمأن، فلمن أسلم علماء يف هذه الدياناتوا عليها، وكان ممهذه الديانات وشب على تعاليم

رون يف تعاليم دينهم القدمي، ويثريون مسائل من مسائله، ويلبسوا لباس أخذوا يفك -وهو اإلسالم-على الدين اجلديد .٣)اإلسالم

. ٦٤٢٩رقم احلديث ، كتاب الرقاق، ٢٢ص، ١٣جملد ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري -١ .٨، ص٣ج ،ضحى اإلسالم -٢ .٧ص، ٣ج، املرجع السابق -٣

Page 93: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٣

آخر العصر األموي والعصر العباسي تواردت على العقل العريب الفلسفة اهلندية يف(": حممد أبو زهرة"يقول اإلمام الثقافة الفارسية قبيل اإلسالم كانت والفلسفة اليونانية، وقد جاءت إىل املسلمني أرسال الفلسفة اليونانية عن طريق الفرس، ألن

ومسوحهم هم ورثوا الفلسفة اليونانية وألبسوها لبوسهم الديينن، ألرة بالفلسفة اليونانية، كما جاءت عن طريق السريانمتأث .١)بعض املوايل من املسلمني كان جييد اليونانية الالهوتية وعن طريق اليونانية أنفسهم ألن

ل هؤالء كان وقد ابتدأت يف هذا العصر اآلراء الفلسفية تنتشر بني املسلمني باختالطهم بالفرس واليونان والرومان، وك(ا جاء اإلسالم ومل ...للعلوم الفلسفية عندهم منـزلة كبرية، وكان بالعراق مدارس فلسفية، كما كان بفارس قبل اإلسالم مثلها

ها من جييدون العلوم الفلسفية ومنهم من كان يعلم املسلمني مبادئها، وكان للسريان العمل صقاع وجد من سكانيف تلك األ ...ر يف ذلكالبارز الظاه

وإنة كثرية، حول العقيدة، فتكلم بعض العلماء يف كون صفات اهللا ه بدخول هذه الفلسفات املختلفة وجدت حبوث فلسفيوهكذا . تعاىل املذكورة يف القرآن غري الذات، أم هي والذات شيء واحد، وهل الكالم صفة اهللا تعاىل، وهل القرآن خملوق

د اإلنسان فاعال خمتارا جه إىل إرادة اإلنسان، أيعع الكالم يف القدر واتى فيها اخلالف، مث جتمتكاثرت املوضوعات اليت جرفيما يفعل كالريشة يف مهب عدقادرا على ما يفعل أم ي الريح، ليس هلا إرادة حترهها التوجيه الذي تبتغيه، وبذلك كها وتوج

صاحل للدراسة اعة من العلماء جمموعة من اآلراء العلمية جعلتها ذات مذهب علميتسلسلت األفكار واآلراء وصار لكل مجةنت املذاهب االوالفحص وجيري اجلدل فيه وحوله وبذلك تكوة هي اليت بدأت مالوهذه املذاهب ا. ٢)عتقادينذ ذلك عتقادي

."بعلم الكالم"العصر تعرف

املذاهب الكالمية :ثانيا : مواجهة الزندقةاملعتزلة يف - أ

س ه مؤسالذي اشتهر بأن ٣"واصل بن عطاء"وهم ينسبون إىل .ل من أطلق عليه اسم علماء الكالم هم علماء املعتزلةأو إنون من رجال فيعد مذهبهم أقدم يف نشأته من واصل، يرون أن(املعتزلة يف كتبهم بل إن .١"عمرو بن عبيد"املذهب مع صاحبه

.٢)ريين من آل البيتمذهبهم كث

.١٣١-١٣٠ص، ١٩٨٩ ،دار الفكر العريب، بريوت ،تاريخ املذاهب اإلسالمية، حممد أبو زهرة -١ .١٠٣ص ،املرجع السابق -٢ )هـ١٣١-٨٠( واصل بن عطاء - ٣

وهو الذي نشر .أصحابه باملعتزلة العتزاله حلقة درس احلسن البصري مسي .تكلمنية البلغاء واملرأس املعتزلة ومن أئم .أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال،ـ .وضرب به املثل يف ذلك ب الراء يف خطابه،فتجن وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا، .ونشأ بالبصرة ولد باملدينة، .اآلفاقيف " االعتزال" مذهب ن وكان مم

طبقات أهـل "و" معاين القرآن"و" املرتلة بني املرتلتني"و" أصناف املرجئة"منها له تصانيف،". أهل اجلور"قيامه على بن احلسن يف عبد اهللابايع حملمد بن )للزركلي األعالم". (التوبة"و" السبيل إىل معرفة احلق"و" العلم واجلهل

Page 94: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٤

بسبب النشاط الذي أظهروه يف مقارعة أهل األديان والفلسفات إالاملعتزلة مل يذع صيتهم ويعل شأم د أنكؤامل أن إال مالثنويني أ أم -مبا فيهم صناديد الفلسفة اليونانية- لوا يف اليهود والنصارىسواء متث .واملذاهب املعادية لإلسالم وحضارته

بسبب التأييد ل هو العصر الذهيب بالنسبة للمعتزلة،وكان العصر العباسي األو .غريهم من زنادقة اتمع اإلسالمي ماملزدكيني أويف طليعتهم املأمون، عوا به من بعض اخللفاء العباسيني،الذي متت ري مستعينا بأشهر مفك- خريها هذا األوبسبب احلملة اليت شن .هواء والبدععلى الزنادقة وأهل األ - املعتزلة

ورؤوسهم ممتلئة دخل اإلسالم طوائف من اوس واليهود والنصارى وغري هؤالء وأولئك،( ":أبو زهرة"يقول اإلمام ا خوفا ورهبة،إم :ومنهم من كان يظهر اإلسالم،ويبطن غريه بكل ما يف هذه األديان من تعاليم جرت يف نفوسهم جمرى الدم،

كهم وقد أخذ ذلك الفريق ينشر بني املسلمني ما يشك وتضليل املسلمني، ،واإلفسادا بقصد الفساد وإم ،جاء نفع دنيويأو ر ،"مةاس"فظهرت وظهر مثار غرسهم يف فرق هادمة لإلسالم حتمل امسه ظاهرا وهي معاول هدمه يف احلقيقة،، يف عقائدهم

ى للدفاع عن اإلسالم أمام هؤالء فرقة درست وقد تصد ".الزنادقة"و ة،ئمجسم بعض األيف اإللهاليت تقول حبلول "الرافضة"و .)...( وا للدفاع عن الدينجترد فكانت املعتزلة، املعقول وفهمت املنقول،

لى الزنادقة،والزندقة كما أشرنا وجد خلفاؤها يف املعتزلة سيفا مسلوال ع اإلحلادسيل اسية وقد طما جاءت الدولة العبوملجهم،مل يفلوه بل شج عوهم على االستمرار يف وقد كان يعترب نفسه من علماء املعتزلة- ا جاء املأمونفلم- م شايعهم وقر

.٣)...وجعل منهم حجابه ووزراءه وأدناهم،

فمن هم الزنادقة؟

فقد . أناسا يقصدوم بصفات معينه معىن واحد متفق عليه بني من يستخدمها ويرمون ا" زنديق"مل يكن لعبارة إال أن ما جيمع هذه املعاين العديدة هو أنها ترمز يف كل احلاالت إىل أشخاص . استخدمت للداللة على معان عدة خمتلفة

.خالفوا الدين اإلسالمي كليا أو جزئيا

وقال ٤.)زنادقة، وقد تزندق، واالسم الزندقةالزنديق من الثنوية، وهو فارسي معرب، ومجعه (": الصحاح"قال صاحب ونقل عن . )زندكر، أي يقول بدوام بقاء الدهر: القائل ببقاء الدهر، فارسي معرب، وهو بالفارسية: الزنديق(ابن منظور

)هـ١٤٤-٨٠( عمرو بن عبيد - ١اشتهر عمـرو بعلمـه وزهـده . اد املشهورينيها، وأحد الزهفتوم شيخ املعتزلة يف عصره،: ريي بالوالء، أبو عثمان البصيمعمرو بن عبيد بن باب التم ".على القدرية الرد"و" التفسري"منها له رسائل وخطب وكتب،. »غري عمرو بن عبيد كلكم طالب صيد،« وفيه قال املنصور .وأخباره مع املنصور وغريه

) الزركلي( .ويف العلماء من يراه مبتدعا .سواه ن دونه،ومل يسمع خبليفة رثى م ورثاه املنصور،) بقرب مكة( تويف مبران .١٢٤ص، تاريخ املذاهب اإلسالمية -٢ .١٣٢-١٣١ص، املرجع السابق -٣ .حممد بن أيب بكر الرازي، خمتار الصحاح، مادة زندق -٤

Page 95: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٥

وأما الزندقة املطلقة، (": أبو حامد الغزايل"وقال . ١)الزنديق معروف وزندقته أنه ال يؤمن باآلخرة ووحدانية اخلالق(: التهذيب .٢)فهو أن تنكر الصانع للعامل أصال ورأسا

وهكذا نرى أن معىن الزندقة يتراوح بني اإلحلاد وإنكار اليوم اآلخر وبني أن يكون مذهبا من مذاهب الثنوية، وهم ة(": حالصحا"وهذا واضح من كالم صاحب . القائلون بوجود إهلني اثنني، إله اخلري وإله الشرالزنديق من الثنوي(.

ففي العصر العباسي األول . إال أنه يبدو للمتتبع أن إطالق الزندقة على اإلحلاد وإنكار اليوم اآلخر إنما أتى يف وقت متأخرح أن العبارة وصحي. تتردد كلمة الزندقة لتشري يف الغالب إىل أهل املذاهب الثنوية اليت كانت تنتشر بني الفرس قبل اإلسالم

التفوه بالرفث والفسوق أطلقت بعض األحيان على اان الذين عاقروا اخلمور وعقدوا جمالس الفجور ودفعهم السكر إىل إال أنه حني يتكلم املؤرخون عن مالحقة اخللفاء للزنادقة والتنكيل م مستعينني بأهل الكالم، فإم يعنون م ، ٣واخلالعة

يت كانت تنتشر يف البالد الفارسية قبل اإلسالم، واليت حاولت أن تطل برأسها بني الفينة واألخرى يف اتمع املذاهب الاإلسالمي.

يف " املهدي"وأفضل تعبري يدلنا على ماهية الزنادقة الذين الحقهم اخللفاء العباسيون هو تعبري واحد منهم، وهو اخلليفة وقد قدم إليه زنديق - أن املهدي قال ملوسى يوما(: فيحدثنا الطربي". اهلادي"خلليفة من بعده وصيته البنه موسى، أي ا

-يعين أصحاب ماين-يا بين، إن صار لك هذا األمر فتجرد هلذه العصابة -فاستتابه فأىب أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبهواحش والزهد يف الدنيا والعمل لآلخرة، مث خترجها اىل حترمي اللحم ومس فإنها فرقة تدعو الناس إىل ظاهر حسن، كاجتناب الف

الظلمة، مث تبيح بعد هذا خرواآلأحدمها النور : املاء الطهور وترك قتل اهلوام حترجا وحتوبا، مث خترجها من هذه إىل عبادة اثننيق، لتنقذهم من ضالل الظلمة إىل هداية النور، فارفع فيها نكاح األخوات والبنات واالغتسال بالبول وسرقة األطفال من الطر

٤.)اخلشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إىل اهللا ال شريك له

وظاهر من كالم املهدي والعديد من النصوص التارخيية أن هؤالء الزنادقة إنما كانوا يظهرون اإلسالم نفاقا بينما هم يف إذ لو كانوا يعلنون البقاء على دين . وهذا ما يفسر تنكيل اخللفاء م. اين أو غريه من الفرق الثنويةسرائرهم يعتنقون ديانة م

آبائهم، أي اوسية، ملا فتنهم اخللفاء عن دينهم، إذ املعروف أن املسلمني مل يكرهوا اوس على اعتناق اإلسالم، كدأم مع .اليهود والنصارى

الذين يظهرون اإلسالم (حيدثنا عن مجلة من أمساء الزنادقة يف دولة بين العباس ورؤسائهم املتكلمني "ابن الندمي"وها هو ولكنه ،٦)وكان حممد بن عبيد اهللا كاتب املهدي زنديقا، واعترف بذلك فقتله املهدي(: ومما يقوله مثال ٥.)ويبطنون الزندقة

.ابن منظور، لسان العرب، مادة زندق -١ .٨٨ت، ص.، دار الكتب العلمية، بريوت، د)ضمن جمموعة رسائل اإلمام الغزايل(لقسطاس املستقيم أبو حامد الغزايل، ا -٤ .وما بعدها ١٤٦، ص١ضحى اإلسالم، ج: انظر -٣

.٦١٢، ص٤م، جملد٢٠٠١ابن جرير الطربي، تاريخ األمم وامللوك، دار الكتب العلمية، بريوت، ٤- .٥٢٢ابن الندمي، الفهرست، ص ٥- .٥٢٢ملصدر السابق، صا ٦-

Page 96: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٦

فقال له ، ]أي أسقطوا حجته[فقطعه املتكلمون ( ، بعد أن أمنه"يزدان خبت"سائهم، وهو حيدثنا أيضا أن املأمون أحضر أحد رؤنصيحتك يا أمري ، فقال يزدان خبت. لكان لنا ولك شأن، فلوال ما أعطيناك إياه من األمان، أسلم يا يزدان خبت: املأمون

١.)فقال املأمون أجل، ترك مذاهبهمولكنك ممن ال يجبر الناس على ، وقولك مقبول، املؤمنني مسموعة

ويلخص اإلمام . وإنما كانت هلا أبعاد سياسية خطرية، وخالصة الكالم أن ظاهرة الزندقة مل تكن ذات بعد ديين وحسب أرادت ا بني اجلماعات الفارسية اليتاإلسالمية سرسرت يف الشرق من الديار (حممد أبو زهرة ظاهرة الزندقة هذه بأنها حركة

،اد امللك الفارسية، األصناموبني عبة يف داخل الدولة اإلسالميوتضافرت اجلهود يف الشرق الذين أرادوا إحياء مبادئهم الدينيا إلطفاء نوره،من بقايا هذه الدول اليت قوض اإلسالم أركا إالفلم يبق ة،وقد عجزوا عن إعادة ملكهم القدمي عن طريق القو

" ماين"فالفرس عملوا على نشر مبادئ .وإحياء الديانات القدمية ونشرها بينهم ته يف قلوب أهله،ملوا على إضعاف قوأن يعة وربة ومبادئ جموسية، ونشر آراء اجلامعة بني مبادئ مسيحية،" زرادشت"ما بعض آراء هنديوسيودعت إىل اليت نظمت ا

ريمها،وغ" مرقيون"و" ديصان"ة ومبادئ القو ة "مزدك"جهوا إىل إحياء مبادئ واتوالنساء األموالاليت كانت ترمي إىل شيوعيا بشيء قطوال يكون أحد خمتص، ة كما خروقد .ب املذهب ديار فارس عندما انتشر فيهاأرادوا بذلك ختريب الدولة اإلسالمي

ها وقاوم تفكريه باادلة توال فقاومه بالسيف، عصر املأمون،وقد ظهر يف يدعو إىل هذا املذهب وينشره،" بابك اخلرمي"ظهر وغريهم من كبار املعتزلة الذين كان هلم " أمحد بن أيب دؤاد"و" اتحممد بن عبد امللك الزي"هو ومعه أصحابه من املعتزلة أمثال

.٢)وغريهم" اجلاحظ"و" جعفر بن بشر"و" بشر بن املعتمر"أو مل يكن هلم سلطان أمثال سلطان يف الدولة،

:قضايا املعتزلة -بظا كبريا على رغم البالء الذي أظهره املعتزلة يف مواجهة الزنادقة،مل حيظوا بتأييد الفقهاء واحملدثني الذين أظهروا حتف

حملدثني الغارة على املعتزلة، بعض الفقهاء وا فقد شن .القضايا اليت أثاروها واملنهج الذي ساروا عليه يف دراسة العقيدة اإلسالمية)ان وإنوابن حنبل يذم ثني تشنيعا على املعتزلة كلما الحت هلم بارقة،وإذا مسعت الشافعيك لترى يف جمادالت الفقهاء واحملد

.٣)هماما املعتزلة وطريقتهم أرادوا بذمومن يأخذ العلم على طريقة املتكلمني،فإن علم الكالم،

رضة من فقهاء املسلمني حتى القوا تلك املعا اليت أثاروها واآلراء اليت أدلوا ا واملنهج الذي ساروا عليه،فما هي املسائل !؟وحمدثيهم

لقد انربى املعتزلة منذ نشأم لإلدالء برأيهم يف القضايا اليت ثارت عقب استقرار الفتوحات يف البالد، فكانت هلم آراء .يف اتمع من القبول أو الرفض من الفقهاء واحملدثني والرأي العاممتفاوتة من حيث ما لقيته

. ٥٢٢املصدر السابق، ص ١- .١٤٤-١٤٣ص، املرجع السابق -٢ .١٣٣ص ،املرجع السابق -٣

Page 97: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٧

وعد والوعيد، واملرتلة وال والعدل، التوحيد،: املعتزلة مجيع آراء مذهبهم إىل أصول مخسة حتمل العناوين التاليةأرجع وقد وا ا بوضوح عن غريهم وأثارت غضب سائر العلماء زياملسائل اليت مت أن إال .١واألمر باملعروف والنهي عن املنكر لتني،بني املرت .املرتلة بني املرتلتني: مث بدرجة أقل التوحيد والعدل،: هي تلك اليت تنضوي حتت عناوين عليهم،

أبو زهرة"كما يقول اإلمام - ا التوحيد، فهوأم"- )مذهبهم وأ لبوهو أوسع من املعىن املوجود لدى مجيع .٢)حنلتهم سعة هذا التوحيد جيب أن يستتبع جمموعة من االعتقادات املتفر فقد رأى املعتزلة أن ."اهللا إالأن ال إله "ل بشهادة سلمني واملتمثامل

سيل� :انسجاما مع قوله تعاىل عن صفات املخلوقات كلها، اإلهليةبنوا آراءهم يف ترتيه الذات ،"التوحيد"فعلى أصل .عنهفبنوا على هذا األصل ( .األزلد تلك الذات أو وجود شيء آخر معها منذ صفة توحي بتعد وكذلك عن أي ،�٣ءيش هلثمك

الصفات ليست شيئا غري كما بنوا عليه أن ، القتضاء ذلك اجلسمية واجلهة،القيامةاستحالة رؤية اهللا سبحانه وتعاىل يوم ملنع القرآن خملوق هللا سبحانه وتعاىل وليس صفة من صفاته، ا على ذلك أيضا أنوبنو د القدماء يف نظرهم،تعد الإو الذات،

٤)ولنفي كثريين منهم صفة الكالم عن اهللا تعاىل د القدماء،تعد.

وفق ما أورده ا العدل لديهم،وأم"فهو أن( "مروج الذهب"يف " املسعودي بل وال خيلق أفعال العباد، الفساد، اهللا ال حيب يله ووأن ا كره،عم إالومل ينه مبا أراد، إاله مل يأمر وأن بها فيهم،بالقدرة اليت جعلها اهللا هلم ورك ون ما أمروا به ووا عنه،يفعل

أحدا ال مل يكلفهم ما ال يطيقونه، وال أراد منهم ما ال يقدرون عليه، وأن ئة ى عنها،بريء من كل سي كل حسنة أمر ا،اها، وهو املالك هلا دوم، يفنيها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء، ولو شاء اهللا بقدرة اهللا اليت أعطاهم إي إال وبسط على قبضيقدر

ه ال يفعل، ا عن معصيته،جلرب اخللق على طاعته، ومنعهم اضطراريإذ كان يف ذلك رفع للمحنة، ولكان على ذلك قادرا، غري أن .٥)وإزالة للبلوى

فعدوا العقاب على ذلك ظلما، إذ ال معىن ألمر العبد يف أفعاله غري خمتار، وا ذا األصل على اجلربية الذين قالوا إند ردوقإىل خمالفته، الشخص بأمر هو مضطر يه عن أمر هو مضطرإىل فعله و.

الشهرستاين"وقد أوضح .يف مرتلة بني املؤمن والكافراملسلم املرتكب للكبرية هو فهي القول بأن ا املرتلة بني املرتلتني،وأم "ي املرء اإلميان عبارة عن خصال خري إذا اجتمعت سم إن(: أنه قال" واصل بن عطاء"رأي املعتزلة يف هذه املسألة فيما نسبه إىل

، وليس هو بكافر مطلقا أيضا،ى مؤمنافال يسم املدح، والفاسق مل يستجمع خصال اخلري وال استحق .اسم مديح ومؤمنا وه .٦...)الشهادة وسائر أعمال اخلري موجودة فيه، ال وجه إلنكارها ألن

.١٢٦ص ،املرجع السابق: انظر -١ .١٢٦ص، املرجع السابق -٢ .١١اآلية ، سورة الشورى -٣ .١٢٧ص ، املرجع السابق -٤ـ ١٣٨٦دار التحرير، القاهرة ،الدين عبد احلميد يحتقيق حممد حمي ،ومعادن اجلوهرمروج الذهب ، أبو احلسن علي بن احلسني املسعودي -٥ ، م١٩٦٦ /هـ

.١٤٧ص، ٢ج .٤٨، ص١ج ،دون تاريخ ،دار املعرفة، بريوت ،د كيالينحتقيق حممد سي ،امللل والنحل ،حممد بن عبد الكرمي الشهرستاين -٦

Page 98: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٨

وكانت كثري من آرائهم مبنية على أحباث يف استدالهلم على العقائد، يكثرون من االعتماد على العقل، وقد كان املعتزلة،راحوا ينشؤون آراءهم يف -وال سيما القرآن الكرمي- سة من نصوص الوحيوا أصول مذهبهم اخلمهم بعد أن استمدفإن .عقلية

ا متوافقا مع هذه القضاياسائر القضايا إنشاء عقلي. م إىل إنكار العديد من األوهذا املنهج أد ىها حاديث الشريفة حبجة أن -أو يتعارض ظاهرها- ضتتعاراليت واألحاديثمن اآليات ى م إىل تأويل الكثري كما أد .وهاالقرآنية اليت تبن األصولختالف

.مع آرائهم العقلية

ذايت األفعالبح يف سن والقاحل روا أنولقد ظهرت مبالغتهم يف حتكيم العقل حني قر وبالتايل ميكن إدراكه .اوليس اعتباريأو أمر وحني أباح أفعاال ،مها ملا فيها من قبح ذايتإنما حر ،األفعالم بعض اهللا تعاىل حني حر وأن ل ورود الشرع،بوق بالعقل، ١.ما فعل ذلك ملا فيها من حسن ذايتفإن ببعضها،

مبا أثاره من مسائل وأدىل به من آراء وبنهجه اجلديد الذي أتى به وبإنكاره لبعض النصوص مذهب املعتزلة هذا، إن .فراحوا يذمون الكالم وأهله ثني،ائر العلماء من فقهاء وحمدهو الذي أثار حفيظة س وتأويل الكثري منها،

املواجهة بني الفريقني مل تكن لتستعر على النحو الذي شهده العصر العباسي لوال قيام رؤوس املعتزلة الكبار مبحاولة أن إالعوا به منذ عهد اخلليفة النفوذ الذي متت مستغلني ة،بالقو -تهمعلمائهم وعام-فرض آرائهم واجتهادام على سائر املسلمني

.املأمون

:املعتزلة يف مواجهة اتمع - جبرأي ،)هـ٢١٨( من حياته األخريالتفت املأمون يف العام خطر الزنادقة وامللحدين احنسر إىل حد كبري، بعد أن بدا أن

ثون يرفضون كثريا من مقوالت حيث الفقهاء واحملد ة الداخلية،إىل الساح ٢"أمحد بن أيب دؤاد" وتدبري من وزيره وكاتبه املعتزيل .فأجابه بعضهم إىل رغبته تقية ورهبا ال إميانا واعتقادا القرآن خملوق، لقد حاول أن حيمل الفقهاء على القول بأن( .املعتزلةواست .والسجن الطويل ومل يقولوا غري ما يعتقدون واإلرهاقل آخرون العنت وحتمت تلك الفتنة طول مدة املعتصم والواثق،مر

.٤٥ص ،١ج، امللل والنحل: انظر -١ )هـ٢٤٠-١٦٠( يب دؤادأمحد بن أ -٢

إذا : وفيه يقـول املـأمون . أحد القضاة املشهورين من املعتزلة، ورأس فتنة القول خبلق القرآن: أبو عبد اهللا ،اإلياديأمحد بن أيب دؤاد بن جرير بن مالك ال يف صل أوات .للخري احمب وكان شديد الدهاء، .دؤادأيب نأكرم من كان يف دولة بين العباس الربامكة مث اب: وكان يقال. استجلس الناس فاضال فمثل أمحد

ا مات املعتصم اعتمد الواثق على رأيـه ومل .فجعله قاضي قضاته، وجعل يستشريه يف أمور الدولة كلها ا قرب موته أوصى به أخاه املعتصم،املأمون، فلم .كان جهيما بغيضا، محل : قال الذهيب .ي مفلوجا ببغدادوتوف هـ،٢٣٣ل خالفته سنة أو ل، ففلج ابن أيب دؤاد يفى املتوكوتول. ومات الواثق راضيا عنه

)ليللزرك األعالم( .عليه األلسنةاخللفاء على امتحان الناس خبلق القرآن، ولوال ذلك الجتمعت

Page 99: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

٩٩

ل رفع هذه احملنة، ا جاء املتوكومل .كرأي املعتزلة) رؤية اهللا(على نفي الرؤية اإلكراهوزاد الواثق وذلك لوصية املأمون بذلك، .١)ة راضيةه اضطهد املعتزلة ومل ينظر إليهم نظربل إن واآلراء جتري يف جماريها، تأخذ سريها، األموروترك

لقد كانت تلك احلقبة اليت حاول خالهلا املعتزلة فرض آرائهم على سائر املسلمني مؤشة العرف العامالذي را على هويتمعآنذاك، ساد ا ا مجهور املسلمني وكان هلا التأثري حبيث ظهرت مراكز االستقطاب اليت تعل اإلسالمي عليه، األقوىق

عامة "ى ذلك يف نقمة املأمون من وقد جتل .ل يف املدارس الفقهية واحملدثني من علماء املسلمنيتتمث راكز بال شكفكانت هذه املا ورد يف رسالته إىل واليه على بغداد فمم .قني مبوقف الفقهاء واحملدثنيوبقوا متعل لوا القول خبلق القرآن،هم مل يتقبأن" املسلمني

- من حشو الرعية وسفلة العامة والسواد األكرب األعظماجلمهور وقد عرف أمري املؤمنني أن(: امتحان القضاةاليت يأمره فيها بة وال استدالل له بداللة اهللا وهدايته، واالستضاءة بنور العلم وبرهانه،ممأهل -واآلفاق األقطاريف مجيع ن ال نظر له وال روي

هم ساووا بني وذلك أن( :ر حكمه هذا عليهم بقولهمث يرب ،)يقة دينه وتوحيده واإلميان بهجهالة باهللا وعمى عنه وضاللة عن حقل مل خيلقه اهللا وحيدثه وعلى أنه قدمي أ فقوا غري متعامجني،وات فأطبقوا جمتمعني، اهللا تبارك وتعاىل وما أنزل من القرآن،

.٢)وخيترعه

أمام حمنة املأمون وخليفتيه األبطالوقفة ٣"أمحد بن حنبل"دثني حني وقف اإلمام ق عامة الناس يف اتمع باحملكما ظهر تعلمن الناس مشدودة إليه تتابع ما األلوففكانت أنظار مئات .ل ما ناله من السجن والتعذيب والتهديد بالقتلوحتم من بعده،

لة على مدى نفوذ كل من الفريقني يف اتمع وتأثريه دال وميكن أن نذكر حادثتني متوازيتني، .يصدر عنه من قول باهتمام بالغ، )قولوا ألهل البدع بيننا وبينكم اجلنائز حني متر(: الذي كان يقول" أمحد بن حنبل"ومها جنازة كل من اإلمام أال .عليه

."أمحد بن أيب دؤاد املعتزيل"و

وقد كانت وفاته يوم اجلمعة حني مضى منه (": ابن حنبل"مام ة جنازة اإل، حيكي قص"ةيالبداية والنها"يف " ابن كثري"روى وخرج الناس ) ...(وحضر غسله حنو مائة من بيت اخلالفة من بين هاشم ) ...(فاجتمع الناس يف الشوارع حنو من ساعتني،

بعد صالة العصر، إال -محه اهللار- يف قربه ومل يستقر) ...(اهللا إالبنعشه واخلالئق حوله من الرجال والنساء ما مل يعلم عددهم فوجدوا ألف ألف وثالمثائة ألف، ويف رواية (أمري البلد أمر بإحصاء الذين خرجوا للتشييع وي أنوقد ر .٤)خللقاوذلك لكثرة

.٥)وسبعمائة ألف سوى من كان يف السفن

.١٣٣-١٣٢ص، تاريخ املذاهب اإلسالمية -١ .١٨٦ص ،٥، م٢٠٠١، ، بريوتدار الكتب العلمية ،تاريخ األمم وامللوك ،حممد بن جرير الطربي -٢ )هـ٢٤١-١٦٤( اإلمام أمحد بن حنبل -٣

وسـافر يف ا على طلب العلم،فنشأ منكب ولد ببغداد، .األربعة األئمةوأحد إمام املذهب احلنبلي،: الشيباين الوائلي أبو عبد اهللا، ،لأمحد بن حممد بن حنبويف أيامه دعا املأمون إىل القول خبلـق القـرآن . وله كتب عديدة. دات، حيتوي على ثالثني ألف حديثة جمليف ست" سندامل"ف صن .سبيله أسفارا كبرية

ومل يصبه شر .هـ٢٢٠وأطلق سنة . ى املعتصم فسجن ابن حنبل مثانية وعشرين شهرا إلقناعه عن القول خبلق القرآنومات قبل أن يناظر ابن حنبل، وتول إالي أحـدا ة ال يـول ل بن املعتصم أكرم اإلمام أمحد بن حنبل وقدمه، ومكث مـد ي الواثق وويل أخوه املتوكتوف اومل ،الواثق باهللا بعد املعتصميف زمن )ليالزرك( .لمه عند املتوكي اإلمام وهو على تقدوتوف مبشورته،

.٣٤٢ص، ١٠ج، م١٩٨٤ /هـ١٤٠٤ الطبعة اخلامسة ،املعارف، بريوتمكتبة ،البداية والنهاية، أبو الفداء إمساعيل بن كثري -٤ .٣٤٢ص، ١٠ج، املصدر السابق -٥

Page 100: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٠

قليل من إالعه ا مات ما شيومل لتفت إليه،ومل ي مل حيتفل أحد مبوته، -وهو قاضي قضاة الدنيا- أمحد بن أيب دؤاد(بينما .١)أعوان السلطان

بسبب ما خسروه من النفوذ الذي كان هلم ل من القرن الثالث اهلجري،منذ النصف األو باألفولوهكذا بدأ جنم املعتزلة ائهم ومسائلهم اليت ي العلماء هلم وآلروبسبب تصد وبعد عجزهم عن نيل القبول يف اتمع، لدى السلطة احلاكمة،

وأصبح القول أخذ مصباح املعتزلة خيبو شيئا فشيئا إىل أن انطفأ،(يتباهى باعتزاله ويفتخر به فبعد أن كان املعتزيل .استحدثوها٢)ا بعد أن كان جهراباالعتزال سر.

ن احلجاج عن علم يتضم(الم من حيث هو علم الك ويبدو أن .علم الكالم يأىب أن يأفل جنمه مع أفول جنم املعتزلة أن إاليها ي حاجة ال يلبمن علماء املسلمني يلب فريقأضحى يف نظر ،٣)على املبتدعة املنحرفني العقلية والرد باألدلةالعقائد اإلميانية

اإلسالمية خارج جزيرة منذ استقرار الفتوح- ي للعقائد اليت حاولتن يقوم بالتصدمم إذ ال بد .نشاط احملدثني والفقهاءوأن ختترق أذهان املسلمني، من حيث ال يدرون أن تقتحم على الثقافة اإلسالمية مداخلها وجوانبها وأسوارها العالية، -العرب

.األحيانيف كثري من

ني احلائرين فه عني انبجست لتروي ظمأ كان يشعر به كثري من املثقوكأن" األشعري أيب احلسن"من هنا بدا ظهور مذهب تمع اإلسالمييف ا. ط بكثري من نصوص - فيما يطيق وفيما ال يطيق- يطلق العنان للعقل إذ احتاروا بني منهج عقليويفر

ته على حنو رائع يف جمال التشريع قام بأداء مهم وفقهي نزوال عند حكم عقول قاصرة،وبني منهج أثري الوحي إنكارا وتأويال،ولكنه مل يكن ميلك املعاول والفؤوس الفكرية الكفيلة بتحطيم مكر الزنادقة وأهل الفلسفات ة واتمع والدولة،وأنظمة احليا

.والبدع

:شاعرةاأل - دث ومل يسلم من محلتهم فقيه معروف أو حمد ت محلة املعتزلة على الفقهاء واحملدثني،اشتد(": حممد أبو زهرة"يقول

حتى نسي الناس خريهم فنسوا دفاعهم عن اإلسالم قت العداوة،صاحب ذكرهم البالء واحملن وتأرفكرههم الناس و مشهور، إغراءهم اخللفاء بامتحان كل إمام تقي إالومل يذكروا هلم نسوا هذا كله، ،األهواءيهم للزنادقة وأهل وتصد وبالءهم فيه،

وحمدث مهدي.

.٣٤٢ص، ١٠ج، املصدر السابق -١ .٦٢ص، ٤ج، ظهر اإلسالم -٤ .٥٠٧ص، مقدمة ابن خلدون -٣

Page 101: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠١

د ملنازلتهم مجاعة من الفقهاء ومن جتر قيود العلماء، وفك ه، وأدىن خصومهم،ل وأبعدهم عن حظريتما جاء املتوكول(فجادلوهم بلسان فبعض العلماء الذين أجادوا طريقة املعتزلة يف اادلة مل يأخذوا بآرائهم، جوا ج السنة يف دراسة العقائد،

.١)خللفاء يناصرومة يرافقوم واوبعض اخلاص .دومومن ورائهم العامة يؤي ،عضب

سيف ل من سلأو الذي ملع جنمه بني اية القرن الثالث وبداية القرن الرابع اهلجري، ،"األشعريأبو احلسن "لقد كان فلقد .األوائلاد الكالم علم الكالم لينازل به رو )ج على املعتزلة يف علم الكالم،ختر وتتلمذ لشيخهم يف عصره أيب علي

اجلبى اجلدل نائبا عن شيخهوكان لفصاحته ولسنه يتول ،ائي. وجد من نفسه ما يبعده عن املعتزلة يف تفكريهم، ولكن األشعري .٢)رات تفكريهم مث وجد ميال إىل آراء الفقهاء واحملدثنيونال من مث ى من موائدهم،مع أنه تغذ

ما كان انقالبا على أساتذته وإن .مل يكن انقالبا على علم الكالم املعتزلة، مذهب األشعري ربيب إن لذلك ميكننا القول،بعد أن آلت دولتهم إىل االندثار ،األوائلاد الكالم املعتزلة رو. ة إنقاذ هلذا بل ربفقد اعتلى ".العلم"ما كانت حركته عملي

قد بقي حتى القرن الثالث اهلجري منبوذا يف فإذا كان علم الكالم .عرش علم الكالم، لينشئ له جمدا عجز املعتزلة عن صنعههو وورثة له أبواب القبول لدى كثري من هؤالء العلماء، حراح يفت األشعري فإن اتمع مرفوضا لدى غالبية الفقهاء واحملدثني،

.مذهبه من بعده

آراء أثارت حفيظة الفقهاء واحملدثني وخالفت ظواهر واليت أدلوا فيها ب لقد عمد األشعري إىل املسائل اليت أثارها املعتزلة،فيها الرأي ما ليتبىنوإن ال ليلغيها، عمد إىل هذه املسائل، ،األحاديثت إىل إنكار بعض أو أد واألحاديثكثري من اآليات

ثون والفقهاءالذي يوافق ما يقوله احملد.

ا يقوله يف كتابه فمم ".تفكري األشعري"يف -فيما يبدو-أثر كبري "أمحد بن حنبل"قه اإلمام وقد كان لالنتصار الذي حقوما � ناة نبيوبسن وجل نا عزك بكتاب ربالتمس: قولنا الذي نقول به، وديانتنا اليت ندين ا(": عن أصول الديانة اإلبانة"

د بن حنبل ومبا كان ي وحنن بذلك معتصمون، .ة احلديثروي عن الصحابة والتابعني وأئمقول به أبو عبد اهللا أمحد بن حمموملن خالف قوله جمانبون، قائلون، ر اهللا وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته،نض الذي أبان ه اإلمام الفاضل والرئيس الكامل،ألن

وأوضح به املنهاج، ودفع به الضالل، ،اهللا به احلق فرمحة اهللا عليه من ني،الشاك وقمع به بدع املبتدعني وزيغ الزائغني وشكم وجليل معظم وكبري مفخم،إمام مقد ٣)ة املسلمنيوعلى مجيع أئم.

مث لنجب آرائه اليت خالف فيها املعتزلة، ال على أهم؟ لنلق الضوء أو"أمحد بن حنبل"آلراء " األشعري"فما مدى موافقة :على هذا السؤال

.١٦٠ص ،تاريخ املذاهب اإلسالمية -١ .١٦٠ص ،املرجع السابق -٢٣- ـ ١٤٠١الطبعـة األوىل ، مكتبة دار البيان، دمشـق ، رناؤوطحتقيق عبد القادر األ، بانة على أصول الديانةاإل، شعريل األبن إمسعي أبو احلسن علي /هـ

.١٧ص ،م١٩٨٠

Page 102: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٢

صفات اهللا هي صفات لذاته أو أمساء هلا وقالوا إن ،"التوحيد" بناها املعتزلة على أصل ق مبسألة الصفات اليتا ما يتعلفأمت وكما دل ت أفعاله عليها ال ميكن جحدها،دل(هللا صفات إن": األشعري"فقد قال وليست صفات زائدة على الذات،

أنه ذو علم، إالحقيقة وأيضا ال معىن للعامل(: ويضيف .)دةواإلرات على العلم والقدرة على كونه عاملا قادرا مريدا دل األفعال .١)أنه ذو إرادةإال وال للمريد أنه ذو قدرة، إالوال للقادر

ا يف مسألة خلق القرآن، فريى وأم"عليهم السالم األنبياءالعبارات واأللفاظ املنـزلة على لسان املالئكة إىل ( أن" األشعريكالفرق بني والفرق بني القراءة واملقروء والتالوة واملتلو .، والداللة خملوقة حمدثة، واملدلول قدمي أزيلاألزيلالم دالالت على الك

الذكر واملذكور،فالذ٢)ث واملذكور قدميكر حمد.

ة واملعتزلة،( رأيه فيها فإن ،األفعالا مسألة خلق وأمهو الذي خيلق أفعال نفسه العبد فاملعتزلة قالوا إن وسط بني اجلربيبقوة قالوا إن اه،ة أودعها اهللا تعاىل إيواجلربي اإلنسان ال يستطيع إحداث شيء وال كسب شيء،بل هو كالريشة يف مهب

أن بالكسب،" أيب احلسن"ومقصود .٣)اإلنسان ال يستطيع إحداث شيء ولكن يقدر على الكسب فقال األشعري إن الريح، .٤مع إرادة اإلنسان" مقترنا"ما يقع بإرادة اهللا وقدرته وإن إلنسان ال بإرادته وقدرته،يقع فعل من ا

وأما مرتكب الكبرية الذي قال املعتزلة إنى مؤمنا وإنه خيلد يف النار إن مات دون توبة عن كبريته، فقد قال ه ال يسم"األشعري "إنمشيئة اهللا تعاىل،دا فهو فاسق، وهو يف ه إن كان مؤمنا موح وإن شاء عاقبه ة،إن شاء عفا عنه وأدخله اجلن

٥ةبفسقه مث أدخله اجلن.

املعتزلة هذه أهم ه مل يرفض اخلوض فيما خاضوا فيه،واملدق .املسائل اليت خالف فيها األشعرياول ـا حوإمن ق فيها يرى أن .آراء احملدثني والفقهاء -اإلمكانقدر - وأن يوافق ،واألحاديثأن يعطي يف مسائلهم الرأي املوافق لآليات

رأيه هو ما عليه اإلمام ح هو نفسه أنفبينما صر". أمحد بن حنبل"آلراء اإلمام " األشعري"وهناك نزاع يف مدى موافقة .٦نيالسلفين عرفوا بوالسيما احلنابلة ومن أتى بعدهم مم ن أتوا بعده ذلك،أنكر كثري من معاصريه ومم ،"أمحد"

ه مهما وافق ويف كل األحوال، فإن"فيما أعلنه من آراء،" ابن حنبل"اإلمام " األشعري ه خيتلف عنه جذريا يف منهج حبثه فإنوبالتايل فهو .بل هو تلميذهم يف الكالم ه متكلم مثلهم،فإن وهو أيضا مهما خالف املعتزلة يف اآلراء، .وتفكريه وإنشائه آلرائه

.٩٤ص ،١ج، امللل والنحل الشهرستاين، -١ .٩٦ص ،١ج ،امللل والنحل -٢ .١٦٦ص ،تاريخ املذاهب اإلسالمية -٣. ي إىل اجلربرأي أيب احلسن يؤد بل خالفه فيها بعض أشهرهم وأنكروها، ورأوا أن. اليت قال ا أبو احلسن" فكرة الكسب"شاعرة على مل يوافق مجيع األ -٤

دته ومشـيئته اإلنسان يقوم بأفعاله بتأثري من إرا ه يرى أنأفعال العباد خملوقة كلها هللا تعاىل، فإن ومن هؤالء اإلمام أبو املعايل اجلويين، فمع موافقته على أن .ما هو يستخدم املواهب اليت خلقها اهللا تعاىل فيه، من إرادة ومشيئة وقدرة على االختيار والفعـل اإلنسان خيلق فعله، وإن وهو ال يرى بذلك أن. وقدرته

)٩٩-٩٨ص ،١ج، امللل والنحل: انظر( .١٠١ص ،١ج ،امللل والنحل: انظر -٥ .١٨٧ص ،تاريخ املذاهب اإلسالمية: انظر -٦

Page 103: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٣

وسائر احملدثني " أمحد"نهجه العقلي الذي يعتمد العقل إىل حد كبري يف إثبات العقائد والتدليل عليها خيالف منهج اإلمام يف موالفقهاء يف التفكري وإنشاء اآلراء فهم ال يعطون العقل أكثر من وظيفة فهم النصوص من آيات وأحاديث والوقوف عند

حاول أن خيلص بآراء كالمية تتوافق مع النصوص اليت أنكرها املعتزلة أو أولوها " األشعري" وكل ما يف األمر أن .مدلوالا .بتكلف كبري

فهو يثبت ما جاء .وقد سلك األشعري يف االستدالل على العقائد مسلك النقل ومسلك العقل( ":أبو زهرة"يقول اإلمام جه ويت واملالئكة واحلساب والعقاب والثواب، اآلخرىل ورسله واليوم يف القرآن الكرمي واحلديث الشريف من أوصاف اهللا تعا

ا على صدق ما جاء يف القرآن والسنة عقال، بعد أن وجب التصديق ا كما هي العقلية والرباهني املنطقية يستدل األدلةإىل خذ العقل خادما لظواهر النصوص بل يت ها،مضي ظاهرهلا أو يخذ من العقل حاكما على النصوص ليؤوفهو ال يت .نقال

)...(يؤيدها

ويف احلق ،ه قد ضعف شأن املعتزلة يف القرن الثالث والقرن الرابع اهلجريأن وقد كانوا متصداألهواءعلى أهل ين للرد، ن من بني علماء السنة من أن يكو ا ضعف شأم كان ال بدفلم وعلى الذين يهامجون اإلسالم، وأبلوا يف ذلك بالء حسنا،

وأنه صار إمام السنة املعروف يف ذلك وعرف بالءهم يف هذا األمر، ه تلميذ املعتزلة،ألن يتوىل ذلك العمل الكبري اخلطري، .بعد أن زالت دولة املعتزلة العصر،

ب خصومه من نصرة، فتعقام تأييدا ووقد نال األشعري لذلك منـزلة عظيمة وصار له أنصار كثريون، ولقي من احلكبه أكثر علماء عصره بإمام أهل حياربون خصوم اجلماعة وخمالفيها ولق األقاليمأنصاره يف ار وبثوالكف األهواءاملعتزلة وأهل .١)السنة واجلماعة

ف شهد شرق العامل اإلسالمي ظهور مذهب مواز له عر" أيب احلسن األشعري"ويف الوقت الذي ظهر فيه مذهب إال .شاعرةي املعتزلة واألط فيها مذهبأتى بآراء كالمية توس .٢"أيب منصور املاتريدي"سه نسبة إىل مؤس ،"املاتريدي"باملذهب

شاعرة ل عدد كبري من األومن حيث تقب شاعرة من حيث احترامه لنصوص القرآن والسنة داللة وثبوتا،أنه كان أقرب إىل األأو باعتبار املنهج الذي سار عليه يف سواء باعتبار القضايا واملسائل اليت أدىل دلوه ا، اد املذاهب الكالمية،وانضم إىل عد .له

.٣حبث تلك القضايا واملسائل

علماء أعلوا رايتهما ونصرومها حتى أصبح هلما شأن كبري يف -وال سيما لألشعري-ني ر هلذين املذهبني الكالميلقد توفوذلك .حتى وصل إىل ذروة جمده يف اية القرن اخلامس اهلجري شاعرة عهدا بعد عهد،ألوارتفع لواء ا .اإلسالميالعامل

.١٦٨-١٦٧ص ،تاريخ املذاهب اإلسالمية -١ .)هـ٣٣٣ ت( أبو منصور املاتريدي -٢

الـرد "و" أوهام املعتزلة"و" التوحيد"من كتبه ). حملة بسمرقند(نسبته إىل ماتريد . ة علماء الكالممن أئم: أبو منصور املاتريدي حممد بن حممد بن حممود، )ليالزرك. (مات بسمرقند". شرح الفقه األكرب املنسوب لإلمام أيب حنيفة"و" تأويالت أهل السنة"و" تأويالت القرآن"و" اجلدل" وكتاب" على القرامطة

.١٧٦حتى ١٧٣ص ،تاريخ املذاهب اإلسالمية: انظر -٣

Page 104: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٤

أنه إال .وغريمها ٢"أيب املعايل اجلويين"و ،١"ينأيب بكر الباقال" أمثال روا له من العلماء ذوي الشأن يف اتمع،بسبب من توف ".أبا حامد الغزايل"لمذهب األشعري وأوسعهم فتحا ألبواب اتمع أمام علم الكالم كان اإلمام أعظم الناصرين ل يبدو أن

ما منعطفا بل رب ة،ة مهمحمط" الغزايل"كان - كما سنرى فيما يأيت من الفصول-غريه األسبابورمبا هلذا السبب وللعديد من .كبريا يف تاريخ الثقافة اإلسالمية

ومنهج علماء الكالم منهج احملدثني والفقهاءبني :ثالثاعلماء الكالم أحدثوا يف الثقافة اإلسالمية ما أن من الكالم الشائع الذي كثريا ما نقرؤه يف كتب تاريخ الثقافة اإلسالمية،

لكالم منهج التفكري فبينما اعتمد أهل ا .وهو البحث العقلي أال .وصحابته من بعده � مل يكن له وجود يف عصر الرسولأو العقالين- العقلي يهكما حيلو للبعض أن يسم- اعتمد سائر العلماء من فقهاء وحمدمن رين وغريهم نصوص الوحيثني ومفس

ة واألحباثدون اعتبار للعقل - ةقرآن وسنة والعقليواحلقيقة أن .الفكري قة والعمر يفتقر إىل كثري من الدقهذا الكالم املتكر.

القرآن منذ بداية نزوله اعتمد اخلطاب العقلي واحملاججة الفكرية ودعا إىل حتكيم العقل من أجل فلقد سبق وأشرنا إىل أنكما دعا إىل حتكيم العقل يف معجزة اإلسالم اخلالدة ة على اخلالق سبحانه وتعاىل،الوصول إىل احلقائق الكونية الكربى الدال

وبالتايل نرى اإلسالم قام على أساس .ان به وحيا مرتال من السماء هو املدخل إىل اعتناق الدين اإلسالمياإلمي إذ إن .القرآنيف ل منهج عقليمنهج أهل الكالم ليس أو وبالتايل فإن. ويدعو اإلنسان إىل اعتناقه بعد حتكيم العقل وإعمال الفكر العقل،

ية يلحظ كثرة ومن يقرأ سور القرآن املك .ال نشأا ختاطب الناس خطابا عقليمنذ أوالدعوة اإلسالمية بدأت بل إن اإلسالم،والثابتة األصيلةاته آيات اجلدال واحلوار اليت ختاطب العقل وتعتمد على بدهي.

ه يف فإن .وحكم ورأيخماطبة اإلسالم للعقل وإثارة الفكر لدى اإلنسان،ال يعين أنه جعل العقل حكما يف كل فكر أن إالة الكربى املؤدية إىل اإلميان، من مثل قوله تعاىلالوقت الذي جادل فيه القرآن الناس مجيعا يف قضايا العقيدة واحلقائق الكوني :

خياطب اإلنسان يف جمال ه حني فإن ،�٣اببلويل األأل ياتآل هارالنو ليالل فالتاخو ضرواأل واتمالس قليف خ نإ�قال تعاىل .من أحكام وأوامر ونواه وجل التشريع يطلب منه التفويض والتسليم ملا جاءه من عند اهللا عز: �وا كمان لمنؤم

.)هـ٤٠٣-٣٣٨( ينأبو بكر الباقال القاضي -١د بن الطيد بن جعفر، أبو بكرحممولد يف البصرة، وسكن بغداد فتويف. شاعرةانتهت إليه الرياسة يف مذهب األ. ار علماء الكالممن كب قاض: ب بن حمم

فجرت له يف القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بني يدي هه عضد الدولة سفريا عنه إىل ملك الروم،د االستنباط، سريع اجلواب، وجكان جي. فيها )ليالزرك( .معظمها يف الكالم. اتفله العديد من املؤل. ملكها

.)هـ٤٧٨-٤١٩( إمام احلرمني أبو املعايل اجلويين -٢ ولد يف جـوين . أعلم املتأخرين، من أصحاب الشافعي: عبد امللك بن عبد اهللا بن يوسف بن حممد اجلويين، أبو املعايل، ركن الدين، امللقب بإمام احلرمني

فبىن له مث عاد إىل نيسابور، .املذاهب ق ودرس، جامعا طرىتوذهب إىل املدينة فأف. ة حيث جاور أربع سنني، فمكورحل إىل بغداد) من نواحي نيسابور( ) ليالزرك. (له مصنفات كثرية، معظمها يف أصول الدين وأصول الفقه. وكان حيضر دروسه أكابر العلماء. فيها" املدرسة النظامية"الوزير نظام امللك

.١٩٠اآلية ، مرانسورة آل ع -٣

Page 105: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٥

الو مؤمنا قذإ ةى اهللاض ورولسأ هنرا أم ل ونكيهم اخليةر مأ نرمف�: ه، وقال سبحان�١مهال وربك ال يؤى نونمحتيكحموك فيما شجر بينم ثهم دوا يف أجال يهسفنم حرجا ما قمضيت ويلسموا تس�٢يمال، ه يف الوقت الذي وهكذا فإن

ىل أن يكون أداة لفهم نصوص الوحي ال حكما ه يف جمال التشريع، يدعوه إفإن جيعل اإلسالم العقل حكما يف جمال العقيدة، .على ما فيها من أحكام

كان من الطبيعي أن نرى ذلك التباين بني منهج البحث لدى كل من علماء الكالم من جهة واحملدثني من هذا املنطلق،العقيدة، لتثبيتها يف مواجهة أعدائها فعلماء الكالم سخروا مواهبهم العقلية وبذلوا طاقام يف جمال .والفقهاء من جهة أخرى

من فالسفة وزنادقة وأهل أديان وبدع ني،اخلارجي. هؤالء بل إن .نيومل يكن لقضايا التشريع شأن يذكر يف أحباث الكالمينيالكالمي -ة -ى مذاهبهمبشتة واستنباطهم للمسائل الفقهيمل يكن ال ملب .مل ينازعوا الفقهاء يف فهمهم ألحكام القرآن والسن

ة لعلم الكالم اهتمام يف جمال التشريع ومنهج استنباط األحكام توزة أتباعا للمذاهب الفقهيع أصحاب املذاهب الكالميةمن أجل استمداد األحكام املنظ دة،املتعدم من هنا طغى على أحباث املتكلمني ومؤل .مة لسلوك الفرد وحياته اليوميفا

من ةئمواأل األنبياءأحوال وينظر أيضا يف ...وصفاتهتعاىل ينظر يف ذات اهللا ( علم الكالم ذلك أن .نحى الفكريوجمادالم املالنظر وأهل .تعاىل ورؤية اهللا ،واحلساب واحلشر والبعث القيامة ويف أحوال املوت واحلياة وينظر يف أحوال. والصحابة بعدهم

.٣)بالدالئل العقلية مث ، � بأخبار الرسول مث ،اهللا تعاىل من القرآن اتآيبال كون أوهذا العلم يتمس يف

وأمففي الوقت الذي بذل فيه . وظيفتهم كانت تتمحور حول نصوص الوحي ثبوتا وداللة ثون والفقهاء، فإنا احملدوالتحق � ثون جهدهم حلفظ أحاديث الرسولاحملدتهدونوعلى رأسه-تها، بذل الفقهاء ق من صحغاية جهدهم يف - م ا

الفهم والبحث عن معاين األلفاظ إالوها هنا ال جمال للعقل . فهم معاين القرآن والسنة واستنباط األحكام العملية منها .ودالالا

هة واحملدثني من جوالفقهاء وال جيوز الوقوع يف خطأ املفاضلة بني كل من الفريقني، أي بني علماء الكالم من جهةوا جانب الدفاع عن العقيدة اإلسالمية اليت هي فعلماء الكالم تول .أمهية عن األخرى إذ لكل منهما وظيفة ال تقل .أخرى

تمع اإلسالميوالفقهاء تول .األساس الذي يقوم عليه اإلسالم واوإيضاحه وتعليمه وا وظيفة استنباط التشريع اإلسالميأي الفقهاء- وبالتايل على أكتاف هؤالء ى شرائحه،للمجتمع بشت- ة على أرض الواقعقامت مهمة جتسيد احلضارة اإلسالمي.

تمع يستمدفإذا كان ا ة من منط عالقاته، فإنهويالفقهاء هم الذين تول ته احلضارية تنظيم تلك العالقات، مبا استنبطوه وا مهمام أنظمة احلك ومن الثروة الفقهية اليت أنتجها الفقهاء استمد .سه وبغريه من الناسم عالقة اإلنسان خبالقه وبنفمن أحكام تنظ

وعلى أكتاف الفقهاء، قامت عملية التربية .احلكم واالقتصاد واالجتماع والعقوبات واحلرب والسلم والسياسة اخلارجية .وتوجيه اتمع وجهته احلضارية اإلسالمية

.٣٦اآلية ، سورة االحزاب -١ .٦٥اآلية ،سورة النساء -٢ .٦٤–٦٣ت، ص.بريوت، د، الكتب العلمية، دار )ضمن جمموعة رسائل اإلمام الغزايل(ية الرسالة اللدنأبو حامد الغزايل، -٣

Page 106: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٦

إذا مل يكن هناك تعارض بني وظيفة كل من أهل : وهو أنه .در إىل الذهن يف هذا املوضع سؤال مهمومن الطبيعي أن يتبا !الكالم من جهة واحملدثني والفقهاء من جهة أخرى، فلماذا نشب بينهما ذلك الصراع الشهري؟

ما كانت آراء وإن .ا ووظيفتهكل منهم لماخلالف مل ينشب بني الفريقني على أصل ع إن: فنقول اإلجابةنسارع إىل وحتكيم العقل يف كثري من تلك النصوص، هي اليت أثارت ،األحياناملعتزلة اليت خالفوا ا نصوص الوحي الصرحية يف كثري من

" شعرياأل"ولذلك حني دالت دولة علم الكالم إىل .باعتباره علما على املعتزلة حفيظة الفقهاء ودفعتهم إىل رفض علم الكالم،ر موقفهمبدأ يتغي. فتحوم من علم الكالم وأهله إىل موقف الرضى والقبول لت مواقف كثري من الفقهاء عن السخط والتربمن حيث هو علم حياجج عن -ظ لدى فريق كبري من هؤالء الفقهاء مل يكن إزاء علم الكالم املوقف املتحف ا يعين أنمم .والتأييد

.وهم املعتزلة أال ،األوائلما كان يف حقيقة األمر إزاء املتكلمني وإن ذاته، حبد -الرباهني العقليةالعقيدة اإلسالمية ب

عدهم عن التأث األصيلةا قد أسلفنا الكالم عن الفقهاء ومدى انضباطهم مبصادر اإلسالم وإذا كنر بسائر التيارات وب :سؤال التايلالفكرية من فلسفية ودينية وتشريعية، فلنطرح ال

رهم مبا سواه من التيارات الفكرية والثقافية؟ما مدى انضباط علم الكالم وأهله بالفكر اإلسالمي؟ وباملقابل ما مدى تأث

واملؤثرات الثقافية اإلسالمية األصالةبني : علم الكالم :ارابعأن ال شك امل أهل الكالم أخذوا على عاتقهم القيام بإحدى أهمة حباجة إليهاهمكما .ات اليت كانت الدعوة اإلسالمي

أنمن الدعوات هم قاموا بعمل جب تمع اإلسالميامةار يف حتصني ااهلد اليت تعاألهواءني والزنادقة وأهل رض هلا من الشعوبي وهم املعتزلة - ي بذله علماء الكالم كان أروع مثال على اجلهد الذ" املأمون"عهد اخلليفة العباسي ولعل .وامللل والنحل

.من أجل الدفاع عن كيان احلضارة اإلسالمية -آنذاك

األوائلاد وإذا كان املعتزلة هم الرو شاعرة من نشاط يف مواجهة ألما أظهره ا ة العظيمة، فإنالذين قاموا بتلك املهمد وما بذله من حماولة التقي زه مبا ميلك من انضباط يف التفكري،ما ببل رب ية،عنه أمه الزنادقة وأهل الفلسفة والبدع ال يقل

.، أي القرآن والسنةاألصيلةبنصوص اإلسالم

إنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن (: كالمه عن علم الكالم ندع" أبو حامد الغزايل"يقول اإلمام كما على ما فيه صالح دينهم ودنياهم، على لسان رسوله عقيدة هي احلقفقد ألقى اهللا تعاىل إىل عباده . تشويش أهل البدعةفلهجوا ا وكادوا يشوشون عقيدة ة،مث ألقى الشيطان يف وساوس املبتدعة أمورا خمالفة للسن .واألخبارنطق مبعرفته القرآن

فأنشأ اهللا تعاىل طائفة املتكلمني، .على أهلها احلق ك دواعيهم لنصرة اوحرة بكالم مرتيكشف عن تلبيسات أهل ب،لسن

Page 107: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٧

فلقد قام طائفة منهم مبا ندم اهللا تعاىل إليه فأحسنوا . فمنه نشأ علم الكالم وأهله البدعة احملدثة على خالف السنة املأثورة،ة والنضال عن العقيدة املتلق الذبعن السن١)عةة والتغيري يف وجه ما أحدث من البداة بالقبول من النبو.

ى فيه الصراع احلضاري والفكري بني اإلسالم وسائر العقائد حركة علم الكالم هي النشاط الذي جتل إن: وبتعبري موجزة املختلفةوالفلسفات والتيوقد أسفر الصراع. ارات احلضاري -وباعتراف مجيع من قرأوا التاريخ بإنصاف دون أدىن شك

.ية علماء الكالمومن هنا تأيت أمه .ارة اإلسالمية وهيمنة كاملة للثقافة اإلسالميةعن انتصار ساحق للحض -وموضوعية

مبا لديهم من آراء ومنهج يف التفكري والبحث - هذه احلقائق التارخيية ال جيوز أن تستدرجنا إىل قبول أهل الكالم أن إال .يةقبوال مطلقا، دون نظرة نقدية متأن -والدراسة

علماء الكالم تلك املعركة الفكرية واحلضارية مع خصومهم وخرجوا منها بذلك النصر املبني، فهذا ال يعين فإذا خاضأن نتوق. هم مل يصابوا بشيء من وطيس املعركةبالضرورة أن ة لذلك بل من الطبيعيع احتمال اختراق بعض الشظايا الفكري

علي" يقول .أجواء املعركة من حيث ال يدري هؤالء الفرسانتناثرت يف يت ال لعناصرالكيان الشامخ، وأن تتغلغل فيه بعض اارسامي النش :")مماملتكلمني فيه أن ا ال شك -ة من أديان خمتلفة، وقد كانوا يف وسط فلسفيوعقائد وأمام هجمات فلسفي

ة متعدة منتشرة يف البالد اليت فتحوهافلسفيةقد أخذوا م -دة ومذاهب شرقيوهذا ما يقودنا إىل .٢)نها بعض األفكار اجلزئيوباملقابل .احلديث عن مدى تعبري علم الكالم عن الثقافة اإلسالمية ومدى التزامه مبنهجها يف التفكري والدراسة والدعوة إليها

.ارات الفكريةره بسائر الثقافات والتيعن مدى تأث

ة،خني للثقلقد تباينت آراء الباحثني واملؤرق مبدى نقاء علم الكالم الذي نشأ يف كنف احلضارة فيما يتعل افة اإلسالميعلم الكالم هو نتاج إسالمي خالص فبينما يرى البعض أن .وال سيما الثقافة اليونانية ره بسائر الثقافات،أو مدى تأث اإلسالمية،

وجه جديد للمنطق اليوناين، إالعلم الكالم ما هو يرى آخرون أن بريء كل الرباءة من سائر املؤثرات الثقافية واحلضارية، .ى من آراء عديدة تقف مواقف متفاوتة بني هذين الرأينيوما تبق .رسططاليسيوبالتحديد للمنطق األ

فمأبرز الذين ميث نللون الرأي األو "علي وقد لص للمسلمني،هو النتاج اخلا(: الذي يقول يف علم الكالم" ارسامي النش،تمع اإلسالمية، صدر هذا العلم عن بناء اة اآلخروالبعض وقد كان بالبعض منه نزوات حيوين البنيان .ثورات حيويمث تكو

ائي،م اوصدر املسلمون فيه عن ذا(٣ .ر ويقر)املنطق األ أنى القرن اخل رسططاليسية األوىل حتامس قوبل يف املدرسة الكالمي" ابن تيمية"ويستشهد لذلك بكالم لإلمام .)معتزلة أو أشعرية أو شيعة أو كرامية فهامجته مجيع الفرق الكالمية، .أسوء مقابلة

شعرية واملعتزلة والكرامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل بل األ ما زال نظار املسلمني ال يلتفتون إىل طريقهم،( :يقول فيه

.١٥-١٤ص، املنقذ من الضالل -١ .٥٤ص ،١ج، نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم -٢ .٥٤ص ،١ج ،املرجع السابق -٣

Page 108: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٨

ما زال نظار املسلمني بعد أن عرب وعرفوه يعيبونه (: يقول فيه" البن تيمية"مث يورد كالما آخر .)يعيبون فسادهاالنظر كانوا ةويذمة والشرعي١)ونه وال يلتفتون إليه وال إىل أهله يف موازينهم العقلي.

ر املعتزلة ذه الفلسفة يف آرائهم وقد تأث( :فيقول عن عالقة املعتزلة بالفلسفة اليونانية،" حممد أبو زهرة"وباملقابل يتكلم .٢)مات أقيستهمتهم ومقدفظهرت يف أدل وأخذوا عنها كثريا يف استدالهلم،

كان املعتزلة أسرع الفرق لالستفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها صبغة إسالمية واالستعانة ا على (": أمحد أمني"ويقول م وجدهلمنظري٣)ا.

هم فأخذوا مسألة خلق القرآن من اليهود وأن روا باليهود والنصارى،علماء الكالم تأث إىل القول بأن" أمحد أمني"بل يذهب .٤روا م يف التشبيه وغري ذلك من املسائلتأث

ة بني املتكلمني املشترك األحباثوجود بعض وهي أن أال .ةوقبل مناقشة هذه اآلراء ال بد من التنبيه إىل مالحظة مهم لكثريا من تلك املسائل اليت كانت حم إذ إن .ر هؤالء بأولئكال يعين بالضرورة تأث املسلمني وغريهم من أهل األديان والفلسفة،

من حيث هو باحث بفطرته عن هي يف حقيقة أمرها قضايا شغلت اإلنسان منذ قدمي الزمان، ،األطرافاهتمام من مجيع .قة بالكون واإلنسان واحلياة وأصلها ومآهلا وغاية وجودهاى املتعلاحلقائق الكرب

ومن املمكن أن تكون هذه املسائل وجدت لدى علماء املسلمني حبكم احتكاكهم بأهل األديان والفلسفات ومواجهة في تناول املسلمني هلذه أنه ال يك إال .هؤالء للمسلمني مبا ميلكون من مسائل ومشكالت ومعضالت فكرية وعقدية وفلسفية

ةاملسائل للزعم بأنعلى تلك املسائل بناء على األجوبةوإذا قام املسلمون بإعطاء .هم وقعوا حتت تأثري تلك املؤثرات الثقافي .اآلراءرا مبصادر تلك فال يعين هذا حبال من األحوال تأث وخالفوا أخرى، فوافقوا يف آرائهم بعض اآلراء، العقيدة اإلسالمية،

ة ومقوالت أهل الكتاب،وأمه بكل بساطة إىل ا ما يظهر من تشابه يف العديد من املسائل بني أحباث الثقافة اإلسالميفمردهم مجيعا أتوا بإميان واحد، وإن اختلفت الذين أعلن اإلسالم أن األنبياءكثريا من عقائد أهل الكتاب هي يف األصل عقائد أن

كما أنه من الطبيعي .فمن الطبيعي أن جند تشاا يف كثري من املسائل االعتقادية واحدا،" يف األصل"ا دام اإلميان فم .تشريعامد آراء املسلمني يف تلك القضايا كما تعددت آراء وأن تتعد أن تكون القضايا والتساؤالت اليت أثارا تلك العقائد متشاة،

ف عليها اعتناق اإلنسان اليت يقوم عليها اإلسالم ويتوق" أصول العقائد"هذه القضايا ليست من نطاملا أ الذين من قبلهم،ر علماء الكالم بسائر األديان حتى نستطيع تقرير مدى تأث ة أخرى غري هذه املالبسات،نا حباجة إىل أدللذلك فإن. لإلسالم

ةوالفلسفات والتيارات الفكري.

.٩٣ص، م١٩٨٤ /هـ١٤٠٤، دار النهضة العربية، بريوت، مناهج البحث عند مفكري اإلسالم، علي سامي النشار -١ .١٣٠ص، تاريخ املذاهب اإلسالمية -٢ .٣٠٠-٢٩٩ص، فجر اإلسالم -٣ .٣٣٧-٣٣٦-٣٣٤ص، ١ج، ، وضحى اإلسالم١٢٦ص، فجر اإلسالم: انظر -٤

Page 109: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٠٩

الم واملنطقعلم الك :خامساةيف البداية من تقرير حقيقة يف غاية ال بدإذ من الواضح أن .وهي التفريق بني كل من علم املنطق والفلسفة أال .األمهي

اب الذين حبثوا يف اتة،كثريا من الكتصال علماء الكالم بالثقافة اليوناني مل يفرا ال قوا بني ما يف هذه الثقافة من أحباث عديدة، ممواعني على التفريق بني ما لدى األمم األخرى من معارف األوائلبينما جند علماء اإلسالم .إطالق حكم واحد عليها يصح

قبلوا ما ال يتعارض مع منظومتهم الفكرية من معارف السابق على اإلسالم ودراسته، فبعد االطالع على التراث املعريف .عديدةوكانت الفلسفة من تلك .اإلسالم أغىن عنها وأدىل فيها بدلوه اخلاص من معارف رأوا أن ك،ورفضوا ما سوى ذل وعلوم،

كما سنرى - إذ عدوها مناقضة ألصل الدين اإلسالمي .املعارف اليت رفضها علماء اإلسالم رفضا مطلقا، وال سيما املتكلمني .أي مناقضة للعقيدة اإلسالمية -يف فصول الحقة

ا املوأمذوه من الفلسفة،اختخذ املسلمون منه املوقف ذاته الذي نطق فلم يت على ما هم رأوا فرقا شاسعا ما بني العلمني،ألنولسنا هنا مبعرض البحث عن .وهذا يقودنا إىل إيضاح الفرق بني مدلول كل من املصطلحني .صالبينهما من ارتباط وات

الدخول يف جلة هذا رخيياوال يليق ذا البحث الت نازع فيه أهل االختصاص أنفسهم،ا يتفهذا مم .تعريف دقيق لكل منهما .لذلك نقتصر على ما يعطي فكرة عن موضوع كل من املصطلحني .اخلالف

أي حبث يف ما وراء فهي حبث يف ما وراء الكون واإلنسان واحلياة، -مبعناها الذي رفضه علماء اإلسالم- ا الفلسفةأمة أو الطبيعة،املاد ى بامليتافيزيقا،وهو ما يسم وبصرف النظر عن .بالغيب -وفق املصطلح القرآين- يه علماء املسلمنيوما يسم

من خالل نصوص - اإلسالم على أساس أن األحباثرفض املسلمون هذه اآلراء العديدة لدى الفالسفة حول ما وراء الطبيعة،كفل لإلنسان فكرة كلية عن الكون واإلنسان واحلياة -دليل العقلي اجلازم على كوا كالم اهللالوحي اليت أتى ا واليت قام ال

ما يكفيه ملعرفة الغاية من حياته، ا قبل احلياة الدنيا وما بعدها وعن عالقتها مبا قبلها وما بعدها،وعم خاذ طريقة وبالتايل التة نة يف العيش،معية سلوك اإلنسانمت كافاليت نظ تكفلها الشريعة اإلسالمي. ل تفصيل الكالم عن موقف املسلمني من وسنؤج

ةالفلسفة إىل فصول خاص.

وأمنسب دائما إىل املتكلمني أنوما هي صلته فما هو؟ روا به وأخذوه وجعلوه أساسا ألحباثهم،هم تأثا املنطق، الذي ي بالفلسفة؟

ات واحلجج املفيدة هو قوانني يعرف ا الصحيح من الفاسد يف احلدود املعرفة للماهي( :يف علم املنطق" ابن خلدون"يقول إنما هي معرفة حقائق األشياء اليت -إذا حصل- فائدة ذلك ألن ر،وغايته يف احلقيقة راجعة إىل التصو( :، ويقول١)للتصديقات

فاقتضى ذلك متييز الطريق الذي قد يكون بطريق فاسد،وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح و. هي مقتضى العلمل أو-مون وتكلم فيه املتقد. فكان ذلك قانون املنطق .يسعى به الفكر يف حتصيل املطالب العلمية، ليتميز الصحيح من الفاسد

.٥٤١ص ،مقدمة ابن خلدون -١

Page 110: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٠

ب مسائله ب مباحثه ورتفهذ رسطو،حتى ظهر يف اليونان أ ومل جتمع مسائله، ب طرقه،هذمال ومفترقا، ومل تج -ما تكلموا بهة وفاحتتها،وفصوله وجعله أوكميل العلوم احل ى باملعلولذلك يسم١)لم األو.

والقواعد اليت يفترض بالفكر أن يعتمدها حني األسسهو عبارة عن جمموعة من –كما أريد له أن يكون- إذن، فاملنطقوعلى رأسهم الفيلسوف كما يراها واضعو املنطق، آخر هو طريقة التفكري الصحيحة، وبتعبري .سعيه إىل املعرفة وإدراك احلقائق

فلقد كان املنطق هو منهج .وإن كان يفترض به أن ينتج األفكار خال من الفكر، - ذاته حبد- وبالتايل فهو ".أرسطو"اليوناين رات وآراء حول فيما وصلوا إليه من تصو -لسننية مئات من اولعد-من الفالسفة " أرسطو"التفكري الذي اعتمده أتباع

.٢كان أداة الفلسفة -ثنيدواحمل اءب القدماكما يعبر بعض املفكرين والكت- وهو بالتايل .الطبيعة وما وراءها

ىل ذلك،ي إوإن كان من احملتمل أن يؤد التعامل مع أحباث املنطق ال يعين بالضرورة تعامال مع الفلسفة، إن: من هنا نقولكما سنرى فيما بعدى إليه بالفعل بنسب متفاوتة لدى مثقوقد أد تمع اإلسالمياإلجابةالسؤال الذي آن أوان أن إال .في ا

د استفادة؟يف أحباثهم العقدية؟ أم أعرضوا عنه؟ أم استفادوا منه جمر" أرسطو"هل اعتمد علماء الكالم منطق : عليه هو

وما أدلوا به من ،"عمرو بن عبيد"و" واصل بن عطاء"و" جهم بن صفوان"اية نشأة املذاهب الكالمية مع ق يف بداملدق إنوفق الطريقة اليونانية، بل وحتى يف ال يستطيع أن حيكم بوجود منهج منطقي ة،وا به على آرائهم من أدلآراء وما استدل

العقلية اليت ال ترتبط بالضرورة واألدلةالنقلية األدلةاستدالالم مزجيا من ما جندوإن .مناقشات اجليل التايل من علماء الكالمالذين مل يكونوا - أي جيل ما بعد الصحابة-روا باآلراء اليت كانت منتشرة بني التابعني هم تأثكما جند أن .مبنهج املنطق اليوناين

نشأة املذاهب الكالمية وبالتايل يفتقر الرأي القائل بأن. سفة واملنطق اليونانينيوال سيما الفل ،األجنبيةعلى صلة تذكر بالثقافات ٣.والشواهد األدلةإىل مزيد من فات الفلسفية اليونانية،ر باملنطق أو املؤلتعزى إىل التأث

الترمجة اليت بلغت أوجها يف مدرسة واصل عاصرت حركة أن( -"ارسامي النش علي"كما يقول -فيه ا ال شكأنه مم إال ح أنه حني شرع أصحاب واصل بن عطاء يف مطالعة كتب الفلسفة عرفوا املذاهب الفلسفية،من املرج عهد املأمون، وأن

س احتمال دخول عناصر من املنطق اليوناين إىل أحباث ومنذ هذه املرحلة جيدر بنا تلم .٤)يونانية كانت أو غنوصية أو مسيحية فهل حصل ذلك؟ .لم الكالمع

هم، يف الوقت الذي استفادوا فيه من على أن فات اليت وضعها علماء الكالم حتى القرن اخلامس اهلجري تدلاملؤل إنمن أمهها وذلك ألسباب عديدة، املصطلحات والتقسيمات الواردة يف املنطق اليوناين، رفضوا قواعده ومنهجه يف البحث،

.ق للفلسفة اليونانية املناقضة للعقيدة اإلسالميةمالبسة املنط

.٥٤٢ص، املرجع السابق -١ .وما بعدها ٣٥ص، مناهج البحث عند مفكري اإلسالمعلي سامي النشار، :انظر -٢ .وما بعدها ٤٠٧ص ،١ج، نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم: انظر -٣ .٤٠٨ص، ١ج، املرجع السابق -٤

Page 111: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١١

.للفكر اإلنساين تعصمه من الزلل يف التفكري عامةوضع أرسطو فيلسوف اليونان قوانني (": ارسامي النش علي"يقولفريق وال ألمة دون ال قوانني عقلية لفريق دون تلك القوانني قوانني العقل اإلنساين من حيث هي،... واعترب اليونان من بعده

فسرعان ما . رسططاليسية إىل العامل اإلسالمي منذ فجرهومعه بعض العناصر غري األ رسططاليسيوانتقل هذا املنطق األ أمة،أم نستطيع أن جند يف أسسه جيب التسليم به، هل هو قانون عام: تهيوهي عمومية هذا املنطق وكل... عرض املسلمون للمشكلة

ري اإلسالم على معظم مفك ينا أن؟ رأاألنظارفق عليه ا تتخرجه عن أن يكون قانونا كليما ي واألخطاءه من الضعف وعناصرة، مث وضع كل فريق من هؤالء كل من وجهة نظره اخلاص ،رسططاليسياختالف نزعام وتباين أغراضهم مل يقبلوا املنطق األ

ة يف عدم قبول علماء اإلسالم املنطق العل ويرى أن .١)ة ميكن أن نعتربها مذاهب منطقية كاملةاملفكرين عناصر منطقية مبتكروهذا املنطق اليوناين وثيق الصلة ات املسلمني،ها خمالفة إلهليألن ،رسططاليسيهم مل يقبلوا امليتافيزيقا األأن( رسططاليسياأل

الفكر اليت وصل إليها وهذه فكرة يف احلقيقة من أدق .وهلذا رفضه املتكلمون ا،صل بأصوهلوكثري من أصوله مت بامليتافيزيقا، .٢)من وجهة نظر إسالمية رسططاليسياملسلمون، وهي كافية هلدم املنطق األ

ابن خلدون"د هذا الرأي ما أورده ويؤي "مته حني حديثه على علم الكالم،يف مقد دخل املنطق مل ت" أقيسة" ر أنحيث يقرومل تكن قيسة،تعترب ا األ األدلةصور أن إال(: إذ يقول ،"أليب احلسن األشعري"وال حتى يف املرحلة التالية علم الكالم،

ة للعقائد الشرعية ينولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به املتكلمون ملالبستها للعلوم الفلسفية املبا ة،حينئذ ظاهرة يف املل .٤علم الكالم يف هذه املرحلة كان حماذيا لطريقة السلف ر بعد ذلك أنويقر. ٣)فكانت مهجورة عندهم لذلك باجلملة،

ما املعتزلة، ن أنوهكذا يتبيمل ينشأوا علماء الكالم، وال سي -ة وال -ر كثري من الباحثنيكما يصوتالميذ للفلسفة اليونانيقد تشابه بعض ما ليضعوا قوانني ومصطلحات وتقسيمات، وا من اطالعهم على ذلك املنطق،ما انتفعوإن .حتى للمنطق اليوناين

وهو املنهج الذي ينطلق من الواقع .عن منهج القرآن الكرمي يف إثبات العقائد -إىل حد كبري- أنها تعبر إال يف املنطق اليوناين، .ماد على النقل إلثبات املغيباتواالعت احملسوس إلثبات احلقائق ذات األثر احملسوس،

دة بوصفه قوانني جمر- وقد أصبح املنطق اليوناين إالإذ مل ميض القرن اخلامس .األمر مل يستمر على هذا النحو أن إالإليضاح و ".أبو حامد الغزايل"ل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو اإلمام وأو .معتمدا لدى كثري من املتكلمني -للتفكري

ة وقرأه الناس وفرقوا مث انتشرت من بعد ذلك علوم املنطق يف املل( :الذي يتابع قائال" ابن خلدون"لنعد إىل كالم هذه احلقيقة،ة بأنسرب من سواها األدلةة فقط يسرب به ه قانون ومعيار لألدلبينه وبني العلوم الفلسفيمث نظروا يف تلك القواعد .منها كما ي

كثريا منها مقتبس من كالم ما أنورب فخالفوا الكثري منها بالرباهني اليت أدلت إىل ذلك، الكالم لألقدمني، مات يف فنملقدااتات الفالسفة يف الطبيعيفصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة األوىل، ...واإلهلي وتسمرين،ى طريقة املتأخ

ما أدخلوا فيها الوربب الكثري من ردة وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسعلى الفالسفة فيما خالفوا فيه من العقائد اإلميانيولقد اختلطت الطريقتان ...ل من كتب يف طريقة الكالم على هذا املنحى الغزايل رمحه اهللاوأو .املذاهب املبتدعة ومذاهبهم

.٣٥١ص، مناهج البحث عند مفكري اإلسالم -١ .٣٥٢ص، املرجع السابق -٢ .٥١٥ص، مقدمة ابن خلدون -٣ .٥١٦ص، املرجع السابق: انظر -٤

Page 112: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٢

ني من والتبست مسائل الكالم رين،عند هؤالء املتأخز أحد الفنوال حيصل عليه طالبه من اآلخرمبسائل الفلسفة حبيث ال يتمي .١)كتبهم

ة"ره أيضا اإلمام وهذا ما يقرني،" الغزايل"إذ ينفي أن يكون علماء املسلمني قبل ،"ابن تيميقد أخذوا منطق اليوناني شعرية واملعتزلة والكرامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر بل األ ار املسلمني ال يلتفتون إىل طريقهم،ما زال نظ( :فيقول

٢)ل من خلط منطقهم بأصول املسلمني أبو حامد الغزايلكانوا يعيبون فسادها، وأو.

بل هو ق شيء منها بالدين نفيا وإثباتا،ات، فال يتعلا املنطقيوأم( :بقوله رسططاليسياعتماده املنطق األ" الغزايل" رربويا العلم إم وأن .الصحيح وكيفية ترتيبه مات الربهان وكيفية تركيبها وشروط احلدواملقاييس وشروط مقد األدلةالنظر يف طرق

ر تصو -وسبيل معرفته احلد- وليس يف هذا ما ينبغي أن ينكر، بل هو من جنس ما - وسبيل معرفته الربهان-ا تصديق وإم ي إىل آراء الفلسفة،املنطق يؤد وفيما يبدو استباقا منه ملا يتبادر إىل الذهن من أن .٣)األدلةالنظر يف ذكره املتكلمون وأهل

هم جيمعون للربهان شروطا يعلم أنها تورث اليقني ال حمالة، نعم، هلم نوع من الظلم يف هذا العلم، وهو أن(: يسارع إىل القولة، ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط،بل تساهلوا غاية التساهلهم عند االنتهاء إىل املقاصد الكن٤)لديني. ه يعزو ضالل وبذلك فإن

.ما إىل الفالسفة الذين خيونون املنطق حني تفلسفهمال إىل املنطق، وإن الفالسفة وأخطاءهم،

ق ود إىل استحضار حقيقة أساسية تتعلنا نعر علماء الكالم باملنطق أو استفادم منه، فإنومهما تعددت اآلراء يف مدى تأث .مات املنطق والذهاب معها حيث تذهبعلماء الكالم مل يعتمدوا أحباثهم الكالمية دف السري مع مقد وهي أن بعلم الكالم،

ة هي األساس،وإنة باألدلةواستعانوا ما جعلوا العقيدة اإلسالميإثبات تلك العقائد من أجل -بنسب متفاوتة فيما بينهم-املنطقيمات املنطق يف فهم ركنوا إىل العقيدة اإلسالمية وفق ما فهموه من القرآن الكرمي من قبل أن يعتمدوا مقد .يف وجه خصومهم

فموضوع علم الكالم عند أهله إنما هو العقائد اإلميانية بعد فرضها صحيحة من ( ":ابن خلدون"وبتعبري . مناظرم خلصومهم تلوإذا تأم .ه عن تلك العقائدبفترفع البدع وتزول الشكوك والش العقلية، باألدلةعليها حيث ميكن أن يستدل من الشرع،

حال الفن ج كالم الناس فيه صدرا بعد صدر، وكلهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض احلجج يف حدوثه وكيف تدر .٥)ه ال يعدوهوأن الفن رناه لك يف موضوعحينئذ ما قر علمت ،واألدلة

ي إىل تغيري معامل العقيدة اإلسالمية،أن يؤد -مهما تكلمنا يف مدى ارتباطه بالفلسفة اليونانية-وبالتايل مل يكن للمنطق آراء خون عن التشابه بني ومهما تكلم املؤر .ي إىل دخول اآلراء الفلسفية إىل إميان املسلمنيوال أن يؤد من حيث هي عقيدة،

الفروع اختالفات املتكلمني تبقى اختالفات يف فهم فروع العقيدة اإلسالمية، فإن املتكلمني املختلفة وآراء الفالسفة اليونانيني،اليت حتتمل التأويل وتعدفهام حوهلا،األ د أصل العقيدة بشيء وال متس.

.٥١٦-٥١٥ص، املرجع السابق -١ .٩٣ص، ري اإلسالممناهج البحث عند مفك -٢ .٢٦ص ،املنقذ من الضالل -٣ .٢٦ص، املرجع السابق -٤ .٥١٦ص، مقدمة ابن خلدون -٥

Page 113: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٣

علم الكالم واتمع اإلسالمي :سادساوهي أنه إذا كانت الغاية من هذا .األمهيةكل ما سبق من حديث على علم الكالم، تبقى مسألة يف غاية أخريا، وبعد

يف اتمع اإلسالمي وتغلغلها فيه، وإذا كانت اآلراء قد تفاوتت يف األجنبيةالبحث الوقوف على مدى تأثري العناصر احلضارية ما مدى تأثري علم الكالم يف اتمع : من طرح السؤال التايل ه ال بدفإن الكالم،احلكم على مدى تغلغل هذه العناصر يف علم

وبالتايل طراز العيش يف ذلك ما هو حجم الدور الذي لعبه علم الكالم يف تشكيل منط العالقات،: اإلسالمي؟ وبتعبري آخر اتمع؟

من حيث صياغة مفاهيمه ومشاعره على اتمع اإلسالمي، التأثري احلقيقي لقد سبق وأشرنا يف أكثر من موضع إىل أنعلينا أن ننظر إىل فإن اإلسالمي من علم الكالم، وبناء عليه، إذا أردنا أن نعرف موقف الرأي العام وأنظمته كان للفقهاء،

.مواقف الفقهاء من هذا العلم وأهله

وضعوا أنفسهم يف ،األوائلاد الكالم رو املعتزلة، أن تيه من بعده،وخليف" املأمون"لقد رأينا يف الفتنة اليت جرت على عهد األمثلةنورد بعض لفائدة هذا املوضوع، واستكماال .مواجهة اتمع بأسره حني حاولوا فرض آرائهم على الفقهاء واحملدثني

من مواقف الفقهاء على مر عدى القرن اخلامس اهلجرية قرون حت.

أكان ينظر ( ":أيب حنيفة النعمان"أحد أشهر تالميذ اإلمام ١"زفر بن اهلذيل"عن شيخه "زياد اللؤلؤياحلسن بن " سئلهم همما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنه ي سبحان اهللا ما أمحقك،: يف الكالم ؟ فقال

٢)مهمغري الفقه واالقتداء مبن تقد.

:يقول -وقد عاش يف القرن الثاين اهلجري-لدى أهل السنة األربعةصاحب أحد أكرب املذاهب " بن أنسمالك "واإلمام وال حنو الكالم يف رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، يكرهونه وينهون عنه، ٣ومل يزل أهل بلدنا الكالم يف الدين أكرهه،(ي رأيت أهل بلدنا ينهون ألن إيل فالسكوت أحب وجل دين اهللا ويف اهللا عزا الكالم يف فأم فيما حتته عمل، إالالكالم حبأ

.٤)فيما حتته عمل إالعن الكالم يف الدين

من ما ( :من ذلك قوله .ا من علم الكالمصاحب أحد تلك املذاهب أيضا، له مواقف صارمة جد ،"الشافعي"واإلمام لو يعلم ( :وروي عنه أيضا أنه قال .١)ما تردى أحد بالكالم فأفلح( :ان يقولوك ،٥)من علم الكالم وأهله يلشيء أبغض إ

)هـ١٥٨-١١٠(زفر بن اهلذيل -١،ـا . أهله من أصبهان .فقيه كبري، من أصحاب اإلمام أيب حنيفة: أبو اهلذيل من متيم، زفر بن اهلذيل بن قيس العنربي أقام بالبصرة وويل قضاءها وتويف . )الزركلي( .مجع بني العلم والعبادة ،"الكتب"وهو أحد العشرة الذين دونوا

.١١٧ص ،٢ج، دون تاريخ ،دار الفكر، بريوت ،جامع بيان العلم وفضله، اإلمام أبو عمر يوسف بن عبد الرب -٢٣- رة، حيث عاصر اإلمام مالك تابعي الصحابةالبلد املقصود هو املدينة املنو . .١١٦ص، ٢ج، املصدر السابق -٤٥- شذرات الذهب، ابن العماد احلنبلي ،٩ص، ٢ج، دون تاريخ، بريوت دة،دار االفاق اجلدي، حتقيق جلنة إحياء التراث العريب.

Page 114: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٤

حكمي ( :بل يذهب إىل حد بعيد يف احلكم عليهم إذ قال .٢)األسدوا منه فرارهم من لفر األهواءالناس ما يف علم الكالم من ومن .٣)هذا جزاء من ترك السنة وأخذ يف الكالم: لويقا ويطاف م يف العشائر والقبائل، يف أهل الكالم أن يضربوا باجلريد،

.٤)وال دين له فاشهد أنه من أهل الكالم، ى أو غريه،االسم هو املسم: إذا مسعت الرجل يقول( :أقواله أيضا

ا نظر وال تكاد ترى أحد ه ال يفلح صاحب كالم أبدا،إن( :ي األكرب للمعتزلةاملتصد ،"أمحد بن حنبل"ومن أقوال اإلمام .٥)ويف قلبه دغل إاليف الكالم

.على فكر اتمع وحسه، من علم الكالم القوامةأصحاب تعبر عن موقف الفقهاء، تصرحيات هؤالء العلماء الكبار، إنالفقهاء يف فهل تغير موقف .بوصفهم أهل الكالم آنذاك موقفهم يف هذه املرحلة إنما يصيب بطبيعة احلال املعتزلة، وال خيفى أن

؟"األشعري"مرحلة ما بعد املعتزلة، أي مرحلة ظهور

ما أظهره وذلك ل ،"أيب احلسن األشعري"مواقف كثري من الفقهاء كانت توحي بالرضى عن مذهب سبق وأشرنا إىل أنما أعلنه من اتباعه لإلمام ول أكرب بنصوص القرآن والسنة، من التزام نسيب الذي انقلب على شيوخه املعتزلة، ذلك املتكلم،

من وأتباعهم، الذين كانوا،" األشعري"ومن الدالئل اليت تشري إىل ذلك تصاعد جنم بعض العلماء من تالمذة ،"أمحد بن حنبل"ة، أتباعا لشتالناحية الفقهية،ى املذاهب السنأيب إسحاق اإل"مثل ياخلطيب "و" يناقالأيب بكر الب"و" الأيب بكر القف"و ،"سفراييين

وإمام احلرمني " البغدادي"من شأنه إىل درجة اإلعالءالذي بلغ ،٦"أيب حامد الغزايل"إىل اإلمام وصوال" أيب املعايل اجلويين ".ة اإلسالمحبج"تلقيبه

ع ويوق هـ،٤٣٦نة س ٧"القشريي"ها اإلمام فتوى خيط ن مدى قبول الفقهاء للمذهب األشعري،اليت تبي األقوالومن ة أصحاب احلديث،أبا احلسن األشعري كان إماما من أئم فق أصحاب احلديث أنات( :يقول فيها عليها مجع من كبار العلماء،

.على املخالفني من أهل الزيغ والبدع ورد تكلم يف أصول الديانات على طريقة أهل السنة، .ومذهبه مذهب أصحاب احلديثومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو .ة سيفا مسلواللتزلة والروافض واملبتدعني من أهل القبلة واخلارجني عن املوكان على املع

ة ه،سب٨)فقد بسط لسان السوء على مجيع أهل السن.

١- ة األكرب، الدقر عبد الغينفقيه السن ٢٤٨ص، ١٩٨٧ط ثالثة، ، دار القلم، دمشق، اإلمام الشافعي. .٢٤٨ص، املرجع السابق -٢ .٢٤٩ص، املرجع السابق -٣ .٢٤٩ص، املرجع السابق -٤ .١١٦ص، ٢ج، جامع بيان العلم وفضله -٥ .٧٢ص، ٤ج، ظهر اإلسالم: انظر -٦ )هـ٤٦٥-٣٧٦(اإلمام القشريي -٧

شيخ خراسان يف عصره، زهـدا : زن بن عبد امللك بن طلحة النيسابوري القشريي، من بين قشري بن كعب، أبو القاسم، زين اإلسالماعبد الكرمي بن هو )الزركلي( .ويكرمهمه وكان السلطان ألب أرسالن يقد .كانت إقامته بنيسابور، وتويف فيها .وعلما بالدين

.١١٤-١١٢ص، هـ١٣٤٧، مطبعة التوفيق، دمشق، تبيني كذب املفتري، ابن عساكر -٨

Page 115: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٥

" اق بن خويز مندادأمحد بن إسح"املالكية األئمةفها هو أحد كبار .واإلشارات اآلثاركثريا ذه أن نغتر اخلطأأنه من إالوالبدع، األهواءفكل متكلم فهو من أهل وسائر أصحابنا هم أهل الكالم، عند مالك، األهواءأهل ( :يقول املصري ا أشعري

وال تقبل منه شهادة يف اإلسالم أبدا، ،كان أو غري أشعري هجر ويؤد١)فإن متادى عليها استتيب منها ب على بدعته،وي.

- ، يطلق حكمه على أهل الكالم٢"أبو عمر بن عبد الرب" املالكية يف القرن اخلامس، األئمةأحد كبار وها هو أيضاأهل الكالم أهل بدع أن األمصارمن مجيع واآلثارأمجع أهل الفقه (: دون متييز بينهم فيقول -شاعرةتهم يف عصره من األوغالبي باإلتقانما العلماء أهل األثر والتفقه فيه،ويتفاضلون فيه وإن يف طبقات العلماء، اراألمصوال يعدون عند اجلميع يف مجيع وزيغ،

.٣)وامليز والفهم

حول قبول الكالم بثوبه اجلديد أو بعد ظهور املذهب األشعري، نزاعا نشأ، هذه الشواهد والنصوص التارخيية تفيد أن أن - كما سبق وأشرنا- ولكن يبدو .على صعيد اتمع اإلسالمي علم الكالم عجز عن توطيد أركانه ما يعين أن رفضه،ع به من احترام واسع بني لما متت كان له دور كبري يف فتح أبواب اتمع على مصاريعها أمام علم الكالم،" الغزايل"اإلمام

" الغزايل"ع به يكتشف ما متت لقرون اليت تلته،والذي يطالع كتب علماء القرن السادس وا .يف آن معا فني ولدى الرأي العاماملثق .من مكانة يف أوساط العلماء وتالميذهم وصوال إىل أدىن شرائحهم

من ال دراية له بعلم الكالم إىل حد الزعم بأن ،"األصولاملستصفى من علم "مة كتابه يف مقد" الغزايل"لقد ذهب ومقدة فإنه ال ثقة بعلمهماته املنطقي.

تلخيصا للقواعد املنطقية صفحة، األربعنيعلى -يف الطبعة اليت رجعنا إليها- اليت تزيد صفحاا مة،قد جعل تلك املقدوونذكر .والربهان مة مدارك العقول واحنصارها يف احلدنذكر يف هذه املقد( :وقال يف بدايتها .اليت اعتمدت يف علم الكالم

شرط احلد وشرط احلقيقيوأقسامهما الربهان احلقيقي ...األصولمة من مجلة علم وليست هذه املقد، ماته وال من مقدة،اخلاص ا فال ثقة بعلومه أصال مة العلوم كلها،بل هي مقد ٤)ومن ال حييط.

اث أصول الفقه،إىل أحب -ومعه املنطق- كانت أوسع باب دخل منه علم الكالم" أيب حامد الغزايل"هذه املبادرة من ولعل .ال مثار هلا يف واقع احلياة واتمع إىل أحباث نظرية، لدى قسم من علماء أصول الفقه، منذ ذلك احلني، اليت راحت تتحول

وراح بعضهم يفتون -رغم أنه نقض آراءه هذه يف آخر حياته كما سنرى-على منهجه "الغزايل"وجرى كثري من العلماء بعد وال زال إىل يومنا وبقي الصراع قائما بني مجلة من الفقهاء وأنصار علم الكالم، .نطق وعلم الكالم فرض كفايةدراسة امل بأن

.سم بعدحومل ي هذا،

.١١٧ص، ٢ج، ابن عبد الرب، جامع بيان العلم وفضله -١٢ - هـ٤٦٣-٣٦٨( ابن عبد الرب(

د بن عبد الرباظ احلديث،من كبار حف: النمري القرطيب املالكي، أبو عمر يوسف بن عبد اهللا بن حمم أديب، خ،مؤر يقال له حافظ املغـرب ولـد . اثةحب )الزركلي( .فاتله العديد من املؤل .وتويف بشاطبة .وويل قضاء لشبونة وشنترين. ندلس وشرقيهاورحل رحالت طويلة يف غريب األ. بقرطبة

.١١٧ص، ٢ج، املصدر السابق -٣ .١٠ص، ١ج، هـ١٣٢٢الطبعة األوىل، ، ببوالق مصر احملمية األمرييةاملطبعة األصول،املستصفى من علم الغزايل، أبو حامد - ٤

Page 116: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٦

مبعىن أنه مل يقتصر دوره على تكريس علم يف هذا اال كان مزدوجا،" الغزايل"الدور الذي لعبه واجلدير بالذكر أنس هذا العلم تأسيسا جديدا على املنطق اليوناين، الذي نبذه معظم من سبقه من بل أس وم الشرعية املعتربة،الكالم يف مجلة العل

.وهاهنا كمنت اخلطورة الكربى يف دخول عناصر غريبة إىل ميدان الثقافة اإلسالمية .علماء الكالم أنفسهم

لنرى ما حيمله هذا العلم من بضاعة ميكن تسويقها يف مواضيع،نه من ولكن، لنعد قليال إىل طبيعة علم الكالم وما يتضماليت وضعها املتكلمون يف �ة حممد وإثبات نبو" حدوث العامل"األساسية اليت تتناول مسألة األحباثفإذا استثنينا .اتمع

ق ال يتناول سوى قضايا نظرية يتعل علم الكالم سنجد أن مواجهة خصومهم من أهل األديان وامللل والنحل غري اإلسالمية،ةأغلبها بصفات اهللا تعاىل وأحوال أهل اجلنة والنار وغريها من القضايا الغيبي .هم علماء الكالم بأم يتكلمون فيما ولطاملا ات

احلديث الذي وهو .الكالم فيما ليس حتته عمل يف ذم" مالك بن أنس"وقد سبق أن أوردنا حديث اإلمام .ليس حتته عمليعين الكالم فيما حتته عمل هو املباح عنده وعند أهل بلده، ن مالك رمحه اهللا أنقد بي(: قائال" ابن عبد الرب"ق عليه اإلمام يعل

حنو قول جهم : وضرب مثال فقال الكالم يف الدين حنو القول يف صفات اهللا وأمسائه، وأخرب أن .العلماء منهم رضي اهللا عنهما خالف ذلك وإمن عليه مجاعة الفقهاء والعلماء قدميا وحديثا من أهل احلديث والفتوى، والذي قال مالك رمحه اهللا، .القدرو

" عمر بن عبد العزيز"ومن أقوال اخلليفة الراشد .١)ا اجلماعة فعلى ما قال مالك رمحه اهللاوأم أهل البدع املعتزلة وسائر الفرق،ة اليت ال تستها إىل أحباث امنبعمال تبعلكالم النظري: )ة فاعلم أم على تأسيس إذا رأيت قوما يتناجون يف دينهم دون العام

تنبيه إىل حال أهل الكالم من كوم يف معزل عن " عمر بن عبد العزيز"ويف هذا التعبري املوجز من أمري املؤمنني ،٢)ضاللةتمع والرأي العامم الكالم مل يكن حيمل من األفكار واملشاعر واألنظمة ما ميكنه من املسامهة يف صياغة عل ما يعين أن .ا

.ته احلضارية وطريقته يف العيشله سهم يذكر يف إعطاء اتمع اإلسالمي هوي وبالتايل مل يكن عالقات اتمع،

من الضروري جدها علم الكالم على ا أن نتنبلوسط الثقايفا"ه إىل املساوئ اليت جر "،تمع اإلسالميما بعد يف اوال سيالقرن اخلامس اهلجري. كبري عن منهج القرآنإذ أد ة يفترق إىل حدوهذا من - ى إىل منهج جديد يف حبث العقيدة اإلسالمي

يعة اجلهود والطاقات وأثار مسائل نظرية ال طائل من حبثها واخلوض فيها سوى مض -اإلسالمية األصالةب عن إشارات التنكوكان على علماء الكالم .كان اتمع اإلسالمي أحوج ما يكون إىل تفاديها فني،وأثار خصومات يف أوساط املثق ،واألوقات

أن ية يف مواجهة خصوم اإلسالم اخلارجيم العقليني،دميوا تسخري طاقا فني توا مجاعة املثقال أن يلتفتوا إىل الداخل ليشت .عمل ال ينبين عليها أي رات كالمية تتخاصم على قضايا كالمية حبتة،معسك

من تأثري سليب على سلوك كثري من " القضاء والقدر"ما كان لآلراء اليت نتجت عن االختالف يف مسألة وال ننس أيضا،وأومهه أنه كالريشة يف حول نوع سلوكه،اذ القرار وال سيما ذلك الرأي الذي أسقط إرادة اإلنسان ومشيئته يف اخت املسلمني،

مهب تمع وتركوا . وليس هو من خيتار أفعاله ال قيمة إلرادته، الريح، وأنهاألخذاألمر الذي أنتج مجاعات من الذين هجروا ا رها قدرا حمتوما ال ميكن باعتبا وركنوا إىل الظلم واالحنرافات السياسية، وأمهلوا األمر باملعروف والنهي عن املنكر، ،باألسباب

.١١٦ص، ٢ج، جامع بيان العلم وفضله -١ .١١٤ص، ٢ج، املصدر السابق -٢

Page 117: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٧

إىل تلك الرتعة اجلربية نزعة التصوف اليت جتنح أن تنضم -كما سنرى الحقا- وكان ضغثا على إبالة .ر فيهلإلنسان أن يؤث .وشهوة احلكم األخطاءط يف ليتخب حنو العزلة وهجر اتمع والوسط السياسي،" باألتقياء"

ه نشأ يف كنف احلضارة وأن ال عن غريها، كان يف حقيقته معبرا عن الثقافة اإلسالمية وحدها،علم الكالم يبقى أن ولكن، .ليكون شاهدا على ازدهار عظيم يف الفكر والتأليف واحلركة الثقافية اليت مل يسبق للتاريخ أن عرف نظريا هلا اإلسالمية،

Page 118: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٨

الفصل الثاين الفلسفة والتصوف

الفالسفة و :الأوتمع اإلسالميا دوافعه الوقوف يف وجه اهلجمة اليت هذا العلم كان من أهم لقد أوضحنا فيما مضى من احلديث على علم الكالم، أن

متسلشن ة،ها أهل األديان وامللل على الفكر اإلسالمياألمر الذي دعا علماء املسلمني حني بالفلسفة اليوناني -متهم أهل ويف مقد .حني اوإسقاط حجج املتسل عليها، بغاية الرد الع على الكتب الفلسفية بعد ترمجتها لدراسة مسائل فيها،إىل االط -الكالم

ة،فكان أن استفاد علماء الكالم من املقدمات املنطقي لوضع قواعد للبحث خاصدراسة هؤالء مل أن إال( .ة بالفكر اإلسالميوبرأي كل فريق من حتى أحاطوا باآلراء املختلفة يف الفلسفة، ع،ما دراسة أفكار فلسفية بتوسنوإ تكن دراسة فلسفية كاملة،

األحباثوكانوا فوق اقتصارهم على بعض .ال يف مجيع املسائل عها،الفالسفة إحاطة يف بعض املسائل بتتب ة يقيدون الفلسفي .١)سالموهلذا مل خيرجوا عن أهل اإل .أنفسهم بإميام بالقرآن

الع االط أن(ذلك .ى فيما بعد إىل ظهور من عرفوا بفالسفة اإلسالمفني أدولكن تداول الكتب الفلسفية بني أيدي املثقة وعلى كتب الفلسفة قد حبعلى األشخاصفحمل ذلك بعض للناس يف ذلك العصر، األحباثب هذه على األفكار الفلسفي

ة مطلقة يف كل شيء،فدرس ع يف هذه األفكار،التوسها دراسة عميقة واسعة ودراسة كلي ويف كل اتاجه إليهجاه، وات ته،بكلي له ألن يفكوهضم قدرا صاحلا من الفلسفة يؤهر تفكريا فلسفيا،ا وينتج إنتاجا فلسفي اء هذه الدراسات الواسعة فكان من جر

.٢)أن وجد بني املسلمني فالسفة ،ية بنوع خاصوال سيما الفلسفة اليونان العميقة للفلسفة،

مث كان من بعده يف اإلسالم من أخذ بتلك املواهب واتبع فيها رأيه حذو ( ":أرسطو"بعد احلديث عن " ابن خلدون"يقول سان اليوناين إىل اللسان اس من اللا ترمجها اخللفاء من بين العبمني ملكتب أولئك املتقد وذلك أن .يف القليل إالالنعل بالنعل،

،وجادلوا عنها واختلفوا يف مسائل من ه اهللا من منتحلي العلوم،وأخذ من مذاهبهم من أضل ة،تصفحها كثري من أهل املل العريب .٣)تفاريعها

.١٢١ص ،١ج، الشخصية اإلسالمية -١ .١٢٢ص، ١ج، املرجع السابق -٢ .٥٧٠-٥٦٩ص، مقدمة ابن خلدون -٣

Page 119: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١١٩

ل أوه الذي عاش يف القرن الثالث اهلجري ووصف بأن" يدنيعقوب بن إسحق الك"وكان من أشهر هؤالء الفالسفة " إخوان الصفا"كما ظهرت خالله أيضا يف البصرة مجاعة ".أبو نصر الفارايب"ويف القرن الرابع اشتهر .فيلسوف يف اإلسالم

هالذين وضعوا مذهبا زعموا أنمث اشتهر يف القرن .وا به الطريق إىل الفوز برضوان اهللا من طريق دمج الفلسفة بالشريعةم قربيف الذي تويف" األندلسيابن رشد "آخر فيلسوف يف اإلسالم هو ويرى كثري من الباحثني أن ".ن سيناب أبو علي"اخلامس

.القرن السادس

ة، انطلقوا من مقدا،كان هؤالء الفالسفة تالميذ للفلسفة اليونانينعم .وساروا على منهجها، ووصلوا إىل نتائجها ما ا يف تلك الفلسفة،هم أحدثوا تغيريا جوهريذلك مل يعن أن أن إال ة اليونانية واإلسالم،كانت لديهم حماوالت للتوفيق بني الفلسف

وإند ناقلني هلاما كانوا يف الواقع جمر.

)ظهر الكندي والفارايب وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغريهم، وابن سينا وأبو الربكات البغدادي صل كل واحد وات... ما وصل إلينا عنهم مل يكن شيئا جديدا ولكن .وكتبوا كتبا فلسفية -على الصورة اليت وصلته-لفلسفة من هؤالء بتلك ا

مع حماولة غري ناجحة للتوفيق بينها وبني احلديثة، األفالطونيةأو األفالطونيةائية أو ة من املشكان فقط صورة خمتلطة وخمتلالفكر اإلسالمي.

ن هناك بعض اجلدة والطرافة عند هؤالء الفالسفة مم دة من مستشرقني وباحثني عرب إلثبات أنمتعد وقد قامت حماوالتا يبعد مبذهبهم عن زات جتعل هلؤالء الفالسفة طابعا خاصممي :ة ملذاهبهمزات خاصوإلظهار ممي يدعون بفالسفة اإلسالم،

ى فلسفة إسالمية وفلسفة هيلينية، مع وجود متاما التطابق الشديد بني ما يسمد تؤي األحباثتلك ويبدو أن .الفلسفة اهليلينيةلفلسفة " امتداد"إنما هم ففالسفة اإلسالم على طريقة اليونان،. بعض اختالفات جزئية ال تغير من جوهر هذه الفلسفة اهليلينية

ومل يقبل هذا العامل فلسفتهم، بل اعتربها خارجة . عامل جديدللفلسفة اليونانية القدمية يف" مراكز إسالمية"و اآلخرينهؤالء .١)له وال متت إليهعليه ال متث

هؤالء كانوا ومن اخلطأ الشديد القول إن ".تالمذة الروم"و" فراخ اليونان"كما يقول ابن تيمية ا،وقد كان هؤالء حق(بقدر ما أخذوا شيئا فشيئا من التراث انفصلوا تدرجييا وببطء، انية،ما هم تالميذ أمناء للفلسفة اليونوإن فالسفة اإلسالم،

ة، ،اهليليين٢)أي وبقدر ما ابتعدوا عن فلسفة الكالم موغلني يف فلسفة اليونان عن الدائرة اإلسالمي.

وال - أن وضعوا علم الكالم اليت وقع فيها كثري من الباحثني الذين أرخوا للثقافة اإلسالمية، األخطاءلذلك كان من أكرب فاملتكلمون إنما صدروا عن إميان كامل بالعقيدة .فالفرق كبري بني الطرفني .٣يف خانة واحدة مع الفالسفة -سيما املعتزلة

العهم عليها مدعاة لالستفادة من وكان اط .ح اعلى من تسل واطالعهم على الفلسفة إنما كان دف الرد .اإلسالميةة من أجل إثبات العقيدة وحدهامقدا املنطقيومل يدرسوا الفلسفة دراسة كاملة، .ما رأوها وافية ما درسوا مسائل منها،وإن

.٤٩ص، ١ج، اإلسالم نشأة الفكر الفلسفي يف -١ .١٠٧ص، ١ج، املرجع السابق -٢ .٤٠-٣٩ص، ٢ج، اإلسالم واحلضارة العربية حممد كرد علي :انظر -٣

Page 120: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٠

ا ومم .وا نتائجهاوساروا معها وجوا جها وتبن خبالف حال الفالسفة الذين درسوا الفلسفة اليونانية دراسة كاملة،. بغرضهم فيها، احلجج، فليس حبثا عن احلق إقامةث به املتكلمون من ما حتد(: لتفريق بني الفلسفة والكالميف ا" ابن خلدون"يقوله

ة عقلية تعضد عقائد اإلميان ومذاهب السلف بل إنما هو التماس حج .فالتعليل بالدليل بعد أن مل يكن معلوما هو شأن الفلسفةالنقلية كما باألدلةوذلك بعد أن تفرض صحيحة مداركهم فيها عقلية، أن وتدفع شبه أهل البدع عنها، الذين زعموا فيها،

.١)ما بني املقامني وكثري .اها السلف واعتقدوهاتلق

ة السحيقة بني عناصر هذه الفلسفة وبني عقائد مدى اهلو -ل األمرلهم املعتزلة يف أووميث- وقد أدرك علماء الكالم(وبقي الرتاع بني االثنني أمدا .جه إىل الفلسفة اليونانية نفسهامث ات بينهم وبني هؤالء الفالسفة،اع لرتفسرعان ما بدأ ا اإلسالم،

ين وإمام احلرمني كالباقال-شاعرة العظماء قام رجال األ ال لإلسالم،ن املذهب األشعري ممثوحني تكو .طويال مل ختمد جذوتهأنفسهم " فالسفة اإلسالم"وبلغ النقاش ذروته حني أعلن الغزايل تكفري .ل جبدل الفالسفةمتابعني شيخ املدرسة األو -وغريمها

.٢)باسم اإلسالم

إذ رأوهم معبرين عن فكر .صارما من هؤالء الفالسفة -ثني ومتكلمنيفقهاء وحمد-وهكذا كان موقف العلماء املسلمني الفلسفة تطلق ذلك أن .تعارض مع العقيدة اإلسالمية من حيث األساسوهو يف نفس الوقت ي آخر ال ميت إىل اإلسالم بصلة،

لة من الواقع أد رات ال تقوم عليها أيأي ما وراء املادة،وليصل إىل تصو عنان العقل يف حبث ما وراء الكون واإلنسان واحلياة،القرآن دعا إىل حتكيم العقل وإعمال الفكر يف صحيح أن .وهذا خالف املنهج اإلسالمي الذي أتى به القرآن الكرمي .احملسوس

ر يف املخلوقات اليت فدعاه إىل اإلميان باخلالق عن طريق التفك .ة العقل على جمال احملسوساتأنه قصر مهم إال جمال العقيدة،كما أنه دعا اإلنسان إىل .�٣قأنه احل مهل نيبتحتى ي مهسفنأ يفو اآلفاقنا يف آيات ميهرنس� .تقوم شاهدا على خالقها

ونربدتال يفأ�: فقال ه حيمل رسالة من عند اهللا،ته وأنإذ به تثبت نبو .وهي القرآن ،�حتكيم عقله يف معجزة الرسول ي، ينتقل العقل من دور احلاكم إىل دور املتلق ند هذا احلدوع .�٤ثرياالفا كتاخ وا فيهدجول اهللا ريغ دنع نم انك ولو آنرالق

العقل عاجز ذلك أن. س حياته على أساس متني من العقيدةليؤس ما يكفيه من أخبار الغيب، اإلهليةى من الرسالة حيث يتلق .اإلدراكهي منفذ العقل إىل إذ احلواس. مبا هو وراء احلس اإلحاطةعن

هذه العلوم عارضة يف (": هالنتحيف إبطال الفلسفة وفساد م" فيقول عن هذا املنهج يف التفكري،" ابن خلدون"ويعبر قوما من وذلك أن .فيها كشف عن املعتقد احلقفوجب أن يصدع بشأا وي .العمران، كثرية يف املدن، وضررها يف الدين كثري

باألنظارتدرك أدواته وأحواله بأسباا وعللها - يمنه وما وراء احلس يساحل- الوجود كله عقالء النوع اإلنساين زعموا أنوهؤالء .دارك العقلمن م ها بعضفإن تصحيح العقائد اإلميانية من قبل النظر ال من جهة السمع، وأن قيسة العقلية،الفكرية واأل

احلك مجع فيلسوف، ون فالسفة،يسم موا على إصابة الغرض فبحثوا عن ذلك ومش .مةوهو باللسان اليوناين حمبروا له وحو

.٥٤٨، صمقدمة ابن خلدون -١ .٤٨ص ،١ج، نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم -٢ .٥٣ اآلية، سورة فصلت -٣ .٨٢ اآلية، سورة النساء -٤

Page 121: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢١

وه باملنطق منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل يف نظره إىل التمييز بني احلقافت آراء الفالسفة يف .١)والباطل،ومس نمث يبيات قائالاملاورائي :)وأموهي الروح- ا ما كان منها يف املوجودات اليت وراء احلسانيونه العلم ات يسموعلم ما بعد اإلهليجتريد املعقوالت من املوجودات اخلارجية ل إليها وال الربهان عليها ألنذواا جمهولة رأسا وال ميكن التوص فإن - الطبيعة

ت أخرى حبجاب احلساوحنن ال ندرك الذوات الروحانية حتى جنرد منها ماهي الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا،وال (: ا يقوله يف هذا املوضوعومم ،٢...)ى لنا برهان عليها وال مدرك لنا يف إثبات وجودها على اجلملةفال يتأت بيننا وبينها،

ه رأيه يف بالكائنات وأسباا والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسف اإلحاطةتثقن مبا يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على من واحلق واألمر يف نفسه خبالف ذلك، الوجود عند كل مدرك يف بادئ رأيه منحصر يف مداركه ال يعدوها، واعلم أن .كذل

فهو أحرص على سعادتك بع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك،وات فاتهم إدراكك ومدركاتك يف احلصر، ...ورائهأنه ال يريد بذلك القدح إىل ولكنه ينبه .٣)ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك ك،فوق إدراك ن طوره مألن وأعلم مبا ينفعك،بل العقل ميزان وليس ذلك بقادح يف العقل ومداركه،( :فيقول مستدركا ما هو ينبه إىل حدود قدرته،وإن يف قدرة العقل،

وحقيقة النبوءة وحقائق الصفات واآلخرةوحيد ك ال تطمع أن تزن به أمور التغري أن .فأحكامه يقينية ال كذب فيها صحيح،ومثال ذلك رجل رأى امليزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به .ذلك طمع يف حمال وكل ما وراء طوره، فإن اإلهلية .٤)اجلبال

ا، األمر الذي دفع مبني مثار كل منه ى إىل اختالف جذريبني منهجي القرآن والفلسفة أد هذا االختالف اجلذري مث إنافت "ف كتاب الذي صن" أبو حامد الغزايل"وكان أصرم هؤالء .علماء املسلمني إىل إخراج الفالسفة عن دائرة اإلسالم

: فيقول بعد احلديث على فالسفة اليونان ،"املنقذ من الضالل"ص رأيه يف كتابه ويلخ .ح فيه بتكفريهموصر" الفالسفةثالثة من آراء الفالسفة ر أنويقر .٥)كابن سينا والفارايب وغريمها بعيهم من املتفلسفة اإلسالميني،فري متفوجب تكفريهم وتك(

وذلك يف املسلمني، ةا املسائل الثالث فقد خالفوا فيها كافأم(: ة اإلسالم فيقولهي اليت أوجبت تكفريهم وإخراجهم من ملولقد .واملثوبات والعقوبات روحانية ال جسمانية دة،ار األرواحملثاب واملعاقب هي ا اوإمن ال حتشر، األجساد إن: قوهلم

ومن ذلك .وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به ولكن كذبوا يف إنكار اجلسمانية، ا كائنة أيضا،فإ صدقوا يف إثبات الروحانية،ة يف أنه ال يعزب عن علمه مثقال ذر بل احلق. ا أيضا كفر صريحوهذ ات،ات دون اجلزئياهللا تعاىل يعلم الكلي إن: قوهلم

.٦)فلم يذهب أحد من املسلمني إىل شيء من هذه املسائل .تهدم العامل وأزليومن ذلك قوهلم بق .السماوات وال يف األرض

": ماجد عرسان الكيالين"ل يقو .أوسع إطاللة للفالسفة على الوسط الثقايف كانت يف القرن الرابع اهلجري ويبدو أن)،منذ القرن الثاين اهلجري ة يف العامل اإلسالمية إىل دخلت الفلسفة احلياة الفكرية واهلنديحينما نشطت ترمجة العلوم اليوناني

.٥٦٨ص، مقدمة ابن خلدون -١ .٥٧١-٥٧٠ص، السابقصدر امل -٢ .٥٠٩-٥٠٨ص، السابقصدر امل -٣ .٥٠٩ص، السابقصدر امل -٤ .٢١-٢٠ص ،املنقذ من الضالل -٥ .٢٨-٢٧ص ،السابقصدر امل -٦

Page 122: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٢

سالة يف اإلسالم،ة والرى العقيدة وفكر النبوذت طابعا آخر حتدالفلسفة منذ القرن الرابع اهلجري اخت غري أن .اللغة العربيةس هذا االجتاه هو ابن ومؤس .ات اليت هزمها الفتح اإلسالميالسياسية الرامية إىل إعادة القيادة لألرستقراطي باألهدافوارتبط

يعود إىل تنامي ظاهرة الفلسفة وانتشارها النسيب ويرى أن. ١)الذي يعترب أعظم فالسفة املسلمني) هـ٤٢٨- هـ٣٧٠( سيناار لذلك مل يستطيعوا الوقوف أمام تي ل بالفقهاء وأمثاهلم كان حبيس املذهبية احلزبية والتقليد،لفكر اإلسالمي الذي متثا أن(

الفلسفة اليت أحدثت موجة حادلدى املثق ة من القلق العقائدية فني واالضطراب االجتماعيلدى العام!!

:سم بأمرينالذي استعرضنا تفاصيله قد ات ديالتكوين الفكري والعقائ وميكن القول إن

لاألو :مجود مؤسوحتو سات الفكر اإلسالميوتوجيهه إىل مؤس تمع اإلسالمية هلا عن رسالتها يف ترشيد اسات مهنية اتة واالنقسام،أكادميياألصولواحنراف مناهج التفكري عن سمت باملذهبي ةالقائمة يف القرآن الكرمي والسن.

لتربز يف ساا أمام الفتح اإلسالمي،اهات الثقافية اليت اوت مؤسإفساح اال للعقائد الفكرية واالجت: واألمر الثاينيف القرون الثالثة األوىل مظاهر جديدة تتالءم مع املنعطف العقائدي الذي أحدثته مدارس الفكر اإلسالمي ٢)واحلضاري.

هو الذي أفسح الطريق للفالسفة، -وا هلمضمن من تصد- وااد الكالم الذين تصدول جنم املعتزلة رووال يبعد أن يكون أف ولعل .لذلك مل يلبث الرأس الذي أطلت به الفلسفة أن انقطع مع ظهور املذهب األشعري .أمام الفلسفة لتخرج من قمقمها

أبرز ما مييز كال أن خرى،تني عن األمن املدرستني الكالمي ة والقضاء على املعتزلة كانوا يعيشون هاجس مواجهة التيارات الدينيبعد أن فرغ املعتزلة من القضاء على -شاعرة دسائس الشعوبية ورواسبها من زنادقة وأصحاب بدع، بينما انربى األ

وهكذا مل يكد القرن اخلامس ميضي .ةت برأسها نتيجة تداول الكتب اليونانية املترمجي للفلسفة اليت أطلللتصد -خصومهم .حتى كانت احلركات الفلسفية قد القت حتفها وهي تلتقط خلجاا األوىل

ا كانوا دوما وإمن .عن الرأي العام -وال أدىن تعبري- األيام مل يكن هؤالء الفالسفة يعبرون يوما من ويف كل األحوال،م ذلك أ .فنيقة من املثقعلى بعض الدوائر الضي إالومل يكن هلم تأثري .هتمع وحسعن فكر ا - يف فلسفتهم- أفرادا منعزلني

.وهيهات أن يفلحوا يف ذلك كانوا يف حقيقة األمر يقدمون الفلسفة بديال عن الدين أو ندا له،

تعود ن تؤمن ببعث جسديوأ ر اخللق من ال شيء،وأن تتصو هل استطاعت الروح اليونانية أن تكشف فكرة اخلالق،( قد أقبلت إىل اتمع اإلسالمي، هذه الفتنة اليونانية، إن: الصورة واملادة؟ كيف ميكن أن يقال إذن -إن تكلمنا بلغتها- فيه

رت بش رات العقلية اليترات قطعية ختالف تلك التصوماا من تصوذت مقوذوها عنوانا على حضارة اختفاخت فبهرت اجلموع، ا الفلسفة اليونانية؟

ة أن تظهر على مسرح الوجود، كان ال بدة ا هلذه الفلسفة اليونانية آلعنوانا على حضارة هذه األمة اليت علمت اإلنسانيري .تمع اليوناينصل ببيئة ااملت ا وحدها، واخلاص ا، ولكن كان هلا النسق اخلاص مجعاء الكثري من أمناط الفكر وسياقاته،

العاملي للفكر اإلسالمي، فريجينيـا، الدار العاملية للكتاب اإلسالمي واملعهد ،هكذا ظهر جيل صالح الدين وهكذا عادت القدس ،ماجد عرسان الكيالين -١ .٦٥ص ،م١٩٩٥ /هـ١٤١٦، الواليات املتحدة االمريكية

.٦٩-٦٨ص، املرجع السابق -٢

Page 123: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٣

ا واملترة عن حضارة بوضع فلسفتها املعبولذلك حني قامت الروح اإلسالميصلة ببنائها االجتماعي، أيضا من كان ال بد .١)بينها وبني الفلسفة اليونانية ض يف املنهج ويف املادة،وتعار اختالف عنيف ومن جدل قاس،

حتى من املؤرخني الغربيني د إىل اتمع اإلسالميى كل من نظر مبوضوعية وجترلقد أدرك هذه احلقائق التارخيية الكربسواء كان ذلك من هذه الفلسفة مل تنجح يف التغرير باإلسالم، إن(: على سبيل املثال ،"أندريه ميكيل"ا يقوله فمم .أنفسهم

د،باب احليطة أو من باب التعم تم إن مل يكن إىل أشكال بالوصول إىل اجلوهر، -ثل اإلسالمم- فقد كانت هذه الفلسفةواالهتمامات الكونية واألخالقية وكان من الصعب على هذه الفلسفة الدمج بني أركان العقيدة ووضعية أرسطو، املطلق،

واجلسد وكنه العمل ة مسألة التوحيد وحياة الروح حييط مبشاكل يف مثل حد وكان التناقض أو الشك .فالطونية اجلديدةألاةت هذه الفلسفة يف نظر لذلك ظل .اإلهليالعظمى من املؤمنني األغلبي-وخاصوكان أتباعها فلسفة غريبة وخطرة، -نية السني

من الفالسفة يهمون بالشعوذة،ت ٢)هة إىل الزنادقةبل وأحيانا كانوا خيلطون يف نفس الكراهية املوج.

حنرافات الفكرية والتارخيية أن تقحم فلسفة هؤالء الفالسفة يف إطار احلضارة اإلسالمية، أو كان من أعظم اال وبالتايل،فاملسافة اليت تفصل بني كل منهما هي املسافة اليت تفصل بني كل من احلضارة اليونانية وثقافتها من .حتى يف الثقافة اإلسالمية

.ان ما بني االثنتنيوشت .أخرىجهة واحلضارة اإلسالمية وثقافتها من جهة

جبهد املستشرقني إالوما ذلك .عوا ا يف عصرنا احلاضرامهم بالشهرة واحلظوة اليت متتهؤالء الفالسفة مل حيظوا يف أي ولعلأصحاب فكر ني على اإلسالم على الدوام فاملستشرقون يعدون املنشق(. فني العربر م من املؤلومن سار على جهم أو تأث

ثوري حتريري عقلي. على ما لديهم من قوالب ،ون بكل غريب وشاذودائما يهتم ودائما يقيسون ما يرونه يف العامل اإلسالميوا كثريا فاهتم ما كانوا يريدون رؤيته، إالمل ير املستشرقون يف الشرق (": رودستون"وعلى حد تعبري .٣)مصبوبة جامدة .٤)رية والغريبةباألشياء الصغ

وها هو .٥)ا يف تاريخ احلضارة اإلسالميةظاهرة بارزة جد(علي من شأن الفارايب ويعده ي" كارل بروكلمان"فها هو ويرى .٦)اسيأكمل ما وصل إلينا من تعبري عن التفكري اإلسالمي يف العصر العب(" إخوان الصفا"رسائل يرى أن" ديورانت"

ويتكلم على الفقهاء ويصف مواجهتهم .٧)م عن كل تفكري نظري١٢٠٠أعرض اإلسالم بعد عام (فلسفة أنه بأفول جنم ال٨)كبت للتفكري املستقل(ا للفلسفة بأ.

.١٠٢ص ،١ج ،نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم -١ .٢١٦-٢١٥ص، اإلسالم وحضارته -٢٣- ة للصراع احلضارية الفكري١١٦ص ،االستشراق واخللفي. .١١٦ص ،املرجع السابقنقال عن -٤ .٢٤٤ص ،تاريخ الشعوب اإلسالمية -٥ .٢٠٧ص ،١٣ج ،قصة احلضارة -٦ .٢٠٧ص، ١٣ج ، املرجع السابق -٧ .٢٠٧ص، ١٣ج، املرجع السابق -٨

Page 124: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٤

حممد كرد " -على سبيل املثال- ومنهم .ى آراءهم تلكفني العرب من سار على ج املستشرقني وتبنومن الكتاب واملؤلظهر" علية،(: على الفالسفة قائال األسى الذي يوكان من سوء خبت الفالسفة أن كانوا فئة قليلة يف كل بقعة إسالمي

وقد .وحاول هذا الكثري أن يقضي على ذاك اليسري .ولذا استضعفوهم يف الفترات وأحنوا عليهم خصومهم كثرة يف كل أرض،ة .يف جانب هذا القليل يكون احلقكانت مع القوى املاد أو من كان مذهبهم مذهب إمامهم أتباع كل ناعق، والسلطة والعوام

وليس مع الفئة القليلة من .بد أو معذم وصاحبه الناجون وغريهم يف النار خملويومههم أ ما عداه باطل، يعتقدون صوابه وأنم ونفوذ بصائرهم وأبصا اخلواصرهمسوى أسالت أقالمهم ونربات ألسنتهم وثقوب أذها .وكانوا على كثري من احلق،

حركة وكانت عاقبة هذه احلرب اليت شبت قرونا نكبة العلم وإفالس العقل وشل وكان منازعوهم على شيء من الباطل،ونشروا تعاليمهم بالقدر الذي ة بصريم،ة علمهم وقوالفالسفة مع هذا ظهروا على من عاداهم بقو ولكن .البحث والنظر

.١) إنارة العقول وثقافة اجلمهور وعمارة البالدينفع يف

ألن تون،املتزم ها على التفكري الفلسفير احلمالت اليت شن تؤثمل(: ، فيقول"توفيق الطويل" وعلى هذا النحو أيضا يكتبيف أصله ال يعو الدين اإلسالميوال يعرقل حر ض الفالسفة من اضطهاد قائالل ما لقيه بعمث يعل .)يتهق طالقة النظر العقلي :

قني منهم، وقلقهم من ونعين باألخرية حسد العلماء للمتفو مرد هذا االضطهاد فيما نعلم إىل أسباب سياسية أو شخصية،( .٢)ظهور رأي جديد مل يألفوه، وحرصهم على رأي قدمي ثبتوا عليه

فأين هذا الكالم من احلقيقة ! لى الفقهاء وعلماء الدينالفالسفة انتصروا ع القارئ هلذه السطور يفهم منها أن إنى الفلسفة اليونانية وإفرازاا من الفالسفة اإلسالميني، حتى من بني الكتاب العرب نا ال نستغرب أن جند من يتبنإن! التارخيية؟ر الغريب يف إطار احلضارة اإلسالمية وأن أن جيري إقحام هذا العنص ولكن،.لكل فكر أنصاره، قلوا أم كثروا ذلك أن أنفسهم،

فال الفلسفة من اإلسالم يف شيء، .ال من التاريخ وال من الفكر شاهد، فهذا ما ال يشفع له أي ينسب إىل الثقافة اإلسالمية،تمع اإلسالميوال هي استطاعت أن جتد لنفسها موقعا يف تاريخ ا.

ني وما تني والناعقني واملفلسني والظالميلى الفقهاء، من مثل وصفهم باملتزمهو اهلجوم العنيف ع من ذلك، واألغربجيد أن ق يف اتمع اإلسالمي،ومن يدق .ه احلضارية اإلسالميةهؤالء الفقهاء الذين لوالهم ما عرف اتمع هويت شاكل ذلك،

مبعزل ...ظمة اتمع اإلسالمي وأهدافه وقيمه ومثله العلياال مكان للكالم عن احلضارة اإلسالمية وطراز العيش اإلسالمي وأنونترك التعبري عن .من خالل فهمهم لنصوص الوحي مات اتمع تلك،ة التعبري عن مقووا مهمإذ هم الذين تول .عن الفقهاء

إلسالم يسيطر على جممل حياة ا أن(: ر، الذي يقر"رميون بلوخ"هذه احلقيقة التارخيية ألحد مشاهري املستشرقني، وهو وهو الرباط كل شيء يستند إىل الوحي، .والسياسي أو نشاطه االجتماعي سواء يف ذلك حياته الروحية واألخالقية، اإلنسان،

!فأين هؤالء الفالسفة من هذا الوحي وأحكامه وتوجيهاته؟ .٣)الوثيق الذي جيمع أمة اإلسالم

.٣٩-٣٨ص، ٢ج، اإلسالم واحلضارة العربية -١ .١٢٦-١٢٥ص، خدون تاري، القاهرة، ة الرتاع بني الدين والفلسفةقص، توفيق الطويل -٢ .٨ص، املقدمة بقلم رميون بلوخ، لدومينيك وجانني سورديل" احلضارة اإلسالمية يف عصرها الذهيب" -٣

Page 125: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٥

من حيث يدري املهامجون أو ال -اهلجوم على فقهاء اتمع اإلسالمي هو يف احلقيقة إن :وبناء على ما سبق نقوللذلك ن غري مقبول مم ه وال شكفإن وإذا كان هذا ال يستغرب من املستشرقني، .هو هجوم على احلضارة اإلسالمية نفسها -يدرون

.ف مدافعا عن احلضارة اإلسالميةيؤل

التارخيية اجلذور: التصوف :ثانياخذمها اإلنسان لتحقيق كماله يت نة يف السلوك،وطريقة معي فلسفة حياة، التصوف بوجه عام(": الوفا التفتازاين" يقول أبو

والتصوف مشترك بني ديانات وفلسفات .وحتقيق سعادته الروحية واالتصال مببدأ أمسى، وعرفانه باحلقيقة، األخالقي، .١)ور خمتلفةوحضارات متباينة يف عص

سادت لدى بعض الشعوب فكرة عن الوجود وفلسفة للحياة، قبل ظهور اإلسالم، وحتى قبل املسيحية، منذ قرون بعيدة،ن من عنصرين اثنني،مؤدما هو مكوة"مها ،اآلخرأحدمها فاض عن اها أن هذا الوجود إنإن: وبتعبري آخر ".الروح واملاد

فما يراه اإلنسان حوله من أشياء حمسوسة إنما هو اجلانب ".املادة"ه وعرض "الروح"جوهره ،الوجود إنما هو شيء واحديف - واجلانب املادي .فهو الروح أو العوامل الروحانية" يف العادة"املغيب عن اإلنسان اآلخرا اجلانب وأم املادي من الوجود،وهذه هي الفلسفة القائلة .العنصر اجلوهر السامي الذي هو الروحسوى فيض منخفض فاض عن ليس -نظر هذه الفلسفة

.٢)د معهاليس خارج الطبيعة ولكنه متوح اهللا مبدأ ال شخص، تعاليم فلسفية تذهب إىل أن(فهي .بوحدة الوجود

على خالق الوجود "الروح"بني من يطلق عبارة تعددت اآلراء يف حتديد العوامل الروحانية، ضمن مذاهب هذه الفلسفة،وكذلك تعددت ".األرواح"أو غري ذلك من درج ضمنها املالئكة أو اجلنومن ي -ة األوىليه بعضهم بالعلويسم- سبحانه

اجلسد أدىن مراتب - معظمهم عدوا الكون واإلنسان ولكن .ومراتبها" الروح"اآلراء حول أشكال الفيوض اليت فاضت عن .٣طاالفيوض وأكثرها احنطا

ا إىل اإلنسانما يهمنا يف تلك الفلسفة نظر. فإا للوجودا نظرة ذانا من عنصرين .ا األساسير اإلنسان مكوفهي تصوالعنصرين مها يف نزاع دائم ناتج عن هذين ولقد ساد لدى هؤالء اعتقاد مفاده أن .والروح -وهي اجلسد- املادة: اثنني

وهذا التنافر بني اجلسد والروح سيسفر لدى .واهلابط للروح املادة هي املظهر املنحط م يرون أنذلك أ. تناقضهما وتنافرمهاا إن انتصر الروح فأم .ب اجلسد على الروحا أن يتغلوإم ب الروح على اجلسد،ا أن يتغلإم :كل إنسان عن إحدى نتيجتني

ا إن وأم .السعيد الذي يسمو فوق عامل اجلسد واملادة وننت احلياة الدنيا لنقيب افقد وجد اإلنسان اخلير الطي على اجلسد،

بقلم أبو الوفـا ". التصوف"مادة ، ٧٣ص، الد األول، ١٩٨٦ط أوىل ، العريب، بريوت اإلمناءمعهد ، معن زيادة.بإشراف د، املوسوعة الفلسفية العربية -١ .فتازاينالت

".وحدة الوجود"مادة ، ١٩٨٧دار الطليعة، بريوت ، ترمجة مسري كرم، يودين. روزنتال وب. إشراف م، املوسوعة الفلسفية -٢ .١٨٦ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم: انظر -٣

Page 126: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٦

انتصر اجلسد على الروح، فهذا يعين أننا إزاء إنسان شرد احنط ير شقيإىل مستوى البهيمة وغرق يف أوحال الدنيا ونتنها، وبع .١يالسامية وعن روح الوجود الكل األرواحعن عامل

هو عبارة -يف نظر هذه الفلسفة- اإلنسان ؟ فإنلى الروحوكيف ينتصر اجلسد ع ينتصر الروح على اجلسد،ا كيف وأمإىل عامل عن روح يأسره اجلسد ومينعه من االرتقاء والتحر األرواحر والسمو وكلما غذي هذا . أو إىل روح الوجود الكلي

ه من أجل أن لذلك فإن .ب عليهن منه والتغلأقدر على أسر الروح والتمك اجلسد وحصل على ما يشتهيه من اللذائذ واملتع كانت حينئذ التفل األخريفيستطيع هذا ينتصر الروح على اجلسد كان ال بد من إضعافه وقهره وإذالله حتى ال يقوى على الروح،

ادة املطلقة،على من يريد االرتقاء بروحه لبلوغ السع وبالتايل فإن .ر من قيودهمنه والتحر أن يقضي حياته يف معركة ضد ما يقيم أوده من إالفال يأكل فيهجر متاع احلياة الدنيا وزينتها وزخرفها ونعيمها، بأن ال يستجيب لرغباته وشهواته، جسده،

وال يركب الدو ة،اخلشن والثياب الرث" الصوف"ا يضع على كاهليه رقاع وإمن وال يلبس نواعم الثياب، الطعام وزهيده، مراب ا وإمن وال يسكن البيوت الفارهة، وعوايت الليايل، األياما يسيح يف األرض حايف القدمني حاسر الرأس يف نوائب وإمن الذلول،

ا يفترش األرض والبسط اليابسة، ، وإمناألرائككئ على وال ينام على الفرش وال يت ية،رالز واألكواخيسكن الدور الوضيعة ور ويقضي أوقاته يف قهر اجلسد وإذالله يف الزوايا والتكايا ود ويعيش حياة الرهبان، فيكبت شهوة النوع، اآلخرجلنس ويهجر ا

ا ال يقوى معه على أسر الروح،إىل أن يصل ضعف اجلسد حد وهكذا، ...العبادة أو يف الوديان السحيقة أو اجلبال العاليةليس ف احلقائق واألشياء أمام ذلك اإلنسان جلية واضحة،فتتكش ل فيه،ويتجو العلوي األرواحت منه ويسمو إىل عامل فيتفل

ة من مسع وبصر وغريمها، بل من طريق الكشف من طريق احلواسالوجداين"اجلسدي."

هذه الفلسفة وهو وفق مفهوم ".العرفان"أو " باإلشراق"يعرف ا جديدا،هذه الفلسفة تقدم منهجا معرفي فإن وبالتايل،اليت يف الفلسفات الشرقية القدمية، اإلشراقوقد عرف .وعلى باطنه أو قلبه بطريق مباشر، من اهللا للصويف اإلهلاماتحدوث (

أو احلدس الوجداين ،ترى أداة املعرفة النور الباطين ة.٢)غري العقليلما على الصوفيهذا املنهج يف الوصول إىل املعرفة ع ويعد. يه كشفا أو ذوقا أو ما شابه واستدالالت العقل منهجا آخر للمعرفة باحلقيقة يسم ما وراء احلس إذا كان يؤمن بأن(فاإلنسان

.٣)باملعىن الدقيق للكلمة فهو يف هذه احلالة صويف ذلك من التسميات،

هي كلمة يونانية " الغنوصية"أو " الغنوص"(: "ارسامي النش علي"يقول ".الغنوصية"وقد عرف هذا املنهج أيضا باسم أو هو ل بنوع من الكشف إىل املعارف العليا،ا هو التوصغري أنها أخذت بعد ذلك معىن اصطالحي ،"املعرفة"األصل معناها

تذولقى يف النفس إلقاء فال تستند على االستدالل أو الربهنة العق تلك املعارف تذوةقا مباشرا بأن ت٤)قلي.

ارتقى روحه ومسا ات،ف واجلوع وهجران امللذاإلنسان كلما قهر جسده بالتقش ترى هذه الفلسفة أن وهكذا،حد بالروح إىل أن يصل إىل ذروة االرتقاء، فت له احلقائق،وتكشز ( ويصل إىل الفناء يف احلقيقة املطلقة، ،األعلىفيتوهو أمر ميي

.الوفا التفتازاينمادة تصوف، بقلم أبو ، وما بعدها ٢٥٨ص، ١جملد ، املوسوعة الفلسفية العربية: انظر -١ .زاينا، بقلم أبو الوفا التفت)إشراق(مادة ، ٧٣ص، ١جملد ، املرجع السابق -٢ .١٨٦ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي -٣ .١٨٦ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي -٤

Page 127: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٧

ف مبعناه االصطالحيه بقي مع .الدقيق التصوة اليت ال يشعر معها الصويف بذاته، كما يشعر أنقصد بالفناء احلالة النفسيويالوجود واحد ال نأت فيهم، أو وقد ينطلق بعض الصوفية إىل القول باالحتاد ذه احلقيقة أو أنها حل) ...( حقيقة أمسى مطلقة

.١)كثرة فيه

جاء يف .وال سيما اتمع اهلندي ،األقصىمسة من مسات جمتمعات الشرق -وال تزال- هذه الفلسفة للحياة كانت إنكما أنها تظهر جلية .٢)على البوذية والربامهانية وغريمها من الفلسفات الشرقية اإلشراقيويعتمد التصوف (: املوسوعة الفلسفية

احلديثة باألفالطونيةالذي عرفت فلسفته ناين وأفلوطني املصريأيضا لدى بعض فالسفة اليونان وعلى رأسهم أفالطون اليووهو للوجود مجيعه، الذي هو املصدر الباطين" الواحد"هناك (ويف نظر أفلوطني .واليت ضاعفت من تصوف تعاليم أفالطون

ال "اليت يعتربها أفلوطني مل املادة،تش وبعد هذا كنفوس جزئية كأجسام جزئية، مث كنفس اهللا، ي،ينبثق يف البدء كعقل كلوكذلك ق هذا بتقييد امليول اجلسدية،وميكن حتق ".الواحد"وموضوع احلياة اإلنسانية عند أفلوطني هو الصعود إىل ".وجود

اد االحت الصعود، انيف أقصى حالة من حاالت الوجد الصويف إب ق النفس،قوحت .اإلدراكمبا يف ذلك قوى بترقية القوى الروحية، .٣)باهللا

وتبلورت األفكار الغنوصية يف أعماق اليهودية فيما يطلق عليه اسم ( وكذلك عرفت الديانة اليهودية مذهب الغنوص،وقد كمنت يف كل مكان .ك يف أرجاء العامل املعروف وقتئذمتحر يوكانت الكباال أكرب غنوص سر ".القباال أو الكباال"

.٤)بيدها اخلالص ة أنيمدع وأن تسيطر على كل جمتمع، حتاول أن تزحف على كل عقيدة، يهود،يعيش فيه ال

وهناك من يرى أن .زت ا الكنيسة النصرانية منذ قروا األوىل وحتى يومنا هذاهذه الفلسفة كانت مسة متي كما أنة يف القرون األوىل(ني هم الغنوصية فلسفية، أتباع مدرسة دينيمن املسيحي وديانات الشرق كانت متزج الالهوت املسيحيى يف الفيض ون يؤمنون بصلة أوىل روحية ال ميكن إدراكها تتبدوكان الغنوصي اجلديدة والفيتاغورية، واألفالطونيةالقدمية

.٥)"الشر"وتتعارض مع العامل املادي الذي هو مصدر

وآخر راجع أساسا إىل تفسري التجربة ذاا االختالف بني صويف ولكن دة يف جوهرها،التجربة الصوفية واح ويبدو أن( .٦)ر باحلضارة اليت ينتمي إليها كل واحد منهماملتأث

.من أنواع التصوف يف احلضارات السالفة واملعاصرة، ،ر التصوف اإلسالمي مبا سبقهلقد دار جدل عنيف حول مدى تأثىجتاذب وال زال املوضوع حمل دة نتيجة هذا اجلدل،وظهرت آراء متعديومنا هذا حت.

.بقلم أبو الوفا التفتازاين" تصوف"مادة ، ٢٥٩ص، ١جملد ، املوسوعة الفلسفية العربية -١ . شراقيإلالتصوف ا: مادة، )دار الطليعة( عة الفلسفيةاملوسو -٢ .أفلوطني: مادة، املرجع السابق -٣ .١٨٧ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي -٤ ". الغنوصيون"مادة ، )دار الطليعة(املوسوعة الفلسفية -٥ ."تصوف"مادة ، ٢٥٨ص، ١جملد، املوسوعة الفلسفية العربية -٦

Page 128: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٨

أن ال شك املسلمني اطلعوا منذ تارخيهم املبكر على التية من خالل ما طالعوه من مصنارات الصوفيى احلضارات فات شتواآلراء الفلسفية إىل اتمع اإلسالمي ب كثري من املذاهب واألفكار ومثلما تسر .ومن خالل معايشتهم تمعاا بشكل مباشر

ارات الصوفية املختلفة ونزعاا ع سريان أفكار التيمن الطبيعي أن نتوق -كما سبق ورأينا يف الفصول املاضية- وثقافة املسلمنيل مثلما تشك زعة الصوفية،ل تربة خصبة للنـاليت تشك وال سيما حني توجد الظروف التارخيية والسياسية املواتية، النفسية،

.ظروف أخرى باملقابل تربة خصبة للرتعة املادية

وعلى واقع احلياة الروحية كما ى بالناحية الروحية،مبكان إلقاء نظرة على وجهة نظر اإلسالم فيما يسم األمهيةأنه من إالرها أو مدى تأث ظاهرة الصوفية أو تلك باملفهوم اإلسالمي،قبل احلكم على مدى انضباط هذه ال دف إليها الشريعة اإلسالمية،

ة الغريبة عن اإلسالمبالتيفيارات التصو.

اتمع اإلسالمي نشأة التصوف يف :ثالثامل يعرف تلك الفلسفة اليت ل من املسلمني،اإلسالم الذي أتت به نصوص القرآن والسنة، ووفق ما فهمه اجليل األو إن

ا تفيد العقيدة اإلسالمية بكل بساطة وإمن .على أنها مكونة من عنصرين اثنني، املادة والروح ظر إىل الكون واإلنسان واحلياة،تنأي أنه هو الذي أوجدمها ه خالق السماوات واألرض وما بينهما،وأن ،�ءيش هلثمك سيل�اهللا تعاىل ، وأن"اهللا إالال إله "أن ا تفيد العقيدة وإمن ،"اهللا إالال موجود "اليت ترى أن " وحدة الوجود"وبالتايل فال وجود يف هذا اإلسالم ملقولة .عدممن

.أو بني الروح واجلسد ة الرتاع بني الروح واملادة،كما أنه ال وجود فيه لقص ".اهللا إالال خالق "اإلسالمية أن

إدراك "وإذا كانت الروحانية هي ،"خلالق كون تلك األشياء خملوقة"روحية يف األشياء ولكن إذا كان املقصود بالناحية الة الروحية يف اإلنسان وحياته وما حييط به ير الناحقر اإلسالم حني قام على أساس اإلميان باهللا تعاىل، فإن ،"اإلنسان صلته خبالقه

ه جعل حياة املسلم كلها تقوم على أساس مث إن .خلالق هو اهللا تعاىلهذه األشياء هي خملوقة من مادة الكون، من حيث إن،اإلسالم احتوى شريعة هي نظام شامل حلياة اإلنسان كلها ذلك أن .وجعل الروح مالبسا لكل عمل يقوم به روحي

ملؤمن أن يلتزم به حني القيام جيب على ا ا،وبالتايل جعل لكل فعل من أفعال اإلنسان حكما شرعي .هكلومعاجلات لكل مشابأوامر اهللا -وهي مادة- فاملؤمن حني يلتزم يف أفعاله كلها .ا وإهلا معبودا مطاعاوذلك بناء على إميانه باهللا تعاىل رب بالعمل،

وقامت حياته كلها على وح،ه يكون قد مزج املادة بالرفإن أي بناء على اإلميان باهللا تعاىل، ونواهيه بناء على إدراك الصلة باهللا، .أساس روحي، هو العقيدة اإلسالمية

: يشبعها؟ وليست أيضا هل يشبع اإلنسان حاجاته ورغباته أم ال: ليست -يف وجهة نظر اإلسالم- املسألة وبناء عليه، فإناخلطأ أن تكون هذه املسألة ماذا يغلب اجلسد أم الروح؟ فمن: اجلسد أم الروح؟ وال هي ماذا يشبع،: ؟ وال هيكم يشبعها

أساس جيب أن يقوم؟ ؟ وعلى أياإلشباعيكون " كيف: "البحث هو ا يكون حملوإمن .حبث حمل

Page 129: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٢٩

أن لذلك فقد أخطأ من ظن إذ .ات وهجران نعيم الدنيا ومتاعهاف والبعد عن املتع وامللذاإلسالم جعل التقوى يف التقشملحد ف إنسانقد ميارس ذلك التقشآيات القرآن الكرمي وأحاديث الرسول فأين منه التقوى؟ بل إن .اإلميان ال يؤمن باهللا حق

� ح بأنتصر ها،ر كل ما فيها لإلنسان، على أن يأخذها حبقاهللا تعاىل خلق الدنيا ومتاعها وسخ أي وفق أوامره ونواهيه عز نمري مثعلى ك مناهلضفو باتيالط نم مناهقزرو رحالبو ريف الب مناهلمحو منا بين آدمرك دقلو�: فاهللا تعاىل يقول .وجل

قلخنفا توقال سبحانه ،�١يالض :�وسركل خم ما يف السماوات ما يف األوضر جميعا منإن ه آل يف ذلكيات قلمو يكفت�٢ونر، لق�: وجل وقال عز من حرز ماليت أ اهللا ةينخرج لعباده الطويبات مالر نلق قز هي ينلذل آموا يف احلنياة

الدنيا خالةص يوم ك امةيالقذلك فنلص اآليات قلمو يلعى عبادهوقال سبحانه مذكرا بنعمه عل ،�٣ونم :�امعاألنو ها قلخم ل دلىل بإ مكالقثأ لمحتو � ونحرست نيحو ونحيرت نيح مالفيها ج مكلو � ونلكأها تنمو عافنمو فءيها دف مكلكتونوا بالغب إال يهشفس قنإ األن ركبل مرؤوف رحيم � اخلولي غالالبو احلومري لتكربزوها وةين ويلخق ا ال متلع�٤ونم، ن هذا املعىنوغري ذلك الكثري من اآليات اليت تتضم.

ليس هناك أي ،ةتعارض بني اللذ وفق هذا املفهوم اإلسالمية وبني الروح أو الروحانينسان الذي فاإل. ة أو املتعة اجلسديا ي�: وجل قال عز ة الطعام،يشعر بالروحانية مع شعوره بلذ حامدا اهللا تعاىل على نعمته، يأكل طيب الطعام من الرزق احلالل،

وا ال نآم ينا الذهيا أي�: قال سبحانهو ،�٥وندبعت اهيإ متنك نإ هلوا لركاشو ماكنقزا رم اتبيط نوا ملوا كنآم ها الذينيأال تحروا طميا أبات مكل اهللا لحم وال تعتاهللا نوا إد ال يحامل بعتوالتاجر الذي يكسب الربح الوفري واملال العميم .�٦يند

التاجر الصدوق (: جتارته، فقد ورد يف األثرل واحلرام يف شرعية وراعى احلاليشعر أيضا بالروحانية إن هو التزم األحكام اليا رسول اهللا : ويف بضع أحدكم صدقة، قالوا«: �ويف املعاشرة الزوجية يقول .٧)يقني والشهداءني والصدمع النبي األمني

ذلك إذا وضعها يف أرأيتم لو وضعها يف حرام أكان عليه فيها وزر؟ فك: شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أيأيت أحدنا .٨»احلالل كان له أجرا

ر من االنغماس لقد حوت التوجيهات القرآنية والنبوية العديد من النصوص اليت تدعو إىل الزهد بالدنيا ومتاعها وحتذ نعم،هذه فهموا � نيبمنذ عصر ال إال أن املسلمني .يف شهواا واالشتغال ا عن طاعة اهللا تعاىل والقيام بالواجبات الشرعية

وال يعين حبال فالزهد يف الدنيا ومتاعها ال يعين إمهاهلا وهجرها، .مبتاع الدنيا األخذالتوجيهات على حنو ال يتعارض مع إباحة ف وقهر اجلسد وشهوتهمن األحوال التقش. هها دون أن جيعلها أكرب مهما يعين أن ينظر اإلنسان إليها النظرة اليت تستحقوإن.

.٧٠ اآلية، اإلسراءسورة -١ .١٣ اآلية، سورة اجلاثية -٢ .٣٢ اآلية، سورة األعراف -٣ .٨ إىل ٥اآليات ، سورة النحل -٤ .١٧٢ اآلية، سورة البقرة -٥ .٨٧ اآلية ،سورة املائدة -٦، ٢ج ،١٩٨٧الطبعة األوىل ،كتاب العريب، بريوتدار ال ،حتقيق فواز زمريل وخالد السبع العلمي ،احلافظ عبد اهللا بن عبد الرمحن الدرامي ،سنن الدرامي -٧

).٢٥٣٩( رقم احلديث، ٣٢٢ص، ٢ج ).١٠٠٦( رقم احلديث، كتاب الزكاة، ٦٩٧ص، ٢ الد، صحيح مسلم -٨

Page 130: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٠

د منها ما أمكنه من فعليه أن يتزو معرب اإلنسان إىل آخرته، رها القرآن الكرمي والسنة النبوية،وكما يصو فهي يف حقيقتها،فالقرآن الكرمي حني يذكر متاع احلياة الدنيا ال .اآلخرةوهي احلياة الصاحلة حتى يصل إىل احلياة احلقيقية اخلالدة، األعمال

ةنيز وننالبو املال�: مثل قوله تعاىل .نظار إىل أنه عرض زائلا يلفت األوإمن به، اآلخذينوال ينعي على ذيلة،وال يعده ر يذمه،احلياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربث كوابا وخيأ راعل�: وقوله تعاىل .�١الموا أمنا احلماةي الديا لنعب لوهو

زويةن وفتاخر بيكنم اثتكويف األ روالم األووك الدغ لثميأ ثعجفالك بار نباتث هم هييف جتراه مفصث اري ونكم طاماح يف اآلوخرة ذعاب شديد ومغفةر ماهللا ن رووانض وياةا احلم الدإاليا ن متاع �٢رورالغ.

أو ية يف احلياة الدنيا على أنها الرذيلة،ونظروا إىل كل متعة وشهوة ماد بعض املسلمني أساؤوا فهم هذه النصوص، أن إالف وقهر م بعض الناس التقوى بالتقشة فهففي عهد النبو .عبادة اهللا تكون حبرمان اجلسد متعه ورغباته وا أنوظن .الطريق إليها

فنذروا على أنفسهم تكاليف قاسية ما أنزل اهللا ا من تقالوها، �وعندما سألوا عن عبادة رسول اهللا النفس واجلسد،سلطان، وهم حيسبون أهم أصابوا التقوىم حيسنون صنعا وأن .شعر خبطر ذلك الفهم � ا بلغ خربهم رسول اهللافلم

جاء ثالثة رهط إىل «: عن أنس بن مالك أنه قال فقد روى البخاري .الذي يناسب تلك الظاهرة اإلجراءخذ فات املنحرف،بيوت أزواج النيب � يسألون عن عبادة النيب � ،ا أخربوا كأنفقالوا هم تقالوها،فلم :؟ قد غفر له � وأين حنن من النيب

ما تقدمقال أحده. رم من ذنبه وما تأخ :وقال آخر. أنا أصوم الدهر وال أفطر: وقال آخر. ي الليل أبداا أنا فأنا أصلأم :فقال � فجاء رسول اهللا. ج أبداأنا أعتزل النساء فال أتزو :ي ألخشاكم هللا أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واهللا إن

ي وأرقد،وأصل ي أصوم وأفطر،وأتقاكم له، لكن فمن ج النساء،وأتزو رغب عن سن٣»ييت فليس من.

وكانت تزداد .ة مرورا بالعصور اليت تلته وحتى يومنا هذابرأسها هنا وهناك منذ عصر النبو وقد بقيت هذه النماذج تطلوهو ما كان يتزايد ات وزخارف الدنيا وزينتها،وتتكاثر كلما كان هناك شعور بتزايد انغماس اتمع بالترف والسرف وامللذ

تمع اإلسالميعلى حنو مطرد يف ا كلما اتة وازدهر اقتصادها وتطوسعت الدولة اإلسالميارت مدنيتها وتعاظم عمرا. اك واملتقشاد والنسفراحت ظاهرة الزه،تمع اإلسالميعرف باسم فني تنتشر بني جنبات اة"وبدأت هذه الطوائف تالصوفي "

.وائل القرن الثالثمنذ أواخر القرن الثاين وأ

طريق هؤالء القوم وأصله أن .ةهذا العلم من العلوم الشرعية احلادثة يف املل(: يف كالمه على التصوف" ابن خلدون"يقول ة وكبارها من الصحابة والتابعني ومن بعدهم طريقة احلقة، مل تزل عند سلف األموأصلها العكوف على العبادة واهلداي

ة ومال وجاه واالنفراد عن عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه اجلمهور من لذ واإلعراض اهللا تعاىل واالنقطاع إىلعلى الدنيا يف القرن الثاين وما بعده وجنح اإلقبالا فشا فلم .ا يف الصحابة والسلفوكان ذلك عام اخللق يف اخللوة للعبادة،

.٤)فةملقبلون على العبادة باسم الصوفية واملتصوالناس إىل خمالطة الدنيا اختص ا

.)٤٦(اآلية ، سورة الكهف -١ .٢٠اآلية ، سورة احلديد -٢ ).٥٠٦٣( رقم احلديث، كتاب النكاح، ١٣٠ص، ١٠ جملد، فتح الباري، رواه البخاري -٣ .٥١٧ص ،املقدمة -٤

Page 131: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣١

ل من بىن دويرة للصوفية بعض أصحاب عبد الواحد وأو .ل ما ظهرت الصوفية يف البصرةأو(": ابن تيمية"ويقول اإلمام وحنو ذلك ما فقد كان يف البصرة من االجتهاد يف الزهد والعبادة واخلوف .وعبد الواحد من أصحاب احلسن البصري. بن زيد

: كقول بعضهم والتصوف عندهم له حقائق معروفة قد تكلموا يف حدوده وسريته وأخالقه،) ...( األمصارمل يكن يف سائر وهم يسريون بالصويف إىل معىن الصديق،) ...( واستوى عنده الذهب واحلجر وامتأل من الفكر، الصويف من صفا من الكدر،

ديقنيوالص نييبالن نم مهيلع اهللا معنأ الذين عم كئولأف�: كما قال اهللا تعاىل يقون،الصد األنبياءوأفضل اخللق بعد والشهاءد وحسولأ نئك ١)�فيقار.

ى سنة املتوفأواخر القرن الثاين ما روي عن اإلمام الشافعي " التصوف"على ظهور مصطلح اليت تدل اإلشاراتومن ما لزم أحد الصوفية أربعني ( :وقوله ،٢)ل النهار ال يأيت الظهر حتى يكون أمحقرجال تصوف أو لو أن(: هـ أنه قال٢٠٤

.٣)يوما فعاد إليه عقله أبدا

٤رث احملاسيبفقد ظهر يف العراق احلا .رموز التصوف بدأ ظهورهم خالل القرن الثالث اهلجري أهم أنه يبدو أن إالمث ظهر إمام .٥ل فالسفة التصوفني، ويرى البعض أنه من أوري األصل وأستاذ أكثر البغداديصوهو ب هـ،٢٤٣ى سنة املتوف

ة إىل التقوى وحماسبة النفس ف هؤالء يظهر يف نظرة خاصوكان تصو .هـ ببغداد، وغريمها٢٩٧ى سنة املتوف ٦نيدالصوفية اجلاد مل يأتوا بشيء هؤالء الرموز من الزه وعلى الرغم من أن .الذنوب ويف االجتماع على حلقات البكاء والندم وتطهريها من

ة،يم كان واضحاحتف أن إال ذكر من األفكار واآلراء اجلديدة على الثقافة اإلسالميبعض العلماء بل إن .ظ الفقهاء على ممارساو خذ موقفا شديدا إزاءهم،اتة ال ،نظر إليهم نظرة الريبة والشكبسبب ما أحدثوه من طرائق أشبه ما تكون بطقوس عبادي

.شأن هلا بالعبادات اليت شرعها اإلسالم

وهو النجم الساطع يف مساء اتمع - "أمحد بن حنبل"نرى مثال اإلمام معنا، الذي مر" الشافعي"ففضال عن موقف ف،قد أثرت عنه أ -اإلسالميسبوا إىل التصوقوال كثرية يف التنفري من بعض الذين ن يوفقد ر )ه مسع كالم احلارث احملاسيبأن ،

.١٦٥٦ت، كتاب التصوف، ص.ابن تيمية، جمموع الفتاوى، مجع وترتيب عبد الرمحن بن حممد بن قاسم العاصي النجدي احلنبلي، بريوت، د -١ .٤٦٥ص، م١٩٨٨ /هـ١٤٠٨، دار اجليل، بريوت، تلبيس إبليس، أبو الفرج عبد الرمحن بن اجلوزي -٢ .٤٦٥ص، قاملرجع الساب -٣ )هـ٢٤٣ ت(احلارث احملاسيب - ٤

علـى املعتزلـة واعظا مبكيا، وله تصانيف يف الزهد والـرد واملعامالت، باألصولكان عاملا من أكابر الصوفية،: أبو عبد اهللا احلارث بن أسد احملاسيب،املسـائل يف "يف التصوف و" شرح املعرفة"و" آداب النفوس"من كتبه .وهو أستاذ أكثر البغداديني يف عصره .ولد ونشأ بالبصرة، ومات ببغداد. وغريهم

) الزركلي(... "معاقبة النفس"و" ل يف العبادةفاخللوة والتن"و" الزهد وغريه .٢٢٨ص، ١ج، ظهر اإلسالم: انظر -٥ )هـ٢٩٧ ت(اجلنيد البغدادي - ٦

ما رأت عيناي أحـد : قال أحد معاصريه. يف من العلماء بالدين، مولده ومنشأه ووفاته ببغدادصو: از، أبو القاسمراجلنيد بن حممد بن اجلنيد البغدادي اخلإمـام : وقال ابن االثري يف وصفه. وهو أول من تكلم يف علم التوحيد ببغداد. مثله، الكتبة حيضرون جملسه أللفاظه، والشعراء لفصاحته، واملتكلمون ملعانيه

ة حممي األساس من شـد اء شيخ مذهب التصوف، لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصونا من العقائد الذميمة،ه العلموعد. الدنيا يف زمانه ىه ال يقتدطريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، من مل حيفظ القرآن ومل يكتب احلديث ومل يتفق: من كالمه. الغالة، ساملا من كل ما يوجب اعتراض الشرع

". األرواحدواء "ومنها رسالة . والغناء ومسائل أخرى واأللوهيةسائل، منها ما هو يف التوحيد له ر. به

Page 132: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٢

كالمه يف التصوف حتى اختفى " احلارث"على " أمحد بن حنبل"وقد أنكر .١)ال أرى لك أن جتالسهم: فقال لصاحب له .٢أربعة إالا مات مل حيضر جنازته احلارث، ومل

ى حتى أد ورمى احلنابلة الصوفية بالزندقة وأثاروا الناس عليهم، .ما تكون بني الصوفية واحلنابلة ت العداوة أشدولقد كانحني أمر بالقبض على عدد كبري ،٢٦٢فكان من أشهر احلوادث يف ذلك ما حصل سنة فة،ذلك إىل مالحقة السلطة للمتصو

ة بلغوا ني٣بعضهم وتربئة بعضهم احملنة بقتل بعضهم وهربوانتهت فا وسبعني،من الصوفي.

وكانت تشتد ف واملتصوة فة كلما ظهر أنمحلة الفقهاء على التصوهؤالء حيملون أفكارا تضاهي العقيدة اإلسالميناك من فقد بدأ هؤالء ينتحلون آراء ومعتقدات أخذوها من هنا وه وبالفعل، .هم أصحاب بدعوكلما ظهر أن وتتعارض معها،

ف تصو خمتلف عن- نوعا من التصوف اجلديد فلم يكد ميضي القرن الثالث حتى ظهر أن .األديان والفلسفات وامللل والنحلارات التصوفية الفلسفية اليت سبقت وهو يف حقيقته امتداد للتي .برأسه بكل جرأة بدأ يطل -"اجلنيد"و" احلارث احملاسيب"

ا،اإلسالم تارخيي ة واحتكة والثقافيم الفكريا املسلمون يف فتوحهم ومواجها . فظهرت فكرة"وفكرة " حاد واحللولاالت .امفة ويف أدبيلسنة بعض املتصوأ، على "الفناء"وفكرة " واإلهلامالكشف "وفكرة " وحدة الوجود"

يشمل جمموعة خمتلطة (أنه " ارسامي النش علي"فريى .يه البعض بالتصوف الفلسفيمن التصوف يسم األخريوهذا النوع ةة من التفكري اليوناين، وخباصة، األفالطونيموعة اهلرمسياحملدثة وا مث التفكري الشرقي الغنوصي من هندي مث أمشاج ،وفارسي

وكما حاول فالسفة اإلسالم (: ، فيقول"فالسفة اإلسالم"فة وبني ويقارن بني هؤالء املتصو .٤)من اليهودية واملسيحية واإلسالمنرى بعض صوفية اإلسالم يلجأون يف التصوف إىل حبث اإلسالم أن يدخلوا عقائد اليونان امليتافيزيقية يف عقول املسلمني،

ر بكل ما حوله من فلسفاتتأث ميتافيزيقي... ة،وأخذوا من اإل أخذوا من الفيدا اهلندية الفارسيشراقي لفيض وا من اواستمدها عقيدة أمه وانتهوا إىل عقائد خمتلفة، ا يف اموعات اهلرمسية،مث وجدوا مصدرا هام روا بأفالطون وأرسطو،وتأث ،فالطويناأل

.٥)احللول وعقيدة وحدة الوجود

وف، الذي سي التصأحد مؤس" ذو النون املصري" مصر، واليت ظهرت يف جو فمن النماذج اليت يرويها لنا التاريخ، من الكالم يف األحوال واملقامات واحلب فقد طلع على الناس بكالم مل يألفوه، .أحدث ضربا من الكالم مل يعرف قبل يف مصر

وكان طبيعيا .هناك علما ظاهرا وعلما باطنا وأن مصادر املعرفة النقل والعقل، وشيء آخر زاده هو،وهو الكشف، وأن ،اإلهليعبد "فكان على رأس املعارضني له .هذه التعاليم معارضة من الفقهاء الذين يرفضون القول يف الدين بغري دليل معتربأن تالقي

.٢٢٨ص، تلبيس إبليس -١ .٣٤٢ص، ١٠ج، البداية والنهاية: نظر أيضااو، ٢٢٩ص، املرجع السابق -٢ .٢٢٩-٢٢٨ص، ١ج، ظهر اإلسالم: انظر -٣ .٤٧ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي -٤ .٥٣ص، ١ج، رجع السابقامل -٥

Page 133: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٣

هم فاضطهد وات وتعاليمه،" ذي النون"فكالمها مل يرض عن .قاضي مصر احلنفي" ابن الليث"و شيخ املالكية،" اهللا بن احلكم .٢٤٥١ ةالفة ببغداد فسجن حتى مات سنرسل إىل دار اخلوأخريا أ بالزندقة،

الذي وصل يف احنرافه " منصور احلالجأيب "لت يف ، متثعامةاستفزازا للفقهاء واتمع اإلسالمي األكثرالشخصية أن إالواتهم بالعديد " واحللولاد االحت"فقال بصراحة بعقيدة .والفلسفات إىل حد بعيدعن العقيدة اإلسالمية واستغراقه يف أوهام امللل

بعد أن هـ،٣٠٩ذ فيه حكم اإلعدام سنة وكم ونفإىل أن ح وتنقل بني السجون حوايل سبع سنوات، من مقوالت الزندقة،٢وا إليهاابتىن كعبة يف بيته ودعا الناس إىل أن حيج.

ف الفلسفيالعديد من مناذج التصو تمع اإلسالميوقد شهد ا. ابن سينا"الفيلسوف الشهري األمثلةك تل فمن أهم "على ارتباط التصوف األمر الذي قام شاهدا الذي كان من أبرز من مجعوا بني الفلسفة والتصوف، هـ،٤٢٨ى سنة املتوف

ء اليت ظهرت يف القرن الرابع اهلجري واليت حاولت إنشا" إخوان الصفا"وكذلك هو شأن رسائل .بالفلسفة إىل حد بعيد .ف أثر بارز فيهاوكان للتصو ق بني مجيع الفلسفات والديانات،فلسفة دينية توف

خذت من بعض النصوص القرآنية والنبوية غطاء هلا ومنطلقا آلرائها، كانت بطبيعة وإن ات هذه النماذج الصوفية، إنز هذا وقد عز .نيبالغ ك نظر إليها بارتياب وشكلذل ه،فكر اتمع اإلسالمي وحس نأفكارها وممارساا وطقوسها غريبة ع

ما وإن ،عامةلذلك مل يستطع التصوف آنذاك أن يصبح ظاهرة .ظ الشديد الذي أبداه الفقهاء على تلك اجلماعاتاملوقف التحفهذه اجلماعات ما فني إىل أنقبل لقد فطن كثري من املث .بقي مقتصرا على بعض الدوائر املتناثرة هنا وهناك بني شرائح اتمع

وال زالت موجودة لدى أهل األديان صدى لثقافات وحضارات وأديان كانت منتشرة يف العامل اإلسالمي قبل الفتح، إالهي و ا املسلمون بشكل أ واليت احتك وامللل الذين خضعوا للدولة اإلسالمية أو يف بالد جماورة مل يصل إليها سلطان اإلسالم،

ارات واآلراء فني على التيانتشار كتب الفلسفة املترمجة إىل العربية كان وسيلة سهلة الطالع كثري من املثق كما أن .بآخرواألمر الذي يسترعي االنتباه هنا، .ر ا هؤالءر قسم غري قليل منهم ا، وكان التصوف من أهم املذاهب اليت تأثفتأث املختلفة،

ويف والفارسي واليوناين ة يف التراث اهلنديى الثقافات، فهي منبثا يف شتهو من األفكار القليلة اليت نالت حظ التصوف أنلدى الثقافية، واألوضاعالظروف الفكرية والنفسية أن ه ما من شكفإن وفضال عن ذلك كله، .الديانتني اليهودية والنصرانية

.رسالمي آنذاك، كانت تربة خصبة هلذا النوع من التأثبعض شرائح اتمع اإل

أبو الرحيان "املوسوعي النابغة ،األجنبيةومن أبرز الذين فطنوا إىل تلك الصلة، بني مجاعات التصوف واملؤثرات احلضارية ة اهلندية ومعايشة حية للمجتمع بعد اطالع واسع على الثقاف والذي وصل، الذي عاش يف القرن الرابع اهلجري، ٣"البريوينفتلك الثقافة كانت املؤث إىل أن ،اهلندير األكرب يف مجاعات التصو. يف " حتقيق ما للهند من مقولة"ع يف كتابه وقد توس

.١٦٩ص، ١ج، ظهر اإلسالم: انظر -١ .وما بعدها ٦٩ص، ٢ج، املرجع السابق: انظر -٢ )هـ٤٤٠-٣٦٢(أبو الرحيان البريوين -٣

على فلسـفة اليونـانيني طلع ا. أقام يف اهلند بضع سنني، ومات يف بلده. خ، من أهل خوارزممؤر يرياض: أبو الرحيان البريوين اخلوارزمي حممد بن أمحد،حتقيق ما للهنـد "و" الباقية عن القرون اخلالية اآلثار"ها ف كتبا كثرية جدا، متقنة، من أمهوصن. واهلنود، وعلت شهرته، وارتفعت مرتلته عند ملوك عصره

)الزركلي(... "من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة

Page 134: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٤

ف رت بتصوتأثالفلسفة اليونانية نفسها قد ه يذهب إىل حد القول بأنبل إن .راليت تقوم شاهدا على ذلك التأث األمثلةضرب .وكذلك املسيحية اهلنود،

األشياء أن( فقون يف تفسري الوجود بالوحدة،الطبيعيني اليونان واهلنود يت يرى أن" حاداحللول واالت"ق بفكرة ففيما يتعلالوجود وأن فهو هو، الوإة األوىل بالرتبة، بالقرب من العل إالواجلماد األحجاراإلنسان مل يتميز عن وأن ،)كلها شيء واحد

ا يف أجزائه قو ة األوىل تتراءى فيه بصور خمتلفة وحتلالعل وأن الوجود شيء واحد فقط، وأن ة األوىل فقط،احلقيقي للعلذب و... قبل جنوم احلكمة فيهم قدماء اليونانيني، أن(ويرى .حاد به يف حقيقة األمرمع االت بأحوال متباينة توجب التغاير،

وهم وفية،سال وهذا رأي... األشياء كلها شيء واحد وكان فيهم من يرى أن كانوا على مثل مقالة اهلند،... الفلسفة عندهموملا ذهب يف اإلسالم قوم إىل . حمب احلكمةأي " بيالسوبا" ي الفيلسوفوا مس باليونانية احلكمة، "سوف" فإن احلكماء،

ة األوىل تترايا فيه بصور خمتلفة العل وأن املوجود شيء واحد، ذهبوا إىل أنوكذلك (: ، ويضيف)بامسهمقريب من رأيهم سموا ة األوىل ته إىل العلاملنصرف بكلي إن :وكان فيهم من يقول حاد،ا يف أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع االتقو وحتلامتشب حدا على غاية إمكانه يت ة لتشابه عند ترك الوسائط وخلع العالئق والعوائق، هاوهذه آراء يذهب إليها الصوفي

.١)املوضوع

األرواح من أن ما ذهب إليه اهلنود واليونان، فريى أن ،"والنفوس والتناسخ األرواحقدم "إىل فكرة " البريوين"مث ينتقل ا قبل التجسمعدو باألبداند والنفوس كانت قائمة بذواة اإلسالم دة تتعارف وتتذاكر،دة جمنمث يعرض التشابه .٢أثر يف صوفي

ا كان ملو ".نظرية العشق الصوفية"ويتكلم على .٣"اخلالص من الدنيا والطريق إليه"بني اهلنود والنصارى والصوفية يف فكرة ة حيدالصوفيه دون العشق بأن)كيف ينال اخلالص من : ويف كتاب كيتا( :ق قائاللعي" البريوين" فإن )عن اخللق االشتغال باحلق

بدد قلبه ومل يفرده هللا ومل خيلص عمله لوجهه؟ ومن صرف فكرته عن األشياء إىل الواحد ثبت نور قلبه كثبات نور السراج .٤)الصايف الدهن يف كن ال يزعزعه فيه ريح

هم يذهبون إىل أنوكيف أن كرة اخلالص من الدنيا عند اهلنود،فيعرض لنا ف ،"توقيت ساعة املوت"مث ينتقل إىل موضوع ويعلق .ص النفس من قالبه باملعرفة،فتعرف حلظة انفصاهلا الدائم عنهها ممانعة للجسد حتى تتخلوأن ،األرواحشباك األبدان

وجلسوا ينا طائفة من الصوفية،ه وردت علإن: فقد حكي يف كتبهم عن بعضهم .وإىل قريب من هذا يذهب الصوفية(: قائالي،وقام أحدهم يصل ا،بالبعد عن ه يا شيخ،: ا فرغ التفت وقال يلفلمتعرف ها هنا موضعا يصلح ألن منوت فيه؟ فظننت أن

٥.)وإذا أنه قد برد كته،وسكن، فقمت إليه وحر وذهب وطرح نفسه على قفاه، فأومأت إىل موضع، يريد النوم،

.٢٥ ،السابقاملصدر -١ .وما بعدها ٣٨ص ،قالساب املصدر -٢ .٥٢-٥١ص ،السابق املصدر -٣ .٥٦-٥٥ص ،السابق املصدر -٤ .٦٣ص ،السابق املصدر -٥

Page 135: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٥

وبني تفسري بعض ،إىل وجود تشابه بني فكرة اهلنود عن اخلوارق اليت يقوم ا الربمهي" البريوين"يذهب وأبعد من ذلك، ة،املفسرين ذوي الرتعة الصوفي ذي القرنني"ة لآلية الواردة يف قص "�إنكا ما لنيف األ هة بأن، �١ضرالتمكن هو للصوفية،خاص ٢ال يقاومه يف قصده شيء وإن شاء مشى على املاء واهلواء، له األرض،ه يعين إن شاء طويت وأن.

أثر يف صوفية -وهو صاحب أحد الكتب اهلندية-" باتنجل"ر أن طريق فيقر ،"نظرية الفناء"على " البريوين"وأخريا يتكلم د حتى يستويل ما دمت تشري فلست مبوح: فقالوا ،وإىل طريق باتنجل ذهبت الصوفية يف االشتغال باحلق(: فيقول اإلسالم،

ة يف ويرى أن .)فال يبقى مشري وال إشارة على إشارتك بإفنائها عنك، احلقالفناء"كالم الصوفي "م إىل القول أد ى"الفناء"ويشري إىل التشابه بني فكرة .وهو يشبه يف هذا كالم اهلنود ،"حادباالت "ة وبني قول أحد املتصواخلع الكل (: فةاهلندي

ي انسلخت من نفسي كما تنسلخ احلية من إن( :وقول آخر ،)ا، وفعلك فعلناإخبارك عن فتكون وال تكون، تصل إلينا بالكلية، .٣)مث نظرت إىل ذايت، فإذا أنا هو ها،دجل

بني العبد واهللا ألف مقام أنفقد ذهب الصوفية إىل هي فكرة هندية،" مقامات النور والظلمة"فكرة أن" البريوين"ويرى فإذا وصل إىل مقامات على السالك أن يقطع مقامات الظلمة حتى يصل إىل مقامات النور، وأن من مقامات النور والظلمة، .٤تشبه متاما أقوال اهلنود - "البريوين"كما يرى - وهي .النور،مل يكن له رجوع عنها

اهلنود كانوا فهذا ال يعين أن على التشابه بني الفلسفة اهلندية ومجاعات التصوف،قد ركز النظر " البريوين"وإذا كان ت يف كتب وأفكارها انبث اليهودية ونقلت إليهم،" الغنوصية"فاملسلمون عرفوا .أصحاب التأثري الوحيد يف تلك اجلماعات

كان فيها -وكانت قليلة متناثرة- طوائف محلت أمساء املسلمني ةرت يف عداحملدثة اليت أث األفالطونية كما أن فالسفة الصوفية، .٥ل فيه كل املذاهب الغنوصيةغنوص تتمث

منها نزعة الزهد عند فقراء اهلندوس،: إىل أصول كثرية(التصوف اإلسالمي " ول ديورانت"رجع يوبعبارات موجزة، ني الزاهدين واملنتشرين يف وتأثري الرهبان املسيحي رين،اليونان املتأخاجلديدة عند األفالطونيةوحبوث وغنوصية مصر والشام،

.٦)مجيع بالد املسلمني

.٨٤اآلية ،سورة الكهف -١ .٦٣ص ،السابق املصدر -٢ .٦٧-٦٦ص، سابقلااملصدر -٣حتى ٤٧اجلزء الثالث من ص ،"نشأة الفكر الفلسفي"به ولقد استعنت يف عرض آراء البريوين مبا أورده علي سامي النشار يف كتا، ٦٧ص، السابق املصدر -٤

.٥٢ص .١٨٩حتى ص١٨٥ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي: انظر -٥٦- ٢١٤ص، ١٣ج ، ة احلضارةقص.

Page 136: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٦

ن يف اتمع اإلسالميالتصوف يتمك :رابعاف اهتمام العلماء عدة قرون،لقد شغلت مجاعات التصو ي هلا وتفنيدها وكشف وبذل الكثري منهم جهده يف التصد

ففي القرن اخلامس .ةوال سيما بعد أن وصلت إىل اجلهر بأقوال تصل إىل حد الكفر واخلروج من املل ،احنرافاا وعوارهامثال حيد ة أن(" وامللل والنحل األهواءالفصل يف "يف كتابه ) هـ٤٥٦ي توف" (ابن حزم الظاهري"ثنا اإلمام اهلجريمن الصوفي

بنيسابور اليوم يف عصرنا وبلغنا أن .صل باهللا تعاىلوات: وزاد بعضهم .لشرائعمن عرف اهللا تعاىل سقطت عنه ا إن: من يقولة، -هكذا معا-ى أبا سعيد أبا اخلري هذا رجال يكنمن الصوفي مرة يلبس الصوف ومرم على الرجال،ة يلبس احلرير احملر ة ومر

.١)ذا كفر حمض، ونعوذ باهللا من الضاللوه ي ال فريضة وال نافلة،ة ال يصلي يف اليوم ألف ركعة ومريصل

وقالوا والرسل، األنبياءيف أولياء اهللا تعاىل من هو أفضل من مجيع ادعت طائفة من الصوفية أن(: ويف موضع آخر يقولات كلها مت له احملروحل من بلغ الغاية القصوى من الوالية سقطت عنه الشرائع كلها من الصالة والصيام والزكاة وغري ذلك،

.٢...)وكل ما قذف يف نفوسنا فهو حق نا نرى اهللا ونكلمه،وقالوا إن واستباحوا ذا نساء غريهم، من الزنا واخلمر وغري ذلك،

ظاهرة التصوف، على الرغم من استفحال أمرها خالل القرنني الثالث والرابع، بقيت تعد ه إىل أنالتنب أنه من املهم إالوال سيما ذلك القسم الذي ظهر ارتباطه بالفلسفة ومحل عقائد ،ة ومل جتد لنفسها مكانا الئقا لدى الرأي العامظاهرة غريب

ابن "و" ابن سينا"و" الفارايب"و" كالكندي" فالسفة اإلسالم املشائني، فكما الحظنا أن .وأفكارا مناقضة للعقيدة اإلسالميةفكذلك كان شأن أصحاب التصوف ،ار الفكر اإلسالمي العامكدوائر ملفوظة عن تي إالسالمي ، مل يعيشوا يف العامل اإل"رشد

لون اإلسالم يف شيءهؤالء ال ميث( إن .الفلسفي. إنوصبغوا مذاهبهم بصبغة ون آمنوا بالغنوص كفكرة،هم فالسفة صوفي ،الذايت ل الباطينال عليا للحياة اإلنسانية السامية اليت تستند إىل التأما وأوالده مثخذ عليمنهم من ات إن .خارجية غري إسالمية

ل إىل كنه ومنهم من حاول التوص .إذا أعلن مذهبه ف مذهبه بآيات قرآنية، حفاظا فقط على حياته،ومنهم من حاول أن يغل اإلهليةأو أن يلغي ما بني الطبيعة صورة املخلوق، ومنهم من حاول أن جيد يف اخلالق شاملة فلسفية، عامةالوجود يف نظرة

ص اإلنسان من عنصر وكيف يتخل ،أو أن جيد يف أصل الوجود عنصرين خمتلفني للخري والشر والطبيعة اإلنسانية من متايز وإنية،٣)الشر.

راته خذ تصومرحلته األوىل يتبدأ التصوف يف ،أو مبعىن أدق بدأ زهدا فتصوفا ففلسفة،(التصوف وهكذا نرى أنكانت املرحلة الثانية فبينما كانت املرحلة األوىل مرحلة عملية، مث انتقل إىل مرحلة التصوف، وحقائقه من القرآن والسنة،

ات دون تفسريوأخذوا حيد .واملواجيد وخطرات القلب ومراحل الطريق الصويف األذواقفتكلم الصوفية عن مرحلة عمل ونظر،ومضى التصوف يف السري فانقلب أخالقا عند أهل السنة واجلماعة وفلسفة .مقابلة لتفسريات الفقهاء واملتكلمني للمعاين الدينية

.١٨٨ص، ٤ج، ١٩٨٣ ،دار املعرفة، بريوت، وامللل والنحل األهواءالفصل يف ، ابن حزم الظاهري -١ .٢٢٦ص، ٤ج، املرجع السابق -٢ .٢١٢ص، ١ج، شأة الفكر الفلسفين -٣

Page 137: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٧

مزجوا هذا كله يف والفيدا اهلندي واليوجا وتراث اهلند مجيعه، ،األقدمنيعند طائفة مزجوه بعلوم اليونان وحبكمة املشارقة .١)المي وباطنها غري إسالميفلسفة ظاهرها إس

يف اتمع " رمسية"استطاع أن جيعل من نفسه ظاهرة القرن اخلامس بدأ يشهد نوعا جديدا من التصوف، ولكن، يبدو أنف .اإلسالميوذلك حني راح بعض العلماء يعمل على إحياء التصو"احلارثي واجلنيدي "ف الفلسفيالذي يف مواجهة التصو

.وما شاكلها" وحدة الوجود"و" احللول واالحتاد"نق أفكار اعت

ارات ى هلذه التيليتصد يأمام االحنرافات اليت أصابت ميدان التصوف برز التصوف السن(": ماجد عرسان الكيالين"يقول املدرسة األوىل يف : للجنيدية كالمها امتداد ي مدرستان،وقد مثل هذا التصد .ر الساحة الصوفية من آثارهاوليطه املنحرفة،وعليه تتلمذ أبو عبد .هـ٣٧٨ى يف عام اج املتوفمدرسة نيسابور فقد قادها أبو نصر السر اأم .والثانية يف بغداد نيسابور،

هـ٤١٢ى عام صاحب الطبقات املتوف الرمحن السلمي. وعلى السلمي ى سنة املتوف تتلمذ عبد الكرمي بن هوازن القشريي .هـ كذلك٤٦٥عام ىاهلجويري املتوف اج،ن اقتفى أثر السرومم .هـ٤٦٥

دها بالشرع مفاهيم التصوف يف قوالب تقي ل تدوين التراث الصويف وصباألو: ولقد قام نشاط هذه املدرسة على أمرينوتبعدها عما إىل احللول واالت ف ال. حادا يفضيسوالثاين إبراز التصوة تزكية للنفس تدعم اإلميان والتوحيد، ء باعتباره يعملي

فات اليت ما زالت تشكل املصادر األوىل وكان من مثار هذا النشاط تلك املؤل. وتنقيه من شوائب الرياء واحلظوظ النفسيةللتصوف ف السيناألوائل، واليت مجعت أقوال رجال التصو ٢)ادومن سبقهم من الزه.

يف تاريخ الثقافة اإلسالمية كبريامنعطفا ها على يد الرجل الذي يعد حبقلفآتت أك مثرا اليانعة، وقد قطفت هذه املدرسة ".أبو حامد الغزايل" من جديد، ه،إن. واتمع اإلسالمي بأسره

با بني كانت حياته تقلف .وطرق بابه وأخذ بنصيب وافر منه إالعلما من العلوم العقلية أو الشرعية " أبو حامد"مل يترك وعلى الرغم من معاداته للفلسفة وتكفريه .لقد اشتهر بعلم الكالم وعلم أصول الفقه .ارات واألفكارخمتلف اآلراء والتي

وال سيما فجادل الفالسفة وأسقط حججهم وأوهامهم، فاا،فقد كان ميلك معرفة واسعة باألفكار الفلسفية ومصن للفالسفة، ".افت الفالسفة"يف كتابه

أعلن رسو سفينته وبعد اعتزاله للمجتمع سنوات طويلة قارن خالهلا بني أصحاب املناهج والعلوم، غري أنه يف آخر حياته،يت على ا فرغت من هذه العلوم أقبلت مي ملمث إن(: ة األخرية يف حياته قائالوخيرب الغزايل عن تلك احملط .على شاطئ التصوف

ه عن أخالقها وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والترت بعلم وعمل، طريقتهم إنما تتم وعلمت أن يق الصوفية،طرى يتوصا اخلبيثة حتا إىل ختلية القلب عن غري اهللا تعاىل وحتليته بذكر اهللاملذمومة وصفا من العمل، .ل وكان العلم أيسر علي

قات واملتفر رمحه اهللا وكتب احلارث احملاسيب يالعة كتبهم مثل قوت القلوب أليب طالب املكفابتدأت بتحصيل علمهم من مطاملأثورة عن اجلنيد والشبلي وأيب يزيد البسطامي ى اطلعت على كنه وغري ذلك من كالم مشاخيهم، س اهللا أرواحهم،قدحت

.٢٠ص ،٣ج ،املرجع السابق -١ .٥٨ص ،هكذا ظهر جيل صالح الدين -٢

Page 138: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٨

هم ما ال ميكن خواص أخص فظهر يل أن م والسماع،تعلل من طريقهم بالوحصلت ما ميكن أن حيص مقاصدهم العلمية،وانكشف يل يف أثناء هذه اخللوات (: مث يتابع بعد ذلك قائال .١...)ل الصفاتبل بالذوق واحلال وتبد م،الوصول إليه بالتعل

فية هم السابقون لطريق اهللا الصو ي علمت يقينا أنأن والقدر الذي أذكره لينتفع به، .أمور ال ميكن إحصاؤها واستقصاؤهام أحسن السري، ة وأنتعاىل خاصبل لو مجع عقل العقالء وحكمة وأخالقهم أزكى األخالق، وطريقتهم أصوب الطرق، سري

ه مل جيدوا إلي روا شيئا من سريهم وأخالقهم ويبدلوه مبا هو خري منه،ليغي احلكماء وعلم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء،ة على وجه وليس وراء نور النبو ة،مجيع حركام وسكنام يف ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبو فإن .سبيال

.٢)األرض نور يستضاء به

فهو يصرح أن .منه" وحدة الوجود"و" اد واحللولاالحت"يتابع مسرية ذيب التصوف ونفي أفكار " الغزايل"اإلمام أن إاليدعي علم التصوف ويزعم أنه قد بلغ مبلغا ترقى به عن ( فيهاجم من عن سواء السبيل، اك من أدعياء التصوف من ضلهن

فة هذه أكثر متصو أن إال(: يقول" اإلحياء" ويف كتابه .٣)هؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف( ويرى أن ،)احلاجة إىل العبادةعمال ومل حيصل هلم أنس باهللا تعاىل وبذكره يف اخللوة وكانوا عن لطائف األفكار ودقائق األا خلت بواطنهم مل- األعصار

واستوعروا طريق الكسب واستالنوا جانب السؤال قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل، -الني غري حمترفني وال مشغولنيبط وا عقوهلم وأديام،اخلدم املنتصبني للقيام خبدمة القوم واستخف واستسخروا واستطابوا الرباطات املبنية هلم يف البالد، والكدية،

تباع،ألال بكثرة ابطريق السؤال تعل األموالالرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص إالمن حيث مل يكن قصدهم من اخلدمة خذوا يف عات واتهر، فلبسوا املرقوال حجر عليهم قا وال تأديب للمريدين نافع، فلم يكن هلم يف اخلانقاهات حكم نافذ،

هوا بالقوم يف خرقتهم ويف فينظرون إىل أنفسهم وقد تشب ات،فوا ألفاظا مزخرفة من أهل الطامما تلقورب هات،اخلنقاهات مترت .٤)هم حيسنون صنعاوحيسبون أن ون بأنفسهم خريا،فيظن سياحتهم ويف لفظهم وعبارم ويف آداب ظاهرة من سريم،

.بثقافته املوسوعية، إزالة التناقض الذي كان ظاهرا بني الفقه والفقهاء من جهة والتصوف من جهة أخرى كما أنه حاول،وعلى .حاول الغزايل يف أواخر القرن اخلامس أن جيمع بينهما(اآلخر زا الواحد منهما عن ان متباعدين متميفبعد أن كان اخلط

كما ،من صوم وصالة وزكاة وحج فدعا فيه إىل احملافظة على الشريعة الظاهرة، ،"علوم الدينإحياء "ف كتاب هذا األساس ألوكان له فضل كبري يف إزالة . وواجب تطهري الظاهر كما جيب تطهري الباطن دعا إىل أنها ال قيمة هلا ما مل تدعم بالنية احلسنة،

.٥)العداء بني الفقهاء والصوفية

فا ه وضع تصووإن ،"الغنوص"وبعيد عن األجنيبف بريء من التأثري الغزايل وصل إىل تصو إن: طيع القولهل نست ولكن،سنا؟ي!

.٤٣ص، املنقذ من الضالل -١ .٥٠-٤٩ص، السابق صدرامل -٢ .٦١ص، السابق صدرامل -٣ .٢٥٠ص، ٢ج، إحياء علوم الدين -٤ .٦٢ص، ٢ج، ظهر اإلسالم -٥

Page 139: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٣٩

نهل متك: ري اإلسالم؟ أو مبعىن أدقهل استطاع الغنوص النفاذ إىل مفك: السؤال اهلام(هذا " ارسامي النش علي" يطرح-وحتت الست فة،لة خمفيف صورة معدار السنقدامى عددا من الباحثني، إن ؟"أبا حامد الغزايل"أن جيذب إليه أكرب أعدائه -ي

معراج "و" األنوارمشكاة "يف كتبه " ضحية الغنوص"ة اإلسالم العظيم أنه سقط هموا حجوات انتهوا إىل هذا الرأي، وحمدثني،: فيقول فورا، ب بالردأنه يعق إال. )كما يقول ابن اجلوزي" التصوفباع الفقه ب"ه وأن ،"املضنون به على غري أهله"و" القدس

وأصابه من كل قا،را معلب فيها باحثا مفسوتقل خاض كل ما عرف العامل اإلسالمي من علوم ومعارف، فالغزايل وهذا خطأ،( .١)اا وال مسعيال عقلي ريا ذوقيا،بل فيه الكثري من تفسري القرآن تفس وليس كل التصوف غنوصا، شيء رذاذ،

حاد واحللول وإن أسقط القول باالت-يصل إىل أنه ف،اجلديد للتصو" الغزايل"من ينعم النظر يف مفهوم أن واحلقيقة،ة اليت قد كرس الفلسفة األساسي -ل من التكاليف الشرعية ونفى ما يتعارض بشكل واضح مع العقيدة اإلسالميةوهاجم التحل

وأعين ا فكرة الصراع املزعوم بني اجلسد . وال متت إليه بصلة وهي فلسفة ال شأن هلا باإلسالم، .يقوم عليها التصوفاليت " واإلهلامالكشف "س فكرة كما أنه كر .وعرب رياضة النفس بإضعاف اجلسد وقهره، إالى الروح ال يتأت مسو وأن والروح،

.من اإلسالميني وغريهم فة،تصويقول ا مجيع امل

،اإلهلامعلى سبيل ويدخل يف قلبه اخلاطر املستقيم وبيان احلق إالواعلم أنه ما من أحد ( :نراه يقول واإلهلامففي الكشف القلب من عامل امللكوت، ألن بل يدخل يف القلب ال يعرف من أين جاء، ،وذلك ال يدخل من طريق احلواس وقة خمل واحلواس

وال (: ويتابع قائال ،)فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العامل إذا مل يكن فارغا من شغل احلواس -عامل امللك-هلذا العامل أنتظن ص من يد الشهوة والغضب بل تنفتح باليقظة ملن أخلص اجلهاد والرياضة وختل هذه الطاقة تنفتح بالنوم واملوت فقط، ن

وفتح عني الباطن ومسعه وجعل القلب يف ل طريق احلواسفإذا جلس يف مكان خال وعط .الرديئة األعمالوواألخالق القبيحة ويبقى ال يرى إىل أن يصري ال خرب معه من نفسه ومن العامل، بقلبه دون لسانه،" اهللا اهللا اهللا"مناسبة عامل امللكوت وقال دائما

واألنبياءفتظهر له أرواح املالئكة الطاقة وأبصر يف اليقظة الذي يبصره يف النوم، انفتحت تلك اهللا سبحانه وتعاىل، إالشيئا مث يضيف .٢)ورأى ما ال ميكن شرحه وال وصفه وانكشفت له ملكوت السماوات واألرض، والصور احلسنة اجلميلة اجلليلة،

.٣)وهو طريق الصوفية يف هذا الزمان( :بعد ذلك

ميل أهل التصوف إىل فاعلم أن(: ، فيقولوجل فة يف املعرفة والوصول إىل اهللا عزطريق املتصوث عن يتحد" اإلحياء"ويف واألدلة األقاويلفون والبحث عن فه املصنفلذلك مل حيرصوا على دراسة العلم وحتصيل ما صن .دون التعليمية اإلهلاميةالعلوم

ومهما .ة على اهللا تعاىلبكنه اهلم واإلقبالو الصفات املذمومة وقطع العالئق كلها الطريق تقدمي ااهدة وحم: بل قالوا املذكورة،ى اهللا أمر القلب فاضت عليه الرمحة وأشرق وإذا تول ل بتنويره بأنوار العلم،ي لقلب عبده واملتكفحصل ذلك كان اهللا هو املتول

٤)امللكوت النور يف القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر.

.٢١١ص، ١ج، نشأة الفكر الفلسفي -١ .٨٨ص، )ملحق بكتاب املنقذ من الضالل(كيمياء السعادة -٢ .٨٩ص، السابق صدرامل -٣ .١٩ص، ٣ج، إحياء علوم الدين -٤

Page 140: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٠

ة الشهوات املادية ية أن حيرم املريد نفسه من كافيذكر فيه أمه ،"رياضة النفس"بابا بعنوان " اإلحياء"يف " أبو حامد"قد ويعوحاصل (: ا يقولهفمم .د من الدنيا وعالئقهاوحواجز له عن التجر ها عوائق عن صفاء القلب،ألن اليت يطلبها اجلسد بطبيعته،

ال ها أنالرياضة وسرتتمت والنكاح واللباس األكلفيكون مقتصرا من بقدر الضرورة، إالا ال يوجد يف القرب ع النفس بشيء ممإليه على قدر احلاجة والضرورة، واملسكن وكل ما هو مضطر فإنع بشيء منه أنس به وألفه،ه لو متت ى الرجوع إىل فإذا مات متن

بأن يكون القلب مشغوال إالوال خالص منه حبال، اآلخرةمن ال حظ له يف إاللدنيا ى الرجوع إىل اوال يتمن الدنيا بسببه،وال ق ر فيه واالنقطاع إليه،ه والتفكمبعرفة اهللا وحبويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر باهللا، إالة على ذلك و

النفس إذا فإن م باملباح،ما مل مينع نفسه عن التنع اآلخرةوك طريق فإذن ال ميكن إصالح القلب لسل(: ويقول بعد ذلك .١)فقطمنع بعض املباحات طمعت يف احملظوراتمل ت(اهدة والرياضة يقول. ٢ويف طريق ا: ) األصل فيه أن يترك كل واحد ما به

بذكر اهللا إالاقب قلبه حتى ال يشتغل ولينفرد بنفسه ولري مث إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس، ...فرحه من أسباب الدنيا .٣)تعاىل والفكر فيه

مث إنص فصال يف ه بعد ذلك، خيص"املنسوبة إىل األحاديثيفتتحه بأكثر من عشرين من ،"الشبع بيان فضيلة اجلوع وذم .٤الشبع مدح اجلوع وذمحديثان أو ثالثة، كلها يف إالمنها وال يصح تكاد تكون كلها موضوعة أو ضعيفة، ،�الرسول

.٥"القول يف شهوة الفرج"وكذلك يفعل عندما يصنف فصال يف

الكالم "كان الباب املشرع الذي نفذ منه ذلك النجم الساطع يف عصره وما تاله من العصور، ،"الغزايل" وكما أناألشعري "تمع من دوائره الضيقة إىل رحاب اف كذلك أيضا فيه، فاستقرة .كان شأنه مع التصوفلقد احتضن أهل السن

ف معا، واجلماعة كالاآلخرما ينفصل الواحد منهما عن قل قرينني،" الغزايل"وأصبحا بعد اإلمام من علم الكالم والتصو.

دية من القرآن بدأ التصوف باستنباط حياة زه(": يبالتصوف السن"يه يف كالمه على ما يسم" ارسامي النش علي" يقولشاعرة وقد احتضن األ .مث أصبح التصوف علما يقابله قواعد عملية فا،مث كان تصو ة الصحابة،وسن � ة الرسولسن والسنة،

.٦)وأصبح جزءا من حياة اخللف .التصوف منذ أيب حامد الغزايل، مذهب اخللف،

ة مقدار القد أدرك معظم مؤروتارخيه" الغزايل"ألثر الذي أحدثه اإلمام خي الثقافة اإلسالمي تمع اإلسالمييف حياة ا. فأخذ أهل السنة من بعده كان اعتناق الغزايل ملذهب التصوف نصرا باهرا للصوفية،( :عن ذلك بقوله" ديورانت"وعبر

ى طغت عقائد املتصوف حتة كانوا ال يزالون من علماء نعم إن .فة وقتا ما على قواعد الدينبالتصوالدين والشريعة اإلسالمي

.٦٧ص ،٣ج، السابق صدرامل -١ .٦٨-٦٧ص ،٣ج ،السابق صدرامل -٢ .٦٩ص ،٣ج ،السابق صدرامل -٣ .٨٢-٨١-٨٠ص، ٣ج ،السابق صدرامل -٤ .٩٩ص ،٣ج ،السابق صدرامل -٥ .١٩ص ،٣ج ،نشأة الفكر الفلسفي -٦

Page 141: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤١

استسلم ملشايخ الطرق وأولياء اهللا ميدان التفكري الديين ولكن مة العليا يف عامل الدين والشريعة،لالوجهة الرمسية أصحاب الك ١.)الصاحلني

وكرسه من أفكار رياضة " الغزايل"ثالثة قرون، ما أنشأه اإلمام وبعد مضي ر دون أدىن جدال،يقر" ابن خلدون"وها هو سـهذه ااهدة واخللوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب احل مث إن(: فيقول ،واإلهلامالنفس وجماهدة اجلسد والكشف

وسبب هذا الكشف أن. والروح من تلك العوامل إدراك شيء منها، واالطالع على عوامل من أمر اهللا ليس لصاحب احلس وأعان د نشوؤه،وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وجتد الظاهر إىل الباطن ضعفت أحوال احلس ذا رجع عن احلسالروح إ

ويكشف حجاب وتزيد إىل أن يصري شهودا بعد أن كان علما، وال يزال يف منو ه كالغذاء لتنمية الروح،فإن على ذلك الذكر،احلس ويتم اإلدراكوهو عني ا،وجود النفس الذي هلا من ذا، فيتعرة والفتح ض حينئذ للمواهب الربة والعلوم اللدنيانياإلهلي،

فيدركون من وهذا الكشف كثريا ما يعرض ألهل ااهدة، .أفق املالئكة ،األعلى األفقوتقرب ذاته يف حتقيق حقيقتها من فون ممهم وقوى نفوسهم يف ويتصر اقعات قبل وقوعها،وكذلك يدركون كثريا من الو .حقائق الوجود ما ال يدرك سواهم

رين انصرفت عنايتهم إىل كشف احلجاب قوما من املتأخ مث إن(: مث يقول بعد ذلك .)وتصري طوع إرادم املوجودات السفلية،ة الروح العاقل يية وتغذسهم يف ذلك باختالف تعليمهم يف إماتة القوى احلدواختلفت طرق الرياضة عن واملدارك اليت وراءه،

الوجود قد احنصر يف فإذا حصل ذلك زعموا أن حتى حيصل للنفس إدراكها الذي هلا من ذاا بتمام نشوا وتغذيتها، بالذكر،وتص هم كشفوا ذوات الوجود،مداركها حينئذ وأنوهكذا قال الغزايل رمحه اهللا يف .روا حقائقها كلها من العرش إىل الطش

.٢)اإلحياءكتابه

صحيح أنه بقي من .وهكذا أصبح التصوف مالبسا لثقافة املسلمني وفهمهم لإلسالم قرونا عديدة وحتى يومنا هذا م اجلوزية وغريهم،وابن قي كابن تيمية وابن اجلوزي ،"السلفي"ار وعلى رأسهم علماء التي يناهض التصوف يف القرون الالحقة،

ى بفلسفته تفش ى يف اتمع اإلسالمي،والفناء وكرامات األولياء تفش واإلهلامف وما حيويه من أفكار الكشف التصو أن إال .وبشطحاته وخياالته وأوهامه بني البسطاء والعوام وتنظريه بني كثري من دارسي الشريعة،

وما إميام لشيوخ التصوف، األعمىوبالتسليم لياء،ل بقبور األوامنا هذه، بالتوسيف أي ق املاليني من املسلمني،وما تعلمثرة أفكار إال... األحيانوالعمل البناء يف كثري من وما بعدهم عن معترك احلياة العملي باخلوارق بدعوى كرامات األولياء،

.اماليت تغلغلت منذ مئات السنني يف أذهان املسلمني وثقافتهم وجمتمعهم وسلوكي التصوف،

.٣٦٥ص ،١٣ج، قصة احلضارة -١ .٥٢٠- ٥١٩ص ،املقدمة -٢

Page 142: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٢

خالصة البحث

Page 143: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٣

واحلضر واحلضرة واحلاضرة، خالف البادية، )...( يف احلضر اإلقامة(": لسان العرب"احلضارة يف اللغة وكما ورد يف .أي سكىن املدن والقرى ه يقصد ا ما هو عكس البداوة،فحني تذكر احلضارة يف اللغة فإن إذن، .)وهي املدن والقرى والريف

للعبارة ليس هو املقصود حني الكالم عن احلضارة يف النصوص الفكرية والتارخيية والسياسية املعاصرة ا املعىن اللغويهذ أن إالإذ أصبح لكلمة احلضارة مدلول اصطالحي جديد خمتلف عن املدلول اللغوي األصلي.

درج الغربيون على استخدام كلمة وذلك حني ،األوربيةالدراسات إىلونشأة هذا االصطالح تعود يف الواقع "Civilization" - ة إىلوترمجتهاة :العربياحلضارة أو املدني- ا عن التطو للتعبريوالصناعي يالذي أخذ والعمراين ر املاد

تلك العبارة نأ إال .ت بعصور النهضةواليت مسي تلت القرن اخلامس عشر امليالدي يطرد بسرعة خالل العصور احلديثة اليتفقد أصبحت تطلق على ما ميلكه شعب ما أو جمتمع أو . لت مع مرور الوقت عن ذلك املدلول لتأخذ مدلوال آخر جديداحتو

ة من األمم من تراث وخصائص وإبداعات يتميتمعاتأما عن غريه من ا ز. اب يتكلمون املفكوخون فأصبح املؤررون والكتكاحلضارة املصرية القدمية واحلضارة اليونانية واحلضارة السومرية والرومانية والفارسية سالفة ومعاصرة، عن حضارات عديدة

.الغربية املعاصرة وما شاكل ذلك والصينية واهلندية وحضارة أوربا العصور الوسطى واحلضارة اإلسالمية واحلضارة

إىل اللغة العوقد ن ة باستخدام عبارتني مها قل هذا االصطالح الغريبة"و" احلضارة"ربيفأصبحت هاتان الكلمتان ".املدنياجلديد تستخدمان للداللة على ذلك املعىن االصطالحي.

ما أو يرثه كثريا من الذين يستخدمونه يدخلون يف مدلوله كل ما ميلكه جمتمع املشكلة يف هذا االصطالح، هي أن أن إالزات ذلك اتمع وما ليس ا هو من مميبصرف النظر عم ية وغريها،ار وتشريعات وفنون وإجنازات علمية ومادأو يبدعه من أفك

اليت ميلكها واإلبداعات اإلجنازاتزاته من ذلك التراث وتلك من ممي.

تمعات،مع أننا حني نتكلم عن حضارة جمتمع من ا فإننا نتكلم عن طريقة العيش اليت تتمع عن سائر ميز ذلك ازه عن سائر اتمعات وجتعل منه مجاعة بشرية لكل جمتمع طريقة يف العيش متي وواضح للعيان تارخيا وحاضرا أن .اتمعات

ح عرب عنه باصطالز جمتمعا عن آخر هي ما يهذه الطريقة يف العيش اليت متي ة،ز وهوية خاصة ولون متميينمع يةذات شخص ".احلضارة"

مات شخصية ما هو من مقو إاللذلك جيب أن يلحظ حني استخدام ذلك االصطالح وتعريف مدلوله أن ال يدخل ضمنه تمع اليت جتعل منه جمتمعا معيتمعات يف طريقة عيشه،اة اليت األشكالفال تدخل نا خيتلف عن غريه من ايوالوسائل املاد

.ز ا عن غريه من اتمعات شؤون احلياة واليت ال يتمييستخدمها اتمع يف

زها عن غريها من اتمعات وليست هي اليت تعطيها املادية اليت تنتجها أمة من األمم ليست هي اليت متي فاإلجنازاتك حبضارا وطريقة تمعات اليت تتمسا نا جند أنفإن .لكل البشر واتمعات وعامة ،"حيادية"فهذه أشكال ووسائل .هويتها

ا ينتجه ها تستفيد يف الوقت نفسه ممنأ إال األفكار واألنظمة ووجهات النظر يف احلياة، عيشها تقف باملرصاد أمام كل وافد منة ما مل تكن تلك األشكالشعب أو جمتمع من أييا ال األشكالوالوسائل املاديت تصوغ والوسائل متعارضة مع حضار

ز طريقة عيشهاجمتمعها ومتي. بل إنك جتد الدولة الراقية اليت تتمسا حريصة على مواكبة كل ما يتم ا وتفتخرإجنازه ك حبضار

Page 144: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٤

يف البالد األخرى من االختراعات واملبتكرات الفنة، إذ هي من أسباب القوة والعلمية والتقنية الراقية على ية اليت حترص األميته وهو والوسائل املادية ليست هي اليت تطبع اتمع بطابعه اخلاص األشكالواملبتكرات من اإلجنازاتهذه أن إال .امتالكها

زةاملتمي.

تمع،وعلى منط العيش وه م علينا أن نضبط املصطلح الدالكل ذلك حيتة از بينه وبني ما يدل يعلى جمموعة فنمينا وبالتايل فإن .واليت هي عامة جلميع الشعوب واتمعات ائل املادية احملسوسة املستعملة يف شؤون احلياة،والوس األشكال

احلضارة"ص كلمة خنص "تمع فيجعل له طريقة خاصز اة"وجنعل كلمة ة يف العيش،للداللة على ما ميية على الوسائل دال" املدني .يف شؤون احلياةاملادية املستعملة واألشكال

تمعات وما جيعلها جمتمعات ذات لون معيوبالرجوع إىل واقع ااألفكار "جمموعة يف العيش،جند أن ن ومنط خاصتلك املنظومة إذ إن .ا يف العيشته وجتعل له طرازا خاصته وشخصيلدى جمتمع ما هي اليت تعطيه هوي" واملشاعر واألنظمةوطبيعة هذه ناس قامت بينهم عالقات دائمية، إالوما اتمع ف عالقات الناس فيما بينهم يف اتمع،كيالثقافية هي اليت ت

تمع هي اليت تعطيه هويالعالقات يف اتهته وشخصي. منظومة األفكار واملشاعر "ها وبناء عليه ميكن تعريف احلضارة بأن ".واألنظمة لدى جمتمع من اتمعات

ف حيسن التوق جيد ظاهرة جديرة باالهتمام، يف جممل احلضارات واألفكار اليت سادت الشعوب عرب التاريخ،والناظر وقد تكون بعض احلضارات امتدادا .أو انبثاق بعضها من بعض ر تلك احلضارات بعضها ببعض،وهي تأث .اعندها لدراستها ملي .ت جديدة وميزات أخرىزت عنها بسماأنها متي إال لتلك اليت سبقتها،

تتناول فهذا يعين أنها منظومة ثقافية واسعة، احلضارة هي جمموع األفكار واملشاعر واألنظمة لدى اتمع، فحني نقول إنهي اليت فإذا كانت تلك الثقافة .وغري ذلك من حكم واقتصاد واجتماع وقانون وسياسة وفن خمتلف نواحي احلياة واتمع،

ر احلضارات بعضها نا سنصل بالتأكيد إىل حتمية تأثفإن رة بالواقع والبيئة اليت تعيش فيها،البشرية متأث األذهانقول أو نتاج العاليت يعيش فيها واألوضاعر أو املبدع باألفكار اليت حتيط به املفك فمن الطبيعي أن يتأثر .ارا سلبيا أو تأثرا إجيابيسواء تأث ببعض،

فعل عكسي ا ردوإم ا من جنس األفكار اليت حتيط به،ات هي إمفيخرج بأفكار ونظري ر،والظروف اليت تالبسه وهو يفك .ر احلضارات بعضها ببعضر لنا ظاهرة تأثوهذا ما يفس .ر اويف كال احلالني هو متأث إزاءها،

نا سنجد ذلك الكالم ال ينطبق فإن ،منذ القرن السابع ميالديشرت إذا أخذنا مثال احلضارة اإلسالمية اليت انتإال أننا ا را إجيابيال تأث ر أو أي ارتباط باحلضارات السابقة أو املعاصرة هلا،تأث الناظر إىل بداية نشوئها ال جيد فيها أي ذلك أن .عليها

كل االختالف عن كل أمناط العيش السابقة له واملعاصرة، اإلسالم أوجد منطا من العيش خمتلفا ذلك أن ،اسلبي راوال تأثتمع حبيث مل يترك ناحية من نواحيه وأحدث انقالبا جذريوطاهلا وأحدث فيها التغيري من أساسها، انطالقا من إالا يف ا

ة لعدة اليت اعتادت منط عيش اجلاهليا ة قرون خلت ومرورا وانتهاء بالبالاجلزيرة العربياورة واحمليطة والبعيدة اليت سادد ا .احلضارات الرومانية والفارسية وغريها

Page 145: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٥

احلضارة اإلسالمية اليت أحدثت ذلك االنقالب يف اجلزيرة العربية وسائر البالد اليت دخلت حظريا بدأ انتشارها منذ إنرة حني ارتكزت يف املدينة املنو من والدا، ها بعد ثالثة عشر عاماوآتت مثار ة قلب اجلزيرة العربية،هلا يف مك � إعالن حممد

ومل ميض .لتتابع بعد ذلك مسريا يف سائر العامل القدمي مث انتشرت بعد ذلك بعشر سنوات يف كل اجلزيرة العربية، ،"يثرب"كل احلضارات طوت صفحة حيث غربا، ياألطلسمن الصني شرقا إىل ل مساحة شاسعة متتدوقد أصبحت تظل إالقرن واحد

فلئن قامت كل احلضارات األخرى ونشأت رويدا .السابقة يف تلك البالد من فارسية وبيزنطية وهندية وغريها إىل غري رجعةد احملدوكياا واستغرقت يف تبلورها إىل شكلها اخلاص ارات الفكر،من تراث املاضي مبا حوى من ضروب الرأي وتي رويداوقد مجعت هذه .فلقد انفردت حضارة اإلسالم وحدها بانبجاسها إىل احلياة دون سابق عهد أو انتظار طويلة من الزمن، آمادا

ة إىل فقامت يف جمتمع واضح املعامل، له نظرته اخلاص .مات األساسية حلضارة مكتملة شاملةكل املقو من فجر نشأا، احلضارة،ومل يكن قيامها مثرة .د للعالقات بني األفراد،بعضهم ببعض داخل هذا اتمعالكامل وله جه احملد ه التشريعيوله نظام احلياة،

فريد وهو تنـزيل كانت وليدة حدث تارخيي هذه احلضارة، ولكن رات فكرية متوارثة،اوال وليد تي تقاليد زخر ا املاضي، .القرآن الكرمي

ة؟لنقاء يف الثقافة اإلسالمية من بعد عهد النبوفما مدى استمرار ذلك ا

األمة اإلسالمية حافظت ة قرون من بعده، جيد أنالناظر يف تاريخ الفكر اإلسالمي منذ عهد رسول اهللا ومرورا بعد إن سريها وفق وجهة أمة انضبطت يف تفكريها وحافظت على هويتها واستقامت يف ومل توجد قط على نقاء فكرها إىل حد بعيد،

فالعقيدة اإلسالمية كانت القاعدة الفكرية اليت يبين املسلمون عليها .اإلسالمية نظرها وقيادا الفكرية كما فعلت األمةوكانت األمة حريصة على عدم .كانت املصدر ألنظمة احلياة والدولة -وهي القرآن والسنة- ونصوص الوحي .أفكارهم

.ر أو حضارة غري اإلسالمفك من أي األخذ

فقد وصلنا إىل حالة مل يعد معها الفكر اإلسالمي واضحا يف أذهان املسلمني،ومل كما جيب، هذا الواقع مل يستمر أن إاليعد نقيى يف أذهان كثري من العلماء ومدرا،حيث دخلت سي الشريعة وطلا حتوأصبح كثري من ،األذهانإىل عناصر غريبة ا

؟ ومىت بدأ؟راجعفما أسباب هذا الت .نسب إىل اإلسالم وهو منها براءفكار ياأل

بني تلك الشعوبتأث أن من البدهي هذا االحتكاك قد .ر الشعوب بعضها بأفكار بعض يكون نتيجة لالحتكاك الفكريزام فكر وانتصار فكر،إي يؤدىل ا باآلخرر فكر ي إىل تأثوقد يؤد، باآلخرتأثر املفكرين كل واحد منهما ي إىل وقد يؤد.

ى له من يفهمه مل يصمد أمامه فكر مطلقا، مادام قد تسن بغريه من األفكار، الفكر اإلسالمي منذ أن احتك والتاريخ يرينا أنفهمه وحيمله بالتايل على أحسن وجه حق.

لكثري من الضغوط والعوامل اليت من لقد تعر ض الفكر اإلسالميا أن تؤدتكدير صفوه ي إىل شأما وتشويهه أو رب .�١ونظافحل ها لنإو ركنا الذلزن نحا ننإ� :ل حبفظه وهو القائلاهللا تعاىل تكف حتريفه لوال أن

فما هي تلك الضغوط والعوامل وما مدى تأثريها على الثقافة اإلسالمية؟

.٩ اآلية ،سورة احلجر -١

Page 146: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٦

ة،بعد أ إال �الرسول مل يتوفونزل قوله تعاىل ن اكتمل بنيان احلضارة اإلسالمي :�اليوكأ ملمكل تم دكينم أوتممت لعكين معميت ورضكل يتاإل مسالم �١يناد .فرحل النيب � بعد أن أقام جمتمعا إسالميخيتلف كل االختالف عن ا،ا منوذجي

.وال ميت هلا بأية صلة قرابة رة،سائر جمتمعات املعمو

ة رسوله ويرعون شؤوم فبايعوا خلفاء حيكموم بكتاب اهللا وسن تابع الصحابة الكرام املسرية، ،�بعد وفاة الرسول احلرص على احلفاظ على نقاء اإلسالم وكان اخللفاء الراشدون حريصني أشد .باألنظمة اليت انبثقت عن العقيدة اإلسالمية

هم باقتباس األفكار وأنظمة رساع الدولة اإلسالمية وترامي أطرافها مل يغات إن حتى .عنصر دخيل صفائه وبراءته من أيو .اإلداريةقوا بني أنظمة احلكم والقوانني وفر .وكذلك بني الثقافة والعلوم" املدنية"و" احلضارة"قوا بني ففر .احلكم واالقتصاد

وأخذوا ما يلزمهم من املدنية والعلوم والقوانني الثقافات وأنظمة احلياة كلها ما دامت من غري اإلسالم،فرفضوا احلضارات و واإلداراتكالدوائر اب حني أخذ نظام الدواوين الذي مل يكن أكثر من أسلوب إداريوذلك كما فعل عمر بن اخلط ،اإلدارية

.ته الدولةي تبنت اليت تضمن حسن تطبيق النظام الذوالسجال

األمويأنه خالل العهد إالوكذلك من بعدهم .وقد حافظ الفكر اإلسالمي على نقائه طوال عهد اخللفاء الراشدين .ب إىل أذهان املسلمني فيخلطوا باإلسالمتتسرالعناصر بدأت بعض

كانت عملي من أوائل احملاوالت الختراق الفكر اإلسالمياألحاديثفقد عمد أعداء اإلسالم إىل .األحاديث ات دس ة يدسون فيها أحاديث مكذوبة مل يقلها الرسولالنبوي � ة ومفاهيم تناقولكننوها معاين غري إسالميروها وضمضهم زو

نيبأحاديث وأشاعوها � وبالفعل كذبوا على الرسول .فيبعدوا عن اإلسالم حتى يأخذها املسلمون ويعملوا مبا فيها اإلسالم،فهب العلماء ورواة احلديث جيمعون احلديث ويضعون تاريخ املسلمني فطنوا هلؤالء وقضوا على مؤامرام، غري أن .الناس

وحصر الرواة وعرف كل واحد ، حتى حفظ احلديث رواته وأوصافهم ويبينون احلديث الصحيح من الضعيف من املكذوب،مبعرفة كذبه، أوته من ضعفه ع احلديث أن يعرف صحبأصبح بإمكان املسلم إذا تتوبينت طبقات كتب احلديث، حتى منهم،

حتى كان جزاء الكثريين منهم الدولة اإلسالمية ضربت على يد هؤالء الزنادقة بيد من حديد، وفوق ذلك فإن .سنده ومتنه .ؤامرة على اإلسالم وال على ثقافته أثر يذكروبذلك مل يكن هلذه امل �على رسول اهللا األحاديثالقتل جزاء على افترائهم

ة من طريق آخر ولكناخلطر داهم الثقافة اإلسالمي.

من رومية نصرانية وفارسية وهندية وقبطية حدث ذلك حني بدأ االحتكاك الفكري بالشعوب اليت فتح املسلمون بالدها،وكان على املسلمني أن .افات وأفكارا عميقة األثر يف نفوسهموكانت تلك الشعوب حتمل قبل الفتح اإلسالمي ثق .وغريها

فالفتوح اإلسالمية إنما شرعت هلذا .يشمروا عن سواعدهم خلوض صراع فكري مع هؤالء حتى يوصلوا إليهم اإلسالمعضهم غمار جمادلة أهل فخاض ب .وكان كل فتح يعقبه انتشار للعلماء والدعاة حتى يدخل الناس يف دين اهللا أفواجا السبب،

ني بعضهم غمار جمادلة اوس الفارسي ضوخا الكتاب الذين كانوا ينتشرون يف بالد الشام ومشال إفريقية وبعض العراق،وبعضهم جادل الوثنيني وغريهمني من هنود وصيني.

.٣ اآلية، سورة املائدة - ١

Page 147: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٧

واألديان اليت كانت تعتنقها شعوب ق املسلمون انتصارا ساحقا على كل الثقافات واحلضارات أن حيق لقد كان البدهيبل لقد دخلت شعوب تلك البالد اإلسالم بأسرع من ملح البصر يف حساب ،ومل يستغرق األمر سنني طواال البالد املفتوحة،

.فت بثقافتهوثقافاا وانصهرت يف حضارة اإلسالم وتثق وهجرت حضاراا تاريخ الشعوب واألمم،

مل ميض دون أن ري والفكري الذي انتصر فيه املسلمون على سائر الثقافات واحلضارات،هذا الصراع احلضا أن إالوكان أصحاب األديان .عنيف فقد كان الصدام الفكري جد املتناثرة يف ميدان املعركة،" الشظايا الفكرية"يصابوا ببعض

فكان حرص .قة اعلى العقيدة واألفكار املتعل دعوة مبينأساس ال ألن األخرى يثريون الشبهات وجيادلون املسلمني يف العقائد،م بعض األفكار الفلسفية على خصومهم قد محل الكثريين منهم على تعل وحاجتهم للرد املسلمني على الدعوة اإلسالمية،

خصومهم لتكون بيدهم سالحا ضد. ة من نصارى النساطرة وأمثاهلفقد تسرة والهوتيم وعرف منطق أرسطو بت مسائل فلسفيوترمجت كتب كثرية من اليونانية إىل السريانية مث إىل العربية لع بعض املسلمني على بعض كتب الفلسفة،واط بني املسلمني،

حت بالفلسفة ة اليهودية والنصرانية قد تسلوكانت األديان األخرى وخاص .فكان هذا مساعدا على وجود األفكار الفلسفية .فكان ذلك كله موجدا أفكارا فلسفية محلت املسلمني على دراستها وأدخلت للبالد األفكار الفلسفية، انية،اليون

ه ما ألن ،أهل األديان واملذاهبعلى ما دراسة أفكار فلسفية للردوإن تلك الدراسة مل تكن دراسة فلسفية كاملة، أن إالكان يتسنما إال بعد ى للمسلمني الردني السيولذلك .ق منها باملنطق والالهوتيتعل مااالطالع على أقوال الفالسفة اليوناني

وبذلك أصبحت البالد اإلسالمية ساحة تعرض فيها كل اآلراء وكل .وأقواهلا وحججها األجنبيةبالفرق اإلحاطةاندفعوا إىل ل وحتمل كل فريق دة تستدعي التأمويثري مسائل متعد والتفكري،اجلدل يستدعي النظر أن وال شك .الديانات ويتجادل فيها

إىل حد كبري يف إجياد أشخاص ينهجون جا جديدا يف البحث فكان هذا اجلدل والتفكري مؤثرا عنده، مبا صح األخذعلى سالمية بني املسلمني مجاعة ونشأت يف البالد اإل ا،ا خاصوصار فن" علم الكالم"ن جراء ذلك فتكو .واجلدل والنقاش

".املتكلمني"

ضد الفلسفة للدفاع عن القرآنقرؤوا وقد -هم أن إال رهم األساسي هو بالقرآن،هؤالء املتكلمني كان تأث صحيح أن خيالف منهج القرآن واحلديث وأقوال الصحابة وخيالف يف الوقت نفسه يف البحث والتفكري، صار هلم منهج خاص -خصومهم

.منهج الفالسفة اليونانيني يف حبثهم وتقريرهم وتدليلهم

أثار قضايا إذ إنه .حني ظهر علم الكالم على الساحة الثقافية اإلسالمية القى مواجهة عنيفة من علماء املسلمني وفقهائهمعلم الكالم وكان حكمهم يف لذلك عارض معظم الفقهاء .ة العقائدمجلالقرآن والسنة يف يف العقائد مل تتطرق إليها نصوص

.املتكلمني شديدا

علم "أنه مع مرور الزمن بدأ علم الكالم ينتشر بشكل واضح ويلقى قبوال لدى معظم العلماء،حتى أصبحت عبارة إاللكالم انزلقوا إىل ن بقوا ينكرون على املتكلمني وعلم اكثريا مم بل إن ،"أصول الدين"أو " علم التوحيد"مرادفة لعبارة " الكالم

على " أصول الفقه"وكان من أسوأ آثاره أنه اندمج مع علم .اخلوض يف مسائله ووفق منهجه دون أن يفطنوا إىل ما وقعوا فيه

Page 148: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٨

ظهور علم الكالم واملتكلمني كان باكورة التأث ولعل .ه ذلك العلم الذي هو من أجل العلومحنو شولدى املسلمني ر الفعلي .وقد توالت بعد ذلك موجات التأثري اليت أصابت البنيان الفكري لألمة اإلسالمية .لثقافات واحلضاراتبسائر ا

من الع على الفلسفة اليونانية وغريها،أصبح االط فات الفلسفية وترمجاا،فبعد ظهور علم الكالم واملتكلمني وانتشار املؤلالع ني الذين مل يقتصر عملهم على االطى إىل ظهور من عرفوا بالفالسفة اإلسالميا أدمم رة يف بالد املسلمني،املتيس األمور

وا ذلك إىل دراسة الفلسفة دراسة كاملة والسري على منهجها بشكل بل ختط عليها، الفلسفية والرد األحباثعلى بعض جوانب .وغريهم" انجابر بن حي"و" ابن سينا"و" الفارايب"بعده مث جاء هـ، ٢٦٠ى سنة املتوف" الكندي"ومن أشهر هؤالء .كامل

ذلك أنها ال متت إىل اإلسالم بصلة،بل هي تتناقض مع اإلسالم ،"فلسفة إسالمية"وقد أخطأ كثريا من عد فلسفة هؤالء سواء من حيث األساس أو من حيث كثري من التفاصيل ا،تناقضا تام. الفلسفة تبحث يف ما هذه ا من حيث األساس فإنأم

وفيما ومينع البحث يف ذات اهللا، ه إنما يبحث يف احملسوسات فحسب،اإلسالم فإن خبالف وراء الكون، أي يف الوجود املطلق،والوقوف عند حد ما يأمر باإلميان به من دون زيادة،ودون أن يسمح للعقل يف وراء الكون، ويأمر بالتسليم به تسليما مطلقا،

ه مل وأنام العدقففيها أحباث تقول ب يف هذه الفلسفة أحباثا كثرية يعتربها اإلسالم كفرا، ا من حيث التفاصيل فإنوأم .ة حبثهحماولا هو كفر صريح وغري ذلك مم ات،اهللا جيهل اجلزئي وأحباث تقول إن ،ايوليس ماد ة روحايننعيم اجلن وأحباث تقول إن ،أزيل

.ظر اإلسالمقطعا يف ن

أي ومل يتبعهم مجهور من املسلمني، هؤالء الفالسفة مل يبلغوا أن يكونوا مجاعات أو مذاهب، هو أن اجلدير ذكره، أن إالأنرون عن الرأي العامهم مل يكونوا يعب ،ى عن قسم منه اإلسالميلذلك ليس من الصواب أخذ أحباثهم بعني االعتبار .وال حت

ا يف اتمع،ارا فكريل تيفا يشكفليس كل من كتب كتابا أو صنف مصن .افة السائدة يف األمة اإلسالمية آنذاكحني دراسة الثق نا نرى هؤالء الفالسفة منبوذين من قبل الرأي العامبل إن .وهو ال يكتسب أية أمهية ما مل تنتشر أفكاره لدى مجهور من الناس

كان يستلهم معظم مواقفه الرأي العام وال سيما أن بل والسخط، إىل أحباثهم واحنرافام الفكرية، لريبة،الذي كان ينظر بعني اهؤالء الفالسفة مل حيظوا وميكننا القول إن .من آراء اتهدين والفقهاء الذين وقفوا باملرصاد أمام تلك االحنرافات الفكرية

ما ذاع صيتهم يف البالد الغربية قبل اإلسالمية يف التاريخ ورب .ا ا يف التاريخ احلديث واملعاصراليت حظو باألمهيةطوال التاريخ اإلعالءوكذلك ة واملبتدعة والباطنية،من شأن الفرق الضال اإلعالءنتيجة حركة االستشراق اليت توجهت دائما حنو املعاصر،

من شأن الفالسفة أمثال ابن سينا والفارايب والكندي وحاول هؤالء املستشرقون دائما إظهار هؤالء .ان وابن رشدوابن حيوختل "العصور الوسطى"رين والعباقرة املبدعني الذين انتفضوا على مجود الفالسفة يف صورة املفكرين املتنووالذين تها،فها وتزم

ة الفقهاء والرجعيامها،ني من رجاالت الدولة وحككانوا ضحي ةري عصر النهضة رون مفكمتاما كما كانوا يصوأو األوربيالفالسفة املتنورين الذين انتفضوا يف وجه االستبداد الديين مون ف الذي مارسه رجال الدين والكنيسة املتحكوالظلم والتعس .باتمع وثقافته

ا لبعض األفكار الفلسفية اليت مل أحباثهم كانت ممر أن إال ولكن مهما يكن شأن هؤالء الفالسفة ضئيال يف ذلك الوقت،وأبرز . ز يف أذهان املسلمني لوال أن أسدى هلا بعض العلماء خدمة جليلة بإضفاء الصفة الشرعية عليهايكن هلا أن تنتشر وتترك

".التصوف"تلك األفكار ما صنف حتت عنوان

Page 149: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٤٩

عرب ترمجات الكتب اهلندية والفارسية ن الثقايف يف العامل اإلسالمي،حني دخلت أفكار التصوف بادئ األمر إىل امليداكما عاملوا سائر الفلسفات - متهم الفقهاءويف مقد-عاملها املسلمون وغريها واعتنقها بعض الناس وأخذوا أفكارها،

بني العقيدة اإلسالمية من حيث ة بينها وعد الشقوذلك لب قسوة وأكثر وضوحا، بل كان موقفهم إزاءها أشد والفالسفة،حوت بل قبل ظهور اإلسالم، ر ا النصارى قبل املسلمني،الفلسفة الصوفية الوافدة من اهلند وغريها واليت تأث ذلك أن .األساس

ة فة إىل سداملتصواد، وارتقاء ففيها أفكار احللول واالحت .كفرا صرحيا بنظره عدبل وي من األفكار واآلراء ما خيالف اإلسالم،فة وما شاكل وفيها االعتقاد حبدوث املعجزات على أيدي املتصو فة،يف شخص املتصو اإلهليةد الذات أو جتس ،اإلهليةالذات الذين أخذوا " األفراد"لذلك كان .أن يلقى قبوال أو حتى جتاهال من قبل املسلمني األشكالا ال ميكن بشكل من مم ذلك،

ومعدودين يف عداد الزنادقة ج وغريه من املنبوذين املغضوب عليهم يف اتمع اإلسالمي،الصوفية واعتنقوها مثل احلال األفكار .ينار املرتدوالكف

لوها حني لقيت العناية من بعض العلماء املسلمني الذين تكف إىل أن جاء الوقت الذي بدأت فيه الصوفية تلقى القبول،" أبو حامد الغزايل"وكان من أبرز هؤالء اإلمام .ذوا على عاتقهم ذيبها وتنقيتها مما خيالف العقيدة اإلسالميةبالرعاية وأخ

فني فبدأت أفواج املتصو .ي األساس الذي تقوم عليه الصوفيةى لألسف إىل تبنهذا األمر أد أن إال. هـ٥٠٥ى سنة املتوفف وتعذيب اجلسد والبعد عن متاع احلياة الدنيا وزخرفها وهجر من خالل التقش ،"رياضة النفس والروح"تسلك دروب

ب الروح على اجلسد كل ذلك حتى يتغل .واحتقار العمل والنضال السياسي واملكوث يف الزوايا والتكايا األسباباتمع وترك بل ليست من اإلسالم يف شيء،" الصوفية"يت تقوم عليها تلك الفلسفة ال مع أن .إىل مصاف املالئكة واألولياء" األتقياء"ويصل

فهي تدفع اإلنسان إىل هجر وهكذا كانت تلك الفكرة من عوامل اهلبوط يف اتمع اإلسالمي، .هي خمالفة له كل املخالفةجيعل من املتصو تمع وازدراء احلياة إىل حدة فاقد اهلدف،افال نشاط ل ف إنسانا عدمي الغايي إىل عمارة ديه وال عمل يؤد

ضراأل نم مكأشنأ وه�: الدنيا على أساس من تقوى اهللا سبحانه وتعاىل الذي استخلف اإلنسان يف األرض فقال لهواستعمكرم ة تلك مع الق �١يهافوكان ضغثا على إبالة أن اندجمت فكرة الصوفية اليت تؤمن بأندة الغيبياإلنسان كالريشة ري

فكل ما يف هذه الدنيا فال قيمة إلرادة اإلنسان وال لقدرته وال جهده، ،األمواجالريح أو كاخلشبة اليت تتالطمها يف مهبر على وال خيفى على واع ما يف تلك املفاهيم من خطر مدم. ة حمكمة ال ميلك اإلنسان التأثري يف شيء منهاحيصل نتيجة خط

تمعاتجمتمع أيمن ا.

هكذا دخلت املؤثرات احلضارية والفكرية الواحدة تلو األخرى إىل امليدان الثقايف يف األمة اإلسالمية،ما أفقد املسلمني نقاء .الفكر وصفاءه ووضوحه إىل حد من احلدود

فكل .تهمر حضارم وتسلب شخصيغيأو تت تهم،مل يصل األمر إىل أن يفقد املسلمون هوي حال من األحوال، أنه بأي إالال زالت .لتقوى على إميان املسلمني بعقيدم وثقتهم بتشريعهم ومفاهيمهم اإلسالمية األيامتلك املؤثرات مل تكن يف يوم من

صادر م رشدا إليه،ال زال القرآن والسنة وما أو العقيدة اإلسالمية هي القاعدة الفكرية اليت يبين املسلمون عليها أفكارهم،وعلماء الكالم إنما كانوا يبذلون طاقتهم وجهدهم يف دراسة املنطق بغاية تثبيت العقيدة اإلسالمية، وجعلوا .التشريع لديهم

.٦١ اآلية، سورة هود - ١

Page 150: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥٠

.والفالسفة الذين ظهروا بني املسلمني بقوا أفرادا ومل يكن هلم شأن يذكر يف الرأي العام .العقيدة اإلسالمية أساسا ألحباثهم .لصوفية على خطرها وجمانبتها لإلسالم مل تكن تقوى على مزامحة العقائد األساسية لدى املسلمنيوا

والتوجيه الثقايف يف العامل اإلسالمي كانوا يف تشكيل الرأي العام واألعظمأصحاب السهم األكرب هم من ذلك كله أنواألفلقد كانت أحباثهم تنصب على .ر بالثقافات واألفكار غري اإلسالميةلتأثوهؤالء كانوا بكل تأكيد بعيدين عن ا ".الفقهاء"

وعلى فهم املدلوالت اللغوية والشرعية للقرآن والسنة من أجل استنباط األحكام والسنة، دراسة اللغة العربية لغة القرآنانت تسيرها جمموعة من األحكام الشرعية ك فحياة املسلمني يف جمتمعهم ودولتهم، .الشرعية وضبط سلوك املسلمني ا

.أ على ذلكر يف استبدال أنظمة وضعية باألنظمة اإلسالمية أو أن يتجرومل يكن حلاكم أن يفك املستنبطة من الكتاب والسنة،

ا ما حاول بعض املستشرقني وأتباعهم من املثقوأمقد تأثقالف من أن بني تروجيه،فني املتغر ر بغريه من ه اإلسالمي .ا خرافة ال حظ هلا من احلقيقةة، بل هو حقالتشريع الروماين، فال أساس له من الصح والسيما التشريعات،

Page 151: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥١

خامتة

Page 152: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥٢

يف األصوبرونه من مناظرات ومناقشات فقهية وتنافس على درك الرأي وما يج كان وجود اتهدين والفقهاء، لقدولذلك . خلل ميكن أن يطرأ عليه والضمان ملعاجلة أي للمجتمع اإلسالمي، األمانذلك صمام كان كل املسائل الفقهية،

احليوية الفكرية األساسية لدى فقد كان ذلك يعين أن .حني انزلق املسلمون يف قضية إقفال باب االجتهاد ،امةكانت الطما كان ذلك احلكم هو أكثر األحكام جورا وظلما ورب .عدامباإلاملسلمني واليت هي سبب ارتقائهم وضتهم قد حكم عليها

فقد أصبح واجبا على كل املسلمني مبا يف ذلك العلماء والفقهاء أن ال خيرجوا عن أطر املذاهب اليت .يف التاريخ اإلسالميوا .ت قبل إقفال باب االجتهاداستقرتهدين الذين مل يأه ظهر جمموعة من الفكرة إغالق باب االجتهاد وتابعوا صحيح أن

نا إذا فإن .العلم والعلماء القى من االستجابة ما كان له أثر بالغ يف مجود التفكري وشح اإلقفالذلك أن إالأداء تلك الفريضة، نعثر على تلك الظاهرة نا مل نعدفإن شهدنا يف عصر ازدهار الفقه ظهور مدارس فقهية عظيمة مثل الشافعية واحلنفية واملالكية،

.تلك املذاهب القدميةأحد بل كان معظم الفقهاء واتهدين الذين ظهروا بعد ذلك ينتسبون إىل بعد إغالق باب االجتهاد،

ي إىل تغلغل مزيد من األفكار الوافدة إىل ثقافة املسلمني وإىل إغالق باب االجتهاد سيؤد ع الباحث أنمن الطبيعي أن يتوقالبنيان الفكري لدى املسلمني قد فقد صحيح أن .الواقع كان غري ذلك أن إال .ث الفكري يف العامل اإلسالميمن التلو مزيد

تلك ذلك أن الفكرية والثقافية إىل ذلك البنيان،العناصر ذلك مل يكن كافيا لتغلغل أن إال مناعته بعد إغالق باب االجتهاد،ا املسلمون يف صدر التاريخ اإلسالمي مع اندفاع الفتوحات فاحلضارات اليت احتك .وجود آنذاكمل يعد هلا العناصر

فدولة فارس سقطت .مل يعد هلا وجود يذكر على الساحة الدولية -وعلى رأسها احلضارتان الرومانية والفارسية-اإلسالمية ا الغربية الكاثوليكية كانت تعيش يف دياجري وأورب .تلفظ أنفاسها األخريةالبيزنطية وريثة احلضارة الرومانية واإلمرباطورية

واملغول والتتار والتركمان الذين مل يعتنقوا .وما من رسالة حضارية لديها حتملها إىل العامل العصور الوسطى واحنطاطها،فت ة واالطالع على املعارف والثقافات السابقة فقد توقا حركة الترمجأم .فامنهم احنطاطا وأكثر ختل كانوا أشد اإلسالم بعد،معي ن واستنفدت أغراضهاعند حد. ة سية اإلسالمية،وهكذا بقيت األمة والثقافية يف دة املبادرة احلضاريفضال عن السياسي

أو على ا الشروح على الشروح،وبقيت تعيش على التراث الفقهي السابق وكتابة الشروح على املتون ورمب الساحة الدولية، .ما تلخيص شروحهافات وربيص تلك املصنلخت

وازدادت ثقتها بنفسها .ياا وحضارواألمة اإلسالمية ال جتد من ينازعها فكري منذ العهد العباسي، مضت، ة،قرونا عد إنا،حني انتصرت على أعدائها عسكري تار،ني واملغول والتبعد أن طردت الصليبي ة يف عهد العثمانيني وانتصبت اخلالفة اإلسالمي

لتوح،فركن املسلمون إىل أوضاعهم .ولتملك اجليش الذي ال يقهر ولتعود أقوى دولة يف العامل، د معظم العامل اإلسالمي- وبات العقل املسلم يواجه .مهم إىل اخلطر احملدق إذ ما من ناقوس يدق حوهلم وينبه الثقافية والفكرية والتشريعية عموما،

.بعد أن فقد حيويته وركن إىل الراحة والدعة. خطر الترهل والضمور -من حيث ال يدري

والنهوض، تقف الكيان اإلسالمي كان ينتظر حضارة واحدة على قدر من الرقي التاريخ فيما بعد ليثبت أن وجاءة ا بقوبت يف املاضي على مجيع األمم فكريإذا كانت األمة اإلسالمية قد تغلف .مبواجهته حتى تتزعزع أركانه وينهار بنيانه

ة إمياا وطاقتها الروحية ا بسبب قووانتصرت عسكري وهو اإلسالم الذي حتسن فهمه وتطبيقه وحتمله رسالة إىل العامل، مبدئها،فقد جاء الوقت الذي يق ها للجهاد والشهادة يف سبيل اهللا،وحبوم فيه كيان جديد يواجه املسلمني حضاريا مبا حيمله ا وفكري

Page 153: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥٣

وهو كيان احلضارة الغربية املعاصرة الذي أال .ة صناعية وتكنولوجيةع به من قوا مبا يتمتويواجههم عسكري من مبدأ جديد،ولسنا هنا بصدد البحث يف ال .تكاملت صورته مع بداية القرن التاسع عشر امليالديصراع العسكري واملادالذي نشب بني ي

، فبحثنا منصب على االحتكاك الفكري والثقايف بني املسلمني وسائر الثقافات واحلضارات الدولة اإلسالمية والدول الغربية،إلسالمية ومن ق للغرب على الدولة اته يف البحث ملا أسفر عنه من تفويكتسب أمهي يواملاد ذلك الصراع العسكري وإن كان

فكانت تلك أعظم األمر الذي أصاب املسلمني بصدمة عنيفة أفقدم ثقتهم بأنفسهم وحضارم وتشريعهم، م انتصاره عليها،ث .صدمة وأبلغ إصابة أصيبت ا األمة اإلسالمية

اللدود الذي العدو أن إال من كل حدب وصوب، األعداءلقد واجهت األمة اإلسالمية عرب تارخيها الطويل الكثري من ى يومنا هذا هو الدول استمروحت ةالصراع معه منذ صدر التاريخ اإلسالميسواء متث ،األوربيل هذا العدو التارخيي

يت اقتحم ا الغربية الكاثوليكية الأم مبمالك أورب م،١٤٥٣ البيزنطية اليت حارا املسلمون حتى أسقطوها عام باإلمرباطوريةلت بالدول الغربية االستعمارية املعاصرة اليت قامت على أساس حضاري جديد هو أم متث ،األندلساملسلمون ديارها عرب

.الرأمسالية اللربالية

وتواجه ا املسلمني على من رسالة حضارية حتملها إىل العامل خالل العصور الوسطى، األوربيةا مل يكن للدول وملوالسيما على أمة تقوم لذلك مل تكن تشكل آنذاك ذلك اخلطر العظيم، .كان سالحها الوحيد هو احلروب الصليبية ،خصاأل

تلك احلروب ذاا مل تكن لتالقي النجاح لوال الظروف اليت القتها يف العامل على حضارة عريقة راقية كاألمة اإلسالمية بل إنن عاد املسلمون إىل توحيد صفوفهم إلذلك ما .واإلماراتوتسابق على الواليات ونزاع داخليك وتشرذم اإلسالمي من تفكى أرغم الصليبيحتيتشكل على أن إال .وا أذيال اخليبة إىل بالدهمون على أن جير تمع الغريبالكارثة الكربى وقعت حني بدأ ا

لك من األفكار واملفاهيم واألنظمة ما يستطيع أن يواجه به العامل بأسره،مي ا جديدا،جعلت منه كيانا حضاري أسس جديدة،ة اليت كانت املارد املخيف ألوربة اإلسالميما األموالسيالسنني ا على مر.

م،١٧٨٩واليت كانت فاحتتها الثورة الفرنسية عام ر يف الغرب،ومع اندالع ثورات التحر مع بداية القرن التاسع عشر،ل يف وقام اتمع الغريب على أساس أفكار وأنظمة جديدة تتمث معامل احلضارة الغربية املعاصرة وتكامل بنياا الفكري، بلورتت

تلك احلضارة تقوم على أساس عقيدة عقلية سياسية تنبثق ومبا أن .اإلقطاعيةالرأمسالية اللربالية بعد أن كانت تسوده األنظمة د تفكريها فقد أحدثت يف الغرب تلك النهضة اليت كانت كافية لتقف يف وجه أمة تبل لحياة واتمع والدولة،نها أنظمة لم

ا العظيمة،" هامش"رت أفكارها وأساءت تطبيق نظامها وعاشت على وحتجة أعين حضارة اإلسالمياألم.

جمتمعه إىل ويستقر ،ته السياسية على أساس قويساوتتكون مؤس ها هو الغرب يف القرن التاسع عشر تزدهر حضارته،ع فيه الدولة ، يف وقت تتصدقنياا وتا وعمرانيويبدع مدني ا،ا وعسكريويقوى اقتصادي حد كبري وميضي مرتقيا حنو النهضة،

ا، وتضعف عسكري قتصادية،وتتفاقم فيها املشاكل واألزمات السياسية واال ،اآلخراإلسالمية وتفقد ثغورها الواحد تلو .ووي بسرعة هائلة لصاحل احلضارة الغربية ،قينف على الصعيد املدين والتوتتخل

Page 154: نشوء الحضارة الإسلامية - الشيخ أحمد القصص

١٥٤

ها عليها على هذا النحو،ق عدومضافا إليها الذهول الذي أصاب األمة اإلسالمية بعدما أيقنت بتفو ،األوضاعكل تلك ة، الغرب حربا من جعلت األرض مفتوحة ليشنة اإلسالمييستخدم فيها سالحا أمضى من أسلحة نوع جديد على األم

.وميداا الثقافة واملعرفة واملناظرات ها حرب حضارية سالحها األفكار ووجهات النظر وأنظمة احلياة،إن .احلروب الصليبيةتنذر منذ البداية بانتصار الغرب على األجواءكانت حتى الفكرية منها، يف احلروب، األهمهو العامل ا كان العامل املعنويومل

وا يفقدون الثقة مبفاهيمهم وأنظمتهم ؤبد هم عليهم،ق عدوفهم وتفواملسلمني بسبب ما ملسوا من ختل ذلك أن .املسلمني ".العصرية احلديثة"أنظمتهات ويفتخر حبضارته وأفكاره وع بارتفاع املعنوييتمت ام ضعيفة أمام عدوما جعل معنوي اإلسالمية،

ة وتركناها؟ فنا؟ هل أخذ الغرب بأسباب القوملاذا ض الغرب؟ ملاذا ختل: وهكذا تزامحت التساؤالت يف أذهان املسلمنيجيوز أن أال! الغرب أخذ مبحاسن إسالمنا لعل! نا فهمنا اإلسالم على حنو خطأهل ميكن أن تكون مفاهيمنا غري صحيحة؟ لعل

ميكن التوفيق بني اإلسالم واحلضارة أال! ادها؟ا روا أسباب النهضة بعد أن كنن الغرب أسباب ضته؟ أمل يأخذ هو مننأخذ م ؟اآلخرينجيوز أن نقتبس بعض األنظمة من الغرب؟ هل حيرم اإلسالم االنتفاع مبا عند أالالغربية؟

ا اإلسالم شتها،وأثناء تلك التساؤالت اليت أربكت أذهان املسلمني وشو ة يهاجمراح الغرب يرشق سهامه الفكري ى ذلك بطبيعة احلال إىل أن تكون احلضارة الغربية يف حال اهلجوم،فأد .وحضارته وأحكامه ومعاجلاته وأنظمته ومنط عيشه

.واألمة اإلسالمية يف حال الدفاع

حتى خلطوا أحكام اإلسالم وأفكاره بأحكام الغرب م،وهكذا اختار املسلمون التوفيق بني احلضارة الغربية واإلسالبالقليل القليل من أفكار احلضارات والثقافات اليت إالاملسلمون روإذا كانت مئات السنني مضت ومل يتأث .وأفكاره وأنظمته

كانت كافية ألن جتعل من خالهلا الغرب حربه احلضارية والفكرية على املسلمني، عشرات من السنني شن فإن وا ا،احتك .ثقافتهم مزجيا عجيبا مقيتا من أفكار اإلسالم وأفكار احلضارة الغربية

حقبة ا،ها حقإن"ا حمور"التواري احلضارية جعلت حضارألم ،"من السنني ،"النظام العاملي مئات.

قطار وأن التاريخ ملا ينته بعد، ليثبت للعامل أن راع،وسيعود بعدها املارد إىل حلبة الص .كبوة -دون أدىن شك-أنها إال .ة احلضارة الغربيةم رحلته عند حمطتتالبشرية مل خي