65
لغائبة حقيقة اَ المة الدكتوركل لشهيد ال فرج فودة مقدمةه ، وتتعشق ما تهواالنفس تأنس لما ما يحبون ، ف يودون أن يسمعوانهمكره الكثيرون ، م هذا حديث سوف ينلحقيقة ، وأسوأ ماوسمت أنه ا أنه الحق ، أو تبينتا أن تستوعب غيره ، حتى لو تب عليهليه ، ويصعقرت ع است يح الرفض معلتجني ، وأسوأ منه موقفلعداء ، أو متوقعة ل ونفسه مسبقة باذا الحديث ، أن يبدأه دث لقارئ هعقل . الستعماللتفكير واصرار ل سبق ازعم أنه قارئ له في أناة ، ميدانه ، لكنه يه ، أو فارس فيص في صاحبه أنه متخص يزعم حديث تاريخ هذا له في صبر موثق له فيل محل يستطيع ، شمالبه ذات اليمين وذات الوى أنه يقل منطق ، يه دقة ، ناقد له فيريخ واسم ،ن لهم تا ذلك مهمال ، وما أكثر ما فعل منها باً ضافة أو منتقصالحقيقة با اً وزا أن يمد خياله متجا يراعونلقارئ ، ويث يستريح ا ح يجدون راحتهم إ ، وفكر ، ومنهج وبحث وقلمون ذلك حرمة وهم يفعلنقل . أو حتى لعقل لتاريخ أو لهزل ، بلترة أو اللمهابة أو الدعا منطلق افة ، ليس منادون بالخ أنهم يتن أغناني عنه ، لو حديث ما كان هذاكرون ، ، ويعلم وين ويعرفونيما يعرفى إلى الخوض فعتقاد ، فسيتدرجون مثلق الجد والجدية وا منطل من وينكرجبها أن تعرف وتتعرف ، وتعلمضر التي من والحال ا حتى من أجل أجيان أجلهم ، وون ، ليس م ويقبلا وإنلغد ، وسوف تعرف لنا قدرن تأتي في اه من أجل أجيال سوف كل ذلكم ، بل قبل وتتعلم ، وتفكر وتتكل ، وسوف تذكر لنا أنناون المدينننا وإن أدا تنصفناكرون وسوف المن أنكرنا نقصر ، وأننا بقدر ماجبن ولم لم نجهنا بقدر وا ، وبقدر ماهم أيام أستقر المجتمع فيلقنا بقدر مادر ما أقام ، وبقم المجتمع لنا بقدر ما دفعنا أفزع حديث دين وإيمان وعقيدة ، وحديث مسلمينة وفكر وليس حديث تاريخ وسياسمستقبل . هذاوا هم إلى ال ما توجهم ، حديث إس ث بعضها يعود إلى إليه عن أحدانتمي القرن العشرين وي ذلك حديث قارئ يعيش وهو قبلثةقع ما قبل ثتمون لوا وينلى من يعيشون عً لحديث صعبا يبدو ا هنا أو يزيد ، ومنً ثة عشر قرنا الوراء ثضر القرن العشرث حايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحدال معا ، ويقيمون من خً عشر قرنالنهايةن ، وهو في ا ي وهوً ه كثيرا أغلقناً ن تعمد ، وقد يفتح باباد يؤرق ع حديث قد يخطئ عن غير قصد ، وقد يصيب عن عمد ، و ق وهي المنطق ،ً كثيراة تجاهلناهال ، وقد يستعمل أدا وهو العقً ه كثيرا أهملناً ريخ ، وقد يحيى عضوالتائق ا حقالنهاية موجز أشد ما يكث في ا وهو حديته ويرى أنهعتني بدته بقدر ما يلحدث . في ذا يهتم با ، يجاز ون اد يلتصق به ، وقً م كثيراسد يقترب من او عهد قمسلمين ، وهم وبدأ عهد السرسول استكمل عهد اة ال بوفاسة ما يود ليس له من القدا والعه ، وهو في كل امحوال وقد ينفر منهً د عنه كثيرا وقد يبتع منً منع مفكرامطالبينل ، وإنما حجة لمسيس حجة على ا وبالتأكيد لً ، وهو أيضا تناول وقائعه منً قتراب منه ، أو محل الوقائعريخ حجة ، ومن التايس أبلغ من اواجهتهم ، ول أو في م أيديهمح فيم أو حجة عليهم ، وسس بالحكم با ، وليسً ن امحداث دلي ، ومً سنداا إليه من استندنا إليه من مصادر ومالينا ما رجعن ينكروا ع من البداية أن لهم

فرج فودة الحقيقة_العائبة

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: فرج فودة الحقيقة_العائبة

الحقيقة الغائبة

لشهيد الكلمة الدكتور فرج فودة

مقدمة

هذا حديث سوف ينكره الكثيرون ، ألنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون ، فالنفس تأنس لما تهواه ، وتتعشق ما استقرت عليه ، ويصعب عليها أن تستوعب غيره ، حتى لو تبينت أنه الحق ، أو توسمت أنه الحقيقة ، وأسوأ ما

دث لقارئ هذا الحديث ، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء ، أو متوقعة للتجني ، وأسوأ منه موقف الرفض مع يح سبق اإلصرار للتفكير واستعمال العقل .

هذا حديث تاريخ ال يزعم صاحبه أنه متخصص فيه ، أو فارس في ميدانه ، لكنه يزعم أنه قارئ له في أناة ، دقة ، ناقد له في منطق ، يهوى أنه يقلبه ذات اليمين وذات الشمال ، ال يستطيع محلل له في صبر موثق له في

أن يمد خياله متجاوزا الحقيقة باإلضافة أو منتقصا منها باإلهمال ، وما أكثر ما فعل ذلك من لهم تاريخ واسم ، وهم يفعلون ذلك حرمة وقلم وفكر ، ومنهج وبحث ، ال يجدون راحتهم إال حيث يستريح القارئ ، وال يراعون

لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل .

هذا حديث ما كان أغناني عنه ، لوال أنهم يتنادون بالخالفة ، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل ، بل من منطلق الجد والجدية واالعتقاد ، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون ، ويعلم وينكرون ،

ويقبلون ، ليس من أجلهم ، وال حتى من أجل أجيال الحاضر التي من واجبها أن تعرف وتتعرف ، وتعلم وينكروتتعلم ، وتفكر وتتكلم ، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتي في الغد ، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن

لم نجبن ولم نقصر ، وأننا بقدر ما أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون ، وسوف تذكر لنا أننا أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع لألمام ، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما أستقر المجتمع في أيامهم ، وبقدر ما واجهنا بقدر

ما توجهوا هم إلى المستقبل . هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة ، وحديث مسلمين وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين وينتمي إليه عن أحداث بعضها يعود إلى ال حديث إسالم ،

الوراء ثالثة عشر قرنا أو يزيد ، ومن هنا يبدو الحديث صعبا على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثالثة ين ، وهو في النهاية عشر قرنا ، ويقيمون من خالل معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن العشر

حديث قد يخطئ عن غير قصد ، وقد يصيب عن عمد ، و قد يؤرق عن تعمد ، وقد يفتح بابا أغلقناه كثيرا وهو حقائق التاريخ ، وقد يحيى عضوا أهملناه كثيرا وهو العقل ، وقد يستعمل أداة تجاهلناها كثيرا وهي المنطق ،

ون اإليجاز ، ال يهتم بالحدث . في ذاته بقدر ما يعتني بدالالته ويرى أنه وهو حديث في النهاية موجز أشد ما يكبوفاة الرسول استكمل عهد اإلسالم وبدأ عهد المسلمين ، وهو عهد قد يقترب من اإلسالم كثيرا وقد يلتصق به ،

منع مفكرا من وقد يبتعد عنه كثيرا وقد ينفر منه ، وهو في كل األحوال والعهود ليس له من القداسة ما ياالقتراب منه ، أو محلال من تناول وقائعه ، وهو أيضا وبالتأكيد ليس حجة على اإلسالم ، وإنما حجة للمطالبين بالحكم باإلسالم أو حجة عليهم ، وسالح في أيديهم أو في مواجهتهم ، وليس أبلغ من التاريخ حجة ، ومن الوقائع

لهم من البداية أن ينكروا علينا ما رجعنا إليه من مصادر وما استندنا إليه من سندا ، ومن األحداث دليال ، وليس

Page 2: فرج فودة الحقيقة_العائبة

مراجع ، فهي ذات المراجع التي يحتجون بها على ما يرون أنه في صالحهم ، ومع دعواهم ، ولو أهملنا معا تاباتهم دليل ، ولما هذه المراجع ، لما بقي من تاريخ اإلسالم شئ ، ولما بقيت في أيديهم حجة ، ولما استقر في ك

وجدوا لمنطقهم سندا أو أصال أو توثيقا .

د . فرج فودة

هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحا كل الوضوح ، صريحا كل الصراحة ، زاعما أن الوضوح والصراحة ها رافد في الموضوع الذي أناقشه استثناء ، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة ، منها رافد الخوف ، ومن

المزايدة ، ومنها رافد التحسب لكل احتمال ، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير ، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون ، والتي تدعو إلى ) سد ( كل باب يأتيك منه الريح ، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير ، وارتطمت

وواجهتك قلوب عليها -هل يصدر هذا من مسلم ؟ –بأذنك اتهامات ، أهونها أنك مشكك ، وأسئلة أيسرها أقفالها ، وعقول استراحت الجتهاد السلف ، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث ، وأن

القذف باالتهام أيسر من إجهاد الذهن باالجتهاد ..

وروه لك على أنه أمر عقيدة هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهرة حديث دين ، وأمر سياسة وحكم و إن صوإيمان ، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء ، ويصدقها األنقياء ، ويعتنقها األتقياء ، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع )وهم األذكياء( ، ومن يعلنون بال مواربة أنهم أمراء ، ويستهدفون الحكم ال اآلخرة ، والسلطة ال

، ويتعسفون في تفسير كالم هللا عن غرض في النفوس ويتأولون األحاديث على هواهم ال الدين الجنة ، والدنيالمرض في القلوب ، ويهيمون في كل واد ، إن كان تكفيرا فأهال ، وإن كان تدميرا فسهال ، وال يثنيهم عن

ون معبرهم فوق سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان ، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين ، أو أن يك أشالء صادقي اإليمان .

لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه ، وما أكثر ما ألح ، بل ما أصرح ما ألح ، حين ارتفعت وال تزال ترتفع ، في االنتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات

. دي ، اإلسالم هو الحل ، إسالمية إسالمية (مضمونها ) يا دولة اإلسالم عو

وهي رايات ال تدري أهي دين أم سياسة ، لكنك تجد مخرجا في تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة ، وأن تلك األقوال تعبير عاطفي عن شعارات اإلخوان المسلمين القديمة ، بأن اإلسالم دين ودولة ،

. الخمصحف وسيف . . .

وقبل أن تسألني ) وهل تنكر ذلك ( يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر ، كل منهما تقبل االجتهاد ، بل وقبل ذلك كله ، تقتضي اإلجهاد ، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثا عن حقيقة غائبة .

إن المجتمع المصري ، وال أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى ، فأنها تتمثل في أما وجهة النظر األولى . مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين

وبين مقولة تجهيل المجتمع ، ومقولة االبتعاد عن صحيح الدين ، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف ألصحاب يق المقولة األولى ، واالعتدال للقائلين بالثانية ، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبالفوري للشريعة اإلسالمية ، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خالفهم حول رأيهم في

Page 3: فرج فودة الحقيقة_العائبة

المجتمع الحالي ، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة ، مؤكدين أن هذا التطبيق ) الفوري ( سوف يتبعه صالح ) فوري ( للمجتمع ، وحل ) فوري ( لمشاكله .

أما وجهة النظر الثانية ، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤال هذا عن وجهة النظر األولى ،مضمونه ) وهل هناك وجهة نظر ثانية ( ، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصورا بأن وجهة النظر الثانية البد

مع وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر األولى ، وأنها تصبح واألمر كذلك مصطدمة أو متصادمة . دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة

لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية ، ال تناقض اإلسالم بل تتصالح معه ، وال تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته ، وال تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم اإلسالم النبيلة والعظيمة ..

مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي : تستند إلى إن وجهة النظر الثانية

إن المجتمع المصري ليس مجتمعا جاهليا ، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح اإلسالم إن لم يكن أوال :أقربها ، حقيقة ال مظهرا ، وعقيدة ال تمسكا بالشكليات، بل أن التمسك األصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن

يمثل ملمحا . مصريا

يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور األديان السماوية ، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول اإلسالم مصر ، بقدر ما يصدق أيضا بدرجة أوضح من

ك كثيرة ، بدءا من تردد المصريين على كل ما سبق على موقف المصريين من اإلسالم ، والشواهد على ذلالمساجد وحماسهم ، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بالد العالم اإلسالمي كله ، واحتفائهم باألعياد الدينية ، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي ال يمكن تبرير الشغف به ، واالحتفاء بحلوله ،

إال بأصالة وعمق الشعور الديني ، وانتهاء بما ساهمت مصر في مجال العقيدة واالجتهاد ، والحسرة على انتهائه بدءا بالليث بن سعد ، وفقه الشافعي في مصر ، وانتهاء باألزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر اإلسالمي .

غاية ال ينكرها أحد من دعاة التطبيق إن تطبيق الشريعة اإلسالمية ليس هدفا في حد ذاته ، بل إنه وسيلة ل ثانيا :وأقصد بها إقامة الدولة اإلسالمية ، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش ، ودعاة تطبيق الشريعة اإلسالمية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار أن اإلسالم دين ودولة ، والشريعة اإلسالمية في مفهومهم تمثل حلقة الربط بين

م اإلسالم الدولة ، ليس ربطا بين مفهومين مختلفين ، بل تأكيدا على أنهما وجهان مفهوم اإلسالم الدين ومفهو وهي صحيح اإلسالم . –في رأيهم –لعملة واحدة

هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة ، هي ساحته الحقيقة ، وهي ساحة السياسة ، وهنا يطفو على سطح النقاش اموا قد رفعوا شعار الدولة اإلسالمية وانتشر أنصارهم بين األحزاب سؤال بسيط وبديهي ، ومضمونه أنهم ما د

برنامجا سياسيا للحكم ، –نحن الرعية –السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها اإلسالم ، فلماذا ال يقدمون إلينا هاء باإلسكان ، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه ، سياسته واقتصاده ، مشاكله بدءا من التعليم وانت

وحلول هذه المشاكل من منظور إسالمي .

أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية ، وهو ما نظن ، أو بسوء نية ، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى ال يتركوا ألحد مجاال لنقد أو رفض .

Page 4: فرج فودة الحقيقة_العائبة

تناقض فيه ، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معا أمرا مقبوال ، وهنا يصبح هنا يبدو األمر منطقيا الرفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضا له من الوجاهة حظ كبير ، وله من المنطق سند قوي ، بل

ع الكل بحال بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة اإلسالمية جزءا من كل ، وهي جزء ال يتناقض ميتناسق معه ، ففي مجتمع الكفاية والعدل ، حيث يجد الخائف مأمنا ، والجائع طعاما ، والمشرد سكنا ، واإلنسان كرامة ، والمفكر حرية ، والذمي حقا كامال للمواطنة ، يصعب االعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة ، أو

ءمة ، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة ، أو تشبها بعمر في تعطيله المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة الموا لحد السرقة في عام المجاعة ، أو لجوءا للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول .

فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه ، يحب أال تفوت على المشتغلين بالعمل –أيها القارئ –لعلك متفق معي ي الديني ، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى االعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك ، بل ربما اعتقدت السياس

عن تفاؤل بأنه أمر سهو ، وأن السهو إلى زوال ، لكني ال أشاركك تفاؤلك ، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة لعقم ، وخوف االختالف ، بل إن شئت الدقة ويعانون منه ، وأقصد به عقم االجتهاد ، بل إن شئت الدقة اجتهاد ا

خلف الخوف ، وطمع االستسهال ، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع ، وعجز القدرة ، بل إن شئت الدقة قدرة العجز .

ليس فيما أقوله بالغة باللفظ ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات األمثلة على صدقها ، ودونك أيها القارئ دث في قوانين األحوال الشخصية ، والتي شهدنا ثالثة منها في عشر سنوات ، أثار األول منها ثائرة العزيز ما ح

المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل ، فكان الثالث الذي ال الشخصية جانب هين من جوانب أي األحو هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين ، على الرغم من أن قانون

برنامج سياسي ، بل أنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة اإلسالمية ، ألنه ال خالف عليها أو حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال ، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر وضوحا من أي وجه

. آخر

هة العلماء لعالم جديد ، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق ، وأصبح لكن المشكلة أتت من مواجعمل المرأة على سبيل المثال واقعا ال منـة أو منحة ، وحقا مكتسبا ال سبيل إلى مناقشته ، وطرحت المتغيرات

فعي أو ابن حنبل ، فأزمة الجديدة في المجتمع من الظروف ما ال سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيفة أو الشااإلسكان قائمة ، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء األربعة حين ناقشوا هذه القضية ، من حكم الشقة المستأجرة أو ) التمليك ( ، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص ) و هو االختالف بينهم ( ، وفي بيص ) وهو الخالف

. ة في المجتمع من ناحية أخرى (بينهم من ناحية وبين قطاعات كبير

وجد العلماء ضالتهم في االنتقال من مالك إلى أبي –أقصد القوانين الثالثة –وفي كل حال من األحوال الثالث حنيفة ، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظا من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية ، وهم في كل

ن الثاني الهجري قيد أنملة ، أو إن شئنا الدقة قيد عام . األحوال لم يتجاوزا القر

ماذا سيكون الحال إذا تطرق األمر إلى مجال االقتصاد ، وشغل دعاة الدولة اإلسالمية أنفسهم بقضية زيادة اإلنتاج في المجتمع ، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثالثين إلى خمسين مليار جنية ،

يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام . والمدخرات في صورة ودائع ، والودائع تستحق فوائد ، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري ، والتي لم تعاصر قطاعا عاما أو بنوكا أدخلت العائد الثابت

ولة اإلسالمية هو الركون إلى اجتهادات هؤالء للمدخرات في دائرة الربا ، وآخر ما و صل إليه الداعون للد الفقهاء ، وكأنها تنزيل من التنزيل ، ماذا سيكون الحال ؟ ..

Page 5: فرج فودة الحقيقة_العائبة

مأزق إن تجمدوا ، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا ، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع ، فالتصوير أهون من سهل ، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر ، وتجهيل التطوير ، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة اإليمان أ

المجتمع ومؤسساته أضمن ، والنحو بالالئمة على الزمان أسهل السبل ، والترحم على الشاعر العربي وارد حين قال ) نعيب زماننا والعيب فينا ( ، هذا عن هين األمور ، وأقصد به التفصيالت ، أما أصعبها وأقصد به األمور

، والمنظمة ألسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العالقة بين السلطات فإن تناول أي منها هو المحك العامة الحقيقي لدعوة ) الدولة الدينية ( بعيدا عن سجع األلفاظ وشقشقات البالغة .

جم ضخم وأنت في طرحك لألسئلة وبحثك عن اإلجابات تكتشف أنك في سباق للموانع ، ومباراة الستعراض حمن الخالفات التي لم تحسم ، ولم يمنع عدم حسمها ، نتيجة غياب االجتهاد المستنير ، أن يدعوك البعض إلى

خوض التجربة ، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثارا لراحة البال ) بالهم هم ( ، وتجنبا للخالف ) خالفهم جابة أفتوا بأنك ال تملك أدوات البحث في القضايا الدينية هم ( ، وهم في كل األحوال في مأمن ، إن أعجزتهم اإل

. ، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل لإلمبريالية ، أو متأثر بالشيوعية ، أو ناطق بلسانهما معا

وحتى ال تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضا من تلك الموانع التي أشرت إليها ، بالحاكم ، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه ، وقد تتصور أن ولنبدأ

الشروط سهلة ، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلما عاقال رشيدا إلى آخر هذه األوصاف العامة ، لكنك ، وقد تتعجب من أن ينادي تصطدم بشرط غريب ، تذكره كثير من كتب الفقه ، وهو أن يكون ) قرشيا (

البعض بهذا الشرط باسم اإلسالم ، الذي يتساوى الناس أمامه ) كأسنان المشط ( ، والذي ال يعطي فضال لعربي . على عجمي إال بالتقوى

يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب ، وإن كان صحيحا ،ن أو العباسيين ، وكلهم قرشي ، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الخلفاء األمويي

الملك فاروق في أول عهده ، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح ، وظهر في ( إلى المناداة به الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه ، وتسارع بعض رجال الدين ) الطموحين

ملكا ) وإماما ( للمسلمين ، واجتهد األذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول ، وتبارى اإلعالم في اإلعالن عن هذا . ، تحقيقا لشرط من شروط اإلمامة ، وسدا للذرائع على المعترضين النسب وتأكيده

مسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام ، ولعلك مثلي تماما ال تستريح لهذا الشرط ، الذي يصنف الوأصحاب دم أحمر ينتظم األغلبية ، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن اإلمامة من قريش ، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات األحاديث التي وضعها الوضاعون ، والتي و صلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين

فتهم بالسنة واليوم ، وهي كلها أحاديث وضعها من ال دين لهم هوى الحكام ، وال ضمير لهم وتحديد موعد خالوال عقيدة ، لكنك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة ، خاصة من الذين قصروا دراستهم لألحاديث

ه مع النص القرآني ( . النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن ) أي المعنى والمضمون ومدى توافق

وال تجد مهربا إال بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة ، والذي اجتمع فيه األنصار النتخاب سعد بن عبادة ، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر ، ودار حوار طويل بين الطرفين ،

ستعراضك للحوار ، ال تجد ذكرا للحديث النبوي السابق ، وهو إن كان حديثا انتهى بمبايعة أبي بكر ، وأنت في اصحيحا لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه ، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة

ظل المناظرة ، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سالح ماض يحسم النقاش ، ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادةرافضا لبيعة أبي بكر إلى أن مات ، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في اإلسالم ، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد ، فقد انبرى أصحاب

لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق " وداوها الرأي اآلخر ، والذين يؤمنون بحق االكفأ في الحكم دون اعتبار

Page 6: فرج فودة الحقيقة_العائبة

بالتي كانت هي الداء " ، مضمونها أنه ال مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود ) كأن رأسه زبيبة ( فأعادوا للمنطق توازنه ، وأعطوا لكثير من الطوائف اإلسالمية التي نشأت فيما بعد سندا لرأيهم المعارض

وإن كانت نتيجة ذلك كله ، وضع المانع األول في مسيرة الدولة اإلسالمية ، وهو الخالف لخالفة العباسيين ، الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشيا أم أنه االكفأ بغض النظر عن نسبه ، وال عبرة هنا

أتصور أنا وأنت بالمنطق أو بواقع الحال ، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين ، في قضية أنها هينة سهلة ، ال تستحق عناء وال تقتضي طول بحث ، وال تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعا ضخما يدور حوله الجدل إلى اليوم وال يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن

لم يعرض لها من قريب أو بعيد وإال لما حدث الخالف والشقاق القرآن لم يترك قاعدة في هذا األمر ، والرسولفي اجتماع السقيفة ، ولما رفض على قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختالف في الرواية بين رفضه المبايعة أياما في أضعف الروايات ، وشهورا حتى موت فاطمة في أغلبها ، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو األصح ، التبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم ، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه ، وهو أيضا مرة أخرى ما خالفه عمر

وطلحة والزبير وابن عوف وسعد ، وهو ما المعروفين ، وهم على وعثمان في قصر االختيار بين الستة اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض األمصار ، ومعاوية بحد السيف ، ويزيد بالوراثة .

أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة الختيار الحاكم ، يرفض المتزمتون تجاوزها ، ويختلفون في تفضيل أحدها الوحيدة أنه ال قاعدة ، وأن اإلسالم السمح العادل ، ال يرفض أسلوب على اآلخر ، ويرى المتفتحون أن داللتها

االختيار باالنتخاب المباشر أو غير المباشر ، وهو ما ال أظن أنه كان يوما ، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول . عام من أنصار الدولة الدينية

ية المعاصرة في عالمنا الحديث ، فهناك بيعة أهل ولعلي ال أتحدث من فراغ ، بل أصدر عن واقع النظم اإلسالمالحل والعقد ) المختارون ( في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد األسرة المالكة ، وهناك المبايعة على

كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقا من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر ، في السودان في عهد ناك والية الفقيه في إيران ، وهناك اعتبار الموافقة في اإلستفتاء على الشريعة اإلسالمية موافقة النميري، وه

ضمنية على الحاكم واختيارا له في الباكستان ، وهناك في كل األحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق ، وهو أن رة في ذلك بأن البيعة على أساس االلتزام مدة تولية الحاكم في كل األحوال السابقة مستمرة مدى حياته ، وال عب

بكتاب هللا وسنة رسوله ، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك ، فما أكثر ما خالف ، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديما كان أو حديثا ، وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون ، سواء في تطرف الحاكم في

أو تطرف الرعية في الخنوع إلرادته والخضوع لبطشه ، ولعل القارئ يالحظ أنني خروجه على صحيح العقيدةقد تشددت في العبارات األخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية ردا منطقيا بأن الشورى مانعة لبطش

ديد هو الخالف حول الحاكم ، حافظة لحق الرعية ، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جكنه الشورى ، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي األقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأي األغلبية التي تفرق بين

كون الحاكم ملزما بأن يستشير ، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم .

من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف ، وأن لقد أدرك بعض المخلصينالديموقراطية بمعناها الحديث ، وهو حكم الشعب بالشعب ال تتناقض مع جوهر اإلسالم وأن اجتهادات المؤمنين

كن أن تصطدم بجوهر بالديموقراطية ، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي ، واالنتخابات المباشرة ، ال يمالعدل في الدين اإلسالمي ، وروح الحرية التي تشمل ويشملها ، ومن أمثالهم األستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي ، لكنهم واجهوا تيارا كاسحا من الرفض لما أماله عليهم اتساع أفقهم ، وفهمهم

التيارات الثورية والتقليدية في نقد اآلراء وتفنيدها ، ال فرق في هذا بين لجوهر العقيدة األصيل ، وانبرى زعماءواألستاذ عمر عبد الرحمن وهو في معتدل أو متطرف ، ودونك ما نشر على لسان األستاذ عمر التلمساني

Page 7: فرج فودة الحقيقة_العائبة

، لكنهم مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم هلل ، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضا يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن األغلبية قد تقر تشريعا يعارض شريعة هللا ، وأن التسليم بحق

. المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس ، وهو كونه جل شأنه المشرع األكبر والوحيد

لشخصي ، وهكذا أيها القارئ ال تنتهي عقبة أو قد تعطل النص الشرعي بالرأي ا –أي الديموقراطية –وأنها مانع إال وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد ، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون ، ألنها تفتح

أمامهم بابا واسعا للرأي ولالجتهاد دون خروج على صحيح الدين ، ودون تصادم مع روح العصر ، لكنها في زع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع ، وتضعهم بين شقي الرحى ، إن دارت يمينا الجانب اآلخر تف

طحنت برفض العقل ، وإن سكنت أبقتهم حيث هم ، يهربون من طحنت برفض العصر ، وإن دارت شماال وحدها ال األصل إلى الفرع ، ويخفون منطقا أواجههم به ، بل إن شئت الدقة أتحداهم به ، وهو أن الشريعة

تستقيم وجودا أو تطبيقا إال في مجتمع إسالمي أو بمعنى أدق دولة دينية إسالمية ، وأن هذه الدولة والجزئيات ، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به ، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا ،

التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسالمية ، نتخبط فيها ذات اليمين داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة اإلسالمية ،وذات اليسار ، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير ، وليحدث لنا ما يحدث ، وليحدث لإلسالم ما يحدث ، وما

العصر ، وأن علينا إال أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيالء ، إن أعجزهم االجتهاد المالئم للعصر رفضوا أعجزهم حكم مصر هدموا مصر .

إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفوري ثالثا :للشريعة ، وهي قولهم بأن التطبيق ) الفوري ( للشريعة ، سوف يتبعه صالح ) فوري ( لمشاكله ، وسوف أثبت

ع أو حل مشاكله ليس رهنا بالحاكم المسلم الصالح ، وليس أيضا رهنا بتمسك المسلمين لك أن صالح المجتمجميعا بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها ، وليس أيضا رهنا بتطبيق الشريعة اإلسالمية نصا وروحا ، بل هو

ئع التاريخ ، وليس رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها ، دليلي في ذلك المنطق وحجتي في ذلك وقاكالمنطق دليل ، وليس كالتاريخ حجة ، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور اإلسالم عقيدة وإيمانا ،

وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين .

أنت أمام ثالثين عاما هجريا ) بالتحديد تسعة وعشرون عاما وخمسة أشهر ( هي كل عمر الخالفة الراشدة ، فة أبي بكر ) سنتين وثالثة أشهر وثمانية أيام ( ثم خالفة عمر ) عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر بدأت بخال

يوما ( ثم خالفة عثمان ) إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وتسعة عشر يوما ( ثم خالفة علي ) أربع سنين . وسبعة أشهر (

قد انصرفت خالل العامين والثالثة أشهر إلى الحرب وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خالفة أبي بكر بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية ، وأن خالفة علي قد انصرفت خالل األربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى ، بدءا من عائشة

في موقعة الجمل ، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومرورا بعشرات الحروب مع وطلحة والزبير الخوارج عليه من جيشه ، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء

. قواعدها

شرة أشهر ، ويبقى أضف إلى ذلك قصر عهد الخالفتين ، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعأمامك عهد عمر وعهد عثمان ، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على اإلسالم الدولة في أزهى عصور اإلسالم إسالما ، وأحد العهدين عشر سنين ونصف ) عهد عمر ( ، والثاني حوالي أثنى عشر عاما ) عهد عثمان ( ،

Page 8: فرج فودة الحقيقة_العائبة

م الدولة كما يجب أن تكون ، فعمر وعثمان من أقرب وهي فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجا لإلسالالصحابة إلى قلب الرسول وفهمه ، واالثنان مبشران بالجنة ، ولألول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة اإلسالم وإعالء شانه ، وهي مواقف ال تشهد بها كتب التاريخ فقط ، بل يشهد بها القرآن نفسه ، حين

ييدا لرأيه ، وهو شرف ال يدانيه شرف ، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير تنزلت بعض آياته تأ . وجود ، ويكفيه فخرا أنه زوج ابنتي الرسول ، هذا عن الحاكم في كل من العهدين

أما عن المحكومين ، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته ال تحدث واقعة إال تمثل أمامهم للرسول فيها موقف حديث وال يمرون بمكان إال وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه وال تغمض أعينهم أمام المنبر إال أو

وتمثلوا الرسول عليه قائما وال يتراصون للصالة خلف الخليفة إال وتذكروا الرسول أمامهم إماما ، وهم في ن هناك سبب للتنزيل ، وباختصار يعيشون في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت اآلية ، وأين ، ولماذا إن كا

ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب ، هذا عن المحكومين ، وال يبقى إال الشريعة اإلسالمية وهي ما ال . يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين

م ما يلزم في ضوء ما بل أنك ال تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك ، كان أزهى عصور تطبيقها ألنها لزوسبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم ، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئا وعهد عثمان شيئا آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها ، فسعد المسلمون به ، وصلح حال الدولة على يديه ، وترك لمن

نتمثل صالح الحكم وهيبة الحاكم إال إذ استشهدنا به ، بينما قاد عثمان يليه منهجا ال يختلف أحد حوله ، وال المسلمين إلى االختالف عليه ، ودفع أهل الحل والعقد إلى اإلجماع على الخالص منه ، إما عزال في رأي أهل

لى خطف الحجى ، أو قتال في رأي أهل الضراب ، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع البعض إالسيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر ، أو التصغير من شأنه بمناداته ) يا نعثل ( نسبة إلى

مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثال وكان عظيم اللحية كعثمان ، أو االعتراض عليه من كبار الصحابة بما ووصل األمر إلى الدعوة الصريحة لقتله ، حيث يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة ،

كلها أمور ال تترك لك مجاال للشك فيما وصل إليه يروي عن عائشة قولها : اقتلوا نعثال لعن هللا نعثال ، وهي أمر الخليفة قبل رعيته ، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة .

إال أن عمر قد قـتل على يد غالم من أصل مجوسي ، وترك وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين ،قتله غصة في نفوس المسلمين ، وأثار في نفوسهم جميعا الروع والهلع لفقد عظيم األمة ، ورجلها الذي ال يعوض ، بينما على العكس من ذلك تماما ، ما حدث لعثمان عند مقتله ، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين

ن لمنزله وبإجماع منهم ، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم ، وانتهت المحاصريعداوتهم له بموته ، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو الحق ، وإن كانت لها داللة

: ال تخفى على أريب

: 934لجزء الثالث ص ا فالطبري يذكر في كتابه تاريخ األمم والملوك

) لبث عثمان بعدما قتل ليلتين ال يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة " حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن الصالة عليه فيهم أسلم بن وأبو جهم بن حذيفة " فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من األنصار يمنعوهم مكرم

منعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى هللا عليه أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني و) مقابر اليهود ( فلما ملكت ومالئكته فقالوا ال وهللا ال يدفن في مقابر المسلمين أبدا فدفنوه في حش كوكب

أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع ( بنى

Page 9: فرج فودة الحقيقة_العائبة

باب فنزا عليه فكسر ضلعا من أضالعه ( ، وفي رواية ثانية ) أقبل عمير بن ضابئ ، وعثمان موضوع علىوفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه

في حش كوكب .

سلمون هذا خليفة المسلمين الثالث ، يقتله المسلمون ، ال يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه في الثالثة ، يرفض المالصالة عليه ، بقسم البعض أال يدفن في مقابر المسلمين أبدا ، يحصب جثمانه بالحجارة ، يعتدي مسلم على

جثمانه فيكسر ضلعا من أضالعه ، ثم يدفن في النهاية في مقابر اليهود .

ي تاريخه في أي غضب هذا الذي يالحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى ، وينتقم منه وهو جثة هامدة ، وال يراعالسبق في اإلسالم والذود عنه ، وال عمره الذي بلغ السادسة و الثمانين ، ويتجاهل كونه مبشرا بالجنة وزوجا البنتي الرسول ، ويرفض حتى الصالة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو أعصاهم . هو

جد أبلغ منه تعبيرا عن رأي المسلمين في حاكمهم ، غضب ال شك عظيم ، وخطب ال ريب جليل ، وحادث ال توأمر ال يؤثر في اإلسالم من قريب أو بعيد ، فعثمان رضي هللا عنه ليس ركنا من أركان اإلسالم ، وإنما هو

بشر يخطئ ويصيب ، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره من المسلمين ، لكنك ال تملك ل معي وأن تجيب . إال أن تتساء

* ألم يكن عثمان وقت اختياره واحدا من خيار المسلمين ، مبشرا بالجنة وأحد ستة هم أهل الحل والعقد ، وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخالفة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلي ؟

واإلجابة ) بلــــى (

سكهم بالعقيدة ، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها األول وهو القرآن * ألم يكن المسلمون في أعلى درجات تم ومصدرها الثاني وهو السنة ، بل كان أغلبهم أصحابا للرسول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث ؟

واإلجابة ) بلــــى (

* ألم تكن الشريعة اإلسالمية مطبقة في عهد عثمان رضي هللا عنه ؟

ـــى (واإلجابة ) بلـ

هل ترتب على ما سبق ) حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسالمية مطبقة ( أن صلح حال الرعية ؟ ، و * حسن حال الحكم ؟ وتحقق العدل ؟ وساد األمن و األمان ؟

واإلجابة ) ال ( .

Page 10: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أن تجيب معنا على وهنا نصل سويا إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معا عسى أن تحل لنا معضلة التفسير و السؤال الحائر و موجزه لفظ ) لماذا ( .

النتيجة األولى :

أن العدل ال يتحقق بصالح الحاكم ، وال يسود ال بصالح الرعية ، وال يتأتى بتطبيق الشريعة ، وإنما يتحقق ، وتمنعه إن تجاوز بوجود ما يمكن أن نسميه ) نظام حكم ( ، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ

، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها ، وقد تكون هذه الضوابط داخلية ، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه ، كما حدث في عهد عمر ، وهذا نادر الحدوث ، لكن ذلك ليس قاعدة وال يجوز الركون إليه ،

. واألصح أن تكون مقننة ومنظمة

المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحيانا بخروجه عل صحيح جوهر اإلسالم ، فلم فقد واجه قادة يغير من سياسته شيئا ، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة ، ومن قواعد لتسيير أمور الدولة فلم

قاعدة ما في األمر لم تكن موجودة ، يجدوا قاعدة ، وأشتد عليهم األمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل ، وألنفقد أجابهم بقوله الشهير وهللا ال أنزع ثوبا سربلنيه هللا ) أي ألبسنيه هللا ( ، وحين اقترب األمر من نهايته ،

مالقاة حتفه على يد رعيته ، أرسلوا إليه عرضا فيه من المنطق الكثير ومن وأصبح قاب قوسين أو أدنى من . تلف عليهالصواب ما ال يخ

: فقد خيروه بين ثالث

إما اإلقادة منه ) أي أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ ( ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه ال - خطأ دون عقاب.

. وإما أن يتبرأ من اإلمارة ) أي أن يعتزل الخالفة بإرادته ( -

. يتبرأوا من طاعته ) أي أن يعتزل الخالفة بإرادة الرعية ( وإما أن يرسلوا األجناد وأهل المدينة لكي -

) وهم يخيرونني إحدى ثالث إما يقيدونني بكل فكان رده كما ورد في رسالته األخيرة كما انتسخها بن سهيلرجل أصبته خطأ صوابا غير متروك منه شئ ، وإما أعتزل األمر فيؤمرون آخر غيري وإما يرسلون إلى من

م من األجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذي جعل هللا سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة فقلت لهم أما أطاعهإقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما يريدون نفسي

هللا عز وجل وخالفته وإما قولكم يرسلون وأما أن أتبرأ من اإلمارة فإن يكلبوني أحب إلى من أن أتبرأ من عملإلى األجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتي فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع

والطاعة ولكن أتوها طائعين ( .

كر وعمر هنا يوضح عثمان بصراحة أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء ) أبو ب( أو على األقل ليس لها قاعدة ، وهنا أيضا يعلن بال مواربة أنه مصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية وأن

اعتزاله غير وارد ، وهنا أيضا يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه ، وهل كنت أكرهتكم وص عنها . حين بايعتم ؟ وكأن البيعة أبدية وال مجال لسحبها أو النك

Page 11: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ال قاعدة إذن وال نظام للرقابة ، واألمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر ، وإن لم يعدل ويمسك بالحكم كان عثمان .

لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم اإلسالمي ) من وجهة نظره ( يستند إلى القواعد اآلتية :

خالفة مؤبدة -

اب أو عقاب أن أخطأ . ال مراجعة للحاكم وال حس -

ال يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله ، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة ، تعتبر مبايعة أبدية ال يجوز - ألصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع باالعتزال .

له المسلمون ، لكن السؤال يظل وألن أحدا ال يقر وال يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في اإلسالم ، قت حائرا ، ومضمونه ، هل هناك قاعدة بديلة ؟

أو نظام حكم واضح المعالم في اإلسالم ؟

هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم ، وتضع ميقاتا لتجديد البيعة ، وتحدد ة حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعالنها ، أسلوبا لعزل الحاكم بواسطة الرعية ، وتثبت للرعي

وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه ، وتنظم ممارستهم لهذا الحق ؟

أعتقد أن السؤال كان حائرا وال يزال ، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدين ، وحرص عصرنا على إخفائه ، تجنبا للحرج ، وتالفيا للخالف ، ونأيا بأنفسهم عن االجتهاد المزايدون والمتزيدون في

وهو أمر بالنسبة لهم عسير ، ربما عن قعود ، وربما عن جمود ، وربما عن عجز .

النتيجة الثانية :

ر من تطبيقها إن تطبيق الشريعة اإلسالمية وحده ليس هو جوهر اإلسالم ، فقد طبقت وحدث ما حدث ، وأخطمطبقة ، وأن الحاكم بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح اإلسالم ، فقد رأينا أن الشريعة كانت

كان صالحا ، وإن الرعية كانت مؤمنة ، وحدث ما حدث ، لغياب ما غاب ، وأظنه ال يزال غائبا .

العقابي لإلسالم ، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه عن تطبيق الشريعة اإلسالمية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة ، األمر الذي ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة اإلسالمية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق ، فالبدء يكون

رع ، وبالجوهر وليس بالمظهر ، وبالعدل قبل العقاب ، وباألمن قبل القصاص وباألمان قبل باألصل وليس بالف الخوف ، وبالشبع قبل القطع .

النتيجة الثالثة :

Page 12: فرج فودة الحقيقة_العائبة

إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر ، ال تجد شيئا قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل اجهة السلطة إن انحرفت ، من خالل منظور إسالمي ، ودونك ربطهم بين تطبيق المجتمع ، أو بالنسبة لمو

الشريعة وحل مشاكل المجتمع ، واسألني وأسأل نفسك .

* كيف ترتفع األجور وتنخفض األسعار إذا طبقت الشريعة اإلسالمية ؟

* كيف تحل مشكلة اإلسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة اإلسالمية ؟

* كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة اإلسالمية ؟

* كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة اإلسالمية ؟

يترتب عليها حل هذه مجرد عينات من األسئلة ، على الداعين للتطبيق الفوري ) للشريعة ( والمدعين أنها سوف) فوري ( لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عليها ، وهم إن حالوا اإلجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور هذا

الحوار حوله ، وهو وضع برنامج سياسي متكامل ، بل إن تفرغهم لإلبداع ) النقلى ( من اجتهادات القرن الثاني كل بدال من حلها ، فالنظرة الضيقة إلى مفهوم الربا إن طبقت في عالم الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشا

اليوم ، سوف تقود إلى ارتباك هائل في سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى مالمحه في تجربة البنوك . اإلسالمية ، وربما أدت إلى الخراب بدال من التنمية ، والكساد بديال عن الرواج

مندهشا أو ترفع يدك معترضا دعني أذكر لك أن الشريعة ال تقود إلى ذلك ، بل إنه اجتهاد وقبل أن تفغر فاك القرن الثاني الهجري هو الذي يقود إذا طبق في عالم تغيرت معالمه تغيرت معالمه ، وتبدلت أحواله ، وعرف

ستدانة على الحاجة ، أو أنماطا من التعامل لم يعرفها السلف ، وطرأت فيه من المتغيرات ما ال يقصر االاالدخار على مفهوم إقراض الغير ، وعرف التضخم الذي يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود ، إلى غير ذلك مما ال يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد ، اللهم إال اجتهاد في مناخ غير المناخ ، ولعصر غير العصر .

ار واإلسكان ، هل هناك عالقة بين هذه الظواهر أو المشاكل وبين هذا عن الربا ، فماذا عن األجور واألسعتطبيق الشريعة ، المؤكد أنهال عالقة وال ارتباط ، لكن االرتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج سياسي

قع . ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة في منظومة ال تتناقض مع اإلسالم وال تتصادم مع متغيرات الوا

Page 13: فرج فودة الحقيقة_العائبة

النتيجة الرابعة :

إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة ، وبين النكوص واإلقدام ، وبين المظهرية والجوهر ، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب ، واإلسالم لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم

باكستاني ، ومصر لن يتألق وجهها اإلسالمي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بمجرد أن يلبس شبابنا الزي البغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم اآلخر باسم ) خزعل ( ويرد عليه اآلخر التحية بأحسن منها فيدعوه ) عنبسة

) .

أو تكحيل العينين أو واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديال عن فرشاة األسنان استعمال اليد في الطعام أو االهتمام بالقضايا التافهة مثل نظرية ) حبس الظل ( في شأن التماثيل أو الصور أو إضاعة الوقت في الخالف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى ، وميقات ظهور

، فكل هذه قشور ، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض المهدى المنتظر ، ومكان ظهور المسيخ الدجال . الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته

وهو جوهر ال يتناقض مع التقدم بحال ، وهي حقيقة ال تتوقف أمام هذه األمور الصغيرة ، ولعلي أعترف لك أنا أشهد شبابنا وقد امتأل رأسه بهذه األمور أيها القارئ أنني حزين أشد الحزن ، ومكلوم حقيقة ال مجازا ، و

التافهة ، وأشهد قادته من أصحاب الطموح ، ومدعى إحياء اإلسالم ، وهم يرسخون فيه هذه األسس ، بل ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم ) الوضعية ( أو األعمال ) العلمانية ( والتفرغ للعبادة .

، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين ، وهل هؤالء الذين هل هذا هو وجه اإلسالم الحقيقييسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع ، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية

له في كتاب هللا ، وال وهم ال يتمسكون من الدين إال بالقشور ، وال يعرفون من العقيدة إال مظهرها الذي ال أصلسند له إال التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا ، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيال عن المجتمع

به وهو يدعو للرحمة ، ويستنكر قتل المسلم للمسلم ، ويدعو لطلب العلم ولو في الذي نعيشه ، وليتهم تأسوايعدل في قسمته بين الدين والدنيا ، ويعلن حكمته الخالدة لألجيال الصين ، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة ، و

التالية له ، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم .

هؤالء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرها بكره ، ولفظوه فحق له أن يلفظهم ، وأدانوه بالجاهلية خرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه ألنفسهم ، معاملة فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغالق الذهن ، و

الخارجين على الشريعة والقانون ، ووضعوا أنفسهم في موضع األوصياء على الجميع ، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم ، وهم من قبل ومن بعد ، أساءوا لإلسالم ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه

وا منه ما ينفر القلوب ، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه ، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة ، واتهموه وأظهربالجمود وهو دين التطور ، ووصموه باالنغالق وهو دين التفتح على العلم و العالم ، وعكسوا من أمراضهم

النفسية عليه ما يرفضه كدين ، وما نرفضه كمسلمين .

أسهل من المواجهة ، وهو النكوص ألنه أهون من اإلقدام ، وهي المظهرية ألنها أيسر من هو الهروب ألنهإدراك الجوهر ، وهم في مزايدتهم على المظاهر يغالون في المطالبة بالشريعة ، وهي مطالبة تتسق مع ما

سلف دون اجتهاد درجوا عليه واتسق تفكيرهم معه ، فتطبيق الشريعة في مجتمعنا الحالي ، على ما تركه ال

Page 14: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ومراجعة ، إنما تمثل مظهرا ال غناء فيه ، وظاهرا من األمر ال جوهر له ، ومجرد إطار شكلي ال مضمون داخله ، أما الجوهر واإلطار والمضمون فهو ما أشرت إليه من قواعد تنظم المجتمع على أساس ال تتناقض مع

إطارها العام ، وهو مطلب بالنسبة لهم عسير ، فهم جوهر الدين في شئ ، وال تصطدم مع معطيات العصر في له ، وأن يعيشوه قبل أن يبرمجوه ، وأن يتفاعلوا معه مطالبون أوال أن يروا العصر على حقيقته قبل أن ينظروا

قبل أن يخططوا مستقبله ، وهم في النهاية سحابة صيف ال أشك أنها إلى زوال ، وغيم داكن ال أحسب إال أنه شاع . إلى انق

إن أصحاب وجهة النظر األولى ، وأقصد بهم الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة اإلسالمية ، رابعا :يضمرون عداء ال حد له للديموقراطية ، إما عن قصد نتيجة عدم إيمانهم بها كما أسلفت ، وإما عن حسن نية من

قرارها بعرضها على مجلس الشعب ، دون أن تناقش الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإعلى نطاق شعبي واسع ، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين ألعضاء المجلس ، إن هم رفضوا أو تأنوا أو ترددوا ويتجاوز البعض فيحالون القفز فوق المجلس ، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية ، ومطالبين له

تنفيذ الفوري الناجز . موضع ال –هكذا –بوضعها

وألن األمر كما أوضحت ليس أمر شريعة بل أمر اختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية ، وهو اختيار كما شرحت من قبل ، بين بديل واضح ومطبق وهو الدولة المدنية ، وبديل آخر لم يجهد أصحابه أذهانهم في بلورته

من الصعب واألمر كذلك أن يقضى بشأن هذا األمر في جلسة أو اثنتين ، أو وتوضيحه وهو الدولة الدينية ، فأنه في أسبوع أو اثنين ، بل إنني أتصور سبيال آخر لطرح هذا األمر ومناقشته ، وهو سبيل أرى أنه األوفق ي قبل واألصح ، ليس فقط من وجهة نظري ، بل إنه لزوم ما يلزم بالنسبة ألمر هذا شأنه ، وتلك طبيعته ، ولعل

أن أعرض تصوري في هذا الشأن ، أتسمع رأي المعارضين لقولي جملة وتفصيال ، وكأني بهم يقولون ، ها هو يلتوي بالكلم ، وينكر علينا حقا يرضاه لآلخرين ويطلبه لنفسه ، ويتصور الديموقراطية وفقا على آرائه ونظرائه

عة اإلسالمية هي المصدر الرئيسي للقوانين ، وال يلزم ، وال يلتزم بالدستور الذي أقر أن تكون مبادئ الشرينفسه بإرادة األمة التي أنشأت هذا التعديل ، وتمثلت في استفتاء شعبي أعطى التأييد الكامل له ، وهي كلها آراء

جديرة بالبحث والمناقشة ، وتستحق بالفعل كثيرا من التوقف والتأمل .

ء بجديد ، فأغلب القوانين القائمة مستمدة من مبادئ الشريعة اإلسالمية ، أما عن الدستور فال أحسب أنه قد جامما يجعل منها المصدر الرئيسي للتشريع في مصر ، مع مالحظة أرى أن إبداءها واجب ، وتتلخص في أن

ن الدستور ليس كتابا مقدسا ، وأنه يحق ألي مواطن أن يختلف مع بنوده أو أن يعترض عليها ، وله أيضا أيطالب بتعديلها ، على أن يسلك في هذا السبيل ما نظمه الدستور نفسه من سبل لتعديل مواده أو إلغائها أو

اإلضافة إليها ، بل أن أصحاب وجهة النظر األولى يعترضون على الكثير من نصوص الدستور ، مثل النص هما حزب هللا وحزب الشيطان ، على تعدد األحزاب األمر الذي يختلف عن اعتقادهم في قصرها على حزبين

بل ويتجاوز أغلبهم تلك الجزئية إلى االعتراض على ما يتعلق بنظام الحكم في الدستور جملة وتفصيال .

ما بالهم إذن يلقون الحجة وهي مردودة إليهم ، ويطلقون الرأي وهو مأخوذ عليهم ، ويستندون للدستور وهو غير مقبول منهم ..

تكامهم إلى اإلستفتاء دليال على التأييد الشعبي ورفضهم االعتراف بشرعية جميع االستفتاءات وقريب من ذلك احالتي حدثت منذ اختلفت معهم الثورة وحتى اآلن ، عدا استفتاء واحد صادف هوى في نفوسهم ، ومس من قلوبهم

ودون به عن أوهامهم حينا الشغاف ، وحلق بهم في أحالم وردية وامتشقوه سالحا يخرسون به األلسنة ، ويذ وأحالمهم أحيانا .

Page 15: فرج فودة الحقيقة_العائبة

هو الهوى حين يتسلط ، والغرض حين يستبد ، والمنطق حين يهرب ، والعقل حين تغشاه العاطفة ، والحجة حين يشوبها الضعف والكالم حين يحتوى خبيئا ، معناه ليست لنا عقول .

، وإنما سبيلهم الوحيد كما أتصور ، أن يفعلوا ما فعله ليس الدستور إذن هو السند ، و ليس االستفتاء هو الحجةاآلخرون ، وهو أن يتقدموا إلى الشعب ببرنامجهم السياسي ، وأن يشكلوا حزبهم أو أحزابهم ، فإن حازوا

األغلبية في انتخابات حرة فقد ألزمونا بالحجة الدامغة ، وأخرسونا بالفعل السديد ، و قد اخترت لفظ ) أخرسونا قصد العتقادي أنه سوف يكون واقعا ال مراء فيه ، ففاقد الديموقراطية ال يعطيها ، لكنه إن توصل للحكم ( عن

بإرادة الشعب كان له ما أراد .

هنا قد يحتج القارئ بأن القوانين الحالية ال تتيح لهم تشكيل أحزاب على أساس العقيدة الدينية ، وهو نص قانوني ب السياسية منبرا لكل المصريين مهما اختلفت عقائدهم ، لكني أحسب أن المناخ له وجاهته، لكون األحزا

الرديء قد تجاوز ذلك وأن اإلخوان المسلمين على سبيل المثال يملكون حزبا ، ومكتب إرشاد ، وصحفا جلس ومجالت حزبية وغير حزبية تدافع عنهم وتتبنى آراءهم بل ووصل األمر إلى تواجد ممثلين لهم في الم

النيابي بعد تحالف الوفد واإلخوان المسلمين ، ذلك التحالف الذي يشبهه بعض الظرفاء بزواج المتعة الذي تعترف به بعض طوائف الشيعة وتنكره طوائف السنة .

هم موجودون إذن ، وهم توصلوا بالشرعية إلى تواجد شرعي ، وإنكار تواجدهم إخفاء للرؤوس في الرمال ، لغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما ال يستهان به ، فسوف والسماح لهم و

يلزمون بوضع برامج سياسية ، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسي ، وسوف يكون حوار ساجد عن المزايدة دنيا ال حوار دين وسوف يكون هدفهم كراسي الحكم ال قصور الجنة ، وسوف يحجم أئمة الم

. على مقوالتهم لدخولهم آنذاك في دائرة العمل السياسي الصريح

وسوف تتحول األحزاب السياسية إلى معارضتهم بدال من المزايدة عليهم ، وسوف يختلفون فيما بينهم بأكثر من يتحاورون في اختالفهم مع اآلخرين ، وسوف يواجهون بعضهم البعض بأكثر مما يواجهون اآلخرين ، وسوف

ساحة ليست ساحتهم ، ويتكلمون لغة تصعب عليهم مفرادتها ناهيك عن قواعدها ، وفي كل هذا رحمة من هللا أي رحمة ، ولطف بالوطن أي لطف ، وال حجة هنا للقائلين بأن ذلك سوف يدعو إلى إنشاء أحزاب دينية قبطية ،

بأن ذلك غير وارد ، وإن ورد فال تأثير له ، وغير بعيد وأنه سوف يمزق الوطن طائفيا ، فدرس التاريخ ينبئناعن األذهان حزب أخنوخ فانوس ، الذي تكون وقضى دون أن يزيد عدد أفراده على اآلحاد ، وغير بعيد تجربة الوفد حين استوعب األغلبية الساحقة من أقباط مصر ، الذين تحتويهم دائما راية العلمانية ، وتستهويهم شعاراتها

وهو أمر ما زالت أسبابه قائمة ، وحديث ذلك يطول ، وهو في مجمله حديث يهون من أسباب التخوف وال ، يدعمها ، ويؤكد ما أدعو إليه وال ينفيه .

هذه هي وجهة النظر الثانية أيها القارئ ، أفضت فيها لكثرة ما أفاض أصحاب وجهة النظر األولى في عرض ذلك أنك إلى اختيار ، وأن التفكير الهادئ سوف يقودك إلى قرار ، بل إنني آرائهم وتزيينها ، وأحسب بعد

أحسب أنك توصلت بعد ما سبق إلى مجرد التردد فسوف أحمد هللا ، ولعلك أدركت معي أنهم قد اختاروا رين الطريق السهل ، وأن اتباعهم إلى ما ال تعلم وما ال يعلمون أمر جلل ، وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا اآلخ

بحلم ال غناء فيه ، وأن يفكروا قبل أن يكفروا ، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل ال بالهجرة ، وأن يقتصدوا في دعوى الجاهلية حتى ال تقترن بالجهل ، وأن يعلموا أن اإلسالم أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع

ب ، وأن المستقبل يصنعه القلم ال السواك ، العصر ، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصوالعمل ال االعتزال ، والعقل ال الدروشة ، والمنطق ال الرصاص ، واألهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة

عنهم . وهي أنهم ليسوا وحدهم .. جماعة المسلمين .

Page 16: فرج فودة الحقيقة_العائبة

قراءة جديدة في أوراق الراشدين

، وهو يستعرض معنا ما عرضناه في الفصل األول حول مصرع عثمان للقارئ أن يحزن ومن حقه أن يتعجب ، أما الحزن فأسبابه مفهومة ، وأما التعجب فأبوابه كثيرة ، إن سددت منها بابا وحسبت أنك استرحت ، انفتحت

ن عليك أبواب ، وأثـقلتك هموم ، وحسبك أنك إن أدنت ال تدري من تدين ، فأنت إن أدنت الثائرين ال تملك أتبرئ عثمان ، وأنت إن أدنت عثمان ال تملك أن تبرئ الثائرين ، وأنت إن أدنت الثائرين ال تملك إال أن تتعاطف

معهم في نوازعهم ، وأنت إن أدنت عثمان ال تملك إال أن تتعاطف معه في مصرعه ، ولعلك بحكم العاطفة تصطدم في سبيلك هذا بأقوال كبار الصحابة الدينية أقرب إلى إنصاف عثمان ، وإلى تلمس األعذار له ، لكنك

وأفعالهم ودعوة بعضهم الصريحة إلى حمل السيف والخروج عليه ، فهذا عبد الرحمن بن عوف يقول لعلي: إن شئت أخذت سيفك وأخذ سيفي ، فقد خالف ما أعطاني ثم يقول لبعض في المرض الذي مات فيه : عالجوه قبل

لمرض يؤلب الثائرين حتى ال يجد علي مفرا من أن يفتح بيت المال ، ويوزع وهذا طلحة في ا أن يطغي ملكهمن أمواله عليهم حتى يتفرقوا ، ويقره عثمان على ما فعل ، ولن تمر شهور حتى يقتل عثمان ، وحتى يخرج طلحة نفسه مطالبا بالثأر له في جيش عائشة ، وحتى يصاب بسهم رماه به مروان بن الحكم ، صفى عثمانوساعده األيمن ، وخليفة المسلمين بعد ذلك بثالثين عاما ، ورفيق طلحة في الجيش الثائر من أجل الثأر ،

وساعتها سوف يدرك طلحة أنها النهاية ، فيردد في لحظات الصدق مع النفس ومع هللا ، هذا سهم رماني به هللا صحوة الضمير ، وتيقن الخطأ ، ولم يكن ، اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى ، وهو قول بالغ الداللة على

طلحة في هذا مبتدعا ، وإنما كان مسايرا لفعل أصحابه ، وهم أنفسهم صحابة الرسول ، غاية ما في األمر أنه كان أكثر تطرفا ، فأهلك وهلك ، أما علي والزبير وابن مسعود وعمار وغيرهم ، فقد تراوحوا في معارضتهم

نتهوا ما انتهى إليه طلحة ، حين هلك بعضهم معه ، وتأخر البعض إلى حين . بين العنف واللين ، وا

حدث ما حدث ، وقتل المسلمون بسيوف المسلمين ، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة ، وبقيت دالالت الحوداث أن يحدث ، تؤرق أذهاننا حتى اليوم ، واختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمن أحد أن يناقش ، ناهيك عن

وهو ) شرعة قتال أهل القبلة ( ، أي مشروعية قتال المسلمين للمسلمين ، ويحلو للبعض أن ينسب نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد علي ، لكنا نعود بها إلى عهد أبي بكر ، حين نتوقف أمام حروب الردة متأملين مفرقين

للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت المال ، ولنا في التفرقة بين قتال أبي بكر للمرتدين عن اإلسالم ، وبين قتالهبين الفريقين منطق بسيط ، يسلم بارتداد الفريق األول ، ويتحرز في وصف الفريق الثاني بالردة ، فقد كانوا

ت المال ينطقون بالشهادتين ، ويؤدون جميعا دون إنكار ، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج وليس للخليفة أو لبي، وكانت حجتهم في ذلك اآلية الكريمة ) خذ من أموالهم ( ، منصرفة إلى الرسول ، موجهة إليه ، وال يجوز أن تنصرف لغيره ، ألنها لم توجه إلى غيره ، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول ، ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق ،

ي بكر ، وهو يسائله عن حجته في قتل من ينطق وربما نتعاطف ، نستحضر في أذهاننا موقف عمر من أببالشهادتين ، فيجيبه أبو بكر بما يعنى أن للشهادة ) حقها ( ، يقصد بهذا الحق أداء الزكاة لبيت المال ، وهو

اجتهاد مجهد وجهيد ، ولعل عمر كان يستحضر في ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث الرسول عن أن المسلم ال إن زنى بعد إحصان ، أو أرتد بعد إيمان ، أو قصاصا لقتل النفس بغير حق ، ولعله كان يرى يقتل إال لثالث ،

أن نفى اإليمان عن ناطق الشهادتين ، مؤدى الصالة ، صائم رمضان ، حاج البيت أن استطاع لذلك سبيال ، ه ، فال بد أن يضيق به باب مؤدى الزكاة إلى المحتاج دون وساطة ، أمر أن لم يتسع له اإلنكار ، ونظنه يتسع ل

Page 17: فرج فودة الحقيقة_العائبة

القبول أي ضيق ، ولعلنا إلى مثل ذلك الضيق أقرب ، بل لعلنا منكرون كل اإلنكار ، لسبب يتصل بنا أكثر مما . يتصل بعمر أو بأبي بكر

لوزارة فنحن نفعل ما فعله أولئك القوم تماما ، وندفع الزكاة للمحتاج كما كانوا يدفعونها تماما ، وال ندفعها مثال الخزانة أو لرئيس الجمهورية ، وإن جاز ألبي بكر قتالهم وقتلهم ، فإنه يجوز للبعض أن يخرجوا علينا مقاتلين وقاتلين ، ال يشفع لنا عندهم أن نرفع عقيرتنا بالنطق بالشهادتين ، وال أن نقسم على أننا ملتزمون بأركان الدين

ديننا عصمة لغير النبي ، ولوال أيضا أننا نرى أن اجتهاد أبي بكر من ملزمون ألنفسنا بها ، ولوال أننا لم نجد فييليه ، وإال لسلك جميع جمع الخلفاء سبيله في تولية من يليه ، بالنص على اسمه في كتاب مغلق يبايعون عليه

آن حق ، ونبوة األنبياء مغلقا ، وهو ما لم يأخذ به أحد بعده ، لوال هذا كله ، ولوال إيماننا بأن اإلسالم حق ، والقر . حق ، وبشرية غيرهم حق ، ما تناولنا ما أوردناه

و ما استطردنا فذكرنا أن أبا بكر كان على حق ، إذا ناقشنا األمر من باب آخر هو باب السياسة . فلوال ما فعل وتثبت دعائمها ، ولقد اجتهد ما أصبح لإلسالم دولة ثابتة األركان ، متينة البينان ، تفتح البلدان ، وتنشر العقيدة

أبو بكر في السياسة فأصاب دون شك ، واجتهد في الدين فأصاب أجرين في رأيه ، وأجرا واحدا في رأينا ، وربما أثبت لمن يرونه أصاب أجرا واحدا أن السياسة قد تتناقض مع قواعد الدين وأصوله ، تلك المحفوظة لنا

. رآنا وسنةتماما كما وجدها ، وكما نجدها ق

وما كان اجتهادنا إال اجتهادا وما كان ألحد أن يزعم أن اجتهاد أبي بكر أصل من أصول العقيدة أو ركيزة من ركائز اإليمان ، وما كان لنا أن نؤيد ما قد يراه من أن قرار أبي بكر كان سياسيا وليس دينيا ، وبمعنى آخر كان

فنحن ال نود أن نرد على تعسف في االجتهاد بتعسف في اإلستنتاج ، ولعل علمانيا يفصل بين السياسة والدين ، فيما ذكرناه ونذكره الكفاية الستنزال اللعنات علينا ممن يرون في أسماء الصحابة قدسا من األقداس ، وفي الفئة أفعالهم طوطما ال يمس ، وحسبنا أن نذكرهم بحديث الرسول الكريم ، عن أن عمار بن ياسر سوف تقتله

الباغية ، وهو حديث ثابت وصحيح ، ألن الجميع تذكره حين قتل عمار ، تذكره جيش علي فتهلل ، وتذكره جيش معاوية فتزلزل ، ولم يهدئ روعه إال رد معاوية المحنك " قتله من أخرجه " .

نوات فنتزلزل ، فإحدى غير أنا نرى األمر بعد هذه السنوات عظيما وجليال وذا خطر ، ونقرأه بعد كل هذه السالفئتين باغية ال شك ، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا عل جيش معاوية بالبغى ، وألصبح معاوية باغيا

. وعمرو بن العاص باغيا ، ومروان بن الحكم باغيا ، وعبيد هللا بن عمر باغيا ، وغيرهم وغيرهم

كبار الصالحين ال نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغى ، ولو سلمنا بتفسير معاوية ألصبح البغاة فريقا منوإذا كنا قد توقفنا عند مقابلة اجتهاد أبي بكر باجتهاد مقابل ، فإن بعضا من كبار الصالحين مثل واصل بن عطاء

) كلكم ، فقيه المعتزلة وإمامهم ، وعمرو بن عبيد ، الزاهد الورع ، الذي وصفه الخليفة المنصور بقوله الشهير يطلب صيد . غير عمرو بن عبيد ( ، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان ، وهما من هما ، تدينا وفقها

وعلما ، فأنكرا فعل الفريقين في أصحاب الجمل ، وأصحاب صفين ، وذكرا أنه " ال تجوز قبول شهادة علي " ، وأوضح من قول واصل وعمرو ، قول عبد كل نبات اخضرت له األرض ( وطلحة والزبير على باقة بقل )) لو كان جيش اإلمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله ، ولو كان جيش عائشة هللا بن عباس لعبد هللا بن الزبير

على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه ( .

ومناخا بمناخ ، وفكرا وهي أقوال ال نفحصها وال نمحصها ، وإنما نذكرها متأملين ، مقارنين عصرا بعصر ، بفكر ، وحسبنا أننا ال نتجاوز االجتهاد في تفسير الوقائع ، بينما اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجـل وأعظم ، مخالفا ما نعرفه ونلتزم به من أنه ال اجتهاد في النص ، أو ال اجتهاد مع وجود نص ، ولم يكن اجتهاده قاصرا

بل امتد إلى التعطيل والمخالفة ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده ، ولعلنا ال على التفسير أو التعديل ،

Page 18: فرج فودة الحقيقة_العائبة

نعرف نظيرا لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ اإلسالمي كله ، فهو القاسي على نفسه في الحق ، م يعرفه حاكم قبله أو بعده ومن هنا قبلت الرعية قسوته ، ثقة منها أنه على حق ، وهو الزاهد في الدنيا زهدا ل

ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم ، وأن يتحرى عن كسبهم ، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم ، وأن يعنف عليهم أشد العنف ، إن رأي فيهم أهون الميل للهوى ، أو الهوى للميل ، وهو الذي يخطئ فيتعلم من الخطأ وال

. تأخذه العزة باإلثم

عمار بن ياسر على الكوفة ، ثم ال يلبث أن يتبين أن صالح الدين ال يعنى بالضرورة صالح الدنيا فها هو يولى ، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها ، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه ، فيعزل عمار ،

يرفض أن يولى أباذر معلنا أمامه ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان ، وأن به ضعفا ، وأن الضعيف ال يولى مهما ارتفع في سلم العقيدة درجات ، فهذه ساحة وتلك ساحة ، إن اجتمعتا

فلكل ساحة رجالها ، ولكل ميدان –وغالبا ما تفترقان –فهو الكمال ، وإن افترقتا –ونادرا ما تجتمعان –أجدر بالحكم ، ورجال الدين أحفظ للعقيدة ، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا ، هو ذاته فرسانه ، فرجال السياسة

أكثر ما تجنبه الالحقون ، وما ارتعدوا عند ذكره ، ناهيك عن اإلقدام عليه ، ونقصد به االجتهاد ، ذلك الذي بدأنا وجود النص القرآني ، مع –كما ذكرنا -حديث عمر بذكره وما تميز عمر فيه عن الجميع ، حين اجتهد

وبالمخالفة له ، وقدم في تبرير ذلك حجة رائعة ، ما أجدر المنغلقين في زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل طويال ، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيال ، عسى أن تتسع لها قلوبهم ، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق النقل ، وأن

تكفير ، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض ، ما حكمكم إذا ذكرنا التفكير ال بد وأن يسبق اللكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكما مسلما ، لدولة مسلمة ، قد أفتى بمخالفة نص قرآني مع علمه به ، وطبق

تجاوزه ، وأن المنطق لم يعد قاعدة مختلفة معه ومخالفة له ، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكرا أن واقع الحياة قد يستقيم معه ، ولعلنا متصورون ، بل ومتأكدون من اإلجابة ، ولعلنا أيضا هاتفون بهم حنانيكم ، تمهلوا قليال ،

وتحسبوا كثيرا ، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب ، وهاكم النموذج كما يسرده عالم جليل ، في كتاب من أهم . خيرةوأرقى ما كتب في السنوات األ

أما العالم فهو الدكتور عبد المنعم النمر وأما الكتاب فعنوانه ) االجتهاد ( وأما القاعدة التي نتحدث عنها فهي خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم وهاكم ما كتبه الدكتور النمر:

اة " إنما الصدقات ) سهم المؤلفة قلوبهم وهو سهم قد نص عليه القرآن ما كتبه القرآن الكريم في آية توزيع الزك 06للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم " التوبة /

أو ليسوا على إسالم صحيح صادق بل متأرجحين ، –وهم كفار –وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم يعطيهم ، وليكسب ودهم أو لسانهم فيكفوا عن المسلمين شرهم –وطالما استعبد اإلنسان إحسان –ليتألف بالعطاء قلوبهم

، وربما حبهم وإسالمهم ، يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : " أعطاني رسول هللا وإنه ألبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى أنه ألحب الخلق إلى ".

حصن ، واألقرع بن وسار أبو بكر رضى هللا عنه في خالفته على ما سار عليه الرسول ، حتى جاءه عيينة بن حابس ، فسأال أبا بكر : يا خليفة رسول هللا إن عندنا أرضا سبخه ليس فيها كأل ، وال منفعة ، فإن رأيت أن

تعطيناها ؟ فأقطعهما أبو بكر إياها ، على أنهما من المؤلفة قلوبهم ، وكتب لهما كتابا بذلك ، وأشهد عليه ، ولم يشهد ، فعارض عمر ذلك بشدة ، ومحا الكتابة . . فتذمرا وقاال مقالة سيئة يكن عمر حاضرا ، فذهب إلى عمر ل

، قال لهما : " إن رسول هللا كان يتألفكما ، واإلسالم يومئذ قليل ، وإن هللا قد أغنى اإلسالم . اذهبا فاجهدا جهدكم ال يرعى هللا عليكما إن رعيتما " .

Page 19: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ا في أيام الرسول ، وجزء من خالفة أبي بكر ، بناء على اجتهاد والشاهد هنا ، أن عمر أوقف حكما كان مستقرله ، في سبب إعطاء هؤالء حيث اعتبر أن السبب اآلن غير قائم ، فال داعي لإلعطاء ، والحكم يدور مع علته عند حدود النص وظاهره وال حدود الفعل ، وجودا وعدما ، كما عرفنا فعمر رضى هللا عنه ، لم يقف جامدا

بل غاص إلى سببه وعلته ، وحكم اجتهادا منه في فهم الحكم ، على ضوء ظروف اإلسالم ، حين صار قويا في غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤالء ..

كالم منطقي ، وواضح ، وصريح ، يترتب عليه سؤال منطقي ، وواضح ، وصريح أيضا ، مضمونه : هل و نجتهد مع وجوده ، ويصل بنا االجتهاد إلى مخالفته ، إذا انعدمت يجوز لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصا ، أ

علته أو تغيرت أسبابه ؟

سؤال صعب ، وإجابته خطيرة ، وتداعيات إجابته أخطر ، ليس على اإلسالم ، بل على قلوب عليها أقفالها ، بثون به ، وهو قولهم بأن وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح ، غير أنا نلمح في أذهانهم طوق نجاة ، قد يتش

ذلك قد يجوز ، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه ، ونتوقع منهم ما ال الواضحة ، مثل الحدود الثابتة بيقين في نصوص القرآن ، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيرا

لنا معهم ، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا ، وما خسراننا إن أحسنا الظن ، وما نعرفه عنهم قياسا على تجربة سابقة أجدرنا بأن نسحب منهم طوق النجاة ، وأن نحيلهم في ردنا عليهم إلى مثال آخر الجتهاد عمر ، عطل فيه حدا

ة ، وجدير بنا من الحدود الثابتة ، وهو حد السرقة ، إذا كان السارق محتاجا ، ثم أوقف تنفيذه في عام المجاعقبل عرض هذا االجتهاد ، أن نرد على بعض من ادعوا التفقه ، وأزعجهم اجتهاد عمر ، فأفتوا بما يخالف

. الحقيقة ، ظنا منهم أن أحدا ال يقرأ ، أو أن الغاية تبرر الوسيلة

جريدة النور ، ومثال ذلك ما ذكره األستاذ الحمزة دعبس في حواره مع وزير مغربي ، وهو حوار منشور فيالتي يرأس األستاذ الحمزة تحريرها ، حين سأل الحمزة الوزير ، محاوال إحراجه ، عن سبب عدم تطبيق

الحدود الشرعية في المغرب ، فكان رد الوزير أن تعطيل الحد اجتهاد ، وأن لذلك سابقة تتمثل في تعطيل عمر زة على الفور ، بلغة الواثق من علمه ، " إن عمر لم يطبق لحد السرقة في عام المجاعة ، فرد عليه األستاذ الحم

حد السرقة ، ألن المبلغ المسروق كان أقل من النصاب " ، والحقيقة أن الواقعة التي عطل فيها عمر الحد ، والتي وردت في " الموطأ " لإلمام مالك ، كانت تتعلق بسرقة ناقة ، وهي ما يفوق النصاب كثيرا ، بل ما

البسطاء في أحاديثهم عندما يتندرون فيقولون : إن سرقت فاسرق جمال ، داللة على ضخامة حجم يتناوله . السرقة وجسامته

والمثال الثاني ما يتردد كثيرا على ألسنة بعض الفقهاء ، وفي مقاالت بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم من هذه الشروط توفير الحد األدنى للمعيشة باإلسالميين من أن عمر لم يعطل الحد ، بل أقام شروطه ، ألن

والمعاش ، وردنا على ذلك يسير ، ورأينا فيه أنه مغالطة واضحة ، ألن جميع ما توافر أمام عمر وقت أن : أجتهد ، لم يكن يزيد عن أمرين

. * أولهما : نص قرآني صريح واضح قاطع بقطع اليد في السرقة دون ذكر ألية شروط

سنة قولية وفعلية نقلتها لنا كتب األحاديث الصحاح وراجعناها جميعا فلم نجد إال اختالفا حول تحديد * وثانيهما : النصاب أي الحد األدنى لقيمة ما يسرق ، فتقطع اليد في مقابله ، ولعلنا نضيف إلى علمهم تصحيحا ، وإلى

وط التي ذكرها الفقهاء بعد عمر بحوالي قرن معلوماتهم تصحيفا ، فنذكر لهم أن ما اختلط في أذهانهم ، هو الشرأو قرنين ، وهي شروط عديدة تمثل اجتهادا منهم لمسايرة ما واجهوه من ظروف الحياة وهي متغيرة ،

بنصوص الشريعة وهي ثابتة ، وكل ذلك أتى بعد عمر بكثير ولم يكن عمر في اجتهاده مقتفيا أثر الشافعي أو س هو الصحيح ، وكان اجتهاد عمر في هذه الواقعة هو الذي فتح باب االجتهاد لهم ، أبى حنيفة ، وإنما كان العك

Page 20: فرج فودة الحقيقة_العائبة

وهو الذي قنن لهم شرطا فأضافوا شروطا ، ولنقرأ معا ما أورده الدكتور النمر في كتابه ) االجتهاد ( بشأن هذا : االجتهاد من عمر

مة الحد ، اجتهد عمر في أال يقيمه بعد ثبوت السرقة ) عدم إقامة الحد على السارق : وهذا اجتهادا جديد في إقا على السارقين .. ووجوب الحد عليهم ، في الحضر ال في السفر ، وال في الغزو .

فقد روى مالك في الموطأ ، أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فانتحروها ، فأمر عمر كر في أن يعرف السبب الذي من أجله سرق هؤالء فلعلهم جياع ، وجاء بقطع أيديهم ، ثم أوقف القطع ، وف

حاطب فقال له عمر ، إنكم تستعملونهم ، وتجيعونهم وهللا ألغرمنك غرامة توجعك ، وفرض عليه ضعف ثمنها ، وأعفى السارقين من القطع لحاجتهم ..

ووجد أنه ال يقام حين يكون السارق في ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامدا ، بل غاص إلى ما وراءه ،حاجة تلجئه إلى السرقة ، كما قال لحاطب : " لوال أنكم تستعملونهم و تجيعونهم ، حتى لو وجدوا ما حرم هللا

ألكلوه ، لقطعتهم " .

وعمر بهذا وضع أساسا لعدم تطبيق الحد على المحتاجين الذين تحدث عنهم ، وهي وجهة نظر جديدة في تطبيق اآلية :

" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ، نكاال من هللا . . "

33المائدة /

–راعى فيها عمر علة القطع وظروفه ، ودار مع العلة ، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك ظاهره على إيقاف حد السرقة أيضا عام كما قال المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى ، وهذه النظرة هي التي حملته

المجاعة ، كما حملته على إيقاف الحدود في السفر مثل ما فعل حذيفة أيضا فأوقف الحد على شارب الخمر ، وقال : " تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطعمون فيكم ؟ " .

عين ، وكره أن تحمل المحدود حمية وقد أصدر عمر أمره إلى قواده أال يجلدوا أحدا حتى يطلعوا من الدرب راجالشيطان على اللحوق بالكفار ، وهو لم يوقف الحد وإنما أجله لظروف ، حتى تزول هذه الظروف ، وهذه كلها

اجتهادات ألحكام جديدة ، لم تكن قبل ذلك .. وفيها ظاهرة مخالفة لما كان في أيام الرسول وأبي بكر ( .

تهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفة للنص القرآني ، وأوقف حد السرقة على وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجالمحتاج ، ثم عطله في عام المجاعة ، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب ، ونضيف إلى ذلك

خالفا قاعدة أنه خالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع األرض الخصبة على الفاتحين ، وقتل الجماعة بالواحد مالمساواة في القصاص ، وال نملك ونحن نستعرض ما فعل ، في ضوء المالبسات المحيطة بكل حادثة ، إال أن

: نكتشف حقيقتين هامتين

. أوالهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل ، ولم يقف عند ظاهر النص

اية النص ، وأن مخالفة النص من أجل العدل ، أصح وثانيهما أنه طبق روح اإلسالم وجوهره مدركا أن العدل غفي ميزان اإلسالم الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص ، وهذه الروح العظيمة في التطبيق ، تخالف أشد

Page 21: فرج فودة الحقيقة_العائبة

المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم ، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت ، وتوقفهم أمام ظاهر النص ال نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر ، التهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة ، ولقاعدة جوهره ، ونكاد

شرعية ال لبس فيها وال غموض ، ولحد من حدود هللا ال شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم في مواجهته ون ( ، ) فال وربك ال يؤمنون حتى باآليات التي ال يملون تكرارها ) ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك هم الكافر

يحكموك فيما شجر بينهم ( ، دون توقف أمام أسباب التنزيل ، أو حكمة النص أو العقوبة ، ولعلهم يدركون أن التأسي بعمر وارد ، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله ، ويرونه فينكرونه ، ويسمح لنا

محددا وواضحا : بأن نوجه إليهم سؤاال

هل تعطيل إقامة الحد جائز ، وهل مخالفة النص القرآني جائزة ، وهل مخالفة السنة الثابتة ، قولية كانت أم فعلية جائزة ؟

: ولعلهم أمام ثالث إجابات ال رابع لها

أولها : أن الحكم بالجواز على إطالقه ال يجوز ونحن نوافقهم على ذلك . -

. أن الحكم بإنكار الجواز على إطالقه ال يجوز و نحن نسلم معهم بذلك ، وحجتنا عليه اجتهاد عمروثانيها : -

وثالثها : أن الحكم بالجواز جائز في بعض الحاالت ، وللضرورة ، وألسباب منطقية وواضحة ، تتسق مع - .. روح النص وعلته

ة ، واجتهاد واجتهاد ، دون رمى لقفاز التكفير وفي هذا مساحة واسعة لنقاش طويل ، وأخذ ورد ، وحجة وحجفي الوجوه ، ودون ادعاء باطل بأنهم المسلمون ، وأننا الكافرون الظالمون الفاسقون ، وأن ما في مخيلتهم

وحدهم هو اإلسالم ، وأن ما في حياتنا كله هو الجاهلية بعينها ، غاية ما في األمر أنها جاهلية معاصرة إلى غير رونه حقا ونراه باطال ، ويرونه علما بالفقه ونراه جهال بالفقه وبالتاريخ ، ويرونه إيمانا ونراه تعصبا ذلك مما ي مقيتا .

ولعلنا ال نتجاوز سيرة عمر ، دون أن نتوقف أمام قرار خطير وجليل ، ربما مر على البعض دون أن يعيروه دأنا به الحديث ، وهو الفتنة الكبرى التي حدثت في عهد عثمان ، التفاتا ، بينما هو في رأينا مفتاح لتفسير ما ب

وانتهت بمصرعه ، واستمرت طوال عهد علي وانتهت بمصرعه أيضا .

لقد ألزم عمر كبار الصحابة بالبقاء في المدينة ، وحظر عليهم مغادرتها إال بإذنه ، وفسر ذلك لهم في رفق بأنه تهم ، بينما حقيقة األمر أنه خشى أن يفتتن الناس بهم ، وأن يفتتنوا هم يحب أن يستأنس بهم ، ويهتدي بمشور

أنفسهم بالناس ، وبما يفتن الناس ، وأجرى عليهم أرزاقا محددة ومحدودة ، ألزمهم بها ، وألزم نفسه بها قبلهم ، د الضيق ، وكرهوه غاية فقبلوها منه ، مثلما قبلوا مجمل سيرته ، التي ال تأتي إال منه ، ولعلهم ضاقوا بذلك أش

الكره ، فهم في النهاية بشر يكرهون أن يمنعوا ما هو متاح لآلخرين ، لكن ضيقهم من عمر ، كان يصطدم . بسيرة عمر مع نفسه ، ومع أهله وخاصته ، فيستحيل الضيق رضا ، والتبرم صمتا ، والكراهية صبرا جميال

لضيق لم نتجاوز الحقيقة ، ولم نحلق في الخيال ، دليلنا على ذلك أن أول ولعلنا في تخيلنا للكراهية أو التبرم أو اما فعله عثمان غداة واليته ، أن أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم العطايا ،

ة أو وذلك أمر يتفق مع طبيعة عثمان وما جبل عليه من لين ورقة وكرم وتسامح ، ولم تكن عطايا عثمان هين محدودة ، فقد أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائة ألف .

Page 22: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ولعله كان يتألف قلوبهم ، لعلمه أن اجتهاداته قد تختلف مع اجتهاداتهم ، وأنه مقدم على أمور لن تكون منهم حتى الغضب محل قبول ، ومن صالحه أن يذهبوا في اآلفاق ، وأن يكون قبولهم لعطاياه مانعا لهم من الثورة أو

، حين يعلمون أنه وهب ابنه الحارث مثلها ، أو أنه اقطع القطائع الكثيرة في األمصار لبنى أمية ، غير أنهم لم يأبهوا لشيء من هذا في أول األمر ، فقد خرجوا إلى األمصار ، وإذا بالدنيا تقبل عليهم إقباال لم يخطر لهم على

. لدنيابال أو خيال ، وأقبلوا هم أيضا على ا

وحين تقبل الدنيا دون حدود ، فالبد أن تـدبـر العقيدة ولو بقدر محدود ، أما كيف أقبلت هذه ، وكيف أدبرت تلك ، فتعال معي وتأمل ، وتدبر معي :

ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع ، فهم جميعا مبشرون بالجنة لستة الذين حصر فيهم عمر الخالفة ، وأحدهم هو الخليفة المختار ، وهم عثمان بن عفان ، والزبير بن وهم من ا

العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد هللا وعبد الرحمن بن عوف ، ننقلها إليك من كتاب موثوق به هو ) الطبقات الكبرى البن سعد ( .

يقول ابن سعد بسنده :

ان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثالثون ألف ألف ) األلف ألف هي المليون ( درهم و خمسمائة ألف ) كان لعثمدرهم وخمسون ومائة ألف دينار ) الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم ( فانتهبت وذهبت ، وترك ألف بعير

ى ألف دينار ( . بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائت

) كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف . وكان للزبير بمصر - .7خطط وباإلسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غالت تقدم عليه من

أعراض المدينة (

عتيق على عشرة ) عن عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص : مات أبي رحمه هللا في قصره بال - .3 أميال من المدينة ، وترك يوم مات مائتى ألف وخمسين ألف درهم (

) كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد هللا من العقار واألموال وما ترك من الناض ثالثين ألف - .4 درهم ، ترك من العين ألفى ألف ومائتى ألف دينار ، والباقي عروض (

عير وثالثة آالف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع ، ) ترك عبد الرحمن بن عوف ألف ب - .06وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا ، وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت

أيدي الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفا (

ف في التفاصيل ، واستند طه حسين في كتابه و قد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختالالفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد ، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة وخمسين مليونا وأن أموال

طلحة بلغت ألف درهم كل يوم .

عج كما ولعل القارئ قد تململ كثيرا ، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات ، ولعله انزانزعجنا لحديث الماليين ولعله أيضا يتلمس مهربا بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة في

. عصرها ، لكنى أستأذنه أن يراجع نفسه

فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات ، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثالث عشرة سنة ، خم ) بلغة عصرنا الحديث ( في تلك الفترة القصيرة ، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف وأقصى ما يفعله التض

مثال ، ويحكى المسعودى عن عمر أنه :

Page 23: فرج فودة الحقيقة_العائبة

) حج فانفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر دينارا فقال لولده عبد هللا : لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا ا قد كفت عمرا وولده ، أو كفت عمرا وحده ، شهرا كامال ، فلنا أن نتخيل هذا ( ، وإذا كانت الستة عشر دينار

. ما تفعله عشرات الماليين ، وما يملكه صاحب الذهب الذي يقصر جهد الرجال عن قطعة ) بالفؤوس (

الذي ولنا أن نسوق مثاال أوضح من المثال السابق ، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر ، ونقصد به عليا ،توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف ، وبعد ابن عوف بحوالي عشر أعوام ، وهاكم ما تركه في رواية

المسعودى :

) لم يترك صفراء وال بيضاء ، إال سبعمائة درهم بقيت من عطائه ، أرد أن يشتري بها خادما ألهله ، وقال ه وسيفه ( . بعضهم : ترك ألهله مائتين وخمسين درهما ومصحف

نحن هنا أمام نموذج ونماذج ، ومثال وأمثلة ، وتركة وتركات ، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين ، وأمام نذير خطير لما سيحدث لهم ، فالدين والدنيا ال يجتمعان معا إال بشق األنفس ، وجمع المال على هذا النحو ال

جهد مجهد وجهيد ، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة يستقيم مع نقاء اإليمان وصفاء السريرة إال بحبوا يطرق األذهان في عنف ، فغنى عبد الرحمن وثروته يثقالن خطوه إلى الجنة ، وال لوم وال تثريب على

المسلم إن أثرى كما يشاء ، وأدى حق هللا في ماله كما يحب ، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم ، ثقل من غيرهم بالزهد ، وأجدر من غيرهم بالخصاصة ، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك فهم أ

بسنوات ال يملكون غير مالبسهم ، ويبيتون على الطوى سجدا خاشعين ، وكانوا في الميزان أغنى األغنياء ، كم ، فهما وجهان لعملة واحدة لكن الزمن قد دار إلى غير عودة ، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الح

هي الدنيا المقبلة ، وسوف يأتي على خليفة بعد عثمان ، وسوف يكون الخليفة الحق في الزمان الخطأ ، وسوف يحدث له ما حدث ، ألنه البد أن يحدث ، غاية ما في األمر أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت مشتعلة ،

ولم يكن له أن يتساءل مستنكرا : أعصى و يطاع معاوية ؟ فالتساؤل على أبقت حكمه قرابة الخمس سنوات ،مرارته مجاب عليه : نعم يا أبا الحسن ، تعصى ألنك على دين ، ويطاع معاوية ألنه على دنيا ، فكما تكونوا

ة العجلة يول عليكم ، وقد كان القوم أقرب إلى معاوية منك ، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول إدارإلى الخلف ، إلى الزمن السعيد والصحيح ، فليس لها أن تدور إال حيث تريد لها الرعية أن تدور ، وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا اإلقبال ، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هي األخرى آخذة منها بنصيب ،

ا أنست إليه ، وتألفت معه ، وأقبلت عليه ، وأدبرت أنت ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه ، ويتألف قلوبها بم عنه .

هون عليك يا أبا الحسن ، فسوف يأتي بعدك بسبعين عاما من ال يستوعب درسك فيحاول ما حاولت ، ويقضى بأسرع مما قضيت ، سوف يأتي عمر بن عبد العزيز ، ولن يستمر أكثر من سنتين وثالثة أشهر ، وسوف يموت

عين ، مسموما في أرجح األقوال مخليا مكانه ليزيد بن عبد الملك ، شاعر المغاني والقيان ، عاشق دون األرب . سالمة وجبابة ، وأول شهداء العشق والغرام في تاريخ الخلفاء ، كما سنروى للقارئ بعد قليل

حاول أن يحتذي حذوه وسوف يأتي بعد عمر بن عبد العزيز بقرن ونصف ، خليفة عباسي اسمه المهتدى باهلل يفيأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويزهد في الدنيا ، ويقرب العلماء ، ويرفع من منازل الفقهاء ، ويتهجد في الليل ، ويطيل الصالة ، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى : ) فـثـقلت وطأته

الواضحة فاستطالوا خالفته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقةقتلوه ، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها ؟ فقال : أريد أن أحملهم

ورغبوا على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين ، فقيل له : إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا في اآلخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، وأنت إنما رجالك تركي وخزرى ومغربي وغير ذلك من

Page 24: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أنواع األعاجم ال يعلمون ما يجب عليهم في أمر أخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا ، فكيف . تحملهم على ما ذكرت من الواضحة ؟ (

ن أحد عشر شهرا من خالفته ، واختلف في قتله ، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر ، وقد قتل المهتدى بعد أقل موشرب القتلة من دمه حتى رووا منه ، ) ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات ، ومنه من رأى أنه

، ال مات (جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات ، وقتل خنقا ؟ كبس عليه بالبسط و الوسائد حتى تحزن يا أبا الحسن وال تغضب ، فزمانك ال شك أعظم من زمن من يليك ، وحسبك أن عهدك كان فيصال أو معبرا إلى زمان جديد ، ال ترتبط فيه الخالفة باإلسالم إال باالسم ، وال نتلمس فيها هذه الصلة بين اإلسالم

شهرا في عهد مر بن عبد العزيز ، وأحد عشروالخالفة ، إال كالبرق الخاطف ، يومض عامين في عهد عالمهتدى وخال ذلك دنيا وسلطان ، وملك وطغيان ، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال ،

وربما لم تخطر للقارئ على بال ما نقلوه إليه كان ابتسارا للحقيقة ، وإهدارا للحقائق ، وانتقاصا من الحق ، وإذا ء يذكر يا أبا الحسن ، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروعهم ، وما أفزعك وما سيفزعهم ، كان الشي

وسوف ننقله إليهم موثقا بالرسائل ، تلك التي تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك ، عبد هللا بن عباس ، ك على البصرة ، أعظم األمصار وأجلها حبر األمة وبحرها ، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول ، ووالي

خطرا ، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبد هللا بن عباس أي شئ إال ما سمعت ، حين أتتك من صاحب بيت المال في البصرة ) أبو األسود الدؤلى ( رسالة ينبئك فيها أن ) عاملك و ابن عمك قد أكل ما تحت

يده بغير علمك ( .

يا أبا الحسن لم تصدق ، ولعله لم يكن أمامك إال أن ترسل لعبد هللا بن عباس مستفسرا ، متمنيا أم ولعلك " أما بعد ، فقد بلغني عنك أمر ، إن يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته ، وهو خطابك إليه مختصرا :

ن : بلغني أنك جردت كنت فعلته فقد أسخطت ربك ، وأخربت أمانتك ، وعصيت إمامك ، وخنت المسلمي األرض وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب هللا أشد من حساب الناس " .

ويأتيك يا أبا الحسن " أما بعد ، فإن الذي بلغك باطل ، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ ، فال تصدق على األظناء ، رحمك هللا ، والسالم " .

لكس في أيامنا الحاضرة ، وهو رد ال يغنى من جوع ، وال يسمن من شبع ، فعلي قد رد كأنه إحدى رسائل التطلب حساب بيت المال ، فلم يظفر من ابن عباس إال بنفي التهمة وبالسالم ، وما عليه إال أن يعاود الكرة ،

ي : موضحا ما يطلبه ، مؤكدا عليه ، محاوال استثارة النخوة الدينية لديه ، ولنقرأ خطاب عل

" أما بعد ، فإنه ال يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية ، ومن أين أخذته ، وفيما وضعت ما أنفقت منه ، فاتق هللا فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه ، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل ، وتبعة ذلك شديدة ،

والسالم " .

، بل طلبا واضحا ومحددا ، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه ، وهو أن لم يعد األمر اتهاما ينفيه ابن عباس يكتب له ) كشف حساب ( يوضح في جانب منه موارده من الجزية ، وفي الجانب اآلخر أوجه اإلنفاق .

نه والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب ، وهو في إجابته لم يذكر شيئا عن موارده وإنفاقه ، وإنما تقدم بالخصومة بيوبين علي خطوة واسعة ، ورد عليه اتهاما باتهام ، فعلي يتهمه باغتصاب المال ، وهو يتهم عليا بسفك دماء

األمة من أجل الملك واإلمارة ، وهكذا جريمة بجريمة ، بل أن جريمة علي ) هكذا قال وهكذا أفتى ( أعظم عند معا رسالة عبد هللا بن عباس إلى علي ) أما بعد ، فقد هللا من جريمته التي لم ينفيها أو يعتذر عنها ، ولنقرأ

فهمت تعظميك على مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البالد ، وهللا ألن ألقى هللا بما في بطن هذه األرض من

Page 25: فرج فودة الحقيقة_العائبة

عقيانها ولجينها وبطالع ما على ظهرها ، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء األمة ألنال بذلك الملك . فابعث إلى عملك من أحببت " . واإلمارة

استقالة أسبابها غير مقنعة ، ضرب علي عند قراءتها كفا بكف ، مرددا :

" وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء ؟ " ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى ، آلخذناه على ما نه نوازع الغضب وانفعاالت الثورة ، فكتب ما جاء فيها ، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم ، أطلق م

كتب تحت وطأة الغيظ وفي ظل انفعال من يتهم وهو برئ ، لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر لعلي على بال ، وما ال يخطر للقارئ على بال ، وما ال سبيل إلى نجاته من وزره أمام هللا ، وأمام علي ، وأمامنا

جميعا ..

مع ما تبقى من أموال في بيت المال ، و قدره نحو ستة ماليين درهم ، ودعا إليه من كان في البصرة من لقد جأخواله من بنى هالل ، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا ، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا

ماء ، ومضى ابن عباس بالمال ، آمنا ، بنى هالل قليال ، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضا عن سفك الدمحروسا ، قريرا ، هانئا ، حتى بلغ البيت الحرام في مكة ، فاستأمن به ، وأوسع على نفسه ، واشترى ثالثة

جوار مولدات حور بثالثة آالف دينار ..

عباد له ، وزهد العباد له ، صدمة هائلة ، ال لعلي فقط ، بل لنا جميعا ، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه الوورع العباد له ، ) يقصدون عبد هللا بن عباس وعبد هللا بن عمر وعبد هللا بن جعفر بن أبي طالب ( ، فإذا بنا نحارفهما ، ونمسك ألسنتنا غصبا أمام أشهر العباد له ، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فال ننجو من األلسنة

ا يجب أن ال نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم ، وال أقل من أن نصفهم بما الحداد ومما هو أكثر ، لكنوصف بعضهم به بعضا ، وحسبنا أن عليا أوجز رأيه في ابن عباس بأنه ) يأكل حراما ويشرب حراما ( وليس

لنا إال أن نقول مع علي :

، هل االستيالء على أموال المسلمين صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل ، بل أننا نتساءل ومعنا كل الحقبالباطل حالل على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة ، حرام علينا ألننا جئنا في عصر بعد

العصر ، وعاصرنا زمانا غير الزمان ؟ ، هي حرام عليهم بقدر ما هي حرام علينا ، بل هي حرام عليهم أكثر ، ثر ، ومتفقهون فيه أكثر ، وألنهم األئمة والمنارة ، فإذا فسد األئمة فمن أين يأتي ألنهم يعرفون من الدين أك

الصالح ؟ ، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد ؟

ولعلي قبل أن أستطرد في الحديث ، وللحديث بقية ، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد ، ممن اغتالوا الرئيس عنه أنه يكحل عينيه ، وعندما سئل ، قال تأسيا بابن عباس ، ولعله لو قرأ ما السادات في المنصة ، كان مشهورا

قرأناه عنه ما تأسى به وما أكتحل مثله ، واقرأوا معي رسالة علي البن عباس ، بعد أن استقر في مكة ، هانئا بين جواريه ، قانعا بأموال المسلمين

يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ) أما بعد ، فأني كنت أشركتك في أمانتي ، ولم ومؤازرتي وأداء األمانة إلي . فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب ، والعدو عليه قد حرب ، وأمانة الناس

قد خربت ، وهذه األمة قد فتنت ، قلبت له ظهر المجن ، ففارقته مع القوم المفارقين ، وخذلته أسوأ خذالن وخنته مع الخائنين ، فال ابن عمك آسيت ، وال األمانة أديت ، كأنك لم تكن هلل تريد بجهادك ، أو كأنك الخاذلين ،

لم تكن على بينة من ربك ، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك

Page 26: فرج فودة الحقيقة_العائبة

فت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الغرة أسرعت العدوة ، وغلطت الوثبة ، وانتهزت الفرصة ، واختطالذئب األزل دامية المعزي الهزيلة وظالعها الكبير ، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر ، تحملها غير

متأثم من أخذها ، كأنك ال أبا لغيرك ، إنما حزت ألهلك تراثك عن أبيك وأمك ، سبحان هللا !

اب ؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما ؟ أو ما يعظم عليك وعندك أفما تؤمن بالمعاد وال تخاف سوء الحسأنك تستثمن اإلماء وتنكح النساء بأموال اليتامى واألرامل والمجاهدين الذين أفاء هللا عليهم البالد ؟ فاتق هللا ، وأد

تى آخذ الحق وأرده ، وأقمع الظالم أموال القوم فإنك وهللا إال تفعل ذلك ثم أمكنني هللا منك ألعذرن إلى هللا فيك ح ، وأنصف المظلوم ، والسالم ( .

خطاب يقطر دما ، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب ، ورجع عن فعله وأناب ، لكنه مال يرد مستخفا في سطرين ال أكثر فيقول ) أما بعد ، بلغني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أصبته من

البصرة ، ولعمري إن حقي في بيت المال ألعظم مما أخذت منه والسالم ( .

هذه المرة يأتي الرد سافرا ، نعم أخذت ، لكنه حقي ، بل إن حقي فيه أكثر ، أي حق ؟ وبأي حق ؟ وهل لعبد هللا بن عباس في بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين ؟

في رده على هذا الخطاب ، وهو رد بليغ وحزين ال أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزنا هذا ما تساءل به علي فوق حزن ، لكني أنتقل به فجأة إلى رد ) برقى ( آخر من ردود ابن عباس ، حسم به النقاش ، وأنهى به الجولة

ا ، قائال البن عمه علي : ، وختم به حديث الدين والعقيدة ، مهددا بسطوة الدنيا وسيفها ، وسلطانها وزيفه

. "لئن لم تدعني من أساطيرك ألحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به "

وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد هللا بن عباس ، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما يقولون ، ى دنيانا ؟ . نضرب كفا بكف ، ونتساءل في مرارة ، هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن عل

ال بأس أن نترك عليا ألحزانه ، وهو يرى ) كما يقول ( أن أمانة الناس قد خربت ، واألمة قد فتنت ، وابن عمه قد انقلب عليه ، وفضل رغد العيش من مال المسلمين في مكة ، على نضال العقيدة من أجل اإلسالم في الكوفة

ى عبد هللا بن عباس ، ضيفا على معاوية في مقر خالفته في ولن يمر وقت طويل حتى يقتل علي ، ، وحتى نردمشق ، مستقبال بالتوقير والمالطفة والعطايا ، غير أن العلة لم تكن فقط في نكوص رموز العقيدة عن حمل

أعبائها ، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة اإلسالمية الوليدة فأجهزت عليه وهنا نترك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها ، ونشير إلى أن أي حكم في التاريخ ال بد له مهابة ، وأن هيبة

الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم ، وهي في النهاية ضرورة ليس لصالح الحكم ، فهذا أمر آخر ، بل ر بحروب الردة قد حفظ هذه الهيبة بل ورسخها لتوطيد دعائمه ، واستمراره واستقراره ، وال شك في أن أبا بك

. في نفوس المحكومين ، وال شك في أن عمر بعنفه وعدله معا قد وصل بهذه الهيبة إلى أقصى الدرجات

وال شك أيضا في أن عثمان قد هبط بها رويدا رويدا حتى تالشت أو كادت ، فهو مرة يصدر قرارا خاطئا ، ثم المنبر لكي يعتذر ويبكي ) حتى يبكي الجميع ( ، ثم ال يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى ال يلبث أن يقف على

، يفقد الحكم هيبته عنف ال يملك مقوماته ، وهو في تأرجحه بين العنف واللين ، وتراوحه بين القرار وعكسهى قذفه بالحجارة وهو لدى الرعية شيئا فشيئا ، حتى يصل األمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين ، وإل

على المنبر حتى يغشى عليه ، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه ، بل أن يرسل إليه األشترالنخعى خطابا يفتتحه بالعبارة التالية :

Page 27: فرج فودة الحقيقة_العائبة

" من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره "

م يكن هناك سبيل لعودة هذه الهيبة إال برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية ، رجل ال ولعلى أجزم بأنه ليتحرج أن يقتل حجر بن عدى ، على إيمانه وعدله وزهده ، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم

أو ال حكم ، وسلطة أو ال ومحاربته ، وبين االعتراض على الحاكم ، والثورة عليه ، ألن القضية في نظره حكم . سلطة ، وهيبة أو ال هيبة

ولعل هذا المنطق هو ما حفظ جيش ) معاوية ( من االنقسام ، بينما سلك ) علي ( طريق الدين ، فحاور المنشقين ، وكلما أتوا بحجة أتى بحجة ، وإذا ذكروا آية أفحمهم بآية ، وإذا استشهدوا بحديث رد عليهم بحديث ، وكلما

النقاش زادت الفرقة واتسع االنقسام ، ولم يعد هناك بد من أن يرفع عليهم السيف و أن يرفعوا عليه السيف طال –، و في النهاية صرعته سيوفهم ، ألنه هكذا ينتهي التطرف بالمتحاورين معه ، وهكذا يحسم الحوار ) الديني

عه أشياء كثيرة ، منها مبدأ الحوار ذاته ، وحياة الديني ( دائما ، يحسمه األكثر تطرفا لصالحه ، عادة يحسم مالمحاور ذاتها ، وإذا كنا نرى في أيامنا من المتطرفين عجبا ، فألنهم رأوا منا عجبا ، تحسسوا هيبة الدولة فلم يجدوا هيبة وال دولة ، عجموا عود النظام في الهين من األمر فوجدوه مرنا مثل ) الالدن ( ، زادوا فوجدوه قدازداد لينا ، تمادوا فإذا به ينثني معهم أينما انثنوا ، عاجلوه بالجليل من األمر فعاجلهم بضبط النفس ، انتظروا اللوم من قيادات الفكر السياسي ورموز المعارضة فلم يجدوا إال من يشيد أو يستزيد ، ومن يصف مجرميهم

الشريعة التي ينادون بها لعوملوا معاملة المفسدين في بالشهداء ، أو ينعت فأسديهم بالشرفاء ، ولو طبقت عليهم األرض ، ولقطعت أيديهم وأرجلهم من خالف ، ولصلبوا في ميادين القاهرة واإلسكندرية .

ما علينا ولنعد إلى صفحات التاريخ ، فقد توقفنا عند عثمان وعلي وذكرنا أن الخالفة اإلسالمية قد انتهت ولم تكن لها باإلسالم صلة إال في ومضات خاطفة تمثلت في عهد عمر بن عبد عالقتها باإلسالم بعدهما ،

العزيز أو المهتدى ، ولعلها بدأت هذا المسار كما أشرنا في بداية عهد عثمان ، وإذا كنا ننزع صفة اإلسالم عن في رأينا أنها الخالفة فيما ذلك من عهود فإن لنا في ذلك حجة سوف نسردها في موقعها من السرد ، والصحيح

كانت خالفة عربية ، إن جاز التعميم وهو جائز ، واألدق أن نقول أنها قرشية إن شئنا الدقة في اللفظ وهو دقيق ، فقد حكمت قبيلة قريش المسلمين أكثر من تسعمائة سنة ( ، بينما حكم اإلسالم ربع قرن أو أقل ، فالخلفاء

اسيون قرشيون ، وقد استمرت الدولة العباسية بصورة رسمية ثم الراشدون قرشيون ، واألمويون قرشيون والعبهــ ، وأكاد أجزم بان 403بصورة شكلية بعد سقوط بغداد حتى سقوك دولة المماليك في أيدي العثمانيين عام

قبيلة قريش بذلك تمثل أطول أسرة حاكمة في تاريخ اإلنسانية كلها ، بل إن التاريخ ال يحدثنا عن أسرة واحدة حكمت نصف هذه الفترة ، ولو كان األمر أمر رضا من المسلمين ، أو اختيار منهم لهان علينا وما توقفنا عنده ، لكننا نتوقف عنده طويال ، ونتأمله كثيرا لكونه ارتبط بأعز ما نملك وهو العقيدة ، وتستر بأقدس رداء وهو الدين

. ، ألنها ال تمت لروح اإلسالم بصلة، واستند إلى أحاديث نبوية ننكرها على من ادعوها

وحسبك ذلك الحديث الذي استند إليه العباسيون حتى استمر حكمهم قرابة سبعمائة وستة وثمانين عاما ، ومضمونه أن الخالفة إذا انتقلت إلى أيدي أوالد العباس ، ظلت في أيديهم حتى يسلموها إلى المهدى أو عيسى

مختلقة كذوب ، وأنا وأنت أيها القارئ ال نختلف اآلن على كذب الحديث وال بن مريم ، وهو حديث كاذب ، وتكذيب قائلة ، حجتنا في ذلك أنه ببساطة لم يتحقق ، لكن هذه الحجة لم تكن متاحة ألجدادنا ، وما كان لهم إال أن

ون في كل عصر يخضعوا صاغرين للحديث ، وإال اتهمهم فقهاء العصر ، شأنهم شأن بعض الفقهاء الذين يظهر، بنقص في دينهم ، والتواء في عقيدتهم ، وحسبنا أن مراجع الحديث ومنها الصحيحان وابن حنبل والدرامى وأبو داود تجمع على حديث يأتي حديث لو اجتمع عليه أهل األرض لعارضناه ، فاإلسالم السمح ، الذي أتى

ن غيرها بدم أزرق ، لمجرد أنها قريش ، وها هو ليساوى بين العربي واألعجمي ، ال يميز أسرة من األسر ععمر يعلن قبيل وفاته ) لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته ( ، وما كان سالم قرشيا ، وما كان عمر بالذي

عبادة ) الخزرجى ( ينافس أبا بكر على الخالفة ، يجهل حديثا له هذا القدر من األهمية ، وها هو سعد بن

Page 28: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ته حتى وفاته ، ولو علم سعد بالحديث ما نافس وال أنكر وال رفض وال أصر ، لكنه هكذا كان ويرفض بيع . األمر

وهكذا خضع أجدادنا لحكم الخلفاء ، الفضالء منهم ) و ما أندرهم ( والسفهاء منهم ) وما أكثرهم ( ، خوفا من لى إسالم عظيم أتي ليساوي بين الناس ، اتهامهم بالخروج على الطاعة ، أو المخالفة للجماعة ، ويا حسرة ع

فأحاله البعض بالكذب ، إلى دين يرسخ التفرقة العنصرية ، ويرفع البعض فوق البعض بالنسب ، ولعل المنادين بالخالفة في عصرنا الحديث ، يدلوننا على سبيل نتحقق به من أنسابنا ، فربما كنا قرشيين دون أن ندري ،

مزايدين ، ونطمع في الحكم مع الطامعين ونكره المنطق مع الكارهين . فنزايد في السياسة مع ال

وأخيرا ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم ، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين :

النتيجة األولى :

أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين ، في عصرنا الحديث ، إنما شططا من األمر ، وقد يصلون بأنفسهم وبنا نتائج مؤسفة ، فليس كل ما كان مقبوال في عهد الصحابة يركبون

مقبوال وصحيحا في عصر غير العصر ، ومع قوم غير القوم ، وحتى في أفعال الرسول نفسه ، هناك مساحة ة لسنا مطالبين باألخذ بها أو واسعة لتأسيه بعصره ، ومعايشته لتقاليد قومه ، كالزي والعالج ، وهي مساح

اعتبارها سنة واجبة اإلتباع والنفاذ ، فالرسول لم يأت بزي جديد ، وإنما ارتدى زي الجاهلية ، وزي األعاجم عندما أهدي إليه ، وعليه فليس الزي النبوي وارد اكسنة للتأسي والمتابعة ، وما يقال عن الزي يقال عن الطب ،

يم التي سادت في عصرنا الحديث ، وتقبلها الناس قبوال حسنا ، وهي أقرب ما تكون ويقال عن كثير من المفاهإلى الروح العامة لإلسالم إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق ) الكربوني ( سالف الذكر ، الذي لو اتبعناه

لوصل بنا نتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة ، بل وربما جاز وصفها بما أكثر ..

أخذ مثاال .. التعذيب .. ولن

لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب باإليذاء البدني أو النفسي للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم أو خالل تنفيذ حكم أمر ينكره الدين ، ويتنافى مع جوهره في العدل والرحمة .

روح الدين وجوهره أو يفعل العكس وهو هذا هو التفسير العصري ، أي الذي يأخذ روح العصر فيطابقها على في الحالتين مقنع ومقبول وصحيح ، فماذا عن التفسير الكربوني ؟

إليكم واقعتين شهيرتين :

في حادثة اإلفك المعروفة ، ، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول عليا الستشارته ) فقال يا : الواقعةاألولىقادر على أن تستحلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول هللا صلى هللا رسول هللا إن النساء لكثير وأنك ل

عليه وسلم ) بريرة ( يسألها فالت فقام إليها ) علي ( فضربها ضربا شديدا وهو يقول اصدقي رسول هللا فتقول وهللا ما أعلم إال خيرا .. (

ولم ينكر الرسول شيئا مما فعله علي ، هنا إيذاء بدني من علي للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف والتفسير ) الكربوني ( هنا يصل بنا إلى أنه من ) السنة ( أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات اإلسالمية في السجون أمرا مشروعا ، وشرعيا ، بل ومحمودا ألنه تأس

بالسلف الصالح ..

Page 29: فرج فودة الحقيقة_العائبة

جهة النظر المقابلة ، المتسعة األفق الملتصقة بروح العقيدة ، تستـنكر التعذيب ، وترى أن هذا حتى لو بينما وكان أمرا مقبوال في عصر الرسول ، ال ينسحب على غيره من العصور ، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما

هم للحصول على اعتراف ، فإننا نقبل أضافت ، مفهوما واسعا لحقوق اإلنسان ، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهذا المفهوم من منطلق إسالمي ، وال نرفضه لمجرد التأسي بعصر أيا كان هذا العصر ، لسببين بسيطين

أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن اإلسالم ال يتنافى مع روح العصر ، أي عصر ، في : أولهما واضحين كل ما هو إنساني وسمح وعادل .

قعة الثانية : الوا

بعد وفاة اإلمام على بن أبي طالب بطعنات من عبد الرحمن بن ملجم ) دعا عبد هللا بن جعفر بابن ملجم ، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول : " إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض " أي بمكحال حار محرق

فقل له ابن جعفر : قطعنا يديك ورجليك ، وسملنا عينيك ، " ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع ، فجزع من ذلك ،فلم تجزع ، فكيف تجزع من قطع لسانك ، قال : إني ما جزعت من ذلك خوفا من الموت ، لكني جزعت أن

، والرواية يذكرها ابن سعد مضيفا إليها أكون حيا في الدنيا ساعة ال أذكر هللا فيها . ثم قطع لسانه ، فمات ( بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبري وابن األثير على الحرق بعد القتل . حرقة

والرواية ال تعبر في رأينا عن روح اإلسالم أو تعاليمه ، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد البن األثير عن المثلة بقاتله ، نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور ، ونهى ) علي ( قبل وفاته في رواية

لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر ، سادته القسوة ، وتحجر القلب وكان مقبوال فيه أن يحدث ما فعله عبد هللا بن جعفر بابن ملجم ، دون استنكار ، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان ، بينما أضافت

حساس بعذاب اآلخرين ، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم ، بل إنه من الحضارة إلى سلوكنا كثيرا من اإل الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبد هللا بن جعفر ، بكلب ضال أو بقط شارد ..

ولإلقتداء به غير أن لكل حقيقة وجهين ، وما أيسر أن يجد أنصار ) الكربون ( تبريرا لفعل عبد هللا بن جعفر ،، بإلصاق تهمة اإلفساد في األرض بابن ملجم ، والتأسي بالحسن والحسين ، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا

التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص . ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبد الرحمن بن ملجم ، وصبره على د قطع لسانه ) حتى ال تمر عليه لحظة ال يذكر فيها هللا ( قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى ثم جزعه عن

.. هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال ، على ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف عندما يتسلط على الوجدان فال يميز المتطرف بين الكفر واإليمان ، ويصل به األمر إلى قتل على ابن أبي طالب ، والتلهي عن المثلة به بقراءة

لقرآن ، والجزع فقط عند قطع اللسان ، حتى ال يحرم لحظة من ذكر الرحمن ؟ . ا

ال جديد إذن تحت الشمس ، وقد ال نجد في زماننا نظيرا لعلي ، لكننا نجد كثيرا من أمثال عبد الرحمن ..

ونعود إلى هواة الكربون ..

، وبالسنة في شئون العبادة ، وأن نترك في نفس أليس األجدر بهم ، رحمة بنا ، وباإلسالم ، أن نلتزم بالقرآنالوقت ، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر وااللتقاء معه ، وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهره ، وال تتناقض مع اإليمان والعقيدة ، وأن نقبل ما نقبل ، ونترك ما نترك ، بقلب مؤمن وفكر مفتوح ، فال نرفض

ن ألنها أتت من األعاجم ، وال نرفض الديموقراطية ألنها بدعة ، وال نرفض عصرنا على إطالقه ، حقوق اإلنساوال نقبل عصر الراشدين على إطالقه ، ونستخدم العقل في النقل ، والكربون في طبع مستحدثات الحضارة ،

لك الذي أزعم أنه ليس ركنا من أركان تلك التي ال عالقة لها بالفكر أو العقيدة ، وإنما عالقتها وطيدة بالتقدم ، ذ اإلسالم ، بل هو اإلسالم .

Page 30: فرج فودة الحقيقة_العائبة

النتيجة الثانية :

أن قواعد الدين ثابتة ، وظروف الحياة متغيرة ، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير ، ال بد وأن يحدث جزء من واقع الحياة المتغير مستحيل ، فقد المخالفة ، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير ، وألن تثبيت

كان األمر ينتهي دائما بتغير الثوابت الدينية ، وقد حدث هذا دائما ومنذ بدء الخالفة الراشدة وحتى انتهت ، وتغيير الثوابت هو ما نسميه باالجتهاد ، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقا ، لكنه قائم ومتاح ، وما أوردناه من أمثلة

عمر يصلح دليال على ما نقول ، غير أنه في بعض األحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعا من الجتهاداتالمخالفات ، الحادة ليس فيه شئ من تناغم االجتهاد في ربطة بين األسباب والنتائج ، فتصبح المخالفة صريحة

المخالفة مستحيل أو في احسن وواضحة ال يمكن تبريرها باالجتهاد الفتقاد أسبابه ، وإنما تبرر فقط بأن عدم األحوال غير ممكن ، وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد ، ومثاله ما حدث عقب مقتل

عمر ابن الخطاب ، حين انطلق ابنه عبيد هللا ابن عمر ، و قتل ثالثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده ، ولم يثبت لهرمزان ، الذي أسلم وصح إسالمه ، وقد واجه عثمان هذا الموقف في ذلك في حق أحد منهم ، وكان أحدهم ا

بدء واليته وكان رأي الدين فيه واضحا ، أعلنه علي وأصر عليه ، وهو أن يقتل عبيد هللا بدم من قتل ، لكن يقتل ابنه عثمان لم يملك إال المخالفة ألسباب ) إنسانية ( ، فقد تساءل الناس في شفقة ، أيقتل عمر باألمس ، و

اليوم ؟ أال يكفي آل عمر قتل عمر ؟ ، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه ؟ .. منطق .. وإنسانية .. وظروف متغيرة .. لكن حكم الدين ثابت وواضح وال لبس فيه .. حكم الدين هو القصاص ، وال بد

من قتل عبيد هللا ..

ى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان ، وسأل عمرو أن يخرجه من ويقال أن عمرو بن العاصي أفتى بفتوالمأزق الصعب ، فسأله عمرو : هل قتل الهرمزان في والية عمر ؟ فأجابه عثمان : ال كان عمر قد قتل ، فسأله

ه هللا .. ثانية : وهل قتل في واليتك ؟ فأجابه عثمان : ال ، لم أكن قد توليت بعد ، فقال عمرو : إذن يتوال

والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله ، ولم يتحمل عبيد هللا وزر القتل أو حتى دية القتلى ، وهو ما رفضه علي ، الذي ظل يتوعد عبيد هللا كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم

إلى جيش معاوية ، وحارب عليا إلى أن قتل في معركة الهرمزان ، وما أن تولى علي حتى هرب عبيد هللا صفين ..

ويشاء القدر أن يقع على نفس المأزق ، بل ربما بصورة أعقد ، فقد ولى ولم يقدر على قتله عثمان ألنهم كانوا مسيطرين على المدينة ، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم ، وعندما أعلن

ية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتله عثمان ، فوجئ علي بجيشه يهتف في صوت واحد ، كلنا قتلة معاو عثمان ، فزاد الموقف تعقيدا ، وأصبح مستحيال على اإلمام علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم ..

وجد عصر للنقاء المطلق ، أو انعدام هي الحياة وليست الجنة ، والبشر وليس المالئكة ، وخال عصر النبوة ال يالمخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم ، تعددت المتغيرات ، وزادت المخالفات ، وإذا كانت االجتهادات

واسعة ، والمخالفات واردة ، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول ، وفي عهد معاصريه فكيف بنا بعد أربعة ل ، أال نتوقع أن يزداد حجم ) المخالفات االضطرارية ( ، وأن نتوسع في ) عشر قرنا من وفاة الرسو

االجتهادات الضرورية ( ، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين ، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح ، في عصر في أن يرفض ما أقول أكثر تخلفا ، وأقل تعقيدا انغالقا ، وأكثر اتفاقا .. الحقيقة أن القارئ الحرية كل الحرية

وأن يستنكر ما أتوصل إليه ، وما أراه رغم كل ما أتوقعه من استنكار واعتراض ، حقا وعدال ، وأمرا واقعا ال

Page 31: فرج فودة الحقيقة_العائبة

مهرب منه ، وسوف يرى القارئ فيما سنذكره عن خلفاء بن أمية وبنى العباس ، ما يؤكد له صحة ما نقول ، وحقيقة ما ندعى ..

وراق األمويين قراءة جديدة في أ

للقارئ اآلن وهو ينتقل معنا من عصر الراشدين إلى ما يليه ، أن يهيئ ذهنه للدعابة ، ووجدانه لألسى ، فحديث ما يلي الراشدين كله أسى مغلف بالدعابة ، أو دعابة مغلفة باألسى ، أما المجون فأبوابه شتى ، وأما االستبداد

فحدث وال حرج.

ي البداية أن نقص عليه ثالث قصص موجزة ، يفصل بينها زمن يسير ، واختالف كثير، ليسمح لنا القارئ فوهي إن تنافرت تضافرت ، مؤكدة معنى واضحا ، وموضحة مسارا مؤكدا ، ومثبتة ما ال يصعب إثباته ، وما

ال يسهل الهروب منه.

القصة األولى:

ينة ، وتحدث عن دور الرعية في صالح الحاكم هـ وقف عمر خطيبا على منبر الرسول في المد 06عام وإصالحه فقاطعه أعرابي قائال : وهللا لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ، فانبسطت أسارير عمر ، وتوجه

إلى هللا حامدا شاكرا ، وذكر كلمته المأثورة المشهورة : الحمد هلل الذي جعل في رعية عمر ، من يقومه بحد … أخطأ السيف إذا

القصة الثانية:

هـ قال ابن عون : كان الرجل يقول لمعاوية : وهللا لتستقيمن بنا يا معاوية ، أو لنقومنك فيقول : بماذا ؟ 94عام ( 044فيقول : بالخشب فيقول : إذن نستقيم . ) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص

القصة الثالثة:

الرسول في المدينة ، بعد قتل عبد هللا بن الزبير قائال ) وهللا هـ خطب عبد الملك بن مروان ، على منبر74عام ال يأمرني أحد بتقوى هللا بعد مقامي هذا إال ضربت عنقه ( .

ثم نزل ثالث قصص موجزة ، لكنها بليغة في تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم ، واختالفه في عهود ثالثة ، ة الراشدة ، وثانيها عهد معاوية ابن أبي سفيان مؤسس الخالفة أولها عهد عمر بن الخطاب ، درة عهود الخالف

األموية ، وثالثها عهد عبد الملك ابن مروان ، أبرز الخلفاء األمويين بعد معاوية ، وأشهر رموز البيت المرواني ، الذي خلف البيت السفياني بعد وفاة معاوية بن يزيد ، ثالث الخلفاء األمويين.

: أما القصة األولى

Page 32: فرج فودة الحقيقة_العائبة

فهي نموذج لصدق الحاكم مع الرعية ، وصدق الرعية مع الحاكم ، ونحن ال نشك ونحن نقرأها في أن األعرابي كان صادقا كل الصدق في قوله ، وأنه كان يعني تماما ما يقول ، وأنه كان على استعداد بالفعل لرفع السيف في

أن عمر كان يدرك تماما أن األعرابي صادق في وجه عمر وتقويمه به إن لزم األمر ونحن ال نشك أيضا في مقولته، وأنه لهذا سعد ، ومن أجل هذا حمد هللا ، وكان في سعادته وحمده صادقا كل الصدق ، مع هللا ، ومع

نفسه ، ومع األعرابي ، وباختصار فنحن أمام حوار تؤدي فيه الكلمات دورها الطبيعي ، حيث تعبر عن دخائل ، ووضوح ، واستقامة. النفوس ، في دقة

: وأما القصة الثانية

فهي نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر ، فالرجل في تهديده أقرب للمداعبة ، وأميل إلى الرجاء ، ومعاوية في رده عليه يحسم الموقف بتساؤله ) بماذا ( ؟ وهو تساؤل

لنفس ، وهي ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة ، شأنها شأن السيف الحاسم البتار ، يعكس ثقة عالية في اوما أسرع ما ينسحب الرجل سريعا محوال األمر كله إلى الدعابة ، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد ثاب إلى

غرور الرجل ، ما دام رشده ، فيعيد السيف إلى غمده الحريري ، وينسحب هو اآلخر في مهارة وخفة ، مرضياالخشب هو السالح ، وما دام القصد هو المزاح ، والقارئ للحوار ال يشك في أن الرجل قال شيئا وقصد شيئا آخر ، وأن معاوية قال شيئا وقصد شيئا آخر، وأن كال الرجلين فهم قصد اآلخر ، فكـر في الوقت المناسب ،

كـره نحو معاوية ، وفي فـره منه لم يكن أبدا كجلمود صخر وإنما كان وفـر في الوقت المناسب وأن الرجل في مثل كرة القش ، ظاهرها متماسك وباطنها هش .

: وننتقل إلى القصة الثالثة

وهي أقرب من القصة األولى في وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها ، غير أنها هذه المرة تعلن عكس ما تل في حسم وصراحة ، ليس لمن يخالف األمير ويعترض عليه ، وليس لمن يرفع في أعلنه عمر ، وتهدد بالق

وجه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى) تقوى هللا ( وقد خلد عبد الملك نفسه بذلك ، فوصفه الزهري بأنه أول من نهى عن األمر بالمعروف.

لى خالفة معاوية ، الرجل المحنك المجرب ، هذه قصص ثالث توضح كيف تطور األمر من خالفة الراشدين إالناعم المظهر ، الحاسم الجوهر ، المؤسس للملك ، بكل ما يستوجبه التأسيس من سياسة وحنكة ، ومظهر

ومخبر ، ثم كيف أصبح األمر عندما استقر الملك ، ولم يعد هناك داع للخفاء ، أو مقتضى للخداع أو المداهنة ، الثالث تنتقل بنا بين حاالت ثالث ، أولها العدل الحاسم ، وثانيها الحسم الباسم ، وبمعنى آخر فإن القصص

. وثالثها القهر الغاشم

وكل ذلك خالل نصف قرن ال أكثر ، وقد رأينا أن نوردها في بدء حديثنا عن خالفة األمويين لداللتها ، حتى . بعيدا عن صرامة السرد ومرارة الحقائقيخلد القارئ معنا إلى قدر من الرياضة الذهنية واالبتسام ،

ولعل القارئ قد تعجب من اجتراء عبد الملك ، لكنا نسأله من اآلن فصاعدا أن يوطن نفسه على العجب ، وأن يهيئ وجدانه لالندهاش ، وأن يحمد لعبد الملك صدقه مع نفسه ومع الناس ، فسوف يأتي بعد ذلك خلفاء

وجه مؤمن خاشع ، وتسيل دموعهم لمواعظ الزهاد ، ثم ينسلون إلى مخادعهم عباسيون يخرجون على الناس بفيخلعون ثياب الورع ، وتلعب برؤوسهم بنت الحان ، فينادمون الندمان ، ويتسرون بالقيان ، ويقولون الشعر في

نث ) معتدل الغلمان ، وهم في مجونهم ال يتحرجون حين تناديهم جارية لعوب بأمير المؤمنين ، أو يخاطبهم مخالقامة والقد ( بخليفة المسلمين ، مادمنا نتحدث عن وضوح عبد الملك ، وصدقه مع نفسه ، فال بأس من قصة

( : 007طريفة يذكرها السيوطي في كتابه ) تاريخ الخلفاء ص

Page 33: فرج فودة الحقيقة_العائبة

عهد بك ) قال ابن أبي عائشة : أفضى األمر إلى عبد الملك ، والمصحف في حجره فأطبقه وقال : هذا آخر ال ) .

ونحن ال نجد تناقضا بين أفعال وأقوال عبد الملك بعد واليته ، وبين ما تـحدثنا به نفس المراجع عن فقهه وعلمه ومن أمثلة ذلك :

) قال نافع : لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا وال أفقه وال أنسك وال أقرأ لكتاب هللا من عبد الملك ابن أبو الزناد : فقهاء المدينة سعيد بن الملك بن مروان ، وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب ، وقال مروان ، وقال

أن : عبادة بن نسى : قيل البن عمر: أنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا ، فمن نسأل بعدكم ؟ فقال . لمروان ابنا فيها فسألوه (

قبل واليته ، فلما ولي أدرك أن عهد النسك والعبادة قد ولى ، نقول ال تناقض على اإلطالق ألن ذلك كله كانوأطبق المصحف وأطلق شيطان الحكم واإلمارة وصدق في قوله للمصحف أن هذا هو آخر العهد به ، ودليلنا على ذلك أن ساعده األيمن كان الحجاج ، وإذا ذكر الحجاج هربت المالئكة وأقبلت الشياطين ، وقد عرف عبد

لحجاج مواهبه وأدرك أنه بالحجاج قد وطد دعائم الحكم وأرسى قواعد الخالفة ، فكانت وصيته األخيرة الملك ل وأن يلزمه وزيرا ومشيرا ، وقد كان . لولده وولى عهده الوليد أن يحفظ للحجاج صنيعه

ربما كان البعض، وما يضيرنا من سيرة رجل أعلن طالقه للمصحف ، وأدار ظهره لكتاب هللا ، وحكم بهواه ، ولنا أن نذكرهم أنه فعل ما فعل ، وسفك ما سفك وقتل من قتل ، تحت عباءة إمارة المؤمنين ، وخالفة المسلمين

حارا أن يعز هللا به الدين، وأن يوطد له دعائم ، وأن المسلمين جميعا كانوا يرددون خلف أئمتهم كل جمعة دعاء الحكم والتمكين ، وأن يديمه حاميا لإلسالم وإماما المسلمين وأن فقهاء عصره كانوا يرددون حديثا تذكره لنا كتب التاريخ ، مضمونه أن من حكم المسلمين ثالثة أيام ، رفعت عنه الذنوب ولعلنا نظلم عبد الملك كثيرا إذا

اه من زاوية العقيدة ، فلم يكن عبد الملك فلتة بين من سبقه أو من لحقه ، وكان في ميزان السياسة والحكم قيمنحاكما قديرا ، ورجل دولة عظيما بكل المقاييس ، فقد أخمد فتنة عبد هللا بن الزبير، وغزا أرمينية ، وغزا

مرة ، ونقل لغة الدواوين من الفارسية إلى المغرب ، وغزا المدن ، وحصن الحصون ، وضرب الدنانير ألول العربية ، وقد لخص أسلوبه في الحكم في وصيته البنه الوليد وهو يحتضر:

يا وليد اتق هللا فيما أخلفك فيه ) الحظ مفهوم الحكم بالحق اإللهي في هذه العبارة ( ، وانظر الحجاج فأكرمه يد ويدك على من ناوأك ، فال تسمعن فيه قول أحد ، وأنت فأنه هو الذي وطأ لكم المنابر ، وهو سيفك يا ول

ثم أخذته غفوة –أحوج إليه منه إليك ، وادع الناس إذا مت إلى البيعة ، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا ما هذا ؟ أتحن حنين األمة ؟ إذا مت فشمر وائتزر ، والبس جلد النمر، وضع سيفك –فبكى الوليد فأفاق وقال

عاتقك فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه ، ومن سكت مات بدائه.( على

وقد حفظ الوليد الوصية وقام بها خير قيام فكان رجل دولة وحكم من طراز فريد ، وكان فاتحا عظيما للثغور ، كثير، إال فقد فتح الهند واألندلس ، وكان أبعد ما يكون عن حديث الدين والعقيدة فلم يذكر عنه فيهما ال قليل وال

بضعة أقوال عن أنه كان يلحن كثيرا في قراءاته للقرآن ، وفي خطبه على المنابر ، وقد حكم عبد الملك عشرين عاما وحكم الوليد عشرة أعوام ، أي أن عبد الملك والوليد حكما ثالثين عاما من اثنتين وتسعين عاما هي عمر

. الدولة األموية

أن نتحدث عنها دون أن نتوقف أمام ثالثة خلفاء هم اليزيدان ) يزيد بن معاوية ويزيد تلك الدولة التي ال يجوز بن عبد الملك ( والوليد بن يزيد .

Page 34: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أما يزيد بن معاوية ، فقتله للحسين معروف ، وقد أفاض فيه الرواة بما ال حاجة فيه لمزيد، غير أن هناك حادثة ثر خطرا من قتل الحسين ، ألنها تمس العقيدة في الصميم ، وتضع يعبرها الرواة في عجالة ، بينما نراها أك

نقاطا على الحروف إن لم تكن النقاط قد وضعت على الحروف بعد ، وتستحق أن يذكرها الرواة ، وإن يتدارسها القارئ في أناة ، وأن يتذكر أنها حدثت بعد نصف قرن من وفاة الرسول ، فقط .. نصف قرن ..

يزيد المدينة ، حين خلع أهلها بيعته وقاتل أهلها قليال ثم انهزموا فيما سمى بموقعة ) الحرة ( لقد هاجم جيشفأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثالثة أيام قيل أنه قتل فيها أربعة آالف وخمسمائة ، وأنه قد فضت

) مسلم بن عقبة ( : فيها بكارة ألف بكر ، وقد كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه

ادع القوم ثالثا فأن أجابوك وإال فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثالثا ، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سالح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثالث فاكفف عن الناس (

عبيد ( له ، يفعل فيهم وفي ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها أن يبايعوا يزيد على أنهم )أموالهم وفي أوالدهم ما يشاء ، وهنا يبدأ مسلسل المفاجآت في اإلثارة ، فالبعض ما زال في ذهنه ) وهم ( أنه

في دولة اإلسالم ، وأنه قادر على إلزام مسلم ويزيد بالحجة ، بما ال سبيل إلى مقاومته أو حتى مناقشته ، وهو ال . عليه كأنه يلقمه حجرا : ) أبايع على كتاب هللا وسنة رسوله ( يقبل شروط مسلم ، ويرد

وال يعيد مسلم القول ، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق في رأينا ، والرومانسي الحالم في رأى مسلم ستقر ، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات ، هذا يكرر ما سبق ، فيقتل ، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل ، وي

األمر في النهاية لمسلم ، وما كان له إال أن يستقر ، فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب ، وهو سيف ال ينطق بلسان وال يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد ، فيقول قوال أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرؤه ، وهو ال يقوله

ل وتأمل وانذهل : مرسال أو منثورا ، بل ينظمه شعرا ، اقرأه ثم تخي

جزع الخزرج من وقع األسل ليت أشياخي ببدر شهدوا

واستمر القتل في عبد األشل حين حكت بقباء بركها

والذي يعنينا هو البيت األول الذي يقول فيه ) ليت أجدادي في موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج من وقع الرماح والنبل (

ن هم أجداده ، فواضح أنهم أعداء الخزرج في موقعة بدر ، والخزرج أكبر قبائل األنصار ، وكانوا بالطبع أما مفي بدر ضمن جيوش المسلمين ، وهنا يزداد المعنى وضوحا ، فيزيد خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين ، يتمنى

نصار في بدر ، يتمنى لو كانوا على قيد لو كان أجداده من بني أمية ، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون واأل . الحياة ، حتى يروا كيف انتقم لهم من األنصار في المدينة ، ثم نجد من ينعت الخالفة باإلسالمية

وال يتوقف أمام هذه الحادثة لكي يقطع الشك باليقين وليتحسر على اإلسالم في يد حكام المسلمين ، وليترحم على منهم لمناصرتهم للرسول واإلسالم ، وعلى يد من ، على يد ) أمير المؤمنين ( وحامي شهداء األنصار انتقاما

حمى اإلسالم والعقيدة ، ويروي ابن كثير في ) البداية والنهاية ( األبيات السابقة في موضعين أحدهما موقعة . الحرة وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد

مر ، ألن االنتقام هنا مباشر من الرسول في آل بيته ، ويضيف ابن كثير بيتا ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأ يذكره متشككا دون أن يقطع الشك باليقين ، داعيا باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول :

Page 35: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ملك جاء وال وحي نزل لعبت هاشم بالملك فال

فللفكر درجات ، وللمروق حدود ، وللتفلت مدى ، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء ولعلى استبعد أن يقول يزيد هذا ،عصر يزيد ولكـتاب تاريخ الخالفة اإلسالمية أن يذكروا أن يزيد مغفور له ، وأن ذلك ثابت باألحاديث النبوية ،

.( : 030المجلد الرابع الجزء الثامن ص – فابن كثير يذكر ) البداية والنهاية

د أول من غزا مدينة القسطنطينية في سنة وأربعين .. وقد ثبت في الحديث أن رسول هللا قال : " أول ) كان يزي ... وال تعليق جيش يغزوا مدينة قيصر مغفور له " (

وننتقل إلى يزيد بن عبد الملك ، التاسع في الترتيب بين خلفاء بني أمية ، وأحد أربعة تولوا الخالفة من أبناء عبد بن مروان هم على الترتيب ، الوليد وسليمان ويزيد وهشام ، ونحن نخص منهم يزيد بالحديث ، ألنه أتى الملك

في أعقاب عمر بن عبد العزيز ، الذي قيل عنه أنه مأل الدنيا عدال طوال عامين ، فإذا بيزيد يأتي بعده لكي . ( : 090) تاريخ الخلفاء ص السيوطي يمألها مغاني وشرابا ومجونا وخالعة ، طوال أربعة أعوام ، ويذكر

. أنه ما أن ولي ) حتى أتى بأربعين شيخا فشهدوا له ما على الخليفة حساب وال عذاب (

وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء ، وإنما امتدت أيضا إلى العلماء والفقهاء ، وأنه ما دام هؤالء عذاب وال عقاب ، فليفعل يزيد ما يشاء ، وليتفوق على خلفاء الدولة اإلسالمية يفتون أنه ال حساب على يزيد وال

كلها في بابين ال يطاوله فيهما أحد وهما العشق والغناء ، فقد بدأ خالفته بعشق ) سالمة ( وانتهت خالفته ، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها ) حبابة ( .

نذكر له أيضا رغبة تفرد بها بين الخلفاء ، وذكرت له ، ونقلت عنه ، وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك ، .. وهي رغبته في أن ) يطير (

وقصة ذلك أنه كان يوما في مجلسه ، فغنته حبابة ثم غنته سالمه ) فطرب طربا شديدا ثم قال : أريد أن أطير ، فقالت له حبابة : يا موالي ، فعلى من تدع األمة وتدعنا ( ..

طبعا ، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة ، من يمأل أنحاء الدولة اإلسالمية طربا وغناء ، وعشقا واشتهاء ، ويذكر المسعودي ) أن أبا حمزه الخارجي قال : اقعد يزيد حبابة عن يمينه وسالمه عن يساره ، وقال أريد أن

أطير ، فطار إلى لعنة هللا وأليم عذابه .

090ص 4جزء 4مجلد –ن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالي ) البداية والنهاية البن كثير ويروي اب ( : 067ص 3ويذكر المسعودي نفس الرواية في مروج الذهب ج

بتشديد الباء األولى وكانت جميلة جدا ، وكان قد –) وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبابة زمن أخيه بأربعة آالف دينار ، من عثمان بن سهل بن حنيف ، فقال له أخوه سليمان : لقد هممت أن اشتراها في

أحجر على يديك ، فباعها ، فلما بقى أفضت إليه الخالفة قالت امرأته سعدة يوما : يا أمير المؤمنين ، هل بقى رتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من في نفسك من أمر الدنيا شيء ؟ قال نعم ، حبابة ، فبعثت امرأته فاشت

وراء الستارة ، وقالت له أيضا : يا أمير المؤمنين ، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء ؟ ، قال : أو ما فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضا ، –وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها –أخبرتك ؟ فقالت هذه حبابة

ن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر ، ال يكون عندنا أحد ، ففعل ذلك ، وجمع إليه في فقال يوما أشتهي أقصره ذلك حبابة ، وليس عنده فيه أحد ، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة ، والنعمة الكثيرة السابغة ،

Page 36: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أكالن منه ، إذ رماها بحبة عنب فبينما هو معها في ذلك القصر ، على أسر حال وأنعم بال ، وبين أيديهما عنب يوهي تضحك ، فشرقت بها وماتت ، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها ، فلما

دفنها أقام أياما عندها على قبرها هائما ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه (

ح العشق ، وأصيل الغرام ، وال بأس أن تذوب لها قلوب والقصة كما يذكرها ابن كثير ، نموذج فريد لصحيشاذة أشد ما يكون –في تقديرنا –، وتنفطر لها قلوب الصبايا ، وتسيل من أجلها قلوب المحبين ، لكنها الصبية

الشذوذ ، بعيدة أكثر ما يكون البعد ، عندما يتعلق األمر بأمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، وخادم الحرمين ، . وحامي حمى اإليمان ، والملتزم بأحكام القرآن ، وبسنة نبي الرحمن

ولعلنا نتساءل ومعنا كل الحق ، ما بال المطالبين بعودة الخالفة يستنكرون الحانات ، ويفسقون المغنيات ا من ويكفرون الراقصات ، بينما هذا من ذاك بل هذا بعض ذاك ، ولقد عاصر يزيد أئمة كبارا ، وفقهاء عظام

أمثال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم ، وكانوا أقرب ما يكونون إلى التقية ، وكانوا يوصلون بالعطايا ويتحفون بالهدايا ، ويؤدون أحيانا دورا مرسوما بدقة ، محددا بحنكة ، يظهر فيه الخليفة مسبل

ة فيعظون ، وربما خوفوه من النار ، وعذاب الجبار، ووحدة العينين ، يسألهم فيجيبون ، ويطلب منهم الموعظالقبر ، وموقف الحشر، وهو منصت خاشع ، تسيل دموعه مدرارا ، بينما هم مدركون لحدود الحديث ، ومدى الموعظة ، ال يتجاوزون إلى التعريض بالخالفة ، أو التهديد بتأليب الرعية ، أو الحكم بالكفر ، ذلك كله خارج

اريو المرسوم والمعلوم ، والذي ينتهي دائما بصراخ الخليفة ونحيبه ، حتى يخشى عليه أو يغشى عليه ، السينأيهما أقرب إلى قدراته ، وأنسب لملكاته ، وما أسرع ما ينتقل األمر إلى الرعية بسرعة البرق، فيتداولونه في

رعية يزيد وغير يزيد ، ونشرب معه المزيد ، خشوع وإيمان ، وينقله إلينا كتاب الديوان ، فنشربه كما شربته . مما تسطره أقالم المحترفين ، وتردده على مسامعنا ألسنة المكفرين والجهاديين ، ما علينا ، ففي الجعبة مزيد

غير أنا نتوقع أن يعترض علينا معترض ، رافعا في وجهنا ما يراه حجة ، منكرا علينا ما أنكرناه على يزيد ، نا أن يزيد لم يرتكب منكرا ، ولم يقترف إثما ، فالتسري بالجواري والتمتع بما ملكت األيمان أمر ال مؤكدا ل

ينكره الشرع ، وال يشترط فيه القران ، وال ينهى عنه القرآن ، وهو رخصة ترخص بها يزيد ، وترخص بها . كبار الصحابة قبل يزيد ، وهللا يحب أن تؤتي رخصة كما تؤتي عزائمه

وقد كان يزيد ككثيرين في عصرنا ، يتعشقون الرخص ، ويسبقون بها العزائم ، وهنا نقول له قف ، وحاذر فأنك تركب صعبا ، فنحن وأن وافقناك على أن التسري بالجواري والتمتع بها ملكت األيمان ، ال يتناقض مع روح

إلسالم روحا ، وللدين جوهرا ، وللرخص عصر يزيد ، وال يخالف أحكام القرآن ، إال أنك يجب أن تدرك أن ل . حدودا

وليس منطقيا أن تكون إباحة التسري سبيال إلى التهتك ، أو التمتع بما ملكت األيمان وسيلة لهجر اإليمان ، أو الحالل سبيال إلى التحلل ، وإذا كنا نناشد الرعية غض البصر ، ونتوعدهم بالعذاب إذا زنى النظر، فال أقل من أن ننهى الخليفة عن التفرغ للخلوة على أسر حال وأهنأ بال ، الثما راشفا متمنيا أن يطير، ال لشيء إال ألن هللا

. أعطاه جناحين ، من مال وسلطان ، فتوسع فيما ملكت األيمان

ي اللذات العباسي أنه : ) كان منهمكا ف –ولعل يزيد لم يكن في ذلك فلتة ، فقد روي عن الخليفة المتوكل ( . 346 – 394والشراب ، وكان له أربعة آالف سرية ، ووطىء الجميع ( ) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص

وقد تثير هذه القدرات الخارقة لعاب منتجي أفالم ) البورنو ( في عصرنا الحديث ، لكنها ممجوجة مكروهة إن ، ولعل هذا كاف حتى يلزم المعترض علينا حده ، كان الحديث عن الحكام، في اإلسالم أو حتى في غير اإلسالم

ويثوب إلى رشده ، ويتركنا ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده ، الوليد بن يزيد الذي أوصى له يزيد بالخالفة

Page 37: فرج فودة الحقيقة_العائبة

بعد أخيه هشام ، ووفى هشام بعهده ألخيه ، رغم ما كان يسمعه ويأتيه ، من أخبار فسق الوليد ومجونه ، وهي بعد واليته ، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه ، وفعل ما لم يفعله أحد في األولين واآلخرين ، أخبار تأكدت

حيث يروي عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط وصدق أو ال تصدق ، برشق المصحف بالسهام ، . رويهوكان إلى جانب ذلك شاعرا مطبوعا ، سهل العبارة ، يحسن اختيار األلفاظ و

وقد شاء هللا أن يروقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعرا يتناقله الرواة ، ويتبعونه بالعياذ باهلل ، وبال حول وال قوة إال باهلل ، وربما بشهادة أن ال إله إال هللا ، ومن حسن حظ الوليد ، وسوء حظ القارئ أن كثيرا من شعره

، وشذوذ أفعاله ، لكن ال بأس أن نبدأ حديث الوليد ته لوقاحة ألفاظهوبعضا من قصصه ، ال نستطيع رواي : بالمدافعين عنه

فقد ) قال الذهبي : لم يصح عن الوليد كفر وال زندقة ، بل اشتهر بالخمر والتلوط ، فخرجوا عليه لذلك ، وذكر فة هللا عنده أجل من أن يجعلها في الوليد مرة عند المهتدي فقال رجل : كان زنديقا ، فقال المهتدي : مه ، خال

زنديق (

هذا حديث المدافعين عن الوليد ، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة ، وهم في دفاعهم يسوقون حججا هشة ، فمن قائل أنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هين ويسير، ومن قائل أن هللا أرحم من

في زنديق ، بينما نرى أن هللا قد رحمنا بخالفة الزنادقة ، من أمثال الوليد ، حتى يعطي أمثالنا أن يجعل خالفتهحجة نفحم بها المزايدين ، المدعين أن الدولة ال تنفصل عن الدين ، وأنهما معا حبل اإلسالم المتين ، بينما حقيقة

مين ، وعلى رأسهم الحكام باسم اإلسالم ، وإنه ال األمر أن اإلسالم في أعلى عليين ، وأنه ال يضار إال بالمسلغير ملزمة ، أو إن شئنا –إن وجدت –ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا ، فبيعتهم مؤبدة ، والشورى

. الدقة مقيدة

من " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى –وأقرأ معي ما فعل الوليد حين )قرأ ذات يوم فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب " السهام " وأقبل يرميه وهو يقول: –ماء صديد "

فها أنا ذاك جبار عنيد أتوعد كل جبار عنيد

فقل يارب خرقني الوليد إذا ما جئت ربك يوم الحشر

ه ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته عن ربه ، وذكر محمد بن يزيد المبرد " النحوي " أن الوليد ألحد في شعر ل ومن ذلك الشعر:

بال وحي أتاه وال كتاب تلعب بالخالفة هاشمي

وقل هلل يمنعني شرابي فقل هلل يمنعني طعامي

حن نذكر له أن الوليد حاول ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق ال يذهل كما ذهلنا ، وال ينزعج كما حدث لنا ، ون نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عام حج هو ورفاقه وأن حاشيته نجحت في إقناعه أن ال يفعل بعد ألى ، وأنه

في ) تلوطه ( راود أخاه عن نفسه ، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان ، حتى غلبت شهوة الغناء ه كما يذكر المسعودي ، وتألق نجوم الغناء في عصره ، فكان منهم ابن والشراب على الخاصة والعامة في أيام

، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد ، فلم يعد يعنيه سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمانمة هللا أن يضيف إلى ذنوبه ذنبا ، أو إلى سيرته مثلبا ، شأنه في ذلك شأن ضعاف اإليمان ، حين يقنطون من رح

Page 38: فرج فودة الحقيقة_العائبة

، فيضاعفون من معاصيهم ، ونحن في هذا ال نلتمس له عذرا ، وإنما نعبر عن رأيه هو في نفسه ، حين أطلقه شعرا فقال :

قد طربنا وحنت الزمارة اسقني يا يزيد بالقرقارة

قد أحاطت فما لها كفارة اسقني اسقني، فإن ذنوبي

د أحاطت به الذنوب ، وتألب عليه الصالحون ، وانتهى األمر بخروج ابن عمه يزيد بن الوليد عليه وبالفعل ، فق، وقتله ، بعد خالفة قصيرة استمرت عاما وثالثة أشهر وشاء القدر أن تكون خالفة يزيد أقصر، فال تستمر إال

فقط ثم يعزل على يد مروان بن محمد ، خمسة شهور يموت بعدها ليتوالها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يوما انتقاما لمصرع الوليد بن يزيد ، ثم ينتهي عصر الدولة األموية بمصرع مروان على يدي العباسيين ، بعد خالفة

استمرت حوالي خمس سنوات .

ونتوقف قليال قبل أن ننتقل إلى خالفة العباسيين ، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلي :

ة األولى: النتيج

أننا نشهد في الدولة األموية عهدا مختلفا كل االختالف عن عهد الراشدين ، أضاف إلى فتوحات اإلسالم الكثير، حتى امتدت الدولة اإلسالمية من الهند شرقا إلى األندلس غربا ، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها

على آخر، إال في نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد ، ثم الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من األمويينخرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيرا بالنهاية ، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج واالنقسام داخل

اكيرهم ، األسرة الحاكمة حتى قتل اإلبن أباه ، واألب ابنه ، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم ، وقتلهم بسحق مذ وغير ذلك من األحداث على مدى الخمسمائة عام األخيرة في حكم العباسيين .

وعلى حين يبدو أبو جعفر المنصور ، والمأمون ، رجال دولة متفردين في تاريخ الدولة العباسية ، ال يناظرهم لدولة العظام ، وعلى أحد ، وال يطاولهم مطاول ، نرى أن الدولة األموية على قصر عمرها قد حفلت برجال ا

رأسهم معاوية ، ورجل الدولة األول في تاريخ الدولة اإلسالمية كلها .

وقد يتساءل البعض ، وأين عمر؟

ونرد عليه بأن عمر قد تفرد بأنه الوحيد في تاريخ الخالفة اإلسالمية الذي يمكن أن يطلق عليه وصف ) رجل فتان بعد ذلك ألحد ، فهناك رجال الدين مثل علي بن أبي طالب ، ) الدين والدولة معا ( ، بينما ال تجتمع الص

. رابع الراشدين ( ، وعمر بن عبد العزيز، ) األموي ( ، والمهتدي ) العباسي (

وهناك رجال الدولة مثل ) معاوية ( ، ) عبد الملك بن مروان ( ، ) الوليد بن عبد الملك ( ، ) هشام بن عبد خلفاء حكموا سبعين عاما ، بينما حكم الفترة الباقية ) اثنتين وعشرين عاما ( عشرة خلفاء الملك ( ، وهم أربعة

. بالتمام والكمال

وحينما نذكر أسماء الخلفاء األربعة السابقين مقترنا بلقب ) رجل الدولة ( ، نضع في اعتبارنا هيبة الحكم ، وفتح الخلفاء ، قد ارتبط ارتباطا وثيقا بفصلهم بين الدين والدولة عند الثغور، وعمارة البلدان ، وفي تقديرنا أن هؤالء

قيامهم بأمانة الحكم ، ولعل موقف معاوية من ) علي ( مثال أوضح على ذلك ، ولعل موقف عبد الملك بن

Page 39: فرج فودة الحقيقة_العائبة

، مروان من المصحف عندما بلغته نبأ واليته مثال أوضح ، وقد أدرك كل منهم أنه ال يولى بصفته األصلح دنياأو األكثر إيمانا ، وإنما يولى بوسائل دنيوية محضة ، وعليه إن أراد أن يستمر، أن يضع نصب عينه أن الوالية من جنس التولية ، فكالهما دنيا وسطوة وحكم ، وقد أجاد الخلفاء األربعة اختيار معاونيهم ، فكان منهم عمرو

لم بن عقبة ، والحجاج بن يوسف الثقفي ، وهم بموازين بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، ومسالسلطة والسطوة رجال ، وبمقاييس عصرهم قادة ، وهم أهل الدهاء ال النقاء ، والسيف ال المصحف ، وقد

أرتأوا جميعا أن أسهل السبل إلسكات المعارض قطع رأسه ، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن فيها ، هدوه بالرعاية حتى صار ماردا ، وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية ، رجل الغاية ال فمكنوه ووطنوه وتع

الوسيلة ، رجل الحكمة الشهيرة ) إن هلل جنودا من عسل ( ، حيث يروى عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه في عاوية ، أو غيره على العسل، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن ، واألشتر النخعي وغيرهم ، ورغم أن أحدا ال يقر م

فعالهم أو على األقل ال يدعو للتأسي بهم ، إال أنه من الواجب أن نتعلم مما فعلوا درسا بليغا ...

إن على الحاكم ـ أي حاكم ـ أن يتعرف جيدا على ساحته ، وأن يتمسك جيدا بأسلحته ، وأن ينأى بنفسه وبحكمه ى ساحتهم ، أو الرقص على أنغامهم ، ولو حاول معاوية أو عبد عن استعارة سالح اآلخرين ، أو االنتقال إل

الملك ، ولو حاول مساعدهم مثل زياد أو الحجاج ، أن يحتكموا إلى القرآن ، أو يناظروا مخالفيهم حول صحيح اإليمان ، أو يفسروا قراراتهم بتعاليم اإلسالم ، أو يتباهوا على المخالفين لهم والخارجين عليهم بالصالح والتقوى ونظافة اليد ونقاء السريرة ، النتهي حكمهم قبل أن يبدأ ، وألخلى معاوية مكانه لحجر بن عدى ،

ولتنازل عبد الملك عن منصبه للحسن البصري ، لكنهم احتكموا للسيف ، وهو دستور عصرهم ، فدانت لهم مان . الدولة ، وسهل عليهم الحكم ، وربما سعدت الرعية باالستقرار واألمن واأل

ولعل عصرنا ال يخلو من سيف متحضر هو الدستور، ال يسيل دما وإنما يحفظ استقرارا ، وال يطيح برؤوس وإنما يلزمها جادة الصواب ، وليس لحاكم في عصرنا ، أو لنظام حكم في عالمنا المعاصر إال أن يستوعب

الخارجين في ساحتهم ، أو بسالحهم أو أن درس السابقين ، بأسلوب العصر ال بأسلوبهم ، وليس له أن يحاور يرقص على أنغامهم ، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة في ساحته ، فليس أمامه وال أمامهم ساحة غير ساحة

الدستور، وليس هناك من سالح إال القانون ، وليس هناك من أنغام إال الديمقراطية والشرعية ، ليحمدوا هللا أن ، ولم يتطرف منا وليد ، ولم يتول وزارة الداخلية في بالدنا حجاج ، ولم يتملك منا عبد الملك ، يجدوا فينا يزيدا

ولم يدع أحد من حكامنا أنه ال حساب عليه وال عقاب ، غاية ما في األمر أنه يوكل إلينا حساب السياسة في م ، ويترك ونترك حساب اآلخرة أمور السياسة ، ويحتكم أمامنا إلى الدستور ومؤسسات الدولة في أمور الحك

إلى هللا وليس إلى الجماعات اإلسالمية أو أئمة المساجد المسيسين.

النتيجة الثانية :

أن الشعر واألدب وفن العمارة والغناء بل وأكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء ، قد بدأت في الظهور ار القيود ) الشكلية ( للدولة الدينية ووصلت للغاية في العصر والتألق مع نهاية الدولة األموية ، ومع انحس

. العباسي األول

يكاد القارئ يالحظ عالقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر واألدب والعلوم والفنون والفقه ، فحينما تزداد دولة الدينية إال العبادة هذه يتألق أولئك ، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شيء مع ازدياد سطوة الدين في ال

. وقصص الزهاد وأقوال الصالحين

Page 40: فرج فودة الحقيقة_العائبة

وال أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة ، وقد مضى عهد الراشدين ، وخلدت لنا لك كتب التاريخ سكناته وأحداثه ، فلم تسمع فيه قصيدة الفتة ، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان أو يبقى لألجيال ، ذألن الفن حرية ، والحرية ال تتجزأ ، والفنان ال يتألق إال إذا أحس بفكره طليقا ، وبوجدانه منطلقا ، وبوجدان

اآلخرين مرحبا ، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته ، مستعدة أن تغفر له شطحاته ، مقبلة على الحياة ال على الموت ، . متفتحة للنغم ال للوعيد

له جزء من طبيعة الدولة الدينية ، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها ، وال أحسب أن ذلك كأشد التناقض ، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو

، ال يمكن قبوله بمقاييس الدولة إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل ، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبال حسناالدينية بحال ، فاألغاني مرفوضة ، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف ، والمغنيات فاجرات

نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر هللا ويدعونهم إلى وإثارة للفتن ، واختالطها بالرجال جهر بالفسق ، والتمثيل مرفوض الفاحشة ، وممارسة المرأة للرياضة فتنة

ألنه كذب ، وألن هزله جد وجده هزل ورسم الصور لألحياء حرام ، وإقامة التماثيل شرك ، والديمقراطية مرفوضة ألنها حكم البشر وليس حكم هللا ، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن منكرا فهي مكروهة، وال والية للذمي ، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شيء ، ويظلموا كل شيء ، ويمنعوا كل شيء ، وأن تقام

دولتهم على أنقاض كل شيء ، وبديهي أن الحديث في هذا اإلطار عن حرية الفكر لغو ، وأن ادعاء حرية يستقيم مع الواقع ، وال يستقيم الواقع العقيدة هراء ، وأن تصور نهضة األدب أو الفن نوع من أحالم اليقظة ال

معه ، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على االمتناع عن بلورة برنامج سياسي متكامل ، به قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة ، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته ، وبه قدر ولو معقول من احترام عقولنا ، ناهيك

عن احترام مشاعرنا .

وننتقل إلى دولة العباسيين...

قراءة جديدة في أوراق العباسيين

ليست الدولة العباسية في حاجة إلى تقديم ، فقد قدمت نفسها على يد مؤسسها ، السفاح ، أول خلفاء بني العباس ، فأنا السفاح المبيح ، المعلن على المنبر يوم مبايعته ) أن هللا رد علينا حقنا ، وختم بنا كما افتتح بنا ، فاستعدوا

. والثائر المبير (

وقد أثبت السفاح أنه جدير بالتسمية ، فقد بدأ حكمه بقرارين يغنيان عن التعليق وأظن أنه ليس لهما سابقة في : التاريخ كله ، كما ال أظن أن أحدا بعد السفاح قد بزه فيما أتاه ، أو فاقه فيما فعل

( بلغة العصر الحديث فهو أمره بإخراج جثث خلفاء بني أمية من قبورهم 0ر رقم )* أما القرار األول ، أو القرا : ، وجلدهم وصلبهم ، وحرق جثثهم ، ونثر رمادهم في الريح ، وتذكر لنا كتب التاريخ ما وجدوه

( : فيقول ابن األثير) الكامل في التاريخ البن األثير

Page 41: فرج فودة الحقيقة_العائبة

يه إال خيطا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان )فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا ففوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد ، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته ، وكان ال يوجد في القبر إال

ط وصلبه العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا لم يبل منه إال أرنبة أنفه فضربه بالسياوحرقه وذراه في الريح ، وتتبع بني أمية من أوالد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إال رضيع أو من

هرب إلى األندلس(

ويروي المسعودي القصة بتفصيل أكثر فيقول ) مروج الذهب للمسعودي ( :

بن علي لنبش قبور بني أمية في )حكى الهيثم بن عدي الطائي ، عن عمرو بن هانئ قال : خرجت مع عبد هللاأيام أبي العباس السفاح ، فانتهينا إلى قبر هشام ، فاستخرجناه صحيحا ما فقدنا منه إال خورمة أنفه ، فضربه عبد

هللا بن علي ثمانين سوطا ، ثم أحرقه ، واستخرجنا سليمان من أرض دابق ، فلم نجد منه شيئا إال صلبه ه ، وفعلنا ذلك بغيرهم من بني أمية ، وكانت قبورهم بقنسرين ، ثم انتهينا إلى دمشق وأضالعه ورأسه ، فأحرقنا

، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليال وال كثيرا ، واحتفرنا عن عبد الملك فلم نجد إال شئون ا مع لحده خطا أسود كأنما خط بالرماد رأسه ، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد إال عظما واحدا ، ووجدن

. في الطول في لحده ، ثم اتبعنا قبورهم في جميع البلدان ، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم (

ولعلي أصارح القارئ بأنني كثيرا ما توقفت أمام تلك الحادثة بالتأمل ، ساعيا لتفسيرها أو تبريرها دون جدوى ، يجوز قتل الكبار تحت مظلة صراع الحكم ، وقتل الصغار تحت مظلة تأمين مستقبل مستبشعا لها دون حد ، فقد

الحكم ، ومحو اآلثار تحت مظلة إزالة بقايا الحكم ) السابق ( لكن إخراج الجثث .. وعقابها .. وصلبها .. وحرقها .. أمر جلل ..

دت شبه كاملة .. وعذبت ) إن جاز والطريف أن البعض رأى في ذلك معجزة إلهية ، فالجثة الوحيدة التي وجالتعبير ( وصلبت .. وحرقت ثم نثر رمادها في الريح هي جثة هشام بن عبد الملك ، وقد رأى البعض في ذلك انتقاما إلهيا من هشام إذ خرج عليه زيد بن علي بن الحسين ، وقتل في المعركة ، ودفنه رفاقه في ساقية ماء ،

لحشيش إلخفائه ، فاستدل على مكانه قائد جيش هشام ، ) فاستخرجه وبعث برأسه وجعلوا على قبره التراب واإلى هشام ، فكتب إليه هشام : أن اصلبه عريانا ، فصلبه يوسف كذلك ، وبنى تحت خشبته عمودا ثم كتب هشام

. ( 004ص3ج –إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح ( ) مروج الذهب للمسعودي

ا ما حدث لهشام باالنتقام وبالجزاء من جنس العمل ، فماذا نفسر ما حدث لغيره ، وفي أي نص من وإذا فسرنكتاب هللا وسنة رسوله وجد العباسيون ما يبرر فعلتهم ، وأين كان الفقهاء والعلماء من ذلك كله ، أين أبو حنيفة

ألربعين ، ولم الذوا بالصمت ولم الذ وعمره وقتها قد تجاوز الخمسين ، وأين مالك وعمره وقتها قد تجاوز اغيرهم بما هو أكثر من الصمت ، أقصد التأييد ، والتمجيد ، واألشعار ، ورواية األحاديث المنسوبة للرسول والمنذرة بخالفة السفاح ومنها ما أورده ابن حنبل في مسنده مثل ) يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من

. ال له السفاح ، فيكون إعطاؤه المال حثيا (الزمان وظهور من الفتن ، يق

ومثل ما ذكره الطبري من ) أن رسول هللا أعلم العباس عمه أن الخالفة تؤول إلى ولده ، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك ( .

أو لعلهم كانوا بقصة مأدبة السفاح ، وهي ما أشرنا إليه بالقرار الثاني في خالفته ، وهو قرار خليق بأن فيأيامنا هذه في معاهد السينما كنموذج رائع لحبكة اإلخراج ، وتسلسل السيناريو وترابطه ، ليس هذا فحسب ، بل

. أن القرار قد سبقته ) بروفة ( ، أي تجربة حية في نفس موقع التمثيل

Page 42: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ويق ، وكانوا ولن يشك القارئ في أن كل ما حدث كان مرتبا ، وأن األقدمين كانوا على دراية واسعة بفن التشأيضا على مقدرة كبيرة في تدبير المفاجأة ، ثم تبريرها بحيث تمر طبيعية ومتناسقة ومتسقة مع سياق األحداث ،

( ) دخل 333ص 9ج –ولنبدأ بالبروفة ولنقرأها معا كما ذكرها ابن األثير ) الكامل في التاريخ البن األثير ن بن هشام بن عبد الملك ، وقد أكرمه فقال سديف : سديف " الشاعر " على السفاح وعنده سليما

إن تحت الضلوع داء دويا ال يغرنك ما ترى من رجال

ال ترى فوق ظهرها أمويا فضع السيف وارفع السوط حتى

فقال سليمان : قتلتني يا شيخ ، ودخل السفاح وأخذ سليمان فقتل (

ر يمكن ترتيب سيناريو األحداث على النحو التالي : ومن قراءة ما ذكره ابن األثي

السفاح يبالغ في تأمينه وطمأنته بدعوته إلى الطعام ، –السفاح يؤمن أحد كبار األمويين ) نجل خليفة سابق ( ينطق الشاعر بأبيات تدعو لالنتقام من األمويين –يدخل شاعر على السفاح ويبدو دخوله كأنه مفاجأة –وإكرامه

ينفعل الخليفة بقول الشاعر فيقتل –يصرخ األموي قائال : قتلتني يا شيخ –تنكر معاملتهم بالرفق واللين وتس ينتهي المشهد . –األموي

واآلن إلى القرار أو الحادثة أو الفيلم الكامل لما فعله السفاح بعد ذلك وكرر فيه نفس ما حدث في البروفة ، مع ق في التمثيل ) باألمويين ( ، ولنقرأ معا ما ذكره ابن األثير : إتقان أكثر ، وتفنن غير مسبو

) دخل شبل بن عبد هللا مولى بني هاشم " وفي رواية أخرى سديف " على عبد هللا بن علي " وفي رواية أخرى على السفاح " وعنده من بني أمية نحو تسعين رجال على الطعام فأقبل عليه شبل فقال :

بالبهاليل من بني العباس األساسأصبح الملك ثابت

بعد ميل من الزمان وباس طلبوا وتر هاشم فشفوها

واقطعن كل رقلة وغراس ال تقيلن عبد شمس عثارا

وبها منكم كحر المواسي ذلها أظهر التودد منها

تعاس ) إلى آخر القصيدة .. ( أنزلوها بحيث أنزلها هللا بدار الهوان واإل

فأمر بهم عبد هللا ) وقيل أنه السفاح ( فضربوا بالعمد حتى قتلوا وبسط عليهم األنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا ( .

أدبة هي نفسها ، وما والرواية السابقة تبدأ بتأمين السفاح لألمويين الذين زاد عددهم هذه المرة إلى تسعين ، والمدام المضيف هو الخليفة فالكرم وارد ، والطمأنينة ال حد لها ، وفجأة يدخل الشاعر ، ويستنكر اكرامهم ، ويدعو

للثأر منهم ، فيتغير وجه الخليفة ، ويقوم إليهم ثائرا ، و...

دية ، بحيث تتلف بعض مراكز وهنا نتوقف ألن هنا جديدا مفزعا ، فقد أمر السفاح بضرب رؤوسهم بأعمدة حديالمخ ، ويبقى الجسد حيا ، مصطرعا بين الحياة والموت ، وما أن يرى السفاح أمامه تسعين جسدا منتفضا ،

Page 43: فرج فودة الحقيقة_العائبة

تقترب مسرعة من الموت ، وترتفع أصواتها باألنين ، حتى يأمر بوضع مفارش المائدة فوقهم ، ثم يجلس فوق أمامه فوق األجساد ، ويبدأ في تناول عشائه بينما البساط يهمد هنا ويهمد هذه المفارش ، ويأمر بالطعام فيوضع

هناك ، وبين همود وهمود ، يزدرد هو لقمة من هذا الطبق ، ولقمة من ذاك ، حتى همد البساط كله ، ففرغ من ، أو لخاصته ، طعامه ، وتوجه إلى هللا بالحمد ، وإلى حراسه بالشكر ، وإلى خاصته بالتهنئة ، ولعله قال لنفسه

وهللا ما أكلت أهنأ وال ألذ وال أطيب من هذا الطعام قط ، فليس أقل من هذا الحديث ما يالئم سلوك السفاح ، ذلك الذي يزدرد اللقيمات على زفرات األنين ، ويساعده على الهضم صعود األرواح ، وقد نفهم أن يقتل الحاكم

ن منافسيه على الحكم ، أو مناوئيه على السلطة ، فقد حدث هذا الجديد حكام األمس ، أو أن يتخلص بالقتل مكثيرا ، وأقرب نماذجه مذبحة المماليك بالقلعة على يد محمد علي ، لكن ما ال نفهمه ، أن يجلس الخليفة فوق

الضحايا ، وأن يهنأ له الطعام فوق بركة من الدماء ، وعلى بساط يترجرج مع اصطراع األجساد ، وعلى أنغام من صراخ الضحايا حين يواجهون الموت ، بل ربما وهم يسعون إليه هربا من األلم والعذاب ..

نحن هنا أمام تساؤل تطرحه هذه الحادثة، وأمثالها كثير، قبل السفاح وبعد السفاح ، ربما ليست بهذه الروعة في لنهاية تحمل نفس الداللة وتنقل إلينا نفس اإلخراج ، أو الحنكة في التدبير ، أو السادية في العبير ، لكنها في ا

الرسالة ، يتساوى في ذلك مقتل حجر بن عدي على يد معاوية أو الحسين على يد يزيد أو ابن الزبير على يد . الحجاج أو ) زيد بن علي ( على يد هشام

إسالمية حقا فنزنها والتساؤل عن كنه الخالفة التي يدعون أنها إسالمية وينادون بعودتها من جديد ، هل هيبمقياس اإلسالم ، فتخرج منه ، وتنبوعنه ، وينتهي الحوار حولها إلى موجز مفيد ، فحواه أنهم ادعوا أنها

إسالمية فأثبتنا أنها لم تكن ، وكفى هللا المؤمنين شر ) الخالفة ( ، أم أنها كانت حكما استبداديا يتستر برداء الدين نلقمهم حجرا علمانيا حين نوضح لهم الفرق بين استبداد الحكم الديني في العصور ، فنثبت عليهم الحجة ، و

الوسطى ، عصور االستبداد والتعذيب والجبروت ، وعلمانية العصر الحديث ، عصر الديمقراطية وحقوق . اإلنسان واحترام اآلدمية

جابة واضحة في الحالين ، غير أن أحسب أن األمر ال يخرج عن ادعاء من االدعاءين ، وأحسب أيضا أن اإل إلجابته : ذلك كله يطرح سؤاال أكثر وضوحا ، وهو لوضوحه وبساطته ال يحتاج من القارئ إلى جهد أو اجتهاد

ه ل صحيح أن العلمانية هم غرب ال هم شرق ، وأنها مبررة في الغرب باستبداد الحكم بالدين أو باسم الدين ، له ؟ ، أحسب أنه لو كان مبرر العلمانية في الغرب هو شرق نظيرا لذلك ، أو مثاال بينما لم نعرف نحن في ال

استبداد الحكم في الكنيسة ، لكان مبررها في الشرق هو استبداد الحكم في ظل ) الخليفة ( ، سلطان هللا في . أرضه ، القاتل لمن يشاء ، المانح للعطاء ، والمانح للبالء

وصف نفسه على المنبر بأنه السفاح المبيح ، فأن رياح بن عثمان والي الخليفة المنصور وإذا كان السفاح قد على المدينة قد وصف نفسه على منبر الرسوم بما هو أنكى حيث قال :

( . 040ص0ج –) يا أهل المدينة ، أنا األفعى ابن األفعى ( ) اليعقوبي

ة بأنهم أوالد األفاعي ، أيبقى من يدعي أن االستبداد باسم الدين وإذا تباهى الخلفاء بأنهم سفاحون ، وتباهى الوال هم غرب ، وأن العلمانية كخالص منه فكر غربي وافد ال عالقة له بواقع الشرق وهمومه ؟

أحسب أن البعض اآلن يردد بينه وبين نفسه ، ها هو يصطاد في الماء العكر ، ويتوقف كثيرا عند السفاح حتى الطعن في الخالفة اإلسالمية ، لكن ردنا عليه يسير ، فليست هناك عالقة بين السفاح وبين ينال مأربه في

Page 44: فرج فودة الحقيقة_العائبة

اإلسالم أو الحكم به ، فليقل عنه ما يشاء ، وليطعن فيه كما يشاء ، وليحاور وليداور ، فليس في هذا كله غناء ، ض ، والسماء ، سابع سماء .. فالمسافة بين حكم السفاح والحكم باإلسالم كالمسافة بين األرض ، سابع أر

أن الرد على ذلك من أيسر ما يكون ، فلوال اإلسالم ، المظهر ال الجوهر –حظي وحظ القارئ –ولحسن الحظ ، والرداء ال المضمون ، ما فعل السفاح ما فعل ، ال هو وال سابقوه ، وال الحقوه ، فأي والء كان يربط

ليس هو الوالء لخليفة المسلمين ، وللحاكم باسم اإلسالم ، وأي دافع لهذا المصري مثال بالسفاح في األنبار ، أالوالء ، أليس الدافع هو االرتباط باإلسالم ، وجيوش األحاديث النبوية التي نسبها الوضاعون للرسول حول

عة ، وكفر خالفة بني العباس ، واجتهادات الفقهاء عن طاعة الخليفة ولو كان غاشما ، وفسق الخارج عن الطاالمفارق للجماعة ، وأي مدخل ساقه السفاح في خطاب توليته وتناقله الرواة ، وردده الوعاظ ، أليس هو مدخل

( : 39 – 30ص 00ج –العدل والتقى والعقيدة ، أليس هو القائل على المنبر) تاريخ األمم والملوك للطبري

لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به ) الحمد هلل الذي اصطفى اإلسالم وشرفه وعظمه واختارهوالذابين عنه والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها وخصنا برحم رسول هللا صلى هللا عليه

إني ألرجو أن ال يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير وال الفساد من حيث جاءكم الصالح وما –وسلم وقرابته . نا أهل البيت إال هللا (توفيق

فقد أكمل داود بن علي الخطبة فقال : وألنه كان متوعكا

) لكم ذمة هللا تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى هللا عليه وآله وسلم وذمة العباس رحمه هللا أن نحكم فيكم بما ألزموا –هللا صلى هللا عليه وسلم أنزل هللا ونعمل فيكم بكتاب هللا ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول

طاعتنا وال تخدعوا عن أنفسكم فإن األمر أمركم ، فإن لكل أهل بيت مصرا وإنكم مصرنا ، إال وأنه ما صعد منبركم هذا " يقصد منبر الكوفة " خليفة بعد رسول هللا إال أمير المؤمنين علي وأمير المؤمنين عبد هللا بن محمد

ي العباس " فاعملوا أن هذا األمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم ( " وأشار بيده إلى أب

الحكم بما أنزل هللا إذن كان وسيلته إلى قلوب الناس وبيعتهم ووالئهم ..

السير في العامة والخاصة بسيرة رسول هللا كان ما عاهد عليه الناس وما بايعه الناس عليه .

خالفة العباسيين حتى يسلموها إلى عيسى بن مريم كان السبيل إلى استسالم الرعية لقدرها الحديث المختلق عن ، واالنشغال عن ظلم الوالة ، بصدق النبوءة المدعاة ..

هكذا بدأ أمر العباسيين ، وهكذا يبدأ أي أمر للحكم الديني وتحت نفس الدعاوي البراقة ، التي نسمعها كما سمعها .. الحكم بما أنزل هللا .. السير بسيرة رسول هللا .. تطبيق شرع هللا .. العدل .. البركة .. الكوفيون باألمس

وهكذا كان ينتهي األمر دائما .. كما رأينا في أول عهد السفاح ثم كما سنرى بعد عهد السفاح ، ذلك الذي ال خلفاء بني العباس ، ونقصد بها عدم ينتهي الحديث عنه ، إال بذكر سنة استنها ، ثم أصبحت قاعدة لمن تاله من

. احترام العهود والمواثيق ، والفتك باألنصار قبل المناهضين

وقد فعل السفاح ذلك في واقعتين شهيرتين األولى حين أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر يام من استسالمه ، والثانية حين قتل الخلفاء األمويين ، كتابا يحمل إمضاءه ويتعهد له باألمان ، ثم قتله بعد أ

وزيره أبا سلمة الخالل أحد مؤسسي الدولة العباسية في الكوفة ، وتعمد أن يتم ذلك على يد أبي مسلم الخراساني ، المؤسس األول للدولة ، حيث ال يعرف تاريخ الدولة العباسية في عهد السفاح فضال إال لرجلين ، أولهما أبو

دولة في خراسان وسلم الخالفة إلى السفاح ، وثانيهما عبد هللا بن علي عم السفاح وقائد جيوش مسلم الذي أسس ال

Page 45: فرج فودة الحقيقة_العائبة

العباسيين في موقعة الزاب التي انتصر فيها على األمويين انتصارا نهائيا ، ويقال أن السفاح كان يسعى لقتل . االثنين ، وهو ما ال نجد دليال عليه في كتب التاريخ

عفر المنصور ، ثاني الخلفاء العباسيين ، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية ، والذي يحتل فيها غير أن أبا جموقعا مناظرا لموقع معاوية في دولة األمويين ، قام بذلك الواجب خير قيام ، فسلط أوال أبا مسلم الخراساني لقتل

له صياح أبي مسلم : استبقني يا أمير المؤمنين عبد هللا بن علي ، ثم تولى هو بنفسه قتل أبي مسلم ، ولم يشفع لعدوك ، بل رد عليه : وأي عدو لي أعدى منك ؟

وليس للقارئ أن يتعجب حين يعلم أن أبا مسلم لم يفعل للسفاح ثم للمنصور إال ) كل الخير ( ، وأنه كان صاحب نصور له ، فقد دخل عليه ولي عهده ) الفضل األول عليهما وعلى دولتهما ، لكن ذلك بالتحديد كان سبب قتل الم

عيسى بن موسى ( فوجد أبا مسلم قتيال ، ) فقال : قتلته ؟ قال : نعم ، قال : إنا هلل وإنا إليه راجعون ، بعد بالئه وأمانته ؟ فقال المنصور : خلع هللا قلبك ! وهللا ليس لك على وجه األرض عدو أعدى منه ، وهل كان لكم ملك

في حياته ؟ (

هذا نموذج مثالي لما عرف باسم الميكيافيلية ، نسبة إلى ) ميكيافيلي ( ، والتي نوجز في تبرير الوسيلة بالغاية ، وتفصل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام ، وتبدو جلية على يد المنصور ، الذي وطأ بأقدامه

أ أوال بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول أعناق الرجال ، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم ، فهو يبدإلى المعارضين وهو ال يعرف إال القتل وسيلة للقضاء على معارضيه ، وال يعرف للعواطف سبيال ، وال تعرف

. العواطف إليه طريقا

) رجل بني وألنه قوي لم يحترم إال القوة ، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبد الملك ، ووصفه له بأنه أمية ( ، ثم إعجابه الشديد بعبد الرحمن بن معاوية بن هشام ، والخليفة األموي في األندلس ، وعلى الرغم من

هزيمة جيشه على يديه في أشبيليه ، بل ربما يسبب هذه الهزيمة التي لم تردعه ، ولم تمنعه من محاولة استمالته شاسعة المحل ، نائية المطمع ، عصبية الجند ، ضرب بين جندها بالهدايا ، ووصفه قائال : ).. اقتحم جزيرة

بخصوصيته ، وقمع ببعض قوة حيلته ، واستمال قلوب رعيتها .. إن ذلك لهو الفتى الذي ال يكذب مادحه ( .

بل يقال أن المنصور هو الذي سمى عبد الرحمن بصقر قريش ، ولما فشل في استمالته بالتودد أظهر وجها آخر وبه السياسي ، وهو الوجه الذي أظهره تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما أعلن أنه مستعد للتحالف ألسل

مع الشيطان لهزيمة النازية ، وهو نفس ما فعل أبو جعفر ، حين تحالف مع ) شارلمان ( ثم مع ) ببين ( ملكي ، ونجح لذي فشل في هزيمة عبد الرحمنالفرنجة ، ضد عبد الرحمن الخليفة األموي المسلم ، وهو التحالف ا

في ذات الوقت في اقرار القاعدة المنصورية :

افعل أي شيء .. اسلك أي سبيل .. تحالف مع أعدى األعداء .. المهم أن تصل إلى غايتك .. وتنتصر على در ما تستطيع عن عدوك ، وخالل ذلك كله انس اإلسالم ، وتغافل عن أحكام القرآن ، وتجاهل السنة ، وابتعد بق

سيرة الراشدين ، وتذكر فقط أنك ) سلطان هللا في أرضه ( ) وصف المنصور لنفسه في خطبة شهيرة بالمدينة ( ) وظل هللا الممدود بينه وبين خلقه ( ) التعبير األدبي الشائع عند وصف الخلفاء في العصر العباسي األول ( ،

. الفة ، وليس إلى حق الرعية في اإلختيارواستند في حكمك إلى حق بني العباس في الخ

ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور ، فما دام النسب هو الفيصل ، فهم أقرب إلى الحكم ، وأحق بالخالفة ، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية ، ومحمد العلوي المشهور باسم ) النفس الزكية

م من ناحية أخرى ، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية الخالفة بالنسب ، مع ( وأخيه إبراهيتجاهل كامل لما يسمى بالشعب ، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية ، فمحمد ) النفس الزكية ( وأخوه

Page 46: فرج فودة الحقيقة_العائبة

هذا ولهذا أحق ، والمنصور يرى إبراهيم ، يريان أنهما من نسل علي وفاطمة ، وأنهما حفيدا الرسول ، وأنهما بأرى أنها مأساة أن أبايع –بعد استئذان القارئ –أن العم أقرب من ابن العم ، وأنه بذاك ولذاك أحق ، وأنا

حاكما لمجرد أنه من نسل علي ، أو أناصر حاكما آخر ألنه من نسل العباس ، وأتجاوز فأقول : أنه لو عاش عت حفيدا من أحفاده لمجرد انتسابه إليه ، فالنبوة ال تورث ، والصالح ال ينتقل للرسول من نسله ذكور ، ما باي

. بالضرورة لألبناء ، وال مانع أن يكون ) نوح ( نبيا ، وأن يكون ابنه في ذات الوقت ) عمل غير صالح (

يرد على عرض غير أن الطريف في حوار المنصور والنفس الزكية ، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية المنصور باألمان بغمزة موجعة حين يذكر ) أي األمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ؟ أم أمان عمك عبد هللا بن

علي ؟ أم أمان أبي مسلم ؟ ( ، فيرد عليه المنصور غامزا في الحسن " جد النفس الزكية " قائال : ) ثم كان . حجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ، ودفع األمر إلى غير أهله (الحسن فباعها معاوية بخرق ودارهم ، ولحق بال

والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما ، ذلك الصلح الذي أثار مشكلة بسبب بطء ) وسائل االتصال ( في تلك األيام ، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية . وفي

الوقت كان معاوية قد ارسل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما يشاء ، نفسووصلت الرسالتان في وقت واحد ، وطمع الحسن فكتب في صحيفة معاوية شروطا جديدة طلب فيها أضعاف

اب معاوية ثم تصالحا على ما طلب في رسالته ، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخط ( . 004 – 000ص – 9خمسة ماليين هي أموال بيت مال الكوفة ) تاريخ األمم والملوك للطبري، ج

ولسنا في مجال تقييم فعل الحسن ، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح ، أراح المسلمين من القتال ، وأراح عبد حسن عليه السالم أن يأخذه لنفسه حتى كتب إلى معاوية يسأله هللا بن عباس ) الذي ما أن علم بالذي يريد ال

األمان ويشترط لنفسه على األموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية ( .

وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصيرة حتى نهاية حياته ، فقد قتل علي وتنازل الحسن وسمح لكوفة حتى حين ، فسوف يتخلص منه معاوية بدس السم له حين يرشح معاوية ، وسوف يهنأ أيضا الحسن بمال ا

يزيدا لخالفته ، ونعود إلى المنصور ، الذي لم يتحمل محاورة محمد طويال ، فقبض على أبيه وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت ، وهاجم محمدا بالمدينة وقاتله حتى قتله ، ثم هاجم أخاه إبراهيم في

البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور في ذلك كله مدافعا إال عن الملك ، فقد ) ذكر أن المنصور هيئت له –عجة من مخ وسكر فاستطابها ، فقال : أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه ( ) مروج الذهب للمسعودي

( . 364ص 3ج

سب ( ، وأن الطرف اآلخر كان يدافع عن ) العجة ( ، وإن والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن ) النالمسلمين في الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح اإلسالم ، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب

الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر ، ولم يكن األمر عسيرا بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات ما أنزل هللا موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل الرسول ، وفضائل علي ، ولم يكن الحكم ب

األمر عسيرا أيضا على المنصور ، فما أكثر األحاديث عن شق عصا الطاعة ، ومفارقة الجماعة ، وما أيسر م كتاب انتصار جيشه على إبراهيم االستشهاد بآيات اإلفساد في األرض ، فقد روي عن المنصور أنه عندما تسل

، تال هذه اآلية :

) والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها هللا، ويسعون في األرض لقك فسادا ، وهللا ال يحب المفسدين ( . ثم صعد إلى المنبر وقال : السعيد من وعظ بغيره ، اللهم ال تكلنا إلى خ

فنضيع وال إلى أنفسنا فنعجز، فال تكلنا إال إليك .

Page 47: فرج فودة الحقيقة_العائبة

وهكذا أقنع أفراد جيش المنصور أنفسهم بأن هللا نصر الحق بهم ، وسيجزي هللا الشاكرين ، وأقنع من تبقوا من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من هللا ، وبالء إلى حين ، وسيجزي هللا الصابرين ، وانطلق كل فريق قانعا بما اعتقد أنه جزاؤه من عند هللا ، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خالل ذلك كله موقفا مشهودا لفقيه ، أو دفاعا طليا عن الحق من إمام من أئمة المسلمين ، وما أكثرهم في عهد المنصور ، فقد عاصره أبو حنيفة ، ومالك ،

عباد بن كثير ، وجعفر بن محمد الصادق ، وغيرهم ، وما واألوزاعي ، وعمرو بن عبيد ، وسفيان الثوري ، وكان تعذيب المنصور ألبي حنيفة وحبسه وجلده ودس السم له في النهاية إال لرفضه والية القضاء ، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عاري الجسد غير مستور العورة تشهيرا به إال لذكره حديثا عن الرسول لم يعجبه ، وكال

قفين ال يصلحان نموذجا للجهاد ، أو مثاال على مناوأة الحاكم إن حاد ، أو دليال على أن الحق يعرف المو بالرجال ، وينصر بالرجال ، وينبري للدفاع عنه الرجال ..

وال بأس أن ننهي حديث المنصور ، بحديث ابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتابا صغير الحجم ، عظيم القيمة رسالة الصحابة ( نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه ، وحسن سياسة الرعية ، وكان في نصحه أسماه )

رفيقا كل الرفق ، رقيقا غاية الرقة ، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا يليق بجهده ، ولعله لم يب في رأي المنصور أن يمدح ، ومنتهى يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة ، وأن غاية دور األد

دور المفكر أن يؤيد ، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع ، أن يفعل به كما فعل بابن المقفع ، الذي قطعت أطرافه قطعة قطعة ، وشويت على النار أمام عينيه ، وأطعم إياها مجبرا ، قطعة قطعة ، حتى أكرمه هللا

ة ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين ، أي أمير وأي مؤمنين ، ولعله أدرك بالموت في النهايساعتها ما نتمنى أن يدركه من يتنادون بالخالفة ، ويتغنون بالشورى ، ويهاجمون الحكام ) العلمانيين (

لتطبيق الفوري للشريعة ويتصورون في الدولة الدينية مالذا ، وفي الحكم باسم اإلسالم موئال ورحمة ، وفي اوحدها عدال واستقامة ، وفي الديموقراطية جورا وحكما بالهوى ، ولعلنا نذكرهم أن المنصور وإن دخل التاريخ

من باب الجبروت إال أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء ، وهو إن جار فبفتوى البعض من الفقهاء ، قسا فبهدف بناء هيبة الدولة ، وأركان الحكم بمقاييس عصره ، وخوف البعض وصمت البعض اآلخر ، وهو إن

وهو إن أسال الدماء أنهارا ، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة اإلسالمية ، وأعاد التماسك إلى بنيانها ، وكانت حكمته البليغة نصب عينيه :

" إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك ، وإال فقبلها " .

وقد كان الرجل من القوة بحيث لم يـقبـل يد أحد ، وأورث ولده المهدي رعية مطيعة ، وثغورا منيعة ، وأورثها المهدي إلى ولديه الهادي ثم هارون الرشيد وأورثها هارون الرشيد ألوالده الثالثة األمين فالمأمون فالمعتصم

ى ما يعرف بالعصر العباسي األول ، أكثر عصور الدولة وأورثها المعتصم لولده الواثق ، وبحكم الواثق انتهاإلسالمية نهضة وحضارة ، وإذا توخينا الصدق لزدنا ) وفقها وطهارة ( وإذا أردنا استكمال الصورة ألضفنا وفسقا ومجونا ، وليس فيما ذكرناه مبالغة أو سعي وراء سجع الكلمات أو طنطنة الروي ، وإنما هي الحقيقة ال

أكثر ، فقد اجتمع كل ذلك معا ، ففي النهضة والحضارة يزهو عصر المأمون ويتألق فكر المعتزلة ، أقل والوتزدهر الترجمات ويكفي أن نذكر في العصر العباسي األول من أسماء اللغويين : سيبويه والكسائي ومن أسماء

األدباء والمؤرخين والشعراء :

باس بن االحنف ، وبشار بن برد ، وأبو نواس ، وأبو العتاهية ، وأبو تمام حماد الراوية والخليل بن أحمد ، والع . ، والواقدي واألصمعي ، والفراء وغيرهم

أما في الفقه والطهارة فهناك : أبو حنيفة ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل ، واألوزاعي ، والليث بن سعد ، في ( وأسد الكوفي ) الحنفي ( ، والزهري ، وإبراهيم بن وسفيان الثوري ، وعمرو بن عبيد ، وأبو يوسف ) الحن

أدهم الزاهد ، ونافع القارئ ، وورش القارئ ، وأبو معاوية الضرير ، وسفيان بن عيينة ، ومعروف الكرخي

Page 48: فرج فودة الحقيقة_العائبة

الزاهد ، وعلي الرضي بن موسى الكاظم ، وأحمد بن نصر الخزاعي ، وغيرهم ، أما الفسق والمجون فأبوابهما ونهما شتى ، وهناك في البداية ما يمكن أن نسميه بالمناخ العام ، وهو اإلطار الذي يسمح بالفسق ، كثيرة ، وفن

وال يستنكف المجون أو ما هو أكثر ، فقد أمتألت عاصمة الخالفة بالحانات ، وانتشر شرب الخمور والغناء في ن فقهاء الحجاز إباحة الغناء ، واشتهر مجالس الرعية ، ووجد الجميع مخرجا طريفا لما يفعلون ، فقد اشتهر ع

عن فقهاء العراق من أتباع أبي حنيفة إباحة الشراب ، فجمعوا بين فتوى الفريقين ، ولخصوا مذهبهم في قول الشاعر :

وفي الشراب رأي أهل العراق رأيه في السماع رأي حجازي

أو في قول ابن الرومي :

وقال حرامان المدامة والسكر أباح العراقي النبيذ وشربه

فحل لنا من بين قوليهما الخمر وقال الحجازي: الشرابان واحد

وأشربها ال فارق الوازر الوزر سآخذ من قوليهما طرفيهما

علي ولعل بعض القراء يندهشون ، وربما يسمعون للمرة األولى أن أبا حنيفة قد أباح أنواعا من الخمور ، بل ولأصارحهم بأن فتوى أبي حنيفة قد أجابت على سؤال حائر كان يدور في داخلي وأنا أقرأ عن الشراب والمنادمة في مجالس الخلفاء : هل وصل بهم التحلل من قيود الدين ، والخروج على قواعد اإلسالم ، أن يجاهروا بشرب

م الرعية ؟ الخمر في مجالسهم ، دون أدنى قدر من الحفاظ على المظاهر أما

ولعل فيما عرضه األستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى اإلسالم عن خالف الفقهاء حول الخمر ورأي أبي حنيفة : فيها ما يوضح األمر للقارئ

) ذهب األئمة الثالثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتا ، ففسروا الخمر في اآلية السابقة بما نبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها وقالوا كلها تسمى خمرا يشمل جميع األ

وكلها محرمة ، أما اإلمام أبو حنيفة ففسر الخمر في اآلية بعصير العنب مستندا إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر نبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ وأحاديث أخرى ، وأدى به اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من األنبذة ك

وشرب منه قدر ال يسكر ، وكنوع يسمى " الخليطين " وهو أن يأخذ قدرا من تمر ومثله من زبيب فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنا ، وكذلك نبيذ العسل والتين ، والبر والعسل . ويظهر اإلمام أبا حنيفة

صحابي الجليل عبد هللا بن مسعود ، فقد علمت من قبل أن ابن مسعود كان إمام مدرسة في هذا كان يتبع الالعراق ، وعلمت مقدار االرتباط بين فقه ابي حنيفة وابن مسعود ، ودليلنا على ذلك ما رواه صاحب العقد عن

عه عامة التابعين ابن مسعود من أنه : كان يرى حل النبيذ ، حتى كثرت الروايات عنه ، وشهرت وأذيعت واتب من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم :

في جوف خابية ماء العناقيد ؟ من ذا يحرم ماء المزن خالطه

إني ألكره تشديد الرواة لنافيه ، ويعجبني قول ابن مسعود (

يرتبط بينهما من لهو وقيان وغلمان ، كان ما سبق هو المناخ العام أو األرضية الممهدة للغناء والشراب وما أما اللهو فسمة العصر ، وأما القيان ففارسهم المهدي وولده الرشيد ، وأما الغلمان ففتاهم الواثق ، وسوف يأتي

Page 49: فرج فودة الحقيقة_العائبة

حديث كل منهم في موضعه ، غير إنا نتوقف قليال أمام فتاوى الخمر السابقة متأملين ، متعجبين من تشدد . المعاصرين

منهم يصر على أن عقوبة الخمر أحد الحدود ، وهو في ظني يتجاوز الحقيقة بحسن النية ، واألرجح فالبعض في تقديرنا أنها عقوبة تعزيرية ، نشترك في هذا مع رأي الشيخ محمود شلتوت وغيره ، ومن الواضح في فتوى

ب القليل من أكثر أنواع الخمور أبي حنيفة ، ومذهب ابن مسعود ، أن العقوبة قاصرة على السكر البين ، أما شرفال عقوبة عليه ، وهنا يبدو منطقيا أن تسقط عقوبة البائع والمشتري والناقل والصانع .... إلى غير ذلك مما

اجتهد بشأنه المتشددون وساقوا عليه األدلة واألحاديث ، وال بأس ما دمنا نتحدث عن المتشددين أن نذكر صى للعقوبة وهو الجلد ثمانين ، وهم في ذلك يستندون إلى قياس لعلي ابن أبي إصرارهم على األخذ بالحد األق

طالب حين سأله عمر المشورة فقال :

من سكر فقد هذى ، ومن هذى فقد افترى وحده ثمانون ، ومعنى هذا أن عليا افترض أن من يسكر يفقد عقله يجلد حد القذف أي ثمانين جلدة ، والغريب أننا وأن من يفقد عقله يسهل عليه قذف اآلخرين ، ومن هنا يمكن أن

لم نناقش هذا القياس أو نراجعه ، وشاع التسليم به وكأنه تنزيل من التنزيل ، بينما هو في تقديرنا قياس أقل ما يوصف به أنه غير دقيق ، فما أيسر أن نسوق على منواله أكثر من قياس وأكثر من عقوبة ، دون أن يملك من

. ياس األول أن يعترضوا عليناسلموا بالق

فمثال نقول : من سكر فقد صوابه ، ومن فقد صوابه زنى ، أو قتل ، أو سرق ، وحده الرجم ، أو القتل ، أو القطع ، بل نستطيع أن نقول : من سكر فقد صوابه ، ومن فقد صوابه فال عقاب عليه فيما فعل ، ويسقط القياس

. واالستدالل من أساسه

غرب ما الحظناه ، على عكس ما كنا نتصور ، أن السابقين كانوا أكثر تسامحا ، ربما ألن الحياة كانت ولعل أمعطاءة ، وكان اتساع أبواب االجتهاد أحد عطاياها ، وقد سقنا في األمور المشتبهات رخصة التنقل بين فقه

القريب ، وهو تعدد الزوجات ، الذي لم الحجاز وفقه العراق ، ونسوق أيضا ما كان منتشرا حتى عهد أجدادنا ييسره الدين فقط ، بل يسرته أيضا سبل الحياة ، وتوسع البعض فيه مثل الحسن بن علي ، الذي ذكر أنه تزوج سبعين وقيل تسعين ، وأنه كان يتزوج أربعا ويطلق أربعا ، والذي خشي اإلمام علي من أن يفسد عليه القبائل

يبادرهم صائحا : يا أهل الكوفة ال تزوجوا الحسن فأنه رجل مطالق ) تاريخ الخلفاء بطالق بناتها ، فكان ( . 040للسيوطي

ولم يسمع أحد كالمه ، فقد طمع الكل أو تطلع إلى نسل ينتسب للرسول ، وبجانب ذلك كان هناك بابان للتمتع هله بعض المعاصرين أو صعب عليهم بالحياة ، والحياة في المتع ، باب منهما لم يختلف أحد عليه ، وإن ج

. تصوره ، وباب آخر أثار وال يزال يثير كثيرا من الخالف

أما الباب األول فهو التسري بالجواري ، وهو جانب من جوانب نظام الرقيق ، الذي ظهر اإلسالم وهو جزء من الخير عظيم ، وجانب ذو شأن إطار الحياة ، فلم ينكره أو يدنه ، وإنما حث على العتق ، وهو باب من أبواب

جليل من جوانب روح اإلسالم ، تلك التي نجدها اليوم متناسقة مع عالم المساواة بين الجميع ، ومتناغمة مع إلغاء الرقيق عالميا ، بينما لو توقفنا عند ظاهر النص ألنكرنا المساواة ، والستنكرنا اإللغاء ، وألننا من أنصار

نفسر موقف اإلسالم من الرق بما نكرره ونعيده دون أن نمل ، وهو أن الدين لم ينزل الروح والجوهر ، فإننامن أجل عصر واحد ، وأن القرآن لم يتنزل لكي يناسب زمنا معينا، وإنما نزل الدين وتنزل القرآن لكل عصر

ن له أن يضيق بعصر ولكل زمان ، وهو وإن سمح بالرق فقد تسامح مشجعا العتق ، ومال إلى الحرية ، ولم يكأو يتوقف عند زمن ، وهو في سماحه بالرق أباح للمالك أن يتمتع بالجارية األنثى ، وأن يتسرى بها ) أي

. يعاشرها ( وراعى أن ينسب األبناء آلبائهم في الفراش

Page 50: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ر الدولة وكان للجواري مصدران ، أولهما الشراء ، وثانيهما غنائم الفتح ، وقد اتسع المصدر الثاني في صداإلسالمية ، وتعددت موارده ، فظهرت الجواري المولدات ، الحور ، الروميات والفارسيات والحبشيات ، وكثر ) العرض ( بلغة حياتنا المعاصرة ، وتجاوز ) الطلب ( كثيرا ، حتى أصبح معتادا في كتب التاريخ اإلسالمي

وحتى ذكر المؤرخون أن اإلمام ) علي ( وهو أحد أكثر أن نقرأ أن فالنا أهدى لغالمه جارية أو جاريتين ، 9الخلفاء زهدا قد ) مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي هللا عنه ( ) البداية والنهاية البن كثير م

( . 070. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 099ص7ج

بالمئات في عهد يزيج بن عبد الملك وقد زاد هذا الرقم حتى أصبح بالعشرات في عهد أوائل خلفاء بني أمية ، ثم، ثم باآلالف في عهد الخلفاء العباسيين ، حتى وصل الرقم إلى أربعة آالف سرية كما ذكرنا في حديث المتوكل ، الذي ) وطئ الجميع ( خالل خالفته التي دامت نحو ربع قرن ، وهو رقم قياسي فيما نعتقد ، ويستطيع القارئ

ث عن هذا الباب في ) األغاني ( لألصفهاني وفي ) أخبار النساء ( البن قيم الجوزية ، و أن يجد مزيدا من الحدي) طوق الحمامة ( البن حزم و ) اإلمتاع والمؤانسة ( ألبي حيان التوحيدي ، وفي أقوال كثير من الخلفاء التي

بربرية ، ومن أراد أن يتخذها نذكر منها قول عبد الملك بن مروان ) من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها ( 000للولد فليتخذها فارسية ، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذه رومية ( ) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص

ولعل هذا القول كاف إلفحام من يتصورون أن منهج ) التخصص ( منهج غربي معاصر، ولعلنا به أيضا ننهي أشرنا إليهما ، وهو الباب الذي وصفناه بأنه متفق عليه بال خوف ، ومباح حديث الباب األول من البابين اللذين

بال شبهة ، وإن كنا نلمح ظاهرة إيجابية تتمثل في عتق الخلفاء ألمهات األوالد ، وهي خطوة في طريق طويل . انتهى بإنهاء الرق واستنكاره دون حرج ديني ودون خروج على روح الدين وجوهره كما ذكرنا

لباب الثاني المختلف عليه ، فهو ما عرف بزواج المتعة ، ذلك الذي أباحه الرسول في غزوتين ، ثم حرمه أما افي حجة الوداع ، وكانت إباحته لما يمكن أن يطلق عليه اسم ) الضرورة القصوى ( في ظروف الغزو ، وكان

. تحريمه لكونه إذا أبيح بإطالق كان أقرب للزنا منه للزواج

قف قليال حتى ال يحدث للقارئ لبس ، فإباحته للضرورة في واقعتين ) في زمن خيبر وفي عام الفتح ( وهنا نتوأمر لم يختلف عليه أحد ، وتحريمه في حجة الوداع أيضا ال خالف عليه ، ووصفه باقترابه من الزنا أكثر من

: إن رسول هللا صلى هللا -د صحيح كونه زواجا رأي ابن عمر حين ) قال ـ فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناعليه وسلم " أذن لنا في المتعة ثالثا ثم حرمها ، وهللا ال أعلم أحدا تمتع وهو محصن إال رجمته بالحجارة " )

الشيخ سيد سابق ( . –فقه السنة

ه سئل عن المتعة وفي قول علي : لوال تحريم المتعة ما زنى إال شقي ، وفيما نقله البيهقي عن جعفر بن محمد أن . ( 93ص –فقال : هي الزنا بعينه ) فقه السنة

أما الحل للضرورة فهو منهج شرعي مقبول شريطة أن يكون تقدير الضرورة صحيحا ، وليس أكثر من . الرسول قدرة على التقدير أو صوابا في الحكم فهو الذي ال ينطق عن الهوى

الرجل على المرأة لزمن محدد يتمتع فيه بها ) يوما أو أسبوعا أو وزواج المتعة باختصار شديد هو أن يعقدشهرا .. ( وذاك لقاء مبلغ معين من المال ، وبمجرد انتهاء األجل ينتهي العقد تلقائيا ، وفقهاء السنة جميعا

يجمعون على تحريمه تحريما قاطعا مستندين إلى حديث الرسول في حجة الوداع :

90ص –اس إني كنت أذنت لكم في االستمتاع ، أال وإن هللا قد حرمها إلى يوم القيامة ( ) فقه السنة ) يا أيها الن . )

Page 51: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ويجمع أغلب فقهاء السنة ) رغم وصفهم لهذا الزواج بالزنا ( على استبعاد عقوبة الرجم لوجود شبهة ناتجة ـ ) ، واشتهر ذلك من ابن عباس رضي هللا عما روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين أن زواج المتعة حالل

عنه ( غير أن األمر قد اختلف بالنسبة ألغلب فقهاء الشيعة حين أباحوه ، وفسروا نصا قرآنيا بما يفيد اإلباحة ، ونفوا أن تكون السنة ناسخة للقرآن ، ورد عليهم فقهاء السنة برأي آخر في تفسير النص ، وبمناقشات مستفيضة

نة ألحكام القرآن مستدلين بحكم الرسول بالرجم في الزنا بينما النص القرآني ال يتجاوز الجلد عن جواز نسخ السولم يرد حكم الرجم في القرآن على اإلطالق ، وهي قضية خالفية أخرى ال نريد أن نشغل القارئ بها ، وإن كنا

إلسالمي في صدر الدعوة ولعدة مئات نناشده أن يحلق معنا في سماء التخيل لهذا المجتمع ، ونقصد به المجتمع اتالية من السنوات ، حيث تعدد الزوجات هو القاعدة ، والطالق يسير والزواج الجديد أيسر ، والبعض يقنع بالزوجات األربع وال يطلق منهن إال نادرا وللضرورة ، والبعض اآلخر يطلق أربعا ليتزوج أربعا دون أن

النتقاد ، والجميع يتسرى ومنهم الزاهد القانع بتسعة عشر ، وزهد) علي ( يكون ذلك مدعاة لنقد ، أو سببا . وورعه ونزوعه عن الدنيا واستعالؤه عن مغرياتها ال يحتاج إلى سند وال يعوزه دليل

ومنهم من يصل بالرقم إلى خانات العشرات والمئات واآلالف ، وقطاع كبير من المسلمين هم الشيعة يضيفون زواج المتعة ذلك الذي يبيح للمسلم إن أعجبته امرأة أن يتزوجها يوما أو شهرا أو بعض شهر ، إلى ذلك حل

وينفحها مقابل ذلك مبلغا من المال ثم يفارقها دون إحساس بذنب أو تأنيب لضمير، هذا كله في إطار الحالل إن جاوزنا زواج المتعة لدى السنة ، أو أوردناه لدى الشيعة .

لئ كتب التاريخ عن أواخر العصر األموي وأغلب العصر العباسي بأحاديث المغنيات والقيان والغلمان بينما تمت، وهو ما نطرحه جانبا مقتصرين على الحالل ، متسائلين في هدوء هل هناك ضرورة للزنا في مثل هذا

وة ؟المجتمع ؟ ، وهل يعقل أن يدعي أحد في مثل هذا المناخ أن العقاب بالرجم فيه قس

ال شك أن القارئ سوف يتفق معي ، وسوف يؤيدني في أن من يأتي الزنا بعد هذا كله ، ورغم هذا كله وفي ظل هذا كله ، مختل العقل بال شك ، شاذ الطبيعة بال مراء ، وربما أنصفناه فتصورناه ساعيا لالنتحار، غير أن

ة أو في يسر ، فدون ذلك من الشروط ما يكاد يصل اختالله أو شذوذه أو انتحاره لن يصل به إلى حتفه بسهولبعقوبة الزنا إلى الوصف باالستحالة ، فالبد من توافر أربعة شهود عدول من الرجال ) وال تقبل شهادة النساء

وال شهادة الفسقة ( ، وأن يشاهد هؤالء فعل الزنا بما ال يتيسر إال لمشارك للزناة في الفراش ، بل إن شئت الدقة لغطاء ، مع تحرز آخر بأن يكون) قصير النظر ( حتى يشاهد عملية الزنا نفسها ) كالميل في المكحلة في ا

والرشاء " الحبل " في البئر ( .

ولو شهد ثالثة منهم وشهد الرابع بخالف شهادتهم أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم على الشهود حد القذف وهو ثر في قراءتنا لكتب التاريخ على إشارة ولو من بعيد إلى تطبيق لحد الجلد ، ولعل هذا هو السبب في أننا نع

الرجم ، بل إن المرة الوحيدة التي كاد يطبق فيها الحد في عهد عمر ، انتهت ، بجلد الشهود ، على الرغم من ستحق أن تيقن القارئ ، بل وربما تيقن عمر نفسه من الفعل ، بدليل عقاب الفاعل بنزعه عن الوالية ، والقصة ت

تروى ، لطرافة أحداثها ، ولكونها في ذات الوقت نموذجا يثبت أن البشر هم البشر في كل عصر ، وأن عهد عمر نفسه لم يخل مما لو حدث اليوم لوصفناه بالكارثة ، والرتفعت األصوات في كل واد باستنكاره ، ألن

ي عالم اليوم أحد الوزراء أو على وجه الدقة الواقعة مست أحد والة األمصار ، وهو ما يمكن أن يقاس عليه ف . أحد نواب رئيس الوزراء

هجرية ( وحدث منه أو قيل عنه ما 07فقد كان ) المغيرة بن شعبة ( واليا على البصرة في عهد عمر ) سنة ( : 076 – 003ص3ج –يروي الطبري في تاريخه على النحو التالي ) تاريخ الطبري

Page 52: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ن محمد والمهلب وطلحة وعمرو بإسنادهم قالوا كان الذي حدث بين أبي بكرة ) عن شعيب عن سيف عوالمغيرة ابن شعبة أن المغيرة كان يناغيه وكان أبي بكرة ينافره عند كل ما يكون منه وكانا بالبصرة وكانا

قابلة األخرى ، متجاورين بينهما طريق وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما ، في كل واحدة منهم كوة مفاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه ، فبصر

بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة ، فقال للنفر قوموا فانظروا ، فقاموا فنظروا ثم ة األفقم ، وكانت أم جميل إحدى بني عامر بن صعصعة ) كذا في قال اشهدوا قالوا ومن هذه ، قال أم جميل ابن

األصل والمقصود إحدى نساء بني عامر ( ، وكانت غاشية للمغيرة وتغشى األمراء واألشراف ، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها ، فقالوا إنما رأينا أعجازا وال ندري ما الوجه ، ثم أنهم صمموا حين قامت ، فلما

ج المغيرة إلى الصالة حال أبو بكرة بينه وبين الصالة ، وقال ال تـصل بنا ، فكتبوا إلى عمر بذلك ، وتكاتبوا خرفبعث عمر إلى أبي موسى فقال يا أبا موسى إني مستعملك ، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ ،

أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد ، وبلغ المغيرة ، ثم خرج… فالزم ما تعرف ، وال تستبدل فيستبدل هللا بك ، أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال وهللا ما جاء أبو موسى زائرا وال تاجرا ولكنه جاء أميرا ، فإنهم لفي ذلك إذ

جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إليه أبو موسى كتابا من عمر ، وإنه ألوجز كتاب كتب به أحد من الناس ، أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث وأمر،

. " أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرا ، فسلم ما في يدك ، والعجل "

" أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ، ليأخذ لضعيفكم من قويكم ، وليقاتل وكتب إلى أهل البصرة : . صي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم ، ولينقي لكم طرقكم "بكم عدوك ، وليدفع عن ذمتكم ، وليح

وأهدي له المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعي عقيلة وقال إني قد رضيتها لك وكانت فارهة ، وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر ، فجمع بينهم وبين المغيرة

المغيرة " سل هؤالء األعبد كيف رأوني ، مستقبلهم أو مستدبرهم ، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها ، فإن ، فقال كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر ، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلى في منزلي ، على امرأتي ، وهللا ما

أتيت إال امرأتي ، وكانت شبهها .

نه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحله ، قال كيف " فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أ . رأيتهما ، قال مستدبرهما ، قال فكيف استثبت رأسها ، قال تحاملت

ثم دعا بشبل بن معبد فشهد بمثل ذلك ، فقال استدبرهما أو استقبلتهما ) ينفرد الطبري بذكر هذا االختالف ( ، أبي بكرة ، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم ، قال رأيته جالسا بين رجلي امرأة ، فرأيت وشهد نافع بمثل شهادة

قدمين مخضوبتين تخفقان ، وإستين مكشوفتين ، وسمعت حفزانا شديدا ، قال هل رأيت كالميل في المكحله قال . ال ، قال فهل تعرف المرأة قال ال ، ولكن أشبهها ، قال فتـ نـ ح

فجلدوا الحد ، فقال المغيرة اشفني من األعبد ، فقال : اسكت ، اسكت هللا نأمتك ، أما وهللا تمت وأمر بالثالثة . الشهادة لرجمتك بأحجارك ( ) في رواية أخرى بأحجار أحد (

والرواية السابقة تقدم نموذجا رائعا ودقيقا لمذكرة اتهام تفصيلية ، يبدو فيها سبب توافر الشهود مقنعا ، وهوسبب فرضته ظروف البناء في عصر عمر، ويبدو فيه موقف المغيرة ضعيفا ، ويبدو فيه وصف واقعة الزنا

مثيرا ، ويبدو فيه أيضا أن ظاهرة ) أم جميل ( كانت شائعة لدى علية القوم ، ويبدو فيه أيضا أن الحد كان على ية أو رثت شبهة حين قال أنه لم يتحقق من وجهها وشك أن يقام لوال أن زيادا في اللحظة األخيرة تلجلج في جزئ

. وإن كانت تشبهها

Page 53: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ولنا أن نذكر للقارئ هنا معلومة طريفة وهي أن المغيرة بعد ذلك كان أحد قادة معاوية ، وأن زيادا بعد ذلك كان شهادة ، فتوسط له أحد قادة علي ، وأنه لما توطد األمر لمعاوية ، تذكر المغيرة فضل زياد عليه حين تلجلج في ال

لدى معاوية ، الذي قبل الوساطة فنسبه إلى أبي سفيان وواله البصرة ، ثم أضاف إليه الكوفة ، وذكر عنه التاريخ بعد ذلك ما ذكر ، من قسوة وبطش وإرهاب ، ونعود إلى حديث المغيرة أو حادثته ، ونتساءل ، ماذا

أو الوزراء أو المحافظين ما حدث من المغيرة ، ألم يقول المتطرفون لو حدث من أحد نواب رئيس الوزراءيمألوا األرجاء صراخا عندما انتحرت إحدى الفتيات في منزل ملحن مشهور وتنادوا بأن مصر كلها قد تحولت

. إلى ماخور ، وأن العالج كامن في تطبيق حد الزنا ، حتى تعود ) مصر الحانة ( إلى ) مصر اإلسالم (

بناء المساكن في عهد عمر هو السبب في فضيحة المغيرة ، فماذا يكون الحال بالنسبة لمبانينا وإذا كان أسلوب الحديثة ، التي ال يستطيع فيها الهواء أن يرفع شيش النافذة أو زجاجها ، ناهيك عن أبوابها ومغاليقها وأقفالها ؟

حال في مواجهة شهود مهنتهم الشهادة ، ولو وإذا كان تلجلج أحد الشهود هو مبرر نجاة المغيرة ، فماذا يكون الزادهم المغيرة خمسا ألقسموا أنه كان مستقبلهم وأنها كانت زوجته ، ولو أنقصهم خمسا ألقسموا أنه كان

مستدبرهم وأنها كانت أم جميل .

جين من القارئ أن المغيرة بقصته ، ونضيف إليها جديدا ، را –أو يمتعنا –ونعود إلى تساؤالتنا قبل أن يفاجئنا يكون منصفا في إجابته : هل بوسعنا أن نساوي في العقوبة بين من أتاحت له ظروف الحياة تعدد الزوجات

وأتاحت له ظروف الفتح وانتشار الرق تعدد الجواري المستمتع بهن حتى بلغت العشرات ، وأتاح له اجتهاد ابن المعاصر الذي ال يستطيع أن يتزوج بواحدة لعجز ذات اليد عباس أو مذهب التشيع زواج المتعة ، وبين شبابنا

عن دفع المهر ، وعجز إمكانيات المجتمع عن توفير مسكن الزوجية ؟

هل يعامل هذا على قدم المساواة مع ذاك ؟ ، أال تشفع ظروف الحياة المعاصرة وقد ذكرنا طرفا منها لشبابنا في عهد عمر ؟ المعاصر ، كما شفعت ظروف المجاعة للسارقين

نحن هنا ال تدعو للزنا أو نبرر إباحته كما يحلو للبعض ممن ال يرى الحياة إال من خالل رجل وامرأة والشيطان ثالثهما أن يتقول وأن يغمز عن جهل أو يلمز عن شبق ، وال نفعل ما يفعله البعض ممن يؤثرون السالمة

ن أو المحصنة عن ثقة كاملة منهم أنه حد مستحيل التطبيق ، فيطالبون بإقامة حد الزنا وأن يكون الرجم للمحصوألن الجريمة التي تعاقب عليها الشريعة أقرب إلى إتيان الفعل العلني الفاضح في الطريق ، بدأنا نواجه األمر

بالمنطق والعقل ، تماما كما واجهه عمر في حد السرقة حين تجاوز ظاهر النص والعقوبة إلى العالقة بين سباب والنتائج ، بل وأكثر من ذلك نفتح ملف حادثة مازالت ملء السمع والبصر ، وهي حادثة اغتصاب ستة األ

من الشبان لفتاة كانت تجلس مع خطيبها في إحدى السيارات في منطقة نائية في ضاحية المعادي ، وقد أثبت ه الحادثة ، وانطلقت األصوات مطالبة تقرير الطبيب الشرعي أنها عذراء ، وقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذ

بتطبيق الشريعة وكأنها الحل ، وظلت الصفحات الدينية تردد على مسامعنا وأمام أبصارنا دون ملل أو كاللة مقولة واحدة متكررة : " طبقوا حد الزنا " ، " طبقوا حد الزنا " ، بينما تقرير الطبيب الشرعي ينفي واقعة الزنا

كارة شبهة تنفي تطبيق الحد بإجماع الفقهاء ، وقد حكم القضاة بإعدام خمسة من الشبان ، من أساسها ألن البوعدل الحكم في االستئناف إلى إعدام اثنين ، وأدلى المفتي السابق بحديث عن أن الحكم مطابق للشريعة واصفا

. التهمة بأنها إفساد في األرض ، ويعلم هللا أنها ليست كذلك

في األرض تختص باألموال وليس الفروج ، وهي عقوبة محددة في كل جزئية فيها ولها من فعقوبة اإلفسادالشروط ما ال ينطبق على هذه القضية بحال ، والنتيجة ببساطة أن القانون الحالي يعاقب على جرائم يعسر على

، ليس لعجز فيها ، معاذ الشريعة أن تعاقب عليها ، وبعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة هللا ، بل لقصور من يتناولنها من هواة وصف القوانين الوضعية بالمخالفة لروح اإلسالم ، واإلصرار على

Page 54: فرج فودة الحقيقة_العائبة

التوقف أمام ظاهر النص ال جوهره ، هؤالء الذين ترتعد فرائصهم حين نطالبهم بالتأسي بعمر ، وباالجتهاد كما يقه مستحيال أو كان من الممكن بالقوانين السائدة مواجهة الجريمة اجتهد ، وبتعطيل ظاهر النص إن كان تطب

والعقاب عليها واستئصالها إن أمكن ، وهو الهدف النهائي لإلسالم ، والجوهر الحقيقي لروحه بل إني أتحداهم . في هدوء ، وأعلن لهم أنني لن أكتب حرفا بعد ذلك إن خسرت التحدي ، والحكم بيني وبينهم للقراء

أقول لهم : أمامكم في سجالت القضاء قضايا للزنا وملفات لآلداب تعود إلى نصف قرن ، ادرسوها جميعا وابحثوها جميعا ، واعطوني مثاال واحد لقضية واحدة يمكن أن يطبق فيها حد الزنا ، وبالطبع فال عبرة هنا

لسارية ، ولو تقررت عقوبة الرجم لما باالعتراف ، ألن االعتراف مقترن بالعقوبة المحدودة في القوانين ا اعترف رجل أو امرأة بالزنا وهذه بديهية ال يختلف حولها أحد ، والعبرة كل العبرة ، بتوافر الشروط والحد ...

أعطوني قضية واحدة شهد فيها أربعة ..

تحدي الهادئ ... ورأى فيها األربعة الميل في المكحلة ، أو الرشاء في البئر... وال ضير في مزيد من ال

أجيبوني بعد الدرس والمراجعة والبحث عن سؤال أكثر بساطة وهو : أال تعاقب القوانين الوضيعة على ما ال تطوله الشريعة في هذا المجال في ظل شروطها القاسية بل والمستحيلة ؟.

و عنه ؟ بينما المجتمع يطول أجيبوني من أين أتيتم بمقولة أن المجتمع يبيح الزنا ويدعو إليه ويحث عليه ويعفبقوانينه المتجددة ما ال يطوله اجتهادهم القاصر ، إن كان ثمة اجتهادا أصال ، ويحفظ للمجتمع حقوقه وهو عين

. ما يسعى اإلسالم إليه ، ويصل بعقوبة هتك العرض ، وهي ليست الزنا بالضرورة ، إلى الحكم باإلعدام ؟

واقعة الزنا في القوانين الحالية) بالمكاتيب ( أو ) بوجود غريب في المكان وماذا يضيركم إذا أثبت المشرعالمخصص لنوم الحريم في البيوت المسلمة ( ، أليس هذا أقرب إلى إمكانية إثبات الواقعة من شهود الميل )

المرود ( والرشاء ) الحبل ) بفتح الحاء وسكون الباء ( ؟

لحالية للزوج حق إقامة الدعوى أو عدم إقامتها ، أليس في هذا حفظ لسمعة وماذا يفزعكم في إعطاء القوانين االبيوت وأسرار األسر وستر للعورات ، ودرء للحدود بالستر ؟ ، وهب أن زوجا علم ثم عفا ، قبوال منه لنوبة

لى روح اإلسالم الزوجة ، أو حفاظا منه على سمعة أوالده وبناته في مدارسهم أو مجتمعاتهم ، أليس هذا أقرب إ من فضح الزوجة وتدمير سمعة األوالد وإنهاء مستقبل البنات وسمعتهن إلى األبد ؟

أم أن اإلسالم ال يكون إسالما في عرفكم إال إذا جلد وفضح ورجم ودمر ، وتنكرونه إذا عفا وتسامح وستر ، ثم والشعارات ، االتهامات ، فاألسئلة عديدة لماذا ال تتفقون على كلمة سواء كان قبل أن تواجهونا بالعموميات ،

وليس هذا مجالها ، ألننا لسنا بصدد بحث فقهي ، ومثالها التساؤل حول عالقة السنة بالقرآن ، وإمكانية نسخ السنة لنص قرآني ثابت في أحد الحدود ، وهذا كله يفتح بابا واسعا لالجتهاد ، وللنقاش ، وهو على كل األحوال

واحدة للتشكيك في اإليمان أو الحكم بالكفر أو االتهام في العقيدة ، وما كان أغناني عن هذا ال يفتح نافذة . الحديث

لوال أنني مؤمن بأن اإلسالم على مفترق طرق ، وأنه البد سائر إلى حيث يريد هللا الرحمة لعباده ، واالنتصار بين إال إلى حين ، ولن يختلف بالجامدين إال إلى إلسالمه واالستمرار لعقيدته ، وأن اإلسالم لن يضار بالمتعص

حين ، ولن يشارك في الحياة أبدا بالمرتعدين عن قصور في الفهم أو عجز في االجتهاد أو جمود في التفكير، وأننا في حاجة إلى أن نقبل على الحياة باإلسالم ، ال أن نهوى عليها باإلسالم ، وأننا في حاجة إلى أن نحافظ

الم العقيدة ، ال أن نكتفي بحفظ اإلسالم النصوص ، وأننا في حاجة إلى أن نخترق الحياة باإلسالم ، ال على اإلس

Page 55: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أن نخترق الحياة باإلسالم ، واإلسالم بحمد هللا أقرب إلى الحياة من يبتعدون عنها بالقول ، وينهلون منها بالفعل ليها بخلط أوراق الدين بالسياسة ، والسياسة بالدين ، ، ويحلمون بها طوع بنانهم بالحكم ، ويفزعونها ويفزعون إ

والعنف بالموعظة ، والموعظة بالطمع ، والطمع بالمزايدة ، والمزايدة بشراء الذمم ، وأبواب شراء الذمم في حياتنا شتى ، فقد عرفنا في السنوات األخيرة مناصب المستشارين للبنوك ) اإلسالمية ( ، والشركات )

، ورحالت الشتاء والصيف للدول ) اإلسالمية ( ، للتعرف على مسار التجربة ) اإلسالمية ( ، اإلسالمية ( وللحصول على بعض األموال الزكاة لتوزيعها على ) المسلمين ( في مصر ، أو إنفاقها على أمور الدعوة )

اإلسالمية ( .

ليلنا نأخذه من ألسنتهم ، فقد صرح حافظ ونحن في هذا ال نتحدث من فراغ ، أو عن هين من المال أو يسير، ودسالمة للصحف بأنه جمع لبناء مسجد النور مليون ونصف مليون جنيه من تبرعات ) المسلمين ( في الخليج في

رحلة له إلى هناك لمدة أسبوع ، واستنكر أحد كبار رجال الدعوة ما نشره األهرام االقتصادي عن أنه حصل كمكافأة استشارية وطالب بتصحيح ما نشر ألن المبلغ ثالثون ، وإذا أمطرت على عشرين ألف دوالر سنويا

سماء ) الدعوة ( ألوفا بالعشرات في الداخل ، وبالمئات في الخارج ، فال جناح عليهم إن هاجمونا ، وال تـثريب قد تملقا ومزايدة ، ولو عليهم إن كفرونا ، وال بأس عليهم إن قاتلونا ، وال غرابة إن خرج علينا بعض الساسة بالن

شئنا االستطراد في هذا الباب ألفضنا ، لكنا نشعر أننا أرهقنا القارئ وربما أصبناه بالماللة ، فقد أطلنا في . قراءتنا الجديدة لألوراق القديمة ، ووجدنا أنها وثيقة الصلة بما نراه في أيامنا المعاصرة

قادمة ، نتحدث فيها عن الرشيد وما أدراك ما الرشيد ، وعن ولعلنا نمسك عن االستطراد على وعد بكتاباتالمأمون وما أدراك ما المأمون ، وعن المعتصم وما أدراك ما المعتصم ، أما الواثق ، وهو آخر خلفاء العصر

العباسي األول ، فال أحسب أنني أستطيع مع سيرته صبرا ، وال أحسب أن القارئ سوف ينسى بسهولة ما ه ، فقد فتح بابا جديدا من أبواب الخالفة ) اإلسالمية ( ، وسلك مسلكا فريدا من مسالك الخلفاء أو سأذكره عن

أمراء المؤمنين ، وخلد سيرته نثرا وشعرا ، وحكم قرابة الست سنوات منتقال من غالم إلى غالم ، ونعيدها حتى ول : ال يشك القارئ في صحة ما ذكرناه أو يتصوره خطأ مطبعيا نق

من غالم إلى غالم ، فقد كان عاشقا صبا للغلمان ، ملكوا وجدانه ، وأذابوا مشاعره تولها وصبابة ، وكان منهم غالم ) مصري لألسف ( ، اسمه ) مـه ج ( ، لعب بعواطف الواثق كما شاء ، وتملك مشاعره وتالعب بوجدانه

شأن الحكم ، وإن تدلل عليه أو صده فالويل كل الويل كما يريد ، إن رضى عنه استقامت أحوال الدولة واستقر للمسلمين ، والثبور وعظائم األمور لمن يشاء حظه العاثر أن يلقي الواثق أو يقف أمامه أو يحتكم إليه .

ولعل من يرددون دون وعي أو ملل، أن حضارة الغرب قد أباحت الشذوذ الجنسي ، يتيهون اآلن بأن دورنا لم على النقل من الغرب ، ألنه لو صح ما يدعون ، وهو غير صحيح ، النعقدت لنا الريادة ، وكان لنا يقتصر أبدا

قصب السبق دون شك ، وهل لدى الغرب حاكم مثل الواثق ، وهل في تاريخهم كله خادم مثل مهج ، يخلب لب د قريحته بالشعر عليه ، الخليفة ، فيصرفه عن شئون الدنيا ، ناهيك عن شئون الدين ، فينصرف إليه ، وتجو

فيردد على إيقاع أيدينا وهي تضرب كفا بكف :

بسجي اللحظ والدعج مهج يملك المهج

ذو دالل وذو غنج حسن القد مخطف

عنه بالحظ منعرج ليس للعين إن بدا

( 390ص ) تاريخ الخلفاء للسيوطي.

Page 56: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ويعرف مهج قدر نفسه عند الخليفة الواثق ، فيبتدره يوما في الصباح ، وهو جالس بين حاشيته ، ويمضي إليه متـثـنيا ، منكسر النظرة ، مترنح الخطوة ، مترجرج األعطاف ، ويناوله وردا ونرجسا ، وتصور أنت أيها

طرب فنسى الحاشية والمجلس ، وأنشد وعيناه القارئ حال الواثق أمام كل هذا الهول ، واعذره إن استخف به ال ترنوان إلى مهج :

معتدل القامة والقد حياك بالنرجس والورد

وزاد في اللوعة والوجد فألهبت عيناه نار الهوى

فصار ملكي سبب البعد أملت بالملك له قربه

مال بالوصل إلى الصد ف ورنحته سكرات الهوى

وأسبل الدمع على الخد إن سئل البذل ثنى عطفه

ال يعرف اإلنجاز للوعد غر بما تجنيه ألحاظه

فأنصفوا المولى من العبد مولى تشكي الظلم من عبده

لحظة العشق العظيم ، حين يسيل دمع مهج ويا سبحان هللا ؛ ما أشعر الواثق وما أرق ألفاظه وما أدق وصفه ل علي خده ، فال يدري الواثق أهو دمع الهوى أم دمع الصد ، وماله ال يفعل ذلك ، وهو صاحب القد المعتدل ، المترنح في خطوة بسكرات الهوى ، ذلك الذي يعرف وصله من صده ، الظالم لعبده ) خليفة المسلمين ( ذلك

فه من مواله ) مهج ( ، المغرور بسهام ألحاظه ، المنكر للوعد دائما ، أما الوعد الذي يستنجد بالرعية أن تنصفيسير إدراكه على خيال القارئ ، وعسير إدراكه على األتقياء المصدقين للمتنادين بعودة الخالفة ، الخالطين

التاريخ ، وألحاظ مهج ، بين حلم رائع في خيالهم ، بثـته عقيدة عظيمة ، وبين حقيقة مفزعة تكشفها لهم صفحات وخالعة الواثق ، وفقه معاصريه من الجبناء وجبن معاصريه من الفقهاء .

هذا عن مهج حين يرضى ، فماذا عنه إن غضب .. يا ألطاف هللا ، حدث ذلك يوما ، حين فقد الواثق عقله كبار الدولة أن يدخلوا على فأغضب مهج ، وفي اليوم التالي طار لب الواثق ، وتعطلت مصالح الدولة ، وخشي

الواثق في حالته تلك ، ولم يكن ألحد أن يتوقع خيرا إن القاه أو حاكاه ، وأدرك الجميع أن السر لدى مهج ، ليروم أن أكلمه من أمس ، فما أفعل ( . –يقصد الواثق –فدسوا عليه بعض الخدم ليسألوه فأجابهم ) وهللا إنه

ا أعانيه بحثا عن ألفاظ تليق بجالل الموقف ورهبته ، وعذاب الواثق وغضبته ، وقد يا للكارثة ، ويا لصعوبة م نقل إليه حديث مهج فأنشد من جديد قائال :

ما أنت إال مليك جار إذ قدرا يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا

وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى لوال الهوى لتجارينا على قدر

، وسوء حظ الطالبين بعودة الخالفة لم يفق الواثق أبدا ، بيد أن البعض قد يتصور أن عمر ولحسن حظ مهج خالفة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله ، لكن ذلك لم يكن صحيحا ، فقد كان للواثق وجه آخر ، يحلو له أن

الدين ، فقد انتصر للمعتزلة يخرج به على الرعية ، ويبدو فيه حاميا لذمار العقيدة ، ومناضال من أجل صحيحكما فعل والده المعتصم ، الذي عذب ابن حنبل لقوله بأن القرآن ليس بمخلوق ، ويروي عن الواثق أنه أحضر

Page 57: فرج فودة الحقيقة_العائبة

أحمد بن نصر الخزاعي أحد كبار رجال الحديث في التاريخ اإلسالمي ، من بغداد إلى سامرا ، مقيدا في بمخلوق ، وعن الرؤية في القيامة فقال : كذا جاءت الرواية ) فثار األغالل ، وسأله عن القرآن فقال : ليس

الواثق ودعا بالسيف ، وقال : إذا قمت فال يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا فضرب عنقه ال نعبده ، وال نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد ، فمشى إليه ،

، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد ، فصلب بها وصلبت جثته في ) سر من رأى ( ، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل ، فأنزله ودفنه ولما صلب كتبت ورقة علقت في أذنه ، فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك ،

. التشبيه ، فأبى إال المعاندة ، فعجله هللا إلى ناره (دعاه عبد هللا اإلمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي

وتأملوا معي التناقض بين حديث مهج وحديث الخزاعي ، وفاضلوا بين مصير مهج ومصير الخزاعي ، وقارنوا بين الواثق وبين كثيرين ممن نعرفهم ونسمع منهم ، ونرى لهم كما رأينا للواثق وجهين ال صلة بينهما وال

م يقضون ليلهم بين الكأس والندماء ، وما أن يسفر الصبح حتى ينطلقوا إلى صفحات الصحف رابطة ، فهومنتديات السياسة ، ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة ، فإذا سألتهم ابتسموا ، وأنكروا عليك جهلك بالسياسة

تعلم بعد كيف تتعامل مع وفعال الساسة ، وكتموا في أنفسهم رأيهم فيك ، وهو أنك غر حديث التجربة ، لن ت الشارع المصري ، فتقول شيئا وتعني شيئا ثانيا وتفعل شيئا ثالثا ..

وإذا كان الواثق قد تألق في صوالته بين الغلمان ، وإذا كان يستحق بجدارة أن يوصف في جوالته بأنه فارس ا طرفا عن التلوط في عهد الوليد بن يزيد ، إنصافا له لم يكن فارس الميدان الوحيد ، فقد ذكرن –الميدان ، فإنه

ولم نذكر شيئا عن عهد األمين) ابن الرشيد ( الذي ) ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النساء ( ، وكما تعلق قلب الواثق بمهج تعلق قلب األمين بكوثر ، 360ص –والجواري ( ) تاريخ الخلفاء للسيوطي

عن عصره : وقال بعض الشعراء

وفسق األمير وجهل المشير أضاع الخالفة غش الوزير

وأعجب منه خالق الوزير لواط الخليفة أعجوبة

كذاك لعمري خالف األمور فهذا يدوس وهذا يداس

في وجهه ، فجعل األمين ولما هاجم المأمون األمين ، ) خرج كوثر خادم األمين ليرى الحرب ، فأصابته رجمة يمسح الدم عن وجهه ثم قال :

ومن أجلي ضربوه ضربوا قرة عيني

من إناس حرقوه أخذ هللا لقلبي

ولم يقدر على زيادة فأحضر عبد هللا التيمي الشاعر فقال له : قل عليهما ، فقال :

ما لمن أهوى شبيه فبه الدنيا تتيه

ولكن هجره مر كريه وصله حلو ،

من رأى الناس له الفضل عليهم حسدوه

مثل ما قد حسد القائم بالملك أخوه

Page 58: فرج فودة الحقيقة_العائبة

فأوقر له ثالثة بغال دراهم . وهكذا انشغل األمين عن الحرب ، وعن سقوط حكمه ، بجرح حبيبه وخليله كوثر ، ائل في وصف كوثر : ذي الوصل الحلو ، والصد المر ، والهجر الكريه ، وماله ال يفعل ذلك وهو ق

ما يريد الناس من صب بما يهوى كثيب

كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي

أعجز الناس الذي يلحي محبا في حبيب

يا حبيبي !! يا أمير المؤمنين ، ما أرقك وما أطيب وصلك ، لوال أنها خلة تشين في أي عرف ، ناهيك عن أي بنت الحان ، وإلى الطرب باأللحان ، وإلى القول بما نمسك عنه ، دين ، ولوال أن عشق الغلمان ، يقود إلى

ونفزع منه ، غير أن رحمة هللا قد وسعت األمين في دنياه من باب آخر فلم تذكر لنا صفحات التاريخ أن فقيها اته ، ربما بعد أفتى بحل قتله ، أو حرمة ما أتاه ، أو إفك ما فعله ، غاية ما في األمر أنهم قالوا عنه شعرا بعد وف

تيقنهم من سيرة المأمون المختلفة ، وإتيانه لألمور من قبل ، واهتمامه بشئون الحكم وعمارة البلدان ، وليس بالخمر والغناء والغلمان ، فقالوا في األمين غداة وفاته :

لم نبكيك ؟ لماذا ؟ للطرب يا أبا موسى وترويج اللعب

على ماء العنب ولترك الخمس في أوقاتها حرصا منك

وشنيف أنا ال أبكي له وعلى كوثر ال أخشى العطب

لم تكن تصلح للملك ولم تعطك الطاعة بالملك العرب

وهكذا ، أدرك الشعراء فقط بعد موت األمين ، أنه لم يكن يصلح ، وتنادوا بأنه لم يبايع بالطاعة من العرب ، ت الخمس ، وكان متفرغا للطرب ولماء العنب ، وليس هذا على خالف الحقيقة ، وتذكروا أنه كان يترك الصلوا

بغريب علينا ، فحتى في عصرنا هذا ال يتذكر البعض مثالب الحكام إال بعد وفاتهم ، واستقرار الحكم لمن يليهم ، ولعل القارئ يشاركني في أن حكامنا أرحم ، فليس بين مستشاريهم كوثر أو شنيف ، أو مهج أو وصيف ،

قوالهم وصل للغلمان ، أو وصف لبنت الحان ، وليس في عالقتهم بوزرائهم والمشيرين عليهم ما وليس في أشاب عالقة الخلفاء العباسيين بوزرائهم ومستشاريهم ، ومعذرة لهذا القاموس الكريه ، فإناء الخالفة ينضح على

مين كان متبعا ولم يكن مبتدعا . أوراقنا بما فيه ، بل إن شئنا الدقة إناء العصر ، ويكفينا أن نذكر أن األ

" فأبو حيان التوحيدي يحدثنا أنه كان في بغداد خمسة وتسعون غالما جميال يغنون للناس ، وأنه كان صاحب صبي موصلي مغن ، مأل الدنيا عيارة وخسارة ، وافتضح أصحاب النسك والوقار ، وأصناف الناس من

ه المبتسم ، وحديثه الساحر ، وطرفه الفاتر ، وقده المديد ، ولفظه الحلو الصغار والكبار ، بوجهه الحسن ، وثغر ، ودله الخلوب .. يسرقك منك ، ويردك عليك .. فله حاالت ، وهدايته ضالالت ، وهو فتنة الحاضر والبادي " .

لمجلس : كما يحدثنا عن علوان غالم ابن عرس ، فإنه إذا حضر وألقى إزاره ، وحل أزراره ، وقال ألهل ااقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم ، بل عبدكم ألخدمكم بغنائي ، وأتقرب إليكم بوالئي ،... ال يبقى أحد من الجماعة

إال وينبض عرقه ، ويهش فؤاده ، ويذكو طبعه ، ويفكه قلبه ، ويتحرك ساكنه ، ويتدغدغ روحه الخ "

Page 59: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ـ " فاتن " و" رائق " و " نسيم " و " وصيف " و " وتفننوا في أسماء الغلمان بما يدل على مقصدهم، فسموا ب –أحمد أمين الجزء األول –ريحان " و " جميلة " ، ) هكذا بأداة التأنيث ( ، و " بشرى " ) ظهر اإلسالم

نقال عن االمتناع والمؤانسة ألبي حيان التوحيدي ( 030ص

ولو لم نوثـقه لعجز الكثيرون عن التصديق فهذا أحسب أن ما سبق يغني عن التعليق ، بل لعله يغري بالتعليق ،غالم اسمه ) جميلة ( ، وذاك غالم اسمه ) فاتن ( ، وهذا يلقي إزاره ، وذاك يحل أزراره ، وأصحاب النسك

والوقار يفتضحون ، وينبض عرقهم ، ويتحرك ساكنهم ، وهو يداعب شذوذهم ، فيناديهم يا أسيادي ، أنا عبدكم اد في مداعبته زاد نبض عروقهم ، وزاد تحرك ساكنهم ، لهذا الذي حاله حاالت ، وهدايته وولدكم ، وكلما ز

ضالالت ، وال حول وال قوة إال باهلل القادر على كل شيء ، ولعل من المستحسن هنا أن نذكر أن األمين وغيره م هللا في أرضه ، ويجعل لهم من الخلفاء ، فعلوا ما فعلوا بتشجيع الفقهاء ، الذين أنزلوهم منازل من يستخلفه

نورا يضيء ويبين لهم ) الحظ أن الذي يبين لهم هو هللا جل جالله ( ما يشتبه عليهم ، ومثل هذا الخليفة الذي ينير هللا له طريقه ، ويوحي إليه بالحق ويرشده سواء السبيل ، يصعب على فرد من الرعية أن يذكر شيئا مما

ا سبق منقوال عن الرواة ، أو يستمع إلى شيء مما سبق دون أن يستغفر هللا ، نافيا سبق عنه ، أو يصدق شيئا ممأنه جل شأنه يهدي خليفته إلى شيء من هذا أو بعض من ذاك ، فاهلل أجل وأعز ، والخليفة أعلى وأرفع ، ومن يا

ن مقصودة ، ولعل البعض ترى يتصدر لرفع الخلفاء إلى موضع ) من ال يسأل عما يفعل ( ) العبارة بين القوسي يتذكرها تحت قبة مجلس الشعب المصري منذ سنوات . (

المفزع أن من يتصدر لذلك دائما أعلى الفقهاء شأنا ، وأكثرهم علما وأفقههم في الدين ، فقد ذكر ) أبو يوسف ( راج ( موجها حديثه إلى أشهر تالميذ أبي حنيفة وأنبغهم وفقيه عصره بال مراء ، في مقدمة كتابه الشهير ) الخ

الرشيد ) أن هللا بمنه وعفوه جعل والة األمراء خلفاء في أرضه ، وجعل لهم نورا يضيء للرعية ما أظلم عليهم أبو سيف.( –من األمور فيما بينهم ، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم ( ) مقدمة كتاب الخراج

يا فرعون من فرعنك ( ، وهي عبارات نهديها لمن يردون علينا وهي عبارات تذكرنا بالمثل الشعبي السائر ، )بأن من سبق من الخلفاء ، إنما خرجوا على الدين ، وبالتالي فال عالقة بين ما فعلوه وبين الدين أو الحكم بالدين

لحكم ، فلعلهم يدركون اآلن أن من خرج على الدين إنما خرج بفتوى رجال الدين ، وأن وطد األمر إنما كان ا بالدين .

هنا أتوقف مضطرا تحسبا من الملل وتخوفا من اإلطالة ، بل لعلي أطلت بالفعل ولسبب آخر هو أن استطرادي بعد ذلك في حديث الخلفاء في العصر العباسي الثاني سوف يستنكره الكثيرون ، ألنه حديث خلفاء إمعات ، ال

تصيد لألخطاء أو اصطياد في الماء العكر ، وهو ما ليس في يملكون من أمرهم شيئا ، وقد يفسره البعض بأنهطبعنا أو من طبيعتنا ، ويكفي أن ثالثة منهم ، خلعوا وسلمت أعينهم وعاصروا بعضهم البعض ، ) وهم القاهر

والتقي والمستكفي ( .

، مناديا : ) ووصل األمر أن شوهد أحدهم ) القاهر ( وهو يشحذ على باب أحد المساجد ، مسمول العينين تصدقوا علي فأنا من عرفتم ( ، وهو نفسه من ) أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين ، ونفى

المخانيث ، وكسر آالت اللهو وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج ، وكان مع ذلك ال يصحو من ( . 337سيوطي صالسكر ، وال يفتر عن سماع الغناء ( ) تاريخ الخلفاء لل

ومن أطرف ما حدث ألحدهم ) الطائع ( أن وزيره بهاء الدولة دخل عليه ، وقبل األرض بين يديه ، فمد الطائع يده إليه مسلما فجذبه من على كرسي الخالفة وأعلن خلعه ، ومع أمثال هؤالء ال يجدي الحديث ، وإنما يجدي

البكاء ، ويحمد هللا على البالء .

Page 60: فرج فودة الحقيقة_العائبة

، وبعد ما سبق كله ، وعلى الرغم مما سبق كله ومع علم بعضهم به ، ولجهل البعض اآلخر بأمره ، وأخيرا يتنادون بالخالفة !!

* * * * * *

ونوجز ما توصلنا إليه من نتائج فيما يلي :

أوال :

ن اإلسالم إال االسم ، أن الخالفة التي نعتوها باإلسالمية هي في حقيقتها خالفة عربية قرشية ، وأنها لم تحمل موأن دعوى إحيائها من جديد تبدو أكثر تناسقا مع منهج القومية العربية والدعوة للوحدة بين أقطار العرب ، منها

إلى الدعوة لدولة دينية إسالمية ، وبهذا المنطق نقلبها على أساس كونها دعوة سياسية بحتة ، إن استهدفت توجهت للتكامل فعلى أسس حضارية عقالنية ، وإن استلهمت التاريخ فعلى التوحد فعلى أساس المصلحة ، وإن

أساس وطيد من ) الجغرافيا ( .

ثانيا :

أن اإلسالم دين ال دولة ، وعلى المحتج علينا بالعكس ، أن يرد علينا بحجة التاريخ ، وليس أقوى من التاريخ ساس اإلسالم ، وليس أقوى من تهافت ما قدم إلينا حتى حجة ، أو أن يعرض علينا منهجه في إقامة الدولة على أ

اآلن من أفكار حجة على المدعين أن اإلسالم دين ودولة ، ومصحف وسيف ، ليس هذا فحسب بل أننا نعتقد أن الدولة كانت عبئا على اإلسالم ، وانتفاضا منه وليست إضافة إليه ، ولسنا في حاجة بعد الصفحات السابقة إلى

دليل .

: ثالثا

إن الفرق بين اإلنسان والحيوان ، أن األول يتعلم من تجاربه ، ويختزنها مكونا ما نعرفه باسم ) الثقافة ( ويبدو أن المنادين بعودة الخالفة يسيئون بنا الظن كثيرا ، حين يدعوننا إلى أن نجرب من جديد ما جربناه من قبل ،

أو كأنه يفزعهم أن تسير على قدمين ، فيطالبونا بالسير على أربع . وكأن تجربة ثالثة عشر قرنا ال تشفع ،

رابعا :

إن الثابت لدينا من قراءتنا للتاريخ اإلسالمي أننا نعيش مجتمعا أرقى بكل المقاييس ، وعلى رأسها مقاييس وأننا مدينون في ذلك كله األخالق ، وهو مجتمع أكثر تقدما وإنسانية فيما يختص بالعالقة بين الحاكم والرعية ،

للثقافة اإلنسانية التي ال يرفضها جوهر الدين ، ولحقوق اإلنسان التي ال تتناقض مع حقوق اإلسالم .

: خامسا

إن التاريخ يكرر نفسه وكأنه ال جديد ، غير أننا ال نستوعب دروسه ، ونركز في دراستنا له على أضعف نحن في دعوتنا لدراسة التاريخ واالستفادة من دروسه ، ال نكرر خطأ جوانبه ، وهو جانب الفكر الديني ، و

المتطرفين حين يدعوننا إلى منهج النسخ الكربوني وإنما ندعو إلى ترجمة حوادث التاريخ بمصطلحات الحاضر ا ، وإلى االستفادة من دروسه بأسلوب العصر، ولكي نؤكد للقارئ أن التاريخ يعيد نفسه، ندعوه إلى قراءة م

Page 61: فرج فودة الحقيقة_العائبة

الجزء –ابن األثير –ذكره ابن األثير تحت عنوان ) ذكر فتنة الحنابلة ببغداد ( حيث قال ) الكامل في التاريخ ( 093السادس ص

عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور –هـ في خالفة الراضي 303يقصد سنة –) وفيها وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء ، واعترضوا في البيع القواد والعامة ، وإن وجدوا نبيذا أراقوه ،

والشراء ، ومشى الرجال مع النساء والصبيان ، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو ؟ فإن أخبرهم وإال . ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد (

هـ بعام 303لو استبدلنا بغداد بأسيوط ، والحنابلة بالجماعات اإلسالمية ، وعام ولنا أن نسأل القارئ : ماذا، ثم قرأناه من جديد ؟ ، غير أن ذلك كله كان في خالفة الراضي ، حين اهتزت هيبة الحكم ، وعجز عن 0430

لقانون والديمقراطية استخدام أدواته ، التي كانت نطعا وسيفا في عصره . بينما أدواتنا اليوم هي الدستور وا الكاملة ، وهي أدوات ال يعيبها إال عدم االستخدام في أغلب األحيان .

: سادسا

إن تنامي الجماعات اإلسالمية وتيارات التطرف السياسي الديني في مصر ، يعكس تأثير التربية والتعليم ج دائما أحادي التوجه واالتجاه ، والوجه واإلعالم في مجتمعاتنا ، حيث التفكير دائما خاضع للتوجيه ، والمنه

الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها ، وما سبق عرضه في هذا الكتاب ال يزيد عن محاولة لعرض الحقيقة المتكاملة ، األمر الذي يدعو إلى التفكير ، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعالميا ، والذي ال

إال الجانب المضيء ، وال يعلن من اآلراء إال رأيا واحدا ، وال يدفع المواطنين إال إلى اتجاه يعرض من الحقيقة واحد ، وهو من خالل ذلك كله يهيء الوجدان لقبول التطرف ، ويغلق األذهان أمام منطق الحوار.

سابعا :

م ، نتيجة للجهل وضيق األفق إن اإلسالم على مفترق طرق ، وطريق منها أن نخوض جميعا في حمامات الدوقبل ذلك كله نتيجة النعدام االجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقي العصر واإلسالم ، وذلك هين يسير ،

وسبيله الوحيد هو االجتهاد المستنير ، والقياس الشجاع ، واألفق المتنور ، ولست أشك في أن البديل الثاني هو من هللا بعباده ، وحفظا منه لعقيدته ، غير أن أخشى ما أخشاه أن يطول الوحيد ، وهو الذي سيسود رحمة

االنتظار ، وأن يحجم األخيار ، وأن يجبن القادرون ، وأن ينجح المزايدون في دفع العجلة إلى الوراء ، ولو إلى حين ، ألن المجتمع كله سوف يدفع ثمن ذلك ، وسوف يكون الثمن غاليا .

ثامنا :

رضناه من تفاصيل وما ناقشناه من وقائع لم يكن هو القصد ، بل كان قصدنا أن نعرض منهجا للتفكير ، إن ما عيسمح باستخدام العقل في التحليل ، والنطق في استخالص النتائج ، والشجاعة في عرض الحقيقة دون زيادة أو

ا إخالصنا للعقيدة ووالؤنا للوطن ، نقصان ، وال نحسب أننا في هذا مبتدعون بل نحن متبعون لما أماله علين وانتماؤنا للمستقبل .

وماذا بعد ؟!!

Page 62: فرج فودة الحقيقة_العائبة

ما على القارئ بأس لو انزعج ، فاالنزعاج للحق مكرمة ، وأن تنزعج للحق فهذا أفضل كثيرا من أن تنبهر ن تقرأ ما بالباطل ، وجزء من هذا االنزعاج مرجعه إلى ما ذكرناه في بداية الحديث ، وهو أن النفس تهوى أ

تحب أن يكتب لها ، وتتعشق أن تسمع ما تهوى أن يقال لها ، بصرف النظر عن موقعه من الحق أو موقفه من الحقيقة ، أما الحق فهوى أن اإلسالم الدولة كان انتقاضا من اإلسالم الدين ، وعبئا عليه ، ألن اإلسالم كما شاء

الحقيقة فهي أن البشر هم البشر في كل العصور ، يستوي في ذلك له هللا دين وعقيدة ، وليس حكما وسيفا وأماعصر الراشدين أو األمويين أو العباسيين أو عصرنا الحديث ، وأن الحديث عن جنة األرض هراء ال قيمة له ،

وغثاء ال نفع فيه ، وباطل ال جدوى منه .

قد توجهنا للحاضر ، واستلهمنا المستقبل ، وأننا ولعل القارئ قد أدرك في ثنايا الحديث ، أننا في حديث التاريخ في توجهنا لهذا واستلهامنا لذاك قد أرهقنا أنفسنا كثيرا بالتوقف أمام ما نفزع له ، وبتحليل ما نجزع منه ، ولست أدري هل يصدقني القارئ أم ال ، إذا ذكرت له أنني منعت نفسي كثيرا من الخوض في بعض األحداث ، تجنبا

. في القول أو مبالغة في المجونلفحش

ولعلي نجحت في أن أوازن بين وجهي الصورة ، التي نقلوها لنا حلما فأنزلناه في رفق إلى أرض الواقع ، فإذا به واقع مر ، قليال ما يسر ، وكثيرا ما يفجع ، ولست أدري هل أصبت أم أخطأت ، وهل كان على أن أفعل ما

اهلون ما يقرب من ألف عام من حكم األمويين والعباسيين ، لكي يتوقفوا أمام عامين يفعله الكثيرون ، حين يتجال أكثر ، هما فترة حكم عمر بن عبد العزيز ، وحين يختارون من فترة الراشدين ما يدير الرؤوس وما يدفع

هم ، بينما لو تأملنا الشباب الغض إلى محاولة تحطيم المجتمع ، طامعا في أن يعيد أيامهم ، ويـبنى على منوال –فترة حكمهم الكاملة لتمهلنا كثيرا ، وتحسبنا كثيرا ، وربما حمدنا هللا على ما نحن فيه ، ليس هجوما عليهم

فهم في أعلى عليين كصحابة أجالء ، وفقهاء دين عظماء ، لكنا نتناولهم من زاوية آخرى هي زاوية –معاذ هللا هو ميزان الحكم ، وهم من هذه الزاوية ، وبهذا الميزان ، بشر يجوز عليهم ما السياسة ، ونقيهم بميزان آخر

يجوز علينا من نقد ، ويتعرضون لما نتعرض لهم من أخطاء ، وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة حكمهم ، ، واحد ويتعجب وهو يرى ثالثين عاما ، يتعاقب فيها أربعة خلفاء ، يموت ثالثة منهم بحد السيف أو الخنجر

على يد غالم المجوسي وهو أمر يفجع ، وواحد على يد الرعية وهو أمر يفجع ويفزع ، وواحد على يد مسلم متطرف وهو أمر يفزع ، ويقضي الخليفة األخير فترة حكمه كلها ساعيا إلى التمكن من الحكم سدي ، وإلى

مر محصورا في الكوفة داعيا هللا أن يبدله فرض واليته على الدولة اإلسالمية كلها دون جدوى ، وينهي به األ . خيرا من قومه ، وأن يبدل قومه أسوأ منه

ثم لعلنا ننزعج ونحن نكشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب األهلية الكبرى ، فقد بدأت بها ، وانتهت سلسلة من الحروب األهلية بها ، بدأت بحروب الردة في عهد أبي بكر ، وانقضت سنواتها الخمس األخيرة في

أولها حرب الجمل بين كبار الصحابة ، ثم حرب صفين بين على ومعاوية ، ثم حرب النهروان بين على والخوارج عليه ، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش علي وجيوش الخوارج ، وحسبنا أيضا

انتهت مقبلة عليه من الخليفة ، مدبرة عنه من الرعية بقدر أنها بدأت مقبلة على الدين من الخليفة ومن الرعية ، وإقبالها على الدنيا ، دليلنا على ذلك ما ذكرناه من ثروات ، وما رصدناه من اقتراب حثيث من معاوية ، وابتعاد ى حثيث عن علي ، وإذا كان البعض في البداية قد قارن بين الطعام الشهي على مائدة معاوية ، والحق الجلي عللسان علي ، فإن النهاية كان انتصارا ال شك فيه للطعام الشهي ، واندحارا ال شبهة فيه للحق الجلي ، وما هكذا كان اإلسالم الدين أو يكون ، لكنه هكذا كانت الدولة اإلسالمية وهكذا تكون ، شأنها شأن أي دولة دينية على

ديث في البدء ، فالعبرة بالخواتيم ، وقد كانت الخواتيم مرة مدى التاريخ اإلنساني كله ، ال يغرنك فيها عذب الح دائما ، وأمر منها أن ال نستوعب درسها ، وأن ال نستفيد من تجربتها .

وأن يدعو البعض إلى تكرارها في بالهة يحسدون عليها ، وكأنه مطلوب منا أن نقرأ التاريخ لكي نعيد أخطاءه .

Page 63: فرج فودة الحقيقة_العائبة

اشدين ، فكيف يكون الحال على يد المعاصرين ، الذين لم نعرف اإلرهاب إال وإذا كنا نتحدث هكذا عن عهد الرعلى أيديهم ، ولم يعرف مجتمعنا اآلمن حوادث االغتيال السياسي إال على يد فرسانهم المغاوبر ، ولم ترق دماء

لم يفتهم أن يرفعوا األبرياء إال على يد مجاهديهم األوشاس ، وحتى في انتخابات االتحادات الطالبية األخيرة ، شعارا غريبا يعكس أسلوب تفكيرهم ، وهو " صوتك دانة " وكأنهم لم يميزوا بعد بين الديانة والدانة ولم يعرفوا

من اإلسالم إال العنف واإلدانة ، ولم يروا فيه ما رأيناه من وجوه كلها سماحة ونور ورحمة.

رض الدولة على المتطرفين وأدفعها إلى مواجهتهم ، وربما تصور القارئ في بعض أجزاء الكتاب أنني أحولعلي أصحح له ، فالمقصود ليس مواجهة التطرف في الفكر ، وإنما المقصود هو مواجهة العنف ، ومقاومة

اإلرهاب ، ولعل أحدا يدلني على كيفية مقاومة العنف بالقبالت ، ومواجهة السيف باألحضان ، واستقبال القنابل افئة ، ولعل المنكرين على ما يرونه تشددا ، ينظرون حولهم إلى أعرق دول العالم في الممارسة بالكلمات الد

الديمقراطية ، ليشاهدوا كيف يواجه العنف في أيرلندا ، وكيف تواجه إيطاليا إرهاب األلوية الحمراء ، وكيف . تواجه ألمانيا الغربية البادر ما ينهوف

دوافعهم أو يبرر أفعالهم كما يفعل البعض هنا ، عن تصور يكون هكذا الموقف وكيف لم يتوقف أحد لكي يحلل الصحيح ، طالما أن اإلرهابيين أعداء لخصمه اللدود : الدولة ، بينما لو فكر قليال ، ألدرك أن المستهدف ليس

ونه ، والشريعة التي الدولة ، بل النظام الذي نحن جميعا جزء منه ، واألمان الذي نسعى جميعا إلى تحقيقه وصهي الموئل والمالذ ، ولو كان صبية الجهاد أو أمراءهم أهل حديث لنصحت بحوارهم ، ولو كانوا أهل رحمة لنصحت بمجادلتهم بالحسنى ، ولو كانوا أهل نكير لدعوت إلى مقارعتهم بالحجة ، لكنهم تجاوزوا النكير إلى

وا المنطق إلى حل الدم ، وهنا ال مفر من إكمال مسيرة التفكير ، وتجاوزوا القول إلى القتل ، وتجاوزالديموقراطية ، حتى ال يحتجوا علينا بضيق الساحة ، وال مفر من الرد على دعواهم بالمنطق حتى نجتذب منهم من بقي في قلبه مساحة للسماحة ، وال مفر من إعمال نصوص القانون لردع العنف وعزل أصحابه عن حركة

، وفرزهم بعيدا عن المعتدلين في التيار اإلسالمي السياسي ، وفيهم أساتذة أجالء وعلماء المجتمع ومسارهأفاضل ، ومحاورون قادرون ، وأهل علم وفقه ، ورجال سماحة وفضل ، وهم وإن اختلفوا معنا يدعون لنا

بالهداية ، وندعو لهم بالمثل ، دون أن يكفرونا ودون أن يفقدوا من احترامنا ذرة ...

هم يؤمنون باإلسالم دينا ودولة ، وهذا حقهم ، ونحن نراه ونؤمن به دينا فحسب وهذا حقنا ، وبعضهم يؤمن بالعمل السياسي ، ومن حق هذا البعض علينا أن نسانده في دعواه ، وأن نرفع عقيرتنا بأعلى صوت مطالبين له

ف اإلرهابيين منهم أشد ، ونذيرهم لهم أعنف ، بمنبر الرأي ، وهم في النهاية معنا في خندق واحد ، ألن موقونكيرهم عليهم أقسى ، وحكمهم عليهم أسوأ ، ولو صدقت النوايا لوصلنا معه إلى كلمة سواء ، ولتقابلنا في منتصف الطريق ، هم باالجتهاد المستنير ، وبرؤية العصر ومعايشته ، وبقبول متغيراته ، وبتقدير ظروفه ،

جتهاده ، وباإليمان بالوحدة الوطنية ، وباإلنصاف لقوانيننا الحالية ، ونحن بإدراك أن وبالتأسي بعمر في االديمقراطية تسعنا وتسعهم ، وأن المستقبل لنا دون إنكار لهم أو عليهم ، وأن مصر أغلى من المزايدة عليها

وهو مصلحة المجتمع ، وهو بالقشور ال الجوهر ، والمظاهر ال المضامين ، وأن اإلسالم الصحيح هو التقدم ، الحاق بالحضارة ، وهو تحصيل العلم ، وأن المساحة الخصوصية في قضية الدين أوسع وأرحب ، وأن فرض الرأي على اآلخرين ال يجوز ، وأن التشريع للبشر ، أما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهي هلل ، وأن اإلسالم

. يعني بالغايات قبل الوسائل

األول لإلسالم لن يأتي إلينا ، وأننا لن نعود إليه ، فكال األمرين مستحيل ، وأن التفكير يسبق التكفير وأن العصر ، والعقل يسبق النقل ، والسماحة تسع الجميع ، وأن الحساب آت ال محالة ، في اآلخرة وليس في الدنيا وأن

ية ألحد ، وال يمنح عصمة ألحد ، وال اإلسالم ال يعرف الكهنوت ، وال يعرف رجال الدين ، وال يعطي قدسيمنع النقد عن أحد ، فال عصمة ألحد غير الرسول ، وال قدسية ألحد غيره ، وأنه ليس في اإلسالم أزياء ، وليس له ألقاب ، وليس ألحد كائنا من كان أن يدعي أنه حامي حمى اإلسالم ، فكلنا مسلمون ، وكلنا حماة

Page 64: فرج فودة الحقيقة_العائبة

لوطن ، كل الوطن ، وكلنا عشاق لها ، وكلنا مناضلون من أجله ، أرضا وسماء ، اإلسالم ، وكلنا أيضا حماة امسلمين وأقباطا ، لسنا فاتحين وليسوا أسارى حرب ، نحن جميعا مواطنون ، لسنا أغلبية وليسوا أقلية ، نحن

ق لهذه األرض ، جميعا مصريون ، لسنا حكاما وليسوا محكومين ، نحن جميعا حاكمون محكومون ، وكلنا عشا وكلنا مدافعون عنها ، وقبل ذلك كله مدافعون عن وحدة الصف وتالحم الصفوف .

أعلم أن الحديث قد طال ، وأخشى أن يكون قد تشعبن ولعلي أوجز العرض والقصد في الرفض الكامل لخلط أوراق السياسة بالدين ، وفي التأكيد على الفصل بينهما ، حجتي في ذلك ما يلي :

أن البينة على من ادعى ، وإذا كنا ندعو للفصل فحجتنا جلية فيما هو قائم ، أما دعاة الوصل فعليهم أن :أوال يوضحوا لنا كيف يكون ، وال مناص عن صياغة برنامج سياسي كامل ، وهو في تقديرنا أمر عسير عليهم ،

لكتاب . وقد عرضناه بالتفصيل في ا وإن كان يسيرا علينا أن ندرك األسباب ،

ثانيا :

إننا نقبل في منطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي ، ألن قضاياه خالفية ، يبدو فيها الحق نسبيا ، والباطل نسبيا أيضا ، ونرفض أن يدار الحوار السياسي على أساس الحالل والحرام ، حيث الحق مطلق والباطل مطلق

ية لكونه كفرا ، وتبعة االتفاق والمتابعة قاسية أيضا لمجرد كونها في أيضا ، وحيث تبعة الخالف في الرأي قاسرأي أصحابها حالال ، حتى وإن خالفت المنطق ، بل حتى وإن خالفت الحالل ذاته ، ولم تكن أكثر من اجتهاد

ولعل غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين ، ويؤازره سلطان العقيدة في ساحة غير ساحتها بالقطع ،ممارسة النميري في السودان ال زالت في األذهان ، ولعل مباركة علمائنا األفاضل لما فعله النميري وقت أن

كان في السلطة ال زالت في الوجدان ، ولعل نقدهم المرير له ونكيرهم الالذع عليه بعد أن ترك السلطة واضح ع فال نقبل منهم قوال ، أم هي الغفلة فال نقبل منهم للجميع ولعلنا نتساءل دون أن نغضب أحدا ، هل هو الخدا

ريادة ؟

وقريب من هذا موقفهم من الرئيس السابق في مبادرة وكل ابن آدم خطاء فندعو لهم بالمغفرة ؟ –أم هو الخطأ سنة ، السالم حين رفعه بعضهم إلى أعلى عليين بالقرآن والسنة ، وهبط به بعضهم إلى أسفل سافلين بالقرآن وال

وركونا حيارى ، بل إن شئت الدقة أسارى، لعالمات التعجب واالستفهام ، ومالنا نذهب بعيدا وأمامنا اآلن حوار نضرب –األسارى –الحيارى –دائر بين فريقين منهم ، بشأن كافرا وبعضهم يراه قديسا ، بينما نحن الرعية

أو بين صواب وخطأ ، بل بين كفر وإيمان ، وهو ما كفا بكف ونحن نتابع حوارا ال يدور بين رأي ورأي نرفضه دون أن يؤثر هذا على ما في وجداننا من عقيدة ، وما في قلوبنا من إيمان .

ثالثا :

إن وقائع التاريخ التي سردناها في الكتاب ، تنهض دليال دامغا على ضرورة الفصل ، وعلى خطورة الوصل ، الخالفة . وعلى سذاجة المتنادين بعودة

رابعا :

إذا تجاوزنا وقائع التاريخ وانتقلنا إلى ممارسات نظم قائمة ترفع شعار اإلسالم ، وتتبنى مفهوم الحكم به ، فإننا نرى أنها جميعا حجة في صالح الفصل ، ودليل جديد على خطورة الوصل ، وكم نتمنى أن يحتج بها البعض

حدا لن يفعل ، لما نعلم ويعلم .حتى نلزمه حجته ، غير أنا نحسب أن أ

Page 65: فرج فودة الحقيقة_العائبة

خامسا :

يبقى السبب األخير واألهم ، وهو أن الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية ، وأن الوصل هو السبيل األكيد لهدم صرحها العتيد ، ال يغني عن ذلك التشدق بمقتطفات من التاريخ تؤكد على السماحة والتسامح

لذمة ، فقد ضربنا صفحا عن أضعافها مما يؤكد العكس ، وتقشعر له األبدان ، ونحن نؤمن بأن في معاملة أهل ااإلسالم قد بلغ الذروة في التسامح مع أهل الكتاب ، بل ومع الكافرين ، لكن القرآن ال يفسر نفسه بنفسه ،

ا فعل المسلمون باإلسالم ، ولسنا واإلسالم ال يطبق نفسه بنفسه ، وإنما يتم ذلك من خالل المسلمين ، وما أسوأ مفي حاجة إلى نكأ الجراح أو إثارة النعرات أو تفجير الخالفات ، يقدر ما نحن في حاجة إلى تأكيد اإليجابيات ولم

الشمل وتماسك الصفوف .

يا إلهي ...

عن قصة ال كم تردى المناخ وكم نحن في حاجة إلى عودته من جديد كما كان ، أحكي لكم ، واسمحوا لي ، أتذكرها إال ويطفر الدمع ، ويهتز الوجدان ، وهي قصة حدثت منذ سنوات قريبة ، يوم تشييع جنازة عريان سعد

، وعريان سعد قبطي مصري ، تطوع لقتل يوسف وهبة رئيس وزراء مصر ، القبطي الديانة ، والذي قبل ل على يد مسلم فتثور الفتنة ، وقد نجا يوسف رئاسة الوزارة في مصر حين امتنع الوطنيون ، حتى ال يكون القت

وهبة ، وسجن عريان سعد ، وعندما دق ناقوس الكنيسة لحظة تشييع جثمانه ، تصادف أن عال صوت مئذنة مجاورة باآلذان ، وهنا .. أجهش الجميع بالبكاء .. وشعر الجميع أنه هكذا يكون وداع عريان ..

، على رمز عظيم شيعناه ، وتراث عظيم أضعناه ، وتاريخ عظيم نسيناه .. لنا أن نبكي معهم بكاء الرجل العظيم

أقسم لك يا عريان ، أن اآلذان والناقوس سوف يتعانقان على هذه األرض دائما ، فالكل عابد هللا ، عاشق للوطن الفتنة ، ، وسوف تبقى مصر يا عريان ، شامخة كما أردت وكما نريد ، منيعة على الفرقة ، مستعصية على

مستحيلة االنقسام ..

ويا عقالء مصر ...

هل نلتقي سويا على كلمة سواء ؟