579
0

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل · 2019-03-12 · تو lلا دعب ام رارسأ لقعلاو mيدلا mيب ةيحل وبأ mيدلا رون

  • Upload
    others

  • View
    15

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

0

1

هذا الكتاب

يبحث هذا الكتاب في أهم المسائل المرتبطة بالمصير اإلنساني،

وسعادته وشقائه، والحقائق المرتبطة بذلك، من خالل المصادر الدينية

والعقلية والعلمية، وذلك في خمسة فصول هي:

، ويتضمن األدلة الدينية والعقلية والنشآت اإلنسانية الموت. 1

والعلمية الدالة على أن الموت ليس سوى مرحلة من مراحل اإلنسان،

وليس عدما، وال فناء.

، ويتناول الحقائق واألحداث الحقائق وتجلياتالبرزخ . 2

الحقائق الكثير منالمرتبطة بمرحلة البرزخ التي يكتشف فيها اإلنسان

ويتعذب بذلك، أو يتنعم به. لغيبية، ا

، ويتناول األحداث المرتبطة بالحشر العدالة.. وتجليات المعاد. 3

والنشر والحساب والموازين والسراط وغيرها من التي ورد في

النصوص المقدسة ذكر تفاصيلها، مع بيان عالقتها بصفات الله التي دل

ل تجلى في ذلك الموقف بأكمعليها العقل والنقل، وخاصة العدالة التي ت

صورها.

، وذكرنا فيه ما ورد الجزاء اإللهي.. وتجليات العدالة والرحمة. 4

أنواع وفي النصوص المقدسة من أنواع الفضل اإللهي ألهل الجنة،

.بالعمل والسلوك ة ذلك كلهوعالقألهل النار، العقوبات اإللهية

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل

نور الدين أبو لحيةد.

www.aboulahia.com

الأولىالطبعة 4114 – 1448

مؤسسة العرفان للثقافة الإسلامية

3

4

فهرس المحتويات

10 مقدمة

11 الفصل األول

11 الموت.. والنشآت اإلنسانية

22 أوال ـ الموت.. وبراهين الفطرة:

22 . الموت.. وتصورات الحضارات القديمة:1

30 . الموت.. وتصورات الحضارة الحديثة:2

34 الدين:ثانيا ـ الموت.. وبراهين

33 ـ الموت وبرهان القدرة: 1

31 ـ الموت وبرهان الحكمة: 2

43 ـ الموت وبرهان الربوبية: 3

44 ـ الموت وبرهان العناية: 4

22 ـ الموت وبرهان العدالة: 2

23 العقل:ثالثا ـ الموت.. وبراهين

33 الدليل األول: ازدواجية الحقيقة اإلنسانية

33 الدليل الثاني: دليل الحركة

34 وبراهين العلم:رابعا ـ الموت..

33 ـ الموت وحقيقة اإلنسان: 1

40 ـ الموت وحقيقة العقل: 2

42 أ ـ العقل بحسب الرؤية العلمية القديمة:

2

43 ب ـ العقل بحسب الرؤية العلمية الجديدة:

104 الفصل الثاني

104 البرزخ.. وتجليات الحقائق

113 أوال ـ البرزخ وتجليات حقيقة المصير:

113 ـ البرزخ.. وتجليات مصير المقربين: 1

121 ـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب اليمن: 2

134 ـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب الشمال: 3

140 ثانيا ـ البرزخ وتجليات حقيقة العمل:

142 ـ مراتب النعيم والعذاب في البرزخ: 1

123 ـ كيفية النعيم والعذاب في البرزخ: 2

123 في البرزخ:أ ـ الوجود الحسي للنعيم والعذاب

124 في البرزخ:للنعيم والعذاب ب ـ الوجود المتخيل

121 :في البرزخللنعيم والعذاب ج ـ الوجود التشبيهي

131 ـ صور النعيم والعذاب في البرزخ: 3

134 أ ـ األدلة النقلية على تجسم األعمال:

133 ب ـ األدلة العقلية على تجسم األعمال:

134 ـ نماذج من صور النعيم والعذاب في البرزخ وأسبابها: 4

131 أ ـ نماذج من صور النعيم وأسبابها:

143 ب ـ نماذج من صور العذاب وأسبابها:

111 ثالثا ـ البرزخ والصلة بالحياة الدنيا:

113 ـ البرزخ.. والتواصل مع الحياة الدنيا: 1

3

113 أ ـ التواصل الممتد:

203 ب ـ التواصل المحدود:

204 ـ البرزخ.. واالنقطاع عن الحياة الدنيا: 2

210 الفصل الثالث

210 المعاد.. وتجليات العدالة

213 أوال ـ النشر والحشر.. وتجليات العدالة:

222 ـ النفخ في الصور: 1

233 ـ التبديل والتهيئة: 2

241 ـ البعث والنشور: 3

241 أ ـ البعث والحركة التكاملية:

242 ب ـ البعث والتكامل الكوني:

241 ج ـ البعث وخاتمة الحركة الدنيوية:

222 د ـ البعث والمعاد الجسماني:

222 الشبهة األولى:

223 الشبهة الثانية:

224 الشبهة الثالثة:

221 ـ الحشر والعرض: 4

230 أ ـ مواقف أهل الحشر:

232 ب ـ النعيم والعذاب:

231 ج ـ االنتظار والشفاعة:

231 د ـ االبتالء واالختبار:

3

213 ثانيا ـ الحساب والموازين.. وتجليات العدالة:

213 ـ األعمال وكتبها: 1

303 أ ـ الكتب العامة:

310 ب ـ الكتب الخاصة:

312 ـ الشهود وتنوعهم: 2

314 أ ـ شهادة الله:

320 ب ـ شهادة األنبياء:

324 ج ـ شهادة الهداة:

334 د ـ شهادة المالئكة:

333 هـ ـ شهود آخرون:

343 ـ الحساب والمساءلة: 3

324 أ ـ الشؤون الشخصية:

331 ب ـ الشؤون المتعدية:

333 ـ الموازين ومعاييرها: 4

333 أ ـ موازين األعمال ودرجاتها:

344 ب ـ موازين االستقامة وآثارها:

311 ـ الشفاعة وشروطها: 2

402 أ ـ اإلذن اإللهي:

403 ب ـ قابلية الشافع:

410 ج ـ الشفاعة بالحق:

420 الفصل الرابع

4

420 الجزاء اإللهي.. وتجليات العدالة والرحمة

424 أوال ـ الجزاء المعنوي.. وتجليات العدالة والرحمة:

434 ـ الفرح والحزن: 1

431 ـ الرضى والسخط: 2

442 أ ـ الرضوان ومظاهره:

444 ب ـ السخط ومظاهره:

420 ـ التكريم واإلهانة: 3

422 ـ التواصل والقطيعة: 4

423 أ ـ التواصل ومظاهره:

432 ب ـ القطيعة ومظاهرها:

434 ثانيا ـ الجزاء الحسي.. وتجليات العدالة والرحمة:

432 ـ األجسام والصور: 1

432 أ ـ تبعية األجسام والصور لألعمال:

433 ب ـ انسجام األجسام مع الجزاء:

440 ج ـ روحانية األجسام:

443 ـ المناخ والتضاريس: 2

443 أ ـ مناخ وتضاريس الجنة:

411 ب ـ مناخ وتضاريس جهنم:

413 ـ المساكن والفرش: 3

202 ـ الطعام والشراب: 4

203 أ ـ الطعام وأنواعه:

1

210 ب ـ الشراب وأنواعه:

213 ـ الحلي والحلل: 2

222 ـ األزواج والولدان: 3

222 أ ـ المرأة في الجنة وإلزامها بزوجها:

224 ب ـ العالقة الزوجية في الجنة وسموها:

231 ج ـ الولدان المخلدون بمثابة األبناء:

233 ثالثا ـ مراتب الجزاء.. وتجليات العدالة والرحمة:

240 ـ مراتب المنحرفين: 1

243 أ ـ مرتبة المغضوب عليهم:

224 ب ـ مرتبة الضالين:

233 ـ مراتب المهتدين: 2

230 ـ مراتب المقربين: 3

10

مقدمة

لمسائل اتعتبر المسائل المرتبطة بحقيقة الموت، والمصير اإلنساني بعده من أهم

هذه على اإلنسان التي ال يمكن ألي عقل من العقول أال يهتم بها، ذلك أنها تعطي لوجود

األرض أبعادا جديدة لم يكن ليتصورها لوال ذلك االعتقاد.

والوجوديون والمالحدة الذين يشاغبون بكونهم ال يهتمون إال بوجودهم على

ويضحكون ساخرين من المؤمنين هذه األرض، وحياتهم فيها، واستثمارهم لكل لحظة،

عند ذكرهم للموت وما بعده، يكذبون على أنفسهم، ذلك أنهم في قرارة نفوسهم ال

يختلفون عن سائر الناس في شعورهم بالشوق للخلود والحياة األبدية، ويتمنون لو يدوم

أو بمن يحبونه. ،ما هم فيه من نعيم.. ويرون أن أكبر المنغصات حلول الموت بهم

ذلك نراهم يبذلون أمواال كثيرة لمراكز األبحاث رجاء أن تزيد في شبابهم ول

سنوات معدودة، أو تطيل من أعمارهم، أو تقضي على األمراض التي تصيبهم.. وكل

ذلك ألجل سنوات محدودة ال تساوي مع الخلود شيئا.

تي لال يشعرون بأي سعادة عندما يمارسون تلك الحياة الالهية اوفوق ذلك نراهم

أو أنهم يهزمون بها الموت، ألن الموت دائما ، يتصورون أنهم يفرون بها من الموت

أو ،يتعقبهم ويمر على خيالهم، ولهذا يحزنون لكل شعرة تشيب، أو لكل مرض ينزل

لكل مصيبة تحل.

]شوبنهاور[ فيلسوفوهكذا تمر حياتهم مليئة بالتشاؤم واليأس الذي عبر عنه

: )حياة اإلنسان كلها ليست إال نضاال مستميتا من أجل البقاء ولهبق التشاؤم المعروف

ي : )ينبغي أن ندمر فوقولهعلى قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاية(..

داخلنا، وبكل األشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرغبة في الحياة، أو حب الحياة(..

عد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه )يقال أن السماء تحاسبنا ب :وقوله

11

بإمكاننا أن نحاسبها أوالا عن المزحة الثقيلة للوجود الذي فرض علينا من دون أن نعلم

لماذا؟ وإلى أي هدف؟(

ومثله قال عالم األعصاب، والمحلل النفسي النمساوي )فكتور فرنكل(: )للكثير

(1)غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون ألجله( من الناس اليوم وسائل للحياة،

لهذا نجدهم يلتمسون كل الوسائل واألساليب لالحتيال على أنفسهم، لتظفر و

ببدائل جديدة عن المعاد الذي يعتقده المؤمنون، وقد قال بعضهم معبرا عن تلك البدائل:

أننا الملحدين على يقين ب)رغم هذا فإنني أعتبر الحياة )رغم عبثيتها( مقدسة جدا. فنحن

فرصة واحدة ال غير. فال حياة أخرى وال بعث أرواح -نحظى بفرصة واحدة فقط للحياة

وال جنة وال نار وما إلى ذلك. الحياة مباراة من جولة واحدة، لذا فمن المؤسف جدا أن

أن رءيبعثرها المرء أو يضيعها سدى.. لذا، فإلعطاء هذه القدسية حقها الكامل، على الم

يستغل فترة وعيه الوجيزة جدا ككائن حي إلى أبعد الحدود. ثقـف نفسك وعلـمها،

عزيزي القارئ، ليتسنى لك رؤية عجائب هذا الكون لما هي عليه فعال، بمنأى عن ضباب

الفكر الديني. إسبح في المحيط الهندي.. راقب غروب الشمس في وادي رم.. دغدغ

تعلـم حرفة يدوية كالنجارة أو الفخارة.. إشتر منظارا رضيعا.. تسلق شجرة أو جبل..

ودليل فضاء وفلك للمبتدئين وتمعن في أعماق الكون وابحث عن كواكبه ومجراته.. كن

سببا لتحسين حياة غيرك من الناس األقل حظا واكتسب من عملك هذا المتعة والرضا،

ي ال توصف، ويكسبون ففهناك الكثير من البشر الذين يعيشون في ظروف من السوء

أسبوع ما قد تكسبه أنت في ساعة )هذا إن كانوا يكسبون شيئا أصال(.. تبرع بالدم بين

(2)الحين واآلخر إن كانت صحتك تسمح.. إدعم ميتما أو داراا للعجزة.. إلخ(

.340انظر هذه النصوص وغيرها في كتابي ]كيف تناظر ملحدا[، ص (1)

.11:12 - 11/ 4/ 2002 - 1134العدد: -انظر: اإللحاد ومعنى الحياة، ليث البرزنجي، الحوار المتمدن (2)

12

الملحد، وذكره قبله وبعده الكثير من المالحدة، هذا هو العزاء الذي ذكره هذا

ن تلك المسكنات والمخدرات التي يهرب بها صاحبها عن الحقيقة وهو ال يختلف ع

المرة التي يعيشها.

وال مع كل العقول، وهذا العزاء الذي ذكره ال يمكن أبدا أن ينسجم مع كل الناس،

بل هو خاص فقط بطبقة محدودة من أصحاب األموال الذين يمكنهم أن يمارسوا ما

يشتهون حتى يشعروا بالعزاء، أما أولئك المستضعفين الفقراء، والذين تشكل الحياة عبئا

كبيرا عليهم؛ فإن تلك العزاءات لن تفعل لهم شيئا، فالحياة عندهم مجموعة آالم..

هالذي ينقذهم منبل الوحيد ا ،ينقذهم من آالمهمولذلك ال يستطيع اإللحاد أن

ولهذا نجد المالحدة، وألتفه األسباب ينهارون، وينتحرون، ألن الحياة هو اإليمان،

عندهم ال معنى لها، ولذلك ال معنى لتحمل العذاب فيها.

في مقابل هؤالء نجد المؤمنين بالمعاد، وبالحياة بعد الموت، وبالمصير الجميل

ينظرون إلى الحياة بصورة مختلفة تماما، ذلك أن الموت في أعينهم نراهم ينتظرهمالذي

ليس نهاية الرحلة، بل هو بداية لها.. والقبر في أعينهم ليس محال للظلمات األبدية

المطبقة، وإنما هو محل للسعادة أو الشقاء.

في دار لهملذلك تجدهم يستعملون كل الوسائل ليظفروا بتلك السعادة المخزنة و

المعاد، والتي لم تستطع هذه الدنيا، بجميع ما فيها تلبيتها لهم.

نحول اوليسير ئهمتهي كان اإليمان بالمعاد مدرسة تربوية ونفسية كبيرة وهكذا

.. فال يمكن لشخص أن يسير نحو الكمال، وهو يعتقد أن رحلته مالكمال الذي هيئ له

في الحياة تنتهي بموته.

ديان والفلسفات والمدارس التربوية المختلفة تهتم بالمعاد والحياة ولهذا نرى األ

بعد الموت، وترى أنها من أهم القضايا التي ال يمكن االستهانة بها، بل ال يمكن تشكيل

13

منظومة تربوية كاملة من دونها.

القرآن اهتماما عظيما، وعلى رأس هذه المصادر التي اهتمت بهذه المسائل

ويربطه دائما باإليمان بالله، ذلك أن اإليمان بالله ره في كل محل، الكريم الذي يذك

وحده، ليس له مفعول كبير عند أكثر الناس، ما لم يقترن به اإليمان باليوم اآلخر.

فاليوم اآلخر دليل على الرحمة والعدالة والقدرة والحكمة اإللهية، وهو أكبر ما

المعضلة الكبرى التي تحول بينهم وبين يرد على نظرية الشر التي يعتبرها المالحدة

اإليمان بالله.

فعندما يوقن المؤمن أنه سينال بعد الموت جزاء كل ألم أصابه، وأجر كل جهد

بذله، وأن كل من أصابه بأذى سينال عقابه الذي لم ينله في الدنيا، سيشعر بالراحة،

ل ضحي في سبيلها بكوسيهون عليه األلم، وسيقبل على جميع المكارم ينهل منها، وي

راحته ولذاته.. وهو ما يساهم في رفعه إلى المقامات العليا من سلم األخالق والقيم

النبيلة.

له بال نولهذا نرى القرآن الكريم يجعل المواعظ وتأثيرها محصورة في المؤمني

﴾اليوم اآلخر و اللهذلكم يوعظ به من كان يؤمن ب ﴿واليوم اآلخر، كما قال تعالى:

ذين آمنوا أطيعوا ﴿: وقال، [2]الطالق: ها ال سول وأولي األمر منكم اللهياأي وأطيعوا الر

وه إلى فردسول إن كنتم تؤمنون ب اللهفإن تنازعتم في شيء ذلك ر واليوم اآلخ اللهوالر

[21]النساء: ﴾خير وأحسن تأويالا

بين اإليمان بالله واليوم اآلخر، وكل السلوكات وهكذا يقرن رسول الله

خر فليقل خيرا أو من كان يؤمن بالله واليوم اآل)الطيبة، ومن األمثلة على ذلك قوله:

كان يؤمن بالله واليوم ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم االخر فليكرم جاره، ومن

14

من كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليحسن إلى جاره. وقوله: ) ،(1)االخر فليكرم ضيفه(

ومن كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليقل

(2)خيرا أو ليسكت(

عية تتحقق لإلنسان أي دافوغيرها من األحاديث الكثيرة التي تبين أنه ال يمكن أن

للعمل الصالح، أو بذل الجهد والتضحية في سبيله ما لم يمتلئ قناعة وإيمانا باليوم

اآلخر.

باإلضافة إلى ذلك، فإن فاقد هذا اإليمان لن يتميز بأي شيء آخر عن المؤمن به،

لمؤمن ا فال هو يسعد في حياته الدنيا سعادة زائدة، وال هو يتخلى عن اآلالم التي تصيب

ه وتعظم هون للمؤمن نتيجة إيمانبالله، ألن اآلالم تصيبهم وتصيب البشر جميعا، ولكنها ت

للكافر نتيجة جحوده، ولهذا أخبر الله تعالى أن تنعم اإلنسان في اآلخرة لن يحول بينه

ا من ذكر أو أنثى﴿وبين التنعم في الدنيا، كما قال تعالى: وهو مؤمن من عمل صالحا

[13]النحل: ﴾فلنحيينه حياةا طيبةا ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون

: )عجبا ألمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس وفي الحديث قال رسول الله

، وإن أصابته ضراء صبر، ذلك ألحد إال للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له

(3)فكان خيرا له، وليس ذلك ألحد إال للمؤمن(

ولهذا نرى المدافعين عن اإليمان بالله واليوم اآلخر يوردون على الجاحدين بها

عبر عنه أبو العالء المعري بقوله: ذلك الرهان الذي

زعم المنجم والطبيب كالهما

ال تبعث األجساد قلت: إليكما

( واللفظ له.43(، ومسلم )3143) 10البخاري ]فتح الباري[ (1)

(44مسلم ) (2)

(223/ 4رواه مسلم ) (3)

12

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

بقوله: )قال الملحد للمؤمن: ما موقفك اذا مت ولم تجد الجنة! وعبر عنه آخر

فرد المؤمن: لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!(

عبر عنه مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد، والذي ذكر أنه قال له و

)ماذا يكون الحال لو اخطأت حساباتك، وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت ساخرا:

وتراب ليس بعده شيء؟(، فأجابه مصطفى محمود بقوله: )لن أكون قد خسرت شيئا..

ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتي وصدقت توقعاتي.. وإنها

(1)لصادقة.. سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي(

ه ـ قبل ذلك كله ـ اإلمام الصادق مع بعض المالحدة، حيث قال مخاطبا عبر عنو

له: )إن يكن األمر على ما يقول هؤالء وهو على ما يقولون، يعني المؤمنين، فقد سلموا

وعطبتم وإن يكن األمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم(، فقيل له:

ولي وقولهم إال واحد؟ فقال: )وكيف يكون قولك ء يقولون ما قء نقول وأي شيوأي شي

وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها

(2)(..عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد

فيزيائي ، وهو الرهان الذي استعمله ال[رهان باسكال]يعرف اآلن باسم ما وهو

والذي يمكن صياغته (1332 -1323فرنسي بليز باسكال )الفيلسوف الرياضي ولاو

:(3)على الشكل التالي

إن آمنت بالله وكان الله موجوداا، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا -1

.42حوار مع صديقي الملحد، ص (1)

..34ص 1الكافي، ج (2)

انظر: الصراط المستقيم في الحجج والبراهين: رهان باسكال، آية الله السيد مرتضى الشيرازي، شبكة النبأ. (3)

13

ربح المحدود.

إن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداا، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه -2

المحدودة.خسارة

إن آمنت بالله وكان الله غير موجود، فلن تجزى على ذلك، وهذه خسارة -3

محدودة.

إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تعاقب لكنك ستكون قد عشت -4

حياتك، وهذا ربح محدود.

خطاب العقل نحاول في هذا الكتاب هذه الدوافع العلمية والتربوية،بناء على

هذا عنده وفيه باإليمان ، ليتحولوأساليب لالستداللاإلنساني بما يعرفه من مصادر

من مجرد احتمال بسيط أو عادي إلى حقيقة كبرى، ال يدل عليها الدين فقط، بل العالم

يدل عليها العقل أيضا.

، ألن سبب التأثير وهو ما يجعل من ذلك اإليمان مؤثرا ومحركا في الحياة

المحدود لحقائق المعاد ال يعود إلى ذاتها، وإنما يعود إلى ذلك القصور في معرفتها، أو

معرفة براهينها، وهذا هو الواقع لألسف؛ فأكثر الناس يحملون إيمانا جمليا تقليديا غير

مؤيد بالبراهين الكافية، ولذلك لم يعد إليمانهم ذلك التأثير الكبير المرتبط به.

صراف عن االهتمام بهذا النوع من المسائل مع أهميتها ذلك وقد زاد في االن

التوظيف الخاطئ الذي قام به المتطرفون واإلرهابيون عندما راحوا يستثمرون ما يرتبط

بهذا الجانب في الدعوة للعنف والتطرف.

ولذلك دعانا كل هذا إلى االهتمام بهذه المسألة، وطرحها بطريقة ينسجم فيها

والحقائق مع القيم. العقل مع النقل،

وقد ذكر الغزالي في نتائج بحثه عن سر الغرور واالبتعاد عن الدين ذلك الموقف

13

)فأول ما نبدأ به غرور الكافر، :المعاد، فقال ـ عند ذكره لغرور الكفار ـلمسائل المعادي

وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا.. ومنهم من غره بالله الغرور.. أما الذين غرتهم

الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة.. ولذات الدنيا يقين.. ولذات اآلخرة

(1)شك.. وال يترك اليقين بالشك(

دليل، فقال: )وهذا قياس فاسد.. وهو قياس إبليس لعنه ثم بين وجه فساد هذا ال

الله تعالى فى قوله: أنا خير منه.. فظن أن الخيرية فى النسب.. وعالج هذا الغرور شيئان:

إما بتصديق وهو اإليمان.. وإما ببرهان.. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله

فيما .. وتصديق الرسول [30]القصص: ﴾ال تعقلون خير وأبقى أف اللهوما عند ﴿

جاء به..وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه.. أن قوله: الدنيا نقد واآلخرة نسيئة

(2) مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس(

بها اإلنسان بعد الكتاب بحسب المراحل التي يمر قسمنا هذا كلهبناء على

: فصول خمسةإلى الموت، والتي وردت بها النصوص المقدسة، ودل عليها العقل،

دلة ، وحاولنا أن نبرهن فيه باألوالنشآت اإلنسانية الموت :الفصل األول تناولنا في

الكثيرة على أن الموت ليس سوى مرحلة من مراحل اإلنسان، الدينية والعقلية والعلمية

وال فناء.وليس عدما،

، وبينا فيه ما ورد فيوانكشاف الحقائقالفصل الثاني: البرزخ تناولنا فيو

لكثير من االنصوص المقدسة من حقائق ترتبط بهذه المرحلة التي يكتشف فيها اإلنسان

الحقائق الغيبية، ويتعذب بذلك، أو يتنعم به.

لمرتبطة ا فيه األحداث ا، وبينالعدالة. وتجليات .المعادالفصل الثالث: تناولنا فيو

(22أصناف المغرورين )ص: (1)

(22المرجع السابق، )ص: (2)

14

بالحشر والنشر والحساب والموازين والسراط وغيرها من التي ورد في النصوص ذكر

تفاصيلها، مع بيان عالقتها بصفات الله التي دل عليها العقل والنقل، وخاصة العدالة التي

تتجلى في ذلك الموقف بأكمل صورها.

ا فيه ، وذكرنتجليات العدالة والرحمةالجزاء اإللهي.. والفصل الرابع: تناولنا فيو

أنواع العقوبات وما ورد في النصوص المقدسة من أنواع الفضل اإللهي ألهل الجنة،

بالعمل والسلوك، ليكون الفضل اإللهي دافعا ة ذلك كلهوعالقألهل النار، اإللهية

ما ورد ذكر الجنة في القرآن الكريم ذكر معه العمل الصالح، للعمل، ال للكسل، فكل

ولذلك ال يصح أن يذكر النعيم مجردا عن األعمال المرتبطة به، كما ال يصح ألحد في

الدنيا أن يذكر فضل سلعة دون أن يذكر الثمن الذي تباع به.

ذكرنا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع العقوبات اإللهية، ذا هكو

واألعمال المرتبطة بها، مثلما نرى في قوانين العقوبات الدنيوية من ربط كل جريمة

بالعقوبة المناسبة لها.

وننبه إلى أننا حاولنا الرجوع لجميع المصادر المقدسة اإلسالمية وغير اإلسالمية،

ذين آمن ﴿ا تتفق على اإليمان بما بعد الموت، كما قال تعالى: باعتبارها جميع وا إن ال

ابئين من آمن ب ذين هادوا والنصارى والص ا فلهم اللهوال واليوم اآلخر وعمل صالحا

هم وال خوف عليهم وال هم يح ذين ﴿، وقال: [32]البقرة: ﴾زنون أجرهم عند رب إن ال

ابئون والنصارى من آمن ب ذين هادوا والص ا فال اللهآمنوا وال واليوم اآلخر وعمل صالحا

[31]المائدة: ﴾خوف عليهم وال هم يحزنون

قلية لكل المدارس الفلسفية والكالمية وهكذا رجعنا في االستدالالت الع

وغيرها، من المسلمين وغير المسلمين، ألن الحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها، فهو

أحق بها.

11

األول الفصل

والنشآت اإلنسانيةالموت..

ال يمكننا اكتشاف أسرار ما بعد الموت، ما لم نعرف الموت نفسه، وهل هو النهاية

وتنتهى معها جميع أسرارها، أم هو البداية لحياة جديدة، وبقوانين التي تنتهي معها الحياة،

جديدة، نحتاج إلى التعرف عليها، لنعرف كيف نهيئ أنفسنا لها.

الحياة نفسها.. فال يمكننا أن نعرف الموت ما حقيقة وهذا يدعونا إلى البحث عن

سان به بعد لم نعرف الحياة، وهل هي مختصرة في هذا الجسد الذي تنقطع صلة اإلن

موته، أم أنها شيء آخر؟

وهذا يدعونا ـ أيضا ـ إلى البحث عن هذا الجسد الذي نعيش به، وهل هو نحن، أم

أنه ليس سوى مركب لحقيقة أخرى تمثل األنا الحقيقي، ونحن ال نراها، ال بسبب عدم

ى روجودها، وإنما لكونها مثل العين التي نرى بها، وفي نفس الوقت ال تستطيع أن ت

نفسها إال من خالل غيرها؟

وهكذا يصبح البحث في الموت وحقيقته مرتبطا بالحياة وحقيقتها.. وهل قوانين

الحياة التي نعرفها قوانين الزمة ال تنفك عنها، أم أن هناك قوانين أخرى للحياة غير

القوانين التي نعرفها؟

يتنفس فيها اإلنسانهذه الصورة التي مختصرة في أو بعبارة أخرى: هل الحياة

، ويشرب الماء، ويأكل الطعام، ويتحرك برجليه، ويمسك األشياء بيديه.. أم جينواألكس

أنه يمكن أن تكون هناك حياة أخرى ال يحتاج فيها اإلنسان، وال غيره من األحياء إلى كل

ذلك؟

هذه هي التساؤالت التي ينطلق منها البحث في الموت، وقد أجاب عنها العقل

20

ساني إجابتين متناقضتين:اإلن

: فهي إجابة أكثر عقالء العالم من الفالسفة والمفكرين ورجال الدين األولىأما

وعلى مدار التاريخ، وهي اعتبار الموت بداية لمرحلة جديدة، وأن هناك حياة أخرى غير

اإلنسان ليس قاصرا على هذا الجسد، بل الجسد ليس سوى مركب الحياة التي نراها، وأن

من مراكبه التي يستبدلها بغيرها بعد أن تنتهي صالحيتها.

: فهي إجابة بعض العقالء والعلماء أيضا.. وهم محدودون جدا مقارنة الثانيةوأما

باألولين.. ويرون أن للحياة صورة واحدة هي التي نراها في المعامل البيولوجية.. وأن

بق.المطالعدم ما عداها هو الموت المطبق، والذي يعني

ولألسف فإن هذه النظرة الثانية مع افتقارها لكل األدوات العلمية، ومخالفتها لكل

العقول، وعلى مدار التاريخ، صارت توصف بالعلمية، وصار لها امتداد كبير في الواقع،

وهو ما هيأ األرضية لإللحاد.. ذلك أن إنكار حياة أخرى خارج نطاق المادة يستدعي

بالضرورة اإللحاد..

والمشكلة األكبر ليس في تبني هذه الجهة لتلك الرؤية والموقف من الحياة

والموت، وإنما في احتكارها للعلم، وتوهمها أن الحقيقة محصورة فيما تفكر فيه، أو

فيما تكشفه لها المخابر والمعامل.

ولذلك نراها تستعلي على كل الرؤى التي تخالفها، وتتهمها بالخرافة، وتخرجها

ق العلمية، وكأنها المسؤولة عن العلم، والمفوض لها التمييز بين ما هو علم، وما من نطا

هو خرافة، مع العلم أن كبار العلماء والعقالء على مدار التاريخ يخالفونها في هذه

الوجهة.

ومن األمثلة على هذا االستعالء ما نقلته كبار وسائل اإلعالم عن هوكينغ وموقفه

( اإلخباري التابع ألكبر شبكة قنوات أمريكية هذا الخبر CNNموقع )من الجنة، فقد أورد

21

وبهذا العنوان المثير ]هوكينغ: ال وجود للجنة والحياة اآلخرة قصة خرافية[، ثم أوردت

الخبر، وكأن هوكينغ اكتشف دواء عجز األطباء عن اكتشافه، حيث ورد في الخبر:

عبارة عن ]قصة خرافية[ هذا ما قاله عالم )مفهوم ]الجنة[ أو أي نوع من الحياة اآلخرة

الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ في مقابلة صحفية هذا االسبوع، وسط احتمال

أن تثير تصريحاته جدالا واسعاا آخر خصوصاا بين رجال الدين والالهوت.. وأضاف

بر الدماغ )أنا أعت األحد: هوكينغ في المقابلة التي نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية

كجهاز كمبيوتر يتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته(، مضيفاا: )ليس هناك من جنة أو

حياة آخرة ألجهزة كمبيوتر محطمة، وهي أشبه بقصة خرافية للناس الذين يخشون من

(1)الظالم(

ت كالم لهذا ما نقلته هذه القناة اإلخبارية التي يتابعها مئات الماليين، ولو أنها نق

كل العلماء في المسألة لكان مقبوال، لكن اهتمامها ا لخاص برؤية هوكينغ مع تلك الهالة

العظمى التي أعطيت له، حول األمر من موقف شخصي إلى مسألة علمية، يستثمر فيها

العلم ـ وبطريقة خاطئة ـ لغرس أيديولجيات اإللحاد.

صورات التي يعتمد عليها الت تمدى تهافولذلك نحاول في هذا الفصل بيان

المنكرون للعالم اآلخر، والذين يحكمون على الحياة وفق ما يرونه ويعيشونه، من غير

فرصة أخرى لتعبر عن نفسها بطريقة جديدة.عطائها إ

ومن خالل استقرائنا لألدلة التي يمكن اعتمادها في هذا الباب، فقد رأينا أنه يمكن

م:تقسميها إلى أربعة أقسا

تلك األدلة النابعة من عالم النفس، والذي دل ا: ونقصد بهالفطرةبراهين أولها ـ

حزيران/يونيو 14( اإلخباري، السبت، NCCهوكينغ: ال وجود للجنة والحياة اآلخرة قصة خرافية، موقع ) (1)

2011.

22

عليه الواقع، ولجميع البشر، وفي جميع فترات التاريخ.

ونقصد بها تلك األدلة التي اتفقت عليها األديان، وخصوصا :الدينبراهين ثانيها ـ

ائقها.اإلسالم باعتباره الدين المهيمن عليها، والشارح لحق

ونقصد بها تلك األدلة التي نص عليها الفالسفة :العقلبراهين ثالثها ـ

والمتكلمون، ودلت عليها العقول السليمة التي لم تدنس بدنس اإللحاد.

ونقصد بها تلك األدلة التي دل العلم المتواضع من خاللها :العلمبراهين رابعا ـ

على أن الحياة أكبر من أن تختصر فيما نعرفه منها.

: الفطرة وبراهين. .أوال ـ الموت

﴾وفي أنفسكم أفال تبصرون ﴿ويشير إلى هذا النوع من األدلة قوله تعالى:

ه الحق سنريهم آيا﴿، وقوله: (21ريات:ا)الذ تنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن

شهيد ه على كل شيء ك أن (23)فصلت: ﴾أولم يكف برب

وهو من البراهين التي استدل بها الفالسفة وغيرهم، ويمكن ألي شخص أن

ا من المعارف ما نتفق عليه جميعا.يكتشفها في نفسه، فالله تعالى أودع فين

ومن أكبر األدلة عليها أننا نجد الشيخ الكبير، والذي قد هرم جسده، وانحل أكثر

خالياه ال يزال يملك في نفسه ومشاعره كل همم الشباب ورغباتهم.. بل إننا قد نجده

سده، جيخطط ويدخر لسنوات كثيرة ال يطمع ألن يعيش لها.. ولو أن نفسه كانت تابعة ل

لما فكر مثل هذا التفكير، وال هم بمثل هذه الهمم.

وهكذا نرى في النفس اإلنسانية تطلعا للخلود وشوقا إليه.. ولذلك يستعمل

كل الوسائل للفرار من الموت، ومن أسبابه.. وهذه الرغبة ال يمكن أن تكون اإلنسان

الرغبات الموجودة في النفس ما يغطيها، ويلبي ناشئة عن فراغ.. ذلك أن لكل رغبة من

. حاجتها

23

فالعطش والرغبة في الماء.. دلتنا على وجود الماء.. والرغبة في الطعام دلتنا على

وجود كل األطعمة التي نشتهيها، وبحسب األذواق التي ركبت في طباعنا..

جدا.. تفوق حدوهكذا نجد كل الرغبات لها ما يلبيها في الواقع، وبأنواع كثيرة

الضرورة والحاجة..

ومثل هذا الرغبة في الخلود والسعادة األبدية.. فهي موجودة فينا، ويكذب على

ما يمثلها الرغبة دليال على وجودهذه نفسه من يزعم عدم إحساسه بها.. ولذلك كانت

.. مثلما نستدل بوجود الماء والطعام وكل ما نشعر بحاجتنا إليه.في الواقع

ن الشعور بالرغبة في الخلود أعظم من كل الرغبات.. ولذلك لم يؤسس بل إ

الطب وال كل العلوم المرتبطة به إال للسعي لتحقيق بعض متطلبات تلك الرغبة.

يرى العلماء المحققون هذا المعنى بديع الزمان النورسي بقوله: ) وقد أشار إلى

، ى المتولدة من آماله غير المتناهيةأن أفكار البشر وتصوراته اإلنسانية التي ال تتناه

الحاصلة من ميوله التي ال تحد، الناشئة من قابلياته غير المحصورة، المندمجة في

استعداداته الفطرية غير المحدودة، المندرجة في جوهر روحه، كل منها تمد أصابعها

الفطرة عالم الشهادة هذا. ف فتشير وتحدق ببصرها فتتوجه إلى عالم السعادة األبدية وراء

التي ال تكذب أبدا والتي فيها ما فيها من ميل شديد قطعي ال يتزحزح إلى السعادة

األخروية الخالدة تعطي للوجدان حدسا قطعيا على تحقق الحياة األخرى والسعادة

(1)دية(األب

ليست ظرفا ـ إلظهار ويقول: )نعم، إن دار الدنيا القصيرة هذه ال تكفي ـ كما أنها

ما ال يحد من االستعدادات المندمجة في روح اإلنسان وإثمارها، فالبد أن يرسل هذا

.303الكلمات، ص (1)

24

اإلنسان إلى عالم آخر.. نعم، إن جوهر اإلنسان عظيم، لذا فهو رمز لألبدية ومرشح لها.

، وإن خرىوإن ماهيته عالية وراقية؛ لذا أصبحت جنايته عظيمة؛ فال يشبه الكائنات األ

نظامه دقيق ورائع، فلن تكون نهايته دون نظام، ولن يهمل ويذهب عبثا، ولن يحكم عليه

.. تنتظره.. والجنة بالفناء المطلق ويهرب إلى العدم. وإنما تفتح جهنم أفواهها فاغرةا

(1)تبسط ذراعيها الحتضانه..(

ين ديكارت، ودليل الصديقوهذا الدليل يشبه كثيرا الدليل األنطولوجي ألنسلم و

.. فكل هذه األدلة تعتمد على تلك الحقائق التي ركزت اللفارابي وابن سينا والمال صدر

في نفس اإلنسان، فأصبحت من البديهيات التي ال يحتاج إلى االستدالل لها.

لموجود الذي ال يمكن تصور اوكمثال على ذلك فإن الدليل الذي ينص على أن )

يمكن أن يوجد في العقل وحده، وبالفعل، حتى إذا كان موجودا في شيء أعظم منه ال

العقل وحده، فمن الممكن أن نتصور موجودا مثله له وجود في الواقع أيضا، وهو بالتالي

أعظم منه، وعليه، إذا كان موجودا في العقل وحده، فإن الموجود الذي ال يمكن تصور

(2) (كون باإلمكان تصور شيء أعظم منهشيء أعظم منه سيكون من طبيعة تستلزم أن ي

والذي ينسب إلى أنسلم يمكن تطبيقه هنا، فاإلنسان يشعر بأن هذه الحياة ال تكفي

ى، يجد المستلبة، ولذلك يتطلع إلى حياة أخر هلتلبية رغباته الكثيرة، وال تفي برد حقوق

في نفسه شوقا كبيرا إليها.

يجعلون من الحياة بعد الموت نوعا من وهذه ليست عقدة نفسية كما يتوهم الذين

التفكير الرغبوي، ذلك أن هذه الرغبة متفق عليها بين البشر جميعا، وفي جميع العصور،

وهي تدل على أن لها واقعا لم نكتشفه ألننا لم نرحل بعد إلى ذلك العالم.

.312المرجع السابق، ص (1)

(3/21إميل برهييه في تاريخ الفلسفة ) (2)

22

ولو كانت تفكيرا رغبويا النحصرت في أشخاص دون أشخاص، أو طائفة دون

ثلما نرى الكثير من النزغات الشاذة، أو العقد النفسية التي يحاول المرضى أن طائفة، م

يحولوا منها حقائق واقعية، ولو كانت كذلك الشترك البشر جميعا في االنفعال لها، مثلما

يشتركون في عطشهم وجوعهم وأشواقهم المختلفة.

االعتقاد، بناء على هذا سنذكر هنا نماذج مختلفة تدل على مدى فطرية هذا

وشموله لكل الناس قديما وحديثا، ومن يوصفون بالخرافة، أو من يوصفون بكونهم من

أهل العلم.

. وتصورات الحضارات القديمة:.. الموت1

تعتقد الحياة بعد الحضاراتنرى كل من المالحظات الجديرة باالهتمام أننا

الموت، وبوجود الروح، وإن كانت تختلف في تصوير ذلك، بناء على الخرافات التي

، وأكبر دليل على ذلك تلك الطقوس التي تقام للموتى، الدينصورها لها الخيال أو رجال

ولم تكن لتقام لو كان الموت انفصاال نهائيا عن الحياة، وبكل معانيها.

ك الحضارة المصرية القديمة، والتي كانت تقوم على الكثير ومن األمثلة على ذل

من المعتقدات، وكان من أهمها تلك المعتقدات المرتبطة بالحياة بعد الموت، يقول

)إيمان المصريين بوالدة جديدة بعد الموت أصبحت القوة بعض الباحثين في ذلك:

قطاع مؤقت، بدالا من ن الموت مجرد انأالدافعة وراء ممارسات جنازة خاصة بهم. وك

التوقف الكامل عن الحياة، وأنه يمكن ضمان الحياة األبدية عن طريق وسائل مثل التقوى

لآللهة، والحفاظ على الشكل المادي من خالل التحنيط، وتوفير التماثيل والمعدات

(1)الجنائزية األخرى(

، مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون إشكالية الموت في الديانات السماوية واألرضية، يسرى وجيه السعيد (1)

.43بال حدود، عدد

23

وينقل عن باحث آخر قوله: )وقد تأثر موقف المصريين القدماء من الموت

بإيمانهم بالخلود، واعتبروا الموت بمثابة انقطاع مؤقت، بدالا من توقف الحياة. ولضمان

استمرارية الحياة بعد الموت، ألقى الناس تحية لآللهة، سواء أثناء حياتهم أو بعدها على

محنطين، حتى الروح سوف تعود إلى الجسم، مما يعطيها األرض. عندما ماتوا، كانوا

التنفس والحياة، وقد وضعت المعدات المنزلية والطعام والشراب على تقديم طاوالت

ن . كما تم تضميالدفن خارج غرفة الدفن لتوفير احتياجات الشخص في العالم بعد

في تىالنصوص الجنائزية المكتوبة التي تتكون من نوبات أو صالة لمساعدة المو

(1)طريقهم إلى عالم ما بعد الحرب(

ويذكر الباحثون أن المصريين في حضارتهم القديمة كانوا يؤمنون بالبعث، وأن

معتقداتهم تذكر أنه يمكن لإلنسان أن يحافظ على حياته بعد الموت إذا حافظ على

ت( أجزاء: االسم )رين(، الروح )با(، الظل )شيو 4كينونته، وهي تتركب عندهم من

والنفس )كا(.

ـ )تولد مع اإلنسان، فاالسم يرى المصريون القدامىوجميع هذه األجزاء ـ كما

والروح والظل والنفس ترافقه مدى الحياة وما بعد الحياة كجزء من كيانه، وعند الموت

موت بعد حتى حية الروح، أي ؛[]باتبقى هذه المركبات مالزمة للميت، وتبقى الـ

هيو بشري، برأس طائر جسد هيئة على رسوماتهم في المصريون صورها وقد. الجسد

لق في تح الشمس، حركة مع تتماهى األخروي، والعالم المادي العالم بين ما منتقلة تطير

ال [با]بزوغها ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب. وقد آمن المصريون بأن الـ

يمكنها العودة إلى القبر ما لم تتعرف على جسد الميت، ومن ثم، ال يمكن للمرء أن يعود

المرجع السابق، وقد نقلت النص عن موسوعة ستانفورد للفلسفة، في تعريف الموت. (1)

23

إلى الحياة إذا فني جسد الميت ولم تتعرف الروح إليه. ولهذا حرص المصريون على

المحافظة على الجسد، فمارسوا مهمة التحنيط التي تخدم المرء في عودة روحه إلى

سد ال يوجد اسم وال ظل وال نفس، وهي أمور يحتاجها جسده بعد الموت؛ فبدون ج

الميت للمثول أمام محكمة اآللهة للمحاسبة على أفعاله، ومن ثم يبعث من جديد في

(1)الحياة األخرى(

وهم يربطون هذه المعتقدات التي تختلط فيها الحقيقة بالخرافة بالكثير من

قد وصلنا ما يسمى بكتاب الموتى السلوكات التي يمتزج فيها العقل مع الشعوذة، و

الفرعوني، والذي يعرف ببردية ]حونفر[، وهو يتكون من مجموعة مفصلة من التعاويذ

والتمائم السحرية التي كانت تنقش على جدران المقابر أو على التوابيت، وذلك إبان

لق.م(، لتتحول إلى بردية مكتوبة خال 2233ق.م و 2340عصر الدولة القديمة )ما بين

ق.م(، حيث تكتب نصوص 1031ق.م و 2134عصر الدولة الوسطى والحديثة )ما بين

التعاويذ وتوضع البردية في التابوت إلى جانب المومياء.

وقد استغل الكهنة هذه المعتقدات في طلب األموال الكثيرة لكتابة تلك

)ولم يكن :التعويذات والتمائم التي تنجي صاحبها بعد الموت.. يقول بعض الباحثين

نه مكلف جداا. لذلك، اختصت به طبقة معينة من ألهذا األمر متوفراا لكل المصريين،

النبالء والموظفين وخدام اآللهة في المعبد. تلك التعاويذ والتمائم التي يحملها الكتاب

هي تعليمات إرشادية تمكن الميت من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه

ه إلى الحياة األخرى، وتدله أيضاا على الوسائل التي يتعين عليه أن في أثناء رحلت

هاجس البعث: الموت والقيامة في الحضارات اإلنسانية، أحالم رحال، مدونة األجنحة والنور، على الرابط التالي: (1)

sttth//:hslha002.ssdrtdrhh.msa

24

(1)يستخدمها، ليتمم هذه الرحلة بنجاح من دون أن يتعرض ألي سوء(

وتحفظ لنا الكتب المصرية القديمة الكثير من األدعية والتعويذات الدالة على

م كانوا يرددون: )لم أقم اعتقادهم بالقوانين التي تحكم عالم ما بعد الموت، ومنها أنه

بشر ضد الناس، لم أطغ على الضعفاء، لم أقم بأي شيء باطل، لم أترك أي إنسان جائع،

لم أرغم أي إنسان أن يشتغل أكثر من ما هو قادر عليه، لم أترك أياا كان يبكي ويتألم من

(2)شيء قمت به، أنا نظيف أنا نظيف أنا نظيف(

ونفس الشيء نجده في الحضارة السومرية، وقد قال بعض الباحثين في ذلك: )إن

مصادر معتقدات بالد ما بين النهرين في اآلخرة تأتي من فترات متميزة في تاريخ بالد ما

بين النهرين، وتشمل الثقافات السومرية واألكادية والبابلية واآلشورية. لذلك، يجب أن

بار معتقدات ما بعد النهر في بالد ما بين النهرين ثابتة أو نكون حريصين على عدم اعت

موحدة. ومثل كل النظم الثقافية، تحولت أفكار بالد ما بين النهرين من الحياة اآلخرة

على مر الزمن. كما تباينت المعتقدات والممارسات المتعلقة بالحياة اآلخرة مع الوضع

لدينية الرسمية والشعبية. ومع هذا، فإن االجتماعي واالقتصادي وتختلف في النماذج ا

االستمرارية الثقافية بين الحضارة السومرية وخلفائها تسمح بتوليف مصادر متنوعة من

(3)أجل توفير مقدمة عمل لمفاهيم بالد ما بين النهرين في الحياة اآلخرة(

عد ب ومن األساطير التي كانت تنتشر إبان الحضارة السومرية، والمرتبطة بالحياة

الموت تلك األسطورة التي تذكر أن )اإلله الراعي دوموزي )تموز في الصيغة البابلية(

كتاب الموتى الفرعوني وأسطورة البعث من الموت والحساب أمام اآللهة، مهدي بو عبيد، موقع شباب الشرق (1)

.sttt//:hd.atrrhhtasdts.msa/?t=43310الي: األوسط، على الرابط الت

المرجع السابق. (2)

حزيران / يونيو 20انظر: مقاالا حول عادات بالد ما بين النهرين القديمة في الحياة اآلخرة، بقلم م. تشوكسي، في (3)

، نقال عن المرجع السابق..2014

21

كان قد تجنب الوقوع في شباك اإللهة عشتار، فسلمته عقاباا له لناظر العالم السفلي. وبعد

حين شعرت عشتار بالندم على فعلتها، فقررت إنقاذه من الموت. عقدت عشتار صفقة

السفلي إلعادة دوموزي، على أن يحل أحد مكانه لبضعة أشهر يعود فيها مع آلهة العالم

إلى الحياة، ثم بعد فترة ينزل للعالم السفلي من جديد. تطوعت كوشتينانا )أخت

دوموزي( لفدائه، حيث تحل محله في العالم السفلي لستة أشهر من كل عام، ويتمتع هو

ك عن طريق طائر الفنيق أو العنقاء، بحريته في هذه المدة على سطح األرض. ويتم ذل

(1)كرمز لعودته للحياة(

وبناء على هذه األسطورة أصبح طائر النار المسمى بطائر الفنيق رمزاا للبعث

والعودة للحياة، وبعدها أصبح الكنعانيون يحتفلون كل عام في بداية الربيع بعيد عودة

د الزراعة عندهم، فأصبح عيد دوموزي )تموز( للحياة، حيث تتزامن عودته مع مواعي

عودته رمزاا النبعاث الزرع وعودة العشب األخضر إلى الحياة من بعد الموت، رمزاا

للخصوبة والتناسل والتجدد، واستعملوا البيض كرمز لقيامة تموز، حيث يخرج

الكتكوت )الصوص( من البيضة، بمثل ما يخرج الزرع من األرض وتخرج الحياة من

.(2)القبر

ذه األسطورة في حقيقتها تشير إلى ما تدل عليه الكثير من المظاهر الطبيعية وه

كيف يحي اللهفانظر إلى آثار رحمت ﴿على وجود الحياة بعد الموت، كما قال تعالى:

قد [ 20]الروم: ﴾ير األرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء

وهكذا نجد كل الديانات السماوية تتبنى نفس الموقف من الموت، وأنه ليس النهاية، بل هو البداية لحياة جديدة، لها قوانينها الخاصة، كما ورد في

المرجع السابق. (1)

هاجس البعث: الموت والقيامة في الحضارات اإلنسانية. (2)

30

اإلنجيل: )من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه وبه ننال الحياة (.66: 6)يو (األبدية

والديانات الهندية ومنها البوذية والهندوسية، تؤمن بالتناسخ، وهكذا نجد الدروز

أي عودة الروح بعد الموت في خلق جديد. )إذ يرى الدروز على ســـبيل المثال أن روح

ــخ من ــتمر بالتناس ــد طفل حديث الوالدة، وتس ــان الميت تنتقل بعد وفاته إلى جس اإلنس

(1)د للمحاسبة(خلق آلخر حتى تحين القيامة فتجتمع األرواح وتصع

. وتصورات الحضارة الحديثة:.. الموت2

على الرغم من فشو اإللحاد والمادية عند أكثر الفالسفة والمفكرين الذين يدعون

تمثيل الحضارة الحديثة، نتيجة موقفهم السلبي من رجال الدين الذي أساءوا استخدام

الدين والتعبير عنه، إال أننا مع ذلك نجد رغبة كبيرة عندهم في تحقق ما يقوله المؤمنون

من الحياة بعد الموت.

Plato's] البروفيسور )كنجهام( في كتابهوقد عبر عن تلك الرغبة الفطرية

Apalogy:(2)ن عقيدة الحياة بعد الموت )ال أدرية مفرحة(إ) [: فقال

من الممكن اعتبار هذا القول ) وقد علق على هذه العبارة وحيد الدين خان بقوله:

أن عقيدة اآلخرة اخترعتها خالصة أفكار فالسفتنا الملحدين المعاصرين؛ فهم يرون

عقلية االنسان الباحثة عن عالم حر، مستقل عن حدود هذا العالم، ومشكالته، مليء

باألفراح. وانما يدفعه إلى االيمان بهذه العقيدة أمله في الحصول على حياته المفضلة،

ي، لالتي الجهد فيها والكدح.. وأن هذه العقيدة تنتهي باالنسان إلى عالم مثالي وخيا

أن ـ الفالسفة يراها كماـ حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت. ولكن الحقيقة

المرجع السابق. (1)

.12نقال عن اإلسالم يتحدى، ص (2)

31

(1)(!االقع األمر في الثاني العالم كهذا لشيء الوجود

)دليل ـ ذاته حد في ـوفي رأيي: أن هذا المطلب االنساني ثم أضاف ردا عليهم: )

يدل على الماء، وعلى عالقة خاصة آخر، كالظمأ، فهو عالم وجود على قوي نفسي(

في ليلد آخر عالم إلى ـ نفسيا ـباطنة بين الماء وبين االنسان. وهكذا فان تطلع االنسان

وهذا .يوجد أن خليق ـ االقل على ـ أنه الحقيقة، أو في موجود ذلك مثل شيئا أن على ذاته

غريزة ريخ على وجود هذه الالتا الحقيقة، ويدلنا بهذه مصيرنا عالقة يؤكد النفسي المطلب

مستوى انساني، وهو أمر الأستطيع فهمه: كيف يمكن االنسانية منذ أقدم العصور على

أن يؤثر أمر باطل على البشر في هذا الشكل األبدي، وعلى مستوى انساني؟ وهذا الواقع

، بدون ةنفسه يدلنا على قرينة قوية بامكان وجود العالم اآلخر. وانكار هذه الحاجة النفسي

(2)(أدلة، يعتبر جهال وتعصبا

وبين مدى التناقض الذي يقع فيه المنكرون لهذه الحقيقة الفطرية التي يجدونها

ن الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل في أنفسهم، بل ال يملكون الفرار منها، فقال: )إ

سطح األرض هذه زاعمين أنها باطلة، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي )واقع( على

.وعن أي برهان؟. ..بعد هذا.. ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فالأدري بأي دليل؟

ولو كانت هذه األفكار نتاج المجتمع، كما يزعمون، فكيف التزال تطابق التفكير

نية إنسااالنساني، بهذه الصورة المدهشة، من اقدم العصور؟ هل تجدون مثاال ألية أفكار

ة إلى العصر الحاضر، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين؟ هل أخرى ظلت باقي

يستطيع أذكى اذكيائهم أن يخترع فكرا واهيا، ثم يدخله إلى النفس االنسانية، وكأنه

.12المرجع السابق، ص (1)

.12المرجع السابق، ص (2)

32

(1)(موجود بها منذ األزل؟

وينقل وحيد الدين خان إلثبات هذا الدليل الكثير من النقول من العلماء الغربيين،

نه ألمر هام يدعونا إلى التفكير فيما اذا كانت لنا عالقة إ[: )وينوود ريد]اذ األستمنها قول

شخصية مع االله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا؟ وهل سوف نلقى جزاء أعمالنا في

ذلك العالم؟ ان هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب، وانما هو في نفس الوقت

يضا. انه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة؛ فحياتنا الراهنة قصيرة أأعظم أسئلتنا العملية

ذ اننا عندما نظفر بما نحلم به، يفاجئنا الموت، ولو استطعنا آجدا، أفراحها عادية موقوتة،

االهتداء إلى طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية، فلن يرفض العمل به أحد غير البله

(2) والمجانين منا(

كيف أن هذا العالم راح يعرض عن هذا الدليل النفسي مع قوته بناء على ثم ذكر

سي نكر ذلك المطلب النفأف ،ستطرداالكاتب نفسه غلبة التفكير المادي، حيث أن ذلك

ذه ن هإ: )حيث قال تعقيبا على كالمه السابقالكبير من أجل أمور الوزن لها والقيمة؛

نبحث جوانبها بعمق وجد.. ولكن بعد هذا البحث العقيدة كانت معقولة جدا حين كنا ال

ثبات سخافته بسهولة، فالفالح المحروم العقل إاتضح لنا أنها أمر سخيف، ويمكن

الجاهل اليتحمل مسؤولية خطاياه، وسيدخل الجنة، ولكن العباقرة مثل )جوته(،

ه ل و)روسو(، سوف يحترقون في نار الجحيم؛ فألن يخلق االنسان محروم العقل خير

(3) من أن يكون من أمثال جوته وروسو!! ان هذا الكالم تافه وسخيف(

وهذا الكالم الالمنطقي يشبه كثيرا ما ذكره القرآن الكريم عن الوليد بن المغيرة،

.12المرجع السابق، ص (1)

.13المرجع السابق، ص (2)

.12المرجع السابق، ص (3)

33

ذلك الذي تبين له الحق، لكنه راح يتملص منه بأعذار واهية ال قيمة لها، وقد قال في

ا )ذرني ومن خلقت ﴿ شأنه: ا )11وحيدا ا )12( وجعلت له ماالا ممدودا ( 13( وبنين شهودا

ا ) دت له تمهيدا ا )12( ثم يطمع أن أزيد )14ومه ه كان آلياتنا عنيدا ( سأرهقه 13( كال إن

ا ) ر )13صعودا ر وقد ه فك ر ) ( فقتل 14( إن ر )11كيف قد ( ثم نظر 20( ثم قتل كيف قد

( إن 24( فقال إن هذا إال سحر يؤثر )23( ثم أدبر واستكبر )22( ثم عبس وبسر )21)

[22-11: المدثر] ﴾(22هذا إال قول البشر )

ـ موقف ] وهو يشبه أيضا ـ كما يق تجاه التحق [اللورد كلوينيذكر وحيد الدين خان

ال بعد إ العلمي الذي قام به )ماكسويول(؛ فقد زعم اللورد أنه اليستطيع أن يفهم نظرية ما

وضع نموذجها الميكانيكي، وبناء على هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق

.نماذج اللورد المادية ىحدإلم تحل في والمغناطيس، ألنها

)كيفمن هذا وقوله: العالم الكبير )سوليفان(وقد ذكر وحيد الدين خان موقف

حد أن يدعي أن الطبيعة البد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في يروق أل

وسوف أوجه هذا الكالم إلى األستاذ )وينوود(: )كيف ، وعقب عليه قائال: )معمله؟(

سوف القرن العشرين أن يرى: أن يكون الكون الخارجي، في حقيقة األمر يجوز لفيل

(1)مطابقا لما يزعمه هو؟(

ن كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة: هو أن الحقيقة ثم أضاف يقول: )إ

التحتاج إلى الواقع الخارجي، وانما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلى

لحقيقة أن لهذا الكون الها، وسوف نمثل أمامه يوم الحساب. فالبد لكل )الحقيقة(.. فا

نا لن اللهه؛ فنجات ومطيعا وفيا يكون أن ـ عاديا مواطنا كان أم روسو أكان سواء ـمنا

.13المرجع السابق، ص (1)

34

يحققها جحودنا، بل هي تكمن في ايماننا وطاعتنا.. والغريب أن كاتبنا لم يرق له أن

يطالب )جوته( و)روسو( أن يسلكا مسلك الحق، وانما طالب الحق بالتغير! ولما لم يطع

شبه بمن ينكر قانون حفظ األسرار العكسرية، الذي يكرم أحيانا أالحق راح ينكره!! وهذا

ويعدم عالما ممتازا، مثل )روزنبيرج وعقيلته الحسناء( بالكرسي جنديا بسيطا،

(1) (الكهربائي!!

الدين:وبراهين . .ـ الموتثانيا

يتصور الكثير من المالحدة أو منكري المعاد بأن البراهين الدينية ال عالقة لها

عل ، لبالبراهين العقلية أو العلمية أو الفطرية.. وهذا غير صحيح من وجوه كثيرة جدا

ة أدلة عقليوهي ضرورة تدل عليها البناء الديني على ضرورة وجود إله، قيام أولها وأهما

كثيرة، لم يذكرها رجال الدين فقط، وإنما ذكرها كبار العقالء في العالم، سواء كانوا في

المجال الفلسفي، أو المجال العلمي.

وتدل عليها المظاهر وإثبات وجود إله، وبتلك الصفات التي يدل عليها العقل،

الكونية التي نراها كافية إلثبات المعاد، ومن جهات عقلية عديدة.

رة، قائمة أيضا على أدلة عقلية كثيعليهم السالم وهكذا فإن إثبات رساالت األنبياء

ولذلك فإن قبولهم يستدعي قبول كل ما جاءوا به، ومن أهم ما جاءوا به، واتفقوا عليه،

الموت، والكثير مما يرتبط بتلك الحياة. إثبات الحياة بعد

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك، واعتبر هذه المسألة من أهم المسائل بعد اإليمان

بالله تعالى، ولهذا يقترن دائما اإليمان بالله باإليمان باليوم اآلخر، باعتبارهما الشطران

الكبيران للعقيدة التي جاء بها جميع األنبياء.

.14المرجع السابق، ص (1)

32

ولهذا كان من أول وظائف الرسل عليهم السالم التبشير واإلنذار، وهما وظيفتان

﴿مرتبطتان بمصير اإلنسان بعد موته، قال تعالى مخبرا عن خطاب خزنة جهنم ألهلها:

ا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال ل ذين كفروا إلى جهنم زمرا هم خزنتها ألم وسيق ال

كم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ول كن يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات رب

ت كلمة العذاب على الكافرين [ 31]الزمر: ﴾حق

كانوا يعلمون بالمعاد، ويخبرون أقوامهم وهكذا أخبر القرآن الكريم أن كل األنبياء

الله تعالى عن أبحدثنا به، وفي ذلك رد بليغ على من يتوهمون تطور العقائد، فقد

قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في األرض ﴿: ، وقوله لهالبشرية آدم عليه السالم

،[24: ]األعراف ﴾ال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون مستقر ومتاع إلى حين، ق

ون رب فأنظرني إلى يوم يبعث ﴿وأخبر أن إبليس كان يعلم أن هناك معادا للخالئق، فقال:

[ 34 - 33: ]الحجر ﴾قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم

اللهو ﴿وأخبر عن نوح عليه السالم، وأنه قال لقومه أثناء تبليغ رسالة الله لهم:

ا ا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ن األرض نباتا [ 14 - 13]نوح: ﴾أنبتكم م

وأخبر عن إبراهيم عليه السالم ـ وهو النبي الذي تتفق على تبجيله جميع الديانات

ين ﴿السماوية ـ قوله: ذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الد وقوله: ،[42]الشعراء: ﴾وال

نا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الح ﴿ [ 41]إبراهيم: ﴾ساب رب

بل إن القرآن الكريم قص علينا قصة سؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الله للموتى،

وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ﴿فقال:

ا ليطمئن قلبي قال فخذ أربع ير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ةا من الط

[230]البقرة: ﴾عزيز حكيم اللهثم ادعهن يأتينك سعياا واعلم أن

وهكذا نجد القرآن الكريم يخبرنا عن موسى عليه السالم، وأن الله خاطبه في

33

نك ﴿اة بقوله: المناج اعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فال يصد إن الس

بع هواه فتردى وقد كانت هذه المناجاة أول ،[13 - 12]طه: ﴾عنها من ال يؤمن بها وات

ى أهمية المسألة، وانبناء الدين عليها.وحي تلقاه موسى عليه السالم، وهي دليل عل

ا هدنا ﴿قوله في دعائه: ه وأخبرنا عن نيا حسنةا وفي اآلخرة إن واكتب لنا في هذه الد

[ 123﴿]األعراف: ﴾إليك

ويذكر تلك المعجزة التي حصلت في عهده، والتي كان من أغراضها إثبات إحياء

له فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي ال ﴿ما قال تعالى في قصة البقرة: الله للموتى، ك

كم تعقلون [33﴿]البقرة: ﴾الموتى ويريكم آياته لعل

وهكذا أخبرنا عن مؤمن آل فرعون الذي كان في عهد موسى عليه السالم، وأنه

ن ويا قوم إن ﴿قال لقومه: ون مدبرين ما لكم م من هاللي أخاف عليكم يوم التناد يوم تول

ما هذه ﴿[، وقال: 33 - 32]غافر: ﴾فما له من هاد اللهعاصم ومن يضلل يا قوم إن

نيا متاع وإن اآلخرة هي دار [31]غافر: ﴾القرار الحياة الد

، والرسالة الخاتمة، فإنها أكبر المصادر المفصلة ألسرار ما بعد أما رسول الله

كلها وة والفطرية والعلمية، الموت، والبراهين الدالة عليها، وهي براهين ممتلئة بالعقالني

ن صفة ذلك أوالتي يدل عليها العقل والواقع، ترجع إلى صفات الله تعالى خالق الكون..

الطبيب تقتضي عالج المرضى، وصفة الرحيم تقتضي تحقق الرحمة، وصفة الكريم

تقتضي تنزل الكرم.. وصفة العدالة تقتضي تحقق العدل.

وهكذا، كانت كل صفات الله تعالى التي دل عليها العقل والدين والواقع أكبر

األدلة على عدم انحصار الحياة في هذا العالم الذي نعيشه.

صفات كبرى، هي: خمسسنذكر هنا نماذج عن ذلك، من خالل بناء على هذا

، والعدالة. والعناية، والربوبية ،والحكمةالقدرة،

33

ـ الموت وبرهان القدرة: 1

لعل أول الشبهات التي تعترض المنكرين للحياة بعد الموت توهمهم استحالة

هؤالء المنكرين أنفسهم وفي ذلك، وهو توهم ناتج عن قياس الخالق بالمخلوق، مع أن

حياتهم العادية يرفضون القيام بأمثال هذه القياسات.

ذلك أن االستحالة عادة ال ترتبط بالقضية بقدر ما ترتبط بمن وكلت إليه.. فلو أن

المريض وكل عالجه لعامي وجاهل بالطب، لكان تحقيق ذلك مستحيال، بخالف ما لو

االستحالة ترفع، والسبب بسيط، وهو أن الذي تولى ذلك وكل أمره لطبيب خبير.. فإن

خبير، له القدرة على ذلك.

وهكذا إذا طلب منك حل معادلة رياضية، فذكرت استحالة حلها، أو صعوبته،

ذكر لك أن االستحالة مرتبطة بعقلك، ال بعقول الرياضيين.. ذلك أنهم يمكنهم حلها

بسهولة.

رقون بين القدرات المختلفة، ويربطون وهكذا في كل المسائل، تجدهم يف

ه لينفق ذو سعة من سعت ﴿االستحالة بالطاقة والقدرة، كما ذكر الله تعالى ذلك، فقال:

ا آتاه ا إال ما آتاها اللهال يكلف اللهومن قدر عليه رزقه فلينفق مم [3]الطالق: ﴾نفسا

نظر الله إلى ال ةولهذا نجد القرآن الكريم ينبه هؤالء الذين يقيسون قدراتهم بقدر

قوة الله وعلمه وقدرته مفي الكون، الكتشاف مدى ضعفهم وجهلهم وعجزهم أما

المطلقة.

وهذا دليل عدم علمية هذا النوع من التفكير، ذلك أن العالم الذي يرى هذا الكون،

نسان، وما أودع فيه من الطاقات، ال يحيل على الصانع ودقته ونظامه، ويرى جسم اإل

البديع الذي صمم هذا الكون واإلنسان بأن يعيده، أو يحييه.

ولذلك رد القرآن الكريم على منكري البعث لتوهمهم استحالته، بإثبات قدرة الله

34

حي خلقه قال من ي وضرب لنا مثالا ونسي ﴿المطلقة التي يدل عليها الواقع، قال تعالى:

ة وهو بكل خلق عليم )34العظام وهي رميم ) ل مر ذي أنشأها أو ( الذي 31( قل يحييها ال

ا فإذا أنتم منه توقدون ) جر األخضر نارا ذي خلق ( أوليس ال 40جعل لكم من الش

ق العليم ) ماوات واألرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخال ما أمره 41الس ( إن

وإلي 42إذا أراد شيئاا أن يقول له كن فيكون )ذي بيده ملكوت كل شيء ه ( فسبحان ال

[ 43 - 34]يس: ﴾( 43ترجعون )

وهكذا يدعو الله العقول المتحجرة التي تحصر معارفها فيما تراه، وفي قدراتها

المحدودة، وتتوهم أن قدرة الله مثل قدرتها، بأن تنظر في الكون لترى أن قدرة الله التي

العلمية ب ممتلئمتنع ذلك عليها، وهذا خطاب صممته ذلك التصميم البديع يستحيل أن ي

والعقالنية.

وهكذا يخاطب القرآن الكريم المنكرين للمعاد، بأن ينظروا في السموات

واألرض، ليستدلوا بالقدرة على النشأة الثانية بالقدرة على النشأة األولى، قال تعالى:

ماوات واألرض بقادر على أن يخلق ﴿ ذي خلق الس ق أوليس ال مثلهم بلى وهو الخال

(، فكل شيء يسير على الله، والكون كله يدل على ذلك اليسر، قال 41)يس: ﴾العليم

عنكبوت: ]ال ﴾يسير اللهالخلق ثم يعيده إن ذلك على اللهأولم يروا كيف يبدئ ﴿تعالى:

11]

ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ: ويخاطب الله تعالى ا اماا أإذا كنا عظ ﴿لذين قالوا

ا لمبعوثون خلقاا جديداا (، بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء 41)االسراء: ﴾ورفاتاا أإن

ا يكب ﴿شاءوا مما يتعتقدون قوته: م ﴾ر في صدوركم قل كونوا حجارةا أو حديداا أو خلقاا م

، فإن الجواب ﴾من يعيدنا﴿(، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون: 21 - 20)االسراء:

ذي فطركم ﴿القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى: ل قل ال أو

31

ة ﴾مر

علمي، عندما يفرونثم يذكر القرآن الكريم ابتعاد أولئك الجاحدين عن المنهج ال

من أصل القضية إلى فروعها، وذلك بالسؤال عن موعد ما ال يؤمنون به، وكأن عدم

فسينغضون إليك رؤوسهم ﴿ونه، قال تعالى: رتحديد الموعد هو الدليل على ما ينك

(21)االسراء: ﴾ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباا

وت وبرهان الحكمة:ـ الم 2

وهو من البراهين الواضحة جدا، ذلك أن العقل يحكم بأن تصرفات العليم الخبير

ال تكون إال بناء على حكمة جليلة قد نعلمها، وقد ال نعلمها، وعدم علمنا بها ال يعني

عدم وجودها، فلذلك إن أخبرنا عنها بنفسه، أو أرسل من يخبر عنها، كان في ذلك موافقة

قتضيه العقول.لما ت

وقد أرسل الله لنا من يدلنا على حكمته من خلقه، ويبين لنا األهداف الكبرى لكل

ما نراه في الكون والحياة، وأنه لم يخلق عبثا، بل لكل شيء غاية من ورائه، قال تعالى:

كم إلينا ال ترجعون ﴿ ، ثم عقب [112]المؤمنون: ﴾أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاا وأن

رب الملك الحق ال إله إال هو اللهفتعالى ﴿بعدها ببيان استحالة العبث على الله، فقال:

[113]المؤمنون: ﴾العرش الكريم

وهكذا اعتبر القرآن الكريمة خلو الكون من الغاية نوعا من الباطل الذي يتنزه عنه

يف ال يتنزه عنه، وخلقه مع ضعفهم وقصورهم ينزهون تصرفاتهم من أن تكون الحق، وك

ذين ﴿للعبث المجرد، قال تعالى: ماء واألرض وما بينهما باطالا ذلك ظن ال وما خلقنا الس

ذين كفروا من النار [23]ص: ﴾كفروا فويل لل

للحق أن يتحقق لوال وجود حياة أخرى تكمل هذه الحياة، وتسد ولذلك لم يكن

ماوات واألرض وما بينهما ﴿القصور والنقص الموجود فيها، قال تعالى: وما خلقنا الس

40

فح الجميل اعة آلتية فاصفح الص [42]الحجر: ﴾إال بالحق وإن الس

الله تعالى إلى الصفح، وربطه بالقيامة دليل على أن العدالة المطلقة وفي دعوة

ستكون هناك، ليقتص من الظالمين، ويأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم، وهو ما ال نجده

في الدنيا إال قليال.. ولذلك كان من مقتضيات الحكمة والعدالة أن تؤدى الحقوق

ألهلها، سواء في هذه الدار أو في غيرها.

علماء يعترفون بانبناء الكون على الحكمة، ولهذا نشأت كل العلوم، فهي وال

أن لكل موجود غاية، وأنه ليس هناك شيء بال فائدة، أو بال دور، ومبدئيا تفترض دائما

رية ، ليؤيدوا نظأواخر القرن التاسع عشرحتى تلك الفكرة التي ذكرها البيولوجيون

الضامرة أو اآلثارية( ال وظيفة لها، ألنها من بقايا )األعضاء التطور، والتي تنص على أن

، راح العلم بعد تطوره يفند أطروحاتهم، ويبين أن لها وظائف لم يتفطن لها أهل التطور

القرن التاسع عشر، وكان األصل ـ لو تواضعوا، ولم يدخلوا األيديولوجيا في العلم ـ أن

رها.يسلموا بعدم خلوها من الحكمة، ولو لم يكتشفوا س

فقد ذهب الكثير من ،(1)[الغدة الصنوبريةومن األمثلة على ذلك الموقف من ]

وا ذلك ، وبرروظيفةأي ليست له ا،أثري اعضوإلى كونها التاسع عشرالعلماء في القرن

ها، وهذا ما جعلهم ال يهتمون بالبحث فيها.صغر حجمب

يرونه في جسم بينما رأى آخرون استحالة خلوها من الوظيفة، بناء على ما

اإلنسان، وأنه ال يوجد فيه شيء من دون أن تكون له حكمة، وغياب معرفتنا بالحكمة ال

يعني عدم وجودها، فلذلك راحوا يفترضون فرضيات كثيرة، ويطبقون عليها المنهج

العلمي إلى أن وصلوا إلى التعرف على دورها.

الغدة الصنوبرية: هي غدة صغيرة الحجم من الغدد الصماء تقع في المخ وهي المسؤولة عن إفراز هرمون (1)

الميالتونين ولها عالقة بتنظيم معدل النمو الجسمي وكذلك عمليات النضج الجنسي في الكائن الحي.

41

مجهولة من هذا العضو وهكذا كان التطور العلمي سببا في اكتشاف الحكمة ال

يدل على أن العقل الذي يلجأ إلى نفي الحكمة، ويدعو بذلك إلى التخلي والبسيط، وه

عن البحث عنها عقل كسول، بخالف العقل الذي يبحث عن الحكمة المختفية وراء ما

يراه من مظاهر.

ولهذا كان الذي يسأل عن سر الكون، والحكمة منه، ويبحث جادا عن ذلك، وعبر

لمناهج المختلفة أكثر علمية من ذلك العقل الكسول الذي يرى خلو أبسط أجزاء الكون ا

من العبث في نفس الوقت الذي يتوهم فيه أن الكون بجملته خلق عبثا، وال جدوى منه،

وال حكمة من ورائه.

ومثل ذلك مثل من يدخل قصرا يرى فيه الجمال واإلتقان، وأن كل شيء فيه

بديع، ولغايات نبيلة.. لكنه وبعد التعرف على أسرار كل تفاصيله مصمم وفق تصميم

وغرفه، يذكر أن القصر جميعا بني لغير حكمة، وأنه مجرد عبث.. وهذا مستحيل

فالحكمة في التفاصيل والجزئيات والفروع تدل على الحكمة في األهداف والغايات

والكليات.

يع من خاللها أن نكتشف أن وقد ذكر القرآن الكريم بعض المظاهر التي نستط

يخرج الحي من الميت ويخرج ﴿الحياة أعظم من أن تنحصر بالصورة التي نراها، فقال:

[11]الروم: ﴾الميت من الحي ويحي األرض بعد موتها وكذلك تخرجون

]رسالة الحشر[ مبينا وجوه االستدالل وقد علق عليها بديع الزمان النورسي في

ما دامت )الحياة( هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها بها على هذا المعنى، فقال: )

وجوهرها، فال تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة

وما يفهم من غاية ن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها،إالمؤلمة، بل

والحياة اآلخرة والحياة الحية بحجرها ،ما هي إال الحياة األبدية.. شجرتها ونتيجتها

42

زة بهذه وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. وإال يلزم أن تظل شجرة الحياة المجه

وال فائدة وال دون ثمر ـ وال سيما اإلنسان ـ األجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور

حقيقة، ولظل اإلنسان تعسا وشقيا وذليال وأحط من العصفور بعشرين درجة، بالنسبة

لسعادة الحياة، مع أنه أسمى مخلوق وأكرم ذوي الحياة وأرفع من العصفور بعشرين

درجة. بل العقل الذي هو أثمن نعمة يصبح بالءا ومصيبة على اإلنسان بتفكره في أحزان

ب قلبه دائما معكرا صفو لذة واحدة بتسعة آالم!. الزمان الغاب ر ومخاوف المستقبل، فيعذ

(1) (والشك أن هذا باطل مائة في المائة

يا ترى هل يمكن لرب قدير، يهيئ ما يلزم حياتك من ثم راح يتساءل قائال: )

ك تالحاجات المتعلقة بها جميعا ويوفر لك أجهزتها كلها سواء في جسمك أو في حديق

أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى إنه يعلم رغبة

معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي

للرزق مبديا قبوله لذلك الدعاء بما بث من األطعمة اللذيذة غير المحدودة ليطمئن تلك

هذا المدبر القدير أن ال يعرفك؟ وال يراك؟ وال يهيئ األسباب المعدة! فهل يمكن ل

الضرورية ألعظم غاية لإلنسان وهي الحياة األبدية؟ وال يستجيب ألعظم دعاء وأهمه

وأعمه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ وال يقبله بعدم إنشائه الحياة اآلخرة وإيجاد الجنة؟

لوق في الكون بل هو سلطان األرض وال يسمع دعاء هذا اإلنسان وهو أسمى مخ

ونتيجتها.. ذلك الدعاء العام القوي الصادر من األعماق، والذي يهز العرش والفرش!

فهل يمكن أن ال يهتم به اهتمامه بدعاء المعدة الصغيرة وال يرضي هذا اإلنسان؟ ويعرض

(2) (كالحكمته الكاملة ورحمته المطلقة لإلنكار؟ كال.. ثم كال ألف ألف مرة

..114الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (1)

..114الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (2)

43

ليس ذلك فقط ما يتساءل عنه العقل الحكيم، بل إن هناك أسئلة أخرى كثيرة، منها

أن القدير الحكيم ذا ـ بوجه من األوجه ـ هل يقبل العقلما عبر عنه النورسي بقوله: )

الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعته كثيرا، ويحبب

فهل يعقل أن يفني حياة من هو أكثر ..إلى مخلوقاته وهو أشد حبا لمن يحبونهنفسه بها

حبا له، وهو المحبوب، وأهل للحب، وعابد لخالقه فطرةا؟ ويفني كذلك لب الحياة

وجوهرها وهو الروح، بالموت األبدي واإلعدام النهائي، ويولد جفوة بينه وبين محبيه

(1) (سر رحمته ونور محبته معرضا لإلنكار! ويؤلمهم أشد اإليالم، فيجعل

لله.. فالجمال المطلق الذي الله ألف مرة حاش احاش ثم يجيب عن ذلك قائال: )

والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزينتها، زين بتجليه هذا الكون وجمله،

هذا القبح قساوة وعنالشك أنهما منـزهتان ومقدستان بال نهاية وال حد عن هذه ال

(2) (المطلق والظلم المطلق

ـ الموت وبرهان الربوبية: 3

ه رب العالمين ﴿ويشير إلى هذا البرهان قوله تعالى في سورة الفاتحة: الحمد لل

حيم )2) حمن الر ين )3( الر ، فقد جمع الله تعالى [2 - 2]الفاتحة: ﴾( 4( مالك يوم الد

في هذه السورة الكريمة، التي هي أم القرآن، بين ربوبيته ومالكيته ليوم الدين، ذلك أن

الربوبية تقتضي وجود دار يتحقق فيها الجزاء اإللهي للمحسنين والمسيئين على حد

سواء، وإال لما كان هناك معنى للتكاليف.

لله تعالى، واسم من أسمائه الحسنى ذلك أن الربوبية ـ التي هي صفة من صفات ا

من تصرفه فيه، تتضـ تتضمن الكثير من المعاني المقتضية لذلك، فربوبية الله للعالمين )

..112الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (1)

..112الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (2)

44

وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقت فيه، وكونه معه كل ساعة في شأن، يخلق ويرزق؛ ويميت

(وإرادته هويحيي، ويخفض ويرفع؛ ويعطي ويمنع؛ ويعز ويذل، ويصرف األمور بمشيئت

وكل هذه المعاني تستلزم عدم اقتصار الحياة على هذه الحياة الدنيا التي نعيشها،

بل تقتضي وجود دار أخرى، وحياة أخرى، ألننا ال نرى في هذه الحياة تحقق الكثير من

هذه المعاني مع أن الربوبية تستدعيها.

الدار التي تتحقق فيها ولهذا ورد في القرآن الكريم اإلخبار بأن الدار األخرى هي

الحياة الحقيقية، وذلك ألن الربوبية تتجلى فيها بشكل كامل، بخالف هذه الدار التي

نيا وما هذه الحياة ﴿هيئت فيها األمور بناء على االختبار واالبتالء اإللهي، قال تعالى: الد

ار اآلخرة له [34]العنكبوت: ﴾ي الحيوان لو كانوا يعلمون إال لهو ولعب وإن الد

ولذلك تتجلى في تلك الحياة التي تلي الموت مباشرة األشياء على ما هي عليه

( 43فلوال إذا بلغت الحلقوم ) ﴿في الواقع، كما قال تعالى مخبرا عن ساعة االحتضار:

( فلوال إن كنتم 42( ونحن أقرب إليه منكم ولكن ال تبصرون )44وأنتم حينئذ تنظرون )

بين )43( ترجعونها إن كنتم صادقين )43غير مدينين ) ا إن كان من المقر ( فروح 44( فأم

ا إن كان من أصحاب اليمين )( وأ 41وريحان وجنت نعيم ) ( فسالم لك من 10م

ين )11أصحاب اليمين ) ال بين الض ا إن كان من المكذ ( 13( فنزل من حميم )12( وأم

[14 - 43]الواقعة: ﴾وتصلية جحيم

التي تظهر لإلنسان بمجرد انتهاء فترة فهذه اآليات الكريمة تخبر عن الحقيقة

االمتحان، حيث يبدو له مصيره الذي صنعه بيديه ماثال بين عينيه.

وهكذا يخبر الله تعالى أن من صفات الدار اآلخرة التي ستقع ال محالة أنها

( 1إذا وقعت الواقعة )﴿الرفع، قال تعالى: هتخفض من حقه التخفيض، وترفع من حق

[3 - 1]الواقعة: ﴾(3( خافضة رافعة )2ليس لوقعتها كاذبة )

42

وقد أشار إلى هذا المعنى بديع الزمان النورسي، في رسالة الحشر، فقد تساءل

الممكن لـمن له شأن الربوبية وسلطنة األلوهية، فأوجد كونا بديعا كهذا أمنقائال: )

د جليلة، إظهارا لكماله، ثم ال يكون لديه ثواب للمؤمنين ولمقاص ،الكون؛ لغايات سامية

الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد باإليمان والعبودية، وال يعاقب أهل الضاللة الذين

(1)(واالستخفاف..؟! الرفضقابلوا تلك المقاصد ب

يا أخي! إن رمت وذكر في مقدمة الرسالة قصة توضيحية جميلة، قدم لها بقوله: )

إيضاح أمر الحشر وبعض شؤون اآلخرة على وجه يالئم فهم عامة الناس، فاستمع معي

(2)(إلى هذه الحكاية القصيرة

وألهمية القصة نلخص بعض محتوياتها، فهي تصوير تقريبي لحقيقة تلك الحياة،

وأحيانا كثيرة يكون التقريب نفسه برهانا.. ألن الحجاب بين بعض العقول وتعقل

ني هو تلك التوهمات والصور األسطورية والخرافية التي سرت إليها؛ فإذا ما زالت المعا

األسطورة حلت بدلها الحقيقة.

نة ـ معا إلى مملكة رائعة الجمال كالجذهبا ن ياثنوتبدأ حكاية النوسي التقريبية بـ )

ومحالتهم نيتهمالتشبيه هنا للدنيا ـ وإذا بهما يريان أن أهلها قد تركوا أبواب بيوتهم وحوا

(مفتوحة ال يهتمون بحراستها.. فاألموال والنقود في متناول األيدي دون أن يحميها أحد

. وهذا تصوير تقريبي للدنيا، التي نجد فيها النعم بمختلف أشكالها، وكأنه ال مالك .(3)

لها.

فا منحروقد كان أحد االثنين ـ كما ورد في القصة ـ صالحا يستعمل عقله، واآلخر

.33الكلمات، النورسي، ص (1)

.41المرجع السابق، ص (2)

.41المرجع السابق، ص (3)

43

يسرق حينا ويغصب حينا آخر متبعا لهواه، وقد راح بناء على ما رآه من سهولة السرقة، )

(1) (مرتكبا كل أنواع الظلم والسفاهة، واألهلون ال يبالون به كثيرا

)ويحك ماذا تفعل؟ إنك ستنال وعندما رآه صديقه الصالح يفعل ذلك قال له:

ه األموال أموال الدولة، وهؤالء األهلون قد عقابك، وستلقيني في باليا ومصائب. فهذ

أصبحوا ـ بعوائلهم وأطفالهم ـ جنود الدولة أو موظفيها، ويستخدمون في هذه الوظائف

اعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان و ،ببزتهم المدنية، ولذلك لم يبالوا بك كثيرا

(2) ر وبادر إلى التوسل(. أسرع يا صاحبي باالعتذا.ورقباؤه وهواتفه في كل مكان

فهذه األموال ليست أموال . : )دعني.لم يقبل ذلك، بل راح يرددولكن صاحبه

الدولة، بل هي أموال مشاعة، ال مالك لها. يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء.

،يفال أرى ما يمنعني من االستفادة منها، أو االنتفاع بهذه األشياء الجميلة المنثورة أمام

(3) واعلم أنى ال أصدق بما ال تراه عيناي(

وهنا راح صاحبه يقنعه باستحالة أن تكون تلك المملكة الجميلة المنظمة من دون

)إنك بال شك تعلم أنه ال قرية بال مختار، وال سلطان أو حاكم، وقال له أثناء حديثه معه:

. فكيف يسوغ لك القول: إنه ال حاكم وال .إبرة بال صانع وبال مالك، وال حرف بال كاتب

سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه األموال الطائلة

(4) (والثروات النفيسة الثمينة بال مالك

ثم راح يذكر له األدلة الكثيرة على اقتضاء الصنعة للصانع، والمملكة للملك،

.41المرجع السابق، ص (1)

.20المرجع السابق، ص (2)

.20المرجع السابق، ص (3)

.20المرجع السابق، ص (4)

43

ترى في أرجاء هذه المملكة إعالنات السلطان الوكان من ضمنه أقواله له قوله: )أ

وبياناته، وأعالمه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكته وطرته على األموال

(كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟

وبعد تلك األدلة الكثيرة راح ذلك السفيه يسلم جدال بوجود السلطان، لكنه راح

طئة في تلك المملكة بذرائع جديدة، حيث ردد على مسامعه قوله: يعلل ممارساته الخا

ه وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي )لنسلم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن أن تضر

(1) منها؟ ثم إني ال أرى هنـا عقابا من سـجن أو ما يشبهه!(

تي نراها ما هي إال : )يا هذا، إن هذه المملكة الالمؤمن بقوله أجابه صاحبهوهنا

ميدان امتحان واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة،

ترى أن قافلة تأتي يوميا وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن ومضيف مؤقت جدا.. أال

هذه المملكة العامرة، إنها تمأل وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائيا وتبدل بأخرى باقية

(2) دائمة، وينقل إليها الناس جميعا فيثاب أو يعاقب كل حسب عمله(

ودار للثواب وهنا راح الصاحب يسأل عن إمكانية وجود محكمة كبرى،

وقد أجابه صديقه باثني عشر صورة، تدل على واإلحسان، وأخرى للعقاب والسجن،

عن برهان ضرورة وجود تلك المحكمة.. سنعرض لما نحتاجه منها عند الحديث

العدالة.

والخالصة أن هذه القصة التقريبية تصور الواقع بدقة، وتبرهن عليه.. فما نراه من

النعم العظيمة، والتنظيم الدقيق يدل على ضرورة وجود إله يملك هذا الكون، ويدبر

أموره، وكل األدلة العقلية تدل على ذلك.

.20المرجع السابق، ص (1)

.20المرجع السابق، ص (2)

44

يل أن يترك خلقه من دون عناية ثم إن هذا اإلله ـ بحسب ما يدل عليه الكون ـ يستح

أو رعاية أو اهتمام.. وكيف يفعل ذلك، وهو يرعى أبسط حاجاتهم منذ نشأتهم األولى

إلى وفاتهم؟

وذلك يدل وحده على ضرورة استمرار الحياة، وإال لكان كل هذا الكون وكل هذه

يافته؟.. هاء ضالنعم ال معنى لها.. فما معنى أن يستضيف أحدهم شخصا، ثم يقتله بعد انت

وما معنى أن يربي األستاذ تالميذه، ويعلمهم، ثم يسلمهم في نهاية المطاف إلى الموت

الذي يقضي عليهم قضاء كليا؟

هذه بعض تجليات هذا البرهان، وسنتحدث عنه بتفصيل أكثر عند الحديث عن

ورة العقاب.صالجنة والنار، باعتبارهما المحل الذي تتجلى فيه الربوبية بصور الجزاء أو

:العنايةـ الموت وبرهان 4

وهو من البراهين الواضحة لكل من قلب طرفه فيما وضع الله تعالى في الكون

من دالئل عنايته بخلقه، وتلبيته لحاجاتهم دون أن يسألوها.. وهو ال يدل فقط على وجود

استمرارية وإنما يدل أيضا على ،(1)الفالسفة والمتكلمونالله، كما استدل على ذلك

الحياة، ألنها من أكبر الحاجات التي يشعر اإلنسان بضرورتها.. ولوالها لكانت الحياة

وخصوصا ابن رشد الذي أولى هذا الدليل عنايته الكبرى، وقد قال معبرا عن ذلك: )الطريق التي نبه الكتاب العزيز (1)

إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية عليها ودعا الكل من بابها

باإلنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه )دليل العناية( والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر األشياء

ولنسم هذه )دليل االختراع(، ثم ذكر وجه الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد واإلدراكات الحسية والعقل،

االستدالل على البرهان األول ]برهان العناية[.. فذكر أنه ينبني على أصلين بقدر فهمهما والرسوخ في معرفتهما، بقدر ما

ود جيتوضح البرهان، وتزال اإلشكاالت المرتبطة به، أما األصل األول، فهو )أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لو

اإلنسان(، وأما األصل الثاني، فهو )أن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك، مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه

[21الموافقة باالتفاق.. أي صدفة( ]انظر الدليل بتفصيل في كتابي: كيف تناظر ملحدا، ص

41

ال معنى لها.، وعبثا

وهو برهان يدل ـ من طريق آخر ـ على إرسال الله الرسل، وإنزال الكتب الشارحة

بوات، النلحقائق الوجود، وقوانين الحياة، ولذلك يستدل المتكلمون بهذا الدليل على

كما يستدلون به على وجود الله.

وهو بذلك، وفي كل األحوال يدل على ضرورة تكميل هذه الحياة بحياة أخرى،

تسد نقصها، وتوفر كل الحاجات التي افتقرت إليها هذه الحياة.

ولذلك نرى القرآن الكريم يربط بين عناية الله بعباده في الدنيا، وبين الحديث عن

أن رب الدنيا هو رب اآلخرة، وأن الذي استطاع أن يوفر كل هذه األقوات اآلخرة، ليذكر

في الدنيا، لن يعجز عن توفيرها في اآلخرة.. وأن الذي وفر الحياة األولى لن يعز عليه أن

يوفر الحياة األخرى.

ومن األمثلة على ذلك ما ورد في سورة النبأ، والتي تتحدث عن اليوم اآلخر

يا التي وقع فيها الخالف، فبعد تقرير ذلك الخالف في اليوم اآلخر باعتباره من القضا

بدأت اآليات الكريمة مباشرة في االستدالل بالعناية اإللهية على وجود الحياة األخرى،

ا ) ﴿قال تعالى: ا )3ألم نجعل األرض مهادا ا )3( والجبال أوتادا ( 4( وخلقناكم أزواجا

ا )و ا )1جعلنا نومكم سباتا يل لباسا ا )10( وجعلنا الل ( وبنينا 11( وجعلنا النهار معاشا

ا ) ا شدادا ا )12فوقكم سبعا اجا ا وه ا 13( وجعلنا سراجا اجا ( وأنزلنا من المعصرات ماءا ثج

ا )( لنخرج ب 14) ا 12ه حبا ونباتا [13 - 3]النبأ: ﴾( وجنات ألفافا

وبعد هذه اآليات الكريمة التي تضمنت مجامع النعم التي أنعم الله بها على عباده،

ا ) ﴿بدأ الحديث عن اليوم اآلخر، قال تعالى: ( يوم ينفخ في 13إن يوم الفصل كان ميقاتا

ور ف ا )الص ا )14تأتون أفواجا ماء فكانت أبوابا ( وسيرت الجبال فكانت 11( وفتحت الس

ا [20 - 13]النبأ: ﴾سرابا

20

واآليات الكريمة تربط بين ما نراه في الدنيا من آثار المواقيت على األشياء،

ل هذا الكون، ونشأة من نشآت وتقلباتها، بذكر اليوم اآلخر، وكونه مرحلة من مراح

الحياة.. والذي قدر على خلق النشأة األولى لن يضعف عن خلق النشأة الثانية.

وهكذا نرى القرآن الكريم يربط بين عناية الله تعالى بعباده في هذه النشأة بذكر

ا مالنشأة اآلخرة، باعتبارها من مقتضيات عناية الله تعالى بعباده، ومن األمثلة على ذلك

ب أيحس ﴿ورد فيه عند ذكر األطوار التي يمر بها اإلنسان في حياته، كما قال تعالى:

ى فجعل من ني يمنى ثم كان علقةا فخلق فسو ن م ى ألم يك نطفةا م ه اإلنسان أن يترك سدا

كر واألنثى أليس وجين الذ ، [40 - 33]القيامة: ﴾ذلك بقادر على أن يحيي الموتى الز

طفة ثم ﴿وقال: ن تراب ثم من ن ا خلقناكم م ن البعث فإن ها الناس إن كنتم في ريب م يا أي

قة وغير م خل ضغة م نبين لكم ونقر في األرحام ما نشاء إلى أجل من علقة ثم من م قة ل خل

ن يرد إلى أر ن يتوفى ومنكم م كم ومنكم م ى ثم نخرجكم طفالا ثم لتبلغوا أشد سم ل ذ م

ت العمر لكيال يعلم من بعد علم شيئاا وترى األرض هامدةا فإذا أنزلنا عليها الماء اهتز

ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة ﴿، وقال: [2]الحج: ﴾وربت وأنبتت من كل زوج بهيج

كين ثم ن طين ثم جعلناه نطفةا في قرار م نا خلقنا النطفة علقةا فخلقنا العلقة مضغةا فخلق م

ا آخر فتبارك ا ثم أنشأناه خلقا ا فكسونا العظام لحما ن ثم أحسن الخالقي اللهالمضغة عظاما

كم بعد ذلك لميتون ثم إن [13 - 13]المؤمنون: ﴾كم يوم القيامة تبعثون إن

فهذه اآليات الكريمة جميعا تعتبر الحياة األخرى التي تلي الموت مرحلة جديدة،

مثلها مثل مرحلة الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة.. فاإلنسان ال يفنى بالموت،

وإنما ينقطع تحكمه في جسده فقط..

وهكذا يخاطب القرآن الكريم العقول بالتأمل في النشأة التي تعيشها، والتي

ولقد علمتم ﴿يسميها النشأة األولى، لتعبر منها لسائر النشآت التي تنتظرها، قال تعالى:

21

رون ذي يبدأ الخ ﴿، وقال: [32]الواقعة: ﴾النشأة األولى فلوال تذك لق ثم يعيده وهو ال

ماوات واألرض وهو العزيز الحكيم ]الروم: ﴾وهو أهون عليه وله المثل األعلى في الس

عيده وعدا ﴿، وقال: [23 ل خلق ن جل للكتب كما بدأنا أو ماء كطي الس لينا ا ع يوم نطوي الس

ا كنا فاعلين ويقول اإلنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ﴿، وقال: [104]األنبياء: ﴾إن

ا خلقناه من قبل ولم يك شيئاا [33 - 33]مريم: ﴾أوال يذكر اإلنسان أن

ني التي تدل عليها هذه اآليات الكريمة، وقد عبر بديع الزمان النورسي عن المعا

إن تزيين وجه العالم بهذه ووجه االستدالل بها على وجود نشآت أخرى، فقال: )

المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعل الشمس سراجا، والقمر نورا، وسطح األرض مائدة

فا تتجدد للنعم، ومألها بألذ األطعمة الشهية المتنوعة، وجعل األشجار أواني وصحا

فالبد أن يكون لمثل هذا .مرارا كل موسم.. كل ذلك يظهر سخاءا وجودا ال حد لهما.

الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي ال تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي

وسعت كل شيء، دار ضيافة دائمة، ومحل سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه األنفس وتلذ

دعي قطعا أن يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا مالزمين لتلك السعادة األعين وتست

ليبتعدوا عن الزوال والفراق، إذ كما أن زوال اللذة ألم فزوال األلم لذة كذلك، فمثل هذا

أي إن األمر يقتضي وجود جنة أبدية، وخلود المحتاجين . السخاء يأبى اإليذاء قطعا.

المطلقين يتطلبان إحسانا وإنعاما مطلقين، واإلحسان واإلنعام فيها؛ ألن الجود والسخاء

غير المتناهيين يتطلبان تنعما وامتنانا غير متناهيين، وهذا يقتضي خلود إنعام من يستحق

اإلحسان إليه، كي يظهر شكره وامتنانه بتنعمه الدائم إزاء ذلك اإلنعام الدائم.. وإال فاللذة

في هذه الفترة الوجيزة ال يمكن أن تنسجم صها الزوال والفراق ــ التي ينغ اليسيرة

22

(1)(ومقتضى هذا الجود والسخاء

وأنصت إلىوهكذا استدل بالعناية اإللهية بإرسال الرسل، على ذلك، فقال: )..

وهم األنبياء عليهم السالم واألولياء الصالحون، ،الداعين األدالء إلى محاسن الربوبية

كيف أنهم يرشدون جميعا الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجالل بتشهيرهم

إذن، فلصانع هذا العالم كمال فـائـق عظيم مثير . صنعته البديعة ويلفتون أنظارهم إليها.

ات البديعة، ألن الكمال الخفيلإلعجاب، خفي مـستتر، فهو يريـد إظهاره بهذه المصنوع

رين مسـتحسنين معجبين الذي ال نقص فيه ينبغي اإلعالن عنه على رؤوس أشهـاد مقـد

بـه. وأن الكمال الدائـم يقتضي ظهورا دائما، وهذا بـدوره يستدعى دوام المستحسنين

(2)(لالمعجبين، إذ المعجب الـذي ال يـدوم بقاؤه تـسقط في نظره قيمة الكما

ـ الموت وبرهان العدالة: 2

وهو من البراهين الواضحة التي دلت عليها القوانين التي بني عليها الكون، فكلها

تشير إلى أنه بني بموازين دقيقة، وأنه لو تغيرت تلك الموازين النهد الكون، ولم يبق

بالصورة التي هو عليها.

ض أسمك مما هي بمقدار بضعة أنه لو كانت قشرة األريذكر (3)فالعلم الحديث

و كان ول، ين، ولما أمكن وجود حياة النباتأقدام، المتص ثاني أكسيد الكربون األوكسج

الهواء أرفع كثيرا مما هو عليه، فإن بعض الشهب التي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال

انت تسير ك وأربعين ميال في الثانية، في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل لالحتراق، ولو

.ببطء رصاصة البندقية الرتطمت كلها باألرض

.32الكلمات، ص (1)

.33المرجع السابق، ص (2)

انظر: كتاب العلم يدعو إلى اإليمان أ. كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن (3)

23

أن الهواء سميك بالقدر الالزم بالضبط لمرور األشعة ذات التأثير وهكذا يذكرون

الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر

الالزم.باإلنسان، إال إذا عرض نفسه لها مدة أطول من

في المائة مثال أو أكثر في الهواء بدال 20أن األوكســجين لو كان بنســبة ويذكرون

في المائة فإن جميع المواد القابلة لالحتراق في العالم تصـبح عرضـة لالشتعال، 21من

لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة ال بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.

الكثيرة التي تؤكدها البحوث والدراسات العلمية كل يوم، وغيرها من األمثلة

تعالى:﴿ واألرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل والتي أشار إليها قوله

موزون﴾ )الحجر: إال عندنا خزائنه ﴿، وقوله: (11شيء

له إال بقدر وإن من شيء وما ننز

ماء رفعها ووضع الميزان ﴾ )الرحمن:و، [21]الحجر: ﴾معلوم (3قوله:﴿ والس

بني على أساس كل ما خلقه الله تعالىوغيرها من اآليات الكريمة التي تنص على أن

ا كل ﴿توازن دقيق جدا، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: خلقناه بقدر إن [41]القمر: ﴾شيء

وهكذا لو ذهبنا إلى الشريعة التي أنزلت على جميع الرسل عليهم الصالة

والسالم، لرأينا العدل من أوائل القيم التي كلفوا بالدعوة إليها، بل بالسعي لتحقيقها في

نات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم ﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبي األرض، كما قال تعالى:

ورسله من ينصره اللهالناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم

(22قوي عزيز﴾ )الحديد: اللهبالغيب إن

وأخبر أن كل ما ورد به القرآن الكريم من األحكام أحكام تقوم على القسط، بل

هي القسط عينه، قال تعالى:﴿ قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد

ين كما بدأكم تعودون﴾ )ألعراف: (21وادعوه مخلصين له الد

﴿ وإذا حكمتم كذا نجد فيه الدعوة للعدل، وفي جميع المجاالت، قال تعالى: وه

24

ا يعظكم به﴾ )النساء: اللهبين الناس أن تحكموا بالعدل إن ﴿ فإن فاءت :وقال(، 24نعم

﴿ يا :وقال(، 1حب المقسطين﴾ )الحجرات: ي اللهفأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن

امين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين و ها الذين آمنوا كونوا قو ين إن يكن األقرب أي

كان بما للهابعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن أولى بهما فال تت اللهغنياا أو فقيراا ف

وغيرها من اآليات الكريمة.، (132تعملون خبيراا﴾ )النساء:

، وقد عرفه الغزالي، وبين مدى ولذلك كان من أسماء الله الحسنى اسم العدل

العدل هو الذي يصدر منه فعل)ر في الكون، فقال: انطباقه على الله تعالى من خالل النظ

العدل المضاد للجور والظلم، ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، وال يعرف عدله من

لم يعرف فعله، فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى

الرحمن من تفاوت، ثم من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق

رجع البصر فما رأى من فطور، ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير،

وقد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيره اعتدالها وانتظامها، فعند ذلك يعبق بفهمه شيء

(1)من معاني عدله تعالى وتقدس(

الله بالعدل، أو وصف كونهوهذه المعاني جميعا ال تكتفي في داللتها على وصف

ورسله وشرائعه به، وإنما تدل أيضا على ضرورة وجود حياة أخرى غير هذه الحياة،

يتحقق فيها العدل بصورته الكاملة.

ـ متسائال ـ: ) أمن الممكن لخالقوقد عبر النورسي عن وجه الداللة في ذلك، فقال

ــون الوجــود ابـتــداء من الذرات وانتهاء ذي جـالل أظهر ســـلطان ربــوبـيـتـه بتـدبيـر قـان

بالمجرات، بغاية الحكمة والنـظام وبمنتهى العدالـة والميزان.. أن ال يعامل باإلحســان

.14المقصد األسنى: (1)

22

من احتـموا بتـلك الربوبيـة وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وأن ال يجازي أولئـك الذيــن

بينما اإلنسان ال يلقى ما يستحقه . ة؟.عصـوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالــ

من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة

ر، إذ يرحل أغلب أهل الضاللة دون أن يلقوا عقابهم، ويذهب أكثر أهل إال نادرا، بل يؤخ

آيل إلى سع الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فالبد أن تناط القضية ادة بمحكمة عادلة، وبلقاء

(1)(عظمى

يء إن منح كل شثم دعا إلى النظر في الكون، للعبور منه إلى هذه الحقيقة، فقال: )

وجودا بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسه صورة معينة، ووضعه في موضع

وكذا، إعطاء كل ذي. مالئم.. يبين بوضوح أن األمور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.

ه وفق استعداده ومواهبه، أي إعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير حق حق

جميع ما يحتاج إلى بقائه في أفضل وضع، يدل على أن يد عدالة مطلقة هي التي تسير

وكذا، االستجابة المستمرة والدائمة لما يسأل بلسان االستعداد أو الحاجة . األمور.

الفطرية، أو بلسان االضطرار، تظهر أن عدالةا مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تجريان

(2)(عجلة الوجود

هل من الممكن أن تهمل هذه العدالة وبناء على هذا كله يتساءل النورسي قائال: )

وهذه الحكمة تلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء ألسمى مخلوق وهو اإلنسان؟ في حين

تستجيبان ألدنى حاجة ألضعف مخلوق؟ فهل من الممكن أن تردا أهم ما يرجوه أنهما

اإلنسان وأعظم ما يتمناه، وأال تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن اإلجابة لحقوق

.30الكلمات، ص (1)

.31المرجع السابق، ص (2)

23

(1)(العباد؟

غير أن اإلنسان الذي يقضي حياةا قصيرةا في هذه الدنيا الفانية ال ثم يجيب قائال: )

ر إلى محكمة كبرى. حيث تقتضي ينال ولن ينال حقيقةا مثل هذه العدالة. وإنما تؤخ

العدالة الحقة أن يالقي هذا اإلنسان الصغير ثوابه وعقابه ال على أساس صغره، بل على

ماهيته، وعلى أساس عظمة مهمته.. وحيث أساس ضخامة جنايته، وعلى أساس أهمية

أن تكون محال لمثل هذه العدالة والحكمة بما إن هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن

فالبد من جنة أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل ـ المخلوق لحياة أبدية ـ يخص هذا اإلنسان

(2) (الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجالل

وقد ذكر في بداية الرسالة، وفي الحكاية التي حاول أن يقرب بها ضرورة وجود

ني عشر صورة تدل على ضرورة وجود تلك الحياة، وكلها ترتبط بالعدل حياة أخرى، اث

: (3)التالية في الجزاء، نكتفي منها بالمعاني

أمن الممكن لسلطنة، والسيما كهذه السلطنة العظمى، أن ال يكون فيها ثواب . 1

للمطيعين وال عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه

الدار، فالبد إذن من محكمة كبرى في دار أخرى.

ع الرزق رغدا . 2 تأمل سير األحداث واإلجراءات في هذه المملكة، كيف يوز

إذن فمالك هذه السلطنة ومليكها ذو كرم عظيم، . حتى على أضعف كائن فيها وأفقره.

سام. ومن وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف

المعلوم أن الكرم يستوجب إنعاما، والرحمة ال تحصل دون إحسان، والعزة تقتضي

.31المرجع السابق، ص (1)

.31المرجع السابق، ص (2)

، فما بعدها.20انظر: الكلمات، ص (3)

23

لمملكة ا الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما ال يتحقق في هذه

جزء واحد من ألف مما يليق بتلك الرحمة وال بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته

ي ذله وخنوعه. فالقضية إذن مؤجلة إلى محكمة كبرى.وجبروته ويرحل المظلوم ف

انظر، كيف تنجز األعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف ينظر . 3

إلى المعامالت بمنظار عدالة حقة وميزان صائب. ومن المعلوم أن حكمة الحكومة

اية المحضة تتطلب رع وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة

حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير أنه ال يبدو هنا إال جزء ضئيل

من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة.. فالقضية إذن مؤجلة بال ريب إلى محكمة

كبرى.

انظر إلى ما ال يعد وال يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه . 4

لمعارض، مما يبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءا غير محدود.. ولكن مثل هــذا ا

الســــخاء الدائــــم، ومثـل هـذه الخزائـــن التي ال تنفد، يتطلبان حتما دار ضيافة خالدة

أبديـــة، فيها ما تشتهيه األنفس. ويقـتـضـيـــان كذلك خلود المتنعمين المتـلذذيــن فيها،

أللم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.غيـر أن يذوقوا ألــم الفـراق والزوال؛ إذ كما أن زوال امن

رأفة عظيمة، إذ يغيث الملهوف ـ الذي ال نظير له ـ تأمل، كيف أن لهذا السلطان. 2

المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، وإذا ما رأى أدنى حاجة ألبسط فرد من رعاياه

هل من الممكن لمن يملك كل هذه القدرة الفائقة، وكل ف ..رأفة وشفقة فإنه يقضيها بكل

كل ؟ وهو الذي يقضي بون فيهما يرغبعباده المطيعين له هذه الرأفة الشاملة، أن ال يعطي

اهتمام أدنى رغبة ألصغر فرد من رعاياه؟

العقل: ثالثا ـ الموت.. وبراهين

ا الفالسفة وغيرهم، إما إلثبات خلود ونقصد بها تلك البراهين التي استعمله

24

النفس، أو إلثبات اليوم اآلخر، وهي تتقاطع في أجزاء كثيرة منها بالبراهين السابقة، لكنا

آثرنا تخصيصها بمبحث خاص، العتبارها من نتائج العقل المجرد عن االستناد ألي نص

مقدس.

عد على استمرارية الحياة بولعل من أكبر أنواع هذه البراهين اتفاق أكثر الفالسفة

الموت، وإن اختلفوا في العلة التي تعود إليها تلك االستمرارية، أو كيفيتها، وال يهمنا

ذلك هنا، ألن الهدف هو إثبات القضية، ال إثبات كيفيتها، وال مصدرها، فذلك شأن آخر.

ه، ولذلك توال نستطيع أن نورد هنا كل ما ذكره الفالسفة اليونانيين أو غيرهم، لكثر

نكتفي باقتباس بعض ما ذكره عالم وفيلسوف يمكن اعتباره من كبار المؤرخين

والمحققين في الفلسفة والعلوم المرتبطة بها، وهو األستاذ الكبير المعاصر ]يحي

يجمع محمد[ الذي نص على إجماع الفالسفة القدامى على ما ذكرنا، فقد قال: )

هي سابق على البدن، وهم من هذا المنطلق اعتقدوا لإصل أن النفس لها أالفالسفة على

بضرورة مفارقتها له بعد اكتمال مهمتها من بلوغ الحد الذي يجعلها قابلة لالنفصال عنه

كما ي فألى عالمها االلهي الذي تنزلت منه. إن تعود أن النفس ال بد لها أكلياا. مما يعني

(1)(ن هناك تنزالا، فهناك عود وصعودأ

ر نوعين من الخالف الذي أدى إليه النظر الفلسفي المجرد في المسألة:وهو يذك

ـ الخالف في النفس التي يستمر وجودها بناء على المفاهيم الفلسفية أولهما

ي تلك ن النفس التي تفارق البدن هأيؤكد الفالسفة بالمرتبطة بحقيقة اإلنسان، حيث )

على ـ بن رشد كما ينقل اـ فهم يتفقون ،يوتكون موضعاا للعلم العقل ،التي تتصف بالتجرد

نها مخلقة النواع االجسام واالبدان أن النفس المخالطة للهيولى، والتي توصف بأ

انظر: الفلسفة والعرفان واإلشكاليات الدينية: دراسة معرفية تعنى بتحليل نظام الفلسفة والعرفان وفهمه (1)

.143لإلشكاليات الدينية، يحيى محمد، ص

21

أما النفس التي ال تخالط ، االرضية ومصورة لها، تعود الى مادتها الـروحانية اإللـهية

الهيولى والتي ليس لها عالقة بتخليق البدن وتصويره، فان الفالسفة يختلفون في حدود

ل ن جميع قوى النفس تبطأما هو قابل للتجرد والرجوع الى األصل اإللهي. فعند ارسطو

ل قسوى العقل المكتسب المسمى بالعقل المستفاد، بخالف العقلين المتبقيين، وهما الع

الهيوالني والعقل بالملكة. فالعقل الهيوالني هو عقل بالقوة، اي محض استعداد لقبول

وادراك المعقوالت، فهو بالتالي خال من الصور. أما العقل بالملكة فهو العقل الذي

تحصل فيه المعقوالت وكان من الممكن استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد

لمستفاد فهو ذلك الذي تكون فيه المعقوالت حاضرة عند وال تكلف. في حين ان العقل ا

العقل من غير غياب. فهذه هي قوى العقل الثالث، وكلها داثرة عند ارسطو باستثناء العقل

اا يضأن العقل الهيوالني هو أتباع ارسطو من المشائين القدامى وجدوا ألكن األخير،

(1)(محفوظ بالبقاء ال يقبل الفساد واالندثار

، وقد ذكر أن الفالسفة ذكروا فيها أربعة كيفية المعاد: الخالف في ثانيال

أطروحات، هذه خالصتها:

وال ،نما يجب ان يكون محالا للعلم بما ال ينقسمإو ،ن المعاد ليس جسمانياا . أ1

في المعاد صرح بن -مثالا -الفالسفة، فابن سينا وهو قول أغلب ،يمكن االشارة اليه حسياا

في رسالة )دفع الغم من و (2)في رسالة )االضحوية في امر المعاد( الجسماني

اء جومأ فيه الى ذلك المعنى، حيث أ، وفي كتاب )المبدأ والمعاد( ذكر عنواناا (3)الموت(

.143المرجع السابق، ص (1)

. 23-22و 21-20ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، ص (2)

..20رسالة في دفع الغم من الموت، ص (3)

30

(1)خرة دون الحقيقية(: )في السعادة والشقاوة الوهمية في اآلفيه

لكن ربما يكون مقصد ابن سينا من هذا ليس نفي المعاد الجسماني مطلقا، وإنما

اعتبار المعاد الجسماني من القضايا التي دل عليها الشرع، بخالف المعاد الروحاني أو

فاء(: لهيات الشإ)النفسي التي دل عليها النظر الفلسفي المجرد، ويدل لذلك قوله في

مقبول من الشرع وال سبيل الى اثباته اال من طريق الشريعة ن تعلم ان المعاد منهأيجب )

وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث.. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس

البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان

(2)(لالنفس

ية نسانتتحد بعقل اإلبعد الموت وس البشرية النف بل إنن الخلود ليس فردياا، . أ2

ذلك الضوء حيث ينقسم بانقسام االجسام ، ويشبه الشامل والمعبر عنه بالعقل الفعال

ثم يتحد عند انتفاء االجسام، وكذا االمر في النفوس مع االبدان، اذ تتحد بانتفاء ،المضيئة

.المشائينسفة عن الفالابن رشد األخيرة، وقد حكاه

ن المعاد الجسماني يعبر عن عالم وسيط وجامع بين العالمين الحسي . أ3

والعقلي، وهو عالم الخيال والمثل المعلقة، فهو يجمع صور جميع الموجودات العقلية

والحسية. وتتصف هذه المثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد واآلخرة،

ن المثل االفالطونية نورية أالفوارق، حيث فالطون مع بعض أعلى شاكلة ما كان يقوله

ثابتة، بينما المثل المعلقة على صنفين، فمنها المستنيرة للسعداء، كما منها الظلمانية

ن المثل المعلقة ليست حالة في قوام مادي، كما إنها فإوفي جميع االحوال . لألشقياء.

ور، نورية في الشهود والحضمر يتسق مع نظريته الأوهو ،ليست خياالت نفسية داخلية

..114المبدأ والمعاد، ص (1)

..423إلهيات الشفاء، ص (2)

31

من المثل إدراكاا حضورياا ‹ البرازخ›حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك

.لسهروردي، وهذا ما تبنته الفلسفة اإلشراقية لبالشهود

نواعاا متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل . أن هناك أ4

لمعادات بأنها صورية وقائمة بحسب اعتبارات نظرية غلب هذه اأوتتصف أنواع،الى ستة

ومن بين هذه المعادات هناك المعاد الخاص ،االتحاد، فكل شيء يتحد بما يناسبه

باإلنسان والذي بدوره يشتمل على عدد من المعادات بحسب مقاماته ومراتبه.

نواع أه بتعدد دنواع المعاد تبعاا العتقاأبرز القائلين بتعدد أويعتبر صدر المتألهين

وإن كان نوعاا واحداا في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية عنده، اإلنسان ف ،البشر

من القوة الى الفعل، لكنه متخالف الماهية في الباطن، بحسب ما يخرج عقله الهيوالني

ة نواعاا متخالفأفعند خروج النفوس من القوة الهيوالنية تصير ، من القوة الى الفعل

سب غلبة الصفات ورسوخ الملكات، فكل نوع من جنس ما يغلب عليه من صفات بح

بهيمية أو سبعية أو شيطانية أو مالئكية، وكل فرد من اإلنسان يعود الى مبدئه الذي انشأه،

خر آفالبعض يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون معاده اليه، وبعض

مراتب العقول المفارقة، لذا فمعاده يكون اليه، كما ان خر آيكون مبدأ وجوده القريب هو

هناك بعضاا ثالثاا يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم عمار عالم الشر، لذلك

.(1) صل وجوده حيث يتألف منها الشيطان، وهكذاأفمعاده الى النار التي هي

أدلتها الخاصة بها، هذه خالصة للرؤى الفلسفية في المسألة، ولكل رؤية منها

والجامع بينها جميعا هو إثبات استمرارية الحياة بعد الموت، وإن اختلفوا في كيفية تلك

:(2)االستمرارية، ومن أهم األدلة التي اعتمدوا عليها في ذلك

.23-22، ص4تفسير صدر المتألهين، ج (1)

، فما بعدها.24انظر: المعاد يوم القيامة، علي موسى الكعبي، ص (2)

32

يكون ال محالة ـ أن معلومات اإلنسان مجردة عن المواد، فالعلم المتعلق بها 1

لتجردها، فمحله ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون كذلك، مطابقاا لها، فيكون مجرداا

الستحالة حلول المجرد في المادي.

ـ الماديات قابلة للقسمة، وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقسم، فمحله ـ 2

وهو النفس ـ ال بد أن يكون كذلك، ثم إن محل العلوم الكلية لو كان جسماا أو جسمانياا

ألن الحال في المنقسم منقسم، وانقسام العلوم والمفاهيم الذهنية النقسمت تلك العلوم،

مستحيل.

ـ إن النفوس البشرية تقوى على أفعال وإدراكات ال تتناهى، كتعقل األعداد غير 3

المتناهية، والقوة الجسمانية ال تقوى على ما ال يتناهى، فهي إذن غيرها.

من آالت التعقل، لكانت كل معلومة ـ لو كان وعاء العلم هو الدماغ أو غيره 4

تضاف إليه تشغل حيزاا منه، وألصبحت القابلية العلمية لإلنسان متناهية ؛ ألن قابلية المادة

على استيعاب المعلومات محدودة كالصحيفة التي تمتلئ بالكتابة، أو القرص الذي

ن يستوفي كليمتلئ بالصوت أو الصورة، وذلك يعني أن اإلنسان لو سمح له عمره أ

وعائه العلمي، فسيصل إلى مرحلة يفقد فيها استعداده للتعلم، وذلك محال.

ول على ط ـ العلم البديهي حاصله أن في ذات اإلنسان حقيقة ثابتة يشعر بها 2

العمر وحتى بعد النشور، ويعبر عنها باألنا، فلو كان اإلنسان هو هذا البدن المحسوس

ير، والسدل الستار على جميع معلوماته وأفكاره، ولكان ألصبح عرضةا للتبدل والتغ

شعوره باألنا أمراا باطالا وإحساساا خاطئاا، ألن أجزاء البدن متبدلة متغيرة، ففي كل يوم

تموت ماليين الخاليا وتحل محلها خاليا جديدة، وقد حسب العلماء معدل هذا التجدد،

مرة كل عشر سنين، أما بعد الموت فإن البدن فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في البدن

يضمحل ويتالشى، والمتبدل غير الثابت الباقي، وعليه فإن مالك وحدة شخصية اإلنسان

33

واالساس في ثبات أفكاره ومعلوماته رغم حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح.

فإن من نظر إلى ـ إن القوى الجسمانية تضعف وتكل مع توارد األفعال عليها، 3

قرص الشمس طويالا ال يكاد يدرك في الحال غيره إدراكاا تاماا، أما القوى النفسانية فإنها

ال تضعف بسبب كثرة األفعال، بل عند كثرة التعقالت تقوى وتزداد نشاطاا، فالحاصل لها

عند كثرة األفعال هو ضد ما يحصل للقوى الجسمانية عند كثرة األفعال، فوجب أن ال

تكون جسمانية.

ـ حصول األضداد في القوى النفسانية وعدم حصولها في القوى الجسمانية، 3

فإذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض، وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد

والبياض، والبداهة حاكمة بأن اجتماع األضداد في األجسام محال، فلما حصل

أن ال تكون جسمانية. اجتماعها في القوى النفسانية وجب

وجود تلك ـ إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها صور ونقوش مخصوصة، فإن 4

الصور يمنع من حصول غيرها إال بعد إزالة االولى، بينما يستوعب التعقل والتصور

الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع اإلنسان أن يستحضرها أو يتخيلها في لحظة ما

دها الخارجي دون حاجة إلى التدرج أو مرور الزمان ودون أن يمتلئ المحل بمقدار وجو

بها، فال بد أن يكون محلها غير مادي وال متحيز.

هذه أبرز األدلة التي استدل بها الفالسفة على تجرد الروح، ومن ثم استمرار

حوارحياتها بعد الموت، وقد حاول مصطفى محمود عند حديثه عن الروح في كتابه ]

مع صديقي الملحد[ أن يصيغها بطريقة مبسطة، تتناسب مع اللغة المستعملة في عصرنا،

ويمكن تصنيف ما ذكره إلى دليلين اثنين.

الدليل األول: ازدواجية الحقيقة اإلنسانية

أن اإلنسان ذو هو أول المؤشرات التي تساعدنا على التدليل على وجود الروح ف

34

:(1) طبيعة مزدوجة

طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات المادة، فهي قابلة . 1

للوزن والقياس متحيزة في المكان متزمنة بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من

فالجسد تتداول عليه األحوال من صحة إلى مرض ،حال إلى حال ومن لحظة إلى لحظة

وملحق بهذه الطبيعة الجسدية شريط من .إلى سمنة إلى هزال إلى نشاط إلى كسل.

وألن، االنفعاالت والعواطف والغرائز والمخاوف ال يكف لحظة عن الجريان في الدماغ

هذه الطبيعة واالنفعاالت الملحقة بها تتصف بخواص المادة نقول إن جسد اإلنسان

ونفسه الحيوانية هما من المادة.

تتصف بالسكون والالزمان ، ايرة لهامخالفة تماما لألولى ومغداخلية طبيعة . 2

هي العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقوالته.. والضمير ووالالمكان والديمومة..

التي تحمل كل تلك الصفات من عقل وضمير [أنا] ـبأحكامه، والحس الجمالي، وال

وحس جمالي وحس أخالقي.

،غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع والشبق [أنا]ـ الهذه و

الذات العميقة المطلقة وعن طريق هذه الذات والكينونة والشخوص والمثول ذلك أنها

في العالم.. وهو شعور ثابت ممتد ال يطرأ عليه التغير ال يسمن وال يهزل وال يمرض وال

مستقبل.. إنما هو آن مستمر ال ينصرم كما يتصف بالزمان.. وليس فيه ماض وحاضر و

ينصرم الماضي.. وإنما يتمثل في شعور بالدوام.. بالديمومة.

هنا نوع آخر من الوجود ال يتصف بصفات المادة فال هو يطرأ عليه التغير وال هو

يتحيز في المكان أو يتزمن بالزمان وال هو يقبل الوزن والقياس.. بالعكس نجد أن هذا

(33حوار مع صديقي الملحد )ص: (1)

32

و الثابت الذي نقيس به المتغيرات والمطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في الوجود ه

عالم المادة.

ويعرض مصطفى محمود لصديقه الملحد المتمسك برأي الفالسفة الماديين في

اعتبار اإلنسان ذا طبيعة واحدة هي الطبيعة المادية مجموعة مشاهد نعيشها تثبت

لى.في نفس الوقت سيطرة الطبيعة الثانية على األو ازدواجية الطبيعة اإلنسانية، وتثبت

ي لحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائومن أهمها تضحية اإلنسان بنفسه، فـ )

ن .. أي؟ويتقدم ليحطم الدبابة ومن فيها.. أين جسده هنا ،حزام الديناميت حول جسده

إن الروح تقرر إعدام ..؟ومن الذي يأمر اآلخر ..المصلحة المادية التي يحققها بموته

الجسد في لحظة مثالية تماما ال يمكن أن يفسرها مذهب مادي بأي مكسب مادي

والجسد ال يستطيع أن يقاوم هذا األمر.. وال يملك أي قوة لمواجهته، ال يملك إال أن

يتالشى تماما.. وهنا يظهر أي الوجودين هو األعلى.. وأي الطبيعتين هي اإلنسان

(1)(حقا

ما يجري اآلن من حوادث البتر واالستبدال األدلة العلمية المرتبطة بهذا، )ومن

وزرع األعضاء.. وما نقرأه عن القلب اإللكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك

.العيون ومخازن اإلكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان واألذرع والقلوب.

واستبداله دون أن يحدث شيء للشخصية إلى هذه الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه

كل هذه األشياء ليست هي اإلنسان.. فها هي تنقل . ألن هذه الذراع أو تلك الساق.

وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع من األلومنيوم دون أن يحدث شيء..

ه فاإلنسان ليس هذه األعضاء وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذ

.31المرجع السابق، ص (1)

33

إنها اإلدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خاليا المخ.. .. الماكينة التي اسمها الجسد

فالمخ مثله مثل خاليا الجسد يصدع باألوامر التي تصدر إليه ويعبر .. ولكنها ليست المخ

عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها.. قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها

(1) (رف به في العالم الماديالروح وتتص

عة طبي) أن اإلنسان له طبيعتان:تدل على الشواهد كلها وبناء على هذا كله، فإن

وما يحدث بالموت أن .. وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.. جوهرية حاكمة هي روحه

الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة الخالدة تلتحق بالخلود فيلتحق الجسد بالتراب

(2) (وتلتحق الروح بعالمها الباقي

الدليل الثاني: دليل الحركة

الحركة ال يمكن ـ )فوهو من األدلة الواضحة، التي تسلم لها جميع العقول؛

درك الحركة وأن تتحرك معها في نفس يأن ألحد ال يمكن ، فرصدها إال من خارجها

(3) (الفلك وإنما ال بد من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها

تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير وكمثال على ذلك ـ يورده مصطفى محمود ـ )

متحرك ال تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك ألنك أصبحت قطعة واحدة معه في

دراك هذه الحركة إال إذا نظرت من باب األسانسير إلى الرصيف إحركته.. ال تستطيع

ار يسير بنعومة على القضبان.. ال تدرك حركة ونفس الحالة في قط.. الثابت في الخارج

مثل هذا القطار وأنت فيه إال لحظة شروعه في الوقوف أو لحظة إطاللك من النافذة على

وبالمثل ال يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن . الرصيف الثابت في الخارج.

.31المرجع السابق، ص (1)

.40المرجع السابق، ص (2)

.40المرجع السابق، ص (3)

33

ليها يمكنك رصدها من القمر أو األرض.. كما ال يمكنك رصد األرض وأنت تسكن ع

(1) (وإنما تستطيع رصدها من القمر

..حيط بحالة إال إذا خرج خارجهايأن اإلنسان ستطيع وبناء على هذا كله ال ي

ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن وهذه القاعدة يمكن تطبيقها مع الزمن، ذلك أننا )

لوال أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني

ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما ـ أي على عتبة خلود ـ المستمر

يالحظ أناستطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا، والنصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون

(2) (شيئا

أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن والنتيجة التي تدل عليها هذه الحقيقة هي )

هو الذي يالحظ الزمن من عتبة سكون ويدركه دون أن ـأي خالد ـإطار المرور الزمني

يتورط فيه ولهذا ال يكبر وال يشيخ وال يهرم وال ينصرم.. ويوم يسقط الجسد ترابا سوف

(3) (هو الروح ءالجزء على حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية هذا الجز يظل هذا

على صورة وهذا الوجود الذي يتعالى على الزمن، شيء يستشعره كل إنسان )

حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود المادي المتغير المتقلب

ندركها في لحظات الصحو هذه الحالة الداخلية التي . والنابض مع الزمن خارجه.

الباطني.. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز

(4) (الذي اسمه الروح

.40المرجع السابق، ص (1)

.40المرجع السابق، ص (2)

.41المرجع السابق، ص (3)

.41المرجع السابق، ص (4)

34

وهكذا كان الشعور نفسه دليلنا إلى وجود الروح، وإلى الطبيعة المزدوجة التي

يتشكل منها كياننا، والتي يكفي النظر إليها في التعرف على حقيقة الروح، والكثير من

خصائصها..

ومن أهمها ـ كما يذكر مصطفى محمود ـ ما يدعو إليه المالحدة أنفسهم، وهو

ـ ) كمنا حي بالحرية، ولو كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تشعورنا الفطرالحرية، ف

(1) (القوانين المادية الحتمية لما كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية

العلم: وبراهين . .ـ الموترابعا

ال نقصد ببراهين العلم هنا توفير ما يطلبه أولئك الذين يطالبون كل حين باألدلة

المخبرية على إثبات الحقائق المرتبطة بالمعاد، أو بغيره من الحقائق اإليمانية، الحسية

ويعتبرون عدم القدرة على إثبات ذلك عجزا، ويستنتجون من عدم القدرة على اإلثبات

عدم الثبوت.

ولو أن البشر استطاعوا تحقيق ذلك، ووصلوا بمداركهم الحسية إلى معرفة أسرار

ا بقي هناك معنى للتكليف واالختبار.. ذلك أن االختبار منوط الحياة بعد الموت، لم

، وقال: [14]المائدة: ﴾من يخافه بالغيب اللهليعلم ﴿باإليمان بالغيب، كما قال تعالى:

اعة مشفقون ﴿ هم بالغيب وهم من الس ذين يخشون رب [41]األنبياء: ﴾ال

، فإن ذلك العقل الساذج الذي يطالب بالدليل الحسي ال يختلف عن عقل ولذلك

بهذه المطالب التي ذكرها الله ذلك البدوي في الجاهلية الذي طالب رسول الله

جر لنا وقالوا لن نؤمن لك حتى تف ﴿تعالى محتقرا الطريقة التي يفكر بها أصحابها، فقال:

ا )من األرض ي ا 10نبوعا ر األنهار خاللها تفجيرا ( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفج

.41المرجع السابق، ص (1)

31

ا أو تأتي ب 11) ماء كما زعمت علينا كسفا ( أو 12والمالئكة قبيالا ) الله( أو تسقط الس

ا يكون لك بيت من ز ل علينا كتابا ولن نؤمن لرقيك حتى تنزماء خرف أو ترقى في الس

ا رسوالا [13 - 10]اإلسراء: ﴾نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إال بشرا

ير ألة غوعدم إدراك المدارك الحسية لحقيقة الحياة بعد الموت، ال يعني كون المس

علمية، فنتائج العلم أكبر من أن تحصر في المدارك الحسية، بل إن العقل يستعمل وسائل

أخرى للوصول إلى الحقائق.

مجال العلم محدود جدا، فهو مرتبط بالمدارك والعلماء أنفسهم يذكرون أن

والوسائل، فإذا انعدمت المدارك والوسائل توقف العلم، نفيا وإثباتا.

الطبيب الذي لم تتوفر لديه نتائج التحاليل، وال التصوير اإلشعاعي، فال يستطيع

وال غيرها من وسائل التشخيص أن يعرف المرض، وال أن يعالجه، بل يظل محتارا في

تلك االحتماالت الكثيرة، التي وإن أطاق أن يلغي بعضها ببعض الخبرة إال أنه ال يطيق

أن يلغي أكثرها.

راصد والمجاهر والوسائل المختلفة لما استطعنا أن وهكذا لوال اختراع الم

كتشف أجزاء كبيرة من الكون كانت غير معروفة لألجيال السابقة، وعذرها ليس في ن

كونها غير موجودة في عهودها، وإنما في عدم إدراكها.

ولهذا نص الحكماء جميعا على تلك الحكمة المعروفة القائلة: ]عدم اإلثبات ال

عدم الوجدان ليس أو ]، نفيا للمعلوم[عدم العلم بالدليل ليس أو ] ،(1)وت[يعني عدم الثب

[نفياا للوجود

اإلثبات: مأخوذ من الفعل أثبت ومعناه إقامة الحجة والدليل والبرهان، والثبوت: مأخوذ من الفعل ثبت ومعناه (1)

األمر الثابت يقينا في الواقع بغض النظر علمنا به أو لم نعلم به، ويعبر اللغويون عن اإلثبات )بفعل متعد(، والثبوت )فعل

عتقادك والثبوت أو )واسطة الثبوت( تعني العلة الحقيقية.الزم( فاإلثبات أو )واسطة اإلثبات( علة ا

30

التي نص عليها القرآن الكريم عند بيانه ألسباب الكفر وتكذيب هي الحكمة و

ا يأتهم تأويله كذلك ﴿األنبياء، فقال: بوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم ب بل كذ ذين من كذ ال

[31]يونس: ﴾قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

ولهذا، فإن العلم الحقيقي ممتلئ بالتواضع، وهو يقر بالجهل الكثير، وأنه ال

يستطيع أن يحكم على العالم واألشياء من خالل المعارف البسيطة التي أحاط بها، بل

قليلة منها. أحاط بجزئيات

يشن حملة شديدة على (1)ولهذا نجد طبيبا وباحثا كبيرا مثل ]ألكسيس كاريل[

الذين يحملون العلم ما ال يحتمل، أو يعتبرون العلم وسيلة إلنكار الحقائق التي دل عليها

العقل بناء على عدم قدرة المخابر أن تبرهن عليها، ألن مجال المخابر مرتبط بالعوالم

الخاصة بها.

ك الخطأ الذيإلى ذل]اإلنسان ذلك المجهول[ القيم كتابه وهو يعزو سبب ذلك في

يقع فيه الكثيرون، وهو توهم أن التقدم الذي حصل في العلوم المادية والتقنية حصل مثله في

)هناك تفاوت عجيب بين علوم الجماد علوم اإلنسان، وذلك غير صحيح، يقول ألكسيس:

دفعلوم الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسدا ؛وعلوم الحياة

وفصاحة باللغة الحسابية.. بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل االختالف

ولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك أحتى ليبدو كأن

األشجار، أو أنهم في قلب دغل سحري التكف أشجاره التي العداد لها عن تغيير أماكنها

،داس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوهاوأحجامها.. فهم يرزحون تحت عبء أك

ا فرنسيا، ولد في (1) في باريس، حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1144وتوفي في 1433كان طبيباا جراحا

1112..

31

(1)ولكنهم يعجزون عن تعرفها أو تحديدها في معادالت جبرية(

فة ون الفالسرعلى الذين يحتق عالم النفس السلوكي )ب. ف. سكينر(وهكذا رد

القدامى، متوهمين أن العلم الحديث قضى على الفلسفة، أو أنه تطور بحيث لم يعد هناك

)كان من الممكن أن يقال قبل ألفين وخمسمائة عام أن االنسان :ا، فقالمبرر لوجوده

كان يفهم نفسه كما كان يفهم كل جزء آخر من عالمه. لكن فهمه لنفسه اليوم هو أقل من

فهمه ألي شيء آخر. لقد تقدمت الفيزياء والبيولوجيا تقدما كبيرا اال أنه لم يحدث أي

ى قيمة ، فليس للفيزياء والبيولوجيا اليونانية اآلن سوتطور مشابه في علم السلوك البشري

تاريخية، ولكن محاورات أفالطون التزال مقررة على الطالب ويستشهد بها كما لو أنها

تلقي ضوءا على السلوك البشري، وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة

ابعة لن يجدوا صعوبة في متمن الفيزياء والبيولوجيا الحديثة، ولكن سقراط وأصدقاءه

أحدث المناقشات الجارية في مجال الشؤون االنسانية. وفيما يتعلق بالتكنولوجيا فقد

قطعنا خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزياء والبيولوجيا، ولكن ممارساتنا في

(2)الحكم والتربية لم تتحسن تحسنا ملحوظا(

وهكذا يصرح كل العلماء المحققين بأن المعارف العلمية المرتبطة باإلنسان

ن من ها المبتدئويمحدودة جدا، ولذلك ليس لها أن تقرر تلك القرارات الخطيرة التي يدع

الباحثين، والذين تصوروا أنهم وصلوا إلى الحقائق التي يمكنهم من خاللها اختصار

الحياة في هذه الحياة.

.12االنسان ذلك المجهول، ص (1)

.3ص 32عالم المعرفة رقم تكنولوجيا السلوك اإلنساني، سكينر، ترجمة عبد القادر يوسف، سلسلة (2)

32

في كتابه )وحدة المعرفة(: )إذا (1)محمد كامل حسين د.الكبير سوف يقول الفيل

أردنا أن تكون صورة المعرفة كاملة تامة فليس لنا مناص من البحث في طبيعة العقل

(2) وكنهه، فهو جهاز التفكير الذي به تتحدد المعرفة(

في ملكنه يدرك مدى صعوبة البحث في هذا، وعدم توفر اإلمكانيات الكافية للعل

)ولكننا النرى البدء بهذا البحث. ألن ذلك يكون البحث في مثل هذه المسائل، فقال:

خطأ منهجياا. وقد بينا من قبل أن البدء بالبحث في تحديد العالقات بين غايات األمور

ومعقداتها اليؤدي الى الحقيقة. والبحث في طبيعة العقل يجب أن يكون آخر البحوث

اوله اال بعد أن يتم علمنا بالكون واالنسان. ويكفينا اآلن أن ننظر كلها. ويجب أن النتن

الى العقل على أنه نور يلقى على األشياء فيضيئها، ويتيح لنا فهمها. ولنا أن نستخدمه

جهازاا للتفكير دون أن نفهم ماهيته، حتى تتم لنا صورة المعرفة كاملة فنضعه منها موضعا

(3)(حقا ال نستطيعه في أول البحث

بناء على هذا ينصح بعدم البحث عن حقيقة العقل ـ والذي يمثل الحقيقة و

اإلنسانية ـ فذلك مما ال يمكن للعلم إدراكه بوسائله المحدودة، وإنما محاولة استعمال

عالم اآلفاق للتعرف على عالم العقل، وهو نفس ما ذكره القرآن الكريم حين مزج بين

ه الحق أولم ﴿كال العلمين، فقال: سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن

شهيد ه على كل شيء ك أن [23]فصلت: ﴾يكف برب

)في الكون نظام، وفي العقل معبرا عن هذا المعنى: محمد كامل حسيند. يقول

(، أستاذ جراحة عظام مصري وأديب، وأول مدير لجامعة إبراهيم 1133 - 1101الدكتور محمد كامل حسين ) (1)

..1144، وأول رئيس لجمعية جراحة العظام المصرية عند إنشائها سنة 1120)جامعة عين شمس حالياا( عند إنشائها عام

.11مد كامل حسين، مكتبة النهضة المصرية، ص وحدة المعرفة، الدكتور مح (2)

.11المرجع السابق، ص (3)

33

هي مطابقة هذين النظامين. والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما نظام، والمعرفة

ممكنة لما فيهما من تشابه. ولولم يكونا متشابهين الستحالت المعرفة. ولولم تكن

المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاا ؛ وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاا

المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها. وهذا يحتاج الى برهان ؛ بل هو جوهر إمكان

االنكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من األمور الطبيعية.

ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين، ومهما تتغير

و هذا التوافق بتت ثبوتاا قطعياا هالمعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون فإن الحقيقة التي ث

(1) بين نظام الكون ونظام العقل(

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على بعض األمارات التي استطاع

العلم أن يكتشف من خاللها عدم اقتصار الحقيقة اإلنسانية على المكونات البيولوجية

غير هذه الخاليا واألنسجة التي التي يحويها جسمه، وهو ما يعني وجود مكون آخر

يعتريها الموت.. وهو ما يعني أن الموت الذي يصيب هذه األجهزة ال يمكن تعميمه على

غيرها.

:ـ الموت وحقيقة اإلنسان 1

هم نفيهم للحياة بعد الموت، إلى نظرتعلى د أصحاب النظرية العلمية القديمة نيست

و ينعدم بمجرد تحلله، أو كما عبر عن هذه النظرة لإلنسان، باعتباره كيانا ماديا، ينتهي، أ

(، فقد قال: هل هناك حياة بعد الموت؟عند جوابه على سؤال يقول: ) )ت ر. مايلز(

. الحياة بعد الموت، ألن الحياة التي أعرفها التوجد اال في ظروف معينة من تركيب ..)ال

ت، اذن: فالحياة بعد العناصر المادية. وهذا التركيب الكيماوي اليوجد بعد المو

.11المرجع السابق، ص (1)

34

(1)الموت(

نها قضية قوية . إ.)البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية، وليس بحقيقة لفظية ويضيف:

قيقة، ح تكون أن لفظياعندي أن االنسان يبقى حيا بعد الموت، وهذه القضية من الممكن

أننا هي طريقنا في الرئيسية المسالة بالتجربة، ولكن بطالنها أو صحتها الختبار قابلة وهي

لمعرفة االجابة القطعية عن هذا السؤال اال بعد الموت، ولذلك يمكننا أن وسيلة النملك

(2) نقيس(

)بناء على علم االعصاب اليمكن معرفة هو: )ت ر. مايلز(والقياس الذي قام به

ما أالعالم الخارجي، واالتصال به، اال عندما يعمل الذهن االنساني في حالته العادية، و

(3)بعد الموت، فهذا االدراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني(

تر، يقيس اإلنسان على الكمبيو ستيفن هوكينغالمعروف عالم الفيزياء وهكذا نجد

قال و ،)أنا أعتبر الدماغ كجهاز كمبيوتر يتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته( فيقول:

حياة آخرة ألجهزة كمبيوتر محطمة، وهي أشبه بقصة خرافية أيضا )ليس هناك من جنة أو

(4)للناس الذين يخشون من الظالم(

كال العالمين وغيرهما هو نفسه الذي ذكره الله تعالى عن هذا القياس الذي ذكره و

أولئك البدو السذج من أهل الجاهلية الذين كانوا يرددون كل حين مخاطبين المؤمنين:

هر ما هي إال ﴿ نيا نموت ونحيا وما يهلكنا إال الد [24]الجاثية: ﴾حياتنا الد

﴾وما لهم بذلك من علم إن هم إال يظنون ﴿وقد رد الله تعالى عليهم، فقال:

.44نقال عن اإلسالم يتحدى: ص (1)

.44المرجع السابق، ص (2)

.44المرجع السابق، ص (3)

انظر مقاال بعنوان: ال وجود للجنة، والحياة اآلخرة قصة خرافية، موقع السي ان ان، وغيرها من المواقع اإلخبارية.. (4)

32

ون أن تك، وهو وصف لحقيقة الطريقة التي يفكرون بها، والتي ال تعدو [24]الجاثية:

ظنا ووهما العالقة له بالواقع، وال بالوسائل التي يستعملها العلماء في البحث.

قياسات أخرى أقوى غير صحيح، بل هناك ولذلك كان القياس الذي استعملوه

تقضي نساني العثرة الذرات المادية في الجسم اإل؛ وهي تؤكد أن ب (1)من هذا القياس

آخر، وهي مستقلة بذاتها، باقية بعد فناء الذرات المادية )الحياة( شيء ألن على الحياة؛

وتغيرها.

جدا ومعقدة، يزيد عددها في الجسم صغيرةخاليا الجسم االنساني يتألف من ف

مثل الطوب الصغير، ، وهي خلية 230، 0000000000000 على االنساني العادي

لكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا.. ،ينبني منه هيكل أجسامنا

سم الجفطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقى كما هو.. بينما يتغير طوب

.في كل دقيقة، بل في كل ثانيةاإلنساني

خاليا تنقص بسرعة، كاآلالت التي تتآكل باحتكاكها واستهالكها، ولكن هذا فال

يهيء للجسم قوالب الطوب التي يحتاج اليها بعد نقص النقص يعوضه الغذاء، فهو

.الجسم يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة، وهكذا فإن خالياه واستهالكها

النهر الجاري المملوء دائما بالمياه، اليمكن أن نجد به نفس ـ بذلك ـ يشبه وهو

ائما، ومع ه دالماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، ألنه اليستقر، فالنهر يغير نفسه بنفس

ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل، ولكن الماء اليبقى، بل يتغير.

يا ية خلية قديمة في الجسم، ألن الخالأيأتي وقت التبقى فيه بناء على هذا، فإنه و

. وهذه العملية تتكرر في هذه الطفولة والشباب بسرعة ثم تستمر .الجديدة أخذت مكانها

، فما بعدها، ونفس الرد 42رجعنا في الرد على ما يقوله الماديون في هذا الجانب إلى كتاب: اإلسالم يتحدى: ص (1)

نجده في مراجع أخرى كثيرة.

33

ولو حسبنا معدل التجدد في هذه العملية فسوف نخرج بأنها ،الكهولةبهدوء ملحوظ في

تحدث مرة كل عشرة سنين.

نسان في اإل، إال أن فناء المادي الظاهريلكن مع ذلك، ومع أن الجسم يتعرض لل

الداخل اليتغير، بل يبقى كما كان: علمه، وعاداته، وحافظته، وأمانيه، وأفكاره، تبقى كلها

كما كانت.

السابق(، الذي وجد في جميع مراحل حياته بأنه هو )االنساندائما، ويشعر فهو

منذ عشرات السنين، ولكنه اليحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه

حتى شعر رأسه.

لو كان االنسان يفنى بفناء الجسم، لكان الزما أن يتاثر على األقل بفناء بذلك فإنه و

تغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا اليحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن الخاليا و

)االنسان( أو )الحياة االنسانية( شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم

.وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخاليا بصفة دائمة

ا ـ بأنهوبذلك يمكن تعريف اإلنسان أو الشخصية ـ كما يذكر وحيد الدين خان

ولو كان الموت فناء )لالنسان(، فمن الممكن ان ، )(1) عدم التغير في عالم التغيرات()

ـ الجسم في يجري الذي الكيماوي التغير هذا حدوث مراحل من مرحلة كل ـ بعدنقول

أن الرجل الذي أراه ومعناه! موته بعد جديدة أخرى حياة يعيش مات، وإنه قد االنسان إن

في الخمسين من عمره، وهو يمشي في الشارع على رجليه، قد مات خمس مرات في

نسان بعد فناء أجزاء جسمه المادية خمس هذه الحياة القصيرة؛ فاذا لم يمت هذا اإل

مرات، فكيف أستطيع أن أعتقد بأنه مات في المرة السادسة على وجه اليقين؟ والسبيل

.42ق، صالمرجع الساب (1)

33

(1)(حياة؟له اآلن إلى ال

ويذكر وحيد الدين خان ردود أصحاب الفلسفة المادية على هذا الدليل، والتي

ن )الشعور( اليوجد كوحدة، وانما هو وظيفة، وتفاعل )إ: [ بقولهالسير جيمزلخصها ]

وتنسيق وقد أصر الكثيرون من فالسفتنا المحدثين على أن )الشعور( في ذاته ليس اال

يحدث من حركة ونشاط في العالم الخارجي. وبناء على هذه االتفاعل والرد العصبي لم

مكان الحياة بعد الموت، نظرا لتحلل النظام الجسماني، إالنظرية المجال للتساؤل عن

وألن المركز العصبي في الجسم لم يعد له وجود، وهو الذي كان يتفاعل وينسق مع

الحياة بعد الموت أصبحت غير العالم الخارجي؛ وهم يعتقدون بناءا على هذا أن نظرية

(2) (ذات أساس عقلي أو واقعي

لو كانت هذه هي حقيقة االنسان، فلنجرب أن نخلق وقد رد على هذا بقوله: )

نهام يتألف التي العناصر جميع وضوح بكل نعرفـ اليوم ـانسانا حيا ذا شعور، ونحن

نايمكن الخارجي، بحيث الفضاء وفي األرض في توجد العناصر االنسان، وهذه جسم

وقد علمنا دقائق بناء النظام الجسماني، وعرفنا هيكله وأنسجته، ولدينا عليها، الحصول

ـن يصنعوا أجساما كجسم األنسان، بكل مواصفاتها، فلنجرب أمهرة يستطيعون فنانون

هذه أمثال من مئات ولنصنعـ مبدئهم حقيقة على يصرون الروح معارضو كان لو

ي بقعة األرض الفسيحة، ثم لننتظر ذلك الوقتالميادين، ف شتى في ولنضعها األجسام،

(3) الذي تمشى فيه هذه األجسام وتتكلم وتأكل بناء على تأثيرات العالم الخارجي(

وهكذا يمكن أن نجد ردودا كثيرة على ما ذكره ستيفن هوكينغ من تشبيه اإلنسان

.42المرجع السابق، ص (1)

.42المرجع السابق، ص (2)

.42المرجع السابق، ص (3)

34

فكر جيدا فيما هوكينغ ، فلو أن (1)يعود للعمل أبدابعد موته بالكمبيوتر العاطل، الذي لن

بين الكمبيوتر واإلنسان، ألدرك أن الكمبيوتر بمكوناته صحيحة مقارنة يقول، وأجرى

.المادية ال قيمة له بدون طاقة وبرنامج تشغيل يربطه بما حوله من مدخالت علمية

وتجعله قادراا على اإلنسان البد له من طاقة تحركه وتبعث فيه الحياة، وهكذا

ذاته وعلى ما حوله، وتجعله يختلف عن الحجر والشجر وسائر الحيوان، ىالتعرف عل

ختالفاا شاسعاا في اإلدراك والقدرات، فإذا غابت عنه تلك الطاقة غاب اإلدراك، وهذا ما ا

نشاهده في الجنين في بطن أمه في الشهور األولى من الحمل حيث يكون كتلة لحم ال

فيها، وما نشاهده في اإلنسان بعد الموت حيث يصير كتلة لحم ال إدراك فيها، وما إدراك

بالحياة واإلدراك، والعقل يحتم أن الحي يزيد عن الميت بشيء ما يهبه ابينهما نجده مفعم

الحياة واإلدراك، كما أن الكمبيوتر الذي يعمل يزيد عن الذي ال يعمل بالطاقة المحركة،

[الروحالمؤمنون اسم ] ليهعلذي يطلق هو اهذا الشيء و

أن إدراك الكمبيوتر للمدخالت العلمية ناتج عن برمجة سابقة من هكذا نجد و

اإلنسان، فهل يمكن لإلنسان أن يدرك ما حوله بدون برمجة سابقة، فما تنقله لنا الحواس

م تالعقل عبر األعصاب في ىالخمسة ليس إال إشارات كهربائية تنتقل من الحواس إل

التعرف عليها في العقل، فكل ما نشعر به من هذا الكون ليس إال إشارات كهربائية بداخل

كل ما تدركه الحواس ويفرق بينها بدقة لىالدماغ، فما الذي جعل الدماغ يتعرف ع

؟شديدة

وبمناسبة تشبيه اإلنسان بالكمبيوتر نحب أن نوضح هنا إشكالية يطرحها الكثير،

لموت، وهل النزع أو القبض مرتبط بالروح أو النفس؟وهي ما يحصل عند ا

.20/3/2011انظر مقاال بعنوان: رد القرآن والعلم على الملحد ستيفن هوكينغ في نفي الروح والخالق، (1)

31

فلعل أحسن مثال يقرب صورة الروح والنفس وعالقتهما بالحقيقة اإلنسانية،

ويبعد عنا الكثير من ذلك الجدل الذي يحوم حولها، وحول المقبوض، وهل هو النفس

أو الروح، هو ما نتعامل به مع أجهزة الكمبيوتر.

جهاز الكمبيوتر، وهو عبارة عن مجموعة من القطع يمكن حيث أننا نأتي أوال ب

تشبيهها بأعضاء اإلنسان.. فلكل قطعة وظيفتها التي تؤدي دورا معينا في الجهاز.

وهي ال تستطيع أن تؤدي أي دور قبل أن ننفخ فيها روح النظام.. فعندما يصبح

من الوظائف. الويندوز منصبا على الجهاز يتحول إلى جهاز متحرك، يمارس الكثير

وحينها يمكن لصاحبه أن يفعل فيه بإرادته ما يشاء، وكل ما يفعله فيه يمكن تسجيله

عبر البرامج الكثيرة التي تسجل كل ما يفعل في الجهاز.

وعندما يمل صاحب الجهاز من جهازه، ويريد أن يغيره، يأخذ نسخة من كل

ذي كان يعمل به، ثم يقوم بوضعه برامجه وأعماله، وربما يأخذ نسخة من النظام نفسه ال

في جهاز آخر، وبتغييرات طفيفة.

هذا المثال يقرب لنا كثيرا حقيقة الروح والنفس والجسد، ومن يقبض منها جميعا.

أما الجسد، فيشبه تلك القطع الصلبة التي يتكون منها جهاز الكمبيوتر، والتي قد

ه يمكن س عليها من أعمال، ألنترمى عند عطبها التام، من غير أن يتضرر كل ما مور

نسخها وحفظها في جهاز آخر.

وأما النظام والتطبيقات المرتبطة به، فهي تشبه الروح، والتي وصفت في القرآن

وح من أمر ﴿الكريم بكونها من عالم األمر، كما قال تعالى: وح قل الر ويسألونك عن الر

أال له ﴿، وقال في اآلية األخرى: [42]اإلسراء: ﴾العلم إال قليالا ربي وما أوتيتم من

[24]األعراف: ﴾رب العالمين اللهالخلق واألمر تبارك

ولذلك يمكن اعتبار أرواح البشر جميعا واحدة، فكلهم قد نصب فيهم نظام

40

السليمة التي لم تدنس.واحد، ولذلك نراهم يتشابهون في فطرهم

وأما النفس، فتشبه تلك االختيارات التي يقوم بها صاحب الجهاز، حيث يقرأ ما

ذلك . وب.يشاء من الكتب، ويستمع لما يشاء من األصوات، ويشاهد لما يشاء من الصور

فإن عالم النفس هو العالم الذي يستثمر فيه اإلنسان طاقات الجسد وطاقات الروح،

جهة التي يريد، وبحرية تامة.ويوجهها للو

: )مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة بقولهإلمام الصادق هذا التشبيه ا وقد أشار إلى

(1)ولم يعبأ به( ،إذا أخرجت الجوهرة منه اطرح الصندوق ،في صندوق

الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك وأشار إليه اإلمام السجاد بقوله: )

وآنس ،وأوطأ المراكب ،واإلستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ،قيود وأغالل ثقيلة

ياب واإلستبدال بأوسخ الث ،والنقل عن منازل أنيسة ،وللكافر كخلع ثياب فاخرة .المنازل

(2)(وأعظم العذاب ،وأوحش المنازل ،وأخشنها

فإن الموت، هو عبارة عن استبدال الجسد الذي أصابه العطب وبناء على هذا،

بجهاز آخر مع مراعاة اختيارات صاحب الجهاز، ولذلك يرى اإلنسان كل أعماله التي

كان يعملها محفوظة بإتقان، ذلك أن من مزايا الجسد الجديد الذي يستبدل به الجسد

الفاني أنه تظهر فيه األشياء بصورها الحقيقية..

الموت وحقيقة العقل:ـ 2

رأينا سابقا أن الفالسفة القدامى الذين اتفقوا على خلود النفس، وعدم موتها

بموت الجسد، استدلوا على ذلك بتلك االكتشافات التي توصلوا إليها عن طريق التأمل،

.33مختصر البصائر/ (1)

.4/241معاني األخبار: (2)

41

والذي أداهم إلى أن عقل اإلنسان مستقل عن جسده، ذلك أن الجسد يهرم ويذبل وينتابه

ن الضعف، بينما عقله يبقى متقدا وسليما حتى في تلك الفترات الصعبة الشديدة.الكثير م

ومن أكبر األدلة على ذلك أن الكثير من المنجزات اإلبداعية في الشعر والفلسفة

والحكمة كتبت في ظل ظروف صعبة، لم يكن يمكن للعقل أن يبدعها لو كان تابعا

للجسد.

، بل الفطرة والبديهة، دل عليها العلم الحديث، وهذه الحقيقة التي اكتشفها العقل

وخاصة بعد تخلصه من فترة المادية التي طغت عليه إبان القرون األولى من عصر

النهضة.

موقف حول الالتطور العلمي ونحب أن نقتبس هنا مادة علمية مهمة تتعلق بتاريخ

)العلم فى وهو من العقل وعالقته بالجسد، وذلك من أهم ما كتب في هذا المجال،

المعروفين فى أمريكا الشمالية العلماء الكبار اثنان من ، الذي ألفه (1)منظوره الجديد(

أحد أعالم الفيزياء النظرية ورئيس كلية العلوم في جامعة [روبرت أغروس]أحدهما

،مأحد الفالسفة المتضلعين في فلسفة العلو [جورج ستانسيوالثاني ]أوتاوى بكندا، و

.ورئيس شعبة الفلسفة في نفس الجامعة ونفس البلد

هدم أركان المادية العلمية، تلك النظرية الكونية وكالهما حاول في هذا الكتاب )

التى استهلها فرانسيس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر، واستمرت إلى

ة من ان الحكمة والغايالعقود األولى من القرن العشرين، ثم إثبات وجود الله تعالى، وبي

إبداع الكون وخلق اإلنسان، وذلك باالستناد إلى النتائج التى انتهى إليها أقطاب العلماء

والباحثين المعاصرين فى مجاالت الفيزياء والكوزمولوجيا ومبحث األعصاب وجراحة

هو كتاب من سلسلة )عالم المعرفة( التى كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت، وعنوان الكتاب األصلي (1)

..ersdrr C .ythimtdو tserdt M .sdrdsh( من تأليف esr Crs ytsda so ymtrimrهو )

42

(1)(الدماغ وعلم النفس اإلنسانى

ـ عند ت أريخهما لموقف العلماء الغربيين وقد ذكر صاحبا هذا الكتاب العلمي القيم

من العقل وعالقته بالدماغ أو بسائر الجسد ـ أن هناك موقفان، أحدهما قديم ومادي،

وسببه عدم توفر الوسائل الكافية للتحقيق العلمي، والثاني متطور، ويقترب اقترابا كبيرا

مما ذكرته األديان والفالسفة وغيرهم.

ين مدى رجعية من ال يزالون ينفون وجود وسنعرض هنا بعض ما ذكراه، لنتب

العقل، أو يختصرونه في الدماغ، ألن رؤيتهم رؤية كالسيكية قديمة، ولم يعد لها أي

مصداقية في البحث العلمي الخالي من األيديولوجية المادية.

أ ـ العقل بحسب الرؤية العلمية القديمة:

عدم توفر الوسائل العلمية يذكر الكاتبان أن الرؤية العلمية القديمة، وبسبب

بدأ م الكافية التي تتيح لهم التحقيق في حقيقة العقل وعالقته بالجسد راحوا يعتمدون

.عية بلغة المادة وحدهاياألشياء الطبوذلك بتفسير البساطة،

شأ في تن، والتي )جميع األشياء الطبيعيةوقد اعتمدوا في هذا على القياس على

حو فالماء سائل على ن، األشياء هبين جسيمات تتكون منها هذ نهاية المطاف عن تفاعالت

ط متمغط والمطا، ما نعرفه ألن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من اإلحتكاك

والماس شديد الصالبة ألن ذرات ، ألن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة

مر . والبد أن األ.كمة النسجالكربون الموجودة فيه متراصة بشكل على هيئة شعرية مح

(2)(نفسه ينطبق على العقل

توماس هـ. ]عالم األحياء ومن األمثلة على العلماء الذين اعتمدوا هذه الرؤية

(.3العلم في منظوره الجديد، )ص (1)

.22المرجع السابق، ص (2)

43

األفكار التي أعبر عنها )أن والذي ذكر ، وهو من علماء القرن التاسع عشر، [هكسلي

(1) (جزيئية بالنطق، وأفكارك فيما يتعلق بها إنما هي عبارة عن تغيرات

وقد نتجت عن هذه الرؤية المادية الكثير من المفاهيم الخاطئة عن اإلنسان، أولها

المادة ال تتصرف إال و ..المادةوأخطرها سلب حريته ذلك أنه ما دام العقل منبثقا من

اإلنسان إلى تفسير تصرفات، فإن الرؤية العلمية القديمة كانت تميل بضرورة ميكانيكية

ال مجال حيثريزة، والفسيولوجيا )علم وظائف األعضاء(،والكيمياء.والفيزياء، بلغة الغ

هناك لحرية االختيار.

التغيرات المادية هي التي تسبب األفكار، ال وبذلك فإن هذه الرؤية كانت ترى أن

، أحد علماء الرياضيات في القرن التاسع [و.ك كليفوردعن ذلك ]عبر كما العكس،

إذا قال أحد أن ، فقال: )له عن العلوم عن هذه الفكرة بإيجاز بليغعشر، في محاضرة

(2)(اإلرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذباا فحسب، وإنما هو هراء

يبدو أن الوعي متصل ) :بقولههكسلي العالقة بين العقل والجسد وهكذا وصف

ى قدره كانت علبآليات الجسم كنتيجة ثانوية لعمل الجسم، ال أكثر، وأن ليس له أي

(3) (تعديل عمل الجسم مثلما يالزم صفير البخار حركة القاطرة دونما تأثيرعلى آليتها

وفقا للنظرة ـ لعقل المادي للتصور لذلك االمستلزمات تلك المفاهيم وومن

،الشيء في اإلنسان يمكن أن يبقى بعد الموتـ ما يرتبط بموضوعنا، وهو )أنه القديمة

فليس هناك سبب يجعلنا ،التفكير واإلرادة نشاطين من أنشطة الدماغ إذا كانذلك أنه

نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ، وإذا كان كل جزء من أجزاء

.22صالمرجع السابق، (1)

.23المرجع السابق، ص (2)

.24المرجع السابق، ص (3)

44

اإلنسان مادة فالبد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء. ففي النظرة القديمة الخلود

(1) (إال للمادة

في القرن التاسع عشر أن يحدد دعاءات، لم يستطع أحد لكن مع كل هذه االو

كان علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي، بل بالضبط كيفية انبثاق العقل من المادة

.المستقبل بالجواب

وهكذا سيوسع علم وظائف األعضاء في : )يقول 1443كتب هكسلي عام وقد

اق ى أن يصبح مساويا في امتداده نطالمستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إل

.. لكن نبوءاته لم تتحقق، بل تحقق عكسها كما سنرى.(2) (المعرفة والشعور والعمل

بعد فرويد ظهر وهكذا سرت آثار الرؤية القديمة على الدراسات النفسية، ف

الذي حاز على درجة الدكتوراه في [جون ب. واتسن، الذي أسسه ]المذهب السلوكي

.1103علم النفس من جامعة شيكاغو عام

فبعد أن قام واتسن بإجراء تجارب واسعة النطاق على الجرذان والعصافير

والقرود سعى إلى إرساء علم النفس كفرع موضوعي كلياا من فروع العلم الطبيعي، ليس

الفيزياء، على أساس أن السلوك، من أحوج إلى ما سماه االستبطان من علم الكيمياء أو

بين جميع األعمال التي يقوم بها اإلنسان، هو وحده القابل للمراقبة من الخارج

بالتجارب الموضوعية. ففي رأي واتسن أن السلوك وحده، ال الوعي، هو الموضوع

الصحيح لعلم النفس.

.24المرجع السابق، ص (1)

.24المرجع السابق، ص (2)

42

البحث فيه غير ، ورأت أن السـلوكية العقل أصالا بناء على هذا أنكرت المدرسـة و

أن جســـم اإلنســـان هو الحقيقة اإلنســـانية الوحيدة، وأن من أكدت وتبعاا لذلك مجـد،

الواجب أن يستبعد )العقل( ومعه جميع بهارجه من مجال العلوم.

،السلوكية أكثر ايغاالا في المادية من علم النفس الفرويديبذلك كانت المدرسة و

المـذهـب الســـلوكي تقدماا في أفول نجم التحول عن مـذهـب فرويـد إلىوبـذلـك كـان

العقل.

ذكر واتسن أن أول خطوة كان عليه أن يتخذها كعالم نفسي ملتزم بالمنهج قد و

العلمي أن يسقط من )مفرداته العلمية جميع العبارات الذاتية كاإلحساس واإلدراك

(1) ذاتي( عريفوالصورة الذهنية والرغبة والغاية، بل التفكير والعاطفة النطوائهما على ت

ويضيف قائالا: )إن السلوكي ال يعترف بما يسمى السمات الذهنية أو النزعات أو

(2) الميول(

أما جوانب العقل التي ال يمكن إنكارها فيتحتم أن تعرف من جديد بعبارات

ن واتسن علقد أو ،وهكذا أصبح التفكير يسمى )التكلم دون الصوتي(، سلوكية فحسب

والتفكير، إذا فهما على الوجه الصحيح، يسهمان إسهاماا كبيراا في تحطيم أن )التكلم

الخرافة القائلة إن هناك شيئاا يدعى )الحياة العقلية(

حين يتحدث عن دواعي التصرفات اإلنسانية أكثر وتتجلى مادية واتسن المنهجية

لتي جبل منها، ة افيقول: )إن اإلنسان بوصفه نتيجة طبيعية للطريقة التي ركب بها وللماد

البد له من أن يتصرف كما يتصرف بالفعل )إلى أن يعيد التعلم صياغته(

والسلوكية تطرح المادة وتركيبات المادة باعتبارها األسباب الوحيدة لتصرفات

.33المرجع السابق، ص (1)

.33المرجع السابق، ص (2)

43

اإلنسان. واإلنسان بهذا المنظار، قطعة هامدة من المادة البد من تشغيلها بقوى خارجية.

يظل الجسم الساكنالتي تنص على أن الفيزياءلى قوانين هم يستندون في هذا إو

ل اإلنسان ال يتصرف من تلقاء نفسه، ب، وبذلك فإن ساكناا ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج

يخضع لتصرفات تفرض عليه.

ويذكر واتسن للسلوكية هدفين اثنين: )التنبؤ بالنشاط اإلنساني(، و)صياغة قوانين

المنظم بواسطتها ضبط تصرفات اإلنسان(. فإذا لم يكن ومبادئ يستطيع المجتمع

اإلنسان أكثر من كيان مادي فليس هناك ما يدعو إلى االعتقاد بعدم إمكانية برمجته كما

تبرمج اآللة.

وقد عبر عن هذه الرؤية المادية وإلغائها لكل الحقائق والمشاعر المرتبطة

لى ولكنهم باإلضافة إ ،بأنهم حيوانات )الناس على استعداد لالعترافباإلنسان، فقال:

ويندرج تحت هذا ..وهذا الشيء اآلخر هو الذي يخلق المشاكل.. ذلك شيء آخر

)الشيء اآلخر( كل ما يعرف بالدين، والحياة بعد الموت، واألخالق، وحب األطفال

والوالدين والوطن وما شاكل ذلك. والحقيقية العارية هي أنك، كعالم نفسي، البد لك

في هذه الحالة، إذا أردت أن تظل علمي المنهج، أن تصف سلوك اإلنسان بعبارات ال

تختلف عن تلك التي تستخدمها في وصفك لسلوك الثور الذي تنحره، وهذه الحقيقة قد

(1) صرفت وما فتئت تصرف الكثيرين من ذوي النفوس الرعديدة عن السلوكية(

المجتمع وقد القت نظريات واتس معارضة شديدة، اضطر بعدها إلى اعتزال

وأخذ يشتغل بمهنة تجارية في الميدان اإلعالني. ،1121األكاديمي نهائياا في عام

ب ـ العقل بحسب الرؤية العلمية الجديدة:

.34المرجع السابق، ص (1)

43

بخالف الرؤية السابقة ـ والتي سببها انتشار الفلسفة المادية بعد الصراع الذي

ـ بعد أن زال ذلك االنبهار حص ـ ذهبت الرؤية العلمية الجديدة ل مع الكنيسة ورجال الدين

بالعلم، وعرف العقل اإلنساني محدوديته ـ إلى اإلقرار بوجود العقل، وأنه خارج المادة،

وأن له عالقة بالجسم، والدماغ خصوصا، ولكنه ليس الدماغ، وإنما شيء آخر.

كثيرة، ابتدأت أوال ـ كما يذكر صاحبا كتاب ]العلم في وقد أثبت العلم ذلك بأدلة

النسبية بنظريةللكون، والتي ظهرت بعد النظرة العلمية الجديدة منظوره الجديد[ ـ بتلك

وميكانيكا الكم اللتين برهنتا على محورية العقل حتى في مجال الفيزياء.

ين الذواألعصاب، م علتأييد كبار العلماء، في بالنظرة الجديدة هذه حظيت ثم

.واستحالة إرجاعه إلى المادة ،كشفوا النقاب عن أدلة تثبت استقالل العقل

علم النفس المعاصر حركة تتجه إلى النتيجة ذاتها، وهي أولية وهكذا ظهرت في

لثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع اففي أعقاب الحرب العالمية ، العقل

يد التحليل النفسي، وإلغاء العقل في السلوكية، قد أفضيا إلى تجرالعقل للغريزة في طريقة

اإلنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقف ال يطاق في فرع من فروع

التحمت في الخمسينات من هذا القرن ، وبذلك المعرفة مكرس لخدمة الجنس البشري

.(1)يةريين:التحليل النفسي والسلوك)قوة ثالثة( في علم النفس إلى جانب القوتين األخ

إن )هذه الحركة الجديدة بقوله: [فرانك ت. سفرين] يالعالم النفسوقد وصف

أتباعها ال يتكلمون بصوت واحد، وال يشكلون مدرسة فكرية مستقلة، وال هم

متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد. بل إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف

)أنسنة( علم النفس. ففي اجتماع وطني للرابطة األمريكية لعلم لمشترك المتمثل في ا

.31المرجع السابق، ص (1)

44

، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم )علم 1131النفس عقد في عام

(1)النفس اإلنساني(

ى، األستاذ بجامعة بيل، المنح[ايرفن ل. تشايلد]رح العالم النفسي قد شو

علم النفس اإلنساني باإلنسان الذي يتخذه : )يعرففقالاألساسي لعلم النفس الجديد

نموذجاا له، وبإصراره على أن جملة المعارف العلمية ستتنامى بأقصى قدر من المنفعة

(2) إذا هي اهتدت بتصور لإلنسان كما يعرف هو نفسه، ال بأي محاكاة غير إنسانية(

للتعبير عن اإلنسان وقد علل هذا بأن ما قام به الماديون من اختيار نماذج أخرى

ما الذي يجعلنا بحاجة إلى نموذج لإلنسان إذا كنا نحن أو وصفه كانوا مخطئين فيها، )ف

فالنموذج شبه مؤقت يؤخذ من شيء يقع خارج موضوع البحث ،أنفسنا من بني اإلنسان

ذاته. وهو يفيد حين تكون طبيعة الشيء بعيدة عنا أو مبهمة. فالنموذج الكوكبي للذرة

يفيد في أغراض معينة، إذ ال سبيل أمامنا لنعرف ما هي أحاسيس [نيلزبور]وضعه الذي

(3)(الذرة، ولكن لدينا بالفعل معلومات من داخلنا عن كيفية إحساس اإلنسان بنفسه

)فعلم النفس اإلنساني، إذاا، يتكون من جميع تيارات علم النفس وبناء على ذلك،

ان، على نحو ما، كما ينظر هو عادة إلى نفسه، أي بوصفه الفكرية التي ينظر فيها إلى اإلنس

إنساناا، ال مجرد حيوان أو آلة. فاإلنسان قوة واعية، وهذه هي نقطة االنطالق. فهو يجرب،

وهو يقرر، وهو يتصرف. فإذا وجدت ظروف يمكن في ظلها أن تتحقق منفعة بالنظر إلى

حافز خارجي استجابة آلية منتظمة اإلنسان تماماا من الخارج، كما لو كان يستجيب ل

يتسنى التنبؤ بها، فربما كان األخذ بنموذج آلي مفيداا في مثل هذه الظروف. ولكن علم

.40المرجع السابق، ص (1)

.41المرجع السابق، ص (2)

.41المرجع السابق، ص (3)

41

النفس اإلنساني ينطلق من افتراض كون مثل هذه الظروف حاالت خاصة، ومن أن

دون لتأسيس علم النفس بأكمله عليها سيكون افتقاراا لهذا العلم، وقيدا من شأنه أن يحو

(1)تطبيقه العام على فهم طبيعة اإلنسان(

وما ذكره علماء النفس من أتباع النظرة الجديدة حصل مثله في علم األعصاب،

والتي خالفت كل ما ادعاه جاء القرن العشرون بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، بعد أن

أصحاب النظرة القديمة.

شارلز السير تـ ]بي منظوره الجديد[ وقد بدأ ذلك ـ كما يذكر صاحبا كتاب ]العلم ف

الرائدة في نتيجة بحوثه، فالذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا األعصاب الحديثة [سرنغتون

هر هكذا ظهذه النتيجة المهمة التي عبر عنها بقوله: )الجهاز العصبي والدماغ خلص إلى

فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي ؛فرق جذري بين الحياة والعقل

(2)(على الكيمياء والفيزياء

بمصطلح ]الحياة[ هنا إلى ما سماه الفالسفة ]النفس الحيوانية[، وهي يقصد هو و

، ذلك مووالن التغذية الذاتية، واستقالب الخالياما تحتاجه حياة الجسد من متطلبات ك

ويمكن تفسيرها بلغة هذين ،سطة قوانين الفيزياء والكيمياءهذه الظواهر تتم بواأن

أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.، بخالف العلمين

والذي األعصاب، علم المتخصص في [السير جون اكلسوقد وافقه على هذا ]

تختلف يالتجارب التي تنم عن الوع): عبر عن النتيجة التي أوصلته إليها أبحاثه، فقال

ومع ذلك فإن مايحدث في آلية ،في نوعها كل االختالف عما يحدث في آلية األعصاب

.41المرجع السابق، ص (1)

.23المرجع السابق، ص (2)

10

(1) (األعصاب شرط ضروري للتجربة. وإن كان هذا شرطاا غير كاف

ولتوضيح ذلك ساق المؤلفان مثاال توضيحيا يبين كيفية حصول الرؤية، وعالقتها

في بؤبؤتدخل عكسة من الشجرة أشعة الشمس المنبالجسد والعقل، والمثال هو أن

تمر من خالل العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة ، ثم عينال

..فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية ،العين

، لم فاقد الوعيأن الذي حصل لعينه هذا كان إذ لو .هو اإلبصار.لكن هذا ليس

ت الفيزيائية نفس التغيراأحدث ى شبكية عينيه، تركيز تلك الصورة عليبصر شيئا، مع أن

والكيمائية.

لة يتعرض الفيلم الموجود في اآل، حيث آلة التصوير على صورة ماوهذا مثل تركيز

لتغيرات فيزيائية وكيميائية،ولكن آلة التصوير التبصر بالمعنى الحرفي في األلوان

واألشكال التي تسجلها.

وأعمق، ذلك أن أكثر بحث إلى نحتاج بصار اإلإذا أردنا أن نفسر وبذلك، فإننا

الشبكية، وهي صفحة من المستقبالت شديدة التراص )عشرة ماليين مخروط ومائة

مليون قضيب( تبدأ حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة بإرسال نبضات الى العصب

غة قابل ألن يفسر بلهذا كل و ..البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية

ولكن أين مكان اللون األخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي ) الفيزياء والكيمياء،

اللون أبيضه.. فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداا دون أن يفقد لونه السابق؟ وكيف

(2)(دماغ أن يبصر الضوء إذا كان مغلقاا ومعزوالا تماما عن أي ضوء؟اليستطيع

:لءعلى سر اإلدراك الحسي فيتسا [السير جون اكلس]يؤكد ناء على هذا بو

.24المرجع السابق، ص (1)

.21المرجع السابق، ص (2)

11

ن غموض م هأليس صحيحاا أن أكثر تجاربنا شيوعاا تقبل دون أي تقدير لما تنطوي علي)

هائل؟ ألسنا ال نزال كاألطفال في نظرتنا إلى مانقبله من تجاربنا المتعلقة بالحياة الواعية.

طينا ر في أعجوبة التجربة الواعية أو لتقديرها؟ فالبصر، مثال، يعفال نتريث إال نادراا للتفكي

في كل لحظة صورة ثالثية األبعاد لعالم خارجي، ويركب في هذه الصورة من سمات

الوجود له إال في اإلبصار الناشيء عن نشاط الدماغ. ونحن بالطبع اإللتماع والتلون ما

متولدة من اإلدراك الحسي كحدة المصدر ندرك اآلن النظائر المادية لهذه التجارب ال

ومع ذلك فعمليات اإلدراك ذاتها تنشأ بطريقة ، المشع والطول الموجي لإلشعاع المنبعث

(1) (مجهولة تماما عن المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ

إلى ود أبداتع الفهي )الصورة التي تسلط على الشبكية، ويضرب مثال على ذلك ب

الظهور مجددا في الدماع، بل البد للعقل الواعي من أن يعيد تركيبها من أنماط النبضات

فكل عملية إدراك حسي تتكون من ثالث مراحل:المنبه األصلي لعضو ،المرموزة

الحس، والنبضات العصبية المرسلة إلى الدماغ، ونمط النشاط العصبي المثار في

(2) (الدماغ

ن عملية النقل من عضو الحس إلى قشرة : )إعملية فيقولويلخص أكلس هذه ال

المخ تستخدم نمطا من النبضات العصبية معبراا عنها برموز تشبه رموز مورس، وتنحصر

فيها النقاط في تسلسالت زمنية شتى. ومن المؤكد أن هذا النقل المرموز يختلف تمام

أن النمط المكاني / اإلختالف عن عملية الحفز األصلي لعضو الحس المعني، كما

عملية و، الزماني للنشاط العصبي المثار في قشرة المخ مختلف هو اآلخر كل األختالف

الترجمة المزدوجة هذه تضخم أعجوبة اإلدراك الحسي. ذلك أن هذه السلسلة من

.21المرجع السابق، ص (1)

.21المرجع السابق، ص (2)

12

الترجمات الفيزيائية/ الكيمائية تسفر عن تجربة حسية محددة كإبصار اللون األخضر،

لة ما يبعث على قدر من الذهول ليس أدنى إثارة للعجب من حالة شخص وفي هذه النق

(1) (كذلك ايفهم فجأة نصا ترجم له من لغة يجهلها إلى لغة أخرى يجهله

فعالم اإلحساس، وفقا للنظرة الجديدة، يتوقف على عالم الفيزياء وبناء على هذا

وجود كتاب ما يتوقف على المؤكد أن، ذلك أنه من والكيمياء، ولكنه ليس مقصوراا عليه

،يمكن أن يوجد الكتاب عناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها،ومن دونها ال

ومع ذلك، فالكتاب اليفهم فهماا كافياا بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر وأللياف

معرفة كاملة فذلك ال وحتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبر ،الورق

ذلك أن محتوى الكتاب يشكل نظاماا أسمى يتجاوز ،كشف لنا شيئا عن محتوى الكتابي

وبطريقة مماثلة تؤكد النظرة الجديدة أن أحاسيسنا تتوقف على ،عالم الفيزياء والكيمياء

(2) (أعضاء الجسم، ولكن اليمكن حصرها في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة

ها النظرة القديمة التى يسميأن مثال البصر اليضاح [شرنغتونهكذا يستعمل ]و

فمخطط الطاقة يتناول هذا ،حساسنا بنجم نراهإن تعلل أال تستطيع [مخطط الطاقة]

لى العين والصورة الضوئية الصغيرة التى إاالحساس ويصف مرور االشعاع من النجم

لشبكية يميائى فى اتتشكل له فى قاع العين وما يسفر عنه ذلك من النشاط الضوئى الك

كذلك و ،داء بالعصب وانتهاء بالدماغابتن تحدث أالتفاعالت التى يحتمل وسلسلة

طط الطاقة فمخ ،بصارنا للنجمإولكنه ال يقول شيئا عن ،التشويش الكهربائى فى الدماغ

ال يفسر ادراكنا ان للنجم سطوعا واتجاها وبعدا وال كيفية تحول الصورة فى قاع العين

.نجم نراه فوق رؤوسناالى

.21المرجع السابق، ص (1)

.21المرجع السابق، ص (2)

13

ط النشاوالنتيجة التي يذكرها مؤلفا كتاب ]العلم في منظوره الجديد[ هي أن )

الفسيولوجى والكيميائى للدماغ وفقا للنظرة العلمية الجديدة أمر ضروري لإلحساس

والمادة وحدها ال تستطيع أن تفسر اإلدراك ،ولكنه ليس اإلحساس بعينه ،متزامن معه

رة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية فالنظ ؛الحسى

أما عن عمليات اإلبصار والشم ،والنبضات الكهربائية فى األعصاب ونشاط خاليا المخ

(1) (والذوق والسمع واللمس ذاتها فليس عند المادية ما تقوله

ة وال هو من خواص ليس الماد هولكن ،إن اإلدراك الحسى حقيقةوبعبارة أخرى، )

(2) (ن تفسرهأالمادة وليس فى مقدور المادة

وجودنا مؤلفا من عنصرين [ بأن )كون شرنغتونيصرح ] ا كلهوبناء على هذ

،بعد احتماال بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحدأجوهريين أمر ليس فى تصورى

(3) (فالنظرة الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين فى اإلنسان:الجسم والعقل

وبذلك فإن العلم في رؤيته الجديدة، استطاع أن يكتشف وجود العقل، وانفصاله

عن الجسد، أو كونه مكونا آخر لإلنسان غير الجسد، عبر مثال بسيط هو اإلدراك البصري،

.ىالحسالذي هو نوع من أنواع اإلدراك

إدراك كلمةفـ ) افكيف به عندما يريد أن يفسر سائر اإلدراكات وعالقتها ببعضه

ى نشاط ينطوى على معرفة أو إدراك هو من أتعنى )المعرفة او الوعى( وبهذا المعنى ف

والحواس الخارجية هى ،فالمسالة كلها تبدأ باإلدراك الحسى ،لعقل المدركانشطة أ

ومن دون المعلومات اآلتية من هذه ،األساس األول لكل المعارف اإلنسانية ومصدرها

.21المرجع السابق، ص (1)

.21المرجع السابق، ص (2)

.21المرجع السابق، ص (3)

14

لعقل وال ل ،ى شيء يتصورهأوال للخيال ،ى شىء تتذكرهأالحواس ال يكون لدى الذاكرة

األشياء صفات من محددة صفة تدركوكل حاسة من الحواس الخمس ،ى شىء يفهمهأ

ن نعرف حجم قطعة نقدية عن طريق حاسة البصر أو حاسة أنحن نستطيع مثال ف ..المادية

اللمس واللمس وحده بين الحواس الخارجية الخمس موزع على مختلف أنواع أجزاء

الجسم أما الخواص األربع األخرى فكل منها يقتصر على عضو متخصص:العين أو

(1)(األذن أو األنف أو اللسان

نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من )الخارجية الحواس هذه وإلى جانب

نملك القدرة على اإلحساس ال بالبياض وبحالوة ، فنحنملكات اإلحساس الداخلى

،درك البياض وال تدرك الحالوةتفالعين ،بل على ادراك الفارق بينهما ،الطعم فحسب

فال اللسان وال العين يستطيعان التمييز بين ،وال يدرك البياض ،واللسان يدرك الحالوة

ويصدق هذا القول نفسه على الفرق ،ثنين معاالبياض والحالوة ألن أيا منهما ال يدرك اال

ذلك ألن أى ملكة قادرة على مقارنة شيئين ال بد لها ،بين ارتفاع الصوت وارتفاع الحرارة

أن تؤدى هذه المهمة تبعا لذلك وما من حاسة خارجية تستطيع ،من أن تعرفهما كليهما

ال بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها

(2) (الحواس الخارجية وأن تميز بينهما

فعملية التذكر ،نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرةهكذا )نحن و

شىء حاضر بالفعل، ولكن الشىء الذى نتذكره ليس كذلك، إذ إن إدراكنا الحسى

ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا فالذاكرة ال تستحضر التجربة ،األصلى قد زال على نحو ما

الماضية فحسب، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها

.30المرجع السابق، ص (1)

.30المرجع السابق، ص (2)

12

ل إن األدعى الى الدهشة هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر بتجارب أخرى ماضية. ب

الشىء المنسى.صحيح أن الذاكرة تخوننا أحيانا فال نستطيع أن نتذكر اسم شخص ما،

ولكننا نستطيع فى الغالب أن نحمل أنفسنا على تذكره بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة

(1) (بذلك االسم

ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن ، وهو )الخيالوهكذا نحن نملك

س ها هذه الحواكنتصور ال األشياء المدركة بالحواس فحسب، بل األشياء التى ال تدر

كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث، فالخيال، بخالف الذاكرة، يستخدم المعلومات

(2) (الواردة من الحواس الخارجية الخمس بحرية وبطريقة إبداعية

اإلحساس بالعواطف، كالحب والغضب والفرح )على نحن نملك القدرة وهكذا

تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك. والتي والخوف واألمل والرغبة والحزن،

فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال، أو الذاكرة

نا الخوف يحركه تخيل وقوع شر يتهددو اإلهانة وأفالغضب مثال يثيره اإلحساس بالضرر

فى المستقبل والحزن يسببه اإلحساس بألم حاضر أو تذكر ألم مضى زمانه كذلك من

طبيعة العاطفة أن يحس بها، بل إن العواطف تسمى أحيانا أحاسيس لوثاقة صلتها بحاسة

اللمس، ورغم ذلك، ومع أن األحاسيس تسبب وتالزم على الدوام كل عاطفة، فإن

عواطف ذاتها ليست أفعاال تندرج تحت اإلدراك الحسى. فالخوف ال يدل على مجرد ال

اإلحساس بشىء ما، وإنما يدل على موقف أو رد فعل إزاء ذلك الشىء. والعاطفة ليست

دفعناي أو ليهإعملية اإلبصار، ولكنها رد الفعل إزاء الشىء المبصر والذى يجعلنا نميل

.31المرجع السابق، ص (1)

.31المرجع السابق، ص (2)

13

(1)(عنه بعيدا

وهو أمر ال تستطيع الحواس ،إدراك ماهية األشياء)على وهكذا نحن نملك القدرة

فإذا حاولنا مثال أن نتخيل ما هو الحيوان فالصورة التى ،وال ملكة الخيال ذاتها ،القيام به

ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم

تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات والشكل واللون ومن المستحيل

(2)(ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان

المكان الذى يتحدث بل نحن نملك القدرة على إدراك أشياء أكبر بكثير، مثل )

:[فمانوليم كو]عالم الفيزياء الفلكية ، كما قال ال يمكن تصورهوالذي (،عنه أينشتاين

،(ومن المستحيل عمليا أن نتصور متصل المكان والزمان الملتوى ذا األبعاد األربعة)

فالمكان الرباعى األبعاد ال يستطيع أن يحس به أو يتخيله حتى علماء الفيزياء

.ولكن يمكن فهمه ،والرياضيات

وهو حاسة داخلية ،يسمو على قيود الخيال)العقل فى مجال العلوم وبذلك فإن

البشرى إذا ليس متميزا من الخيال فحسب بل هو قدرة إدراكية تفوقه بكثير والعقل فالعقل

ال الحواس هو الذى يصنع العلم ألنه وحده يستطيع أن يستكشف ماهية األشياء

(3)(وعللها

ر ومن اليسي)وهى اإلرادة بل نحن نملك القدرة على أشياء أكبر من اإلدراك نفسه،

التمييز بين اإلرادة والعاطفة ألن االثنين يمكن أن تتصادما واألعمال الجريئة تبرهن على

أن اإلرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت فالعواطف تثيرها الحواس ولكن

.31المرجع السابق، ص (1)

.32المرجع السابق، ص (2)

.32المرجع السابق، ص (3)

13

بل إننا كثيرا ما نقول إن فالنا من الناس قد تغلب على ،اإلرادة تختار وفقا لما يراه العقل

اطفته ألنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك فالحيوان يتبع حكم اإلحساس والعاطفة ع

(1)(ولكن اإلنسان يتمتع بقدرة على االختيار وفقا لما يفهمه عقله

وقد ذكر مؤلفا كتاب ]العلم في منظوره الجديد[ بمناسبة حديثهما عن عالقة

يحترم عقله أن يرفضه، أو يتالعب اإلرادة بالعقل، اكتشافا علميا رائعا، ال يمكن لمن

بنتائجه، أو يحاول الهروب منها، فهي تشكل دليال حسيا على وجود العقل.

وفيما يتعلق بالعالقة بين العقليقول المؤلفان في التقديم لهذا االكتشاف: )

واإلرادة تم بعض أروع اكتشافات القرن العشرين خالل عمليات جراحية أجراها

د ومالحظات بنفيل ،أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعىويلدربنفيلد على

دلة السابقة غير المباشرة حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع األ

ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة ،المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات

ى ادماج مباحث وكان بنفيلد، والذى يعود له الفضل األول ف ،أشخاص مبنجين

األعصاب وفسيولوجيا األعصاب وجراحة األعصاب، وقد شرع فى بحوثه الرائدة فى

ثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إال حين الثالثينات من هذا القرن غير أن اآل

(2) ([لغز العقل]نشر كتابه المسمى

معينه فى الدماغ بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق 1113لقد اكتشف بنفيلد عام

بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول األمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما المس القطب

الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة )بيسبول( فى مدينة

.33المرجع السابق، ص (1)

.33المرجع السابق، ص (2)

14

صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك صغيرة، ويراقب ولدا

مريضة أخرى سمعت آالت موسيقية تعزف لحنا من األلحان.. قال بنفليد: )أعدت تنبيه

الموضع نفسه ثالثين مرة محاوال تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه، وكلما أعدت

سه، ن اللحن يبدأ فى المكان نفتنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكا

ويستمر من الالزمة إلى مقطع األغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها

(1) يسير بالسرعة المتوقعة له(

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل

تاح بيه الذاكرة التى ما كانت تالحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تن

لواله، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من

الواضح أن األشياء التى كان قد أوالها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات

دماغه.

وكان بنفيلد من وقت آلخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه ال يفعل ذلك،

وفى مثل هذه الحاالت لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطالقا.

ثم إن مالمسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان مؤقت للقدرة

على الكالم عند المريض، ونظرا النعدام اإلحساس فى الدماغ، فالمريض ال يدرك أنه

كالم، فيعجز عن ذلك، وقد روى مصاب بالحبسة إال عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم ال

بنفيلد ما حدث، فقال: )أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت

القطب الكهربائى حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظل المريض

صامتا للحظات، ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضبا، ثم سحبت القطب، فتكلم فى

.34المرجع السابق، ص (1)

11

ن أقدر على الكالم، إنها فراشة لم أكن قادرا على النطق بكلمة )فراشة( الحال، وقال: اآل

فحاولت أن أنطق بكلمة )عثة(

لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة، وطلب عقله من مركز

الكالم فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه، وهذا يعنى أن آلية

متماثلة مع العقل، وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هى أدوات تعبير عن الكالم ليست

األفكار، ولكنها ليست األفكار ذاتها، وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة النسداد

الكالم عنده استغرب، وأمر بالبحث عن اسم شئ مشابه هو )العثه( وعندما فشل في ذلك

لعمل الحركى ال يخضع لمركز الكالم(، وأخيرا أيضا طقطق بأصابعه غضبا )إذ إن هذا ا

عندما انفتح مركز الكالم عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب

أفكاره، وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكالم عندما عرض

ه بكلمة ذمفاهيم، ونحن نستطيع االستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية االستبطان ه

عقل فعمل العقل ليس عمال آليا(

وهكذا توصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات،

قال: )عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع القطب على القشرة الحركية فى أحد

يدى نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك، وكان جوابه على الدوام )أنا لم أحرك

ولكنك أنت الذى حركتها( وعندما أنطقته قال: )أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته

منى(

قد لخص بنفيلد ذلك بقوله: )إن القطب الكهربائي يمكن أن يخلق عند المريض و

أحاسيس بسيطة متنوعة، كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج

إحساسا حيا بتجارب ماضية، أو يوهمه بأن التجربة أصواتا، وقد يعيد إلى الذاكرة

الحاضرة هى تجربة مألوفة، أو أن األشياء التى يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل

100

بمعزل عن كل ذلك، وهو يصدر أحكاما على كل هذه األمور وربما قال: إن األشياء تكبر(

ه الحركة.ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى، ويقاوم هذ

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذي

يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية ال بد من أن يكون شيئا آخر يختلف

كليا عن فعل األعصاب الالإرادي، ومع أن مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على

ال يتوقف على ذلك. النشاط، فاإلدراك نفسه

وباستخدام هذه األساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين

ة عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير ولؤمناطق الدماغ المس

أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو اإلرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ

حساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو هو مقر اإل

اإلرادة.

قد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائال: )ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع و

التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع

غير أنه ال يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس أن يثير األحاسيس والذكريات

المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه ال يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر

الفكر المنطقي، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه ال

قل فواضح أذا أن العيستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه ال يستطيع أن يكره اإلرادة،

البشرى واإلرادة البشرية ليس لها أعضاء جسدية(

بعد هذا االكتشاف، والذي أعقبته اكتشافات كثيرة تدل على ضرورة وجود العقل،

رو د. عمعض ما ورد في حوارية ذكرها بوكونه كائنا آخر غير الجسد، نختم هذا المبحث ب

والدكتور جي موريالندكما يذكر ـ بينه [، وقد جرت ـرحلة عقلفي كتابه المهم ] شريف

101

.(1) بعض المالحدة الماديين، مع يمثالن الفكر اإليمانيمن جهة، باعتبارهما

الوعي هوفأجاب المؤمن بقوله: ) ،تعريف الوعيوقد بدأ فيه الملحد سؤاله عن

إنه يقف وراء االحاسيس واالفكار ،القدره على التأمل فيما حولنا وفيما بداخلنا

إن الوعي.. االختيار ؛ إنه ما يجعلنا نشعر بأننا أحياء ةوالمعتقدات والرغبات وحري

بالتيار ويمكن تشبيه الوعي. ببساطه هو الفرق بين االنسان المستيقظ واالنسان النائم.

فصل التيار تر إذا تمالكهربائي الذي اليعمل الكمبيوتر إال به، إذا تتالشى قدرات الكمبيو

(الكهربائي عنه

يعتبر كثير من البيولوجيين أن العقل المسؤول عن الوعي نتاج مباشر قال الملحد:

ما هتماماا كما تنتج الكليتان البول، لذلك يعتقد أنصار التطور الدارويني أن ،للمخ المادي

ياا كخطوة وتعقيده المذهل حتى بزغ العقل تلقائ وصل المخ إلى الحجم الحاليإن

ألكن أميناا معك، اليمكنني أن أتصور أن التطور العشوائي قادر على تشكيل . تطورية.

العقل اإلنساني بكل ملكاته فما رأيك أنت؟

: لست وحدك الذي تجد صعوبة في ذلك، أنظر إلى مايقول أستاذ المؤمنأجاب

مادة تصور أن الال أستطيع أن أ)الفلسفة البريطاني بجامعة أكسفورد كولن ماكجين:

كالحياة ضيف جديد تماماا على يمكن بأي آلية بيولوجية أن تكتسب العقل، إن العقل

الكون، إنه قفزة هائلة من نوع مختلف والينبغي أن يتهرب البيولوجيون التطوريون من

(المشكلة بأن يغضوا النظر عنها

ن أربع وهإن القائلين ببزوغ العقل من المخ المادي يواج المؤمن:وأضاف

مشكالت:

، فما بعدها.233انظر: رحلة عقل، د. عمرو شريف، ص (1)

102

وعند وصول المادة إلى ،إن قولهم هذا يعني أن الماده تتميز بعقل كامن فيها -1

مادة قد أضفوا على ال، ودرجة معينة من تعقيد البنية تتفجر وتظهر هذه القدرات الكامنة

صفات تخالف تماماا المفاهيم المادية إنها صفات أقرب لمنظور المتدينين من بذلك

اديين.منظور الم

إذا انبثق العقل من المادة دون استمداد من ذكاء مطلق أعلى فكيف نثق في -2

من باب التشبيه إذا قام شخص متخلف عقلياا ببرمجة الكمبيوتر، هل تثق فيما وأحكامه؟

فما أدراك لو لم يكن لهذا المبرمج عقالا بالمرة.، نحصل عليه من مخرجات الكمبيوتر

د من المفاهيم البديهية التي النطلب دليالا عليها وأولها تؤمن عقولنا بالعدي -3

اعتقادنا في سالمة عقولنا وأحكامنا فمن أين أتت هذه المفاهيم التي نبني عليها كل أمور

إفرازاا مباشراا للنشاط الكهروكيميائي وكيف وكيف تكون ،حياتنا وكل أفكارنا ومفاهيمنا

؟البديهية بهذا اليقينيجعلنا المخ نثق في هذه المفاهيم

إن بزوغ العقل من المادة يتطلب خضوعه لقوانينها الكيميائية والفيزيائية -4

وماتتسم به من حتمية، إن افتراض الحتمية يتنافى مع مايتمتع به اإلنسان من حرية

.و أن تغلق الكتابأ االختيار فأنت تستطيع أن تستكمل قراءة هذا الفصل

لو افترضنا أن العقل انبثاق مباشر من المخ كما ائال: وماذا الملحد المؤمن ققاطع

يترتب على ذلك؟الذي يعتقد الماديون فما

: لو صدق هذا المنظور لما وجد العقل اإلنساني أصالا، فإذا كان المؤمنأجاب

العقل نتاجاا مباشراا للمادة )المخ( لتبنى جميع البشر رأيا واحدا في كل قضية، إذ أن النظرة

لمادية واحدة كما نجد في العلوم الطبيعية معنى ذلك أن تختفي النظرة النسبية لألمور ا

والتي هي أهم سمات العقل اإلنساني.

قال الملحد: لقد طرحت العوائق المنطقية أمام فكرة انبثاق العقل من المخ

103

ا جت من وجود هذه العوائق أن العقل ليس من نتاج المخ، إن مثل هذتواستن ،المادي

فهل لديك دليل إيجابي على ذلك؟ ، الدليل يعتبر عند علماء المنطق دليالا سلبياا

والشك أن الدليل التجريبي هو أقوى ،: سأقدم لك أدلة تجريبيةالمؤمنأجاب

األدلة العلمية، لقد أجرى دكتور ويلدر بنفيلد مؤسس علم جراحة األعصاب الحديث

ل أثناء ووقد حا ،الذين اليستجيبون للعالج عأكثر من ألف عملية جراحية لمرضى الصر

وذلك عن طريق ،إجراء هذه الجراحات أن يتوصل إلى موضع العقل داخل المخ البشري

يه المريض ف التنشيط الكهربائي لمراكز القشرة المخية المختلفة في الوقت الذي يكون

فيحاول ركتحت التخدير الموضعي، وعند تنشيط منطقة معينة كانت يد المريض تتح

ما ناقش بينفيلد مرضاه أجابوا بأنهموعند ،المريض أن يمنعها عن الحركة بيده األخرى

معنى ذلك أنه بينما كانت إحدى يدي المريض تحت التحكم . واليستطيعون منعها.

خدام ل منعها باستوالمباشر للنشاط الكهربائي للقشرة المخية كانت إرادة المريض تحا

،يؤكد أن لإلنسان إرادة منفصلة عن النشاط الكهروكيميائي للمخذلك واليد األخرى،

وبالرغم من أن دكتور بنفيلد كان يهدف من أبحاثه إلى إثبات أن مخ اإلنسان هز كل شيء

ه شيء آخر فإنه أقر في النهاية بأن كل من المخ والعقل يمثل وجوداا مستقالا ءوليس ورا

وذو طبيعة مختلفة.

حاصل على جائزة نوبل ألبحاثه حول [، وهو وجر سبيرير]وكذلك أكد دكتور

بعد تجاربه وأبحاثه المستفيضة عن المخ البشري ،اختالف وظائف كل من نصفي المخ

أن الوظائف العقلية التعتمد على نشاطات المخ المادي وإن كانت تستعمله كآلة.

ا ي حياتنقال الملحد: الشك أن قضية مصدر العقل اإلنساني من أهم القضايا ف

فهل هناك المزيد من األدلة على أن العقل شيء والمخ شيء ،وإن لم تثر اهتمام العامة

؟آخر

104

: استميحك عذراا لدي موعد لزيارة الطبيب إلجراء بعض الفحوصات المؤمنقال

وكذلك رسم المخ ..المعملية واإلشعاعية ليطمئنني على وظائف قلبي ورئتي ومخي

. ى صحة أو خطأ أفكاري ومشاعري.الكهربائي لإلطمئنان عل

الشك أن أية فحوصات تجرى على المخ لن تستطيع أن تطلع ثم ضحك، وقال:

على أفكارنا وتقوم صحتها أو خطأها إن مايدور في عقولنا أمر شديد الخصوصية.

قائالا: لقد أثبت العلم إمكانية االطالع على نشاطاتنا العقلية الملحد المؤمن قاطع

يستطيعون اآلن عن طريق تسجيل نشاط المخ الكهربائي ومالحظة حركات فاألطباء

العينين أثناء نومنا أن يحددوا متى نحلم.

: هل تستطيع حركات العين ونشاط المخ الكهربائي أن يخبرانا المؤمنقال

إن النشاط . بمحتوى أحالمنا، البد أن نوقظ الشخص ليخبرنا عن مضمون حلمه.

ن هناك تالزما بين نشاطنا العقلي وبين نشاطأحالمنا يعني أثناء أه الكهربائي الذي نسجل

.يهما السبب وأيهما النتيجةألكن ذلك اليحدد ،المخ الكهربائي

حسبك قادرا على دفعه أمتحفزا وقال: لدي دليل علمي قوي ال الملحدوقف

االنسان منذ لقد استطاع .. بل ومصدر الشعور بالذات ،ن المخ هو مصدر العقلأيؤكد

عقله وشعوره بذاته عن طريق العقاقير ةوعيه وحد ةقديم الزمان التحكم في درج

كذلك استطاع أطباء األمراض النفسية عن طريق .. سة والخموروالمخدره والمهل

العقاقير التي تعدل في كيمياء المخ أن يغيروا من مشاعر اإلنسان بل ويغيروا من نظرته

أن يصلحوا الكثير مما يصيب الوعي تطاعوا عن طريق العقاقيرقد اسولذاته وللوجود،

ومن ثم فإن الوعي ،أال يثبت ذلك كله أن كيمياء المخ وراء كل شيء. والعقل والنفس.

؟والعقل والشعور بالذات تنبثق جميعها من المخ

مبتسماا: من التشبيهات التي تستخدم كثيراا وتعبر جيداا عن العالقة المؤمنأجاب

102

ن عقل اإلنسان ومخه هو تشبيهه بالعالقة بين الموجات الكهرومغناطيسية التي تحمل بي

البث التلفزيزني )العقل( وأجهزة التلفزيون المستقبلة )المخ(، والشك أننا نستطيع عن

،طريق التحكم في أجهزة التلفزيون أن نغير الكثير من مواصفات البث الذي نستقبله

رة ملونة أو غير ملونة، زاهية أو معتمة، نجعلها صافية أو فنحن نستطيع أن نجعل الصو

مشوشة، نرفع من شدة الصوت أو نخفضه بل ونستطيع أن نقوي من قدرة الجهاز على

كل ذلك والبث التلفزيزني اليتغير، هذا ماتفعله تماماا العقاقير المخدرة ، االستقبال

يون أقصد في )المخ(.سة والخمور والعقاقير الطبية في جهاز التلفزووالمهل

،قال الملحد: لقد أثبت لي تجريبياا ومنطقياا أن عقل اإلنسان ظاهرة غير مادية

؟وليس نتاجاا للمخ البشري المادي، فهل العقل هو حقيقة اإلنسان وظاهره وجوهره

فإن العقل من مظاهر الذات ،فإذا كان الوعي من وظائف العقل ،: الالمؤمنأجاب

اإلنسانية.

: وماهي الذات اإلنسانية؟ ولما التقبل فكرة أن العقل هو آخر الملحدل تساء

المطاف، وأنه هو ذات اإلنسان؟

: دعني أروي لك حكاية حقيقية مؤلمة لكنها تبين بوضوح ما أقصد، المؤمنقال

تعرضت إحدى طالباتي في الجامعة لحادث شديد أثناء شهر العسل فقدت على اثره

وعندما استعادت وعيها، كانت تعاني من فقدان جزئي للذاكرة، أنساها ، الوعي لعدة أيام

بأنها متزوجة، كما كانت تعاني من تغير في شخصيتها وسلوكها وكخطوة عالجية عرضوا

فأدركت تدريجياا أنها متزوجة من ذلك الرجل كما استعادت ، عليها تسجيأل لحفل زفافها

زي طوال فترة غيابها عن وعيها هي سوزي تدريجياا شخصيتها وطبيعتها، لقد كانت سو

بالنسبة لنا، كما كانت تدرك طوال فترة فقدانها الجزئي للذاكرة وتغير شخصيتها أنها

إننا .. اسوزي أال يثبت ذلك أن لنا وجوداا حقيقياا مختلفاا عن وعينا وذاكرتنا وشخصيتن

103

ا. وطبيعتن نظل نحن حتى وإن غبنا عن وعينا ووهنت ذاكرتنا وتشوهت شخصيتنا

إذا شرحنا مخ اإلنسان، جزءاا جزءاا وإذا استطعنا أن ننظر داخل كل خلية من خالياه

ضع الذات اإلنسانية، نحن النعرف شخصية اإلنسان عن طريق وفلن نضع أيدينا على م

واإلشعاعية ولكن عن طريق معرفة كيف يشعر هذا اإلنسان، فيما الفحوصات المعملية

.وهكذا ..طموحاته، ماهي نظرته للوجوديفكر، ماهي

للجوهر الذي ، فالخالصة أن حقيقة اإلنسان تتجاوز جسمه ومخه وعقله ووعيهو

يشعر أنه وجود واحد متكامل يقول عن نفسه أنا، لذلك أعلن سير جونز إكيلز عند تسلمه

القول إلى مضطراا أجدنيقائال: ) عن أبحاثه في بايولوجيا المخ لجائزة نوبل في الطب

(الروح المتدينون مايسميه مع تتفق طبيعة وعقلي لذاتي مادية غير بطبيعة

قبل وفاته بخمسة أيام أن الروح هو جوهر [السير شيرينجتون]كذلك أعلن

اإلنسان الذي اليفني بالموت.

قائالا: لقد قفز شيرينجتون قفزة كبيرة بحديثه عن خلود جوهر الملحداندفع

اإلنسان فما دليله العلمي على ذلك؟

تأظهر، فقد : لعلك سمعت عن خبرات الذين اقتربوا من الموتالمؤمنأجابه

العديد من الدراسات الموثقة حول هذا الموضوع أن إدراك اإلنسان يمتد إلى مابعد

مريضاا أصيبوا 33شتملت إحدى أهم هذه الدراسات على ا، وتوقف المخ عن العمل

بنوبات قلبية شديدة، أعلن إثرها وفاتهم اكلينيكياا لكنهم تماثلوا للشفاء، وحكى بعضهم

ذكر بعضهم أنهم شعروا أنهم مفارقون ألجسادهم، وأنهم يطوفون ، حيث أموراا عجيبة

جسدهم المسجى ثم إذا بهم ن األطباء والممرضات وهم يتعاملون مع وفوقها ويشاهد

وذكر بعضهم أنه شاهد نفقاا طويالا مظلماا يهبطون ليدخلوا مره أخرى في أجسادهم،

وذكر أحدهم أنه رأى حذاء للتنس ملقى فوق سطح ،ورأى آخره دائرة من النور

103

لقد ذكروا أموراا شاهدوها وانطبعت في ذاكرتهم، . المستشفى، وقد ثبت صحة ذلك.

درات حواسهم على اإلدراك في فترة انقطع فيها االكسجين عن المخ.وتجاوز بعضها ق

اليعني ذلك أنه هناك ذاتاا مستقلة عن المخ لها قدرات إدراكية عالية وهي مصدر أ

الشعور بالذات ومصدر العقل، وأن هذه الذات تظل على وعيها عندما يكاد عمل المخ

أن يتوقف.

الماديين، فإن المنصفين منهم يقرون ن مإذا كان هذا االستنتاج غير مقبول

بعجزهم عن تفسير كيف تنبثق القدرات العقلية عن المخ المادي.

104

الفصل الثاني

الحقائق وتجلياتالبرزخ..

بعد أن عرفنا اتفاق العقالء والعلماء واألديان والفطر السليمة التي لم تدنس

والعلم بموته، يتوقف العقل بالفلسفات المادية على أن سر اإلنسان وحقيقته لن تفنى

والفطر عن معرفة ما سيحصل بالضبط لذلك العقل أو تلك الروح التي لم يحصل لها ما

حصل لجسدها الذي كانت تمتطيه.

وذلك ألن اإلنسان في تلك المرحلة لم يعد محكوما بالقوانين التي تحكم هذا

والتي ال يمكن للعقل أو العلم العالم، وإنما انتقل إلى عالم آخر له قوانينه الخاصة به،

المجرد أن يكتشفها بأي سبيل من السبل.

ولهذا كان الملجأ الوحيد للتعرف على ذلك العالم هو الدين باعتباره النافذة التي

يطل منها اإلنسان على عالم الغيب، أو باعتباره المصدر الذي يبين حقائق الوجود التي

ال يمكن للعقل المجرد أن يكتشفها.

ولهذا يطلق علماء العقائد على المباحث المرتبطة بهذا الجانب ]السمعيات[، أي

أن المصدر فيها هو النص الذي نسمعه من النبي، والذي ينقله عن ربه.

وليس في كونها ]سمعيات[ أي غضاضة، أو منافاة للعقل كما يدعي أصحاب

بالدالئل إال بعد أن تثبت نبوته الفلسفات المادية.. ذلك أننا ال نسلم بما نسمعه من النبي

الكثيرة، والتي يسلم لها العقل، ويقر بها، وال يجد مفرا منها.. وأكبر دليل على ذلك هو

تسليم أصحاب العقول الكبيرة من آالف الفالسفة والعلماء للنبي.. وهم لم يسلموا له

إال بعد أن ثبتت لهم نبوته.

، والذي يطلق عليه ]اإللهيات[، فهي أيضا وهكذا بالنسبة لألصل األول في العقائد

101

لم يسلم لها إال بعد ثبوتها بالدليل العقلي، والدليل على ذلك أن كبار الفالسفة ممن لم

يؤمنوا باألديان، أو لم يعرفوا األديان يسلمون بوجود الله، وبالكثير من صفاته.

ي ناك حياة فوكمثال يقرب ذلك، ويبين مدى معقوليته، أنه لو ثبت علميا أن ه

كوكب ما؛ فإن العلم ال يستطيع أن يتنبأ بنوع تلك الحياة، وال تفاصيل أسرارها، وال

القوانين التي تحكمها.

لكنه إن تمكن من أن يرسل بعض رواد الفضاء، ليذهب لذلك الكوكب، ويكتشف

سمع لأسراره، فإنه سيقبل كل ما جاء به، مع أنه لم يصل إلى تلك المعارف إال عن طريق ا

المجرد.. ذلك أنه ال يمكن لكل الناس أن يرحلوا لذلك الكوكب.

وما لنا نذهب بعيدا.. فأكثر معارفنا مبنية على السماع، والثقة في الذين نسمع

منهم، حتى لو لم يثبت لنا صدق ما ذكروه، أو لم نستطع تحليله في المخابر.

ن ، فلو لم نثق في المؤرخيوأكبر دليل على ذلك أن كل علم التاريخ مبني على هذا

الذين سجلوا األحداث، لزال علم التاريخ.

وهكذا لو لم نثق في وكاالت الفضاء، لما سلمنا بتلك المجرات والكواكب التي

تذكرها، ألنه يمكن ألي شخص، وببرامج بسيطة أن ينشئ أي صورة شاء، أو أي فلم

أراد.

ديهم األدلة على صدق الرسل وهكذا األمر بالنسبة للمؤمنين الذين تواترت ل

عليهم السالم، ولذلك يسلمون لهم، ولكل ما جاءوا به، وخاصة مع عدم تنافره مع

العقل، بل توافقه التام معه، ومع جميع القيم النبيلة، ذلك أن لتلك الحقائق المرتبطة

ها يبالبرزخ آثارها الكبيرة في السلوك واألخالق والراحة النفسية، ولذلك كان البحث ف

مجديا ونافعا من كل الجوانب، على عكس ما يذكره أولئك الماديون الذين يتوهمون

البحث فيما بعد الموت صارفا عن شؤون الحياة.

110

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أسرار عالم البرزخ، وهو العالم

الد بالبعث، وبميالذي يبدأ من وفاة اإلنسان، أو قبل وفاته بلحظات معدودة، وينتهي

النشأة اآلخرة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا المصطلح ]البرزخ[، وبين بدايته ونهايته، فقال ذاكرا

ا فيما 11حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون )﴿بدايته: ( لعلي أعمل صالحا

ها كلمة هو ، 11]المؤمنون: ﴾قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون تركت كال إن

، فهاتان اآليتان الكريمتان تذكران أن اإلنسان عندما يأتيه الموت، أي في اللحظة [100

التي تنزع فيها روحه، يشعر بالمصير الذي سيصير إليه.. ولذلك يطلب الرجوع.

ور فال أنساب ﴿لتي ينتهي إليها، فقال: ثم ذكر بعدها النهاية ا فإذا نفخ في الص

، وهي النفخ في الصور، الذي يكون بمثابة [101]المؤمنون: ﴾بينهم يومئذ وال يتساءلون

دق جرس نهاية الدنيا بملكها وملكوتها.

اإلنسان في ساعة وهكذا ذكر في سورة الواقعة بعض المشاهد التي يراها

( ونحن 44( وأنتم حينئذ تنظرون )43فلوال إذا بلغت الحلقوم )﴿احتضاره، وقبل موته:

( ترجعونها إن 43( فلوال إن كنتم غير مدينين )42أقرب إليه منكم ولكن ال تبصرون )

بين )43م صادقين )كنت ا إن كان من المقر ( 41( فروح وريحان وجنت نعيم )44( فأم

ا إن كان من أصحاب اليمين ) ا إن كان 11( فسالم لك من أصحاب اليمين )10وأم ( وأم

ال بين الض ( إن هذا لهو حق 14( وتصلية جحيم )13( فنزل من حميم )12ين )من المكذ

[13ـ 43]الواقعة: ﴾(13( فسبح باسم ربك العظيم )12اليقين )

وقد رأينا من خالل النصوص المقدسة الكثيرة الواردة في هذا العالم أن أحسن

وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه ﴿ه قوله تعالى: وصف له هو ما نص علي

، فهذه اآلية الكريمة تبين أن اإلنسان بعد موته، أو حين موته تنكشف له [11]ق: ﴾تحيد

111

الحقائق، ويتجلى له ما كان غافال عنه، ذلك أنه لم يكن يرى سوى عالم الملك، وغافال

وت.. وبعد الموت يظهر له ما كان خافيا عنه من هذا العالم.عن عالم الملك

وهذان العالمان ال يمكن للعقل أن ينكرهما، أما عالم الملك، فهو عالم الشهادة

الذي نعيشه، ونرى قوانينه، أما عالم الملكوت، فهو ذلك العالم الخفي الذي ال نتمكن

أن ننكره. من السفر إليه أو رؤيته.. ولكنا مع ذلك ال نستطيع

وكيف ننكره، ونحن نرى الكثير من المظاهر التي تدل عليه، وأولها النوم، والذي

قد نرى فيه الكثير من العجائب، بل قد نرى فيه المستقبل، أو ما خفي من األمور.

ين يتوفى األنفس ح الله ﴿ولهذا اعتبر القرآن الكريم النوم نوعا من الموت، فقال:

تي قضى عليها الموت ويرسل األخرى إلى موته تي لم تمت في منامها فيمسك ال ا وال

رون ى إن في ذلك آليات لقوم يتفك [42]الزمر: ﴾أجل مسم

ل أن يدخ وهكذا يقر أكثر الفالسفة والحكماء واألديان على أن هناك من يستطيع

في نوع من الموت االختياري، والذي يستطيع من خالله أن يرى من األشياء ما ال يراه

ما يعبر عنه بالكشف والمشاهدة. وغيره، وه

لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك ﴿أو كما أشار إليه قوله تعالى:

[22: ]ق ﴾فبصرك اليوم حديد

فاآلية الكريمة تشير إلى أن الحجاب بين عالم الملك والملكوت ليس الجسد،

وإنما الغفلة، ولذلك يمكن لمن رفع الغفلة عن قلبه أن يرى الحقائق في الدنيا قبل

الحارث بن مالك االنصاري، قال: عن اآلخرة، كما أشار إلى ذلك ما ورد في الحديث

قال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال: (أصبحت يا حارث؟كيف )فقال: مررت بالنبي

فقال: قد عزفت نفسي عن (انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟)

الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني

112

يا )ضاغون فيها. فقال: أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يت

(1) (حارث عرفت فالزم

ولكن مع ذلك يظل الجسد ومتطلباته هو الحجاب األكبر الذي يحول بين اإلنسان

وبين رؤية العالم اآلخر، ولهذا كان الموت بمثابة رفع الغطاء والحجاب الذي تنكشف

به الحقائق، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

أفرس تحتك أم حمار الغبارسوف ترى إذا انجلى

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل بيان تجليات الحقائق في عالم البرزخ، وقد

رأينا أنه يمكن تصنيفها إلى أربع تجليات كبرى، كلها دلت عليها النصوص المقدسة،

وهي:

: فيعرف الميت محله من السعادة والشقاء، مثلما يعرف ـ تجلي حقيقة المصير 1

التلميذ بعد انتهاء االمتحان نجاحه أو رسوبه.

: وذلك بعد االختبار الذي يتعرض له، والذي يكشف عن ـ تجلي حقيقة اإليمان 2

حقيقة إيمانه، ومدى رسوخه فيه.

يظل حة، و: حيث يرى الميت عمله في صورة حسنة أو قبيـ تجلي حقيقة العمل 3

مالزما له، يتنعم به، أو يتعذب.

: ذلك أن الميت في عالم البرزخ يمكنه ـ بقوانين سنراها ـ أن ـ تجلى حقيقة الدنيا 4

يتواصل مع عالم الدنيا، فيستفيد منهم، ويفيدهم.

هذه هي التجليات الكبرى التي دلتنا عليها النصوص المقدسة، والتي سنحاول

فهم بعض أسرارها من خالل المباحث التالية:شرحها، وبيان أدلتها، و

( 3333ح) 3/233(، المعجم الكبير للطبراني 30422ح) 3/130مصنف ابن أبي شيبة (1)

113

أوال ـ البرزخ وتجليات حقيقة المصير:

تذكر النصوص المقدسة أن أول التجليات وأخطرها تجلي المصير الذي ظل

الميت طول عمره يؤسس له، ويبني بنيانه..

ولعل أقرب مثال يقرب صورة ذلك ما يفعله بعضهم في حياتنا الدنيوية عندما

ه معصب العينين ليرى بنيانه الذي ظل سنين طويلة يبذل جهده في إكماله، يؤتى ب

وليكتشف المفاجأة السارة بنفسه.

وهكذا األمر مع رفع تلك الحجب التي كانت تحول بين اإلنسان وبين إدراك

حقيقة البناء الذي كان يبنيه، وهل كان بناء سعادة، أم بناء شقاء.

حيث تذكر النصوص المقدسة أن ذلك التجلي ال يتم بعد الموت، وإنما قبله في

لحظة الغرغرة، وهي اللحظة التي تكون مقدمة للموت، حينها يكتشف اإلنسان الحقيقة،

( 43فلوال إذا بلغت الحلقوم )﴿قبل أن يغادر عالم الدنيا، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:

( فلوال إن كنتم 42( ونحن أقرب إليه منكم ولكن ال تبصرون )44حينئذ تنظرون ) وأنتم

[43 - 43]الواقعة: ﴾( ترجعونها إن كنتم صادقين 43غير مدينين )

ا اإلنسان فيه فاآليات الكريمة تشير إلى تلك اللحظة المفصلية التي يكتشف

الحقائق التي كان غافال عنها، وهو ما يدل على أن عالم اآلخر مختلط بعالم الدنيا، وأنه

ليس من فرق بينهما سوى في أدوات اإلدراك التي يقتضيها التكليف.

ا3ولكن أكثر الناس ال يعلمون )﴿وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ( يعلمون ظاهرا

نيا وهم عن اآلخرة هم غافلون ، فاآلية الكريمة تشير إلى [3، 3]الروم: ﴾من الحياة الد

أن الغفلة هي الحجاب الذي حال بين اإلنسان وبين رؤية عالم اآلخرة، وهي التي جعلته

.يكتفي بظاهر الحياة الدنيا، دون البحث عن باطنها، والذي تتشكل منه اآلخرة

الطهراني مبينا داللة اآلية الكريمة على هذا الحسينيمحمد الحسينوقد قال

114

يمكن االستنتاج من جعل ظاهر الحياة الدنيا في اآلية االولى في مقابل اآلخرة المعنى: )

ن الحياة الدنيا لها ظاهر وباطن، وذلك بقرينة أان اآلخرة هي باطن الدنيا وحقيقتها، و

(1)(هما قسيماا لآلخرتقابلهما وكون أحد

نيا لعب ولهو ﴿وهكذا استنتج هذا المعنى من قوله تعالى: ما الحياة الد اعلموا أن

ار نباته ث م يهيج وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال واألوالد كمثل غيث أعجب الكف

ا وفي اآلخرة عذاب شديد ومغفرة من ا ثم يكون حطاما ورضوان وما اللهفتراه مصفر

نيا إال متاع الغرور ن تكون عبارة أمن الممكن ، ذلك أنه )[20]الحديد: ﴾الحياة الد

الواردة في اآلية معطوفة على لفظ [ورضوان اللهوفي اآلخرة عذاب شديد ومغفرة من ]

فالحياة ؛ن الحياة الدنيا هي في األخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوانأي ألعب؛

الدنيا ظاهرها تلكم المراتب الخمس: لهو، ولعب، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في

(2)(الودود ورضوانه عذاب شديد وغفران الرب ـ أي اآلخرة ـ األموال واألوالد، وباطنها

إن يستعجلونك بالعذاب و ﴿مستدال بقوله تعالى: بهاء الدين العامليومثله قال

النيران التي إن الحيات والعقارب، بل و)[: 24]العنكبوت: ﴾جهنم لمحيطة بالكافرين

تظهر في القبر والقيامة، هي بعينها األعمال القبيحة واألخالق الذميمة والعقائد الباطلة

التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجالبيب، كما أن الروح

والريحان والحور والثمار هي األخالق الزكية واألعمال الصالحة واالعتقادات الحقة

ت بهذا االسم، إذ الحقيقة الواحدة تختلف التي برز ت في هذا العالم بهذا الزي وتسم

صورها باختالف األماكن، فتحلى في كل موطن بحلية، وتزيى في كل نشأة بزي، وقالوا:

﴾ن ييستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافر ﴿إن اسم الفاعل في قوله تعالى:

.40، ص: 1معرفة المعاد، ج (1)

.40، ص: 1المرجع السابق، ج (2)

112

نها ستحيط بهم في النشأة أ[ ليس بمعنى االستقبال بأن يكون المراد 24]العنكبوت:

(1)(األخرى

الطهراني وال العاملي فقط، وإنما ذكره الكثير من وهذا المعنى لم يذكره

يذكرون أن الكشف الذي يفتحه الله على بصائر األولياء المتكلمين والعرفاء، والذي

يريهم حقائق ذلك العالم الذي ال تراه أبصارهم الحسية، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:

مين ﴿ اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه : )، وقوله [32]الحجر: ﴾إن في ذلك آليات للمتوس

(2)(اللهينظر بنور

ما والغزالي الكثيرة من الروايات الدالة على هذا، ثم علق عليها بقوله: )وقد ذكر

حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن

ومن أنكر األصل أنكر ،والحكاية ال تنفع الجاحد ما لم يشاهد ذلك من نفسه.. الحصر

أحدهما عجائب الرؤيا :ده أمرانالتفصيل والدليل القاطع الذي ال يقدر أحد على جح

،وإذا جاز ذلك في النوم فال يستحيل أيضا في اليقظة ،فإنه ينكشف بها الغيب ،الصادقة

م من فك ؛وعدم اشتغالها بالمحسوسات ،فلم يفارق النوم اليقظة إال في ركود الحواس

عن ه خبار رسول اللإوالثاني ،مستيقظ غائص ال يسمع وال يبصر الشتغاله بنفسه

جاز لغيره إذ الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي

ل أن فال يستحي ،النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق األمور وشغل بإصالح الخلق

مى ال يس يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق وال يشتغل بإصالح الخلق وهذا

(3)(نبيا بل يسمى وليا

.221/ 3 :نقال عن: بحار األنوار (1)

(3123رواه الترمذي ) (2)

(22/ 3إحياء علوم الدين ) (3)

113

ى هذا ذكر الغزالي إمكانية االطالع على كال العالمين الظاهر والباطن، وبناء عل

فمن آمن باألنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه ال محالة أن يقر بأن القلب له فقال: )

وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب ،باب إلى خارج وهو الحواس :بابان

فإذا أقربهما جميعا لم يمكنه أن يحصر العلوم في ،اإللهام والنفث في الروع والوحي

بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه ،التعلم ومباشرة األسباب المألوفة

(1) (على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت

ابر بن عبد الله قال: جولعل ما ذكره كل هؤالء يفسر بدقة ما ورد في الحديث عن

أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين )فقال: ،فارتفعت ريح منتنة كنا مع النبي )

(2)(يغتابون المؤمنين

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على تجليات مصير الموتى، بحسب

ما دلت عليه النصوص المقدسة، والتي ذكرت أن تلك التجليات تختلف بحسب

ختالف درجات العاملين، وهي درجات ال نهاية لها، لكن القرآن الكريم قسمها إلى ثالثة ا

أقسام كبرى: المقربين، وأهل اليمين، وأهل الشمال.

وسنوضح بعض ما ورد عنها في العناوين التالية:

ـ البرزخ.. وتجليات مصير المقربين: 1

وأسعدها التجلي المرتبط يذكر القرآن الكريم أن أفضل التجليات وأعظمها

بمصير المقربين، ذلك ألنهم كانوا أكثر الخلق رغبة في الله وفيما عنده، ولهذا بمجرد أن

تزاح عن أعينهم غمامة الحجاب تبرز لهم الجنان العظيمة التي كانت مخفية عنهم، حيث

(22/ 3المرجع السابق، ) (1)

"مساوئ األخالق"(، والخرائطي في 332) "األدب المفرد"البخاري في 14344ح) 23/13مسند أحمد (2)

(141)

113

يشمون روائحها العطرة، وهم ممتلئون بالبشارة.

بين )﴿وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ا إن كان من المقر ( فروح وريحان 44فأم

، أي أنهم في تلك اللحظة التي تفصلهم عن الحياة [41، 44]الواقعة: ﴾وجنت نعيم

الدنيا، يشمون الروح والريحان، ويرون الجنان..

نيا بكل نشاط.. وكيف ال يكون ذلك كذلك، فلذلك ال عجب أن يخرجوا من الد

وأنفسهم قد صارت مليئة بالطمأنينة والراحة والسعادة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في

تها النفس المطمئنة )﴿خطاب هذا النوع من النفوس الممتلئة بسكينة اإليمان: ( 23ياأي

﴾(30( وادخلي جنتي )21( فادخلي في عبادي )24يةا )ارجعي إلى ربك راضيةا مرض

[30 - 23]الفجر:

إشارة إلى صفة أخرى من صفات مطمئنةوفي وصفه تعالى للنفس بكونها

ل اإلطمئنان الحاصالمقربين، وربما تكون السبب في جعل الموت يسيرا عليهم، وهو

ذين ﴿: كما قال تعالىمن اإليمان، طمئن ت اللهأال بذكر اللهآمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر ال

[ 24]الرعد: ﴾القلوب

ويعود يقول ناصر مكارم الشيرازي مبينا مدى أسباب هذه الصفة وأهميتها: )

اطمئنان النفس، إلطمئنانها بالوعود اإللهية من جهة، وإلطمئنانها لما اختارت من

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت، ومطمئنة عند أهوال حوادث .طريق.

(1)(يوم القيامة الرهيبة أيضاا

وأشار إلى النزع اليسير المرتبط بهم مقارنة بالنزع المرتبط بأهل الشمال، فقال:

ا )﴿ ابحات 2( والناشطات نشطاا )1والنازعات غرقا ا )( والس ا 3سبحا ابقات سبقا ( فالس

(114/ 20تفسير األمثل ) (1)

114

[4 - 1]النازعات: ﴾(4)

ابن مسعود وابن عباسفمن األقوال الواردة في تفسير اآليات الكريمة ما روي عن

المالئكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من ) :[النازعات غرقاوغيرهما أن المراد من ]

أخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من ت

(1)(نشاط

هي المالئكة تنزع [والنازعات غرقاا وروي عن اإلمام علي قوله في تفسيرها: )]

تنشط أرواح الكفار، ما بين األظفار هي المالئكة[ الناشطات نشطاا ]الكفار،و أرواح

ابحات سبحاا ]والجلد حتى تخرجها،و كة تسبح بأرواح المؤمنين السماء المالئ[الس

ابقات سبقاا ]واألرض، لمالئكة تسبق بعضها بعضاا بأرواح المؤمنين إلى الله ا هي[ فالس

(2)(تعالى

وهكذا ورد في القرآن الكريم وصف معاملة المالئكة لهم، وهم في تلك الحالة

اهم ﴿بين الحياة والموت، قال تعالى: ذين تتوف م المالئكة طيبين يقولون سالم عليك ال

[32]النحل: ﴾ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون

وقد وصف هؤالء المقربون في اآلية الكريمة بكونهم طيبين، أي أنه ال يوجد فيهم

ازي سر ذلك شيء من الخبث الذي قد يكون موجودا في أهل اليمين، وقد ذكر الفخر الر

السالم الذي حظي به هؤالء الطيبون من المالئكة في ذلك الموقف الحرج، فقال:

وقوله: طيبين كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك ألنه يدخل فيه إتيانهم بكل )

ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين باألخالق

ألخالق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العالئق الجسمانية الفاضلة مبرئين عن ا

(312/ 4تفسير ابن كثير ت سالمة ) (1)

.4343ح 242: 2كنز العمال (2)

111

متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض األرواح وأنها لم

ال يتألم تقبض إال مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله

(1)(بالموت

ذين وسيق ﴿في سبب أهلية أهل الجنة للجنة: ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى ال

ا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سالم هم إلى الجنة زمرا قوا رب ليكم ع ات

[33]الزمر: ﴾طبتم فادخلوها خالدين

ام لهؤالء المقربين إما بعدم ارتكابهم المعاصي مطلقا، أو وهذا يعني الصفاء الت

بتوبتهم منها توبة نصوحا بحيث أهلتهم لذلك المقام الرفيع.

ذين أنعم اللهومن يطع ﴿ولعل قوله تعالى: سول فأولئك مع ال من عليهم اللهوالر

يقين والش د االنبيين والص الحين وحسن أولئك رفيقا والصيشير إلى [31]النساء: ﴾هداء

ر ﴿هذا الصنف، والذي اعتبر سراطه هو السراط المستقيم، كما قال تعالى: اط اهدنا الص

ذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وال 3المستقيم ) ين ( صراط ال ال ﴾الض

[3، 3]الفاتحة:

أال ﴿وقد ذكر القرآن الكريم العالقة الطيبة بين هذا الصنف والمالئكة، قال تعالى:

ذين آمنوا وكانوا يتقون )32ال خوف عليهم وال هم يحزنون ) اللهإن أولياء ( لهم 33( ال

نيا وفي اآلخرة ال تبديل لكلمات ﴾ذلك هو الفوز العظيم اللهالبشرى في الحياة الد

[34 - 32]يونس:

وم بالتبشير والتثبيت المالئكة عليهم السالم، وربط هذه فقد روي أن الذي يق

البشارات بهم يدل على تلك الصحبة الطيبة التي كانت بين المؤمنين وبينهم، فقد كانوا

(202/ 20تفسير الرازي ) (1)

120

نعم الرفاق واألصدقاء، ولذلك كانوا أولياءهم في الحياة الدنيا وفي اآلخرة، بل في كل

المحال.

مرحبا بمالئكة الله، اكتبوا:)ا أصبح قال: إذوقد روي عن بعض الصالحين أنه كان

خر (، وكان آبسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله والحمد لله وال إله إال الله والله أكبر

كتي يا مالئ)يأخذ إفطاره، ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم، ثم يقول:

(طالت صحبتي لكما فإن كان لكما عندالله شفاعة فاشفعا لي

نحن كنا أولياءكم؛ أي: قرناءكم )تقول المالئكة للمؤمنين عند االحتضار: ولهذا

في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في اآلخرة،

نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور،

(يم، ونوصلكم إلى جنات النعيمونجاوز بكم الصراط المستق

وكل هذه النصوص المقدسة تبين أن الموت ـ بالنسبة لهذا الصنف ـ ليس سوى

لحظة من لحظات السعادة، بل من أجمل لحظاتها، ذلك أنهم في تلك اللحظة تزاح عنهم

كل الهموم واآلالم واألحزان، ولذلك ال يشعرون أبدا بأي ألم لمفارقتهم للحياة الدنيا،

كيف يشعر باأللم من وصل إلى مبتغاه الذي ظل طول عمره يسعى إليه؟و

هو )فقال: (صف لنا الموت؟): أنه سئللصادق وقد روي في هذا عن اإلمام ا

للمؤمنين كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه، فينقطع التعب واأللم كله عنه. وللكافر كلسع

قوماا يقولون هو أشد من نشر بالمناشير، فإن ): له قيل(، فاألفاعي، وكلدغ العقارب وأشد

(، فقال: وقرض بالمقاريض، ورضخ بالحجارة، وتدوير قطب األرحية في األحداق؟

كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، أال ترون منهم من يعاين تلك الشدائد، )

ما ف)قيل: (،إال عذاب اآلخرة، فإنه أشد من عذاب الدنيا ،فذلك الذي هو أشد من هذا

لنا نرى كافراا يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يتحدث ويضحك ويتكلم، وفي المؤمنين من

121

يكون أيضاا كذلك. وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه

ما كان من راحة هناك للمؤمنين فهو عاجل ثوابه. وما كان من شدة (، فقال: )الشدائد؟

انع دونه. م ى اآلخرة نقياا نظيفاا مستحقاا لثواب الله، ليس لهفهو تمحيصه من ذنوبه، ليرد إل

وما كان من سهولة هناك على الكافر، فليوفى أجر حسناته في الدنيا، ليرد اآلخرة وليس

وما كان من شدة على الكافر هناك، فهو ابتداء عقاب الله ، له إال ما يوجب عليه العذاب

(1)(ل ال يجورعند نفاد حسناته. ذلكم بأن الله عد

بعدما عاين مدى صدقهم وقال اإلمام الحسين ألصحابه يوم عاشوراء

فما الموت إال قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى ،صبراا بني الكراموتضحياتهم: )

وما هو ؟فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ،الجنان الواسع والنعيم الدائمة

: ان أبي حدثني عن رسول الله ،ألعدائكم إال كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب

وجسر هؤالء ،والموت جسر هؤالء إلى جنانهم ،ن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)إ

(2)ما كذبت وال كذبت( ،إلى جحيمهم

ولهذا ال نرى صحة تلك النصوص التي وردت في بعض كتب الحديث

في نفس الوقت (3)الشديدة مع الموت اعظ، والتي تصور معاناة رسول الله والمو

.234/ 1عيون أخبار الرضا: (1)

.124/ 3بحار األنوار: (2)

كانت بين يديه ركوة، أو علبة فيها ماء، فجعل من األمثلة على تلك الرويات ما روي عن عائشة: )أن رسول الله (3)

يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ال إله إال الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق

(3210األعلى، حتى قبض ومالت يده( )رواه البخاري )

( قنتي وذاقنتي، فال أكره شدة الموت ألحد أبداا بعد النبي وإنه لبين حا ومنها ما روي عنها أنها قالت: )مات النبي

(4443)رواه البخاري )

(131( )رواه الترمذي )وعنها قالت: )ما أغبط أحداا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله

122

الذي تصور فيه تيسير موت الصالحين، وفرحهم به.

وقد علق الفيض الكاشاني على ما ورد من ذلك في ]إحياء علوم الدين[ فقال

متعجبا في الباب الخاص بـ ]كالم المحتضرين من الصالحين[: )وقد ذكر أبو حامد في

هذا الباب أقاويل الصحابة والتابعين وطائفة من الصوفية عند موتهم وبكاء بعضهم حينئذ

واالستبشار والسرور عند موته مع أنه ذكر وضحك بعضهم ونسب إلى بعضهم الطرب

أنه اشتد في النزع كربه، وظهر أنينه، وترادف قلقه، وارتفع في باب وفاة رسول الله

حنينه، وتغير لونه، وعرق جبينه، واضطربت في االنقباض واالنبساط شماله ويمينه، حتى

يمهله ملك الموت ولم ، بكى لمصرعه من حضره، وانتحب لشدة حاله من شاهد منظره

ساعة، وذكر في الحكايات السابقة أن ملك الموت أمهل رجال حتى توضأ وصلى

ركعتين، وذكر في شأن الخليل والكليم في باب سكرات الموت ما سمعت، وهذا من

أعجب العجائب، ولنطو ما ذكره في هذا الباب طيا فإن بعضه كلمات ال طائل تحتها

(1)(أكثرها باإلعجابينادي ، وبعضه رعونات ودعاوي

)ما يجد الشهيد من مس : ويدل لهذا ما ورد في تيسير موت الشهداء، كما قال

(2)القتل، إال كما يجد أحدكم مس القرصة(

يعني أنه تعالى يهون عليه الموت ويكفيه سكراته ) :بقولهالمناوي وقد علق عليه

يب طيبة بها نفسه ؛ كقول خبوكربه، بل رب شهيد يتلذذ ببذل نفسه في سبيل الله

(3)(علي أي شق كان لله مصرعي. ولست أبالي حين أقتل مسلما. األنصاري حين قتل:

.242، ص: 4المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء، ج (1)

(، 4322(، وابن حبان )2402(، وابن ماجة )3131(، والنسائي )1334(، والترمذي )3123رواه أحمد ) (2)

(14222والبيهقي )

(142/ 4فيض القدير ) (3)

123

فإذا كان هذا كرامة من الله تعالى للشهداء، فإن أولى الناس بها سيدهم وموالهم

.. ومن بذل حياته كلها في سبيل الله، وهو رسول الله

، ما عدا مرضه وألمه لمرضه، من آثار الفئة اته لذلك نرى أن كل ما يروى في وف

في كل شيء، حتى في كيفية وفاته. الباغية التي حاولت أن تسيء إليه

الذي عاش حياته كلها مشتاقا إلى الله، كان أسعد الناس وإال فإن رسول الله

بتلك اللحظات التي تقربه لذلك اللقاء..

، فقال: الروايات الموضوعة حول وفاته وقد أشار ابن كثير إلى ذلك الكم من

ا كثيرةا فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن ) وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارا

اص أكثرها صفحا لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، وال سيما ما يورده كثير من القص

(1)(المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع ال محالة

إلى جانب تلك النصوص القرآنية ورد في الروايات الكثير من األحاديث التي

تفصل بعض تلك المجمالت، والتي ال يمكن قبولها بكل ما فيها، ألن بعضها قد يكون

من تصرف الرواة، وبعضها من الدخيل الموضوع.

)الميت تحضره المالئكة، فإذا كان قال: ومن تلك األحاديث ما روي أنه

جل صالحاا، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي الر

حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فال يزال يقال لها ذلك حتى تخرج،

ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقول: فالن، فيقال: مرحباا

ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب،

غير غضبان، فال يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى

( 2/223) "البداية والنهاية (1)

124

وء: قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، فإذا كان الرجل الس

فال يزال يقال لها ذلك اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج،

حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فالن، فيقال:

ال مرحباا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها ال تفتح لك

(1)أبواب السماء، فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر(

ديث تلك اللغة التجسيمية التي نجدها عند كعب احهذه األحيث نالحظ في

ارك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تباألحبار وتالميذه من الصحابة، وهي قوله: )

(، مع أنهم تناقض قولهم في كون الله فوق السموات، وأنه فوق العرش، وأن وتعالى

السموات واألرض بالنسبة للعرش كحلقة في فالة.

وهذا ال يعني طرح الحديث جميعا، فقد يكون صحيحا، ويكون الموضوع فيه هو

اة الحديث، لم يكونوا يكتفون برواية الحديث، ورذلك النص فقط، ذلك أن الكثير من

وإنما كانوا يضيفون إليه شروحهم وتفسيراتهم باإلضافة إلى روايتهم له بالمعنى.

: )أفضل أنه قال رسول الله رة عن ومن األمثلة على هذا ما روي عن أبي هري

الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما

أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول االبن: أطعمني،

(2)إلى من تدعني(

ذا يا أبا هريرة، سمعت هوقد روي أن أباهريرة سئل بعد روايته للحديث، فقيل له:

(3) ال، هذا من كيس أبي هريرة(: )؟ قالمن رسول الله

( وقال: إسناده صحيح203/ 2(، والطبري في )مسند عمر( )4324( )334/ 2(، وأحمد )3423رواه ابن ماجه ) (1)

..1333وأبو داود: 2322(، والبخاري: 10132) 433/ 2( وفي 3423) 222/ 2رواه أحمد (2)

التخريج السابق. (3)

122

بناء على هذا، فلو أن أولئك الذين سمعوا ذلك الحديث لم يسألوه، لما تبين لنا و

وتفسيره الخاص به، وهو وإن ، وما كان من فهمه اه عن رسول الله ورالفرق بين ما

احترمناه إال أنه ال يمكن اعتباره أبدا نصا مقدسا.

وبناء على هذا يمكن التعامل مع كل األحاديث الواردة في هذا الباب، والتي

اختلط فيها التفسير البشري، أو الرؤية البشرية مع الحقائق المقدسة.

ال: كنا في جنازة في بقيع البراء بن عازب قولعل من أكثرها وضوحا ما رواه

، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: الغرقد، فأتانا النبي

إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من ))أعوذ بالله من عذاب القبر، ثالث مرات، ثم قال:

س، معهم كفن اآلخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه المالئكة، كأن على وجوههم الشم

من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت

حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله

ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم

عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، يدعوها في يده طرفة

ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه األرض، قال: فيصعدون بها، فال

يمرون بها، يعني على مأل من المالئكة، إال قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فالن

ماء، يا، حتى ينتهوا بها إلى السابن فالن، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدن

فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي

بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه

تارة أخرى، قال: فتعاد إلى األرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم

له: من ربك؟ فيقول ربي الله، روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقوالن

فيقوالن له: ما دينك؟ فيقول: ديني اإلسالم، فيقوالن له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟

123

فيقول: هو رسول الله، فيقوالن له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به

، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباا وصدقت

إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل

حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت

جهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، توعد، فيقول له: من أنت؟ فو

(1)(فيقول: يا رب، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي

قال: )إذا حضر المؤمن أتته مالئكة عن أبي هريرة أن النبي ومثل ذلك ما روي

الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياا عنك، إلى روح الله وريحان،

ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاا، حتى يأتوا

ه أرواح ون ببه باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من األرض!، فيأت

المؤمنين، فلهم أشد فرحاا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فالن؟ ماذا

فعل فالن؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى

اخطة رجي سوإن الكافر إذا احتضر أتته مالئكة العذاب بمسح، فيقولون: اخ، أمه الهاوية

مسخوطاا عليك إلى عذاب الله ـ عز وجل ـ؛ فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب

(2)األرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار(

فهذان الحديثان يذكران تكفين نفس اإلنسان أو روحه عند قبضها، وهو يعني أنها

النصوص التي تبين أن الموت ال عالقة له بالنفس تموت هي األخرى، وهو يتنافى مع

وال بالروح، وإنما عالقته ال تتعدى الجسد، أو انفصال ارتباط الروح بالجسد.

وربما يكون المقصود بذلك هو توفير الجسد الجديد الذي تنزل فيه نفس اإلنسان

(14223( )243/ 4(، وأحمد )4323رواه أبو داود ) (1)

( وقال: سنده صحيح.204/ 1(، والحاكم )3014( )244/ 3(، وابن حبان )4/ 4رواه النسائي ) (2)

123

ي.بعد وفاته.. والذي يتناسب مع طبيعتها، كما سنذكر ذلك في المبحث الثان

﴿إليه قوله تعالى في وصف مصير الشهداء، وكونهم أحياء حياة حقيقية: ويشير

ذين قتلوا في سبيل هم يرزقون ) اللهوال تحسبن ال ا بل أحياء عند رب ( فرحين 131أمواتا

ذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أال خوف عليهم اللهبما آتاهم من فضله ويستبشرون بال

[130، 131]آل عمران: ﴾وال هم يحزنون

ابن عباس قال: بينما رسول الله ويشير إليه من الحديث ما ورد في الرواية عن

نه إذ رد السالم، ثم قال: )يا أسماء هذا جعفر بن أبي جالس وأسماء بنت عميس قريبة م

طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السالم، وقد أخبرني أنه

بثالث أو أربع، فقال: لقيت لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله

ة، ثم رمية وطعنة وضرب المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثالثا وسبعين بين

أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من

يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها

ما شئت(، فقالت أسماء: )هينئاا لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن ال يصدق

س فاصعد المنبر أخبر به(، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: )يا أيها الناس النا

إن جعفرا مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي، ثم أخبرهم

كيف كان أمره حيث لقي المشركين(، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله

(1)سمي الطيار في الجنة(أن جعفر لقيهم، فلذلك

فهذا الحديث يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب عوض مباشرة جسدا جديدا متناسبا

مع نفسه المطمئنة الممتلئة باإليمان، وأنه في تلك اللحظات مباشرة، صار يطير مع

(232/ 1كما في مجمع الزوائد )-( ورواه الطبراني في األوسط مختصراا 212و 210 - 201/ 3رواه الحاكم ) (1)

124

المالئكة، ويتعامل مع كال العالمين: عالم الدنيا، وعالم اآلخرة، أو عالم الملك وعالم

ملكوت.ال

ونها ، وكأرواح الشهداءوهذا الحديث أيضا يتنافى مع تلك األحاديث التي تصور

في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في توضع

مر ثبفي أجواف طير يعلق ، والتي توضع المؤمنينغيرهم من أرواح بخالف العرض،

. (1)الجنة وال ينتقل في أرجائها

فهذه األحاديث ال تختلف عن تلك األحاديث التي تصور المالئكة بصورة

العباس بن عبد المطلب قال: كنا بالبطحاء في عصابة فيهم الحيوانات، مثلما يروون عن

، فمرت سحابة، فقال: تدرون ما هذه، قالوا: سحاب، قال: والمزن، قالوا: رسول الله

رون كم بعد ما بين السماء واألراضين، قالوا: ال، قال: والمزن، قال: والعنان، ثم قال: تد

إما واحدة أو اثنتين أو ثالث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات،

ثم فوق السابعة بحر بين أعاله وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله

ا بين سماء إلى سماء، ثم فوق ثمانية أمالك أوعال، ما بين أظالفهم إلى ركبهم مثل م

(2)ظهورهم العرش بين أعاله وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك(

من األحاديث الواردة في ذلك ما روي عن مسروق قال: سألنا عبدالله )هو ابن مسعود( عن هذه اآلية: ﴿ وال (1)

ه أمو ذين قتلوا في سبيل الل هم يرزقون ﴾ ]آل عمران: تحسبن ال ا بل أحياء عند رب [، قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: 131اتا

)أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع

، فقال: هل تشتهو ن شيئاا؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم إليهم ربهم اطالعةا

ثالث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك

([1443مرةا أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا(]مسلم )

ا؟ فقال رسول الله ما روي عن أم هانئ أنها سألت رسول الله ومنها : )تكون : أنتزاور إذا متنا، ويرى بعضنا بعضا

ا تعلق بالشجر، حتى إذا كانوا يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها(]رواه أحمد ) ([23343النسم طيرا

...444شر المريسي: ص (، والدارمي في الرد على ب13/ 2رواه وأبو داود في سننه، ) (2)

121

فكل هذه األحاديث من األوهام التي وضعتها الفئة الباغية لتصرف عن المعاني

ن أكثر عالقرآنية، وتمأل القلوب نفرة منها.. ولذلك كان فيما ورد في القرآن الكريم، غنى

تلك التفاصيل التي يوردونها.

فالقرآن الكريم يكتفي بذكر النعيم العظيم الذي يجده هؤالء المقربون بمختلف

أصنافهم، ويذكر فرحهم الشديد به، ويذكر حياتهم الحقيقية، ويكتفي بذلك، ألن

التفاصيل المرتبطة بذلك العالم ال يمكن لمن في هذا العالم أن يدركها.

عن أرواح المؤمنين، فقال: وقد أشار اإلمام الصادق إلى هذا المعنى عندما سئل

في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربنا أقم لنا )

،في النار يعذبون)عن أرواح المشركين، فقال: (، وسئل الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا

، وهذا يدل على أن لهم (1)ساعة وال تنجز لنا ما وعدتنا(ويقولون ربنا ال تقم لنا ال

أجسادهم الخاصة بهم، ولم يوضعوا في حواصل الطيور وغيرها.

جعلت فداك يروون بل قد روي ما يدل على إنكاره لتلك الروايات، فقد قيل له: )

ال، المؤمن أكرم على)، فقال: (أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش

فإذا )وفي رواية: ، (2)الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، لكن في أبدان كأبدانهم(

قبضه الله عزوجل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم

(3)عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا(

ن: ياليمـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب 2

ا إن كا﴿وقد ذكر القرآن الكريم التجليات المرتبطة بمصير هؤالء، فقال: ن من وأم

.123و 122، الحديث 231/ 3بحار األنوار: (1)

.234/ 3 :بحار األنوار (2)

.230/ 3 :بحار األنوار (3)

130

[11، 10]الواقعة: ﴾(11( فسالم لك من أصحاب اليمين )10أصحاب اليمين )

رتبة بوهي تشير إلى الرتبة التالية لرتبة الفائزين، والتي يعبر عنها بعض العلماء

الناجين، ولهذا وصف القرآن الكريم جزاءها بكونه سالما، بخالف جزاء المقربين الذي

وصفه بكونه روحا وريحانا وجنة نعيم.

ان، : )المؤمن مؤمن، وفرق بينهم وبين الصادقين، فقالاإلمام الصادقوقد وصفهم

ق بعهد الله ووفى بشرطه، وذلك قول الله عز وجل: من ال مؤمنين رجال فمؤمن صد

عليه، فذلك الذي التصيبه أهوال الدنيا وال أهوال اآلخرة، وذلك اللهصدقوا ما عاهدوا

ممن يشفع وال يشفع له.ومؤمن كخامة الزرع،تعوج أحياناا وتقوم أحياناا، فذلك ممن

(1)(تصيبه أهوال الدنيا وأهوال اآلخرة وذلك ممن يشفع له وال يشفع

ومؤمن زلت به قدم، فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، ): وفي رواية

وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا واآلخرة، ويشفع له وهو على خير(

ويدخل في هؤالء من يسميهم القرآن الكريم ]المقتصدين[، والذين وضعهم الله

ذين ا ثم ﴿تعالى ضمن أصناف المؤمنين المتبعين لورثة الكتاب: صطفينا أورثنا الكتاب ال

هو ذلك اللهمن عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن

[32]فاطر: ﴾الفضل الكبير

م وآخرون اعترفوا بذنوبه ﴿: ويدخل فيهم أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله

ا وآخر سيئاا عسى وبة: ]الت ﴾غفور رحيم اللهأن يتوب عليهم إن اللهخلطوا عمالا صالحا

102]

وما ورد في النصوص المقدسة يشير إلى أن نعيم البرزخ بصورته الكاملة الجميلة

.2/244الكافي: (1)

131

أما أصحاب اليمين، فنعيمهم أقل بكثير، بل قد يختلط نعيمهم ال يناله إال المقربون،

ببعض العذاب الناتج عن تقصيرهم في الطاعات أو قيامهم ببعض المعاصي، كما سنرى

ذلك في المبحث الثاني.

ولهذا، فإن هؤالء، وإن نعموا بالسالم في هذا المحل، إال أنهم لم ينعموا بالفوز

ربين الطيبين، ولهذا يتحول البرزخ لهم إلى مدرسة تستمر الحقيقي الذي جعله الله للمق

فيها تربيتهم وإصالحهم حتى يتخلصوا من تلك الرعونات التي كانت تختلط مع أعمالهم

الصالحة.

وتبدأ تلك الدروس التربوية والتصحيحية من لحظات الموت نفسها، فشعور

هم أينا شوقهم له، ومسارعتهؤالء بالموت يختلف عن شعور السابقين المقربين الذين ر

إليه، وهوانه عليهم، وسبب ذلك هو عدم طمأنينتهم الكاملة، بسبب المعاصي والتقصير

الذي وقعوا فيه.

عبد يقارف أمراا نهيناه عنه المؤمنينما من )أنه قال: اإلمام علي روي عن وقد

ص بها ذنوبه، إما في مال، وإ سه، حتى ما في ولد، وإما في نففيموت حتى يبتلى ببلية تمح

د به عليه عند يلقى الله عز وجل وما له ذنب، وإنه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيشد

(1)(موته

دخل على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو ال وروي أن اإلمام الكاظم

ت وكيف حال يجيب داعيا، فقالوا له: يا ابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف المو

فيكون آخر ألم ،الموت هو المصفاة تصفي المؤمنين من ذنوبهم)صاحبنا؟ فقال:

يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم، ويصفي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذة أو

.332ص 2الخصال: ج (1)

132

راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم، وأما صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب

نخال وصفي من اآلثام تصفية وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ وصلح

(1)رنا دار األبد(لمعاشرتنا أهل البيت في دا

شداد بن أوس قال: ومن الروايات الواردة في شدة تلك السكرات ما حدث به

)الموت أفظع هول في الدنيا واآلخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير،

وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت،

(2)ش، وال لذوا بنوم(ما انتفعوا بعي

عن عوانة بن الحكم قال: )كان عمرو بن العاص يقول: عجباا لمن نزل به وروي

الموت وعقله معه كيف ال يصفه، فلما نزل به قال له ابنه عبد الله: يا أبت إنك كنت تقول:

الموتيا بني )عجباا لمن نزل به الموت وعقله معه كيف ال يصفه؟ فصف لنا الموت قال:

أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاا، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى،

(3)وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة(

واعلم أن شدة وقد حاول الغزالي أن يقرب صورة ذلك االحتضار المؤلم، فقال: )

ا، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما األلم في سكرات الموت ال يعرفها بالحقيقة إال من ذاقه

بالقياس إلى اآلالم التي أدركها، وإما باالستدالل بأحوال الناس في النزع على شدة ما

فأما القياس: الذي يشهد له فهو أن كل عضو ال روح فيه فال يحس باأللم، فإذا . هم فيه.

أو حريق سرى كان فيه الروح فالمدرك لأللم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح

األثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر

..3ح 241معاني األخبار: (1)

(31ابن أبي الدنيا، )الموت( )ص: (2)

(230/ 4رواه ابن سعد في )الطبقات الكبرى( ) (3)

133

األجزاء، فال يصيب الروح إال بعض األلم؛ فإن كان من اآلالم ما يباشر نفس الروح وال

يالقي غيره فما أعظم ذلك األلم وما أشده، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح

ع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إال فاستغرق جمي

.. فألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه موقد حل به األل

المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من األعصاب، وجزء من األجزاء،

العرق إلى القدم.. فال تسل عن ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من

بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقاا واحداا لكان ألمه عظيماا،

فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، ال من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم

ويموت كل عضو من أعضائه تدريجياا، فتبرد أوالا قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عض

سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن

(1)الدنيا وأهلها(

ولهذا قد يشعر هؤالء بسكرات الموت الشديدة، ويتألمون لها، وربما يتذكرون

حينها ما اقترفوا من المعاصي، ويندمون عليها، وبذلك يتخلصون من الكثير منها.

ذلك عاينوا من أنواع اآلالم في فترة البرزخ ما يساهم في تطييبهم فإن لم يكف

هم.. فإن لم يكف ذلك، أو كانت معاصيهم من الذنوب المتعدية، مروا على وتطهير

مواقف الحساب، وهناك يتعرضون للمزيد من عمليات التطهير واإلصالح التي تؤهلهم

لدخول الجنة المناسبة لمرتبتهم.

الروايات ما يدل على أن مصير بعض هؤالء يبقى مجهوال لغرض وقد ورد في

على )، فقال: (: )صف لنا الموتالتهذيب، ومنها ما روي عن اإلمام الصادق أنه سئل

(431/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

134

الخبير سقطتم، هو أحد أمور ثالثة يرد عليه: إما بشارة بنعيم األبد، وإما بشارة بعذاب

ن أي الفرق هو؟ فأما ولينا والمطيع األبد، وإما تخويف وتهويل وأمر مبهم ال يدري م

ألمرنا فهو المبشربنعيم األبد، وأما عدونا والمخالف ألمرنا فهو المبشر بعذاب األبد،

وأما المبهم أمره الذي ال يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه، اليدري ما يؤول

ه من النار أعدائنا، ولكن يخرجإليه حاله، يأتيه الخبرمبهماا مخوفاا ثم لن يسويه الله تعالى ب

بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا وال تتكلوا والتستصغروا عقوبة الله، فإن من المسرفين من ال

(1)تلحقه شفاعتنا إال بعد عذاب الله بثالث مائة ألف سنة(

ولهذا، فإن النصوص المقدسة تبين أن العدل اإللهي يأبى أن يسوي بين جميع

تفقوا في اإليمان إال أنهم يختلفون في درجته، وفي مسلتزماتها من المؤمنين، فهم وإن ا

عدون ال يستوي القا﴿العمل الصالح، وقد قال الله تعالى مفرقا بين المؤمنين في ذلك:

رر والمجاهدون في سبيل ل بأموالهم وأنفس اللهمن المؤمنين غير أولي الض للهاهم فض

ل اللهالمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةا وكال وعد هاللالحسنى وفض

ا ا عظيما [12]النساء: ﴾المجاهدين على القاعدين أجرا

ع كل درجة، بحيث وهذا االختالف في الدرجات يستدعي اختالف التعامل م

يكون لكل إنسان جزاؤه الخاص به، والذي يختلف فيه عن غيره، وإن كان يصنف ضمن

صنف معين، فليس كل المقربين بدرجة واحدة، وليس كل أهل اليمين بدرجة واحدة.

ـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب الشمال: 3

الذين حادوا اهتم القرآن الكريم بعرض مشاهد كثيرة ألصحاب الشمال، وهم

الله، إما بعدم اإليمان مطلقا، أو بعدم الخضوع لما يتطلبه اإليمان من تكاليف، مع

.21، لصدوقااعتقادات (1)

132

اإلصرار على ذلك.

وهي كلها تدخل ضمن دائرة العدل اإللهي، ذلك أن إقامة الحجة على العباد،

وبيان المصير الذين ينتظرهم عندما يخالفون األوامر من الضروريات التي تقتضيها

العدالة، ولذلك نرى كل القوانين ال تكتفي بذكر الجرائم، وإنما تضع بجانبها العقوبات

المرتبطة بها.

وهذا يدخل أيضا ضمن دائرة اإلنذار التي هي من وظائف الرسل الكبرى، فكلهم

كانوا مبشرين ومنذرين، ولهذا عندما يعترض المجرمون يوم القيامة على العقوبات التي

ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ﴿جيبهم المالئكة الموكلة بهم: تسلط عليهم ت

ت كلمة العذاب على الكافرين كم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حق رب

[32، 31]الزمر: ﴾خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( قيل ادخلوا أبواب جهنم 31)

نس ﴿بل إن الله نفسه يتولى سؤال عباده عن ذلك، ويقول لهم: يامعشر الجن واإل

ون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم ى هذا قالوا شهدنا عل ألم يأتكم رسل منكم يقص

هم كانوا كافرين نيا وشهدوا على أنفسهم أن تهم الحياة الد [130]األنعام: ﴾أنفسنا وغر

ولهذا، فإن الذين يزهدون في الحديث عن أمثال هذه المسائل، أو يعتبرونها

م، أو يمألون الناس بالرجاء الكاذب، يخالفون تشويها لمفهوم األلوهية في اإلسال

المقاصد التي وردت النصوص الكثيرة بها، ال نصوص السنة وحدها، بل نصوص القرآن

الكريم أيضا.

حيث نجد فيه المشاهد الكثيرة التي تصور أنواع اآلالم التي يمر بها المجرمون في

برزخ، وانتهاء بدار القرار، ومن تلكالمراحل المختلفة التي تمر بها حياتهم ابتداء من ال

المشاهد ما ورد من نصوص حول بيان مصيرهم عند الموت، ومنها ما ورد في آخر سورة

بين ﴿الواقعة بعد ذكر المقربين وأصحاب اليمين، قال تعالى: ا إن كان من المكذ وأم

133

ين ) ال [14 - 12]الواقعة: ﴾ية جحيم ( وتصل 13( فنزل من حميم )12الض

وهي تدل ـ كما ذكرنا سابقا ـ على أن هذا الصنف كان يعيش في هذه األجواء

بروحه ونفسه، وباطن دنياه، ولذلك بمجرد أن يرفع عنه الحجاب في تلك اللحظات

الخطيرة، يكتشف الحقيقة، ويعرف أنه لم يكن سوى مثل ذلك المخدر الذي يعيش كل

ذاب، وإن كان يتوهم أنه يعيش بسالم وطمأنينة. ألوان الع

وبناء على هذا، فإن هذا الصنف يعاين العذاب ابتداء من تلك اللحظات، وهو

جزاء موافق لعمله، ألنه ال يبدو له حينها إال الصور الحقيقية ألعماله التي قدمها.

ظاتوقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على أن هذا الصنف، وفي تلك اللح

ا جاء حتى إذ ﴿العصيبة، يطلب العودة للحياة لتصحيح ما أخطأ فيه، كما قال تعالى:

ها كلمة هو 11أحدهم الموت قال رب ارجعون ) ا فيما تركت كال إن ( لعلي أعمل صالحا

ذين ﴿وقال: [،100، 11]المؤمنون: ﴾وم يبعثون قائلها ومن ورائهم برزخ إلى ي ها ال ياأي

ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون اللهآمنوا ال تلهكم أموالكم وال أوالدكم عن ذكر

رتني إل 1) ى ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لوال أخ

الحين ) ق وأكن من الص د ر ( ولن يؤ 10أجل قريب فأص ا إذا جاء أجلها و اللهخ اللهنفسا

[11 - 1]المنافقون: ﴾( 11خبير بما تعملون )

وقد ذكر القرآن الكريم أن هذه الحسرة تظل في قلوبهم يرددونها كل حين، مع

ذين اب فيقول ال وأنذر الناس يوم يأتيهم العذ ﴿علمهم أنها لن تجديهم شيئا، قال تعالى:

سل أولم تكونوا أقسمتم من رنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الر نا أخ قبل ظلموا رب

ذين ظلموا أنفسهم وتبي 44ما لكم من زوال ) نا ن لكم كيف فعل ( وسكنتم في مساكن ال

[42، 44]إبراهيم: ﴾بهم وضربنا لكم األمثال

ومن المشاهد القرآنية التي صورت تلك المعاناة الشديدة التي يالقيها هذا الصنف

133

ذين كفروا المالئكة ﴿عند الموت، ما ورد في قوله تعالى: ضربون ي ولو ترى إذ يتوفى ال

مت أيديكم وأن 20وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ) ليس الله( ذلك بما قد

م للعبيد ) [21، 20]األنفال: ﴾(21بظال

هم قالوا للذين ك ﴿وعلل ذلك، وبين سببه في موضع آخر، فقال: ا ما رهوذلك بأن

ل تهم المالئكة 23يعلم إسرارهم ) اللهسنطيعكم في بعض األمر و اللهنز ( فكيف إذا توف

بعوا ما أسخط 23يضربون وجوههم وأدبارهم ) هم ات وكرهوا رضوانه الله( ذلك بأن

[24 - 23]محمد: ﴾أحبط أعمالهم ف

ولتقريب هذا، نذكر أن المالئكة عليهم السالم يمثلون الوالء المطلق لله تعالى،

ولذلك فإن كل تصرفاتهم مبنية على ذلك الوالء، فهم رحمة ولطف وأدب مع المؤمنين

.الصادقين.. وهم في نفس الوقت شدة وعذاب وقسوة على الظالمين الجاحدين

وهذا الوصف هو الذي دعا الله المؤمنين إلى تمثله، حتى يكونوا سلما لمن سالم،

د ﴿: وحربا لمن حارب، كما قال تعالى في وصف الفائزين بمعية رسول الله محم

ار رحماء بينهم اللهرسول اء على الكف ذين معه أشد [21]الفتح: ﴾وال

ن النزع المرتبط بهؤالء شديد جدا، وهو يشير إلى مدى تشبثهم بالدنيا، وهكذا، فإ

وحرصهم الشديد عليها، كما يشير إلى أنهم بعد معاينتهم لما ينتظرهم من أهوال يزداد

ولو ترى إذ ﴿خوفهم وحرصهم، ولهذا يحصل لهم ما وصفه الله تعالى في قوله:

ت والمالئكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون الظالمون في غمرات المو

( ولقد 13غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) اللهعذاب الهون بما كنتم تقولون على

لناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم جئتمونا فرادى كما خلقناكم أو ة وتركتم ما خو ل مر

ع بينكم وضل عنكم ما كنتم تز هم فيكم شركاء لقد تقط ذين زعمتم أن مون ع شفعاءكم ال

[14، 13]األنعام: ﴾( 14)

134

له تعالى على أولئك العتاة المجرمين المطالبين بأدلة حسية على ولهذا يرد ال

ذين ال يرجون لقاءنا لوال ﴿وجود المالئكة أو غيرهم من العالم الغيبي بقوله: وقال ال

نا لقد استكبروا في أنفسهم وعت ا )أنزل علينا المالئكة أو نرى رب ا كبيرا ( يوم يرون 21وا عتو

ا ) ا محجورا - 21]الفرقان: ﴾( 22المالئكة ال بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا

23]

ومنذ ذلك الحين تبدأ مشاهد العذاب الكثيرة تعرض على هؤالء، وتمارس معهم

وحاق بآل فرعون سوء العذاب ﴿الى عن آل فرعون: إلى أن تقوم القيامة، كما قال تع

اعة أدخلوا آل فرعون أشد 42) ا وعشيا ويوم تقوم الس ( النار يعرضون عليها غدو

[43، 42]غافر: ﴾العذاب

وع من العذاب ـ أي داللة وليس في اآليات الكريمة ـ كما يزعم المنكرون لهذا الن

على كون ذلك العذاب خاصا بهم، وكيف يستقيم ذلك مع العدالة اإللهية، والتي تضع

القوانين والسنن، وتطبقها على الجميع بحسب أعمالهم، ال بحسب أشخاصهم.

وقد ورد في األحاديث والروايات عرض الكثير من المشاهد المرتبطة بهذا

ابقا ـ منها ما حافظ الرواة على ألفاظه ومعانيه، ويمكن قبوله الصنف، وهي ـ كما ذكرنا س

قبوال مطلقا لموافقته لما ورد في القرآن الكريم، ومنها ما تصرفوا فيه، بالرواية بالمعنى،

أو إضافة بعض الشروحات واإليضاحات، ولهذا ال نستطيع الجزم بقبوله، وقد نجزم

برفضه.

إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال : )ومن تلك األحاديث قوله

من اآلخرة، نزل إليه من السماء مالئكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد

البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة،

سفود ا كما ينتزع الاخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعه

131

من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها

في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه األرض، فيصعدون

بها، فال يمرون بها على مأل من المالئكة إال قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فالن

ن، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، ابن فال

وال يدخلون ﴿: فيستفتح له، فال يفتح له، ثم قرأ رسول الله ماء ال تفتح لهم أبواب الس

[، فيقول الله عز وجل: اكتبوا 40 ]األعراف: ﴾الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط

اللهومن يشرك ب ﴿كتابه في سجين، في األرض السفلى، فتطرح روحه طرحاا، ثم قرأ:

يح في مكان سحيق ير أو تهوي به الر فتخطفه الطماء ما خر من الس [، 31]الحج: ﴾فكأن

يه ملكان فيجلسانه، فيقوالن له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، فتعاد روحه في جسده، ويأت

ال أدري، فيقوالن له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: هاه هاه، ال أدري، فينادي

مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباا إلى النار، فيأتيه من حرها

ف أضالعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختل

الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من

الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول رب ال تقم أنت، فوجهك الوجه

(1)الساعة(

ال يعني أن وهذا الحديث يصور مشهدا من المشاهد المرتبطة بهؤالء، وهو

الجميع يكون هذا حالهم، بدليل أن هناك من ال يدفن في المقابر، وهناك من يحترق، فال

يبقى منه شيء، وهناك من تأكله السباع.. ولهذا، فإن العبرة فيه بالمعنى العام، أو بكونه

يصور مشهدا من المشاهد، وليس كل المشاهد.

(14223( )243/ 4(، وأحمد )4323رواه أبو داود ) (1)

140

ه فاظ الواردة في الحديث، ثم يلغيوقد ذكرنا هذا، ألن البعض يتشبث ببعض األل

جميعا بسبب تلك اللفظة، وهذا غير صحيح.

ثانيا ـ البرزخ وتجليات حقيقة العمل:

بما أن البرزخ مدرسة من أهم المدارس التربوية التي يربي الله فيها عباده،

ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويخلصهم من رعونات نفوسهم وأهوائهم التي

عليهم، ولم يستطيعوا في الدنيا الفكاك منها، فإن تجليات حقيقة العمل، من أهم تسلطت

الدروس التي تقدم في هذه المرحلة.

ذلك أن المعاصي والشهوات والشبهات وكل أنواع الضالل تبرز بصورتها

الحقيقية التي كان يخفيها ذلك التزيين الذي زينت به، سواء من الشيطان، أو من النفس

رة بالسوء.األما

ولذلك عندما يكتشف اإلنسان الحقيقة، ويتألم لها ألما شديدا، يساهم ذلك

مساهمة كبيرة في تخليصه منها، إن كان مستعدا لذلك التخليص، وإال فإنه يحتاج إلى

دور تربوية أخرى، قد تكون جهنم من بينها.

ه، واالتباع نفس فاإلنسان بذلك بين أمرين: بين أن يسوى أموره في الدنيا، بإصالح

الصادق للرسل، وعدم محادة الله ورسوله.. وبين أن يترك ذلك لآلخرة، والتي يرى فيها

من األهوال ما ال يمكن تصوره، لتكون هي التي تربيه، مثلما يفعل مع الكسول الذي

يحتاج إلى التأنيب، أو المجرم الذي يحتاج إلى العقاب.

ازدوج عند حديثه عن ضرورة التوبة، فقال: )وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى

ملك وكل عبد مصحح نسبه إما إلى ال ،واصطحب فيه سجيتان ،في طينة اإلنسان شائبتان

فالتائب قد أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بمالزمة حد ؛أو إلى آدم أو إلى الشيطان

لنسب إما تصحيح اف ؛والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان ،اإلنسان

141

فإن الشر معجون مع الخير ،لمحض الخير فخارج عن حيز اإلمكان إلى المالئكة بالتجرد

فاإلحراق ؛أو نار جهنم ،نار الندم :في طينة آدم عجنا محكما ال يخلصه إال إحدى النارين

ون وإليك اآلن اختيار أه ،بالنار ضرورى في تخليص جوهر اإلنسان من خبائث الشيطان

ويساق إلى دار ،قبل أن يطوى بساط االختيار ،والمبادرة إلى أخف الشرين ،ارينالن

(1)(وإما إلى النار ،إما إلى الجنة ،االضطرار

وما ذكرناه وذكره الغزالي، وإن كان مرتبطا بكل المعاصي، إال أن هناك معاصي ال

ي البرزخ.. وهي المعاصيكفي فيها الندم، وال التوبة، وال غيرهما، وال تكفي فيها مرحلة

المتعدية، والتي نصبت لها موازين خاصة، ولها مواقف يوم القيامة، عندما يجتمع

الخالئق في صعيد واحد، وهناك تعاد الخصومات من جديد لترد الحقوق إلى أصحابها،

وفق قوانين العدالة اإللهية المطلقة.

اإلنسان آالم ذنوبه، وبما أن مرحلة البرزخ مرحلة تربوية محضة، يذوق فيها

يات خلوها من الشفاعة، إال أنها تعوض بدل ذلك اليمتلئ نفورا منها، فقد ورد في الرو

إذا مات : )بوصول جزاء تلك األعمال المتعدية التي قام بها صاحبها، كما قال

اإلنسان، انقطع عنه عمله إال من ثالثة، إال من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد

(2)(يدعو له صالح

أما في القيامة أنه قال: ) ومن الروايات الواردة في هذا ما روي عن اإلمام الصادق

،نبيأو وصي ال ،في الجنة بشفاعة النبي المطاعـ يقصد المؤمنين الصالحين ـ فكلكم

ه القبر منذ حين موت)قلت: وما البرزخ؟ قال: (،ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ

(2/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

(4431)2/332أحمد (2)

142

(1)قيامة(إلى يوم ال

ومع هذا، فإن هذا األمر قد ال يكون عاما، ذلك ألن لكل إنسان في ذلك العالم

حكمه الخاص، وذلك بحسب درجته ومرتبته ونوع معاصيه.. ولهذا ورد في النصوص

ما قد يشير إلى إمكانية الشفاعة هناك كما في سائر المحال.

مراتب الموتى في البرزخ، بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على

وأنواع نعيمهم وعذابهم، ومدى ارتباط ذلك بالعمل، مع التنبيه إلى أننا ذكرنا بتفصيل

الرد على ما يطرحه من يدعون التنوير من إنكار ما يرتبط بهذا العالم من نعيم أو عذاب

في كتاب ]التنويريون والصراع مع المقدسات[

برزخ:ـ مراتب النعيم والعذاب في ال 1

بناء على كون العدالة اإللهية، وتربية الله لعباده، من أهم تجليات النشأة األخرى،

والمرتبطة بجميع المراحل التي يمر بها اإلنسان، ابتداء من الموت، وانتهاء بدار القرار؛

فإن للموتى في البرزخ، سواء قبروا، أو لم يقبروا، مراتب كثيرة، ربما تساوي في عددها

بشر أنفسهم، ذلك أنه من المستبعد أن يتساوى اثنان من البشر في جميع ما فعلوه.عدد ال

ولذلك فإن أول المراحل التي يكتشف فيها اإلنسان مرتبته مرحلة البرزخ، وابتداء

من الموت، كما ذكرنا ذلك سابقا.

وأول ما يكتشفه إيمانه، وهل كان إيمانا حقيقيا راسخا، أم كان مجرد ألفاظ

ا، ولذلك ورد في النصوص القطعية الكثيرة ما يدل على ذلك االختبار اإللهي الذي يردده

اللهت يثب ﴿يكشف عن حقيقة اإليمان، بل إن القرآن الكريم أشار إليه في قوله تعالى:

نيا وفي اآلخرة ويضل ذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الد اللهفعل الظالمين وي هاللال

.3/242الكافي (1)

143

[23]إبراهيم: ﴾ما يشاء

المسلم إذا سئل في القبر، شهد أنه قال: ) وقد ورد في تفسيرها عن رسول الله

ذين آمنوا بالقول اللهيثبت ﴿أن ال إله إال الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: ال

نيا وفي اآلخرة الثابت في الحياة (1)(﴾الد

فيأتيه ملكان فيجلسانه : )وفي حديث آخر توضيح أكثر تفصيال، فقد قال

فيقوالن له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقوالن له: ما دينك؟ فيقول: ديني اإلسالم.

فيقوالن له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقوالن له: وما

علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق

ه من روحها فيأتي، عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة

(2)(وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره

ذب، وإن كان وطبعا هذا الحديث ليس عاما لكل المؤمنين، ذلك أن منهم من يع

مؤمنا بسبب معاصيه، كما سنرى ذلك.

أما الذي لم يكن صادقا في إيمانه، أو كان إيمانه مجرد ألفاظ يرددها دون أن يكون

لها أي معنى في نفسه، فإنه يعجز عن اإلجابة، أو يجيب إجابات خاطئة، كما وضع ذلك

هاه هاه، ال أدري. ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقوالن له: من ربك؟ فيقول:: )قوله

فيقوالن له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، ال أدري. فيقوالن له: ما هذا الرجل الذي بعث

فيكم؟ فيقول: هاه هاه، ال أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار،

يه فوافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف

(4311صحيح البخاري برقم ) (1)

(1244( وسنن ابن ماجة برقم )4/34( وسنن النسائي برقم )4323( وسنن أبي داود برقم )4/243رواه أحمد ) (2)

144

(1) (أضالعه

وهذا ال يعني اقتصار االمتحان على هذه األسئلة، ذلك أن البرزخ مدرسة تربوية،

والقائمون فيه من المالئكة يقومون بالدورين جميعا، دور االمتحان لتبلى السرائر،

وتكشف الحقائق، ودور التربية والتوجيه من خالل ما يحصل فيه من أنواع النعيم أو

صورا مجسمة وحية لألعمال التي قام بها صاحبها.. العذاب، والذي ال يعدو أن يكون

ومن النصوص التي تدل على أن هناك أسئلة أخرى غير تلك األسئلة، ما نص عليه

اهم المالئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا ﴿قوله تعالى: ذين توف إن ال

واسعةا فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم اللهاألرض قالوا ألم تكن أرض مستضعفين في

ا ) والولدان ال يستطيعون 13جهنم وساءت مصيراجال والنساء ( إال المستضعفين من الر

ا اللهأن يعفو عنهم وكان الله( فأولئك عسى 14) حيلةا وال يهتدون سبيالا ا غفورا ﴾عفو

[11 - 13]النساء:

بد عومن الروايات التي تدل على أن هناك أسئلة أخرى غير تلك األسئلة، ما رواه

عن أول ملك يدخل في القبر على الميت قبل اللهالله بن سالم قال: سألت رسول

: ملك يتألأل وجهه كالشمس اسمه: رومان يدخل على اللهمنكر ونكير، فقال رسول

ن قلمي ء أكتب؟ أيالميت، ثم يقول له: اكتب ما عملت من حسنة وسيئة، فيقول: بأي شي

ء أكتب شي ودواتي ومدادي؟ فيقول: ريقك مدادك وقلمك إصبعك، فيقول: على أي

وليس معي صحيفة؟ قال: صحيفتك كفنك فاكتب، فيكتب ما عمله في الدنيا خيرا، وإذا

بلغ سيئاته يستحي منه، فيقول له الملك: يا خاطئ ما تستحي من خالقك حين عملته في

الدنيا فتستحي اآلن، فيرفع الملك العمود ليضربه، فيقول: ارفع عني حتى أكتبها، فيكتب

(1244( وسنن ابن ماجة برقم )4/34( وسنن النسائي برقم )4323( وسنن أبي داود برقم )4/243رواه أحمد ) (1)

142

م؟ وليس ء أختع حسناته، وسيئاته ثم يأمره أن يطوي ويختم، فيقول: بأي شيفيها جمي

عالى: ت اللهمعي خاتم، فيقول: اختمها بظفرك وعلقها في عنقك إلى يوم القيامة كما قال

ا ي ﴿ ا وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا ]اإلسراء: ﴾لقاه منشورا

13])(1)

وهذا الحديث يصور ما يحصل بصورة تقريبية، ألنه ال يمكن لمن في هذا العالم

أن يعرف حقيقة ما يجري في ذلك العالم بكل دقة، والغرض الذي سقناه من أجله هو في

تحي تسيا خاطئ ما تستحي من خالقك حين عملته في الدنيا ف): لإلنسان الملكقول

(اآلن

وهذه الكتابة تشبه ما يطالب به المحققون في المباحث المجرمين من كتابة

جرائمهم، وتوضيحها بكل دقة، ليكون االعتراف مقدمة للجزاء والعقوبة.

ولألسف، فإن البعض من النقاد ال ينظرون للمعاني التي تحويها أمثال هذه

ن، ونحو ذلك، بل إن بعضهم يشكل على األحاديث، وإنما يتعجبون من الكتابة على الكف

الحديث بأنه لو حصلت تلك الكتابة، لرأيناها في الكفن.. وهذا من عدم فهم ما يجري

في ذلك العالم، وكيفيته، كما سنرى ذلك إن شاء الله في المطلب التالي لهذا.

)إن هذه :ومن األحاديث الواردة في االختبارات المرتبطة بعالم البرزخ قوله

األمة تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، جاء ملك شديد

(2)اإلنتهار فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل(

ولهذا نرى األحاديث المرتبطة بهذه االختبارات تذكر مالئكة آخرين غير منكر

بها، مثلما يحصل في الدنيا، ونكير.. وهو يدل على أن لكل مرحلة المالئكة المكلفين

..33 - 33، ص 2الشيرازي، رياض السالكين، ج (1)

(3/343رواه أحمد) (2)

143

من توكيل كل علم إلى أساتذته المختصين فيه.

)فتانو القبر أربعة منكر ونكير وناكور، وقد قال الكتاني يذكر بعض ما ورد في هذا:

إن الحافظ ابن حجر سئل: هل يأتي الميت ملك إسمه رومان؟و..وسيدهم رومان

الرافعي في تاريخ قزوين عن الطواالت ألبي فأجاب بأنه ورد بسند فيه لين، وذكره

الحسن القطان، بسنده برجال موثقين إلى ضمرة بن حبيب قال: فتان القبر أربعة: منكر

ونكير وناكور وسيدهم رومان، وهذا الوقف له حكم الرفع، إذ ال يقال مثله من قبل الرأي

(1)فهو مرسل(

على أن أمثال هذه األسئلة ال تطرح وقد ورد في الروايات ـ عند الفريقين ـ ما يدل

لكل الموتى، وال لكل األمم، وإنما لمن قامت عليهم الحجة، وأرسل إليهم الرسل،

)إن هذه األمة تبتلى في :ووردتهم البينات الدالة على صدقه؛ ففي الحديث قال

(2)(منهقبورها، فلو ال أن ال تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع

باب : )اآلثار الثابتة في هذا المعلقا على أمثال تلك الروايات قال ابن عبد البروقد

إنما تدل على أن الفتنة في القبر ال تكون إال لمؤمن أو منافق، ممن كان في الدنيا منسوباا

إلى أهل القبلة ودين اإلسالم، ممن حقن دمه بظاهر الشهادة. وأما الكافر الجاحد المبطل

(3)فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وإنما يسأل عن هذا أهل اإلسالم(

)واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص مبينا السر في ذلك: قال الصنعاني و

هذه األمة بالسؤال في القبر دون األمم السالفة.قال العلماء: والسر فيه أن األمم كانت

وإن عصوهم اعتزلوهم وعولجوا بالعذاب. فلما تأتيهم الرسل، فإن أطاعوهم فالمراد،

.332تنزيه الشريعة للكتاني/ (1)

(4/131صحيح مسلم) (2)

(22/222التمهيد ) (3)

143

رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقبل اإلسالم ممن أظهره أرسل الله محمداا

سواء أخلص أم ال، وقيض الله لهم من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال،

(1)وليميز الله الخبيث من الطيب(

أو صحته، ألن عالم البرزخ ليس مرتبطا باألمم ولسنا ندري مدى دقة هذا التعليل

بقدر ارتباطه باألفراد، ذلك أن لكل فرد في ذلك العالم حكمه الخاص به، والمرتبط

بعمله.

ولذلك فإن التعليل األحسن من هذا ربطه باإليمان والكفر، ال بهذه األمة وغيرها،

من المسؤولون في أصلحك الله ) :وقد ورد في ذلك عن اإلمام الصادق أنه سئل

،(فبقية هذا الخلق؟): فقيل له (،من محض اإليمان ومن محض الكفر)قال: (،قبورهم؟

(2)(يلهى والله عنهم، ما يعبأ بهم)قال:

وبناء على كل هذا، فإن األسئلة واالختبارات التي يتعرض لها اإلنسان في عالم

البرزخ ال يمكن حصرها، ولكن ورد في الروايات ما يدل على بعضها، ومنها السؤال عن

بمواالتهم، ومعاداة األعداء الذين أمرت هذه مواالة المؤمنين الذين أمر رسول الله

ان الدين ال يستقيم إال بمواالة الصالحين، واتباعهم، ومعادة األمة بعداوتهم، ذلك أن بني

الفجرة، ومواجهتهم.

قال: )إن المؤمن إذا أخرج من أنه اإلمام الصادق ومن تلك الروايات ما روي عن

بيته شيعته المالئكة إلى قبره يزدحمون عليه،حتى إذا انتهي به إلى قبره قالت له األرض:

له لقد كنت أحب أن يمشـي علي مثلك، لترين ما أصنع بك. مرحبا بك وأهال، أما وال

فتوسع له مد بصره، ويدخل عليه في قبره ملكا القبر وهما قعيدا القبر منكر ونكير، فيلقيان

(2/113سبل السالم ) (1)

(244/ 3الكافي الكليني ) (2)

144

فيه الروح إلى حقويه، فيقعدانه ويسأالنه فيقوالن له: من ربك؟ فيقول: الله، فيقوالن: ما

نبيك؟ فيقول: محمد. فيقوالن: ومن إمامك؟ دينك؟ فيقول: اإلسالم، فيقوالن: ومن

فيقول: فالن. قال: فينادي مناد من السماء:صدق عبدي، أفرشوا له في قبره من الجنة،

وافتحوا له في قبره باباا إلى الجنة، وألبسوه من ثياب الجنة حتى يأتينا، وما عندنا خير له.

كان كافراا خرجت المالئكة تشيعه وإن. ثم يقال له: نم نومة عروس، نم نومة ال حلم فيها.

إلى قبره يلعنونه، حتى إذا انتهى به إلى قبره قالت له األرض: ال مرحباا بك وال أهالا، أما

والله لقد كنت أبغض أن يمشي علي مثلك، الجرم لترين ما أصنع بك اليوم، فتضيق عليه

،ا القبر منكر ونكيرحتى تلتقي جوانحه ! قال: ثم يدخل عليه ملكا القبر وهما قعيد

ويلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقوالن له:من ربك؟فيتلجلج ويقول: قد سمعت الناس

ويقوالن له: ما دينك؟ فيتلجلج، فيقوالن له: ال دريت ! يقولون. فيقوالن له: ال دريت !

ويقوالن له: من نبيك؟ فيقول: قد سمعت الناس يقولون، فيقوالن له: ال دريت ! ويسأل

ن إمام زمانه. قال: فينادي مناد من السماء: كذب عبدي، أفرشوا له في قبره من النار ع

وألبسوه من ثياب النار، وافتحوا له باباا إلى النار حتى يأتينا، وما عندنا شر له، فيضربانه

بمرزبة ثالث ضربات ليس منها ضربة إال يتطاير قبره ناراا، لو ضرب بتلك المرزبة جبال

(1)نت رميماا(تهامة لكا

أيها الناس اتقوا ومنها ما روي عن اإلمام السجاد، فقد روي أنه وعظ الناس قائال: )

الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراا،

ن آدم، بوما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداا بعيداا، ويحذركم الله نفسه، ويحك ا

ابن آدم ان أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاا الغافل، وليس بمغفول عنه.

(3/231الكافي ) (1)

141

يطلبك ويوشك ان يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك وقبض الملك روحك، وصرت إلى

منزل وحيداا فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكراا ونكيراا، لمساءلتك

أول ما يسأالنك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي وشديد امتحانك، أال وإن

أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك

الذي كنت تتواله، ثم عن عمرك فيما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته؟ فخذ

(1)(حذرك وانظر لنفسك

ة وغيرها يميز بين الموتى، فمنهم من يكون في مرتبة الفائزين، بناء على هذه األسئل

ومنهم من يكون في مرتبة الهالكين، ومنهم من يكون في مرتبة الناجين، وهكذا.. مثلما

يحصل في االمتحانات البشرية التمييز بين الممتحنين.

جات الدركيفية توزع ]وقد ضرب الغزالي لذلك مثال مقربا، وذلك عند حديثه عن

أن اعلم[، قال في مقدمته: )والدركات في اآلخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا

الدنيا من عالم الملك والشهادة، واآلخرة من عالم الغيب والملكوت. وأعنى بالدنيا

حالتك قبل الموت، وباآلخرة حالتك بعد الموت. فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك

دنيا، والمتأخر آخرة. ونحن اآلن نتكلم من الدنيا في اآلخرة يسمى القريب الداني منها

فإنا اآلن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك، وغرضنا شرح اآلخرة وهي عالم

(2)(الملكوت

. .يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إال بضرب األمثالثم بين أنه ال )

. وما سيكون في اليقظة ال يتبين .كوتوهذا ألن عالم الملك نوم باإلضافة إلى عالم المل

لك في النوم، إال األمثال المحجوبة إلى التعبير، فكذلك ما سيكون في يقظة اآلخرة ال

.223/ 3بحار األنوار: (1)

(23/ 4إحياء علوم الدين ) (2)

120

(1) (يتبين في نوم الدنيا إال في كثرة األمثال. وأعنى بكثرة األمثال ما تعرفه من علم التعبير

الدركات على الحسنات تعريف توزع الدرجات ووبناء على هذا ذكر أنه ال يمكن )

(والسيئات، إال بضرب المثال

من ملك من الملوك على إقليموالمثال الذي ذكره هو أنه في حال استيالء

،فيقتل بعضهم فهم الهالكوناألقاليم؛ فإنه سيتعامل مع أهله بحسب تعاملهم معه، )

ويعذب بعضهم مدة وال يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع

(2) (على بعضهم فهم الفائزون

وبناء على ذلك، فإن المراتب الكبرى ألهل البرزخ، بحسب رؤية الغزالي، أربعة:

الهالكون، والمعذبون، والناجون، والفائزون.

كان الملك عادال، لم يقسمهم كذلك فإن ولكل مرتبة األعمال التي تتعلق بها، )

. وال .إال باستحقاق، فال يقتل إال جاحدا الستحقاق الملك، معاندا له في أصل الدولة

. وال يخلى إال معترفا له .يعذب إال من قصر في خدمته مع االعتراف بملكه وعلو درجته

ن أبلى على م وال يخلع إال .برتبة الملك، لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه.

عمره في الخدمة والنصرة، ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب

درجاتهم في الخدمة، وإهالك الهالكين إما تحقيقا بحز الرقبة، أو تنكيال بالمثلة، بحسب

درجاتهم في المعاندة، وتعذيب المعذبين في الخفة، والشدة، وطول المدة وقصرها،

ها واختالفها، بحسب درجات تقصيرهم فتنقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى واتحاد أنواع

(3)(درجات ال تحصى وال تنحصر

(23/ 4المرجع السابق، ) (1)

(23/ 4المرجع السابق، ) (2)

(24/ 4المرجع السابق، ) (3)

121

الناس في اآلخرة هكذا يتفاوتون. فمن هالك، ومن معذب وبناء على هذا، فإن )

والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في ..مدة، ومن ناج يحل في دار السالمة، ومن فائز

. والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب .نات المأوى أو جنات الفردوسجنات عدن، أو ج

كذلك الهالكون اآليسون من .. وقليال، وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آالف سنة

(1)(تتفاوت دركاتهم. وهذه الدرجات بحسب اختالف الطاعات والمعاصي اللهرحمة

ن ال مرتبة الهالكي األولىالمرتبة ثم ذكر األعمال المرتبطة بكل مرتبة، فذكر أن

، تبهورسله وك اللهللجاحدين والمعرضين، والمتجردين للدنيا، المكذبين ب)تكون إال

والنظر إلى وجهه، وذلك ال ينال أصال إال اللهفإن السعادة األخروية في القرب من

بالمعرفة التي يعبر عنها باإليمان والتصديق. والجاحدون هم المنكرون، والمكذبون هم

يائه بأنبو تعالى أبد اآلباد، وهم الذين يكذبون برب العالمين، اللهاآليسون من رحمة

عن محبوبه المرسلين، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ال محالة، وكل محجوب

(فمحول بينه وبين ما يشتهيه ال محالة، فهو ال محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق

(2)

ولكن من تحلى بأصل اإليمان،، وهي مرتبة )رتبة المعذبين، فمرتبة الثانيةمالوأما

اتبع من . واللهقصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس اإليمان هو التوحيد، وهو أن ال يعبد إال

(3) (هواه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو موحد بلسانه ال بالحقيقة

ولما كان الصراط المستقيمثم بين وجوه التقصير وعالقتها بالعذاب، فقال: )

الذي ال يكمل التوحيد إال باالستقامة عليه أدق من الشعر، وأحد من السيف، مثل

(24/ 4المرجع السابق، ) (1)

(22/ 4المرجع السابق، ) (2)

(22/ 4المرجع السابق، ) (3)

122

، االستقامة ولو في أمر يسيرالصراط الموصوف في اآلخرة، فال ينفك بشر عن ميل عن

إذ ال يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال التوحيد، بقدر ميله

فذلك يقتضي ال محالة نقصانا في درجات القرب. ومع كل . عن الصراط المستقيم.

،نآنقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها القر

فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذبا مرتين من وجهين، ولكن شدة ذلك العذاب

وخفته، وتفاوته بحسب طول المدة، إنما يكون بسبب أمرين: أحدهما قوة اإليمان

(1) (وضعفه، والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته

ا قوم لم يخدمو)، وهم ـ كما يذكر الغزالي ـ رتبة الناجين، فمالمرتبة الثالثةوأما

فيخلع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا. ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من

الكفار، والمعتوهين، والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البالد، وعاشوا على البله

وعدم المعرفة، فلم يكن لهم معرفة، وال جحود، وال طاعة، وال معصية، فال وسيلة

(2) (ناية تبعدهم، فما هم من أهل الجنة وال من أهل النارتقربهم، وال ج

وسنذكر المصير المرتبط بهؤالء في الفصل الثالث، عند الحديث عن العدالة

اإللهية، وسنرى الروايات التي تدل على أنهم يتعرضون الختبارات خاصة تكشف عن

ابه.. وبذلك جواهرهم وسرائرهم؛ فمن نجح فيها نال ثوابه، ومن لم ينجح نال عق

يتساوى البشر جميعا في االختبار، وهو من مقتضيات العدالة.

ن العارفون دوـ كما يذكر الغزالي ـ )وهم ، الفائزين رتبة، فمالمرتبة الرابعةوأما

المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في المقلدين. وهم المقربون السابقون. فإن

(وهؤالء هم المقربون. وما يلقى هؤالء يجاوز حد البيانالجنة، فهو من أصحاب اليمين.

(23/ 4المرجع السابق، ) (1)

(23/ 4المرجع السابق، ) (2)

123

(1)

ـ كيفية النعيم والعذاب في البرزخ: 2

من اإلشكاالت الكبرى التي يطرحها المنكرون لما يجري في عالم البرزخ ما

يرتبط بالتصورات المتعلقة بكيفية حصول ذلك، وهو من األمور العجيبة، ذلك أن الله

يقترح عليه، ولذلك يكفي المؤمن أن يعتقد بما ورد في النصوص تعالى أعظم من أن

المقدسة، دون أن يكلف خياله، وال عقله معرفة كيفية ذلك، فقدرة الله ال حدود لها.

وهؤالء المنكرون، أو الذين يثيرون الشغب في مثل هذه المسائل، بدعوى

خترع آالف االختراعات الدقيقة، العلمية، ال حظ لهم منها، ذلك أنه إذا رأينا عالما كبيرا ا

ال نتعجب إن استطاع أن يضيف إليها اختراعا جديدا توهم البشر جميعا صعوبته أو

استحالته.

فإن جاز ذلك لهذا العقل البسيط، الذي لم يكن له من دور سوى تقليد بعض

ف بالصانع البديع، الذي ال يمكن إحصاء مصنوعاته يمخلوقات الله باختراعاته؛ فك

مخترعاته وإبداعاته؟و

وضرب لنا مثالا ونسي خلقه ﴿ولهذا رد الله تعالى على المنكرين للبعث بقوله:

ة وهو بكل خلق 34قال من يحي العظام وهي رميم ) ل مر ذي أنشأها أو ( قل يحييها ال

ذي جع 31عليم ) ا فإذا أنتم منه توقدون )( ال جر األخضر نارا ( أوليس 40ل لكم من الش

ق العليم ) ماوات واألرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخال ذي خلق الس ( 41ال

ما أمره إذا أراد شيئا 42ا أن يقول له كن فيكون )إنذي بيده ملكوت كل شيء ( فسبحان ال

[ 43 - 34]يس: ﴾( 43وإليه ترجعون )

وربما يكون من األسباب التي دعتهم إلى ذلك أيضا تصورهم أن ما ورد في

(23/ 4المرجع السابق، ) (1)

124

تهم، وهذا غير صحيح؛ األحاديث والروايات يدل على الواقع بحسب ما تتوهمه أخيل

فالنصوص المقدسة تتحدث عن هذه األمور من باب ]خاطبوا الناس على قدر عقولهم[،

وليس من باب الحقيقة المطلقة، تلك التي ال يمكن اكتشافها إال لمن عاشها.

يء ليس في الجنة شولهذا قال ابن عباس عن نعيم الجنة، وعالقته بنعيم الدنيا: )

(1)(إال األسماء يشبه ما في الدنيا

باإلضافة إلى أن هناك من الروايات ما يدل على أن عالم البرزخ يشبه كثيرا عالم

األحالم، ولذلك ترى فيه األشياء الرمزية بصيغتها المجسمة، كما ورد في الرواية التي

جنة تعلق بغصن منها أدته إلى ال فمن ،السخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنياتقول: )

(2)(والبخل شجرة في النار وأغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدته إلى النار

وذلك كله من مقتضيات التربية ووسائلها، والتي تستعملها المالئكة مع أهل

البرزخ إلخراجهم من الظلمات إلى النور، عبر تعريفهم بحقائق الوجود التي لم يستطيعوا

هضمها في حياتهم الدنيا.

هذا الباب أيضا توهمهم أن المراد من عذاب القبر ونعيمه، ارتباطه بالقبر ومن

الحقيقي المعروف، وهذا غير صحيح، فهذه التسمية جاءت من باب الغالب، ال من باب

الحقيقة المطلقة، والتسمية الصحيحة لذلك، بحسب ما يذكر القرآن الكريم هي

كال إنها ﴿ن الدنيا واآلخرة، كما قال تعالى: ]البرزخ[، وهي المرحلة الفاصلة بين الحياتي

[100]المؤمنون: ﴾كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون

ولهذا نرى العلماء ينبهون كل حين إلى أن المراد بالقبر هي حياة البرزخ، ال القبر

يمنع من سؤال الملكين وعذاب القبر كون الميت قد ال )النووي: في حد ذاته، كما قال

(2/ 21رواه أبو نعيم في صفة الجنة ) (1)

.41: 2، وورد باختالف في ألفاظه في أمالي الطوسي 222االختصاص: (2)

122

تفرقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك، فكما

أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى

وإن أكلته السباع والحيتان، ف منه أو أجزاء

إن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في جزء

قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد وال يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك

ا ال نحس نحن شيئاا منها، غير ممتنع، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذةا وآالما

ا لما يسمعه أو يفكر فيه و ال يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان وكذا يجد اليقظان لذةا وآلما

فيخبره بالوحي الكريم وال يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جبرائيل يأتي النبي

(1)(جلي، وأما ضربه بالمطارق فال يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب

وقد حاول العلماء لرد تلك التخيالت واألوهام والشبهات أن يبسطوا هذا

وه خاصة ألولئك الذين يذكرون أنهم يرون الموتى بصورة عادية، وال المعنى، ويقرب

يرون أي آثار للعذاب عليهم.

ومنهم الغزالي الذي عقب على تلك النصوص المقدسة التي تذكر الحيات

فقال: )فأمثال هذه األخبار لها والعقارب وأنواع العذاب، بذكر درجات اإليمان بهذا؛

خفية، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، فمن لم تنكشف له ظواهر صحيحة، وأسرار

حقائقها فال ينبغي أن ينكر ظواهرها. بل أقل درجات اإليمان التصديق والتسليم، فإن

قلت: فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه، وال نشاهد شيئا من ذلك، فما وجه

(2)التصديق على خالف المشاهدة؟(

هذا السؤال، بأن للمؤمن ثالث مقامات في التصديق بأمثال ثم راح يجيب على

هذا، سنذكرها مع بعض التفاصيل المرتبطة بها من خالل العناوين التالية:

.224صـ 1مسلم بشرح النووي جـ (1)

(200/ 4إحياء علوم الدين ) (2)

123

في البرزخ:أ ـ الوجود الحسي للنعيم والعذاب

وهو أكملها وأظهرها وأصحها وأسلمها وأكثرها أدبا مع الله، وهو يعني التصديق

موجودة فعال، كما ورد في النصوص المقدسة، وهي تلدغ ـ أي الحيات والعقارب ـ بأنها

الميت، ولكنا النشاهدها، ألن )هذه العين ال تصلح لمشاهدة األمور الملكوتية، وكل ما

عنهم كيف كانوا اللهيتعلق باآلخرة فهو من عالم الملكوت. أما ترى الصحابة رضي

(1)يشاهدونه، ويؤمنون بأنه عليه السالم يشاهده؟( يؤمنون بنزول جبريل، وما كانوا

ثم خاطب الغزالي من يشكك في هذا، بقوله: )فإن كنت ال تؤمن بهذا فتصحيح

أصل اإليمان بالمالئكة والوحي أهم عليك. وإن كنت آمنت به، وجوزت أن يشاهد النبي

ك ال يشبه اآلدميين ما ال تشاهده األمة، فكيف ال تجوز هذا في الميت؟ وكما أن المل

والحيوانات، فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا، بل

(2) هي جنس آخر، وتدرك بحاسة أخرى(

ونحب أن نذكر هنا رأيا نراه، ونستغفر الله من الخطأ فيه، وهو أن في جسد اإلنسان

أجهزته، التي قد تتحول إلى قسمان: قسم يبلى، ويتحول إلى تراب، وهو كل خالياه، و

أعضاء في كائنات أخرى، من بينها إخوانه في اإلنسانية نفسها.

وأما الثاني، فهو ذلك الجزء البسيط غير المرئي الذي يختصر فيه اإلنسان؛ والذي

يمكن من خالله التعرف على كل أجهزته وخصائصه، باعتبره الشيفرة التي تمثله، فهناك

وأخرى القلب، وأخرى الرئة.. وهكذا حتى خصائص اإلنسان شيفرة تمثل الكبد،

الجسمية نجدها في تلك الشيفرات الصغيرة جدا، والتي يقر العلم بوجودها.

ولذلك نرى أن كل ما ورد من النصوص المقدسة فيما يتعلق بعالقة الروح بالجسد

(200/ 4المرجع السابق، ) (1)

(200/ 4المرجع السابق، ) (2)

123

مرتبط بذلك الجزء البسيط، الذي قد ال يرى حتى بالمجاهر.

في وصف ما يحصل لى هذا المعنى ما ورد في الحديث من قوله وقد دلنا ع

نسان شيء ليس من اإل ،فينبتون كما ينبت البقل ،م ينزل الله من السماء ماء)ث عند البعث:

(1)(ومنه يركب الخلق يوم القيامة ،وهو عجب الذنب ،إال عظماا واحداا ،إال يبلى

نب، منه خلق : وفي حديث آخر، قال )كل ابن آدم يأكله التراب إال عجب الذ

ب(، وفي ا وهو عجب روايةوفيه يرك ا واحدا : )وليس من اإلنسان شيء إال يبلى إال عظما

ب الخلق يوم القيامة( نب، ومنه يرك (2)الذ

ه(، )يأكل التراب كل شيء من اإلنسان إال عجب ذنب :وفي حديث آخر، قال

(3)قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: )مثل حبة خردل منه ينشأ(

فهذا الحديث يشير إلى أن هذا المحل من اإلنسان هو الذي نشأ منه، وانتقل إليه

ك من بني آدم من ﴿من آبائه وأجداده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: وإذ أخذ رب

ت ي كم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم ظهورهم ذر هم وأشهدهم على أنفسهم ألست برب

ا كنا عن هذا غافلين ، فاآلية الكريمة تشير إلى أن كل البشر [132]األعراف: ﴾القيامة إن

م، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى ذريته..كانوا في ذلك الجزء البسيط من جسد آدم عليه السال

البدن ه قال: )عن اإلمام الصادق أنوهكذا ورد في الرواية عن أئمة أهل البيت، ف

يبلى إال طينته التي خلق منها فإنها ال تبلى، تبقي في القبر مستديرة، حتى يخلق منها كما

(4)خلق أول مرة(

(2122( ومسلم )4321رواه البخاري ) (1)

.4343الحديث رقم 4سنن أبي داود ج (2)

.2/22صحيح ابن حبان ج (3)

.3/221الكافي: (4)

124

العلمي في القرآن الكريم، من وال أحب أن أذكر هنا ما يورده المهتمون باإلعجاز

الربط بين هذه النصوص، وما يذكره العلم الحديث، ألني أرى أن اكتشاف هذا األمر

بدقة، لم يحن بعد، والبحوث العلمية التي يذكرونها ال يمكن االستشهاد بها في هذا

المحل.

ي هذا فولو أني أقر بأن العلم الحديث قرب الكثير من األشياء التي كانت مستبعدة

الجانب، ومن بينها ذلك االستغراب الذي يحصل في فهم اآلية السابقة، والتي تذكر أن

البشر جميعا خاطبهم الله تعالى من خالل خطابه لبذورهم التي كانت موجودة في جسد

آدم عليه السالم.

في البرزخ:للنعيم والعذاب ب ـ الوجود المتخيل

يس ول والرد على المستبعدين المنكرين،وقد ذكره الغزالي لتقريب المسألة،

للحقيقة المطلقة، وقد عبر عنه بقوله: )أن تتذكر أمر النائم، وأنه قد يرى في نومه حية

تلدغه، وهو يتألم بذلك، حتى تراه يصبح في نومه، ويعرق جبينه، وقد ينزعج من مكانه.

كل ذلك يدركه من نفسه، ويتأذى به كما يتأذى اليقظان، وهو يشاهده، وأنت ترى ظاهره

رى حواليه حية، والحية موجودة في حقه، والعذاب حاصل، ولكنه في حقك ساكنا، وال ت

(1) غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ، فال فرق بين حية تتخيل أو تشاهد(

وطبعا؛ فإن مراد الغزالي من هذا هو التقريب، ال الحقيقة المطلقة، ألنها غيب،

مكن أن يخلق غيره، وال عجب في ذلك والذي خلق النوم، وأودع فيه تلك القدرات، ي

عند صاحب القدرة المطلقة.

هو النوم الذي ) الموت عندما سئل عن حقيقته بقوله: اإلمام الباقرولهذا عرف

(201/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

121

يأتيكم في كل ليلة إال أنه طويل مدته، ال ينتبه منه إال يوم القيامة، فمنهم من رأى في منامه

دره، ومنهم من رأى في نومه من أصناف األهوال ما أصناف الفرح ما ال يقادر ق من

(1)فكيف حال من فرح في الموت ووجل فيه! هذا هو الموت فاستعدوا له( ،اليقادر قدره

هو للمؤمنين كأطيب ريح يشمه )فقال: ، الموتوسئل اإلمام الصادق عن صفة

عقارب األفاعي، وكلدغ الفينعس لطيبه، فينقطع التعب واأللم كله عنه. وللكافر كلسع

(وأشد

قالوا ياويلنا من بعثنا من ﴿وربما يشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تعالى:

حمن وصدق المرسلون [25]يس: ﴾مرقدنا هذا ما وعد الر

المشاعر التي وهذا ال يعني عدم التنعم والعذاب، ذلك أننا عند النوم نشعر بكل

يشعر بها المستيقظون، حيث نمتلئ سعادة، أو حزنا، من دون أن يقلل النوم من ذلك

شيئا.

موتا أن كل حياة متدنية تعتبروإن شئنا الحقيقة، فإن النصوص المقدسة تدل على

ونوما بالنسبة لما قبلها، كما وردت اإلشارة إلى ذلك في األثر: )الناس نيام فإذا ماتوا

(2)وا(انتبه

:في البرزخللنعيم والعذاب ج ـ الوجود التشبيهي

أدنى المراتب، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: ).. أنك تعلم أن الحية بنفسها ال وهو

تؤلم، بل الذي يلقاك منها وهو السم، ثم السم ليس هو األلم، بل عذابك في األثر الذي

غير سم لكان العذاب قد توفر، وكان يحصل فيك من السم؛ فلو حصل مثل ذلك األثر من

.23اإلعتقادات للصدوق/ (1)

( من قول 310( من قول سهل التستري، ورواه أبو الفضل الزهري في حديثه )212رواه البيهقي في الزهد الكبير ) (2)

بشر بن الحارث..

130

ال يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إال بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في

العادة.. وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب: والسبب يراد لثمرته

(1)ال لذاته(

أوصيك به أن ال ثم ختم هذه المراتب ـ كعادته ـ بنصيحة غالية قال فيها: )والذي

تكثر نظرك في تفصيل ذلك، وال تشتغل بمعرفته، بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب

كيفما كان، فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك، كنت كمن أخذه

سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه، فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين،

سى، وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه، وهذا غاية أو بسيف، أو بمو

الجهل، فقد علم على القطع أن العبد ال يخلو بعد الموت من عذاب عظيم، أو نعيم مقيم،

فينبغي أن يكون االستعداد له. فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع

(2)(زمان

أشار إليه الغزالي من التسليم ألمور الغيب من ما ابن أبي العز الحنفيوقد ذكر

ار عن قد تواترت األخب): دون بحث فيها، وال في كيفيتها، لتجاوزها حدود العقول؛ فقال

، وسؤال الملكين، رسول الله في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهالا

وف على ليس للعقل وقفيجب اعتقاد ثبوت ذلك واإليمان به، وال يتكلم في كيفيته؛ إذ

كيفيته، لكونه ال عهد له به في هذه الدار، والشرع ال يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد

يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا،

كون ين في القبر يبل تعاد الروح إليه إعادة غير اإلعادة المألوفة في الدنيا، وسؤال الملك

ا باتفاق أهل السنة ا، وكذلك عذاب القبر يكون للروح والبدن جميعا للروح والبدن جميعا

(201/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

(201/ 4المرجع السابق، ) (2)

131

(1)(والجماعة، تنعم الروح وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به

ـ صور النعيم والعذاب في البرزخ: 3

يوم ﴿ من أهم المسائل المرتبطة بقوانين النشأة األخرى، ما عبر عنه قوله تعالى:

تود لو أن بينها وبينه أم ا وما عملت من سوء ا دا تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا

ركم ا ويحذ ووضع ﴿، وقوله: [30]آل عمران: ﴾رءوف بالعباد اللهنفسه و اللهبعيدا

ا فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب ال يغادر الكتاب فترى المجرمين مشفقين مم

ا ك أحدا ا وال يظلم رب ]الكهف: ﴾صغيرةا وال كبيرةا إال أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا

[14]التكوير: ﴾س ما أحضرت علمت نف ﴿، وقوله: [41

وغيرها من اآليات الكريمة التي تبين أن األعمال التي يقوم بها اإلنسان في حياته

الدنيا هي نفسها التي تتجسم له بعد ذلك في صور من النعيم والعذاب.

يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم : )وهو ما أشار إليه قوله

(2)وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه( إياها، فمن

ومثله ما ورد من أحاديث تتعلق بعالم البرزخ وتجلي العمل فيه في صورة حسنة

مصير المؤمن، وبعد أن للمؤمن، وقبيحة لغير المؤمن، ففي الحديث الذي يصف فيه

)ينادي مناد من السماء: أن : ينجح في اإلجابة على األسئلة التي تطرح عليه، قال

صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباا إلى الجنة، قال:

فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه

جنات وحسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله،

من أنت؟ ،هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، فيها نعيم مقيم

.133صـ 2شرح العقيدة الطحاوية البن أبي العز الحنفي جـ (1)

(2233ح) 4/1114صحيح مسلم (2)

132

فوالله ما علمتك إال كنت ،فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح

سريعاا في طاعة الله، بطيئاا في معصية الله، فجزاك الله خيراا، ثم يفتح له باب من الجنة،

ن النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في وباب م

(1) الجنة، قال: رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن(

أن العبد الكافر أو الفاجر بعد أن يسيء اإلجابة )ينادي مناد ذكر في المقابل و

فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباا إلى النار، فيأتيه من حرها في السماء أن كذب،

وسمومها، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف فيه أضالعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح

الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول:

الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك وأنت فبشرك الله بالشر، من أنت؟ فوجهك

الخبيث، فوالله ما علمتك إال كنت بطيئاا عن طاعة الله، سريعاا إلى معصية الله، فجزاك

(2)الله شرا(

فإذا أخرجوا من قبورهم خرج مع كل إنسان عمله : )وورد في حديث آخر قوله

(3)يصحبه في قبره(الذي كان عمله في دار الدنيا، ألن عمل كل إنسان

ا قيس، إن مع العز ذالا، وإن مع الحياة )يلقيس بن عاصم: في وصيته وقال

موتاا، وإن مع الدنيا آخرة، وان لكل شيء حسيباا، وعلى كل شيء رقيباا، وإن لكل حسنة

فن البد لك من قرين، يد -يا قيس -وإنه ، ثواباا، ولكل سيئة عقابا، وإن لكل أجل كتاباا

ك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماا أكرمك، وإن كان لئيماا أسلمك، مع

شر إال معك، وال تحشر إال معه، وال تسأل إال عنه، وال تبعث إال معه، فال تجعله حثم ال ي

(300/ 1(، والبيهقي في )شعب اإليمان( )14223( )243/ 4(، وأحمد )4323رواه أبو داود ) (1)

(14333( )212/ 4(، وأحمد )4323رواه أبو داود ) (2)

.43/ 4البرهان: (3)

133

إن كان صالحاا لم تأنس إال به، وإن كان فاحشاا لم تستوحش إال منه وهو إال صالحاا، فإنه

(1)عملك(

هكذا ورد في الرواية ما يدل على الصحبة الدائمة للعمل الصالح لإلنسان، وفي و

إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه ): أنه قالاإلمام الصادق مراحله المختلفة، فعن

مثال يقدمه أمامه، كلما رأى المؤمن هوالا من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: ال تفزع

لسرور والكرامة من الله عزوجل حتى يقف بين يدي الله عزوجل وال تحزن وأبشر با

فيحاسبه حساباا يسيراا، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: يرحمك الله

نعم الخارج، خرجت معي من قبري، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى

لسرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن رأيت ذلك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا ا

(2)في الدنيا، خلقني الله عزوجل منه ألبشرك(

إذا مات العبد وقال مبينا تجسم األعمال المختلفة في الصور المناسبة لها: )

المؤمن دخل معه في قبره ست صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاا، وأبهاهن هيئة،

صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأنطقهن وأطيبهن ريحاا،

وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق

رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست،

: ؟ فتقول التي عن يمين العبدقال: فتقول أحسنهن صورة من أنتم جزاكم الله عني خيراا

أنا الصالة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه، أنا الصيام، وتقول

التي خلفه، أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم

ل تقول: أنا الوالية آليقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاا، وأطيبنا ريحاا، وأبهانا هيئة، ف

.132:33بحار األنوار: (1)

.113/ 3 :بحار األنوار (2)

134

(1)محمد(

وبما أن هذه المسألة من المسائل المشكلة التي وقع االعتراض عليها، خاصة من

طرف أولئك الذين ينكرون أو يؤولون ما ورد من النصوص حول هذا العالم، لذلك

سنذكر هنا ما أورده المتكلمون من أدلة على ذلك، مصنفين لها، بحسب نوعها إلى نقلية

عقلية.و

أ ـ األدلة النقلية على تجسم األعمال:

أورد المتكلمون المؤيدون لتجسم األعمال الكثير من اآليات القرآنية واألحاديث

النبوية الدالة على ذلك، وسنقتصر هنا على ما ذكره العالمة جعفر السبحاني في تفسيره

ذكرها، والتي قد نضيف الموضوعي ]مفاهيم القرآن[، مع بيان وجوه االستدالل التي

:(2)إليها ما نراه مناسبا

يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ﴿ـ قوله تعالى: 1

و الفوز وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها ذلك ه

ذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل 12العظيم ) ( يوم يقول المنافقون والمنافقات لل

حمة وظ ا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الر هره من اارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا

صتم 13قبله العذاب ) ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وترب

تكم األماني حتى جاء أمر كم ب اللهوارتبتم وغر [14 - 12]الحديد: ﴾الغرور اللهوغر

وبين أيديهم، ليضيء نور المؤمنين يسعى أمامهمفهذه اآليات الكريمة تبين أن

لهم الظلمات التي تمأل ذلك الموقف، كما تبين أن مبدأ اكتساب ذلك النور كان في

الدنيا، وبالعمل الصالح.ولهذا يطلبون من المنافقين العودة للدنيا الكتساب ذلك النور..

(232/ 3بحار األنوار ) (1)

، فما بعدها.4/332انظر: مفاهيم القرآن،. (2)

132

ك العمل تحول إلى ذلك النور.وهو يدل على أن نفس ذل

ة وال ينفقونها في سبيل ﴿. قوله تعالى: 2 هب والفض ذين يكنزون الذ للهاوال

رهم بعذاب أليم ) ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم 34فبش

واآلية ، [32، 34]التوبة: ﴾ظهورهم هذا ما كنزتم ألنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون و

صريحة في أن الذهب والفضة يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه المكنزين

ى، كما أنها صريحة في أن النار نفس ما اكتنزوه في النشأة األول، وجلودهم وظهورهم

أن يدل علىفكأن للكنز ظهورين: ظهورا بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية، وهذا

.لكل عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختالف النشآت

ذين يبخلون بما آتاهم ﴿ـ قوله تعالى: 3 ا ل اللهوال يحسبن ال هم من فضله هو خيرا

ماوات واألرض و ه ميراث الس قون ما بخلوا به يوم القيامة ولل للهابل هو شر لهم سيطو

ما كان يبخل به ، فهذه اآلية الكريمة تبين أن [140]آل عمران: ﴾بما تعملون خبير

ق اإلنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة األخرى بهيئة سلسلة من نار تطو

وتقحمه النار. ،العنق وتلتف حوله

ها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في ﴿ـ قوله تعالى: 4 يابني إن

ماوات أو في األرض يأت ، فاآلية الكريمة [13]لقمان: ﴾لطيف خبير اللهإن اللهبها الس

نفس العمل يؤتى به يوم القيامة، فيؤتى بالصالة والزكاة بثوبهما المناسب تدل على أن

.غير الصالحةللنشأة األخروية، وهكذا الحال في األعمال

ة خ ﴿ ـ قوله تعالى: 2 ا يره )فمن يعمل مثقال ذر ا يره 3يرا ة شر ( ومن يعمل مثقال ذر

فالضمير في قوله: )يره( يرجع إلى العمل المستفاد من قوله: ،[4، 3]الزلزلة: ﴾(4)

)يعمل( أو إلى الخير والشر، وعلى كال التقديرين فاإلنسان يرى عمله من صالح وطالح،

هما المناسب لتلك النشأة كما يرى اإلحسان والعمل فيرى السرقة والنميمة بوجود

133

والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة.

واعلم يا ابن ويؤيد هذا ما روي عن اإلمام السجاد، أنه قال في بعض مواعظه: )

آدم! أن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة.. يوم ال تقال فيه عثرة، وال

ة، وال تقبل من أحد معذرة، وال ألحد فيه مستقبل توبة ليس إال الجزاء يؤخذ من أحد فدي

باإلحسان والجزاء بالسيئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من

(1)كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده( خير وجده، ومن

إن كان من أهل النار وقد كان اآليات الكريمة: )تفسير تلك في وقال اإلمام الباقر

ل ، ومن يعماللهعمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير

(2)مثقال ذرة شرا يره. يقول: إن كان من أهل الجنة رأى ذلك الشر يوم القيامة ثم غفر له(

لك الشر الذي يراه المؤمن مجسما وهذه الرواية تدل على الغرض التربوي من ذ

بعينيه، وهو ما يجعله يندم على فعله، ويستغفر، وبذلك يستحق المغفرة بفضل الله،

لكفاية ذلك في إصالحه.

تي وقودها الناس ﴿ـ قوله تعالى: 3 قوا النار ال فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فات

ذين آمنوا قوا أنفسكم ﴿، وقوله: [24]البقرة: ﴾ت للكافرين والحجارة أعد ها ال ياأي

ا وقودها الناس والحجارة عليها مالئكة غالظ شداد ال يعصون ما أمرهم اللهوأهليكم نارا

ذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ﴿، وقوله: [3ريم: ]التح ﴾ويفعلون ما يؤمرون إن ال

إنكم وما ﴿، وقوله: [10]آل عمران: ﴾شيئاا وأولئك هم وقود النار اللهوال أوالدهم من

[14]األنبياء: ﴾دون حصب جهنم أنتم لها وار اللهتعبدون من دون

العصاة واألصنام واألوثان )الحجارة( وقوداا لنار تعتبر الكريمة فهذه اآليات

..31: 4الكافي (1)

..434: 2تفسير القمى (2)

133

والوقود ما تشعل به النار، فيصير وجود اإلنسان واألصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج جهنم،

به نار الجحيم.

يئة فكبت وجوه ﴿ـ قوله تعالى: 3 هم في النار هل تجزون إال ما ومن جاء بالس

فاليوم ال تظلم نفس شيئاا وال تجزون إال ما كنتم ﴿، وقوله: [10]النمل: ﴾كنتم تعملون

كم لذائقو العذاب األليم ) ﴿، وقوله: [24]يس: ﴾تعملون زون إال ما كنتم ( وما تج 34إن

الجزاء هو نفس العمل ، فاآليات الكريمة واضحة في أن [31، 34]الصافات: ﴾تعملون

فبظهوره حسب النشأة األخرى يجزى به اإلنسان من صالح ؛وليس شيئاا وراء العمل

وطالح.

عنك غطاءك فبصرك اليوم لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا ﴿ـ قوله تعالى: 4

على أن اإلنسان كان في غفلة من يوم الوعيد، وان الكريمة تدل فاآلية ، [22]ق: ﴾حديد

هذه الحقيقة كانت مستورة عن اإلنسان في هذه النشأة وأن لكل نفس سائقاا وشهيداا،

.هويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرى ما خفي عليه ويتذكر

ب ـ األدلة العقلية على تجسم األعمال:

وقف المتكلمون من األدلة النصية السابقة موقفين: موقف يرى أنها على ظاهرها،

احتراما لظاهرها، ولعدم امتناع ذلك عقال، وموقف يرى تأويلها، بناء على تصوره

الستحالة ذلك عقال.

تاج أوال إلى التعرف على ولذلك فإن مناقشة هذه المسألة من الناحية العقلية، يح

أدلة المنكرين لها، لنرى مدى وجاهتها.

القول باستحالة انقالب الجوهر ): في قوله المجلسيوقد لخص هذه األدلة

عرضاا، والعرض جوهراا في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة اآلخرة قريب من

ا ال وتخلل الموت واإلحياء بينهم السفسطة، إذ النشأة اآلخرة ليست إال مثل تلك النشأة،

134

يصلح أن يصير منشأ ألمثال ذلك، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما

يظهر في النوم إنما يظهر في الوجود العلمي، وما يظهر في الخارج فإنما يظهر بالوجود

ان فهما من النشأت العيني، وال استبعاد كثيراا في اختالف الحقائق بحسب الوجودين، وأما

الوجود العيني وال اختالف بينهما إال بما ذكرنا، وقد عرفت أنه ال يصلح الختالف

(الحكم العقلي في ذلك

ات وأما اآليثم ذكر كيفية التعامل مع النصوص التي تشير إلى ذلك، بقوله: )

اء هذه باز واألخبار فهي غير صريحة في ذلك، إذ يمكن حملها على أن الله تعالى يخلق

تلك أو هي جزاؤها، ومثل هذا المجاز شائع، وبهذا الوجه وقع التصريح في كثير من

(1)(األخبار واآليات

وقد رد على هذا القائلون بتجسم األعمال بأدلة كثيرة خصت بالتأليف منها رسالة

[، قال في مقدمتها: رسالة تجسم األعمالبعنوان ] محمد إسماعيل الخواجوئيكتبها

هذه رسالة وجيزة في ترجيح القول بتجوهر األعراض، وتجسد األعمال، مبنية على )

مقدمة وفصول أربعة، نذكر فيها ما كان حاضرا للبال، وما سيحضره في تضاعيف البحث،

(2)(بفيض من يفيض العلوم واإلفضال

وقد أورد فيها باإلضافة إلى النصوص المقدسة، وما يؤديها من الروايات

خبار، الكثير من األدلة العقلية، إما منفصلة أو كإجابة على اإلشكاالت المطروحة.واأل

: )كل ما قرع سمعك من الغرائب من قولهعن ابن سينا هنقلومن ردوده فيها ما

يم وتجس، وقد علق عليه بقوله: )فذره في بقعة اإلمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان(

فقد ،إال أنه لم يرد عنه قائم البرهان، فهو في بقعة اإلمكاناألعراض وإن كان من الغرائب

.221 / 3 :بحار األنوار (1)

.42رسالة تجسم األعمال، ص (2)

131

القادر صالحة إليجاد كل ممكن، وأن نسبة الكائنات بأسرها إلى قدرته اللهتقرر أن قدرة

نسبة واحدة، ففي الحقيقة ال غرابة فيه فضال عن االمتناع، فلما كان ممكنا وأخبر سبحانه

وجب اإليمان به، والتصديقـ من اآليات والروايات الواردة على ما في كثيرـ به الصادق

بصدقه، وترك تأويل ما دل ظاهرا على جوازه بل وقوعه، فان تأويل الظاهر إنما يجوز إذا

(1)( دل على خالفه القاطع، وهنا ليس كذلك

وهكذا نقل عمن أطلق عليهم محققي الحكماء، بعض النصوص في ذلك، باعتبار

ان غير مقبول عقال ما قبله الكثير من الحكماء، ومن تلك النصوص ما نقله عن أنه لو ك

اعلم أنك ستعارض بأفكارك وأقوالك وأفعالك، وسيظهر من كل ): من قولهفيثاغورس

حركة فكرية أو قولية أو فعلية صور روحانية وجسمانية، فإن كانت الحركة غضبية شهوية

صارت مادة شيطان يؤذيك في حياتك، ويحجبك عن مالقاة النور بعد وفاتك. وإن كانت

في دنياك، وتهتدي بنوره في أخراك إلى جوار الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته

(2)(وكرامته. وأمثال هذا مما يدل على تجسد األعمال في كالمه كثيرة الله

، [المبدأ والمعادفي كتابه ]صدر المتألهين ومن الردود على تلك الشبه ما أورده

ي الحكمةوالذي حاول أن يقرب المسألة للعقول بطرق مختلفة، اعتمد فيها منهجه ف

كما أن كل صفة تغلب على باطن اإلنسان في الدنيا وتستولي على المتعالية، منها قوله: )

نفسه بحيث تصير ملكة لها، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه

صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة، وربما بلغ ضرب من القسم األول حد اللزوم،

ثاني حد االمتناع، ألجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم وضرب من القسم ال

دار االكتساب والتحصيل قلما تصل األفعال المنسوبة إلى اإلنسان الموسومة بكونها

.41رسالة تجسم األعمال، ص: (1)

المرجع السابق. (2)

130

باالختيار في شيء من طرفيها حد اللزوم واالمتناع بالقياس إلى قدرة اإلنسان وإرادته

لنفس متعلقة بمادة بدنية قابلة لالنفعاالت دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون ا

واالنقالبات من حالة إلى حالة، فالشقي ربما يصير باالكتساب سعيداا وبالعكس، بخالف

ا ال ﴿اآلخرة فانها ليست دار االكتساب والتحصيل، كما أشير إليه بقوله تعالى: ينفع نفسا

ا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [، وكل صفة 124]األنعام: ﴾أو كسبت في إيمانها خيرا

ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار اآلخرة صارت كأنها لزمتها بقيت في النفس

ناسبها في عالم اآلخرة واألفعال واآلثار تولزمت لها اآلثار واألفعال الناشئة منها بصورة

ي الدنيا، وربما تخلفت عنها ألجل العوائق التي كانت تلك الصفات مصادر لها ف

والصوارف الجسمانية االتفاقية، ألن الدنيا دار تعارض األضداد وتزاحم المتمانعات

بخالف اآلخرة لكونها دار الجمع واالتفاق ال تزاحم وال تضاد فيها، واألسباب هناك

فة يصلح أثر الص أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية فكلما

النفسانية لم يتخلف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف

عنه، إذ ال سلطنة هناك للعلل العرضية واألسباب االتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك لله

(1)(الواحد القهار

ب شدة الغض ن من طبيعة اإلنسان، عبر عنه بقوله: )إضرب مثاالا ولتقريب ذلك

في رجل توجب ثوران دمه، واحمرار وجهه، وحرارة جسده، واحتراق مواده، على أن

الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح اإلنساني وملكوته والحركة والحمرة

والحرارة واالحتراق من صفات األجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض

ية في هذا العالم، فال عجب من أن يكون سورة هذه الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسان

.341المبدأ والمعاد: (1)

131

الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة األخرى نار جهنم التي تطلع على األفئدة فاحترقت

صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر

ح المنظر ربما يؤدي إلى عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب األعضاء وقب

الضرب الشديد والقتل لغيره بل لنفسه، وربما يموت غيظاا فإذا تأمل أحد في استتباع هذه

الصفة المذمومة لتلك اآلثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات واالعتقادات

كذا حال المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم اآلخرة من النيران وغيرها، و

أضدادها من حسنات األخالق واالعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من

(1)الجنات والرضوان والوجوه الحسان(

إن الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من وضرب مثاال آخر من الطبيعة، فقال: )

عل فعله ومتى فالرطوبة في جسم اآلخر قبل الجسم المنفعل الرطوبة فصار رطباا مثله،

الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك

الجسم الرطب، لم يقبل األثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباا بل يقبل شيئاا

ةآخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوب

أو حضرتها في ذاتها شيئاا آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي، ولها ظهور آخر

عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية، فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة

لصفة واحدة، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أخرى شيئاا آخر، وفي

هذه الثالثة حكاية لآلخرين، ألن الماهية واحدة والوجودات جوهر شيئاا آخر وكل من

متخالفة، وهذا القدر يكفي المستبصر ألن يؤمن بجميع ما وعد الله ورسوله أو توعد عليه

في لسان الشرع من الصور األخروية المرتبة على االعتقادات الحقة أو الباطلة أو

..343المبدأ والمعاد: (1)

132

آلالم إن لم يكن من أهل المكاشفة للذات وا األخالق الحسنة والقبيحة المستتبعة

(1) والمشاهدة(

وما ذكره صدر المتألهين وغيره في هذا المجال أصبح أكثر وضوحا في عصرنا

هذا بسبب القوانين العلمية المرتبطة بالمادة، وتحولها إلى طاقة، أو العكس.. باإلضافة

الطاقة المادة والبريطانية: )إلى تحول الطاقة إلى أشكال مختلفة، وقد ورد في الموسوعة

مظهران لحقيقة واحدة، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة، وربما تتبدل المادة في

ظروف خاصة إلى الطاقة، فتكون الطاقة وجوداا منبسطاا للمادة، كتبدل مادة الغذاء الذي

فهوم حفظ معتبر . وييتناوله اإلنسان إلى حركة، وكتبدل وقود الحافالت إلى طاقة حركية.

ن أالطاقة أحد المفاهيم األساسية الذي يكون حاكماا على كافة الظواهر الطبيعية، بمعنى

كافة التفاعالت والتحوالت التي تحدث في عالم الطبيعة ال تخرج عن هذا اإلطار العام

، وهذه ةفالطاقة يمكن أن تتبدل إلى أنواع مختلف ن عموم الطاقة ال يتغير فيها أبداا.أوهو

(2)(األنواع تشمل الطاقة الحركية، الحرارية، الكهربائية، الكيميائية، والنووية

وقد حاول السبحاني أن يربط بين تجسم األعمال، وما ذكره العلم حول المادة

ـ سواء كان طاعة أو معصية ـ يعد جزءاا من عالم والطاقة، فقال: ) كل عمل يقوم به اإلنسان

حقيقة إال تبدل جزء ضئيل من المادة إلى طاقة حركية، فتعود حقيقة العمل المادة وليس له

(3)(في اإلنسان إلى تبدل المادة إلى طاقة

تجسم األعمال يبتني على قواعد أربع:ثم فسر ذلك بأن

هو تبديل المادة إلى طاقة.، و. حقيقة العمل1

.341المرجع السابق، (1)

.414/ 3دائرة المعارف البريطانية: (2)

.4/343مفاهيم القرآن، (3)

133

. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة ال تتغير.2

مادة والطاقة حقيقتها واحدة.. ال3

. كما أن المادة تتبدل إلى الطاقة فهكذا تتبدل الطاقة في ظروف خاصة إلى 4

المادة.

تجسم األعمال الذي ترجع حقيقته إلى تبدل نستنتج أن )ذه المقدمات وبناء على ه

ه سيحقق هذ الطاقة إلى المادة أمر ممكن وإن لم يكن واقعاا في عالم الطبيعة، ولعل العلم

(1) (األمنية

باإلضافة إلى ما ذكره السبحاني وغيره، يمكن تقريب المسألة بما نراه اآلن في

عصرنا من تحويل الصوت أو الصورة إلى هيئة رقمية، يمكن تحويلها إلى مجسمات إذا

ما وضعت القوانين الخاصة بذلك..

م األعمال، أما ما وبذلك تزول كل تلك اإلشكاالت التي يذكرها النافون لتجس

عداها من اإلشكاالت، وهي تعارض التجسم مع نصوص أخرى، فقد ذكرها السبحاني،

وأجاب عليها، وأهمها هذان االعتراضان:

على أن الجزاء يوم القيامة أمر جعلي أشبه : ما ورد من النصوص التي تدل األول

ء أمراا خارجاا عن نطاق على ذلك يكون الجزاوبمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين،

عمل اإلنسان بل مفروضاا عليه من الخارج.

وقد أجاب عليه بأن الجمع بين النصوص المقدسة يقتضي ذلك، باإلضافة إلى أنه

ال مانع من أن يكون هناك نعمة ونقمة من خالل تجسم األعمال وتمثلها، وجنة ونار )

ول أمر تكويني يالزم وجود اإلنسان، خارجين عن إطار عمل اإلنسان وفعله، فالجزاء األ

.4/343المرجع السابق، (1)

134

(1) (والثاني أمر جعلي مفروض عليه حسب ما اكتسب من الحسنات والسيئات

إذا كانت الصور المثالية أمراا تكوينياا من لوازم : ما ورد من الشفاعة، ذلك أنه الثاني

وجود اإلنسان بحيث ال ينفك عن وجوده مهما نزل أو سكن، فما معنى الشفاعة التي

تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده؟

ن الملكات المكتسبة وإن كانت خالقة للصور وقد أجاب عليه السبحاني، بـ )أ

يلة كانت أو قبيحة شاء أم أبى، لكن ثمة مرتبة من الشفاعة تؤثر في صميم المثالية جم

اإلنسان وذاته بنحو تؤثر على ملكاته السيئة وليس تأثير الشفيع في ملكات المشفوع له

عند االعجاز في عالم الكون حيث يعود ـ بفضل دعائه ـ بأصعب من تأثير دعاء النبي

قيم صحيحاا، فكما ان دعاء النبي وإرادته تؤثر في الميت حياا واألعمى بصيراا والس

في اآلخرة تؤثر في الملكات السيئة وتقلبها التكوين، فهكذا الحال في شفاعة النبي

ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه الدنيا واستغفاره قبل الموت حيث إنه ، رأساا على عقب

الصور تأثير الملكات فيذلك فإن .. وبيؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبها إلى غيرها

المثالية يتم على نحو المقتضي ال العلة التامة، فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإال فال،

(2) (وبذلك يمكن الجمع بين القول بالشفاعة وتجسم األعمال

ـ نماذج من صور النعيم والعذاب في البرزخ وأسبابها: 4

الشديد في مراتب المنعمين والمعذبين، وهيئات بناء على ما سبق من االختالف

األعمال التي تظهر لهم، فيتنعمون بها أو يعذبون، وبناء على عدم إمكانية حصر ذلك،

ألن لكل شخص عالمه الخاص به، والذي شكله بنفسه طيلة حياته، فإنا نكتفي هنا بذكر

د ة، والتي لم يقصبعض النماذج عن صور النعيم والعذاب الواردة في النصوص المقدس

.4/344المرجع السابق، (1)

.4/341مفاهيم القرآن، (2)

132

منها الحصر، وإنما قصد منها التنبيه، والعاقل هو الذي ال يكتفي بالمذكور، وإنما يعبر

منه لغير المذكور، ألن ما لم يذكر قد ال يكون أقل خطرا مما ذكر.

فمن األمثلة والنماذج على ذلك ما ورد تلك الموعظة التي قدمها رسول الله

لألمة من خالل وصفه لبعض ما يحصل في ذلك العالم، ففي الحديث أن رسول الله

رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى األرض المقدسة، فإذا رجل قال: )

جالس، ورجل قائم بيده كلوب من حديد )الحديدة التي يؤخذ بها اللحم ويعلق(، يدخل

ب فمه( حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه اآلخر مثل ذلك، ذلك الكلوب في شدقه )جان

ويلتئم )يشفى( شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قاال: انطلق، فانطلقنا حتى

أو ـأتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر )بحجر ملء الكف(

)تدحرج( الحجر، فانطلق إليه فيشدخ )يكسر( به رأسه، فإذا ضربه تدهده ـصخرة

ليأخذه، فال يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه، قلت:

ر، أعاله ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته من هذا؟ قاال: انطلق، فانطلقنا إلى ثقب مثل التنو

ا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال نارا

ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قاال: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل

قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في

النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء

ج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قاال: انطلق، فانطلقنا حتى ليخر

انتهينا إلى روضة خضراء، فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب

ا لم أر قط أحسن من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة، وأدخالني دارا

شباب، ونساء، وصبيان، ثم أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة، منها، فيها رجال شيوخ و

133

ا هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب (1)(فأدخالني دارا

هذه المشاهد التي رآها، ومأل القلوب شوقا لمعرفة وبعد أن ذكر رسول الله

أسرارها، راح يوضح ذلك، ويبينه، ليربي أمته من خالله، فقد قال مخبرا عن تفسير

أما الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى المالئكة لما رآه: )

ه القرآن، رأسه، فرجل علمه الل تبلغ اآلفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ

فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثقب

فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكلو الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه

النار، والدار األولى السالم، والصبيان حوله فأوالد الناس، والذي يوقد النار مالك خازن

(2) التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء(

من ضغطة القبر، والتي وقع الخالف في ومن األمثلة على ذلك ما أخبر عنه

شمولها أو عدم شمولها، الختالف الروايات الواردة في ذلك.

:سعد بن معاذعند وفاة فمن الروايات الواردة في شمولها للناس جميعا، قوله

)هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاا من المالئكة،

(3) لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه(

: )إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياا منها نجا سعد بن حينها قال وروي عنه أنه

لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضم ضمة، )لو نجا أحد من ضمة القبر، ، وفي رواية: (4) معاذ(

(2) ثم رخي عنه(

.1343رواه البخاري حديث: (1)

.1343رواه البخاري حديث: (2)

(2340( )10/ 3(، والطبراني )100/ 4رواه النسائي ) (3)

(313( )324/ 1(، والبيهقي في )شعب اإليمان( )24303( )14/ 3رواه أحمد) (4)

(3213( )341/ 3(، وفي )المعجم األوسط( )10441( )334/ 10رواه الطبراني في )المعجم الكبير( ) (2)

133

قال: )لو أفلت أن الرسول بل روي أنه ال ينجو منها حتى الصبية، ففي الحديث

(1) أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي(

بو بكر الدمياطي وبناء على هذا نص أكثر العلماء على هذا الشمول، فقد قال أ

وقد قال ،)صرحت الروايات واآلثار بأن ضمة القبر عامة للصالح وغيره :الشافعي

الشهاب ابن حجر: قد جاءت األحاديث الكثيرة بضمة القبر، وأنه الينجو منها صالح وال

(2)غيره(

بل إن بعضهم راح يروي ما يخفف تلك الضغطة، ويبين علتها، فقد روى صاحب

: )ياعائشة إن ضغطة القبر على المؤمن قال لعائشة [ أن رسول الله السيرة الحلبية]

كضمة األم الشفيقة يديها على رأس ابنها، يشكو إليها الصداع ! وضرب منكر ونكير عليه

كالكحل في العين! ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكافرين أولئك الذين يضغطون في

(3)قبورهم ضغطاا يقبض على الصخر(

كان يقال أن ضمة القبر إنما أصلها أنها ): قولهلتيمي عن محمد ا السيوطيوروى

أمهم، ومنها خلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رد إليها أوالدها ضمتهم ضمة الوالدة

(4)غاب عنها ولدها ثم قدم عليها(

تئم للكن ذلك ال يستقيم مع تلك الروايات التي يروونها، والتي تنص على أنه )ي

يضيق عليه قبره ، أو )(2)لقبر حتى تختلف أضالعه، فال يزال يعذب حتى يبعث(عليه ا

(، وابن 2323( )143/ 3(، وفي )المعجم األوسط( )3421( )121/ 4رواه الطبراني في )المعجم الكبير( ) (1)

(322/ 2عدي في )الكامل( )

(2/134إعانة الطالبين ) (2)

.2/333السيرة الحلبية: (3)

(4/103شرح النسائي) (4)

(3/232معالم التنزيل للبغوي ) (2)

134

حتى تختلف أضالعه ويسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناا، لكل تنين سبعة رؤوس

(1)تنهشه وتخدش لحمه حتى يبعث.ولو أن تنيناا منها ينفخ في األرض لم تنبت زرعاا(

بولها، لو أنها ربطت األمر باألعمال، وموازين وكل هذه الروايات كان يمكن ق

العدالة المرتبطة بها، أما تعميمها، لتشمل الجميع حتى الصبية الصغار، فإنا نرى اختالفها

مع القرآن الكريم، بل مع األحاديث النبوية التي تصور المؤمن ممتلئا بالسعادة منذ

لتبشير ف به، وتبشره؛ فال يستقيم االلحظة األولى التي يرى فيها مالئكة الموت، وهي تطو

مع ذلك العذاب الذي ينتظره، إال إذا كان له من األعمال ما يستوجب ذلك.

الضغطة بالتقصير فيالصادق وهذا ما ذهب إليه أئمة أهل البيت، فقد علل اإلمام

ضغطة القبر للمؤمن، كفارة لما كان ): أنه قال رسول الله شكر النعم، فقد روى عن

.(2)من تضييع النعم(منه

ه منها، نعوذ بالل)أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال: وروي أنه سئل عنها، فقيل له:

، وهذا يدل على أن هناك من يفلت منها، وأن األمر (3)ما أقل من يفلت من ضغطة القبر(

مرتبط بالعمل.

عنه ف ،وروي عنه التصريح بنجاة المؤمنين الصادقين منها، لعدم استحقاقهم لها

خرجت روحه ،فإذا أدرج في أكفانه ووضع على سريرهقال ـ يصف موت المؤمن ـ: )

اه أرواح المؤمنين يسلمون عليه ويبشرونه بما أعد الله .تمشي بين أيدي القوم قدماا وتلق

،لمثم يسأل عما يع ،فإذا وضع في قبره رد إليه الروح إلى وركيه .له جل ثناؤه من النعيم

نورها فيدخل عليه من فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله

(3/232تفسير الثعلبي ) (1)

(1/301علل الشرائع) (2)

(3/233الكافي ) (3)

131

هيهات )جعلت فداك فأين ضغطة القبر؟ فقال: (، فقيل له: وضوئها وبردها وطيب ريحها

ما على المؤمنين منها شئ، والله إن هذه األرض لتفتخر على هذه فتقول: وطأ على

ؤمن، وتقول له األرض:والله لقد كنت أحبك وأنت يطأ على ظهرك م ظهري مؤمن ولم

(1)تمشي على ظهري، فأما إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فيفسح له مد بصره(

وبناء على هذا، فإن كل ما ورد في النصوص المقدسة يدل على ارتباط كل جزاء

ينة أعمال مع أو عقوبة باألعمال التي تناسبها، بل ورد فيها ما يدل على إمكانية ممارسة

في الدنيا، لتجنب أنواع معينة من العذاب، وهذا ما يدل على البعد التربوي للعقائد

اإلسالمية، وأثرها في تقويم السلوك.

ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الروايات التي تذكر إمكانية تجنب ضغطة القبر،

أكثر جدوى، باإلضافة واألعمال المرتبطة بذلك، وهو ما يجعل من القول بعدم شمولها

لكونها أقرب لعدالة الله ورحمته بعباده.

بناء على هذا سنذكر هنا بعض النماذج الواردة في األحاديث والروايات، عن أنواع

.النعيم والعذاب الموجودة بالبرزخ مع ذكر أسبابها

أ ـ نماذج من صور النعيم وأسبابها:

الصالحة التي يراها المؤمن في البرزخ على بناء على أنه ال يمكن حصر األعمال

هيئة نعيم ولذات وسعادة، فإن األحاديث ذكرت بعض ذلك، ال من باب الحصر ـ كما

ذكرنا ـ وإنما من باب التنبيه إلى أهمية كل عمل صالح، ودوره في إسعاد المؤمن، وإبعاد

كل أسباب الشقاء عنه.

المؤمن، وكيف تدافع عنه في وصف حال الميت ومن تلك األحاديث قوله

(3/130الكافي ) (1)

140

إن الميت يسمع خفق أعماله الصالحة، وهو ما يدل على تجسمها في صور حسية يراها: )

نعالهم إذا ولوا مدبرين، فإن كان مؤمنا كانت الصالة عند رأسه، وكان الصوم عن يمينه،

وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصالة والصلة والمعروف

اإلحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصالة: ما قبلي مدخل، و

ويؤتى من عن يمينه، فيقول الصوم ما قبلي مدخل، ويؤتى من عن يساره فتقول الزكاة ما

قبلي مدخل، ويؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات ما قبلي مدخل، فيقال له: اقعد

دنت للغروب فيقال له ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيقعد، وتمثل له الشمس قد

فيكم، وما تشهد به؟ فيقول: دعوني أصلي، فيقولون: إنك ستفعل ولكن أخبرنا عما

نسألك عنه قال: وعم تسألوني عنه؟ فيقولون: أخبرنا عما نسألك عنه، فيقول: دعوني

وعم تسألوني؟ أصلي. فيقولون: إنك ستفعل ولكن أخبرنا عما نسألك عنه، قال:

فيقولون: أخبرنا ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به عليه؟ فيقول:

محمدا، أشهد أنه عبد الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت،

وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من قبل النار فيقال له:

زلك وإلى ما أعد الله لك، لو عصيت فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب انظر إلى من

(1)(من قبل الجنة فيقال له: انظر إلى منزلك، وإلى ما أعد الله لك فيزداد غبطة وسرورا

وورد في بعض الروايات ما تقوله تلك األعمال الصالحة في الدفاع عن المؤمن

إذا مات العبد الصالح فوضع في قبره أتي ي تذكر أنه )الذي قام بها، ومنها هذه الرواية الت

بفراش من الجنة، وقيل له: نم هنيئاا لك قرة العين، فرضي الله عنك، قال ويفسح له في

قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى حسنها ويجد ريحها وتحتوشه أعماله

(232/ 1المستدرك على الصحيحين للحاكم ) (1)

141

م ناك واظمأناك وأسهرناك فنحن اليوالصالحة: الصيام، والصالة، والبر، فتقول له: أنصب

(1) (بحيث تحب، نحن أنساؤك حتى تصير إلى منزلك من الجنة

إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة وفي رواية أخرى: )

الصالة والصيام والحج والجهاد والصدقة، قال: وتجيء مالئكة العذاب من قبل رجليه

ول قال: فيأتون من قبل رأسه فيق ،فقد أطال القيام لله عليهما فتقول الصالة: إليكم عنه

الصيام: ال سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله تعالى في الدنيا، قال فيأتون من قبل جسده

فيقول الجهاد والحج: إليكم عنه فقد أنصب نفسه، وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز

كم يديه فتقول الصدقة: كفوا عن صاحبي ف وجل ال سبيل لكم عليه، قال: فيأتون من قبل

من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله عز وجل ابتغاء وجهه فال

سبيل لكم عليه، فيقال: هنيئاا طيباا حياا وميتاا، قال: ويأتيه مالئكة الرحمة فتفرشه فراشاا من

تضيء بقنديل من الجنة فيس الجنة ودثاراا من الجنة ويفسح له في قبره مد البصر، ويؤتى

(2) (بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره

وهكذا ورد في األحاديث والروايات أن لسور بعينها تأثير خاص في الوقاية من

عذاب القبر، وهذا يدل على أن لكل سورة قرآنية آثارها الخاصة التي يجدها المؤمن يوم

القرآن ثالثون آية شفعت لرجل حتى غفر له إن سورة من)قال: أنه عن النبي القيامة، ف

(3)(وهي سورة تبارك الذي بيده الملك

من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة ): بقولهعبد الله بن مسعود وقد فسر ذلك

نسميها المانعة، وإنها في كتاب منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله

(31نقال عن: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، البن رجب، )ص: (1)

(31نقال عن: المرجع السابق، )ص: (2)

(3343( وابن ماجه )1400( وأبو داود )2411رواه الترمذي ) (3)

142

(1)(في كل ليلة فقد أكثر وأطابالله سورة من قرأ بها

ومثل ذلك ما ورد في فضل قراءة سورتي البقرة وآل عمران، ودورهما في الدفاع

)اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا ألصحابه، اقرءوا : عن المهتم بهما، قال

ما ان، أو كأنهالزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامت

غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة،

(2)فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، وال تستطيعها البطلة(

وهكذا نرى األحاديث الكثيرة التي تصور النعيم العظيم الذي يناله المؤمنون

ردة في ذلك، والتي تصور بعض النعيم الذي بسبب أعمالهم الصالحة، ومن الروايات الوا

)يفتح لولي الله من منزله منيعيشونه طيلة فترة البرزخ، ما حدث به اإلمام علي قال:

الجنة إلى قبره تسعة وتسعون باباا، يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذتها ونورها

اعة يا رب عجل علي قيام السفيقول: ، إلى يوم القيامة، فليس شئ أحب إليه من لقاء الله

حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فإذا كانت صيحة القيامة خرج من قبره مستورةا عورته،

مسكنةا روعته، قد أعطي األمن واألمان، وبشر بالرضوان والروح والريحان والخيرات

جهه و الحسان، فيستقبله الملكان اللذان كانا معه في الحياة الدنيا، فينفضان التراب عن

(3)وعن رأسه وال يفارقانه، ويبشرانه ويمنيانه(

:)المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه قالاإلمام الصادق عن و

في الدنيا، فيأكلون ويشربون. فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في

(131/ 3رواه النسائي ) (1)

(404رواه مسلم ) (2)

.341المفيد في اإلختصاص/ (3)

143

(1)الدنيا..لو رأيته لقلت فالن(

صور العذاب وأسبابها:ب ـ نماذج من

بما أن البرزخ مدرسة من المدارس التربوية التي يربي الله فيها عباده، إلخراجهم

من الظلمات إلى النور، وتهذيب نفوسهم لتصلح للدخول للجنة التي ال يدخل إليها إال

الطيبون، فقد اهتمت النصوص المقدسة بأنواع الدروس التي تقدم في هذه المرحلة أكثر

اهتمامها بالنعيم الذي يلقاه المقيمون فيها.من

ولذلك اشتهرت مسائل البرزخ، باصطالح ]عذاب القبر[، ذلك لورود النصوص

الكثيرة التي تبين األسباب التي يتعذب بها المقيمون في هذه المرحلة.

وهي تدخل ضمن اإلنذار النبوي، وهو ال يقل أهمية عن التبشير النبوي، إن لم

فالتبشير قد يكفي فيه الحديث والحديثان، لكن اإلنذار يحتاج إلى المزيد من يكن يفوقه،

التفاصيل.

ولهذا عندما نذهب إلى الطبيب ألي علة من العلل، ال نجده يصف لنا ما يجوز

أكله، وإنما يصف لنا ما يضرنا أكله، ويحذرنا منه، ويبين العواقب التي تنجر وراء ذلك..

عندما يربط األعمال السيئة بما تستوجبه من العقوبات. وهكذا فعل الرسول

واإلنذار نفسه يتضمن تبشيرا، ذلك أن التحذير من تلك الجرائم والذنوب، يبين

أن االبتعاد عنها، يقي صاحبها من المهالك التي تعترضه، وفي ذلك أعظم بشارة، ولذلك

تجد من يؤمنك إلى أن تجد قيل: )ألن تلقى قوما يخوفونك حتى تجد األمان، خير من أن

المخافة(

وقد حاول ابن القيم في كتاب الروح أن يجمع الكثير من األحاديث من المصادر

(1/433في التهذيب) رواه الشيخ الطوسي (1)

144

إن األسباب الموجبة للعذاب في البرزخ، فقال: ) السنية، والتي ذكر فيها رسول الله

ه ذعذاب القبر أثر غضب الله تعالى وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في ه

الدار ثم لم يتب، ومات على ذلك كان له من عذاب القبر بقدر غضب الله وسخطه عليه،

وعذاب القبر هو نتيجة لمعاصي القلب، والعين، واألذن، والفم، واللسان، والبطن،

جل، والبدن كله؛ فالنمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، والفرج، واليد، والر

ما ال علم له إلى البدعة، والقائل على الله تعالى ورسوله وقاذف المحصن، والداعي

به، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم

بغير حق أو مال المعاهد، وشارب الخمر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن،

، وكاتبه، وشاهداه، والمحتال على والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا، ومعطيه

إسقاط فرائض الله تعالى، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم،

والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على اإلثم والعدوان،

، والمقدم هاوقاتل النفس التي حرم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد في

، والنائحة، والمستمع إليها، والمغنون الغناء الذي حرمه الله رأيه على سنة رسول

، والمستمع إليهم، والمطففون في الكيل والميزان، والجبارون، تعالى ورسوله

والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون، واللمازون، والطاعنون على السلف الصالح،

افين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة والذين يأتون الكهنة و المنجمين والعر

رته به لم ينزجر، الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله تعالى وذك

فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وكف عما هو فيه، والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر بها

متك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه بين الناس، والذي ال تأمنه على مالك وحر

، الناس اتقاء شره، والذي يؤخر الصالة إلى آخر وقتها وينقرها، وال يذكر الله فيها إال قليالا

وال يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، وال يحج مع قدرته على الحج، وال يؤدي ما عليه من

142

المال، من حالل أو حرام، وال الحقوق مع قدرته عليها، والذي ال يبالي بما حصل من

يصل رحمه، وال يرحم المسكين، وال األرملة، وال اليتيم، وال الحيوان البهيم، بل يزجر

اليتيم، وال يحض على طعام المسكين، ويرائي الناس بعمله؛ ليكسب مدحهم له، ويمنع

هم لفكل هؤالء وأمثا -الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه

(1)(يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغيرها وكبيرها

وسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في النصوص المقدسة من ذلك، لنرى من خاللها

دور اإليمان بالبرزخ في التربية واإلصالح.

: ولعله من أكبر أسباب العذاب في البرزخ، وإليه . الظلم والطغيان واالستبداد1

اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح : )اإلشارة بقوله

، ويوم (2)(أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم

إذا مات )ورد في الحديث: القيامة، ال يشمل الموقف فقط، بل يبدأ من الموت نفسه، كما

(3)أحدكم فقد قامت قيامته(

النار يعرضون عليها ﴿تعالى عن آل فرعون: ومن النصوص الدالة على هذا قوله

اعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ا وعشيا ويوم تقوم الس ، فهذه اآلية [43]غافر: ﴾غدو

غدوا وعشيا، ولم يملك رأنهم وفي الوقت الحالي يعرضون على النا تأخبر ةالكريم

إال أن يسلم بها، لكنه ابعد إيراده لهـ وهو من المنكرين لعذاب البرزخ ـ صبحي منصور

راح يحتال عليها بكون عذاب البرزخ مرتبطا فقط بآل فرعون، ولسنا ندري ما وجه

..101الروح البن القيم، ص (1)

(2234ح) 4/1113صحيح مسلم (2)

(، وأورده الديلمي في )مسند 33/214(، وابن عساكر في )تاريخه( )234-3/233رواه أبو نعيم في )الحلية( ) (3)

(1/242/1113الفردوس( )

143

األمثال والنماذج ليقرر الحقائق، والعاقل هو التخصيص، مع أن القرآن الكريم يعتمد

الذي يفهم الحقائق بإطالقها، ال ذلك الذي يقصرها على شواهدها.

ذي فيه يصعقون يوم ال يغني ﴿تعالى: ومنها قوله فذرهم حتى يالقوا يومهم ال

ا دون ذلك ولكن أكثرهم ال عنهم كيدهم شيئاا وال هم ينصرون و ذين ظلموا عذابا إن لل

وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، ، [43 - 42]الطور: ﴾يعلمون

وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، ألن كثيراا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو

ذلك.المراد أعم من

ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والمالئكة باسطو ﴿ومنها قوله تعالى:

لحق غير ا اللهأيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على

[13]األنعام: ﴾ه تستكبرون وكنتم عن آيات

وغيرها من اآليات الكريمة التي تتوعد الظلمة بالعذاب الشديد، وهي تنطبق على

جميع المراحل التي يمر بها اإلنسان في حياته، ابتداء من حياته الدنيا.. والتي جعل الله

ومن ﴿ما قال تعالى: فيها الكثير من أنواع العذاب للظلمة، والتي قد ال يشعر بها غيرهم، ك

ا ونحشره يوم القيامة أعمى [124]طه: ﴾أعرض عن ذكري فإن له معيشةا ضنكا

ن حولكم من األعراب منافقون ﴿ : ويشير إليه قوله تعالى:. الكفر والنفاق2 ومم

ون ومن أهل المدينة مردوا تين ثم يرد بهم مر على النفاق ال تعلمهم نحن نعلمهم سنعذ

تين( ، فقوله: [101]التوبة: ﴾إلى عذاب عظيم بهم مر يشير إلى أن أحدهما في )سنعذ

.واآلخر في البرزخ، كما ذكر ذلك المفسرونالدنيا،

ورد التصريح سابقا ما ورد من العذاب الذي يلقاه هذان الصنفان، وقد وقد رأينا

).. وأما الكافر : قوله باسم المنافق، أو المرتاب في كثير من الروايات، كما في

143

(1)والمنافق فيقال له..(

؛ كان ـ أمعاءه ـيجر قصبه في النار )عمرو بن عامر الخزاعي أنه رأى وقد ذكر

أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم ، وكان أيضا (2)السوائب(أول من سيب

يحرمه الله.

كالغيبة والنميمة وغيرها، والتي ورد فيها قوله ـ الذنوب المرتبطة باللسان: 3

،: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانهقال (،أال أخبرك بمالك ذلك كله؟)اذ بن جبل: لمع

ك ثكلت): يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: قال (،كف عليك هذا)وقال:

إال حصائد -أو قال على مناخرهم-أمك وهل يكب الناس على وجوههم

(3)(ألسنتهم؟!

ابن عباس وقد ورد في األحاديث والروايات ما يدل على ذلك، ومنها ما روي عن

ن الجيف قال من هؤالء يا نظر في النار فإذا قوم يأكلو ليلة أسري بنبي الله )قال:

جبريل؟ قال هؤالء الذين يأكلون لحوم الناس، ورأى رجال أحمر أزرق جدا قال من هذا

(4)(يا جبريل؟ قال هذا عاقر الناقة

لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس : )وفي حديث آخر، قال

ين يأكلون يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤالء يا جبريل؟ قال هؤالء الذ

(2)(لحوم الناس ويقعون في أعراضهم

:فقلت ثم مررت على نساء ورجال معلقين بثديهن: )وفي حديث آخر، قال

(1334البخاري ) (1)

(4323رواه البخاري ) (2)

[ وقال: حديث حسن صحيح..2313رواه الترمذي ]رقم: (3)

(144ح) 1/143البعث والنشور للبيهقي (4)

(4434ح) 4/231سنن أبي داود (2)

144

ويل ﴿ :-عز وجل -من هؤالء يا جبريل؟ فقال هؤالء الهمازون واللمازون وذلك قوله

(1)([1]الهمزة: ﴾لكل همزة لمزة

،إنهما ليعذبان)بقبرين فقال: ابن عباس قال: مر النبي وفي حديث آخر عن

وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان ال يستتر من البول وأما اآلخر فكان يمشي

(2)(بالنميمة

ما يحصل في البرزخ للكذابين، فعنه قال: وفي حديث آخر، يصف رسول الله

فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو )

يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: ثم

يتحول إلى الجانب اآلخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب األول، فما يفرغ من ذلك

انب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة األولى. الجانب حتى يصح ذلك الج

ثم قال عن هذا المعذب في آخر الحديث: )إنه (.. قال: قلت: سبحان الله ! ما هذان؟

(3)الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ اآلفاق(

)إن عامة عذاب القبر من: وقد أشار إليه قوله ـ الذنوب المرتبطة بالطهارة: 4

(4)فتنزهوا منه( ؛البول

)فانطلقنا فأتينا على نهر : وقد أشار إليها قوله :ـ الذنوب المرتبطة باألموال2

أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده

لحجارة احجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده

.2/2301رواه البيهقي في شعب اإليمان، (1)

(212( ومسلم )214رواه البخاري ) (2)

(3034رواه البخاري ) (3)

(3033رواه البخاري ) (4)

141

فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه

حجرا( إلى أن قال: )وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل

(1) الربا(

)والذي :في بعض مغازيه (2)حديث الرجل الذي غل الثوبفي ومنها قوله

نفسي بيده إن الشملة ]ثوب[ التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم،

(3)لتشتعل عليه نارا(

)لقد جيء بالنار، وذلكم حين في اإلخبار عن عقوبة اللصوص: ومنها قوله

رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر

فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن ،(4) نار ؛ كان يسرق الحاج بمحجنهقصبه في ال

(2)غفل عنه ذهب به(

فعن سعد بن األطول قال: ومنها ما ورد في المتهاونين في أداء ما عليهم من ديون،

مات أخي وترك ثالث مائة دينار، وترك ولدا صغارا، فأردت أن أنفق عليهم، فقال لي

)إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فاقض عنه(. قال: فذهبت فقضيت عنه، : رسول الله

ثم جئت فقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه ولم يبق إال امرأة تدعي دينارين، وليست

(3)فإنها صادقة( ،لها بينة. قال: )أعطها

في الحديث السابق: ويشير إليها قوله :باألعراضـ الذنوب المرتبطة 3

.1343يث: البخاري حد (1)

الغلول: هو أخذ الغازي شيئا من الغنيمة دون عرضه على ولي األمر لقسمته. (2)

(112( ومسلم )4234البخاري ) (3)

المحجن: عصا معوجة الرأس. (4)

(104رواه مسلم ) (2)

(2/42( وابن ماجه )13333رواه أحمد ) (3)

110

فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال )فانطلقنا

ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ]أي:

صاحوا[ قال: قلت لهما: ما هؤالء؟( وفي آخره: )وأما الرجال والنساء العراة الذين في

لزناة والزواني(.مثل بناء التنور فإنهم ا

في المتهاونين : وقد أشار إليها قوله ـ الذنوب المرتبطة بالتهاون بالعبادات 3

و وإذا ه ،)أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة: في قراءة القرآن الكريم

فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فال يرجع ،يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه

قلت :قال .ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة األولى ،إليه حتى يصح رأسه كما كان

وفيه: )والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، (، ؟سبحان الله ! ما هذان :لهما

فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار(

: )أما الرجل أخرى تذكرهم، وتذكر المتهاونين في الصالة، قال ي روايةوف

الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصالة

المكتوبة(

)بينا أنا نائم إذ أتاني : ، قال رمضانوفي حديث آخر يذكر المتهاونين في صيام

بي جبال فقاال لي: اصعد. فقلت: إني ال أطيقه. فقاال: إنا رجالن، فأخذا بضبعي، وأتيا

سنسهله لك. قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة،

فقلت: ما هذه األصوات؟ قال: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي، فإذا بقوم معلقين

: من هؤالء؟ قال: هم الذين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، قال: قلت

(1)(يفطرون قبل تحلة صومهم

(1/210،210رواه ابن حبان والحاكم ) (1)

111

فون وهم الذين يمثلونه تمثيال خاطئا، فيق: بالمسيئين للدينـ الذنوب المرتبطة 3

)رأيت ليلة أسري بي : حجابا بين الخلق والدين الصحيح، وإليهم اإلشارة بقوله

جبريل؟ فقال: الخطباء من رجاال تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤالء يا

(1)أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفال يعقلون؟!(

)أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما وفي رواية:

قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤالء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما ال يفعلون،

(2)كتاب الله وال يعملون به(ويقرءون

ثالثا ـ البرزخ والصلة بالحياة الدنيا:

بما أن البرزخ محل من محال الجزاء اإللهي، والذي يرتبط بأسماء الله الحسنى،

فإن من تجلياته التعامل مع أهله بحسب أعمالهم، ومواقفهم، وما في قلوبهم، وذلك ما

والتي ن المختلفين، وتأباه كذلك ربانية الله،تقتضيه عدالة الله التي تأبى التسوية بي

تقتضي أن يتعامل مع كل خطيئة بما يناسبها من أساليب التربية.

وبما أن أهم المواقف التي طولب المؤمنون بها، الموقف من الحياة الدنيا، وعدم

ار داالستغراق فيها، وعدم تبديلها بالدار اآلخرة، بل طولبوا بأن يعتبروها دار ممر، ال

ها يمقر، ودار فناء، ال دار خلود، ودارا لزراعة العمل الصالح، ال لالنشغال عنه بما وضع ف

من متاع وزينة.

فإن تلك المواقف تبرز في اآلخرة بأنواع التواصل واالنقطاع بناء على هذا كله،

ن يمع هذه الحياة، فالنصوص المقدسة تشير، بل تؤكد على أن الزاهدين في الدنيا، الراغب

في الله، لن تنقطع صلتهم بالحياة الدنيا، وال بأهلها، وال بالتأثير فيها، بأي وجه من وجوه

(3/120رواه أحمد ) (1)

(124رواه البيهقي في شعب اإليمان، انظر: صحيح الجامع ) (2)

112

التأثير.

بخالف أولئك الذين استغرقوا في الحياة الدنيا، واطمأنوا لها، وتصوروا أنهم

مخلدون فيها، وأنه ليس هناك حياة غيرها؛ فإن هؤالء يعاقبون باالنقطاع التام عن هذه

الحياة، وإن أتيح لهم ذلك، فهو من باب تربيتهم، حتى يعرفوا قيمة ذلك االستغراق

والحب الذي صرفهم عن الله.

وأما غيرهم من الذين خلطوا عمال صالحا وآخر سيئا، فإن صلتهم بالحياة الدنيا،

تكون بحسب أعمالهم، وزهدهم، وورعهم، ورغبتهم فيما عند الله، وقد ذكرنا أنه ال

عد درجات ذلك، ألن لكل إنسان عالمه الخاص به، والمرتبط بما قدمه من أعمال.يمكن

بناء على هذا، سنذكر في هذا المبحث ما ورد في النصوص عن صلة الموتى

بالحياة الدنيا، اتصاال وانقطاعا.

وقبل ذلك ننبه إلى ما نبهنا إليه سابقا من أن قوانين النشأة األخرى تختلف عن

لنشأة، ولذلك فقد يكون الشخص في الجنة أو في غيرها، وفي نفس الوقت قوانين هذه ا

تكون له عالقة بقبره، أو زواره، أو غيرهم.

وننبه كذلك إلى أن الجنة والنار المرتبطة بأهل البرزخ ـ كما ورد في الروايات ـ

ليست هي نفس الجنة والنار التي ال يدخلها أهلها إال بعد الحساب ونصب الموازين،

لتكون دار قرارهم.

وقد ورد في ذلك عن اإلمام الصادق أنه سئل عن قوله تعالى في حق آل فرعون:

اعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴿ ا وعشيا ويوم تقوم الس ﴾النار يعرضون عليها غدو

هم ال و ،يقولون إنها في نار الخلدفقيل له: (،ما تقول الناس فيها؟): ، فقال[43]غافر:

هذا في إنما)فكيف هذا؟ فقال: : فقيل (فهم من السعداء؟: )فقال، يعذبون فيما بين ذلك

اعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴿الدنيا، وأما في نار الخلد فهو قوله: ويوم تقوم الس

113

[43]غافر: ﴾

ه جنتان ﴿ر إلى هذا قوله تعالى عن الجنة: وهكذا يشي ﴾ولمن خاف مقام رب

، وقد روي جنة آدم عليه السالم غير جنة الخلدويشير إليه ما ورد من أن [،43]الرحمن:

فقال: )جنة من جنات الدنيا تطلع عليه فيها ،عن جنة آدمأنه سئل اإلمام الصادق عن

(1)من جنات الخلد ما خرج منها أبداا( الشمس والقمر، ولو كانت

ـ البرزخ.. والتواصل مع الحياة الدنيا: 1

ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على دوام الصلة بين المؤمنين في البرزخ،

وال وإخوانهم من المؤمنين في الدنيا، كما يدل على ذلك قوله تعالى عن الشهداء:

ذين قتلوا في سبيل هم يرزقون ) اللهتحسبن ال ا بل أحياء عند رب ( فرحين بما 131أمواتا

ذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أال خوف عليهم و اللهآتاهم ال من فضله ويستبشرون بال

[130، 131]آل عمران: هم يحزنون

أن: ابعث إلينا من يعلمنا أنس، قال: بعث قوم إلى النبي وورد في الحديث عن

القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجال من األنصار يقال لهم القراء وفيهم خالي حرام،

يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل، ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في

عثهم رسول بالمسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام ألهل الصفة، وللفقراء، ف

فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا أنا قد لقيناك الله

فرضيت عنا، ورضينا عنك، قال: فأتى رجل خالي حراما من خلفه فطعنه بالرمح حتى

إن إخوانكم قد قتلوا، ): أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله

(2)(بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا وقالوا: اللهم

.3/243، والكافي:2/300علل الشرائع: (1)

(3342ح) 4/432(، مستخرج أبي عوانة 142ح) 2/414الجهاد البن أبي عاصم (2)

114

جالس وأسماء بنت عميس ابن عباس قال: بينما رسول الله ومثله ما روي عن

قريبة منه إذ رد السالم، ثم قال: )يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل

كذا أنه لقي المشركين يوم كذا ووإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السالم، وقد أخبرني

بثالث أو أربع، فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي قبل ممره على رسول الله

من مقاديمي ثالثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى

فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع

وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت(، فقالت أسماء: جبريل

)هينئاا لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن ال يصدق الناس فاصعد المنبر أخبر

به(، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: )يا أيها الناس إن جعفرا مع جبريل

الله من يديه سلم علي، ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث وميكائيل، له جناحان عوضه

أن جعفر لقيهم، لقي المشركين(، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله

(1)(فلذلك سمي الطيار في الجنة

بل إن ابن القيم نفسه ـ وهو تلميذ ابن تيمية، الذي ينفي صلة األحياء بالموتى

عرف األموات زيارة األحياءيهل ]الروح[ فصال خاصا بعنوان ]وتأثيرهم ـ عقد في كتابه

ما من )أنه قال: ابن عبد البر ثبت عن النبي قال[، ومما جاء فيه قوله: )وسالمهم أم ال

مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إال رد الله عليه روحه حتى يرد

ه وفي الصحيحين عنه من وجو، ويرد عليه السالم ،هفهذا نص في أنه بعين (،عليه السالم

:فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم ،متعددة أنه أمر بقتلى بدر

فإني وجدت ما ؛يا فالن ابن فالن ويا فالن ابن فالن هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا

(232/ 1كما في مجمع الزوائد )-( ورواه الطبراني في األوسط مختصراا 212و 210 - 201/ 3رواه الحاكم ) (1)

112

:فقال ،قوام قد جيفوايا رسول الله ما تخاطب من أ :فقال له عمر ؟وعدني ربى حقا

وثبت ، (والذي بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم ال يستطيعون جوابا)

ألمته وقد شرع النبي ، أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه عنه

يكم السالم عل) :فيقول ،إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سالم من يخاطبونه

ولوال ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة ،وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل (،دار قوم مؤمنين

(1)(والجماد خطاب المعدوم

ولكن هذه الصلة ووثاقتها وتأثيرها يعتمد على الدرجة التي بلغها المؤمن بإيمانه،

ذلك أن من المؤمنين من يكتفي بذلك النعيم الذي أعد له، بسبب عمله الصالح، أو ربما

)إذا قبر الميت : يحصل له ما يشبه النوم الممتلئ بالراحة في انتظار البعث، كما قال

دهما المنكر واآلخر النكير فيقوالن: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ أتاه ملكان يقال ألح

فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن ال إله إال الله وأن محمدا عبده ورسوله،

فيقوالن قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور

أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقوالن: نم كنومة العروس الذي له فيه ثم يقال له: نم فيقول:

(2)(ال يوقظه إال أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك

أما المقربون، أو الساعون في خدمة اإلسالم، فإن الصلة بينهم وبين الحياة الدنيا

يره.دعاء وغتبقى وثيقة جدا، ذلك أنهم يراقبون كل ما يحصل، ويعينون المؤمنين بال

بناء على هذا سنذكر هنا ما يدل على كال الصلتين من خالل المصادر المقدسة،

وهي ما يخرج عالم البرزخ من كونه عالما غيبيا محضا إلى عالم له عالقة بعالم الشهادة،

وهو ما يعطي مبررا آخر السمه ]البرزخ[

(2الروح )ص: (1)

(1031رواه الترمذي ) (2)

113

أ ـ التواصل الممتد:

والذين امتألوا زهدا في الدنيا، كما امتألوا وهو التواصل الخاص بالمنعم عليهم،

حبا لله، وتضحية في سبيله، ولذلك هيأ الله تعالى لهم هذا الجزاء الذي يتناسب مع

اهتماماتهم وحرصهم؛ فهم ال يريدون النعيم الخاص بهم فقط، بل هم كذلك، وفوقه

حريصون على اإلسالم الذي عاشوا حياتهم كلها من أجله.

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ﴿هذا الصنف قوله تعالى: وقد أشار إلى

لوا تبديالا الله ، وقد [23]األحزاب: ﴾عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بد

ادقين بصدقهم اللهليجزي ﴿قال بعدها: [24حزاب: ]األ ﴾الص

ومن مقتضيات ذلك الجزاء، كما هو العادة في الكرم اإللهي، إعطاء من يجزون

ما تقتضيه رغبتهم وحاجتهم.

لرؤية المؤمنين الذين لم يكتب لهم أن يعيشوا شوق رسول الله ويشير إلى هذا

هتفي عهده، بل سماهم ]إخوانا[، وهذا يدل على أن له صلة وثيقة بهم، ال تقل عن صل

: عن أنس بن مالك قالفبأصحابه، بل إن األخوة في اللغة أكرم وأرفع درجة من الصحبة،

: أوليس ، قال: فقال أصحاب النبي (وددت أني لقيت إخواني): قال رسول الله

(1)أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني()نحن إخوانك؟ قال:

عملكم ورسوله اللهوقل اعملوا فسيرى ﴿ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى:

هادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والش

، فهذه الرؤية ال تقتصر على المؤمنين األحياء، بل تشمل غيرهم أيضا.(102)التوبة:

وهي تتجاوز الرؤية المجردة، بل إنها رؤية مؤثرة، ذلك أن أصحاب البرزخ

(2410(، والطبراني في األوسط )3310(، وأبو يعلي )12231ح) 20/34رواه أحمد (1)

113

)إن : يمكنهم أن يساهموا في خدمة األحياء عبر دعائهم، كما دل على ذلك قوله

أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من األموات، فإن كان خيراا استبشروا به، وإن

(1)هديهم كما هديتنا(كان غير ذلك قالوا: اللهم ال تمتهم حتى ت

وهذا النص يبين أن مجال التأثير مرتبط باالهتمام، فإن كان اهتمام المؤمن قاصرا

على أقاربه وعشيرته امتد تأثيره إليها فقط، وإن كان متعديا شمل كل الدائرة التي يهتم بها.

في حياة األمة ولهذا وردت األحاديث تبين مدى سعة دائرة تأثير رسول الله

جميعا، وهم لذلك يمكنهم أن يتوسلوا به أو يستغيثوا مثلما كانوا يفعلون في حياته تماما،

لم يقطع صلته بالله، بل إنه زادها، ولذلك كان اللجوء إليه لجوءا إلى وسيلة ألن موته

شرعية من أعظم الوسائل.

هم إذ ظلموا ﴿ولو ولهذا فهم كل العلماء ـ ما عدا التكفيريين ـ من قوله تعالى: أن

سول لوجدوا اللهأنفسهم جاءوك فاستغفروا ا﴾ ]الن اللهواستغفر لهم الر ا رحيما ابا ساء: تو

.شمولها لكل األزمنة، وعدم اقتصارها على زمان حياته [34

هار ل، تدل على اشتوالروايات الكثيرة حول االستدالل باآلية من لدن السلف األو

224 توفى) العتبيذلك، واعتباره، حتى أصبح معروفا لدى العامة والخاصة، وقد روى

عن محمد وغيره ـ عيينة بن سفيان عن حدثالشافعي، و وهو من مشايخفي ذلك ـ (هـ

فجاء بحذائه، وجلست فزرته بن حرب الهاللي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي

لو أنهم ﴿و فيه قال صادقاا كتاباا عليك أنزل الله إن الرسل، خير يا): قال ثم فزاره، أعرابي

سول لوجدوا اللهإذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا ا ر اللهواستغفر لهم الر ابا ا﴾ تو حيما

ذنوبي مستشفعاا فيها بك. ثم بكى وأنشأ وإني جئتك مستغفراا ربك من، [34]النساء:

(: رواه الطبراني في الكبير واألوسط.323/ 2قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) (1)

114

يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع واألكم

نفســي الفداء لقبر أنت ســاكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

.(1)ثم استغفر وانصرف

حي فقال: )ووجه االستدالل بها أنه وقد ذكر الشوكاني وجه االستدالل بها،

في قبره بعد موته كما في حديث: األنبياء أحياء في قبورهم، وقد صححه البيهقي وألف

(2)في ذلك جزءا(

واالستغفار دلت اآلية على الحث على المجيء إلى الرسول )قال السبكي: و

رتبة له ال تنقطع بموته، ة، فهي الحيا حال في ورد كان وإن وذلك لهم، واستغفاره عنده

واآلية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد . تعظيما له.

فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من اآلية العموم في

(3)(تلو هذه اآلية ويستغفر الله تعالىي أن الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره

، فقد روي عن عبد الله بن على ذلك هذه اآليةاستدلوا ببل إن فقهاء الصحابة

مسعود قال: )إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمت أن

هم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفر ا والعلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها: ﴿ ولو أن

سول لوجدوا الله ا﴾]النساء: اللهواستغفر لهم الر ا رحيما ابا ، ففرح ابن مسعود (4)[(34تو

بهذه اآلية ظاهر في أنها عامة.

أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في )مثير العزم الساكن إلى أشرف األماكن( وابن عساكر في )تاريخ دمشق( (1)

.243: 4مواهب اللدنية ، وال404: 2، مختصر تاريخ دمشق 33 - 32والقسطالني بأسانيدهم، انظر: شفاء السقام:

.102/ 3نيل األوطار (2)

..42 - 41شفاء السقام: (3)

: )رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح(31/ 3، قال الهيثمي 220/ 1معجم الطبراني (4)

111

في حياة األمة، وقد أيد ذلك بأحاديث كثيرة تشير إلى مدى تأثير رسول الله

فقال: ادع الله أن أتى إلى النبي بعد وفاته، ومنها قوله حديث الرجل الضرير الذي

: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير؟ قال: فادعه، فأمره يعافيني، فقال

أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: )اللهم إني أسألك وأتوجه

إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفعه

في(، قال الراوي: فوالله ماتفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به

.(1)ضر

وقد فهم الصحابة وكل العلماء ـ ما عدا التكفيريين ـ من الحديث شموله لحياة

عن عثمان بن ، وبعدها، حتى راوي الحديث فهم منه ذلك، فقد روي رسول الله

حنيف أن رجالا كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان ال يلتفت إليه

شكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت وال ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف ف

الميضأة ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك

نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي. وتذكر محمد

ب عثمان بنحاجتك ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى با

عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على

الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى

كان الساعة، وقال:ما كانت لك من حاجة، فاذكرها، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي

(، والنسائي في عمل اليوم والليلة )ص 133، 132/ 10(، والترمذي )تحفة 134/ 4رواه أحمد في المسند ) (1)

(، 11/ 1( والطبراني في المعجم الكبير )210/ 3( والبخاري في التاريخ الكبير )441/ 1، وابن ماجة في السنن )(413

( وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دالئل 211، 313/ 1( والحاكم في المستدرك )1241/ 2وفي الدعاء أيضاا )

(، وفي الدعوات الكبير.133/ 3النبوة )

200

جزاك الله خيراا، ما كان ينظر في حاجتي وال يلتفت إلي حتى عثمان بن حنيف فقال له:

كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته فيك، ولكني شهدت رسول الله

.(1)إلى آخر الحديث ..وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي

بأمته، ومعرفته بها، وهكذا ورد في الروايات ما يدل على عالقة رسول الله

حياتي )قال: عبد الله بن مسعود أن النبي وتواصله معها، ومن تلك األحاديث ما رواه

خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من

(2)(خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم

بأمته، وعدم اقتصارها وهذا الحديث واضح في الداللة على عالقة رسول الله

ي مسنده رواه البزار فعلى حياته الدنيوية، وقد اتفق أكثر المحدثين على تصحيحه، فقد

وقال ، (4)الحافظ نور الدين الهيثمينص على ذلك كما ، بإسناد رجاله رجال الصحيح (3)

– الدين ولي وابنه الزين –وقال الحافظان العراقيان ،(2)سنده صحيح :الحافظ السيوطي

.(3)وروى الحديث ابن سعد بإسناد حسن مرسل، (3)(جيد إسناده):

عبد الله بن الصديق الغماري جزءا حديثيا خاصا الكبير محدث قد ألف فيه الو

سماه )نهاية اآلمال في صحة وشرح حديث عرض األعمال( قرظه له شقيقه الحافظ

، وذكر فيه بتفصيل كلمات من صححوه من السيد أحمد بن الصديق الغماري الحسني

.31و 1/30المعجم الكبير للطبراني: (1)

( رجاله رجال الصحيح.1/24( قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد )1/313رواه البزار )كشف األستار (2)

(1/313كشف األستار عن زوائد البزار ) (3)

(1/24مجمع الزوائد ) (4)

(2/241الخصائص الكبرى ) (2)

(3/213طرح التثريب ) (3)

(3/401(، وانظر: فيض القدير )2/114ت )الطبقا (3)

201

جر ابن ح، والقاضي عياض، ووالقرطبي، الحافظ ابن التين، والحافظ النوويأمثال

،وولده الحافظ ولي الدين العراقي أبو زرعة ،والحافظ زين الدين العراقي، العسقالني

ض في)المناوي في ، و(مجمع الزوائد)كما في والحافظ الهيثمي ، والحافظ السيوطي

.روغيرهم كثيعبد الله بن الصديق ، والحافظ المحدث السيد أحمد الغماري، و(القدير

إن الله عز وجل إذا أراد رحمة : )باإلضافة إلى هذا، فقد أكد هذا الحديث بقوله

ذبها وإذا أراد هلكة أمة عأمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها،

(1)(ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره

قال [: )نظم المتناثر]في ذكر تواتر ذلك، فقد قال المحدث الكتاني بل إن

نباء إ]السيوطي في مرقاة الصعود: تواترت بحياة األنبياء في قبورهم األخبار، وقال في

في قبره هو وسائر األنبياء معلومة عندنا حياة النبي )ما نصه: [بحياة األنبياءاألذكياء

علما قطعيا، لما قام عندنا من األدلة في ذلك، وتواترت بها األخبار الدالة على ذلك، وقد

ألف األمام البيهقي رحمه الله تعالى جزءا في حياة األنبياء عليهم الصالة والسالم في

أن األرض ال تأكل أجساد صح عن النبي )ابن القيم في كتاب الروح: وقال (، قبورهم

اجتمع باألنبياء ليلة اإلسراء في بيت المقدس، وفي السماء خصوصا األنبياء، وأنه

ما من مسلم يسلم عليه إال رد الله عليه روحه حتى يرد عليه )بموسى، وقد أخبر بأنه:

إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت األنبياء إنما هو راجع إلى (،السالم

أن غيبوا عنا بحيث ال ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في المالئكة،

(2)(فإنهم أحياء موجودون وال نراهم

: )والذي نفس أبي هريرة قال: قال رسول الله ويدل لهذا أيضا ما رواه أبو

(2244ح) 4/1311صحيح مسلم (1)

(112)حديث رقم 132نظم المتناثر (2)

202

قاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدال، فليكسرن الصليب ويقتلن ال

الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فال يقبله أحد، ثم لئن

وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث ، قام على قبري فقال يا محمد ألجبته(

.(1) بهذه السياقة، وسلمه الذهبي صحيح اإلسناد ولم يخرجاه

، بل وهذه النصوص وغيرها، ال تدل على اقتصار هذا الجزاء على رسول الله

إنها تدل على شموله لكل ورثته الصادقين الذين عاشوا حياتهم جميعا يحملون نفس

.حرصه واهتمامه باألمة، ولذلك يتاح لهم من التأثير ما يتاح له

لى أن صلة المقربين أو غيرهم بالحياة الدنيا، ال تتنافى مع ونحب أن ننبه هنا إ

كونهم في الجنة، أو غيرها، ذلك أن ما نعرفه من كون الشخص ال يكون في مكانين في

نفس الوقت مرتبط بالحياة الدنيا، وقوانينها، أما الحياة األخرى، فلها قوانينها الخاصة

بها.

الشخص هناك في مكانين أو عدة أمكنة وقد دلت النصوص على إمكانية أن يكون

في نفس الوقت.. بل دلت على أنه يمكن أن يستمع لماليين الناس، ويرد عليهم في نفس

عن نفسه، أنه يرد السالم على من سلم عليه..وقد يكون الوقت، مثلما ذكر رسول الله

أولئك المسلمون بالماليين، وفي نفس الوقت..

بالتسليم، بل يعني أنه يمارس ذلك الدور مع وذلك ال يعني انشغال رسول الله

غيره من األدوار في نفس الوقت، مثلما تقوم أجهزتنا الحسية بالقيام بأعمالها من دون أن

يطغى بعضها على بعض، ففي وقت واحد نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا، ونشم بأنوفنا،

ا أدوارها بكل دقة من غير أن يطغى بعضها على بعض، أو ويمارس قلبنا وجميع أجهزتن

(2/212المستدرك ) (1)

203

يمنع بعضها بعضا.

أم األنبياء، وصلى بهم، وفي نفس وقد ورد في حديث اإلسراء أن رسول الله

).. وقد رأيتني في جماعة قال: الوقت رآهم في السموات، فقد روي أن رسول الله

فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال ،ىفإذا موسى عليه السالم قائم يصل ،من األنبياء

لى وإذا إبراهيم عليه السالم قائم يص ،وإذا عيسى ابن مريم عليه السالم قائم يصلي ،شنوءة

(1)(فأممتهم الصالة فحانت ـ نفسه: يعني ـأشبه الناس به صاحبكم

،فالتفت ،المسجد األقصى قام يصلي فلما دخل النبي )عن ابن عباس قال: و

(2)(ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه

ب ـ التواصل المحدود:

وهو التواصل الخاص بأهل اليمين، أو بالمؤمنين الذي لم ترق هممهم إلى همم

المقربين والمنعم عليهم، وهؤالء لهم تواصل أيضا مع أهل الحياة الدنيا، ولكنه محدود

بقدر هممهم.

وقد أقر بهذا التواصل كل العلماء بما فيهم المنكرون للتوصل المؤثر، فقد ذكر

وقد ،والسلف مجمعون على هذاابن القيم إجماع السلف على ذلك، حيث قال: )

(3) (تواترت اآلثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به

في [كتاب القبور]لدنيا في بن أبى اثم ساق أمثلة كثيرة عن ذلك منها ما رواه عن ا

قال رسول الله :عائشة قالت[، ومنها أن ما رواه عن معرفة الموتى بزيارة األحياء]باب

(132رواه مسلم ) (1)

(133/ 4رواه أحمد ) (2)

.3المرجع السابق، ص (3)

204

( :ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إال استأنس به ورد عليه حتى يقوم)(1)

! إن طريقي الله، فقال: )يا رسول ومنها ما روي أن بعضهم سأل رسول الله

قل السالم عليكم يا أهل )على الموتى، فهل من كالم أتكلم به إذا مررت عليهم؟(، فقال:

بكم اللهالقبور من المسلمين والمؤمنين، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وإنا إن شاء

يسمعون، ولكن ال يستطيعون أن )؛ يسمعون؟(، قال: اللهفقيل له: )يا رسول (،الحقون

(2)(يا أبا رزين؛ أال ترضى أن يرد عليك من المالئكة). قال: (يجيبوا

ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا )قال: وروي أنه

(3)(يسلم عليه إال عرفه ورد عليه السالم

وقف على مصعب بن عمير حين رجع من أحد، فوقف عليه وعلى وروي أنه

، فزوروهم، وسلموا عليهم، فو الذي نفسي اللهأشهد أنكم أحياء عند ) أصحابه، فقال:

(4)(بيده ال يسلم عليهم أحد إال ردوا عليه إلى يوم القيامة

ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده، إال استأنس ورد )قال: وروي أنه

(2)(عليه، حتى يقوم

رأيت عاصما الجحدرى :قالرجل من آل عاصم الجحدرى ومنها ما رواه عن

أنا والله :قال ؟فأين أنت :بلى قلت :قدمت قال أليس :في منامى بعد موته بسنتين فقلت

.3المرجع السابق، ص (1)

الصميعي(. -1233/ ترجمة: 1111/ 4في )الضعفاء( ) خرجه العقيلي (2)

قال ابن رجب: رواه ابن عبد البر، وقال عبد الحق اإلشبيلي: إسناده صحيح. يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، أهوال (3)

.41القبور وأحوال أهلها إلى النشور، ص:

( وقال: )هذا حديث صحيح على شرط الشيخين( وتعقبه الذهبي بقوله: )كذا قال؛ وأنا 244/ 2أخرجه الحاكم ) (4)

أحسبه موضوعا، وقطن لم يرويا له، وعبد األعلى لم يخرجا له(.

(41ابن أبي الدنيا في كتاب )القبور(، وكتاب )من عاش بعد الموت(، رقم ) (2)

202

في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى

هيهات :قال ؟أجسادكم أم أرواحكم :قلت :قال ،بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم

نعم :الق ؟فهل تعلمون بزيارتنا إياكم :قلت :قال األرواح،بليت االجسام وإنما تتالقى

ون فكيف ذلك د :قلت :قال ،نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس

(1) (األيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمته

البرزخ مع بين المؤمنين فيوغيرها من النصوص الكثيرة التي تبين الصلة الوثيقة

إخوانهم المؤمنين في الدنيا.

وهذه الصلة ـ كما تشير النصوص الكثيرة ـ ليست صلة عادية فقط، وإنما هي صلة

مؤثرة من الجهتين، أي أن الموتى يمكنهم أن ينفعوا األحياء، واألحياء يمكنهم أن ينفعوا

الموتى.

)إن أعمالكم تعرض على أقاربكم : أما نفع الموتى لألحياء، فيشير إليه قوله

وعشائركم من األموات، فإن كان خيراا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ال

(2)تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا(

وأما انتفاع الموتى باألحياء، فله أدلة كثيرة جدا، واختلفت األمة فيه بين من يجعله

ويمثله من يحاولون قطع صلة األحياء بالموتى، محدودا، وفي طاعات محدودة جدا،

ويؤولون كل النصوص الواردة في ذلك، وبين من يرى اتساع ذلك لكل األعمال

الصالحة.

ل هوقد أشار ابن القيم إلى األقوال الواردة في ذلك، فقال جوابا على سؤال يقول )

تنتفع من سعى الجواب أنها؟(: )تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى األحياء أم ال

.3المرجع السابق، ص (1)

(: رواه الطبراني في الكبير واألوسط..323/ 2قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) (2)

203

،األحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير

والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له ، أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته

،والصدقة والحج على نزاع ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب اإلنفاق أو ثواب العمل

،وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب اإلنفاق ،واب العمل نفسهفعند الجمهور يصل ث

واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصالة وقراءة القرآن والذكر فمذهب اإلمام أحمد

وجمهور السلف وصولها وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة نص على هذا اإلمام أحمد

لله الرجل يعمل الشيء من الخير في رواية محمد بن يحيى الكحال قال قيل ألبى عبد ا

من صالة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه ألبيه أو ألمه قال أرجو أو قال الميت يصل

إليه كل شيء من صدقة أو غيرها وقال أيضا اقرأ آية الكرسي ثالث مرات وقل هو الله

ك ال والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذل أحد وقل اللهم إن فضله ألهل المقابر

وذهب بعض أهل البدع من أهل الكالم أنه ال يصل إلى الميت شيء البتة الدعاء ، يصل

(1)(وال غيره

عه نف ،وجعل ثوابها للميت المسلم ،وأي قربة فعلها)وقال ابن قدامه رحمه الله:

فال أعلم فيه ،وأداء الواجبات ،والصدقة ،واالستغفار ،أما الدعاء ،إن شاء الله ،ذلك

(2)(إذا كانت الواجبات، مما يدخله النيابة ،خالفا

قال المحقق الحلي: )كل ما يفعله الحي من القرب يجوز أن يجعل ثوابها و

أنه قال لعمرو بن العاص: لو كان أبوك مسلماا فأعتقتم عنه للميت، لما روي عن النبي

ومن طريق األصحاب ما رواه عمر بن يزيد ، أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه، بلغه ذلك

، (نعم، حتى أنه يكون في ضيق فيوسع عليه): يصلى عن الميت؟فقال: اإلمام الصادقعن

(113الروح )ص: (1)

(2/223المغني ) (2)

203

من عمل من المسلمين عن ميت )وقال: (،خفف عنك بصالة أخيك عنك: )ويقال له

(1)(عمالا صالحاا، أضعف له أجره، ونفع الله به الميت

األدلة [ جمعذكرى الشيعة في أحكام الشريعة]الشهيد الثاني في كتابه وقد حاول

ذين جاءوا من بعدهم ﴿الكثيرة على ذلك ردا على المخالفين، ومنها قوله تعالى: وال

يمان وال تجعل ذين سبقونا باإل خواننا ال نا اغفر لنا وإل ذين آمنوا في قلوبنا غال يقولون رب لل

نا إنك رءوف رحيم واستغفر لذنبك وللمؤمنين ﴿وقوله: [،10]الحشر: ﴾رب

[ 11]محمد: ﴾والمؤمنات

قالت: إن أمي ف أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي وهكذا استدل بما روي

ي عنها، أرأيت لو )تحج حتـى ماتت، أفأحج عنهـا؟ قال: نذرت أن تحج، فلم نعـم، حج

(2)(كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء

إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت : )أن رجال قال للنبي ومثله ما روي

(3)تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: )نعم(

إن الميت يفرح بالترحم عليه واإلستغفار له، كما ): قولهاإلمام الصادق وروى عن

ه، ستة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر ل(، وعنه قال: )يفرح الحي بالهدية تهدى إليه

ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وقليب يحفره، وسنة يؤخذ بها من

مسلمين عن ميت عمالا صالحاا، أضعف له أجره ونفع الله من عمل من ال(، وقال: )بعده

(4) (عز وجل به الميت

(1/340المعتبر) (1)

(1144، حديث رقم )2/404(، ومسلم 1324، حديث رقم )2/323رواه البخاري (2)

(1004(، ومسلم )1344رواه البخاري ) (3)

(2/33ي أحكام الشريعة )الشيعة ف (4)

204

قال: ف: يصل إلى الميت الدعاء والصدقة والصالة ونحو هذا؟ وروى أنه سئل

(يكون مسخوطاا عليه، فيرضى عنه. أو يعلم من صنع ذلك به؟ قال: نعم.(، فقيل له: نعم)

والصدقة والحج والعمرة، وكل عمل إن الصالة والصوم ): وروى عنه قوله

صالح، ينفع الميت. حتى أن الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه، ويقال إن هذا بعمل

(ابنك فالن، وبعمل أخيك فالن، أخوه في الدين

سئل عن الرجل يحج ويعتمر ويصلي ويصوم أنه اإلمام الكاظم وروى عن

لته يؤجر فيما يصنع، وله أجر آخر بص ال بأس به،)ويتصدق عن والديه وذوي قرابته؟ قال:

(يخفف عنه بعض ما هو فيه)وإن كان ال يرى ما أرى وهو ناصب؟ قال: فقيل له: ،(قرابته

وهذه األحاديث والروايات تدل على مدى اتساع الرحمة اإللهية التي تجعل

ى صللميت الفرص الكثيرة التي تعوض عن كثير من التقصير الذي وقع فيه، وخاصة إن أو

بذلك، أو ترك من األوالد الصالحين من يقوم بذلك.

ـ البرزخ.. واالنقطاع عن الحياة الدنيا: 2

ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك االنقطاع الذي يعاقب به الحريصون

على الحياة الدنيا، والذين أضاعوا دينهم بسببها، ويشير إليه من القرآن الكريم قوله تعالى:

ين )كال إ ﴿ ار لفي سج ين )3ن كتاب الفج ( ويل 1( كتاب مرقوم )4( وما أدراك ما سج

بين [10 - 3]المطففين: ﴾يومئذ للمكذ

والذي فسره ذلك الحديث الذي يصف ما يحصل للظلمة والكفار عند موتهم،

وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من اآلخرة، نزل إليه : )ففيه قال

من السماء مالئكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك

الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله

ها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزع

201

فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح،

ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه األرض، فيصعدون بها، فال يمرون بها

بح الن، بأقعلى مأل من المالئكة إال قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فالن ابن ف

أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فال

: ال تفتح لهم أبواب السماء وال يدخلون الجنة حتى يلج يفتح له، ثم قرأ رسول الله

الجمل في سم الخياط، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في األرض

(1)(السفلى

في النار يعذبون )عن أرواح المشركين فقال: وعن اإلمام الصادق أنه سئل

(2)يقولون: ربنا ال تقم لنا الساعة، وال تنجز لنا ما وعدتنا، وال تلحق آخرنا بأولنا(

وكما ذكرنا سابقا، فإن هذا ال نستطيع تعميمه على كل األحوال، ألنه قد يكون من

جزاء اإللهي أن يريه من الدنيا ما يؤدب به.مقاصد العدالة والتربية وال

: )إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، قولهاإلمام الصادق وقد روي في ذلك عن

ويستر عنه ما يكره. وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب. قال: ومنهم

(3)(من يزور كل جمعة، ومنهم من يزور، على قدر عمله

)ما من مؤمن وال كافر إال وهو يأتي أهله عند زوال الشمس، فإذا رأى أهله وقال:

يعملون بالصالحات، حمد الله على ذلك، وإذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات

(4) (كانت عليه حسرة

(.14223( )243/ 4(، وأحمد )4323رواه أبو داود ) (1)

(3/242الكافي ) (2)

(3/230الكافي ) (3)

(3/231الكافي ) (4)

210

الفصل الثالث

. وتجليات العدالة.المعاد

األولى واألخرى إال من من أهم الحقائق الوجودية التي ال يمكن فهم النشأتين

خاللها ما يمكن أن نطلق عليه قانون ]البدء واإلعادة[، وهما قانونان متجليان في كل

شيء، وينطلقان من كون الله تعالى ]مبدئا معيدا[

فهذان االسمان من أسماء الله الحسنى يحالن اإلشكاالت والعقد الكثيرة

التي المبدئية البسيطة، وحقائق تلك النشأة األخرويةالمرتبطة بحقائق هذه النشأة الدنيوية

يتحقق فيها المعاد، بصورته المثالية، المستندة لتجليات األسماء الحسنى.

وعدم فهم هذين االسمين، والحقائق المرتبطة بهما، يجعل من المعاد وحقائقه

وتجلياته المختلفة مجرد مظاهر متنافرة ال شيء يجمع بينها.

ذا المفهوم لعقولنا البسيطة مع االحتفاظ بقدسية الله وتعاليه عن وحتى نبسط ه

ضرب األمثال، ومع بيان أن األمثال ال يؤخذ بها من جميع النواحي، بل يكتفى فيها

ها ن.. فرصة نسميابالجهة التي ضرب من أجلها فقط، نذكر أنه لو أعطي اإلنسان فرصت

البداية، وفرصة نسميها المعاد.

ه جيران، ويكون لبلدة بعينها، يسكن تضطره الظروف ألن األولى، ف أما في فرصته

كون له وظيفة تبنى على أساس تكوين علمي معين.. ويكون له هوى ألطعمة معينة، تو

أو غيرها، وقد يحصل له في هذه الفترة أمراض بسبب ذلك.. وقد يحصل له مشاكل

تصرفها. تبسبب تصرفا

ى.. يقال له: منحناك فرصة أخرى.. ولحياة وبعد أن تنتهي هذه الفرصة األول

جديدة، تكون فيها بكامل صحتك ووعيك وعقلك.. وأنت فيها بالخيار بين أن تعيد نفس

211

ياة السابقة، أو تبدأ حياة جديدة، ومع جميع الخيارات التي تريد.الح

فمن البديهي لكل عاقل تتاح له هذه الفرصة أن يبني حياته الجديدة، وفق الدروس

تي استفادها من حياته األولى.. فإن كان له في فرصته األولى، أو مبدئه أصدقاء خانوه، ال

وآخرون وفوا له، فإنه الشك سيختار في فرصته الثانية األصدقاء الذين وفوا له، وكانوا

متناسبين مع طبيعته..

ل شيء، كهو في وهكذا في اختياره لبيته وجيرانه ووظيفته وتخصصه الدراسي.. و

يستفيد من كل ما فاته في فرصته السابقة.ع كل قرار، وم

بل إنه يتدارك صحته قبل أن يحل به المرض الذي حل به في فرصته األولى،

ع محيطه ه يقع في مشاكل متفيتجنب كل ما يسببه، ويتجنب معه كل األسباب التي جعل

أو غيره.

ه ياته األولى، ألنوالخالصة أن حياته الثانية ستكون أكثر مثالية وجماال من ح

استطاع أن يستفيد من كل تجاربه السابقة.

، يعني وضع حياة جديدة للذين يريد [المعيد]بناء على هذا، فإن اسم الله تعالى

، تتشكل وفق رغباتهم وأهوائهم والمباني التي بنيت عليها نفوسهم، والتي إعادتهم

لهم فيها كل الفرص.أسسوها بمحض رغبتهم وحريتهم طيلة الفترة التي أتيحت

وعندما نعود للقرآن الكريم ـ بصحبة هذا المثال التقريبي ـ لتأمل ما ورد فيه حول

هذين االسمين، أو حول هذا االسم المركب، والقوانين المرتبطة به، نجد هذا المعنى

واضحا جليا.

ومن األمثلة على ذلك، ما ورد في سورة البروج، فقد ذكر فيها هذان االسمان

ه هو يبدئ ويعيد ﴿رتبطان بفعل الله تعالى، قال تعالى: م ، وكأنهما [13]البروج: ﴾إن

تعلالن سر تلك الفتنة التي حصلت للمؤمنين، والبطش الشديد الذي حل بهم من طرف

212

أولئك الطغاة المستبدين..

اع، ووكأنها تذكر بأن من مقتضيات البداية أن تكون بذلك الشكل لتتميز األن

ويختار كل صنف ما يشتهي، وبعد اإلعادة يتحقق التمييز، وينال كل صنف ما أسس عليه

شخصيته في حياته األولى.

،ولذلك يمكننا أن نقرأ هذه اآليات الكريمة، لنرى فيها العزاء اإللهي للمؤمنين

ذين فتنوا المؤمن ﴿والتحذير اإللهي للمستبدين، قال تعالى: م لم ين والمؤمنات ث إن ال

الحات 10يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) ذين آمنوا وعملوا الص ( إن ال

( 12لشديد ) ( إن بطش ربك 11لهم جنات تجري من تحتها األنهار ذلك الفوز الكبير )

ه هو يبدئ ويعيد ) ال لما 12( ذو العرش المجيد )14( وهو الغفور الودود )13إن ( فع

[13 - 10]البروج: ﴾( 13يريد )

ا وعد ﴿وهذا المعنى نراه في قوله تعالى: ا إنه اللهإليه مرجعكم جميعا يبدأ حق

ذين كفروا لهم شرا الحات بالقسط وال ذين آمنوا وعملوا الص ب الخلق ثم يعيده ليجزي ال

، فاآلية الكريمة واضحة في بيان [4]يونس: ﴾من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

اء كل شيء ما يستحقه مما يتناسب مع طبيعته.سر اإلعادة، وأنه إعط

معاد، صلح في الوانطالقا من هذا المعنى فإن كل الثغرات التي تكون في المبدأ ت

ولهذا سمى الله تعالى هذه الحياة بالحياة الدنيا، باعتبارها مجرد بداية، أو مجرد فرصة

.للجميع، ليختاروا فيها ما يتناسب مع طبائعهم

أترون هذه هينة )بشاة ميتة شائلة برجلها، فقال: مر سول الله روي أن روقد

على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت

213

(1)(الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها قطرة أبدا

عز وجل الله معرفة فضل في ما الناس يعلم )لو: ق أنه قالاإلمام الصاد وروي عن

دنياهم وكانت ونعيمها الدنيا الحياة زهرة من االعداء به الله متع ما إلى أعينهم مدوا ما

مل من تلذذ بها وتلذذوا عز وجل الله بمعرفة ولنعموا بأرجلهم، يطؤونه مما عندهم أقل

وحشة، كل من انس عز وجل الله معرفة إن ،الله أولياء مع الجنان روضات في يزل

(سقم كل من وشفاء ضعف، كل من وقوة ظلمة، كل من ونور وحدة، كل من وصاحب

(2)

وأنها مجرد دار للتمييز، ولذلك ،وقبل ذلك وصف الله تعالى الدنيا بالهوان

مبدأ، تعالى مقارنا بين الحياة الدنيا، أو حياة الكما في قوله يختلط فيها الخبيث بالطيب،

ون أجوركم يوم القيامة ﴿والحياة اآلخرة، أو حياة المعاد: ما توف كل نفس ذائقة الموت وإن

]آل عمران: ﴾نيا إال متاع الغرور فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الد

142]

وقال مخاطبا الذين تثاقلوا إلى الحياة الدنيا، جوابا على اعتراضهم الذي عبروا

رتنا إلى أجل قريب ﴿عنه بقولهم: نا لم كتبت علينا القتال لوال أخ : [33: ]النساء ﴾رب

قى وال تظلمون فتيالا قل متاع الد ﴿ [33]النساء: ﴾نيا قليل واآلخرة خير لمن ات

ار اآلخرة ﴿وقال مقارنا بين كال الحياتين: نيا إال لعب ولهو وللد وما الحياة الد

ذين يتقون أفال تعقلون ذين آمنوا ما لكم إذا قيل ﴿، وقال: [32]األنعام: ﴾خير لل ها ال ياأي

نيا من اآلخرة فما متاع اللهلكم انفروا في سبيل اقلتم إلى األرض أرضيتم بالحياة الد اث

نيا في اآلخرة إال قليل [34]التوبة: ﴾الحياة الد

(.4110ح) 2/1333سنن ابن ماجه (1)

.4/202: 343الكافي، ح (2)

214

وما ﴿بل إنه اعتبر الحياة اآلخرة هي الحياة الحقيقية، ال هذه الحياة الدنيا، فقال:

ار اآلخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون نيا إال لهو ولعب وإن الد ﴾هذه الحياة الد

[34]العنكبوت:

في المعاد، ستكون وفق الخصائص التي اكتسبها اإلنسان، أو ولهذا فإن المعاملة

تهم الحياة ﴿شكل منها طبيعته في المبدأ، قال تعالى: ا ولعباا وغر خذوا دينهم لهوا ذين ات ال

نيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا ب ]األعراف: ﴾آياتنا يجحدون الد

21]

كرت في النصوص المقدسة حول المعاد وبناء على هذا، فإن كل المواقف التي ذ

ال يقصد منها سوى تمييز األصناف بعضها على بعض، بحيث ينزل كل صنف المحل

المناسب لطبيعته.

ل يو ﴿وقد عبر هذا المعنى صدر المتألهين بقوله في تفسير قوله تعالى: م تبد

ار ه الواحد القه ماوات وبرزوا لل إن لجميع : )[44]إبراهيم: ﴾األرض غير األرض والس

وتحوالا من صورة إلى صورة حتى يقع لها ،الموجودات الطبيعية حركة جوهرية ذاتية

نشأة وتحولها إلى ،لسابقةبحسب الصورة ا ،الرجوع إلى الله بعد صيرورتها غير نفسها

ار لم تنتقل هذه الدار إلى د ،ولو كانت هذه الطبائع ثابتة الجوهرية مستمرة الهوية، أخرى

(1)(وال السماوات غير السماوات ،اآلخرة، ولم تتبدل األرض غير األرض

وهذا يعني أن اإلنسان في مرحلته األولى أتيح له أن يرى أنماطا مختلفة من الناس،

هر مختلفة من الحياة، ولكنه ـ بمحض رغبته ـ اختار نمطا معينا، وحياة معينة، ومظا

ولذلك كان من مقتضيات العدالة والرحمة اإللهية، وقوانين المبدأ والمعاد، أن يوفر له

.43أسرار اآليات، ص (1)

212

عند إعادته كل ما كان يميل إليه، ويرغب فيه.

جت ﴿ ولهذا اإلشارة بقوله تعالى: (، وقوله: 3التكوير:) ﴾وإذا النفوس زو

ذين ظلموا وأزواجهم ﴿ وإذا ألقوا منها مكاناا ﴿(، وقوله: 22)الصافات: ﴾احشروا ال

نين دعوا هنالك ثبوراا (13)الفرقان: ﴾ضيقاا مقر

نهم م فقد ورد في تفسير هذه اآليات أن المراد منه الجمع بين النظراء أو األشكال

يقرن كل رجل )في تفسير اآلية: وقد ورد في الحديث قوله ، (1)كل صنف إلى صنف

مع كل قوم كانوا يعملون كعمله(

يعني -ذلك حين يكون الناس أزواجا ثالثة، السابقون زوج :)وقال ابن عباس

وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج( -صنفا

ــا: ــكله من )وعنه أيض ــكل بش ــم المبرز في قرن كل ش أهل الجنة وأهل النار، فيض

الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله(

لو أن رجالا قام بـين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه :)وقال ابن مسعود

الله يوم القيامة مع من يحب(

يب الخبيث اللهز ليمي ﴿تعالى:وقد بينت النصوص علة هذا التفريق بقوله من الط

ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاا فيجعله في جهنم أولئك هم

( 33الخاسرون﴾ )ألنفال:

فالبشر في ذلك مثل الشوائب التي تختلط بالمعادن النفيسة، فإنها بعد عرضها على

ان يميز الذهب، فيوضع في أعناق الحسان، ويرمى بالشوائب إلى القمامات.كير االمتح

وبما أن ذلك التمييز يحتاج إلى أدوات تمييز، وموازين، ومقاييس تميز بها المعادن

.4/421انظر هذه النصوص في: الدر المنثور: (1)

213

النفيسة ومراتبها، والمعادن الخسيسة ومراتبها، وخبراء يشرفون على كل ذلك، فقد وضع

موازين ما تقتضيه العدالة اإللهية، ولو أن الله تعالى الله تعالى لدار المعاد كذلك من ال

قادر على التمييز بينهم من دون حاجة لتلك الموازين.. ولكن عدالة الله تأبى إال أن

تتعامل مع العباد وفق السنن، لتقيم الحجج عليهم.

م على والقائ، بين الخلقالعظيم التمايز وقد كان من مقتضيات تلك العدالة ذلك

التي تشكلت في الدنيا، ونوع المعدن الذي تمخضت عنه األنا، النفس صورة أساس

)الناس في اآلخرة ينقسمون أصنافاا وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في يقول الغزالي:

السعادة والشقاوة تفاوتاا ال يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها

أصالا البتة، فإن مدبر الملك والملكوت واحد ال شريك وال تفارق اآلخرة في هذا المعنى

(1) له. وسنته الصادرة عن إرادته األزلية مطردة ال تبديل لها(

لنا بعضهم على ﴿تعالى:وقد أشار إلى هذا التمايز الشديد قوله انظر كيف فض

ولتفاوتهم في الدار )( أي 21يالا﴾ )االسراء:بعض ولآلخرة أكبر درجات وأكبر تفض

اآلخرة أكبر من تفاوتهم الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسالسلها

وأغاللها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات

(يه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتونيتفاتون فيما هم ف

ز يحتاج إلى محال كثيرة للتفريق بين األصناف بعضها عن بعض، ولكن هذا التميي

وسنحاول في هذا الفصل التعرف على هذه المحال، وعالقتها بالعدل اإللهي، ذلك أن

العدل يقتضي أن يوضع كل شيء في محله المناسب، وال يجازى إال بما يستحق.

ز:ييذلك التملمحلين كبيرين وقد رأينا من خالل استقراء النصوص أن هناك

(24/ 4إحياء علوم الدين، ) (1)

213

: وهو ما ورد في النصوص الكثيرة من األهوال ا ما يطلق عليه النشر والحشرمأوله

التي يراها البشر عند قيام القيامة، لتثبت لهم من قدرة الله ما كانوا يجحدونه، ويروا

بأعينهم األدلة الحسية التي كانوا يطالبون بها.

: والتي تعرض فيها األعمال، غيرهاا الحساب والموازين والكتب والسراط وهمثاني

وتقاس بالموازين المختلفة، حتى يميز بين البشر، وفق أعمالهم، وأحوالهم، ومواقفهم،

وتوجهاتهم.

وسنشرح هذه المعاني، والنصوص المقدسة التي تدل عليها من خالل المباحث

التالية:

والحشر.. وتجليات العدالة:النشر أوال ـ

الطويلة التي يمر بها أهل البرزخ، والتي يتلقون فيها دروسا كثيرة، بعد تلك الفترة

كل حسب تخصصه، تقوم ،ومن مختلف األنواع، ومن أصناف مختلفين من المالئكة

إذا ﴿، ويفترق الناس ثالث فرق كبرى، نص عليها قوله تعالى: ةالقيامة، وتقع الواقع

ا )3( خافضة رافعة )2ا كاذبة )( ليس لوقعته 1وقعت الواقعة ) ت األرض رج ( 4( إذا رج

ا ) ت الجبال بس ا ثالثةا )3( فكانت هباءا منبثا )2وبس ( فأصحاب الميمنة 3( وكنتم أزواجا

ابقون 1مة ما أصحاب المشأمة )( وأصحاب المشأ 4ما أصحاب الميمنة ) ( والس

ابقون ) بون )10الس [11 - 1]الواقعة: ﴾(11( أولئك المقر

وهذه اآليات الكريمة تشير إلى بدء نشأة أخرى بعد انتهاء تلك النشأة بقسميها

ازين ة، وفق مو]الدنيوي والبرزخي[، يصنف الخلق على أساسها إلى أصنافهم الحقيقي

الله، ال وفق الموازين التي وضعوها بأهوائهم.

[، خافضة رافعة وقد ذكر القرآن الكريم أن من أهم خصائص هذه المرحلة أنها ]

فهي تخفض المرتفعين المستكبرين، وتريهم صورهم الحقيقية التي كانوا يسترونها

214

بكبريائهم وطغيانهم.

بسطاء الذين خفضهم الظلمة، واحتقرهم الناس، وفي نفس الوقت ترفع أولئك ال

لتريهم صورهم الحقيقية الممتلئة بالجمال، والذي كان مغطى بذلك الوشاح الدنيوي

الذي حال بين البشر ورؤيتهم.

وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى الكثير من القوانين التي تحكم ذلك العالم

االجتماعرفه في عالمنا من قوانين الفيزياء والجديد، والذي لن يكون خاضعا لما نع

غيرها.. و

حتى صور البشر في ذلك العالم لن تكون هي نفسها صورهم اليوم.. ذلك أن

ألعمال المتجسدة في كل شيء، حتى في الصور، كما أشار إلى ذلك قوله لالحكم هناك

ها ناظر 22وجوه يومئذ ناضرة )﴿تعالى: ( تظن 24( ووجوه يومئذ باسرة )23ة )( إلى رب

[22 - 22]القيامة: ﴾أن يفعل بها فاقرة

( ووجوه 31( ضاحكة مستبشرة )34وجوه يومئذ مسفرة )﴿وقال في موضع آخر:

34]عبس: ﴾( 42( أولئك هم الكفرة الفجرة )41( ترهقها قترة )40يومئذ عليها غبرة )

- 40]

﴾(2( وجوه يومئذ خاشعة )1هل أتاك حديث الغاشية )﴿وقال في موضع آخر:

]الغاشية: ﴾( 1( لسعيها راضية )4وجوه يومئذ ناعمة ) ﴿، وفي مقابلها: [2، 1]الغاشية:

4 - 10]

ت ﴿وقال في موضع آخر: ذين اسود ا ال يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأم

ذين 103وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) ا ال ( وأم

ت وجوههم ففي رحمة [103، 103]آل عمران: ﴾ن هم فيها خالدو اللهابيض

ولذلك فإن كل معايير الجمال التي نراها في هذه الدنيا ترتفع هناك، حيث يصبح

211

جمال الخلق هو المؤثر في جمال الخلقة؛ فمن كان أحسن الناس خلقا في الدنيا، فهو

ملك جمال ذلك العالم، أما من عداه، فهو ممتلئ بالكدورة والغشاوة والغبرة.. ألنه

غل بجسده عن روحه، وبقالبه عن قلبه.. ولذلك رأى وجهه هناك بصورته الحقيقية انش

التي كان يسترها في الدنيا بألوان الطالء.

أخبر أن األمر ال يرتبط فقط باأللوان، وإنما يرتبط بالقوالب بل إن رسول الله

﴾حوش حشرت وإذا الو ﴿الجسمية أيضا، تلك القوالب التي أشار إليها قوله تعالى:

ا وأضل ﴿، وقوله: [2]التكوير: ذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا ال

[34]الفرقان: ﴾سبيالا

وصف عجائب الصور التي يتحول بيان ذلك، وقد ورد في الكثير من األحاديث ف

ذين ﴿في تفسير قوله تعالى: هم.. ففي الحديث إليها الظلمة والمجرمون بسبب جرائم ال

ا وأضل سبيالا ، قال [34]الفرقان: ﴾يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا

على أمشاه الذي أليس) :ـ وسؤالهم عنه ـ بعد أن رأى استغرابهم في ذلك رسول الله

(1)(القيامة يوم وجهه على يمشيه أن على ادراق الدنيا في الرجلين

بقوله ـ ردا على الذين حاولوا تأويله عن على هذا الحديث ابن حجر وقد علق

أليس الذي أمشاه( ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته؛ فلذلك : )قوله )ظاهره ـ

(2) استغربوا حتى سألوا عن كيفيته(

الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم : )والحكمة في حشر ثم علل ذلك بقوله

السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه، بحيث صار

(3232(، ومسلم )3124رواه البخاري ) (1)

(342/ 11فتح الباري( ) (2)

220

(1) وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات(

ومثله ذكر ناصر مكارم الشيرازي األقوال الكثيرة في المسألة، ورجح ظاهر النص

ة بين المفسرين في ما هو المقصود بحشر هذه الفئة من أقوال كثيرالقرآني، فقال: )

بعضهم فسروا ذلك بنفس معناه الحقيقي، وقالوا: إن مالئكة ، المجرمين على وجوههم

العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم ملقون على وجوههم إلى األرض، وهذا عالمة على

، هذا للهالغرور واإلستهانة بخلق مهانتهم وذلتهم، ألنهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر وا

ومن جهة أخرى تجسيد لضاللتهم في هذا العالم، ذلك أن من يسحبونه بهذه ، من جهة

والبعض اآلخر أخذوا بمعناه ، الصورة ال يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله

لى إ الكنائي، فقالوا تارة هذه الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا، فهم يسحبون

ة في نها كناية مستعملإوقالوا تارةا اخرى: جهنم ألن وجوه قلوبهم ال زالت مرتبطة بالدنيا

.األدب العربي حيث يقولون: فالن مر على وجهه، يعني أنه لم يكن يدري أين يذهب.

لكن الواضح أننا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي، البد من حملها على المعنى

(2)و المعنى الحقيقي(األول، وه

)يحشر عن صفة خلقة المستكبرين الظلمة، فقال: وهكذا أخبر رسول الله

، (4)في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان( (3)المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر

وفي رواية: )يبعث الله يوم القيامة ناساا في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما

(342/ 11فتح الباري( ) (1)

(220/ 11) الشيرازيتفسير األمثل مكارم (2)

غر، مثل بالنملة الصغيرة أو برأس النملة أو الهباءة المنبثة في الهواء ويمكن رؤيتها في (3) ا، بالغ الص قدر ضئيل جد

شعاع الشمس الداخل من النافذة.

(. قال الترمذي: 223(، والبخاري في )األدب المفرد( )3333( )131/ 2(، وأحمد )2412رواه الترمذي ) (4)

حسن صحيح

221

يحشر ، وفي رواية: )(1) في صور الذر؟ فيقال: هؤالء المتكبرون في الدنيا( هؤالء

المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ؛ يغشاهم الذل من كل مكان ؛ يساقون

يسقون من عصارة أهل النار: ،تعلوهم نار األنيار ،)بولس( :إلى سجن في جهنم يقال له

(2)(طينة الخبال

وهو ما في الدنيا، شكلوا منه نفوسهم سب تماما مع ذلك الخلق الذي وهذا يتنا

؛ ولذلك كانوا يطالبون غيرهم أن اليس لغيرهمن الشرف والفضل ما لها جعلهم يرون

ينحنوا لهم، ويذلوا بين أيديهم، ولهذا جازاهم الله بكأس الذل التي جرعوها لخلق الله،

ليذوقوها، ويتأدبوا بتذوقها.

عن هيئة أولئك الذين يذلون أنفسهم في الدنيا من غير وهكذا أخبر رسول الله

حاجة، فيقفون بين يدي األكابر واألصاغر يتسولون، ويمرغون كرامتهم، وربما يبيعون

)ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في دينهم بسبب ذلك، فقال:

)من سأل وله ما يغنيه؛ جاءت خموشاا أو كدوحاا في وجهه : ، وقال(3) وجهه مزعة لحم(

)ال يزال العبد يسأل وهو غني؛ حتى يخلق وجهه، فال يكون له ، وقال:(4) يوم القيامة(

(2) عند الله وجه(

يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطاا ال قدر له وال جاه، وقد فسر الحديث بأنه )

، لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من األعضاء، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه

(333/ 10رواه البزار كما في )مجمع الزوائد( ) (1)

(.2112البخاري في األدب المفرد، والترمذي وحسنه ، انظر: المشكاة ) (2)

(1040(، ومسلم )1434رواه البخاري ) (3)

( 344/ 1(، وأحمد )1202(، وابن ماجه )13/ 2(، والنسائي )320(، والترمذي )1323رواه أبو داود ) (4)

(13243( )24/ 3(، والبيهقي )232/ 1(، والحاكم )3332)

(11/ 3(، والبزار كما في )مجمع الزوائد( )13243( )333/ 20رواه الطبراني ) (2)

222

لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله؛ فيكون ذلك شعاره الذي يعرف

هره هو األصل الذي تدل عليه كل األدلة.ا(، لكن الحفاظ على ظبه

عن هيئة المختلسين والمرتشين واللصوص، والذين وهكذا أخبر رسول الله

كانوا ينصبون في الدنيا من المحامين من يخرجهم من جرائمهم كما تخرج الشعرة من

لكنهم في الدار اآلخرة ال يملكون ذلك، ألن العدالة المطلقة هي التي تحكم العجين،

اة لها ثغاء، فينادي: يا ال أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل ش: ) قالذلك العالم،

من الله شيئا، قد بلغتك. وال أعرفن أحدكم يأتي محمد، يا محمد، فأقول: ال أملك لك

يوم القيامة يحمل جمال له رغاء، فيقول: يا محمد، يا محمد. فأقول: ال أملك لك من الله

ي: يا دشيئا، قد بلغتك. وال أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة، ينا

بلغتك. وال أعرفن أحدكم يأتي محمد، يا محمد. فأقول: ال أملك لك من الله شيئا، قد

من أدم، ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: ال أملك لك من الله يوم القيامة يحمل قشعا

(1)(شيئا، قد بلغتك

رجال من حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله وفي حديث آخر عن أبي

األزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول

ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي. )على المنبر فقال: الله

أفال جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم ال؟ والذي نفس محمد بيده ال يأتي أحد

منها بشيء إال جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، منكم

(2)ثاثال (اللهم هل بلغت)ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: (،أو شاة تيعر

ل يوم وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غ ﴿وهو ما صرح به قوله تعالى:

(.3/324تفسير الطبري ) (1)

(.1432( وصحيح مسلم برقم )3134، 2213ري برقم )صحيح البخا (2)

223

[131]آل عمران: ﴾القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ال يظلمون

هذه مجرد نماذج عن بعض الصور والمشاهد التي تدل على حقيقة ذلك العالم،

وكونه مبنيا على صورة النفوس التي تشكلت في الدنيا، أو في مرحلة البرزخ.

نطبق على القوانين والظواهر الطبيعية، حيث ستكون مختلفة تماما ونفس الشيء ي

عما نراه من قوانين وظواهر، ذلك أنها ال تكون عامة، بل ترتبط بكل فرد، حسب طبيعته،

والعمل الذي قام به في الدنيا.

ومن األمثلة على ذلك ما ورد في العرق الشديد الذي يصيب الخالئق، والذي

م، مع أن قوانين الدنيا ال تقبل ذلك، فالحر إن نزل أصاب الجميع، يتفاوت بحسب أعماله

لكنه هناك يصيبهم بحسب أعمالهم.

الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم و: )تدنوقال ففي الحديث

فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. .. كمقدار الميل

ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق

(1) بيده إلى فيه( إلجاماا( وأشار رسول الله

وهذا ال يعني أن المراد بالشمس في هذا الحديث هي هذه الشمس التي نعرفها،

هو مثل تقريبي، فالكون حينذاك يختلف تماما عن الصورة التي نراه بها اليوم، كما وإنما

ار ﴿قال تعالى: ه الواحد القه ماوات وبرزوا لل ل األرض غير األرض والس ﴾يوم تبد

[44]إبراهيم:

الله شديد، يخبر رسولوفي نفس الوقت الذي يمتلئ فيه أولئك بالعرق والحر ال

عن أحوال المؤمنين الصادقين الذين تحملوا حر المجاهدات في الدنيا، ولذلك

(2434رواه مسلم ) (1)

224

: )سبعة الترغيب في ذلك الظلفي جازاهم الله تعالى بالظل الظليل في اآلخرة، قال

يظلهم الله في ظله يوم ال ظل إال ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه

في المساجد، ورجالن تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة معلق

ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى ال تعلم شماله ما

(1) تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياا، ففاضت عيناه(

ا: قالو (،القيامة؟أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم : )وفي حديث آخر قال

الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وحكموا للناس )الله ورسوله أعلم: قال:

(2)(كحكمهم ألنفسهم

(3)(: )من أنظر معسراا أو وضع عنه، أظله الله في ظله قالوفي حديث آخر

عن دور الصدقة في حماية صاحبها من ذلك الحر الشديد، قال ر بوهكذا أخ

:()(4)الرجل فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس

وهكذا ورد في النصوص ما يدل على أن كل القوانين االجتماعية التي نعرفها في

ه وأبيه )34يفر المرء من أخيه )﴿الدنيا، تنهار هناك، حيث ( وصاحبته وبنيه 32( وأم

[33 - 34]عبس: ﴾منهم يومئذ شأن يغنيه ( لكل امرئ 33)

فقد ورد في النصوص المقدسة ما يذكر تلك بل إن األمر أخطر من ذلك كله،

يساق المستبدون الظلمة، وأمام الناس جميعا، باألغالل المشاهد التي تصور كيف

ا من أوتي كتابه بش ﴿والسالسل، كما قال تعالى: يه ماله فيقول ياليتني لم أوت كتاب وأم

(.1031(، مسلم )330رواه البخاري ) (1)

..33-32رواه أحمد رقم (2)

(.3003صحيح مسلم ) (3)

(3313، رقم 2/242(، والديلمى )1333، رقم 3/300(، وأبو يعلى )103، رقم 1/14رواه القضاعى ) (4)

222

( هلك 24( ما أغنى عني ماليه )23( ياليتها كانت القاضية )23( ولم أدر ما حسابيه )22)

م في سلسلة ذرعها ( ث 31( ثم الجحيم صلوه )30( خذوه فغلوه )21عني سلطانيه )

ا فاسلكوه ) ه كان ال يؤمن ب 32سبعون ذراعا ( وال يحض على طعام 33العظيم ) الله( إن

أكله ( ال ي 33وال طعام إال من غسلين ) (32( فليس له اليوم هاهنا حميم )34المسكين )

[33 - 22]الحاقة: ﴾ (33إال الخاطئون )

في نفس الوقت الذي يجد فيه المؤمنون كل ألوان الراحة والسعادة والسرور، حتى

أن ذلك الموقف الطويل يخفف على المؤمن؛ فيمر عليه كما تمر الصالة، ففي الحديث

ما أطول هذا :، فقيل(سنةيوم كان مقداره خمسين ألف ) :، أنه قالرسول الله عن

إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه ،والذي نفسي بيده): فقال النبي ،اليوم

يهون ذلك على المؤمن كتدلي وفي رواية: ) ،(1)(من صالة مكتوبة يصليها في الدنيا

إن الله ليخفف على من يشاء من عباده (، وفي رواية: )الشمس للغروب إلى أن تغرب

(كوقت صالة مفروضةطوله

وهكذا نرى أن الحكم في كل شيء في ذلك الموقف للعمل، فالزمان والمكان

والصور وكل شيء مرتبط بتلك التشكالت التي تشكلت بها النفوس في الدنيا.

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث تتبع األحداث الكبرى التي تحدث ذلك

بحشر الخالئق للحساب. اليوم ابتداء من النفخ بالصور، وانتهاء

ـ النفخ في الصور: 1

، وبصيغ مختلفة، (2)وقد ورد الحديث عنه في مواضع متعددة من القرآن الكريم

(1101رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب، انظر: المغني عن حمل األسفار )ص: (1)

(، 101( و)المؤمنون ـ )11و رد الحديث عن )النفخ في الصور( في أكثر من عشر آيات قرآنية هي: هي: )الكهف ـ (2)

( 14(، )النبأ ـ 43لنمل ـ (، )ا102(، )طه ـ 33(، )األنعام ـ 13(، )الحاقة ـ 20(، )ق ـ 34(، )الزمر ـ 21)يس ـ

223

وكلها تقرب الحقيقة التي ال يمكن تصورها وال تخيل كيفيتها، وهي تدل على أن ذلك

د في القرآن ور الحدث العظيم ستنتهي به النشأة األولى، وتبدأ به النشأة الثانية، ولذلك

الكريم ذكر نفختين في الصور، إحداهما تعلن نهاية النشأة األولى، والثانية تعلن بداية

. النشأة الثانية، بشكلها الجديد، وقوانينها الجديدة.

األمر ال يقتصر على مجرد اإلعالن، وإنما يتعداه إلى الدور التكويني، أي أن و

ببا في لنشأة التكوينية األولى، والنفخة الثانية تكون سالنفخة األولى تكون سببا في نهاية ا

نهاية النشأة التكوينية الثانية، كما يشير إلى ذلك كون النفخ في طين اإلنسان سببا في

ا من صلصال من ﴿تشكل اإلنسان، كما قال تعالى: ك للمالئكة إني خالق بشرا وإذ قال رب

يته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين 24نون )حمإ مس ، 24]الحجر: ﴾( فإذا سو

21]

وكما أشار إليه ما كان يفعله المسيح عليه السالم من النفخ في الطين، فيتحول إلى

كم ﴿طير بإذن الله، كما قال تعالى: ورسوالا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من رب

ا بإذن ير فأنفخ فيه فيكون طيرا [41ان: ]آل عمر ﴾اللهأني أخلق لكم من الطين كهيئة الط

حياء لصعق واإلماتة، أو باإلوهكذا، فإن لتينك النفختين أثرهما التكويني سواء با

من جديد، وفق القوانين الجديدة..

والصعق واإلماتة ال تعنيان إعدام الموجودات، كما عرفنا في النشأة األولى، وإنما

تعني التحول إلى هيئة أخرى متناسبة مع الوضع الجديد، وقوانينه.

الكثير من ، وردت كذلك النفخ في الصور ومع ما ورد في القرآن الكريم حول

األحاديث والروايات، والتي نرى أنها جميعا محاولة لتقريب صورة الحدث لتلك

المجتمعات البدوية البسيطة، والتي ال يمكنها أن تستوعب القوانين التي يسير عليها

الكون، ولذلك خوطبت على قدر عقولها.

223

كافية، رة الولذلك سنكتفي هنا بما ورد في القرآن الكريم، ففيه اإلشارات الكثي

لتبيين أهمية ذلك الحدث وقيمته، بل وعالقته بالعدالة أيضا.

ور ونفخ ف ﴿ومن تلك اآليات قوله تعالى في بيان الغرض من كال النفختين: ي الص

ماوات ومن في األرض إال من شاء يام ذا هم ق ثم نفخ فيه أخرى فإ اللهفصعق من في الس

[34]الزمر: ﴾ينظرون

وهذا يدل على انحصار عدد النفخات في اثنتين، ال كما يذكره البعض من أنها

ماوات ﴿ثالثة بناء على ما فهموه من قوله تعالى: ور ففزع من في الس ويوم ينفخ في الص

، حيث توهموا أنها [43]النمل: ﴾وكل أتوه داخرين لهالومن في األرض إال من شاء

نفخة أخرى عدا نفخة الصعق، ونفخة اإلحياء.

إن كانت إال ﴿وذهب آخرون إلى أنها أربع نفخات، بناء على فهمهم لقوله تعالى:

لذلك ذكروا أن الغرض من و، [23]يس: ﴾صيحةا واحدةا فإذا هم جميع لدينا محضرون

، وأنها نفخة أخرى باإلضافة للنفخات السابقة.وإحضارهمالخلق هذه النفخة جمع

وال مانع من أن يكون هناك هذه الصيحة المرتبطة بالجمع واإلحضار، ولكنها ال

تعتبر من النفخ في الصور، ألن القرآن الكريم، وفي مواضع أخرى حدد العدد باثنتين،

اجفة ) ﴿لى: كقوله تعا ادفة )3يوم ترجف الر ( 4( قلوب يومئذ واجفة )3( تتبعها الر

[1 - 3]النازعات: ﴾أبصارها خاشعة

والخالصة من كل هذا أن تلك النفخة تشبه ذلك الجرس الذي يدق لنهاية

جديد، لتبدأ حصص أخرى، ة، ليدق من الحصص الدراسية، والذي تتخلله بعض الراح

أو هو نهاية هذه النشأة بقوانينها، وبداية النشأة الجديدة بقوانينها الجديدة، والتي يقر العلم

الحديث إمكانيتها.

فكل العلماء اآلن ـ على خالف الماضين الذين كانوا يتوهمون للكون صورة

224

ه الخاصة به، نن قوانيواحدة ـ يرون أن للكون صورا كثيرة جدا ال نهاية لها، ولكل كو

من باب االحتمال، ال من باب الواقع.هذا وطبعا هم يذكرون

ولذلك ما المانع أن ينشأ كون جديد، بناء على معطيات جديدة، ويكون له من

الكون بكثير؟التنظيم والدقة ما يفوق هذا

ة قوهذا ما تدل عليه النصوص المقدسة، فالقرآن الكريم مع إشاراته الكثيرة إلى د

هذا الكون ونظامه وجماله، وكونه مرآة لتجلي الحقائق لجميع العقالء، لكنه في نفس

الوقت يذكر أن النشأة األخرى أكثر داللة على ذلك كله، ألنها مبنية على القدرة، بخالف

هذه النشأة المبنية على الحكمة، ألنها من مقتضيات االبتالء واالختبار.

ماوات واألرض ﴿له تعالى: وقد أشار إلى هذا المعنى قو ذي خلق الس وهو ال

ور عالم الغيب بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الص

هادة وهو الحكيم الخبير ، [33]األنعام: ﴾والش

يمة تشير إلى أنه مع كون الله تعالى مالكا وملكا في كل األوقات، وعلى فاآلية الكر

كل األكوان، إال أن ذلك يتجلى بوضوح عند النفخ في الصور، وعند النشأة الثانية، وقد

حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية قال السبحاني تعليقا عليها: )

القيامة، وال يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل الخلق حتى نهايته وفي يوم

وأسباباا تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل اإلنسان أحياناا عن

وجود الله وراء هذه األسباب والعوامل، أما في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع

الكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت األسباب والعوامل، فإن حكومة الله وم

(1)(سابق

(340/ 4تفسير األمثل، ) (1)

221

( يوم هم بارزون ال يخفى 12لينذر يوم التالق ) ﴿ويشير إلى ذلك قوله تعالى:

ار اللهعلى ه الواحد القه [13، 12]غافر: ﴾منهم شيء لمن الملك اليوم لل

وهذا يدل على أن الفزع الذي يصيب الخالئق ال يرتبط بالمؤمنين الذين كانوا

يعلمون، ويوقنون بقدرة الله المطلقة، وإنما يفزع له من لم يكن يؤمن بذلك، كما قال

﴾ر يسير ( على الكافرين غي 1( فذلك يومئذ يوم عسير )4فإذا نقر في الناقور )﴿تعالى:

[10 - 4]المدثر:

ور ففزع من ﴿وبذلك فإن االستثناء الوارد في قوله تعالى: في ويوم ينفخ في الص

ماوات ومن في األرض إال من شاء خاص [43]النمل: ﴾وكل أتوه داخرين اللهالس

يرونه من مظاهر القدرة اإللهية، ألنهم ال يدهشهم مامنين الموقنين الذين بأولئك المؤ

.(1)كانوا أصال موقنين بها، بل ربما يكون ذلك مدعاة لسعادتهم وفرحهم

؛واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلينوقد قال الغزالي مشيرا إلى هذا المعنى: )

ه الواحد لمن الملك ﴿سمعوا عند ذلك نداء المنادي ،فشاهدوا األمر كذلك اليوم لل

ار على اليوم ال ذلك ،ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم، [13]غافر: ﴾القه

فهو نبأ عما يتجدد ؛ولكن الغافلين ال يسمعون هذا النداء إال ذلك اليوم ،الخصوص

ذكر العلماء أقواال كثيرة في المستثنين من الصعقة، وقد جمعها ابن حجر في عشرة أقوال، فقال ]فتح (1)

([: )وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: األول: أنهم الموتى كلهم لكونهم ال إحساس لهم.. الثاني: 11/320الباري)

الشهداء.. الثالث: األنبياء والى ذلك جنح البيهقي..قال ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد جوز النبي هم

أن يكون موسى ممن استثنى الله.. الرابع: قال يحيى بن سالم في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل

وإسرافيل وملك الموت.. الخامس: يمكن أن يؤخذ مما في الرابع.. السادس: األربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك

لسابع: موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف.. الثامن: في حديث أبي هريرة الطويل.. وسنده ضعيف مضطرب.. ا

الولدان الذين في الجنة والحور العين.. التاسع: هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب.. العاشر: المالئكة

كلهم جزم به أبو محمد بن حزم.. قال البيهقي: استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه األقوال(

230

فنعوذ بالله الحليم الكريم من ؛للغافلين من كشف األحوال حيث ال ينفعهم الكشف

(1)(فإنه أصل أسباب الهالك ،الجهل والعمى

ذين س ﴿ويشير إلى هذا، بل يصرح به قوله تعالى في ذكر السابقين: بقت لهم إن ال

شتهت أنفسهم ( ال يسمعون حسيسها وهم في ما ا101منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )

ذي كنتم 102خالدون ) اهم المالئكة هذا يومكم ال ( ال يحزنهم الفزع األكبر وتتلق

[103 - 101]األنبياء: ﴾توعدون

ليه قدم إالمنورة، لما عاد رسول الله من تبوك إلى المدنية وقد ورد في الحديث أنه

، األكبر(أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع ): عمرو بن معدي كرب فقال له النبي

يا عمرو إنه ليس كما تظن وتحسب، )كبر؟ فإني ال أفزع فقال: األ قال: يا محمد وما الفزع

صيحة واحدة فال يبقى ميت إال نشر وال حي إال مات إال ما شاء الله، إن الناس يصاح بهم

خرى فينشر من مات ويصفون جميعا، وتنشق السماء، وتهد أ ةثم يصاح بهم صيح

النار بمثل الجبال شررا فال يبقى ذو روح إال انخلع رض، وتخر الجبال هدا، وترمىاأل

قال: أال إني ؟ما شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا قلبه وذكر دينه وشغل بنفسه إال

(2)(عه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهمورسوله، وآمن م أسمع أمرا عظيما.، فآمن بالله

ولذلك فإن من مظاهر العدالة المرتبطة بالنفخ في الصور ذلك االستثناء، ألن الله

تعالى أرحم من أن يصيب عباده الصالحين المقربين بالفزع، وكيف يصيبهم به، وهم

ه وأنه ال يعجزكانوا يقرون له بذلك قبل أن يروه، ويعلمون أنه صاحب القدرة المطلقة،

شيء في األرض، وال في السماء.

بعد هذا، وبناء على أن من أغراض هذا الكتاب تقريب المعارف المرتبطة بالمعاد

(10/ 4علوم الدين ) إحياء (1)

(110/ 3بحار األنوار ) (2)

231

إلى العقول، ونفي الشبهات التي تثار حوله، فإنا سنذكر هنا بعض الصور التقريبية للنفخ

يحه وتقريبه في توض في الصور، والتي تساهم ال في كشف حقيقته، فذلك مستحيل، وإنما

ونفي الشبهات عنه.

فالنفخ في الصور، قد يكون مرتبطا بالصوت، وقد يكون مرتبطا بالصور، وقد

يكون تأثيرا في الكون جميعا، مثلما نفعل عندما نضع تيارا كهربائيا عاليا على مساحة

يه ]الحرب لمعدنية معينة، وإذا بها تهتز جميعا، وقد يكون على شكل التأثير الذي يطلق ع

وغيرها من األشكال الكثيرة التي ال نستطيع حصرها. ،االلكترونية[

وقد ذكر بعض المهتمين بربط الحقائق القرآنية بحقائق العلم بعض ما يقرب ذلك،

مستندا إلى ما ورد في القرآن الكريم من إهالك األمم بالصيحات، كما قال تعالى مخبرا

ذ ﴿عما حصل لثمود: يحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وأخذ ال ]هود: ﴾ين ظلموا الص

ذين آمنوا ﴿، وقال مخبرا عما حصل ألهل مدين: [33 ينا شعيباا وال ا جاء أمرنا نج ولم

يحة فأصبحوا ذين ظلموا الص ( كأن لم 14في ديارهم جاثمين )معه برحمة منا وأخذت ال

ا لمدين كما بعدت ثمود ، وقال عما حصل لقوم [12، 14]هود: ﴾يغنوا فيها أال بعدا

يحة مشرقين ) ﴿لوط: ارةا ( فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حج 33فأخذتهم الص

يل ، وقال مخبرا عن أنواع الهالك التي أصابت األمم [34، 33]الحجر: ﴾من سج

فكال أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباا ومنهم من أخذته ﴿الجاحدة ألنبيائها:

يحة ومنهم من خسفنا به األر ليظلمهم ولكن كانوا اللهض ومنهم من أغرقنا وما كان الص

[40]العنكبوت: ﴾أنفسهم يظلمون

وبناء على هذا، رأى أن هذه الصيحة نوع من األسلحة الصوتية، التي دل العلم

اختراعها.على أن لها تأثيرها الكبير، وإن لم تتوصل التقنية العلمية بعد إلى

هناك عالقة بين الصوت والصعق، ألن الصوت المرتفع جداا يقول في ذلك: )

232

والعلماء حتى اليوم يحاولون ،ويمكن أن يحرق أكثر من النار نفسها ،يملك قوة تدميرية

ولكن تجاربهم ال تزال محدودة، ألن ،الحصول على صوت يكون له أثر تدميري

(1)(ر هذا الصوتالمشكلة في تصميم الجهاز الذي يصد

يقول الباحثون في هذا المجال إن أفضل ثم بين عالقة الصوت بالبوق، فقال: )

طريقة لتوليد أخطر أنواع الذبذبات الصوتية الفعالة والشديدة، هي أن نولد الصوت من

خالل ما يشبه البوق على شكل حلزون هوائي، وهو جهازا يشبه القرن، ألن هذه الطريقة

والتي تعتبر األخطر على ،ت الصوتية ذات الترددات تحت الصوتيةستولد الموجا

(2)(اإلنسان والحيوان والجماد

ت تأثيرات للصووبين األثر اإليجابي للصوت في بعث الحياة وتنشيطها، فقال: )

كثيرة، فقد أثبتت األبحاث الحديثة أن كل شيء في الكون له تردده الخاص به، ويسمى

فعندما نعرض هذا الجسم لتردد صوتي محدد يساوي الرنين الطبيعي الرنين الطبيعي،

لهذا الجسم فإنه يبدأ باالهتزاز والتجاوب. ولذلك فإن الترددات الصوتية إذا كانت ذات

وإذا علمنا أن .. مجال ترددي واسع سوف تستجيب لها كل الموجودات على األرض

رددات ترددات صوتية وتتأثر بالتللصوت تأثيرات على الخاليا الحية، فالخلية تصدر

كذلك ..الصوتية، والترددات الصوتية تؤثر على نشاط الخاليا فتكون سبباا في شفائها

للصوت قدرات عجيبة على تدمير الخاليا السرطانية، وبنفس الوقت يمكن للذبذبات

(3) (خلية وتنشطها وتجعلها أكثر حيويةالصوتية أن تطيل عمر ال

انظر مقاال بعنوان: النفخ في الصور: حقيقة علمية وقرآنية، المهندس عبد الدائم كحيل، موقع أسرار اإلعجاز (1)

العلمي..

المرجع السابق. (2)

المرجع السابق. (3)

233

أن للصوت قدرة على)، [فابيان]الفرنسي من أمثال احثين بعض البونقل عن

تفجير الخاليا السرطانية، وبنفس الوقت قدرة على تنشيط الخاليا وإعادة الحيوية

(1) (والطاقة لها

طبعا، وكما هو ظاهر، فنحن لم ننقل هذه النصوص لتصوير ما سيحصل بالضبط،

فذلك مستحيل، وإنما هو محاولة تقريبية لصد تلك الشبه التي ينشرها أولئك الذين

يتصورون أنهم وحدهم من يصدقون العلم، ومن يتبعون المنهج العلمي، مع أن المنهج

يكون[]فرنسيس بله التأمل العقلي، وقد قال العلمي أكثر تواضعا من أن يقول ذلك، ومث

)القليل من الفلسفة يميل بعقل اإلنسان إلى اإللحاد، ولكن التعمق في الرد على هؤالء:

. إذا أمعن )العقل( النظر وشهد سلسلة األسباب كيف .فيها ينتهي بالعقول إلى اإليمان

ا من التسليم بالله( (2)تتصل حلقاتها فأنه ال يجد بدا

:التبديل والتهيئةـ 2

ماوات وبرزوا لله ﴿ويشير إليه قوله تعالى: ل األرض غير األرض والس يوم تبد

ار [44]إبراهيم: ﴾الواحد القه

تلك بيبدأ مباشرة بعد النفخة األولى، والتبديل ـ كما تشير النصوص المقدسة ـ

قوا ياأي ﴿اينها الخالئق، والتي وصفها الله تعالى بقوله: الزلزلة العظيمة التي يع ها الناس ات

اعة شيء عظيم ) كم إن زلزلة الس ا أرضعت وتضع 1رب ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عم

شديد اللهرى وما هم بسكارى ولكن عذاب كل ذات حمل حملها وترى الناس سكا

[2، 1]الحج: ﴾(2)

بل إن هناك سورة خاصة بها، وبما يحدث أثناءها، وهي سورة الزلزلة، والتي يقول

المرجع السابق. (1)

..24نقال عن: ملحدون محدثون معاصرون، د. رمسيس عوض، ص (2)

234

ل ( وقا2( وأخرجت األرض أثقالها )1إذا زلزلت األرض زلزالها )﴿الله تعالى فيها:

نسان ما لها ) ث أخبارها )3اإل ك أوحى لها )4( يومئذ تحد - 1]الزلزلة: ﴾(2( بأن رب

2]

ر يومئذ يصد ﴿ويبدو من خالل هذه اآليات، ومن خالل تتمتها، وهي قوله تعالى:

ا ليروا أعمالهم ) ا يره )( فمن 3الناس أشتاتا ة خيرا ة 3يعمل مثقال ذر ( ومن يعمل مثقال ذر

ا يره ) أن هذه الزلزلة ـ الواردة في هذه السورة ـ بخالف الزلزلة [4 - 3]الزلزلة: ﴾(4شر

ا والتي يتم فيها بعث الخالئق، وتشكل األرض بشكلهالنفخة الثانية، األولى، مرتبطة ب

، مع قوانينها الجديد، ولهذا ذكر الله تعالى أن األرض تجيب البشر، وتحدثهم، الجديد

وتخبر بوحي الله لها، وهو من الظواهر العادية في النشأة األخرى، بخالف النشأة األولى.

وهكذا يذكر القرآن الكريم أن من أغراض ذلك التبديل، وتلك التهيئة توفير محل

وترى األرض بارزةا وحشرناهم فلم نغادر منهم ﴿ مناسب للعرض، كما قال تعالى:

ا من الملك اللهيوم هم بارزون ال يخفى على ﴿، وقال: [43]الكهف: ﴾أحدا منهم شيء ل

ار ه الواحد القه [13]غافر: ﴾اليوم لل

لك النشأة الجديدة، وبالقوانين الجديدة، ستكون ويبدو كذلك أن األرض في ت

أكبر من األرض التي نعرفها، ومختلفة في تضاريسها ومناخها عنها، كما قال تعالى

ت )﴿ها: يصف ت )4( وألقت ما فيها وتخلت )3وإذا األرض مد ها وحق ﴾(2( وأذنت لرب

[2 - 3]االنشقاق:

والمرتفعات التي كانت تشكل حواجز كبرى فيها، تدك، كما قال الجبالوحتى

ةا واحدةا ﴿: تعالى تا دك ور نفخة واحدة وحملت األرض والجبال فدك فإذا نفخ في الص

[12 - 13]الحاقة: ﴾فيومئذ وقعت الواقعة

الرمل هينة لينة ك ؛ فتصبحا تتحول عن صالبتها وقسوتهاأنهالله تعالى أخبر و

232

هيالا ﴿: الناعم، قال تعالى ﴾يوم ترجف األرض والجبال وكانت الجبال كثيباا م

تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: أنها [، أي14]المزمل:

.هو الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده

﴾وتكون الجبال كالعهن ﴿قال تعالى: ، وهو الصوف ،تصبح كالعهنوأخبر أنها

[2 ]القارعة: ﴾وتكون الجبال كالعهن المنفوش ﴿ ، وقال:[1]المعارج:

[، 3ر:]التكوي ﴾وإذا الجبال سيرت ﴿: ، فقالعن إزالتها بتسييرها ونسفهاوأخبر

[10]المرسالت: ﴾وإذا الجبال نسفت ﴿وقال:

ويوم نسير الجبال وترى﴿: ذلك التسيير والنسف، فقالبين حال األرض بعد و

[43]الكهف: ﴾األرض بارزةا

وال انخفاض، كما قال تعالى: ،ظاهرة ال ارتفاع فيهاوبذلك تصبح األرض

ا ﴿ ا ال ترى فيها عوجا ا صفصفا ا فيذرها قاعا ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا

[103 - 102]طه: ﴾وال أمتاا

: العرض والحساب في قوله تلك األرض التي يقع فيها تقريب صفةوقد ورد

يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم )

(1)(ألحد

ما كتفجر وتشتعل ناراا، ، وأنها البحاروهكذا ورد وصف األهوال التي تحدث في

رت ﴿قال تعالى: رت وإذا ﴿وقال: [،3]االنفطار: ﴾وإذا البحار فج ﴾البحار سج

[3]التكوير:

وم ي ﴿قال تعالى: ، كماتمور وتضطرب اضطراباا عظيماا أما السماء، فقد ورد أنها

(2310( وصحيح مسلم برقم )3221صحيح البخاري برقم ) (1)

233

ا ماء مورا ماء ﴿ ، كما قال تعالى:[، ثم تنفطر وتتشقق1]الطور: ﴾تمور الس إذا الس

ماء ان﴿وقال: [،1]االنفطار: ﴾انفطرت ت إذا الس ها وحق ت وأذنت لرب ]االنشقاق: ﴾شق

ماء فهي يومئذ واهية ﴿ ، كما قال تعالى:وعند ذلك تصبح واهية ،[2 - 1 ت الس ﴾وانشق

[13]الحاقة:

ما يشير إلى معاينة الخلق لبعض تلك في القرآن الكريمفوق ذلك كله وقد ورد

م منها، مثلما رأينا في اآليات التي تتحدث عن الزلزلة بشقيها: األهوال الشديدة، وفزعه

الزلزلة األولى، والزلزلة الثانية.

وورد كذلك في الحديث ما يدل على معاينة البشر لبعض تلك التغيرات التي

ل ﴿تحصل بعد النفخة الثانية، وبعد البعث، ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى: يوم تبد

ار األر ماوات وبرزوا لله الواحد القه ، فقد سئل [44]إبراهيم: ﴾ض غير األرض والس

ال يمكننا أن نعرف وهو محل ،(1)(هم في الظلمة دون الجسر، فقال: )عنها رسول الله

جيب على اإلشكال الذي يطرحه من ال يستطيع الجمع يحقيقته، ولكن المهم فيه هو أنه

بين معاينة األهوال، والبقاء على قيد الحياة، ذلك أن تلك األحداث كفيلة بأال تبقي أحدا

حيا.

ـ أن المؤمنين الذين كانوا ، وبناء على العدالة اإللهيةونرى ـ مثلما ذكرنا سابقا

يسلمون للقدرة اإللهية، ويؤمنون بها معفون من الفزع المرتبط بتلك األهوال، وإن كانوا

ن من رؤيتها باعتبارها تشكل المزيد من الطمأنينة لهم، كما قال تعالى عن إبراهيم ال يعفو

وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ﴿السالم: عليه

ير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعةا من الط

(.312صحيح مسلم برقم: ) (1)

233

ا ثم ادعهن يأتينك سعياا واعلم أن [230]البقرة: ﴾عزيز حكيم اللهجزءا

كان موقنا بإحياء الله للموتى، ولكنه أحب أن يعاين السالم عليهفمع كون إبراهيم

وكذلك نري إبراهيم ملكوت ﴿تكون ضمن ما عبر عنه قوله تعالى: لمشاهد ذلك،

ماوات واألرض وليكون من الموقنين [32]األنعام: ﴾الس

وهكذا، فإن معاينة المؤمنين لتلك المشاهد العظيمة، ال يكون بصحبة الفزع،

والخشية هي خوف مختلط بالرجاء، أو وإنما يكون بصحبة الخشية والتعظيم لله،

بالتقدير والتعظيم.

ونحب أن نذكر هنا ردا على أولئك الذين يتصورون أن القيامة مرتبطة فقط

باألرض، وباإلنسان خصوصا، بأن األمر ليس كذلك، بل هي مرتبطة بكل الكون الذي

لمقدسة لم نعرفه، وبكل سكانه، سواء كانوا من البشر أو غيرهم، ولو أن النصوص ا

تحدثنا إال على البشر، لعدم طاقة العقول الحديث عن غيرهم.

ل ﴿ويشير إلى هذا قوله تعالى: جل للكتب كما بدأنا أو ماء كطي الس يوم نطوي الس

ا كنا فاعلين ا علينا إن [104]األنبياء: ﴾خلق نعيده وعدا

نتصور ما يحصل من أهوال في ذلك الموقف نعرض هنا بدايات ثالث وحتى

من سره : )سور قرآنية وردت الدعوة لقراءتها، لتصور ما يحدث، فقد قال رسول الله

فليقرأ: )إذا الشمس كورت( و)إذا السماء ،أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين

(1)انفطرت( و)إذا السماء انشقت(

ر ﴿رة األولى، سورة التكوير، فقد بدئت بقوله تعالى: أما السو مس كو ت إذا الش

( وإذا 4( وإذا العشار عطلت )3( وإذا الجبال سيرت )2( وإذا النجوم انكدرت )1)

(232/ 2رواه الترمذي ) (1)

234

رت )2الوحوش حشرت ) جت )( وإذا الن 3( وإذا البحار سج ( وإذا الموءودة 3فوس زو

حف نشرت )1( بأي ذنب قتلت )4سئلت ) ماء كشطت )10( وإذا الص ( 11( وإذا الس

رت ) ﴾(14( علمت نفس ما أحضرت )13( وإذا الجنة أزلفت )12وإذا الجحيم سع

[14 - 1]التكوير:

ماء انفطرت )﴿تعالى: فقد بدئت بقوله سورة االنفطار، وأما ( وإذا 1إذا الس

رت )2الكواكب انتثرت ) ( علمت نفس ما 4( وإذا القبور بعثرت )3( وإذا البحار فج

رت ) مت وأخ [3 - 1 ]االنفطار: ﴾( 2قد

ت )﴿ إتعالى: فقد بدئت بقوله سورة االنشقاق، وأما ماء انشق ( وأذنت 1إذا الس

ت ) ها وحق ت )2لرب ت 4( وألقت ما فيها وتخلت )3( وإذا األرض مد ها وحق ( وأذنت لرب

[2 - 1]االنشقاق: ﴾(2)

الكريمة تصور بعض المشاهد التي تحصل ذلك الحين، أو تقربها، فهذه اآليات

يقة ، ال الحقبحسب الثقافة المتاحة لعصرهم وما قاله المفسرون حولها مجرد توضيح

بعينها، ألنها ال يمكن تصورها، والقرآن الكريم يستعمل اللغة التي يفهمها الناس جميعا،

ث بصورتها الكاملة.وال يمكن لتلك اللغة أن تعبر عن تلك األحدا

العلماء حول بعض تلك المعاني الواردة في القرآن قالهما هنا وبناء على ذلك نذكر

الكريم، والتي قد يجد الشيطان منها ثغرات للتسلل وبث الشبهات، وال نذكرها من باب

كونها الحقيقة التي ستجري بالضبط، ألن ذلك غيب محض.

فإذا النجوم ﴿جوم، مثل قوله تعالى: في شأن الشمس والنما ورد ومن ذلك

رت )﴿، وقوله: [4]المرسالت: ﴾طمست مس كو ( وإذا النجوم انكدرت 1إذا الش

، فقد أثبت العلم أن الشمس، وغيرها من النجوم ـ على خالف [2، 1]التكوير: ﴾(2)

هي ون ـ تموت وتنطمس، ولها نهاية تنتالنظرة التقليدية القديمة المبنية على ثبات الك

231

إليها.

النجوم تولد وتمر بمراحل عديدة، )االكتشافات العلمية الحديثة أن وقد أثبتت

فهي تخلق ثم تصير إلى مرحلة تسمى فيها هذه النجوم بنجوم النسق الرئيسي، ويستمر

ديدة وهكذا النجم على هذا الطور غالبية عمره، وبعد ذلك يستمر التحول إلى مرحلة ج

(1)(حتى يتحول إلى نجم منكدر ال ضوء فيه

الشمس ستتمدد ويصبح حجمها كبيراا، وبالتالي فإنها )الدراسات أن وتذكر هذه

لن تستطيع أن تستمر طويالا في اإلمساك بتالبيب أطرافها، فتهرب الطبقات الخارجية

لحالة وفي تلك ا ـ هيبفي شكل حلقات غازية تخرج متتابعة في منظر مـ منها تدريجياا

ستطال تلك الحلقات جميع الكواكب الخارجية حتى )بلوتو(، بل وجميع أطراف

المنظومة الشمسية. وتعرف تلك المرحلة من حياة النجوم بمرحلة )السدم الكوكبية(،

حيث تلفظ النجوم طبقاتها الخارجية في شكل حلقات مستديرة تشبه في منظرها

دارة شكلها. ونجم )القيثارة( هو أحد أشهر تلك األمثلة التي الخارجي الكواكب في است

(2)يعرفها الفلكيون من بين آالف النجوم التي رصدناها، وهي تلفظ طبقاتها الخارجية(

تفقد الشمس ما يزيد عن ثلث كتلتها لتصبح بعد ذلك لباا عارياا وفي تلك المرحلة )

لنووية في الباطن لتبرد الشمس صغيراا حرارته شديدة، ويتوقف نبض التفاعالت ا

تدريجياا ويتصاغر حجمها كثيراا وتدخل إلى مقابر النجوم فيما يعرف بمرحلة )األقزام

البيضاء(. وفي تلك المرحلة تكون كثافة المادة عالية بدرجة رهيبة، حيث يزن السنتيمتر

الشمس المكعب من مادة القزم األبيض حوالي طن واحد من مادة األرض، كما أن حجم

آن ي في القرحياة النجوم بين العلم والقرآن الكريم، للدكتور محمد صالح النواوي، نقال عن موقع اإلعجاز العلم (1)

الكريم.

المرجع السابق. (2)

240

(1) في تلك المرحلة سيتصاغر ليصبح في حجم األرض تقريباا(

وغيرها من األحداث التي تقرب كثيرا ما ورد في قوله تعالى عن الشمس في ذلك

رت ﴿اليوم: مس كو ، هاؤذهب ضو، فمما ورد في معناها )[1]التكوير: ﴾إذا الش

(أظلمتو

والقوانين التي تسري عليها تسري على سائر وبما أن الشمس نجم من النجوم،

النجوم، فإن ما ذكره العلم حولها ينطبق عليها أيضا.

وهكذا ذكروا فيما ورد في شأن تفجير البحار وتسجيرها ردا على أولئك الذين لم

تستطع عقولهم أن تستسيغ تلك الحرائق المهولة التي تصيب البحار، فمن الحقائق

. (.ذرتين)تكون من مادتين هما الهيدروجينيالماء أن العلمية المتفق عليها

الهيدروجين: عنصرشديد االشتعال ويستعمل في عمليات ، وواالكسجين)ذرة واحدة(

.االكسجين عنصر يساعد على االشتعال وهو وقود النار، والصهر

صال بعملية الدمج أالعنصرين قد احترقا وسبب عدم احتراق الماء يعود لكون )

ين متى تم الجمع بين الهيدوجين واالكسج، ولهذا فإنه الكثافة اصبحا عاليأهما وفيما بين

لى خرى ال تشتعل بل تساعد عألى مادة إيتحوالن ، وكيميائيا فانهما يفقدان خاصتيهما

(طفاء الحرائقإ

األكسجين والهيدروجين التي تربط بين ذرتي الرابطة التساهميةلكن إذا تم كسر

بلة نسميها في وقتنا الحاضر بالقن، طاقة خياليةفإن ذلك )ينتج عنه ،بواسطة اإلنشطار

(نووية، وهي أشد انفجارا بكثير من القنبلة الالهيدروجينية

وهذا ال يعني تفسيرنا للتسجير بهذا المعنى، وإنما هو مجرد تقريب لما قد يحصل

المرجع السابق. (1)

241

، فتحتاج ستحصل بالضبطبناء على المعطيات العلمية المتوفرة لدينا، أما الحقيقة التي

منا إلى معرفة أسرار أخرى للكون أكبر وأعظم، والعلم أضعف من أن يصل إليها.

: والنشور ـ البعث 3

يمكن اعتبار القرآن الكريم المصدر الوحيد من بين جميع الكتب السماوية التي

الكبير العلميلم يزدها التطور تذكر حقائق البعث والنشور، وبلغة علمية عقلية راقية؛

الذي شهدناه في عصرنا إال قوة ورسوخا.

، وعن رد الشبه التي يثيرها المشركون ففي أحاديثه الكثيرة عن البعث والنشور

مادة علمية كافية، تجعلنا نستغني بها عن كثير من من خاللها يمكننا أن نجد ، والتي حوله

كل على ما يثار حوله من شبه، بالمباحث الكالمية والفلسفية، بل تجعلنا فوق ذلك نرد

بساطة ويسر.

فالعرض القرآني للبعث يتضمن كلتا الناحيتين: ناحية حقيقة البعث، وعالقته

بالجسد والروح والنفس.. وناحية البراهين المثبتة لذلك، واألمثلة المقربة له.

وسنحاول هنا انطالقا من اآليات المرتبطة بالبعث أن نستخلص أهم خصائص

:ةالتكاملي مسيرتهلمرحلة الخطيرة من المراحل التي يمر بها اإلنسان في هذه ا

أ ـ البعث والحركة التكاملية:

من أهم المالحظات التي نراها في القرآن الكريم عند ذكره للبعث ـ وفي مواضع

متعددة منه ـ ربطه له بالمراحل والتطورات التي مرت بها خلقة اإلنسان كما قال تعالى:

نسان من ساللة من طين )﴿ ( ثم 13( ثم جعلناه نطفةا في قرار مكين )12ولقد خلقنا اإل

ا فكسونا العظام لحما ا ثم خلقنا النطفة علقةا فخلقنا العلقة مضغةا فخلقنا المضغة عظاما

ا آخر فتبارك [14 - 12]المؤمنون: ﴾(14أحسن الخالقين ) اللهأنشأناه خلقا

وبعد أن ذكر كل هذه المراحل ـ والتي اكتشف العلم الحديث مدى واقعيتها

242

راح يذكر المرحلة ـ (1)وصدقها على الرغم من مخالفتها لثقافة البيئة التي نزل فيها

م إنكم ث ﴿األخيرة في سلم الترقي نحو الكمال اإلنساني، والتي عبر عنها قوله تعالى:

، وهذا [13 - 12]المؤمنون: ﴾( 13( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )12بعد ذلك لميتون )

احل التطور اإلنساني نحو الكمال.يدل على أن ذلك البعث مرحلة جديدة من مر

وهكذا ورد في قوله تعالى في سورة الحج عند تعداد مراحل تطور الخلقة

ها الناس إن كنتم ف ﴿اإلنسانية باعتبارها برهانا من براهين البعث، قال تعالى: ي ريب ياأي

ا خلقناكم من تراب ثم قة وغير من البعث فإن من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخل

ى ثم نخرجكم طفالا ثم قة لنبين لكم ونقر في األرحام ما نشاء إلى أجل مسم تبلغوا ل مخل

كم ومنكم من يتوفى وم نكم من يرد إلى أرذل العمر لكيال يعلم من بعد علم شيئاا أشد

ت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ وترى األرض هامدةا فإذا أنزلنا عليها الماء اهتز

[2]الحج:

ه على اللهذلك بأن ﴿ ثم قال بعدها معلال سر ذلك: ه يحي الموتى وأن هو الحق وأن

قدير )اعة آتية ال ريب فيها وأن 3كل شيء ﴾(3يبعث من في القبور ) الله( وأن الس

[3، 3]الحج:

انية مرحلة تطورية كبرى عقبوغيرها من اآليات الكريمة التي تعتبر النشأة الث

انتهاء مراحل النشأة األولى، وهي تشير كذلك إلى أن تلك النشأة مختلفة في طبيعتها

وشكلها عن النشأة األولى، وأكثر تطورا منها.

اآليات التي ذكرت فيها النطفة ): إلى ذلك في قوله صدر المتألهينوقد أشار

النقص إلى صورة أكمل، ومن حال أدون إلى وأطوارها الكمالية، وتقلباتها من صورة

، فما بعدها(324ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب معجزات علمية )ص: (1)

243

حال أعلى، فالغرض من ذكرها، إثبات أن لهذه األطوار والتحوالت غاية أخيرة،

فلإلنسان توجه طبيعي نحو الكمال، ودين إلهي فطري في التقرب إلى المبدأ الفعال،

ان ال يوجد في هذا والكمال الالئق بحال اإلنسان المخلوق أوالا من هذه الطبيعة، وإال ك

العالم األدنى، بل في عالم اآلخرة التي إليها الرجعى، وفيها الغاية والمنتهى، فبالضرورة

إذا استوفى اإلنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية،

يواني، الحمن الجمادية والنباتية، والحيوانية، وبلغ أشده الصوري، وتم وجوده الدنيوي

فالبد أن يتوجه نحو النشأة اآلخرة ويخرج من القوة إلى الفعل، ومن الدنيا إلى األخرى،

(1) (ثم المولى، وهو غاية الغايات، ومنتهى األشواق والحركات

نرى أن اإلنسان منذ قال السبحاني معبرا عن هذا المعنى بلغة أكثر عصرية: )و

فتح عينه على الوجود، في حال حركة دائمة وسعي تكونه نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن ي

ى ذلك ال بد فعل ؛متواصل ليس له ثبات وال قرار، وهو يطلب بحركته وسعيه شيئاا يفقده

من وجود يوم يزول فيه وصف الالقرار، ويدخل منزالا فيه القرار والثبات، يكون غاية

(2)(المطاف

بالموت وال يرى بعدها في اإلنسان الحركة وإن كانت تتوقف وبناء على هذا، فإن )

سعي، لكن تفسير الموت ببطالن اإلنسان وشخصيته الساعية، إبطال للغاية التي كان

يتوخاها من حركته، فالبد أن يكون الموت وروداا إلى منزل آخر، يصل فيه إلى الغاية

(3) (المتوخاة من سعيه وجهاده، وذلك المنزل هو النشأة األخروية

الغاية من الحركة والسعي ى الوجوديين والماديين الذين يعتبرون ثم رد عل

.121، ص 1األسفار، ج (1)

.133،ص4اإللهيات، جعفر السبحاني، ج (2)

.134المرجع السابق، ص (3)

244

اإلنسان مهما نال منها، ال بأن )والكدح، هو نيل اللذائذ المادية والتجمالت الظاهرية،

يخمد عطشه، بل يستمر في سعيه وطلبه، وهذا يدل على أن له ضالة أخرى يتوجه نحوها،

مال الالئق بحاله، ويتصور أن مالذ الحياة غايته، وإن لم يعرف حقيقتها، فهو يطلب الك

(ويعطف توجهه إلى شي آخر ،ومنتهى سعيه، ولكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها

(1)

ويدعم هذا المعنى الكثير من البراهين الفلسفية، فالحركة البد لها من غاية تنتهي

ة قرآن الكريم يعتبر البعث غاية مكملإليها، وإال كانت عبثا مجردا ال معنى له، ولهذا نرى ال

لتلك الحركة التكاملية التي حصلت في النشأة األولى، ويعتبر أنها ضرورة يقتضيها الحق

اللهذلك بأن ﴿ويستلزمها، كما قال تعالى: ه على كل شيء ه يحي الموتى وأن هو الحق وأن

[3]الحج: ﴾قدير

وهكذا يذكر القرآن الكريم أنه لوال هذه النشأة المكملة لتلك الحركة لكانت النشأة

ما خلقناكم عبثاا وأنكم إل ﴿األولى نشأة عبثية ال معنى لها، كما قال تعالى: ينا أفحسبتم أن

﴾(113له إال هو رب العرش الكريم )الملك الحق ال إ الله( فتعالى 112ال ترجعون )

[113، 112]المؤمنون:

ولذلك نرى القرآن الكريم ينص على الغاية التي تسير إليها كل الكائنات، وأنها

معرفة الله والتواصل معه، ألنها البداية التي أسس من أجلها الكون جميعا، قال تعالى:

ك الم ﴿ [42]النجم: ﴾نتهىوأن إلى رب

كال إذا بلغت ﴿وهكذا يصور البعث باعتباره رجوعا إلى الله، كما قال تعالى:

ه الفراق )23( وقيل من راق )23التراقي ) اق )24( وظن أن اق بالس ت الس ( 21( والتف

ك يومئذ المساق جعى﴿، وقال: [30 - 23امة: ]القي ﴾إلى رب ]العلق: ﴾إن إلى ربك الر

.131المرجع السابق، ص (1)

242

4]

وهومعنى قولنا ]إنا لله وإنا إليه راجعون[، والذي يردده المؤمن كل حين، كما قال

ا إليه راجعون ﴿تعالى: ه وإن ا لل ذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن ، وذلك [123]البقرة: ﴾ال

ليذكر نفسه بأن ما فاته ليس هو الغاية، وإنما الغاية الله.

ب ـ البعث والتكامل الكوني:

ال يكتفي القرآن الكريم بتقرير تلك الحقائق، وربطها بعالم اإلنسان، بل إنه يشمل

كان في النشأة األولى، ولكن شيءبها جميع الكائنات، ففي النشأة األخرى يبعث كل

تتناسب مع طبيعته واختياراته المتاحة له.بصورة جديدة

ة في األرض ﴿وإلى ذلك اإلشارة بقوله تعالى عن عالم الحيوانات: وما من داب

ه ثم إلى ربطنا في الكتاب من شيء م وال طائر يطير بجناحيه إال أمم أمثالكم ما فر

، فهذه اآلية الكريمة ال تكتفي بتقرير حقيقة تلك العوالم، وأنها [34]األنعام: ﴾رون يحش

أمم قائمة بذاتها، وإنما تضيف إليها كونها تحشر إلى الله، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى

[2]التكوير: ﴾وإذا الوحوش حشرت ﴿في اآلية األخرى:

كاملية التي يسير بها الكون جميعا، كما أشار إلى وهذا كله ينسجم مع الغائية الت

ماء واألرض وما بينهما العبين )﴿ذلك قوله تعالى: ( لو أردنا أن نتخذ 13وما خلقنا الس

ا إن كنا فاعلين ) خذناه من لدن ا الت ذا يعني أن كل شيء ، وه[13، 13]األنبياء: ﴾(13لهوا

خلق لغاية، ولم يخلق عبثا، وذلك ما ينفي عن البعث تلك الصورة البسيطة التي نتوهمه

وإنما هو حركة تشمل كل شيء، ليصاغ من جديد وفق والتي تجعله خاصا باإلنسان، بها،

ما تقتضيه النشأة الثانية من قوانين.

أن أعمال الحيوانات أيضا إلى هذا المعنى عندما ذكر وقد أشار رسول الله

لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى تعرض في ذلك الموقف بعد بعثها، فقال: )

243

(1)(يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء

: يا أبا ذر،ألبي ذر رأى شاتين تنتطحان، فقال أن رسول الله وفي حديث آخر

(2) (الله يدري، وسيقضي بينهماهل تدري فيم تنتطحان؟ قال؟ ال، قال: لكن

قيد وإنه لي ،)يقضي الله بين خلقه الجن واإلنس والبهائم: قال وفي حديث آخر

(3)(يومئذ الجماء من القرناء

ى أنه إضافة تحتاج إلى لألسف ما ال نراه منه، أو ما نر فيه لكن هذا الحديث أدرج

يبق تبعة عند واحدة ألخرى قال حتى إذا لم)قال: قوة، وهي ما روي أنه أدلة أكثر

([40]النبأ: ﴾ياليتني كنت تراباا﴿ :فعند ذلك يقول الكافر ،الله: كونوا ترابا

إلى رسول الله أبو هريرة ما ورد في حديث الصور الطويل، والذي رفعه ومثله

كتابها، واألمم فيميز الله الناس، وينادي األمم داعيا لكل أمة إلى : )، فمما ورد فيه

فيقضي الله بين خلقه إال الثقلين، اإلنس والجن، فيقضي بين الوحوش . جاثية من الهول.

والبهائم، حتى إنه ليقيد الجماء من ذات القرن، فإذا فرغ الله من ذلك، فلم تبق تبعة عند

اباا﴾ ني كنت تر واحدة ألخرى، قال الله لها: كوني ترابا، فعند ذلك ﴿يقول الكافر ياليت

([40]النبأ:

فهذه اإلضافة التي تبين مصير كل تلك العوالم من الحيوانات بمختلف أنواعها ال

باإلضافة إلى أنها يمكن أن نعتقدها من خالل هذه الروايات المتوقفة على آحاد الرواة،

لحيوانات إلى تناسب مع عدالة الله.. فالله تعالى أعدل وأرحم وأكرم من أن يحول اتال

تراب، ألنه بذلك ينزلها عن مرتبتها التي كانت عليها من غير ذنب ارتكبته.

(2242ح) 4/1113صحيح مسلم (1)

(21334) 2/132رواه أحمد (2)

(.14 - 13/ 30ابن جرير في تفسيره ) (3)

243

ركة.. النماء والرفعة والب هامعانيباإلضافة إلى ذلك يتنافى مع الربوبية ذلك أن من

أي أنه سبحانه وتعالى ينقل األشياء من حالة أسوأ إلى حالة أحسن.. إال لمن رضي لنفسه

ل، وذلك ال يكون في الحيوانات التي لم يكلفها الله تعالى.أن ينحدر وينز

والذي دفعنا إلى ذلك ما ورد في النصوص الكثيرة من معرفة تلك الحيوانات

، ولذلك كان تحويلها من مرتبتها الراقية إلى مرتبة دونية، (1)بالكثير من المعارف اإليمانية

إليها النصوص المقدسة.ال يتناسب مع الحركة التكاملية التي أشارت

بهمت البهائم عنه وقد قال اإلمام السجاد يبين ما لتلك البهائم من المعارف: )ما

ها باالنثى ومعرفت فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب تبارك وتعالى، ومعرفتها بالموت،

(2)(من الذكر، ومعرفتها بالمرعى الخصب

: ثرة ذكر الحيوانات لله، كما قال وهكذا ورد في األحاديث الكثيرة ما يبين ك

وال تتخذوها كراسي ألحاديثكم في الطرق واألسواق، ،ودوعها سالمة ،)اركبوها سالمة

(3)فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه(

: )ما أحد سب شيئا من الدنيا دابة وال غيرها ويقول: أخزاك وروي في بعض اآلثار

قالت: بل أخزى الله تعالى أعصانا لله تعالى(الله أو لعنك الله إال

وهكذا نرى أن هناك مخلوقات أخرى يرتبط بها البعث، بناء على ما ورد في القرآن

الكريم من وجود سكان آخرين في الكون غير البشر، كما ورد التصريح بذلك في قوله

ة والمالئكة وهم ال ﴿تعالى: ماوات وما في األرض من داب ه يسجد ما في الس ولل

أشرنا إليها بتفصيل في كتاب ]أكوان الله[ (1)

(20/ 31بحار األنوار ) (2)

(12331) 3/440( و12314) 3/431أحمد (3)

244

[ 41]النحل: ﴾يستكبرون

ماوات واألرض ﴿بل ورد فيه ما يدل على بعثهم، قال تعالى: ومن آياته خلق الس

ة [21]الشورى: ﴾وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما بث فيهما من داب

[ داللة على إمكانية توفر الفرصة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وفي قوله تعالى ]

للبشر لمالقاة سكان أهل السماء، وهو التطلع الذي ال يزالون يتطلعون إليه.

أن هناك خلقا آخرين سيتعرضون لنفس ما وهكذا نجد في الروايات ما يبين

تعرض له أهل هذه النشأة، ليكون مصيرهم مرتبطا أيضا بخياراتهم، ومنها ما روي أن

ل بل هم في لبس من خلق ﴿اإلمام الباقر سئل عن قوله تعالى: أفعيينا بالخلق األو

،هذا الخلق وهذا العالم له عز وجل إذا أفنىتأويل ذلك أن ال، فقال: )[12]ق: ﴾جديد

عالما غير هذا العالم، وجدد وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عزوجل

أرضا غير هذه االرض من غير فحولة وال اناث يعبدونه ويوحدونه، وخلق لهم اخلق

نما خلق هذا العالم إ تحملهم، وسماء غير هذه السماء تظلهم، لعلك ترى أن الله عزوجل

عالى خلق الله تبارك وت الواحد وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد

(1)(اآلدميين ولئكأأنت في آخر تلك العوالم و ،ألف ألف عالم وألف ألف آدم

لقد خلق الله عزوجل في االرض منذ خلقها سبعة عالمين وفي رواية أخرى: )

واحدا بعد واحد مع عالمه، ، خلقهم من أديم االرض فأسكنهم فيهاليس هم من ولد آدم

وخلق ذريته منه، وال والله ما خلت الجنة من أرواح ،ثم خلق الله عزوجل آدم أبا البشر

المؤمنين منذ خلقها، وال خلت النار من أرواح الكفار والعصاة منذ خلقها عزوجل،

الله أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة، لعلكم ترون أنه إذا كان يوم القيامة وصير

(334/ 4العالمة المجلسي ) -بحار األنوار (1)

241

وصير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار أن الله تبارك وتعالى ال يعبد في بالده، وال

! بلى والله، ليخلقن الله خلقا من غير فحولة وال إناث، ؟يخلق خلقا يعبدونه ويوحدونه

وسماء تظلهم، أليس الله يوحدونه ويعظمونه، ويخلق لهم أرضا تحملهم و يعبدونه

ماوات ﴿عزوجل يقول: ل األرض غير األرض والس وقال الله [44]إبراهيم: ﴾يوم تبد

ل بل هم في لبس من خلق جديد ﴿ :عزوجل (1)([12]ق: ﴾أفعيينا بالخلق األو

ج ـ البعث وخاتمة الحركة الدنيوية:

ورد في النصوص الكثيرة ما يبين مدى عالقة البعث بالنهاية التي ينتهي إليها السير

الدنيا، وربما هفي حيات الخيارات التي ارتضاها لنفسه نهايةالتكاملي لإلنسان، والذي يبين

.يدخل فيها تصحيحاته لها في حياته البرزخية إن تمكن من ذلك

ان في اإلنسالبداية التي يتشكل منها تصاغ ةالخاتممن ولذلك ورد ما يدل على أنه

، الشكل الذي يكون عليهوخاتمة هي التي تحدد مصيره، الورد فيها أن و، نشأته الجديدة

قوا ﴿ولهذا قال الله تعالى: ذين آمنوا ات ها ال حق تقاته وال تموتن إال وأنتم اللهياأي

[102ل عمران: ]آ ﴾مسلمون

تبين خطر الخاتمة وأهميتها، ومنها وقد بين ذلك أحاديث كثيرة لرسول الله

إن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إال ذراع، فيسبق عليه ) :قوله

كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إال ذراع، فيسبق عليه

(2)(يعمل بعمل أهل الجنةالكتاب، ف

( اليعني الجبر، وال أن الله فرض عليه ذلك، فيسبق عليه الكتاب: )وقوله

ولكنه يعني ـ حسبما تدل النصوص الكثيرة ـ على أنه الخيار الذي اختاره اإلنسان بمحض

(311/ 24العالمة المجلسي ) -بحار األنوار (1)

(2343( ومسلم )3204رواه البخاري ) (2)

220

رغبته، وهو طبعا لن يخالف ما في علم الله عنه، كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب

األقدار[]أسرار

والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، التقى النبي )عن سهل، قال: وروي

فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل ال يدع من المشركين شاذة وال فاذة إال

نه من أهل إ)اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فالن، فقال:

أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: ألتبعنه، فقالوا: ،(النار

فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه باألرض،

فقال: أشهد أنك فجاء الرجل إلى النبي فسه،وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل ن

إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما )بره، فقال: فأخ، (وما ذاك)رسول الله، فقال:

يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل

(1)(الجنة

ولذلك كان أكثر خوف الصالحين من الخاتمة المغيب شأنها، والتي يجتمع فيها

حياته، ولذلك يمكن اعتبارها كل القرارات المصيرية التي يتخدها اإلنسان طيلة

الخالصة التي ينتهي إليها اإلنسان.

)اعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين: وقد أشار الغزالي إلى سر ذلك، فقال:

إحداهما أعظم من األخرى؛ فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند

ض الروح على حال غلبة سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقب

الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله

. والثانية وهي دونها أن يغلب .تعالى أبدا، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد

(4203ح) 2/133صحيح البخاري (1)

221

على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها؛ فيتمثل ذلك في قلبه

تغرقه حتى ال يبقى في تلك الحالة متسع لغيره؛ فيتفق قبض روحه في تلك الحال؛ ويس

فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها، ومهما انصرف الوجه

عن الله تعالى حصل الحجاب، ومهما حصل الحجاب نزل العذاب، إذ نار الله الموقدة

فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى ال تأخذ إال المحجوبين عنه،

الله تعالى، فتقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي، فمهما اتفق قبض الروح في

(1)حالة غلبة حب الدنيا، فاألمر مخطر ألن المرء يموت على ما عاش عليه(

في ، وورد (2)(عليه يبعث كل عبد على ما مات): ولهذا ورد في الحديث قوله

وهو إذا مات بالحج أو العمرة المحرمذكر بعض األمثلة على ذلك، ومنها أن األحاديث

ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته وهو ، فقد روي عن بعث يوم القيامة ملبياكذلك،

: )اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في قال النبي ففي حجة الوداع، محرم مع النبي

(3) وال تحنطوه، وال تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا( ثوبين،

الشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، ومثله روي أن

والله أعلم بمن يكلم في ـال يكلم أحد في سبيل الله ): فقد قال والريح ريح المسك،

(4) (إال جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح مسك ـسبيله

وعلى خالفهم يكون حال المنحرفين عن السراط المستقيم، وقد ورد في القرآن

]آل ﴾ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴿قوله تعالى: الغال من الغنيمةالكريم عن

(133/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

(2434رواه مسلم برقم ) (2)

(1203(، رواه مسلم برقم )1232رواه البخاري برقم ) (3)

(1433(، رواه مسلم برقم )2403رواه البخاري برقم ) (4)

222

[131عمران:

يبعث يوم القيامة كالمجنون الذي أصابه المس ، وكيفآكل الربـاوورد فيه عن

يطان من المس ﴿ :قال تعالى ذي يتخبطه الش با ال يقومون إال كما يقوم ال ذين يأكلون الر ال

[232]البقرة: ﴾

بي تبين غدرته، قال النيوم القيامة ترفع له راية ، وأنه الغادروورد في الحديث عن

:( إذا جمع الله األولين واآلخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة

(1) فالن بن فالن(

د ـ البعث والمعاد الجسماني:

ربما تعتبر مسألة المعاد وكيفيته من أهم المسائل التي خاض فيها الفالسفة

واختلفوا فيها اختالفا شديدا إلى الدرجة التي وصل فيها األمر حد التكفير، والمتكلمون،

مع أن المسألة ال تستدعي كل ذلك.

ها المادة التي يتكون منف ؛الجميع حاولوا أن يقحموا أنفسهم فيما ال طاقة لهم بهف

حث ا، وغير ذلك من المبوالقوانين التي تخضع لها اإلنسان بعد البعث وشكلها وهيئتها

ما ورد ب ده لألشباه والنظائر، ولهذا يكتفى فيهانوع من البحث فيما ال يطيقه العقل، الفتقا

من التقريبات والتوضيحات.

ونحسب أن القرآن الكريم عندما عرض المسألة، ورد فيها على المشركين كان

، ااهتمامه بالمعاد، وبكونه حقيقة ملموسة، ولم يعرض لتفاصيل كيفيتها، ولو عرض له

فإنه من باب التقريب، مثلما يذكر عن الجنة والنار ونحوهما.

ولهذا فإن إنكار المعاد ـ حسب تصوري ـ ال يرتبط بأمثال تلك التصورات، ألنها

(1332(، رواه مسلم برقم )3143، 3143رواه البخاري برقم ) (1)

223

كر نمجرد محاوالت لفهم ما يحصل بالضبط، والجميع كما ذكرنا ال ينكره، ولكن قد ي

بالكفر، فهو خطير جدا، خاصة مع هيئة من الهيئات المرتبطة به، ولذلك ال يصح اتهامه

إيمان هذا الفريق بالمعاد، وإيمانه قبل ذلك بالله تعالى.

ونعقب عليها بما نراه، ومن ،وسنسوق هنا بعض ما ذكروه من آراء في المسألة

همنا للنصوص المقدسة حول الموضوع.خالل ف

تألهينالمصدر ومن أحسن تلك التحقيقات في نوع الخالف وأسبابه ما نص عليه

اتفق المحققون من الفال سفة والمليين على أحقية المعاد، وثبوت النشأة الباقية، ): بقوله

لكنهم اختلفوا في كيفيته، فذهب جمهور اإلسالميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث

إلى أنه جسماني فقط، بناء على أن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في

، وذهب جمهور الفال سفة وأتباع المشائين ماء في الورد، والزيت في الزيتونوالالفحم،

إلى أنه روحاني أي عقلي فقط ألن البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلق النفس بها،

فال يعاد بشخصه تارة أخرى، إذ المعدوم ال يعاد، والنفس جوهر باق ال سبيل للفناء إليه،

ر وذهب كثير من أكاب، ات لقطع التعلقات بالموت الطبيعيارقفتعود إلى عالم المف

الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب

األصفهاني وكثيرمن أصحابنا اإلمامية كالشيخ المفيد، وأبي جعفر الطوسي، والسيد

لله تعالى عليهم أجمعين إلى المرتضى، والمحقق الطوسى، والعالمة الحلي، رضوان ا

(1)(القول بالمعادين، ذهاباا إلى أن النفس مجردة تعود إلى البدن

وإلى جانب هذا نجد النصوص الكثيرة من السنة والشيعة في تكفير جاحد المعاد

، وهو من كبار علماء محمد بن خليل حسن هراسالجسماني، ومن أمثلتها قول الشيخ

.132، ص 1األسفار، ج (1)

224

ويجب اإليمان بالبعث على الصفة التي بينها الله في عاصرين: )المدرسة السلفية الم

خلقاكتابه، وهو أنه جمع ما تحلل من أجزاء األجساد التي كانت في الدنيا، وإنشاؤها

ومنكر البعث الجسماني ـ كالفالسفة والنصارى ـ كافر، وأما ، جديدا، وإعادة الحياة إليها

رواح في أجسام غير األجسام التي كانت في الدنيا؛ به ولكنه زعم أن الله يبعث األ من أقر

(1)(فهو مبتدع وفاسق

: األشاعرة.ي، وهو من كبار علماء المدرسة السنية من عضد الدين اإليجوقال

هو الذي يجب االعتقاد به، المعاد الجسماني هو المتبادر من إطالق أهل الشرع، إذ)

ويكفر من أنكره، وهوحق، لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة بحيث ال تقبل

ا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) ﴿التأويل، كقوله تعالى: نسان أن ( 33أولم ير اإل

ذي أنشأها 34قال من يحي العظام وهي رميم )وضرب لنا مثالا ونسي خلقه ( قل يحييها ال

ة وهو بكل خلق عليم ) ل مر قال المفسرون نزلت هذه اآلية ،[40 - 33]يس: ﴾( 31أو

ا وقال: ي ،وأتاه بعظم قد رم وبلى، ففته بيده ، في أبى بن كعب فإنه خاصم رسول الله

وهذا مما (،نعم، ويبعثك ويدخلك النار)محمد، أترى الله يحيي هذه بعدما رمت، قال:

إنه ال يمكن الجمع بين اإليمان )يقلع عرق التأويل بالكلية، ولذلك قال اإلمام الرازى:

(2) (بما جاء به النبي وإنكار الحشر الجسماني

إعلم أن القول بالمعاد ): الشيعية، وهو من كبار علماء المدرسة قال المجلسيو

الجسماني مما اتفق عليه جميع المليين وهو من ضروريات الدين ومنكره خارج من عداد

المسلمين، واآليات الكريمة على ذلك ناصة ال يعقل تأويلها، واألخبارفيه متواترة ال

(34شرح العقيدة الواسطية للهراس )ص: (1)

.243، ص 2شرح العقائد العضدية، ج (2)

222

(1) (يمكن ردها وال الطعن فيها

ـ ال ألهل كوننا نؤمن بما ورد في ال ولكنا مع نصوص المقدسة من التجسد الحسي

مثل هذه في عدم التسرع في التكفيرنرى النشأة األخرى فقط، بل حتى ألعمالهم أيضا ـ

المسائل، ألن غرض المنكرين ال يرتبط بإنكار حقيقة المعاد، وإنما يرتبط بشكله

جساد فيوصورته، وقد ذكرنا سابقا أن كل ذلك غيب محض، ألن الصور المتوهمة لأل

اآلخرة تختلف كثيرا عما نعهده من صور، كما ذكرنا ذلك في مقدمة هذا المبحث.

بقيت اآلن بعض اإلشكاالت في هذا الجانب يطرحها الفالسفة أو غيرهم من

القائلين بالمعاد الروحاني، أو بعدم المعاد مطلقا، وقد أجاب عليها علماء الكالم قديما

بنية على توهم أن هذا الجسد الذي نعيش به في الدنيا هو وحديثا إجابات كثيرة، وهي م

نفسه الذي سيبعث، وليس المادة األساسية المشكلة له، والمتضمنة في الخارطة الجينية،

والتي يمكنها في ظل الظروف المناسبة، أن تعود للحياة من جديد.

معتمدين على ما كتبه تلك الشبهات، هم وسنذكر هنا ملخصا مبسطا أل

باعتباره حاول طرحها وفق منهج ]علم الكالم الشيخ مكارم الشيرازي، بخصوصها

الجديد[، من حيث التبسيط واألمثلة ونحوها.

الشبهة األولى:

وهي من أقدم الشبه، [شبهة اآلكل والمأكولوهي الشبهة التي يطلق عليها ]

لقحط والمجاعة تغذى على لحم آخر بحيث إنساناا حين اوخالصتها، أننا لو فرضنا أن

أو جميعه من لحم اإلنسان الثاني، فهل ستنفصل ،من بدن اإلنسان األول اأصبح جزء

هذه األجزاء في المعاد عن اإلنسان الثاني أم ال؟ فإن كان الجواب باإليجاب أصبح بدن

.43، ص 3بحاراألنوار، ج (1)

223

.(1) اإلنسان الثاني ناقصاا، وإن كان الجواب بالسلب كان بدن اإلنسان األول ناقصاا

ويصبح ،ح بدنهم تراباا ويصب ،يجري دائماا في الطبيعة حيث يموت الناسومثلها ما

شجار تدريجياا إلىمتصاصه من قبل جذور األاثم يتبدل بعد ،التراب جزءاا من األرض

ن وعليه فأجزاء األفراد السابقين تصبح م، نبات يتغذى عليه سائر الناس، أو الحيوانات

هذا الطريق جزءاا من بدن األفراد الالحقين.

لمتم بأن هذه التفاحة التي توضع أمامنا قد تكون والينبغي لكم أن تتعجبوا إذا ما ع

التراب، وامتصت ثانية من قبل أصبحت لعشر مرات جزءاا من بدن إنسان ثم عادت إلى

تفاحة ثم تناولها إنسان آخر وأصحبت جزءاا من بدنه، وعلى هذا جذور وتحولت إلى

بعض األجزاء على األساس فإن كان المعاد جسماني تصارعت عشرة أبدان يوم القيامة

وسيكون لكل جزء من يدعيه له، فكيف سيكون المعاد جسمانياا؟

نصير الدين الطوسي والجواب على هذه الشبهة ـ كما يذكر المتكلمون من أمثال

غيرهم ـ كما ينقل عنهم مكارم الشيرازي ـ يعتمد على التفريق بين والعالمة الحلي و

ن:يلبدن اإلنسان قسم، فهم يذكرون أن «ألصليةاألجزاء غير ا»و« األجزاء األصلية»

.واألجزاء اإلضافية ،األجزاء األصلية

وال فال تتعوض ،األجزاء التي تبقى طيلة عمر اإلنسان ، فهياألجزاء األصليةأما

تفنى وال تصبح جزءاا من بدن إنسان آخر أبداا، حتى وإن تناولها شخص آخر فال تصبح

جزءاا من بدنه.

،اء اإلضافية فهي قابلة للتغيير والتعويض وهي دائماا في حالة تغيرأما األجز

.ويمكن أن تكون جزءاا من بدن إنسان أو حيوان آخر

.203، صاآلخرةالمعاد و عالم (1)

223

األجزاء األصلية لبدن كل شخص ، ذلك أن وهكذا تحل المشكلة، يوم القيامة

تنمو في مدة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة اإلنسان وتصنع البدن األصلي.

وكيف يمكن تمييزها ،األجزاء األصليةالذي يعرض بعد هذا يتعلق عن والسؤال

عن سائر األجزاء؟

وقد أجاب المتكلمون عن هذا بمجموعة إجابات، من بينها ما ذكره المتكلمون

الواقعة على الكروموسومات في « الجينات»األجزاء األصلية هي المحدثون من أن )

هذه الجينات جزء من نواة الخلية الثابتة الوضع طيلة العمر وسط نواة الخاليا، وعليه ف

(1)(وتشكل األجزاء األصلية لبدن اإلنسان

أسفل عظم في هذا العمود هو ، أيالفقرة األخيرة في العمود الفقريومنها أنها )

(واليستقطبه بدن حيوان أو إنسان آخر ،الجزء األصلي لبدن اإلنسان حيث اليزول أبداا

األجزاء التي ال نعرفها على وجه الدقة، إالأننا نعلم أنها موجودة في نها )ومنها أ

(بدن حيوان أو إنسان آخر بدن اإلنسان وخاصيتها أنها ال تزول أبداا وال تنتقل إلى

وكل هذه احتماالت ليس لدينا من األدلة ما يقوي أيا منها، ولذلك يوكل األمر إلى

زها شيء.القدرة اإللهية التي ال يعج

الشبهة الثانية:

[ مقارنة بعدد الذين سيبعثون،قلة التربة على األرضوهي الشبهة التي تذكر ]

لو تقرر أن تعود أجساد كافة أفراد بني اإلنسان يوم القيامة وملخص هذه الشبهة هي أنه )

فإن التراب الذي على األرض ال يكفي لكل هؤالء األفراد، وعليه ؛بهذا البدن المادي

(2)(ستكون لنا مشكلة المواد األساسية لبناء كل هؤالء األفراد

.202المعاد وعالم اآلخرة، ص: (1)

..212المرجع السابق، ص (2)

224

يبدو أن من يطلق هذا وقد أجاب الشيخ مكارم الشيرازي على هذه الشبهة بقوله: )

الم إنما يطلق سهمه في ظالكالم ويتحدث عن أزمة التراب الالزم لبناء جميع أفراد البشر

دامس وقد خاب سهمه، فما أحرى من يتفوه بذلك أن يتناول ورقة وقلماا ويحسب األمر

(1) (الخطأ الذي يرتكبه في هذا المجال بصورة رياضية ليعلم مدى

ن الماء أثم راح يقوم ببعض الحسابات البسيطة التي ترد على هذه الشبهة، فذكر .

من جسم اإلنسان، وعليه فإن المواد المعدنية واآللية لبدن اإلنسان بالمئة 07 -52يشكل

تقريباا ثلث وزن بدنه، يعني اإلنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريباا عشرون كيلواا أو أقل

.من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية والباقي ماء

في ألكثر من مئةيك، فإنه كان لدينا متراا مكعباا من الترابوبناء على هذا، فلو

كفي يأن الكيلو متر المكعب من التراب واآلن تستطيع التعرف بسهولة على)شخص،

المقدار من التراب يكفي لخمس وعشرين ضعفاا من سكان الكرة ، وهذا لمئة مليار إنسان

(2) (هذا المقدار من التراب يشغل مساحة زهيدة من سطح الكرة األرضيةواألرضية،

الثالثة:الشبهة

إذا كان [، وخالصة هذه الشبهة هي أنه الجسم الذي يشمله المعادوهي حول ]

، هكتسبها اإلنسان طيلة عمره سيكون معادابدن من األبدان التي المعاد جسمانياا، فأي

فهل يعود بمجموع هذه األبدان .. الجسم يتغير عدة مرات طيلة عمر اإلنسانذلك أن

ببدن واحد منها، وذلك ترجيح بال مرجح، ا، أم أنه يعود عجيبمركبا بحيث يصبح

خاصة به؟لكل بدن صحيفة أعمال باإلضافة إلى أن

وهذا السؤال منتف تماما مع ما دل عليه النص من أن المعاد من جسم اإلنسان هو

..212المرجع السابق، ص (1)

..212المرجع السابق، ص (2)

221

أصله، أما الباقي، فمجرد غذاء تشكل منه الجسم، ويمكن تعويضه بأي بدائل أخرى..

يشبه بالونا صغيرا يمكننا بالنفخ فيه أن يتحول إلى شكله الحقيقي الضخم.وهو في ذلك

هذا بناء على ما ذكرنا، لكن بناء على ما ذكره من يقول بعودة الجسم نفسه، فقد

كل بدن يجتذب جميع مميزات وصفات البدن أجاب عليه الشيخ مكارم الشيرازي بأن

وهو خالصة وعصارة ،طيلة العمر السابق، وعليه فآخر بدن هو مخزن جميع الصحف

ولذلك فإن عودة وبعث آخر بدن تعني عودة جميع ،لجميع مميزات األبدان السابقة

.(1) األبدان وبعثها

:والعرض ـ الحشر 4

وقد ورد التعبير عن الحشر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى:

لى ﴿ لن يستنكف ﴿، وقوله: [124]آل عمران: ﴾تحشرون اللهولئن متم أو قتلتم إل

بون ومن يستنكف عن عبادته ويستكب ه وال المالئكة المقر ا لل ر المسيح أن يكون عبدا

ا ) ذين آمن 132فسيحشرهم إليه جميعا ا ال يهم أجورهم ( فأم الحات فيوف وا وعملوا الص

ا وال يجدون ا أليما بهم عذابا ذين استنكفوا واستكبروا فيعذ ا ال لهم ويزيدهم من فضله وأم

ا اللهمن دون [133، 132]النساء: ﴾وليا وال نصيرا

ا من اآليات الكريمة التي تبين أن غاية النشر هي الحشر، وغاية الحشر، هي وغيره

الحساب والمساءلة والموازين وغير ذلك.

ولهذا وصف الله تعالى الحشر بكونه مجاال لالحتجاجات والجدل والخصومة،

ذين أشركوا﴿كما قال تعالى: ا ثم نقول لل ذين كنت ويوم نحشرهم جميعا م أين شركاؤكم ال

نا للهاثم لم تكن فتنتهم إال أن قالوا و ﴿، ثم بين موقفهم فقال: [22]األنعام: ﴾تزعمون رب

.212المعاد وعالم اآلخرة، ص: (1)

230

م انظر كيف كذبوا على أنفسه ﴿، ثم رد عليهم، فقال: [23]األنعام: ﴾ما كنا مشركين

[24]األنعام: ﴾وضل عنهم ما كانوا يفترون

وهذا يدل على أن الكثير من الظروف توفر ألولئك الذين سيحاسبون ويناقشون،

حتى يتمكنوا من المحاجة عن أنفسهم، أو الدفاع عنها، أو التالقي مع غيرهم سواء من

ا يامعشر الجن و ﴿سادتهم أو أتباعهم أو خصومهم، كما قال تعالى: يوم يحشرهم جميعا

نا استمتع بعضنا ببعض وبلغن نس رب نس وقال أولياؤهم من اإل أجلنا اقد استكثرتم من اإل

لت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها ذي أج ﴾إن ربك حكيم عليم اللهإال ما شاء ال

ذين أشركوا مكانكم أنتم ﴿، وقال: [124]األنعام: ا ثم نقول لل ويوم نحشرهم جميعا

انا تعب لنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إي ا بيننا الله( فكفى ب 24دون )وشركاؤكم فزي شهيدا

، ثم أخبر ما يحصل للنفوس [21، 24]يونس: ﴾وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين

وا إلى ﴿حينها، فقال: م ه موالهم الحق وضل عن اللههنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ورد

[30]يونس: ﴾ما كانوا يفترون

وتدل النصوص على مبلغ الهلع الذي يصيب الظالمين والمحادين لله في ذلك

وأنذرهم يوم ﴿ الموقف الشديد الذي ينتظرون فيه المحكمة اإللهية، كما قال تعالى:

فر: ]غا ﴾ا للظالمين من حميم وال شفيع يطاع اآلزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين م

رهم ليوم تشخص فيه اللهوال تحسبن ﴿: وقال، [14 ما يؤخ ا يعمل الظالمون إن غافالا عم

]إبراهيم: ﴾م طرفهم وأفئدتهم هواء مهطعين مقنعي رءوسهم ال يرتد إليه (42األبصار )

42 - 43]

ومظاهر العدالة في الحشر كثيرة جدا، نحاول تلخيصها ـ بحسب ما تدل عليه

النصوص المقدسة ـ في العناوين الثالثة التالية:

أ ـ مواقف أهل الحشر:

231

تدل النصوص المقدسة الكثيرة على أن الخلق في أرض المحشر يصنفون

ى ، حتمن أهل عصرهم تصنيفات كثيرة، منها ما يرجع إلى محالتهم وجيرانهم وأقاربهم

يستطيعوا محاجة بعضهم بعضا، وطلب حقوق بعضهم من بعض، وقد أشار إلى هذا قوله

ة )﴿تعالى: اخ ه وأبيه )34( يوم يفر المرء من أخيه )33فإذا جاءت الص ( 32( وأم

[33 - 33]عبس: ﴾( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه 33وصاحبته وبنيه )

رونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه )﴿ومثله قوله تعالى: ( 11يبص

ا ثم ينجيه 13تي تؤويه )( وفصيلته ال 12وصاحبته وأخيه ) ﴾( ومن في األرض جميعا

، وهذا يدل على أنه توفرت له الفرصة لرؤيتهم، وإال لما طلب [14 - 11]المعارج:

ذلك.

( إال 44يوم ال ينفع مال وال بنون ) ﴿ولهذا وصف الله تعالى يوم المحشر بكونه

[41، 44]الشعراء: ﴾بقلب سليم اللهمن أتى

يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا وقد ورد في بعض اآلثار تصوير ذلك، ففيه: )

هذه، أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت! وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها:

ما أيسر :فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له

ما طلبت، ولكني ال أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل

ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني بخير. فيقول له: يا بني، إني

احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر

(1)(ت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فال أستطيع أن أعطيك شيئاما طلب

وله قعلى ذلك نص يرجع إلى المراتب واألعمال، مثلما ومن تلك التصنيفات ما

(.322/ 4تفسير ابن كثير ) (1)

232

ا ثالثةا )﴿تعالى في سورة الواقعة: ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة 3وكنتم أزواجا

ابقون )1اب المشأمة ما أصحاب المشأمة )( وأصح 4) ابقون الس ( أولئك 10( والس

بون ) ، ولسنا ندري هل هذا التقسيم يكون بعد الحساب [11 - 3]الواقعة: ﴾(11المقر

، أم أنه يكون في الفترتين جميعا؟والمساءلة والموازين، أم أنه يكون قبل ذلك

تلك التصنيفات وأهمها التصنيف المرتبط باألمم التي كانوا ينتسبون إليها، ومن

ة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنت ﴿قال تعالى: كما ة جاثيةا كل أم م وترى كل أم

[24]الجاثية: ﴾تعملون

دعو يوم ن ﴿ولذلك تعرف األمم حينها بأنبيائها وأئمتها وهداتها، كما قال تعالى:

﴾كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم وال يظلمون فتيالا

[31]اإلسراء:

عرضت : )ذا التصنيف، وكيفيته، فقد قال وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ه

علي األمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع

لي سواد عظيم، فقلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى

ا في آفاق السماء، فإذاألفق، فإذا سواد عظيم قد مأل األفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا

(1)(سواد قد مأل األفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤالء سبعون ألفا بغير حساب

لكن هذا االنتماء، كما ورد في النصوص، ليس مثل االنتماء في الدنيا، والذي

يكفي فيه ذلك اإليمان الوراثي، بل يميز الناس فيه على أساس اتباعهم الصادق لرسلهم،

ذا يخرج من أتباع الرسل الكثير من الذين حرفوا وبدلوا.وله

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، ويشير معه إلى أنواع من الفضل تتاح في

.131/ 10رواه البخاري (1)

233

ذلك الموقف ألتباع األنبياء الصادقين، وهو ذلك الشراب العظيم الذي يتلقونه من أيدي

إن لكل ) :قال رسول الله جزاء لهم على إخالصهم وصدق اتباعهم، وورثتهم أنبيائهم

(1)(وإني أرجو أن أكون أكثرهم ،وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ،نبي حوضا

، وآنيته وشرابه، وغير وقد ورد في أحاديث كثيرة وصف حوض رسول الله

من و ذلك، وكلها من التقريبات التي تبسط األمر لعقولنا، ألن الحقيقة أعظم من ذلك،

وريحه ،حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن: )تلك األحاديث قوله

(2)(من شرب منها فال يظمأ أبدا ،وكيزانه كنجوم السماء ،أطيب من المسك

وأحلى من ،أشد بياضا من اللبن) :عن شرابه ؛ فقال سئل وفي حديث آخر أنه

ورق واآلخر من ،أحدهما من ذهب ،من الجنة يمدانه ميزابان فيه (يصب)يغت ،العسل

(3)()فضة

بسم الله الرحمن الرحيم﴿نزلت علي آنفا سورة، فقرأ : )وفي حديث آخر، قال

ا أعطيناك الكوثر ) ك وانحر )1إن - 1]الكوثر: ﴾( 3( إن شانئك هو األبتر )2( فصل لرب

إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد . .أتدرون ما الكوثر؟.. [3

عبد منهم، فأقول: رب، إنه من ال (4)فيختلج،عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء

(2)(أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك؟

وهذا يدل على أن من خواص هذا الحوض أنه ال يمكن أن يشربه إال الصادقون

منع المحرفون والمبدلون لسنن أنبيائهم عن االقتراب من أتباع األنبياء، ولذلك ي

(.2333الترمذي ) (1)

(.4244( ومسلم )3013رواه البخاري ) (2)

(4223صحيح مسلم ) (3)

االختالج: االستالب واالجتذاب. (4)

(3/31 13/، 2مسلم ) (2)

234

والذي نفسي بيده ألذودن رجاال عن )بقوله: والشرب منه، كما صور ذلك رسول الله

(1) (حوضي كما تذاد الغريبة من اإلبل عن الحوض

ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي: : )وقال

اختلجوا دوني، فألقولن، أي رب، أصيحابي، أصيحابي، فليقالن لي، إنك ال تدري ما

(2)(كأحدثوا بعد

وقد ورد ما يدل على أن كل أمة تقف كالطوابير بين يدي حوض نبيها، فال يمر إال

بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا ): رسول الله قالمن كان حقيقا بذلك، ففي الحديث،

، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله ! قلت: عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم

ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم .ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى وما شأنهم؟قال: إنهم

قلت: أين؟ قال: إلى النار والله ! قلت ما شأنهم؟ ،خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم

قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ! فال أراه يخلص منهم إال مثل همل

(3)نعم(ال

أن هذا الحوض يشمل جميع الصادقين من أمته، وفي جميع األزمنة، وقد أخبر

مستمرة في األمة، وليست خاصة بزمان معين، ففي وهو ما يؤكد أن معية رسول الله

السالم عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء ) :أتى المقبرة فقال أن رسول الله الحديث

:قال ؟أولسنا إخوانك يا رسول الله :قالوا (ناالله بكم الحقون وددت أنا قد رأينا إخوان

ك كيف تعرف من لم يأت بعد من أمت :فقالوا (،أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)

أرأيت لو أن رجال له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم أال ) :فقال ؟يا رسول الله

(4223( ومسلم )2114البخاري في صحيحه ) (1)

(.2304، ومسلم رقم )412/ 11رواه البخاري (2)

(.3/204رواه البخاري) (3)

232

،أتون غرا محجلين من الوضوءفإنهم ي) :قال .بلى يا رسول الله :قالوا (،؟يعرف خيله

:أال ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ،وأنا فرطهم على الحوض

(1)(سحقا سحقا :فأقول ،فيقال إنهم قد بدلوا بعدك ؛أال هلم

وقد كان األصل في هذه األحاديث، وما تحمله من التحذير عن مخالفة هدي

،مدعاة للتقوى والورع والحرص على االتباع الصحيح لرسول الله ، رسول الله

عبر مدعاة للتفرقة والتباهي، كما تصارلكنها لألسف والحرص على وحدة األمة،

ال قالتي استفادها من أساتذته: )الطائفية التعاليم تلك يحكي عن ذلك، وهو القرطبي

،الله أو أحدث فيه ما ال يرضاه اللهفكل من ارتد عن دين :علماؤنا رحمهم الله أجمعين

وأشدهم طردا من خالف ،ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه

ن والروافض على تباي ،جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختالف فرقها

وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم ،والمعتزلة على أصناف أهوائها ،ضاللها

وجماعة ،وتطميس الحق وقتل أهله وإذاللهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي

(2)(أهل الزيغ واألهواء والبدع

:النعيم والعذابب ـ

مثلما عرفنا سابقا، فإن ذلك الموقف، وبناء على العدالة والرحمة اإللهية ال يخلو

حسب األعمال التي تتجسد من النعيم والعذاب بشقيه الحسي والمعنوي، وذلك على

في ذلك الحين، لتكون نعيما للصالحين، وشقاء للمنحرفين.

وتجسد األعمال ـ كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرة ـ يختلف بحسب المواقف

والمراحل التي يمر بها اإلنسان في النشأة األخرى، ومن األمثلة على ذلك ما ورد النص

(333رواه مسلم ) (1)

(.303التذكرة للقرطبي ) (2)

233

ي يعيشها التفيه األعمال، لتقي أصحابها من الظلمات عليه من النور الجميل الذي تتجسد

كما ،، والتي تجسدت نتيجة أعمالهم المملوءة بالظلمةفي ذلك الموقف الظلمة وغيرهم

يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم ﴿: قال تعالى

( يوم يقول 12وم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم )الي

ذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم المنافقون والمنافقات لل

حمة وظاهره من قبله العذاب )فالتمسوا ن ا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الر ( 13ورا

صتم وارتبتم وغر تكم ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وترب

كم ب اللهني حتى جاء أمر األما ( فاليوم ال يؤخذ منكم فدية وال من 14الغرور ) اللهوغر

ذين كفروا مأواكم النار هي موالكم وبئس المصير ) [13 - 12]الحديد: ﴾( 12ال

ف الخلق في اآلخرة، نسمع هذا الحوار ففي هذا المشهد المرتبط بالحشر وموق

الجاري بين المؤمنين وغيرهم، والذي يبين للمنافقين حقيقة الخداع والتلبيسات التي

كانوا يلبسون بها على أنفسهم في الدنيا.

أرض واألمر ـ كما ورد في النصوص المقدسة ـ ال يقتصر على ذلك، بل إن

ا ال من الفضل والنعيم م انهم قد يرون فيهكون بمثابة الجنة للصالحين، بل إت المحشر

يجدونه في الجنة نفسها.

ومن األمثلة على ذلك ما ورد النص عليه في األحاديث التي تذكر جلوس بعض

أهل الموقف على منابر النور، وهم في غاية الروح والسرور يعاينون أهل الموقف،

المحتقرين الذين لم وانتظارهم للحساب، وقد يكون من بينهم أولئك المظلومين

ينصفوا؛ فينصفهم الله تعالى في ذلك الموقف، بأن يروا المحاكمة العادلة التي تجري

لمن ظلموهم، والتي حرموا منها في الدنيا.

اعقلوا واعلموا أن لله عبادا ليسوا في بعض خطبه: ) ومن تلك األحاديث قوله

233

،يفقام أعراب (،كانهم وقربهم من اللهيغبطهم النبيون والشهداء لم ،وال شهداء ،بأنبياء

هم ) :فقال ؛لقول األعرابي من هم حلهم لنا فسر وجه رسول الله ، فقال يا رسول الله

له عز تحابوا في جالل ال ،قوم لم تصل منهم أرحام متقاربة من أفناء الناس ونوازع القبائل

سون منابر من نور فيجل يضع الله لهم ،وتباذلوا فيه ،وتصافوا فيه وتزاوروا فيه ،وجل

وال يفزعون إذا فزع ،ال يخافون إذا خاف الناس ،ووجوههم نور ،وإن ثيابهم لنور ،عليها

(1)(أولئك أولياء الله ال خوف عليهم وال هم يحزنون، الناس

إن المقسطين عند : )وفي حديث آخر ذكر بعض صفاتهم، وهي القسط، قال

(2)(يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولواالذين . .الله على منابر من نور

وقد ورد ما يدل على أن هؤالء الجالسين على منابر النور، ال يجلسون في انتظار

الحساب، وإنما ليعاينوا أهل الموقف، وكيفية حسابهم، وإلى ذلك اإلشارة بقوله تعالى:

ار يضحكون )﴿ ذين آمنوا من الكف ب 32على األرائك ينظرون ) (34فاليوم ال ( هل ثو

ار ما كانوا يفعلون ) [33 - 34]المطففين: ﴾(33الكف

)الشهداء ثالثة قال: وقد ورد في الحديث ما يدل عليه، فقد روي أن رسول الله

ل ليكثر سواد ترجال: رجل خرج بماله ونفسه محتسباا في سبيل الله ال يريد أن يقتل وال يق

المسلمين، فإن مات أو قتل غفرت ذنوبه كلها وأجير من عذاب القبر وأومن من الفزع

األكبر وزوج من الحور العين، ووضع على رأسه تاج الوقار، ورجل جاهد بنفسه وماله

يريد أن يقتل وال يقتل فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن في

د مليك مقتدر، والثالث: رجل خرج بنفسه وماله محتسباا يريد أن يقتل مقعد صدق عن

فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهراا بسيفه واضعه على عنقه والناس جاثون ؛ويقتل

(42/ 4نوادر األصول في أحاديث الرسول ) (1)

(3/3(، ومسلم )3412( )2/130(.وأحمد )244الحميدي ) (2)

234

نفسي والذي، على الركب يقول: أال فأفسحوا لنا فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله عز وجل

أو لنبي من األنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما ،ليل الرحمنبيده لو قالوا ذلك إلبراهيم خ

ويجلسون ينظرون كيف يقضي بين ،حتى يأتوا منابر من نور ،يرى من واجب حقهم

وال يهمهم ،فزعهم الصيحةتوال ،الناس ال يجدون غم الموت، وال يغتمون في البرزخ

اا إال ناس وال يسألون شيئينظرون كيف يقضى بين ال ،وال الميزان وال الصراط ،الحساب

أعطوه وال يشفعون إال شفعوا فيه، ويعطى من الجنة ما أحب وينزل من الجنة حيث

(1)أحب(

عد ب نيوربما يكون لهؤالء عالقة بأصحاب األعراف، كما سنرى في المبحث الثا

استعراض األقوال الواردة فيهم.

ك الذين لم يجدوا من وهكذا ورد في النصوص المقدسة المشاهد الكثيرة ألولئ

أعمالهم الصالحة ما يكون نورا وطهرا وطيبا لهم؛ فلذلك تظل صور أعمالهم السيئة،

والتي صنعوها بأنفسهم تطاردهم في كل محل، حتى يتحقق لهم الطهر النهائي منها إن

كانوا أهال لذلك.

وقد ذكرنا سابقا بعض العذاب الذي يحصل لهم نتيجة تغير أشكالهم وصورهم

وألوانهم إلى الشكل الذي صمموه بأنفسهم في حياتهم الدنيا، ذلك أن األخالق في ذلك

الموقف هي التي تحدد صورة الخلقة.

ك آلالم النفسية التي تعتري أولئالمشاهد الكثيرة لولهذا نرى القرآن الكريم يذكر

بالهم وأمامهمالذين وقفوا ذلك الموقف الطويل، وهم ينتظرون المحكمة اإللهية، وعلى

صور كل ما فعلوه في تلك الفرصة التي أتيحت لهم لكنهم ضيعوها.

(.434/ 1الترغيب والترهيب لقوام السنة ) (1)

231

ولو ترى إذ المجرمون ناكسو ﴿ومن تلك المشاهد ما نص عليه قوله تعالى:

ا م ا إن نا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا هم رب ]السجدة: ﴾وقنون رءوسهم عند رب

12]

ا ومثله ﴿ومنها ما نص عليه قوله تعالى: ذين ظلموا ما في األرض جميعا ولو أن لل

العذاب يوم القيامة وبدا لهم من ﴾ما لم يكونوا يحتسبون اللهمعه الفتدوا به من سوء

[43: ]الزمر

ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت ﴿ومنها ما نص عليه قوله تعالى:

سول سبيالا ) ا خليالا )23مع الر خذ فالنا كر بعد 24( ياويلتا ليتني لم أت ني عن الذ ( لقد أضل

نسان خذوالا إذ جاءني و يطان لإل [21 - 23]الفرقان: ﴾كان الش

ولو أن لكل نفس ظلمت ما في األرض الفتدت ﴿ومنها ما نص عليه قوله تعالى:

ا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم ال وا الندامة لم [24]يونس: ﴾ يظلمون به وأسر

هم يرجع ﴿ومنها ما نص عليه قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند رب

ذين استكبروا لوال أنتم لكنا مؤمن ذين استضعفوا لل ن يبعضهم إلى بعض القول يقول ال

ذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ﴿( 31) ذين استكبروا لل قال ال

يل والنهار إذ 32بل كنتم مجرمين ) ذين استكبروا بل مكر الل ذين استضعفوا لل ( وقال ال

ا رأوا العذاب وجعلنا األغالل اللهننا أن نكفر ب تأمرو وا الندامة لم ا وأسر ونجعل له أندادا

ذين كفروا هل يجزون إال ما كانوا يعملون ) [33 -31]سبأ: ﴾(33في أعناق ال

يوم يجمعكم ﴿يوم التغابن، كما قال تعالى: يامة ولذلك كان من أسماء يوم الق

[1]التغابن: ﴾ليوم الجمع ذلك يوم التغابن

فتح يبتفسير سر تلك التسمية، حيث قال: ) وقد ورد الحديث عن رسول الله

الليل أربعة وعشرون خزانة ـ عدد ساعات للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره

230

فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما والنهار ـ فخزانة يجدها مملوءة نورا وسرورا

بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها اإلحساس لو وزع على أهل النار الدهشهم عن

منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع ربه، ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها مظلمة

عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ا لو قسم على أهل الجنة لنغصوالجزع م

ليس فيها ما يسره وال ما يسوؤه وهي الساعة ربه، ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها فارغة

اتها الدنيا، فيناله من الغبن واالسف على فو التي نام فيها أو اشتغل فيها بشئ من مباحات

ذلك يوم ﴿ما ال يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ها حسناتحيث كان متمكنا من أن يمال

(1)([1]التغابن: ﴾التغابن

ربما تفوق اآلالم الحسية، فيه يوم الحسرة، ذلك أن اآلالم النفسية ومن أسمائه

﴾وهم ال يؤمنون وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي األمر وهم في غفلة ﴿كما قال تعالى:

[31]مريم:

وهكذا نرى فيه المشاهد الكثيرة لتحسر الكافرين، ومنها هذا المشهد الذي يذكر

خطاب الله تعالى ألولئك المجرمين في ذلك الموقف، والذين قضوا حياتهم كلها

هم قال أليس هذا ﴿يكذبون به: نا قال ولو ترى إذ وقفوا على رب بالحق قالوا بلى ورب

30فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )بوا بلقاء ذين كذ حتى إذا جاءتهم الله( قد خسر ال

طنا فيها وهم يحملون اعة بغتةا قالوا ياحسرتنا على ما فر أوزارهم على ظهورهم أال الس

[31، 30]األنعام: ﴾ساء ما يزرون

ومنها تلك الصيحات التي يصيحها أولئك المحادون لله في ذلك الموقف

بعوا أحسن ما أنزل إليكم ﴿الشديد، والتي تعبر عن حسرتهم الشديدة، قال تعالى: من وات

.232/ 3بحار األنوار: (1)

231

كم من ( أن تقول نفس ياحسرتا على 22قبل أن يأتيكم العذاب بغتةا وأنتم ال تشعرون ) رب

طت في جنب اخرين ) اللهما فر [23، 22]الزمر: ﴾(23وإن كنت لمن الس

وا في من الذين قصر وهي حسرة ال تصيب الكفار فقط، بل تشمل المؤمنين أيضا،

حق الله، أو تساهلوا في التعامل مع حدوده.

ومن الذين وردت النصوص بتحسرهم أولئك الذين كانوا يلهثون وراء المناصب

نعم الشىء اإلمارة لمن معبرا عن حسرتهم: ) من غير أن يؤدوا حق الله فيها، كما قال

قها، فتكون عليه حسرة يوم أخذها بحقها، وبئس الشىء اإلمارة لمن أخذها بغير ح

(1)القيامة(

ومنهم أولئك الذين قصروا في ذكر الله، وخاصة بعد أن يروا األنوار العظيمة التي

ما جلس قوم مجلسا : )ينعم بها الذاكرون في ذلك الموقف الممتلئ باألهوال، قال

قوم جلسوا مجلسا ما من ، وقال: )(2)ان عليهم حسرة يوم القيامة(قط لم يذكروا الله إال ك

لم يذكروا الله فيه إال كان عليهم ترة، وما من رجل مشى طريقا فلم يذكر الله عز وجل إال

(3)(كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله عز وجل إال كان عليه ترة

:والشفاعةـ االنتظار ج

حشر انيه البشر في أرض المورد في الروايات الكثيرة ذكر االنتظار الطويل الذي يع

اإلمام الصادق ومن تلك الروايات ما روي عن للمحكمة اإللهية، والبت في قضاياهم،

وال ،فلييأس من الناس كلهم ،إذا أراد أحدكم أن ال يسأل ربه شيئاا إال أعطاه)قال: أنه

؛ وقال الهيثمى: رواه الطبرانى فى الكبير ورجاله رجال الصحيح. مجمع 2/134المعجم الكبير للطبرانى: (1)

3/303.

.10/40قال الهيثمى: رواه الطبرانى فى األوسط، وفيه عمرو بن الحصين العقيلى وهو متروك. مجمع الزوائد: (2)

(40/ 10الفوائد ) رواه أحمد، والترمذي، مجمع الزوائد ومنبع (3)

232

اا م يسأله شيئفإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه ل .يكون له رجاء إال من عند الله عز ذكره

كل موقف ،فإن للقيامة خمسين موقفاا ،فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها؛ إال أعطاه

ون ﴿مقداره ألف سنة ثم تال: ا تعد (1)([2]السجدة: ﴾في يوم كان مقداره ألف سنة مم

رى نمع جمال هذه الرواية، واألبعاد العرفانية والتربوية الكثيرة التي تحملها، و

ما ال يتوافق مع النصوص القطعية من القرآن ادس فيهالتي الروايات الكثير من لألسف

الكريم والحديث الشريف، ولذلك ال يمكن قبول كل ما فيها، بل تناقش على ضوء ما

يعارضها من النصوص المقدسة.

تلك الرواية الطويلة التي حدث بها أبو هريرة، والتي من أشهر تلك الرواياتو

أتي ) أن رسول الله ذكر فيها قد و ،الناس جميعا، اردد كثيرا على المنابر، ويكاد يعرفهت

بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم

لك؟ يجمع الله الناس األولين واآلخرين في صعيد واحد، القيامة، وهل تدرون مم ذ

يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما ال

يطيقون وال يحتملون، فيقول الناس: أال ترون ما قد بلغكم، أال تنظرون من يشفع لكم

ولون له: دم عليه السالم فيقإلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آ

أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر المالئكة فسجدوا لك، اشفع

لنا إلى ربك، أال ترى إلى ما نحن فيه، أال ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد

ن الشجرة ع غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني

فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون:

يا نوح، إنك أنت أول الرسل إلى أهل األرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى

(4/143الكافي ) (1)

233

ربك، أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب

ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي، نفسي، قبله مثله

نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي

إن :الله وخليله من أهل األرض، اشفع لنا إلى ربك أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم

ضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت ربي قد غضب اليوم غ

كذبت ثالث كذبات ـ فذكرهن أبو حيان في الحديث ـ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى

غيري، اذهبوا إلى موسى فيأتون، موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله

بي ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربرسالته وبكالمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، أال

قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا

لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم، فيأتون

مت ح منه، وكلعيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم ورو

الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي

قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا،

نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا

سول الله وخاتم األنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع محمد أنت ر

لنا إلى ربك، أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز

وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا، لم يفتحه على أحد قبلي،

سل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك

أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من ال حساب عليهم من الباب

األيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من األبواب، ثم قال: والذي

ين أو كما ب، ما بين مكة وحميرنفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، ك

234

(1)(مكة وبصرى

ونحن ال نتجرأ على إنكار كل ما في هذا الحديث من تفاصيل، فقد يكون في بعضه

بعض الصدق، ولكن بما أن الرواة يضيفون أحيانا بعض ما يعتبرونه توضيحات للحديث،

فلذلك مناقشتنا له محاولة لتنقية الحديث من تلك اإلضافات.

هذا؛ فإن أهم االنتقادات الموجهة لهذا الحديث تتمثل في: بناء على

ـ أن أهل المحشر ـ كما ذكرت النصوص المقدسة ـ متفاوتون جدا في نعيمهم أوال

وعذابهم بحسب أعمالهم المجسدة لهم، ولذلك وضعهم جميعا في محل واحد،

الرواية كما ورد في واعتبارهم جميعا يطلبون الشفاعة للتعجيل بانعقاد المحكمة اإللهية ـ

ـ غير صحيح.

باإلضافة إلى ذلك، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن الزمن في اآلخر يكون

مرتبطا باألعمال، ولذلك تمر على المؤمن كل تلك الفترة الطويلة من االنتظار قصيرة

:قال، أنه رسول الله جدا ال يكاد يشعر بها، وقد سبق أن ذكرنا ما ورد في الحديث عن

والذي ): فقال النبي ،ما أطول هذا اليوم :، فقيل(يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)

إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صالة مكتوبة يصليها في ،نفسي بيده

، (يهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغربوفي رواية: ) ،(2)(الدنيا

(يخفف على من يشاء من عباده طوله كوقت صالة مفروضةإن الله لوفي رواية: )

جميع الخلق، وإنما هم واولذلك نرى أن الناس المذكورين في الرواية ليس

الكفار، أو ربما أولئك الذين واجهوا األنبياء ولم يعرفوا حرمتهم، لكنهم أدركوا قيمتها

في ذلك الحين.

(2434(، والترمذي )114(، ومسلم )4312البخاري ) (1)

(1101رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب، انظر: المغني عن حمل األسفار )ص: (2)

232

المشهد القرآني الذي صور هذاتنافى مع باإلضافة إلى ذلك فإن تلك الرواية ت

ور فصعق من فيالنفخ في الصور، وما يحصل بعده، فقد قال تعالى: ﴿ونفخ في الص

ماوات ومن في األرض إال من شاء ( 34ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) اللهالس

وقضي بينهم بالح هداء ها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والش ق وأشرقت األرض بنور رب

يت كل نفس ما عم 31وهم ال يظلمون ) (﴾ ]الزمر: 30لت وهو أعلم بما يفعلون )( ووف

34 - 31]

وبعدها أخبر الله تعالى مباشرة عن القرار الذي يقر فيه كل شخص بحسب عمله،

ا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم فقال: ذين كفروا إلى جهنم زمرا ﴿وسيق ال

كم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ق خز لوا انتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات رب

ت كلمة العذاب على الكافرين ) ( قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها 31بلى ولكن حق

ا حتى إذا جاءوها 32ئس مثوى المتكبرين )فب هم إلى الجنة زمرا قوا رب ذين ات ( وسيق ال

( وقالوا 33وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سالم عليكم طبتم فادخلوها خالدين )

أ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر الحمد لل ذي صدقنا وعده وأورثنا األرض نتبو ه ال

[34 - 31(﴾ ]الزمر: 34العاملين )

ال يتناسب مع عظمة الله، وال مع ما ورد في ـ أن الحديث يذكر معنى خطيرا ثانيا

إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم اآلخرة، ففيه: ) النصوص المقدسة عن رحمة الله في

(يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله

فهل يمكن أن تكون رحمة الله التي وسعت كل شيء قد زالت في ذلك الحين،

وحل بدلها الغضب.. أم أن رحمة الله تعالى موجودة في كل حين، كما أن غضبه موجود

ابل والمحل.. أما الله فأعظم من أن تغيره في كل حين.. ولكن االختالف بحسب الق

األحوال، أو تجري عليه األحداث؟

233

نفسه ذكر في الحديث أن رحمة الله تعالى في اآلخرة، مع أن رسول الله

وبحسب القابل لها، تكون أعظم ظهورا من رحمته في الدنيا، لضيق وعاء الدنيا، كما ورد

ة منها قسمها بين الخالئق وتسعة وتسعين إن الله خلق مائة رحمة، رحمفي الحديث: )

(1)إلى يوم القيامة(

ـ من التفاصيل التي وردت في الرواية، والتي ال نرى مناسبة لها، ما ذكره من ثالثا

باهتمامهم بأنفسهم، وذلك غير تقدمهم للشفاعةأن األنبياء عليهم السالم يبررون عدم

.. ولذلك أن يستحيل صحيح، فاألنبياء ممتلئون رحمة بالخلق، مثلهم مثل رسول الله

أن يكون ذلك هو السبب.

ومثل ذلك ادعاؤهم أن لهم أخطاء تحول بينهم وبين الدعاء، وذلك غير صحيح

سع لله أوه يعلم أن رحمة اأيضا، فال يكون النبي نبيا حتى يكون عارفا بالله، والعارف بالل

من أن تضيق بخاطئ.

أما ما نراه في هذا في حال صحته، فهو أن األنبياء عليهم السالم في ذلك المحل

لو أن موسى كان حيا ما وسعه إال أن ، كما ورد في الحديث: )تبع لرسول الله

ما ميثاق النبيين ل لهالوإذ أخذ ﴿، بل كما نص على ذلك بصراحة قوله تعالى: (2)(يتبعنى

ه قا ق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرن ل آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصد

اهدين أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الش

ى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون 41) [42، 41]آل عمران: ﴾( فمن تول

ولهذا فإن األنبياء عليهم السالم في ذلك المحل الذي طلب منهم فيه دعوة الله

باعتبار ال باعتبارهم خاطئين، وال تعالى أرسلوا من طلب منهم ذلك إلى رسول الله

(: رواه الطبرانى والبزار، وإسناده حسن.10/214(. قال الهيثمى )12043، رقم 11/334رواه الطبرانى ) (1)

(: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار.1/134( قال الهيثمى )12112، رقم 3/343رواه أحمد ) (2)

233

في ذلك المحل هو اإلمام الذي ال حرصهم على أنفسهم، وإنما باعتبار رسول الله

يصح أن يتقدم عليه أحد.

والعجب أن هذا الحديث يذكر أن نوحا عليه السالم أعطاه الله تعالى دعوة

وإنه قد كانت لي دعوة واحدة، وأن نصيبه من الدعاء قد انتهى، كما ورد في الحديث: )

(، فهل نزل كرم الله إلى هذه الدرجة بحيث يمنح لعباده المقربين دعوة وتها على قوميدع

واحدة.

ثم إنا نرى الله تعالى يثني على نوح عليه السالم، ويثني على ما قام به من الدعاء

على قومه، فكيف نضرب القرآن بهذا الحديث الذي يوهم أن نوحا عليه السالم أخطأ في

.الدعاء على قومه

وهكذا نرى الحديث يرمي إبراهيم عليه السالم بالكذب، بل بثالث كذبات

خطيرة، وأن تلك الكذبات حالت بينه وبين أن يدعو الله..

بناء على هذا؛ فإن الجزء المتيقن في هذا الحديث إثبات الشفاعة العظمى لرسول

بعد المعاناة الطويلة التي يعانيها المنحرفون عنه في االنتظار والبحث عمن ،الله

يتكفل بذلك.

وهي نوع من الدروس المقدمة لهم في هذا المجال، ألن أساس اإلجرام الذي

وقع فيه المنحرفون االنحراف عن األنبياء وعدم تعزيرهم وتوقيرهم وطاعتهم، ولذلك

وأهمتيهم، ويعرفون مدى نصحهم، كما أشار إلى يكتشفون في ذلك الموقف قيمتهم،

سول سبيالا ﴿ذلك قوله تعالى: خذت مع الر ﴾ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني ات

[23]الفرقان:

وهكذا نرى روايات أخرى تخص هذا الجانب، وربما يتوجه لها من النقد أكثر

ذا الحديث، ومن أشهرها ما ورد في حديث طويل يفصل أحداث اليوم مما يتوجه له

234

.(1)اآلخر بطريقة بعيدة جدا عن المنهج القرآني، وما ورد في األحاديث القطعية

، والتي تخالف التصوير القرآني ألحداث اليوم اآلخر هالمشاهد الواردة فيفمن

ال ينظر إليكم، وال يقضى ثم تقفون موقفا واحدا، مقدار سبعين عاماهذا المشهد: )

بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماء وتعرقون حتى يبلغ ذلك منكم أن

يلجمكم، أو يبلغ األذقان، فتضجون، وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا ليقضي بيننا؟

فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبال،

فيأتون آدم، فيطلبون إليه ذلك، فيأبى، فيقول: ما أنا صاحب ذلك، ثم يسعون لألنبياء نبيا

حتى تأتوني، فأنطلق، حتى آتي :نبيا، كلما جاءوا نبيا أبى عليهم.قال رسول الله

الفحص، فأخر ساجدا. قال أبو هريرة: يا رسول الله: ما الفحص قال: موضع قدام العرش

قول: نعم فأ، ملكا، فيأخذ بعضدي، فيرفعني، فيقول لي: يا محمد حتى يبعث الله إلي

فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني -وهو أعلم -لبيك يا رب، فيقول ما شأنك؟

(2)(في خلقك، فاقض بينهم، فيقول شفعتك، أنا آتيكم، فأقضي بينكم

يستوون فهذا المشهد التجسيمي، والذي يجعل الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم

في ذلك الموقف والتألم فيه لمدة سبعين سنة يتنافى مع ما ورد في النصوص المقدسة

اختالف مواقف الناس في القيامة. من

ع م المجسمةومن المشاهد التجسيمية الواردة في الحديث، والتي يتعلق بها

تنافيها التام مع ما ورد في القرآن الكريم من تنزيه الله، هذا المشهد الذي يرفعه أبو هريرة

رواه جماعات من األئمة في كتبهم، (، وقد ذكر ابن كثير أنه230/ 1انظر: النهاية في الفتن والمالحم البن كثير: ) (1)

كابن جرير في تفسيره، والطبراني في المطوالت، والحافظ البيهقي في كتابه: البعث والنشور، والحافظ أبي موسى المديني

في المطوالت أيضا من طرق متعددة عن إسماعيل ابن رافع قاص أهل المدينة.

(230/ 1النهاية في الفتن والمالحم البن كثير: ) (2)

231

فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذا ، والذي يقول فيه: )رسول الله إلى

سمعنا حسا من السماء شديدا، فينزل أهل السماء الدنيا مثل من في األرض من الجن

ذا دنوا من األرض، أشرقت األرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا واإلنس، حتى إ

لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: ال وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل

الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام والمالئكة، ويحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم

واألرض والسموات إلى حجرهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم األرض السفلى،

والعرش على مناكبهم، لهم زجل من تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت،

سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي ال يموت، سبحان الذي يميت

الخالئق وال يموت، فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته، فيقول: يا

نس، إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم، معشر الجن واإل

وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم، وصحفكم، تقرأ عليكم، فمن وجد

(1) (خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه

على و فهذا المشهد يصور الله تعالى راكبا في الغمام، ثم يجلس على الكرسي،

، المجسمةاألرض، ثم يخاطب عباده بحرف وصوت.. وهي جميعا مشاهد يغرم بها

ألنهم ال يستطيعون أن يؤمنوا بإله ليس كمثله شيء.

ـ االبتالء واالختبار: د

من أهم تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر ما وردت اإلشارة إليه، بل

، بغية هملالتصريح به في نصوص كثيرة حول تلك االبتالءات واالختبارات التي تجري

تصنيفهم وتمحيصهم، وربما يدخل فيها أيضا تربيتهم وتطهيرهم، مثلما حصل ذلك في

(230/ 1النهاية في الفتن والمالحم البن كثير: ) (1)

240

ء على ربانية الله، وتربيته لعباده إلخراجهم البرزخ، ومثلما يحصل في كل المواقف بنا

من الظلمات إلى النور.

ولذلك كان طول تلك الفترة، واختالفه باختالف األعمال، مبنيا على هذا

، مثلما يحصل في نشأتنا هذهاألساس، أو هو اعتبار من االعتبارات المقصودة باألصالة

دقائق لها.. فبعضهم يكتفي بال من مكوث بعض الطلبة أثناء االمتحان بحسب تحضيرهم

المعدودة، وبعضهم ال تكفيه الساعات الطويلة مع أن االمتحان واحد، وقد تكون إجابة

الذي أنهى مبكرا أفضل من الذي تأخر في خروجه.

ولعل تلك اآليات الكريمة التي تبين أن التمييز القطعي في القضايا المختلف فيها

ما يبلوكم ﴿هذا المحل، كما قال تعالى: يؤجل إلى يوم القيامة يقصد به وليبينن به اللهإن

[12]النحل: ﴾لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون

لنا وأنز ﴿ ومثله ما أخبر به عن االختالف الحاصل بين الشرائع، كما قال تعالى

ا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناا عليه فاحكم بينهم بما أنزل إليك الكتاب بالحق قا مصد

ا ولو شاء الله ا جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةا ومنهاجا اللهوال تتبع أهواءهم عم

ةا واحدةا ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى لجعلكم أ م مرجعك اللهم

ا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [44]المائدة: ﴾جميعا

ومثله ما أخبر به عن االختالف الحاصل بين العقائد، كما قال تعالى في شأن

ياعيسى إني اللهإذ قال ﴿سيح عليه السالم، والخالف العقدي الذي وقع حوله: الم

ذين كفر بعوك فوق ال ذين ات ذين كفروا وجاعل ال رك من ال يك ورافعك إلي ومطه وا متوف

ذين 22عكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون )إلى يوم القيامة ثم إلي مرج ا ال ( فأم

نيا واآلخرة وما لهم من ناصرين ) ا في الد ا شديدا بهم عذابا ذين آمنوا 23كفروا فأعذ ا ال ( وأم

الحات فيوف - 22]آل عمران: ﴾(23ال يحب الظالمين ) اللهيهم أجورهم و وعملوا الص

241

23]

وغيرها من اآليات الكريمة التي تدعو إلى التعايش بين البشر في ظل المختلف

فيه، إلى أن يكشف الله الحقائق في يوم المحشر.

تبين أن المعارف الحقيقية الكبرى ستكتسب هناك، لمن لم يكتسبها وبذلك فإنها

نواع كثيرة من االختبار.أوذلك بعد مروره بأو تكبر على اكتسابها فيها، في الدنيا،

ورد في الروايات المتفق عليها بين المدارس اإلسالمية ما باإلضافة إلى هذا، فقد

م يتح لهم في الدنيا أن ينعموا بشروط أولئك الذين لاالختبارات الخاصة بيشير إلى

التكليف، وخاصة العقل، ذلك الذي ال يثاب الشخص أو يعاقب إال على أساسه، كما

لـمـا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال )روي عن اإلمام الباقر قوله:

لي منك، وال أكملتك له، أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجاللي، ما خلقت خلقا هو أحب إ

(1)(إال فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب

ومثل فاقد العقل أولئك الذين عاشوا في زمن الفترة، ولم يكن لهم رسول، أو

وصلتهم الرسالة، ولكنها مشوهة مغيرة مبدلة ال تقوم بها الحجة، ولذلك لم يحاسبوا

بين حتى نبعث رسوالا ﴿تعالى: على أساسها، كما قال [12]اإلسراء: ﴾وما كنا معذ

لكن هؤالء لو قلنا بدخولهم الجنة مباشرة من غير أن يمحصوا بالتكليف قد تثور

م العدل، ذلك أنه كيف يكلف قوم، ويدخلون اثائرة أولئك الذين كلفوا، ويصيحوا بانعد

لف آخرون، ويدخلون الجنة هكذا من دون عمل عملوه.النار آمادا طويلة، بينما ال يك

وقد قلنا في كتاب ]أسرار األقدار[ عند الحديث عن هذه المسألة في الفصل

قد عرفنا أن أمر المكلف بيده، فإن أحسن فلنفسه، وإن أساء الخاص بأسرار العدالة: )

.10، ص 1الكافي، ج (1)

242

العدل مع غير ق قكيف يتح. لكن فعليها، وال حجة له بعد أن قامت عليه كل الحجج.

مع ذلك الصبي الذي مات وهو يحمل بذور الخير والشر، والتي لم تسق بعد . المكلف؟.

أو مع ذلك الفالح الذي عاش في أقاصي األرض منهمكا مع محراثه ال يعلم . فتنبت.

أو مع ذلك المعتوه الذي يرمى بالحجارة، ولو كان عاقال لتبين ..بإله، وال يعرف نبيا

إن قلنا و إن قلنا بأنهم يدخلون الجنة، فبأي عمل عملوه؟. خبثه أو طيبه.معدنه، وتحقق

وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، .. بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية جنوها؟

فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب

وإن قلنا: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم ..وال كتب وال موازين؟

لم تذهب ويقول العاقل: لم يارب.. تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟

ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني .. عقلي ألبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟

(1)(من التعرض لمقتك وعقابك؟ في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفالح البسيط

ثم ذكرنا األقوال المختلفة في المسألة، وبينا أن أكثرها ال يمكن اعتمادها، بناء

على مجافاتها للرحمة أو العدالة اإللهية..

فمن أمثلة األقوال المجافية للرحمة تلك التي تنص على أنهم في النار، ولألسف

فإن هؤالء يعتمدون بعض األحاديث التي يظهر عليها الوضع والتدليس وتشويه النبوة،

عن أوالد المسلمين أين هم؟، فقال:)في الجنة( سئل رسول الله أن روي ومن أمثلتها ما

عمال :)لم يدركوا األفقيل لهن هم يوم القيامة؟، فقال:)في النار(، عن أوالد المشركين أيئل وس

ولم تجر عليهم األقالم( قال:)ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئت

.240أسرار األقدار، ص (1)

243

(1) أسمعتك تضاغيهم في النار(

ال يصح أن يستدل به على مثل هذا، زيادة الذي يظهر عليه الوضعوهذا الحديث

.على معارضته النصوص المحكمة واألحاديث الصحيحة

ومن األحاديث الموضوعة الخطيرة التي تروى في هذا المجال من دون تحقيق

فيغتر بها، ما ؛أو تمحيص، ومن دون عرضها على محكم القرآن الكريم والسنة المطهرة

، فقلنا:)إن أمنا يروى عن سلمة بن يزيد الجعفي: قال: أتيت أنا وأخي رسول الله

ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك

شيء؟(، قال:)ال( قلنا له:)فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث(

(2)وائدة في النار إال أن تدرك الوائدة اإلسالم فتسلم(فقال:)الموؤودة وال

وهذا الحديث زيادة على تناقضه مع عدالة الله المطلقة والتي قد تدرك بالعقل

يتناقض مع القرآن الكريم الذي نص على أن المؤودة تسأل عن أي ذنب قتلت ليكون

قال تعالى:﴿ وإذا الموؤودة ذلك تهديداا لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم،

( 1ـ 4سئلت بأي ذنب قتلت﴾ )التكوير:

زيادة على ذلك تصريح النصوص الصحيحة بعكس ذلك، وأنها في الجنة، وقد

( قال البيهقي: هذا منكر وقد خبط فيه يوسف بن عطية الصفار 132/ 134الحديث أورده ابن حجر في اإلصابة ) (1)

( وقال رواه البزار وفيه يوسف بن عطية ال يحتج به، 23/ 1وهو ضعيف جدا. وهكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد )

يى بن المتوكل يروي عن بهية احاديث منكرة وهو واهي وقال ابن الجوزي: هذا حديث ال يصح قال احمد بن حنبل يح

الحديث وقال يحيى ليس بشيء وقال علي والفالس والنسائي هو ضعيف قال ابن حبان ينفرد باشياء ليس لها اصول وقال

لجوزي: ا السعدي سألت عن بهية كي اعرفها فأعيانا، انظر: العلل المتناهية في األحاديث الواهية، لعبد الرحمن بن علي بن

2/124.

/ 2( والدارقطني في العلل ) 32ص: 4( البخاري في التاريخ الكبير ) 12413وأحمد ) 4313رواه أبو داود ) (2)

131 )

244

:)النبي في الجنة، يكون ذلك رحمة خاصة بها، ولذلك قرنت بالشهيد في قوله

(1)دة في الجنة(ؤة، والمووالشهيد في الجنة، والمولود في الجن

لكن لألسف، ومع مخالفة ذلك الحديث للقرآن الكريم، ولقيم العدالة، حيث

وة الصغيرة ءتعفى الوائدة الظالمة من العذاب، في نفس الوقت الذي تتوعد المو

المظلومة به، نجد من يدافع عنه، ال لشيء إال للحرص على أولئك الرواة الذين رووه،

بالكذب. حتى ال يتهموا

وهو حديث : )كالمه عن هذا الحديثعند ابن عبد البر ومن األمثلة على ذلك قول

صحيح من جهة اإلسناد إال أنه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين

مقصودة، فكانت اإلشارة إليها والله أعلم، وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث

(2)معناه، والله المستعان(لمعارضة اآلثار له، وعلى هذا يصح

الجواب الصـــحيح عن هــذا الحــديــث: أن قولــه )إن الوائــدة )وقــال ابن القيم:

والموءودة في النـار( جواب عن تينـك الوائدة والموءودة، اللتين ســـئل عنهما، ال إخبار

عن كــل وائــدة وموءودة، فبعض هــذا الجنس في النــار، وقــد يكون هــذا الشـــخص من

(3)(نارالجنس الذي في ال

إن الحـديـث خـاص بموءودة معينة وحينئذ )ال( في )المؤودة( ) :وقـال األلبـاني

(4)(ليست لالستغراق بل للعهد. ويؤيده قصة ابني مليكة

(2221( وأبو داود )401و 24/ 2( وأحمد )44/ 3رواه ابن سعد ) (1)

120/ 14التمهيد (2)

(12/ 2أحكام أهل الذمة ) (3)

(31/ 1مشكاة المصابيح ) (4)

242

وغيرهـا من األقوال التي قيل بها بســـبب الحرص على الرواة، ال على القيم التي

جاء بها القرآن الكريم، ودعا إلى تفعيلها في كل شيء.

بناء على هذا، فإن كل األحاديث التي تخالف العدالة والرحمة اإللهية تخالف

من احتجاج الجنة والنار، وأن الله وهما روالقرآن الكريم، وبذلك ال يمكن قبولها، ومنها

وهذا الحديث غير محفوظ به الصيغة، بل لفظه ، تعالى ينشئ للنار خلقا يسكنهم إياها

الت النار: أوثرت بالمتكبرين الجنة والنار، فق :)تحاجتالصحيح، هو قوله

ز ع اللهجبرين؛ وقالت الجنة: مالي ال يدخلني إال ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال تموال

، للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي وجل

لنار فال تمتليء حتى أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما ا

للهايضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك تمتليء وينزوي بعضها إلى بعض، وال يظلم

(1)عز وجل ينشيء لها خلقاا آخر( اللهعز وجل من خلقه أحداا، وأما الجنة فإن

ولو فرضنا صحة ما استدلوا به،أو فرضنا أن المراد بالرجل في الحديث خلق من

له، فقد يكون لهذا الخلق خاصية التنعم بالنار، فتكون جهنم نعيما لهم، أو أن ال خلق ال

يكون لها أي تأثير عليهم، كما أنه ليس لها أي تأثير على خزنة جهنم وزبانية النار.

تهم بإيمان أل ﴿تعالى:ومما استدلوا به كذلك قوله ي بعتهم ذر ذين آمنوا وات قنا ح وال

كل امرئ بما كسب رهين﴾ )الطور:تهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ي ، (21بهم ذر

ة فليست هناك أي عل ؛فقاسوا ذرية الكافرين بذرية المؤمنين، وهو قياس غير صحيح

يمكن الرجوع إليها في هذا، والقياس ال يصح في الغيبيات.

ومثل ذلك تلك األقوال التي تذكر أنهم في الجنة، فهي وإن اتفقت مع الرحمة

(.2443( ومسلم برقم )3441رواه البخاري برقم ) (1)

243

ومن الروايات التي يروونها في هذا المجال اإللهية إال أنها ال تتفق مع العدالة المطلقة،

:)فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع قال يحكي رؤيا رآها رسول اللهأن

ل طويل ال أكاد أرى رأسه طوال وإذا حول الرجل من أكثر وإذا بين ظهري الروضة رج

ولدان رأيتهم قط( ثم قال:)وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة( فقال بعض

:)وأوالد المسلمين:)يا رسول الله وأوالد المشركين(، فقال رسول الله

(1)المشركين(

ولهذا فإن أرجح األقوال في المسألة، والذي وردت به الرواية في مصادر

الفريقين، هو إعطاء الفرصة لهؤالء الختبار تمحص به حقائقهم، وتبلى به سرائرهم؛ فهذا

.ينسجم مع عدالة الجزاء، وقد تجمع على أساسه النصوص المختلفةالقول

إذا كان يوم القيامة )قال: أنه ر الباقومن أحسن تلك الروايات ما روي عن اإلمام

احتج الله عز وجل على سبعة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والشيخ الكبير الذي

وهو ال يعقل، واألبله، والمجنون الذي ال يعقل، واألصم، واألبكم، كل أدرك النبي

إليهم رسوالا فيؤجج لهم واحد منهم يحتج على الله عز وجل، قال: فيبعث الله عز وجل

ناراا ويقول: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداا وسالماا، ومن

(2)عصى سيق إلى النار(

الواردة في المصادر السنية، فهي مع إقرارها باالمتحان واالختبار الروايات أما

اإللهي لهم، إال أنها تخلط ذلك بالجبر، وبكونهم يدخلون النار جميعا، ولذلك نرى أن

قال:)أربعة نبي الأن تلك األجزاء من تصرف الرواة، ومن األمثلة عليها ما رووا

رجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم ال يسمع، و

(.2232ومسلم رقم ) 344و 343و 343و 342/ 12رواه البخاري (1)

..243الخصال، ص (2)

243

الفترة، أما األصم فيقول:)يا رب قد جاء اإلسالم وما أسمع شيئا( وأما األحمق فيقول:)يا

رب قد جاء اإلسالم والصبيان يرمونني بالبعر( وأما الهرم فيقول:)يا رب قد جاء اإلسالم

هم سول(، فيأخذ مواثيقوما أعقل شيئا( وأما الذي مات في الفترة فيقول:)ما أتاني لك ر

:)فوالذي نفسي بيده لو دخلوها ليطيعنه، فيرسل إليهم رسوال أن ادخلوا النار(، قال

(1)لكانت عليهم بردا وسالما، ومن لم يدخلها سحب إليها(

:)يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقال وبالهالك في الفترة قال ومثله ما روي أنه

خ عقال: يا رب لو آتيتني عقال ما كان ما آتيته عقال بأسعد وبالهالك صغيرا، فيقول الممسو

بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد

بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد

بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك بعمره مني، فيقول الرب سبحانه: إني آمركم

فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، ولو دخلوها ما ضرهم، فتخرج عليهم قوابس يظنون أنها قد

أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون: خرجنا يا رب

له عز وجل وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق ال

من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقولون مثل قولهم فيقول الله عز وجل

سبحانه: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون

(2)(ضميهم، فتأخذهم النار

وثانهم :)إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أقال ومثلها ما روي أنه

على ظهورهم، فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون: لم ترسل إلينا رسوال ولم يأتنا لك أمر،

(.13301رواه أحمد ) (1)

/ 2وأبو نعيم في الحلية ) (2202( ومسند الشاميين )3121( واألوسط )44 - 43/ 20رواه الطبراني في الكبير ) (2)

(.303 - 302/ 1و 123

244

ولو أرسلت إلينا رسوال لكنا أطوع عبادك، فيقول ربهم: أرايتم إن أمرتكم بأمر تطيعونه؟

فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلقون حتى إذا دنوا منها سمعوا

ا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها، فيقول: ألم تزعموا أني لها تغيظ

إن أمرتكم بأمر تطيعوني، فيأخذ على ذلك من مواثيقهم فيقول: اعمدوا لها فينطلقون

حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا! فرقنا منها وال نستطيع أن ندخلها، فيقول:

:)فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا ول الله ادخلوها داخرين(، قال رس

(1)وسالما(

وغيرها من الروايات التي يمكن أن نقبل منها االختبار اإللهي ألولئك الذين لم

يتح لهم التكليف في الدنيا، ولكنا ال نستطيع أن نقبل منها ما عدا ذلك لمخالفته لقيم

العدالة والرحمة اإللهية.

المدرسة السنية من تلك األحاديث موقفين؛ فمنهم من وقد وقف العلماء في

ـ جملة من دون تحديد المقبول (2)أنكرها لضعفها الشديد ـ لألسف ، ومنهم من دافع عنها

منها من المرفوض.

:)إن أحاديث هذا الذي قال فيها بعد عرضهاابن كثير ومن أمثلة المدافعين عنها

لك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذ

ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة

(3)متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها(

أنهم :سابعها) :ـألقوال في المسألة الذي قال ـ عند عرضه لابن حجر ومنهم

1/331رواه البزار وابن مردويه، جمع الجوامع (1)

ومنهم ابن عبد البر معلال ذلك بأن اآلخرة دار جزاء ، وليست دار تكليف ، وليس ثمة أوامر ونواهي في اآلخرة. (2)

.2/24تفسير ابن كثير: (3)

241

:ىومن أب ،كانت عليه برداا وسالماا :فمن دخلها ،يمتحنون في اآلخرة بأن ترفع لهم نار

ب وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن ،وأبي سعيد ،أخرجه البزار من حديث أنس ،عذ

ومن مات في الفترة من طرق ،وقد صحت مسألة االمتحان في حق المجنون ،جبل

(1)(أنه المذهب الصحيح [كتاب االعتقاد]ي وحكى البيهقي ف ،صحيحة

: (2)، منهاوأيدها ابن القيم بجملة وجوه

الحفاظ صـــحح وقد بعضـــا، بعضـــها يشـــد بحيث كثرت األحاديث هذه أن. 1

.بعضها

عليه يقدم ال هذا ومثل الصـــحابي، على موقوف أنه فيه يقدر مـا غـايـة أن. 2

.رأي عن ال توقيف ذلك بأن يجزم بل واالجتهاد، بالرأي الصحابي

واختلفت طرقها، تعددت قد فإنها بعضا بعضها يشد األحاديث هذه أن. 3

رواها قد أنه على زيادة ، الله رسول على باطلة تكون أن البعد كل فيبعد مخارجها،

.فيها يطعنوا ولم ودونوها اإلسالم أئمة

من رأكث قبلوها والذين األكثرون، قبلها فقد المحدثين، بعض أنكرها وإن أنه .4

والحديث السنة أهل اتفاق األشعري حكى وقد والحديث، بالسنة وأعلم أنكروها الذين

.بها القول على

حتى ال يتأسف العاقل على أنه لم يكن مجنونا، وذلك اتفاقها مع العدالة، . 2

ن أنه قال ابن القيم:)فهي تفصيل لما أخبر به القرآ، أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا

ال يعذب أحد إال بعد قيام الحجة عليه، وهؤالء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فال بد

أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم األشهاد وتسمع

(. 243/ 3فتح الباري ) (1)

.2/1143أحكام أهل الذمة: (2)

210

ته نطق كل أحد بحجته ومعذرالدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وي

(1)فال تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم(

اتفاقها مع الرحمة، فإن الله تعالى يكلف هؤالء بعد معاينتهم ألمر اآلخرة، .3

ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.

اجتماع النصوص على أساسها، فألن من هؤالء من يطيع الله، فيدخل الجنة، .3

.عصيه، فيدخل النار، وبذلك كله وردت النصوصومنهم من ي

هو ما ساد اعتقاده من أن الدار اآلخرة ، واالعتراض الذي قد يوجه لهذا القولأما

، فقد أجاب عليه ابن القيم بأن دار الجزاء ال دار التكليف، فكيف يكلف هؤالء بالعمل

افرة أن األدلة متظفة إلى ، باإلضاهؤالء أحوالهم الخاصة التي قد ال يشاركهم فيها غيرهمل

يوم يكشف عن ساق ﴿تعالى:وقد قال ، على أن هذا االعتقاد السائد ليس على عمومه

جود فال يستطيعون﴾ )القلم: ( 42ويدعون إلى الس

زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من االمتحانات واألسئلة التي

القبور.يتعرض لها أهل

ير غ، فدخول النار، ألن ذلك ليس في وسعهم اللهتصور استحالة أن يكلفهم أما

صحيح ألن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته ال يختلف كثيرا عن الكثير من

يامة ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم الق، التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة األبد

وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر بالجواز على الصراط،

المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم

الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار،

.2/1141المرجع السابق، (1)

211

وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

المؤمنين نها ما ثبت في السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر وم

الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداا وسالماا، وهذا

يشبه إلى حد كبير هذا االمتحان الذي تعرض له هؤالء.

نار الدنيا نظير األمر بدخول ال ومنها أن الكثير من األوامر التي أمر الله تعالى بها في

)فإن األمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم ألسرهم لهم

(1)وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من األمر بدخول النار(

زيادة على ذلك كله، فإن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على

واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها غير ذنب؟ )وإنما هو امتحان

لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسالما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة

مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه

؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم ال

(2)فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه(

بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل

ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما

لك رفع عنه األمر بالذبح.فعل ذ

بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان،

وال يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية األلم، )فعباد الرحمن إذا أمرهم

لك ذأرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف ال يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم ب

.2/1124المرجع السابق، (1)

.2/1122المرجع السابق، (2)

212

(1)لمصلحتهم ومنفعتهم(

فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، ألن )الله تعالى اقتضت

حكمته وحمده وغناه ورحمته أال يعذب من ال ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما

يتعالى عما يناقض صفات كماله، فاألمر باقتحام النار للخالص منها هو عين الحكمة

المصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن والرحمة و

مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صالحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا

ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصالحهم، بل هان عليهم أمره

هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا ال وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها

(2)عقوبة(

هذا ما ذكره ابن القيم في الدفاع عن ذلك التكليف، ونحب أن نعقب عليه بأن تلك

الروايات الواردة في االختبار، والتي قد يصعب قبول ذلك االختبار الوارد فيها.. ال يمكن

سيختبرون في محل آخر مختلف تماما الحكم عليها انطالقا من عالمنا، ذلك أن أولئك

عن عالمنا، وربما يكون لألمر بدخول النار في ذلك العالم ما يؤيده من الحكمة والعدالة

والقيم الثابتة.

ذلك أن التكليف بالمستحال كما هو محال في الدنيا؛ فهو محال أيضا في اآلخرة،

الحسنى تتنافى مع ذلك. وفي كل محل، ذلك أن رحمة الله تعالى وعدالته وكل أسمائه

وربما يكون أحسن المواقف في هذا هو القبول بكون أولئك الذين لم تتح لهم

فرصة االختبار في الدنيا تتاح لهم الفرصة هناك في أرض المحشر، من غير تحديد

للكيفية، ألن ذلك يرتبط بالمعطيات الخاصة بذلك العالم.

.2/1122المرجع السابق، (1)

.2/1123المرجع السابق، (2)

213

فترة البرزخ، وما بعدها من أحداث سيسهل وقد يقال هنا: بان هؤالء الذين عاينوا

عليهم النجاح في االختبار بخالف الذين لم يروا كل ذلك، وبذلك تنتفي العدالة، ألن

بعض الممتحنين عاينوا اإلجابة بخالف غيرهم.

والجواب على هذا وارد في النصوص المقدسة، والتي تخبر أن الله تعالى هو

الذاكرة وغيرها، ولذلك إن أراد تكليفه، فإنه ما أسهل المتحكم في كل أجهزة اإلنسان من

أن يزيل من ذاكرته كل ما يحول بينه وبين ذلك التكليف.

جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية اللهوأقسموا ب ﴿ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى:

ما اآليات عند ها إذا جاءت ال يؤمنون للهاليؤمنن بها قل إن ]األنعام: ﴾وما يشعركم أن

قلب ون ﴿لكن الله تعالى رد عليهم بأن ذلك ليس في طاقتهم، وإنما هو لله، فقال: [101

ة ونذرهم في طغي ل مر ]األنعام: ﴾انهم يعمهون أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أو

110]

ومن أحسن األمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من أخذ العهد على بني

﴿ :، فقد أخبر الله تعالى أن البشر جميعا سمعوا ذلك العهد وأقروا به، كما قال تعالىآدم

ت ي ك من بني آدم من ظهورهم ذر كم قالوا وإذ أخذ رب هم وأشهدهم على أنفسهم ألست برب

ا كنا عن هذا غافلين ) ما أشرك آباؤنا 132بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إن ( أو تقولوا إن

ةا من بعدهم أف ي [133، 132]األعراف: ﴾تهلكنا بما فعل المبطلون من قبل وكنا ذر

لكنهم نسوه في مرحلة التكليف، حتى تبلى سرائرهم، وتمحص حقائقهم، ويظهر

معها طيبهم أو خبثهم.

ثانيا ـ الحساب والموازين.. وتجليات العدالة:

م، وتوجهاتهم وأممهبعد تلك الفترة التي يقف فيها أهل المحشر بحسب أعمالهم

والتي يختلف زمنها بحسب كل شخص منهم، تبدأ مرحلة جديدة في ذلك العالم، هي

214

مرحلة التجلي األعظم للعدالة المطلقة، والذي وردت الكثير من تفاصيلها في النصوص

المقدسة.

ومن خالل استقراء تلك النصوص نجد أنه يمكننا تقسيمها إلى أربعة مراحل على

ب، والذي قد يقع الخالف في بعض تفاصيله:هذا الترتي

: وهي أن يتاح لكل شخص أن يستعرض كتاب أعماله، األولى: عرض األعمال

.ليطلع على ما فيه، ويتأكد من كل شيء فعله، وأنه لم يضف فيه، ولم ينقص منه

وفي هذه الحالة يمكنه طلب التأكد مما كتب، أو طلب الثانية: طلب الشهود:

م يثق بما ورد في الكتب.الشهود إن ل

: وهو إتاحة الفرصة لكل شخص ليدلي بحججه، الثانية: االمتحان والحساب

ويجيب عن األسئلة التي تطرح عليه، وذلك أثناء مناقشة كل عمل قام به، ويدخل في هذا

الحساب تلك الذنوب المتعدية التي تتعلق بحقوق اآلخرين، والتي يسمح فيها

ي بعضهم بعضا، ويدلي كل واحد منهم بما لديه من حجج.للمتخاصمين بأن يلتق

: والتي تقوم بوزن كل عمل صالح أو الثالثة: وضع األعمال وغيرها في الموازين

غير صالح، ووزن صاحبها ومقاصده وكل شيء يرتبط به، وبعد هذه الموازين تظهر

النار.النتيجة التي تبين المصير الذي يصير إليه الشخص، إما الجنة، وإما

: فبعد أن تظهر نتائج عمل كل شخص، يتدخل الرابعة: الشفاعة والشهادة والسراط

الشفعاء والشهداء ويعرض الشخص على السراط، ألن هناك من السيئات ما قد يعفى

عنه، ومنها ما ال يمكن أن يعفى عنه، ولذلك يكون الشهداء والسراط ممحصات أخرى

باإلضافة للموازين.

المراحل األربعة، وكيفيتها، وتجليات العدالة المرتبطة بها، في وسنستعرض هذه

هذا المبحث، وقبل ذلك نسوق نصا من كالم اإلمام علي، يرد فيه على بعض اإلشكاالت

212

التي تجعل البعض يتوهم تعارض النصوص المقدسة بناء على عدم فهم ما يجري من

أحداث في ذلك العالم.

إني قد شككت في ،فقال: يا أمير المؤمنيناإلمام علي، رجال أتى فقد روي أن

،وكيف شككت في كتاب الله المنزل ،: ثكلتك أمكاإلمامقال له ، فكتاب الله المنزل

ه ، فقال لفكيف ال أشك فيه ،ألني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضافقال الرجل:

ق عقال لكنك لم ترزوال يكذب بعضه بعضا و ،إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضااإلمام: )

(1)(فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل ! ،تنتفع به

الله عز وجل )وجدت :ثم عرض له الرجل ما توهمه من تعارضات، ومنها قوله

ا﴿يقول: ا صف ك والملك صف ولقد جئتمونا فرادى ﴿، ويقول: [22]الفجر: ﴾وجاء رب

ة كما ل مر ه في ظلل ﴿: ، ويقول[14]األنعام: ﴾خلقناكم أو هل ينظرون إال أن يأتيهم الل

هل ينظرون إال أن تأتيهم المالئكة أو ﴿ويقول: ،[210]البقرة: ﴾من الغمام والمالئكة

ك أو ا إيمانها لم تكن يأتي رب ك ال ينفع نفسا ك يوم يأتي بعض آيات رب يأتي بعض آيات رب

ا ،فمرة يقول: يوم يأتي ربك ،[124]األنعام: ﴾آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا

يما وكيف ال أشك ف ،يا أمير المؤمنين فأنى ذلك ،ومرة يقول: يوم يأتي بعض آيات ربك

وغيرها من اإلشكاالت.! ؟تسمع

ا ال ﴿وأما قوله: ومن إجابات اإلمام علي قوله: ) وح والمالئكة صف يوم يقوم الر

ا حمن وقال صوابا نا ما كنا والله ﴿[ وقوله: 34]النبأ: ﴾يتكلمون إال من أذن له الر رب

ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم ﴿وقوله: ،[23]األنعام: ﴾مشركين

وقوله: ، [34]ص: ﴾إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ﴿قوله: ، و[22]العنكبوت: ﴾

.224الصدوق في التوحيد/ (1)

213

مت إليكم بالوعيد قال ال تختصموا لدي ﴿ اليوم نختم على ﴿وقوله: ،[24]ق: ﴾وقد قد

منا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون فإن ذلك في ،[32]يس: ﴾أفواههم وتكل

يجمع الله ،ألف سنة الذي كان مقداره خمسين ،موطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم

،ويستغفر بعضهم لبعض ،ويكلم بعضهم بعضا ،عز وجل الخالئق يومئذ في مواطن

ويلعن أهل المعاصي الرؤساء واألتباع الذين .أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا

المستكبرين ،وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ،بدت منهم البغضاء

،ة البراءةوالكفر في هذه اآلي .يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ،والمستضعفين

رت بما إني كف ﴿ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: يقول: يبرأ بعضهم من بعض،

ك فلو أن تل ،ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه، [22]إبراهيم: ﴾أشركتمون من قبل

ولتصدعت قلوبهم إال ،األصوات بدت ألهل الدنيا ألذهلت جميع الخلق عن معائشهم

ون: ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقول.. فال يزالون يبكون الدم ،ما شاء الله

يدي ويستنطق األ ،فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ،والله ربنا ما كنا مشركين

ن ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولو. .فتشهد بكل معصية كانت منهم ،لجلودواألرجل وا

ن ثم يجتمعون في موط. .لجلودهم: لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ

أخيه يوم يفر المرء من ﴿فذلك قوله عز وجل: ،فيفر بعضهم من بعض ،آخر فيستنطقون

ه وأ 34) حمن ﴿فيستنطقون فـ: ،[32، 34]عبس: ﴾بيه ( وأم ال يتكلمون إال من أذن له الر

ا ،فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن ،[34]النبأ: ﴾وقال صوابا

ة بشهيد وجئنا بك ع ﴿فذلك قوله: افكيف إذا جئنا من كل أم شهيدااء: ]النس ﴾لى هؤالء

،وهو المقام المحمود، ثم يجتمعون في موطن آخر، يكون فيه مقام محمد ، [41

فال ،كة كلهمثم يثني على المالئ ،فيثني على الله تبارك وتعالى بما لم يثن عليه أحد قبله

م قبله ث ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد ،يبقى ملك إال أثنى عليه محمد

213

ه أهل فيحمد ،يبدأ بالصديقين والشهداء ثم بالصالحين ،يثني على كل مؤمن ومؤمنة

وهذا كله .ثم يجتمعون في موطن آخر ويدال بعضهم من بعض.. السماوات واألرض

(قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه

ديث، وهو يبين أن اختالف النصوص الواردة في المحشر، ال يدل إلى آخر الح

على التعارض، وإنما يدل على اختالف المواقف، كما رأينا ذلك في المباحث السابقة،

وكما سنراه في سائر المباحث.

ـ األعمال وكتبها: 1

أول تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر، وقبل الحساب والموازين ـ كما

النصوص المقدسة ـ عرض سجالت األعمال على أصحابها لينظروا فيها، ويتأكدوا تدل

منها، قبل أن يحاسبوا عليها.

وقد أخبر القرآن الكريم أن الذي تولى تسجيل تلك الكتب والسجالت هم

ائصهم، وخصطبيعتهم المالئكة عليهم السالم، والمختصين بهذا الجانب، لتناسبه مع

تعالى )كراماا كاتبين(، قال تعالى:﴿ وإن عليكم لحافظين كراماا كاتبين سماهم الله ولهذا

(12ـ 10االنفطار:)﴾ يعلمون ما تفعلون

وقبل أن نذكر أنواع األعمال المسجلة في تلك الكتب، وكيفية قراءتها، نحب أن

ذلك للعقول، وخاصة تلك نذكر ما ذكره بعض المعاصرين من التصويرات التي تقرب

التي ال زالت على بدائيتها، متوهمة استحالة تسجيل األعمال.

ومن تلك التقريبات ما ذكره وحيد الدين خان في كتابه ]اإلسالم يتحدى[ عند

ا ن الحياة، كمذكره لبراهين اآلخرة، ورده على المشككين فيها، وقد قدم لذلك بقوله: )إ

كما يراها الفيلسوف األلماني )نيتشه(، والتي تمتلىء نتصور، ليست )غدوا ورواحا(،

ن الحياة )اآلخرة( ذات هدف عظيم، هو إوتخلو كالساعة، والهدف لها أكثر من ذلك..

214

(1)(المجازاة على أعمال الدنيا، خيرا كانت أو شرا

وهذا الجزء من نظريةثم بين مدى مساهمة العلم الحديث في تقريب ذلك، فقال: )

عمال كل انسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير أكاد يتضح جليا حين نعلم أن اآلخرة ي

نسان ثالثة أبعاد، يعرف من خاللها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهذه األبعاد لإل، فتوقف

الثالثة تسجل بأكملها. فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر عن عضو من

بكل األوقات من وقت أي في عرضه ويمكن ؛(الفضاء) األثير في يسجلأعضائنا

أو خير من الدنيا، الحياة هذه في انسان أي فعله أو قاله، ما كل شئنا إذا لنعرف تفاصيله،

(2) (شر

نثم بدأ يذكر ما توصل إليه العلم من كيفية تسجيل األفكار والخواطر، فقال: )إ

أنها انتهت، فلم يعد لها وجود، األفكار تخطر على بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا

ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خالل النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حاالت الهستريا

أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول. وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة

الحافظة نما هناك أطراف أخرى من هذهإليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، و

وقد أثبتت التجارب ، النشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه

العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين على محوها أبدا،

وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية االنسانية التنحصر فيما نسميه )الشعور(، بل

صية االنسانية تبقى وراء الشعور، يسميها فرويد: )ماتحت هناك أجزاء أخرى من الشخ

انب بل هي الج ،جزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتناالشعور(، أو )الالشعور(. وهذه األ

عالي البحار أجزاؤه الثمانية مستكنة تحتأاألكبر منها فمثلها لمثل جبل من الجليد في

.43اإلسالم يتحدى، ص (1)

.43المرجع السابق، ص (2)

211

وتلك هي مانسميه: )تحت الشعور(، الذي الماء، على حين اليطفو منه اال الجزء التاسع.

(1) (يسجل ويحفظ كل مانفكر فيه، أو ننتويه

ن قوانين المنطق، بل أصول األضداد أيضا، التحول )إ: قوله)فرويد( ثم نقل عن

جنب، دون أن لىإن األماني المتناقضة موجودة فيه جنبا إو ،دون عمل )الالشعور(

يء في الالشعور يشبه أن يكون )رفضا( لشيء من تقضى واحدة منها على األخرى، والش

لين بأن ي فالسفتنا القائأن ألالشعور يبطل رأننا نتحير لما نشاهده من إهذه المتناقضات.

جميع أفعالنا العقلية الشعورية تتم في زمن محدد، ولكن الشيء في الالشعور يطابق

الفكر الزمني، واليوجد فيه أي رمز لمضي الوقت وسريانه، وهي حقيقة محيرة. ولم

يحاول الفالسفة أن يتأملوا حقيقة، هي أن مضى الزمن اليحدث أي تغيير في العمل

ن الدوافع الحبيسة التي لم تخرج قط عن الالشعور، وحتى التأمالت الخيالية إالذهني؛

اقع، وتبقى محفوظة لعشراتوالو الحقيقة في أزلية تكونالتي دفنت في الالشعور

(2) السنين، وكأنها لم تحدث اال باألمس(

وذكر أن هذه النظرية التي اعتمدها فرويد، ليست خاصة به، بل كل علماء النفس

وقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل يقرون بها، يقول: )

ما يخطر على بال االنسان من الخير والشر، ينقش في صفحة الالشعور، فاليزول إلى

انية رادة االنساألبد، واليؤثر فيه تغير الزمان، وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم اإل

(3) (كرها أو طوعا

وما ذكره فرويد وغيره ـ كما يذكر وحيد الدين خان ـ يوضح تلك الحقيقة القرآنية

.43المرجع السابق، ص (1)

.43المرجع السابق، ص (2)

.43المرجع السابق، ص (3)

300

قنا ولقد خل ﴿التي تنص على أن نفس اإلنسان هي أكبر سجل ألعماله، كما قال تعالى:

نسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل ال [13]ق: ﴾وريد اإل

لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلى نظرية اآلخرة الستطعنا أن نصل يقول في ذلك: )

مكان وجود سجل كامل ألعمال إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إإلى حقيقتها بسرعة،

ن وجود نفسه سوف يشهد على األعمال إاالنسان في حيازته، عندما يبدأ حياته األخرى، ف

(1) (التي عاشهاوالنيات

وهكذا راح يذكر ما دل عليه العلم الحديث من إمكانية تسجيل جميع األقوال،

ن نظرية اآلخرة تقول بأن االنسان مسئول عن )أقواله(، فجميع ما نلفظه يقول في ذلك: )إ

لة بالغ رساإمن كالم، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا؛ وسواء استعملنا اللسان في

مكان إو.. بالغ رسالة الشيطان، كل ذلك يحفظ في سجل كاملإستعملناه في الحق، أو ا

وقوع هذا الينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم،

يحرك بالتالي موجات في الهواء، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من

غالق من كل جانب، ثم ئيا في زجاج محكم اإلنك لو وضعت جرسا كهرباإالحجر..

تضغط عليه، فلن تسمع صوته، برغم أن الجرس على مرأى منك.. ألنه اليرسل

الموجات إلى الخارج، فهو مكتوم داخل الزجاج، وهذه الموجات في الظروف العادية

نتصطدم بطبلة األذن، التي تقوم آليا بارسال هذه الموجات إلى العقل، فما نفهمه م

(2) المعنى، يسمى )سماعا!(

هذه الموجات تبقى كما هي في )األثير(، إلى ثم ذكر ما دل عليه العلم من أن )

األبد، بعد حدوثها للمرة األولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى. ولكن علمنا الحديث

.43المرجع السابق، ص (1)

.44المرجع السابق، ص (2)

301

عاجز حتى اآلن عن اعادة هذه األصوات، أو بعبارة أصح: عن أن يضبط هذه الموجات

العلماء اهتماما مرة أخرى، مع أنها التزال تتحرك في الفضاء من زمن بعيد. ولم يبدي

أصوات اللتقاط آلة إيجاد بإمكان نظرياخاصا بهذا المجال حتى اآلن، بعد أن سلموا

مسألةال أن على. اإلرسال محطات تذيعها التي األصوات المذياع يلتقط كما الغابر الزمن

تمييزال وإنما القديمة، األصوات التقاط هي ليست الصدد، هذا في نواجهها التي الكبرى

لة أماع كل صوت على حدة.. وهذه هي مسس من نتمكن حتى الكثيرة األصوات بين

ذاعية في العالم تذيع برامج ن آالف المحطات اإلإلى حل؛ فإذاعة التي وصلنا فيها اإل

،ميال في الثانية 143، 000كثيرة ليل نهار، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء، بسرعة

نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائال من األصوات النفهم وكان من المعقول جدا عندما

منه شيئا، ولكن هذا اليحدث، ألن جميع محطات االذاعة ترسل برامجها على موجات

يختلف طولها، فمنها مايرسل برامجه على موجات طويلة؛ ومنها مايرسل على موجات

تطيع فة طوال، فتسوهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختل ،قصيرة، ومتوسطة

(1) (ية موجة من المذياع، بمجرد أن تدير عقربه إلى المكان المطلوبأأن تسمع

بلفظ أو ـمناقشتنا لجوانب المسألة التنفي وجود مالئكة الله وبناء على هذا، فإن )

وجود )مسجلين( غير مرئيين، ينقشون على صفحة الفضاء كل ما ننطق به من كالم، ـ آخر

(2) ([14ق:]﴿ ما يلفظ من قول إال لديه رقيب عتيد﴾ :قول الله سبحانه وهو مايصدق

وهكذا راح يذكر ما دل عليه العلم الحديث من إمكانية تسجيل جميع األفعال،

لضوء،ا في أباشرناها سواءـ يمانه بأن جميع أعمالنا إالعلم الحديث يؤكد يقول في ذلك: )

الممكن ومن الصور، حالة في الفضاء في موجودةـ الناس مع أم فرادى، الظالم، في أم

.44المرجع السابق، ص (1)

.44المرجع السابق، ص (2)

302

شروال الخير أعمال مامن إنسان به ماجاء كل نعرف حتى الصور، هذه تجميع لحظة أية في

في دائمة، ةبصف( حرارة) عنه تصدرتت البحوث العلمية أن كل شيء أثب فقد حياته؛ طيلة

التي كاألصوات تماما، وأبعادها األشكال تعكس الحرارة وهذه حال، كل وفي مكان، كل

وير لتص دقيقة آالت اختراع تم وقد ،اللسان يحركها التي للموجات كامال عكسا تكون

الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه اآللة صورة فوتوغرافية

له أنني أكتب اآلن في مكتبتي، ومثا ،كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية

وسوف أغادرها بعد ساعة، ولكن الموجات الحرارية التي خرجت من جسدي أثناء

وجودي ههنا، ستبقى دائما، ويمكن الحصول على تسجيل كامل لجلستي في المكتبة في

ن اآلالت التي تم اختراعها إلى اآلن، التستطيع تصوير أأي وقت بوساطة تلك اآللة، غير

ال خالل ساعات قليلة من وقوع الحادث. أما الموجات القديمة، إوجات الحرارية الم

(1)(فال تستطيع هذه اآللة تصويرها، لضعفها

ثم ذكر بعض ما توصلت إليه البشرية في الوقت الذي كتب فيه كتابه من اختراعات

ي بعضها فوالتفاصيل العلمية التي أوردنا في هذا الجانب، وقد علق عليها بقوله: )

الصفحات الماضية يتضح منها جليا أن أجهزة الكون تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال

االنسان؛ فكل مايدور في أذهاننا يحفظ إلى األبد، وكل ماننطق به من الكلمات يسجل

بدقة فائقة، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما، والتفرق بين الليل والنهار.. وجميع

نشرح ونحن ؛ة منها واللسانية والعضوية، كلها تسجل بدقة تامة.. واليسعناأعمالنا، القلبي

محكمة أمام تقدم سوف منا كل قضية بأن نسلم أن االيرة الخط العلمية الظاهرة هذه

الشهادات لتحضير العظيم النظام هذا بإعداد قامت التي هي المحكمة هذه وبأن.. إلهية

.41المرجع السابق، ص (1)

303

واليستطيع أي عالم أن يدلي بتفسير أدق عن هذه الظاهرة سوى ، تزويرها اليمكن التي

ما قلناه.. فلو لم تستطع هذه الوقائع الصريحة الساخنة أن تجعل البشر يحسون

زاء المحكمة الجبارة التي ستقام يوم الحساب؛ فال أدري ما الواقع الذي إبمسؤوليتهم

(1)(قد يجعل هؤالء يفتحون أعينهم؟!

حاول استثمار االختراعات الحديثة في تقريب ما ورد في وهكذا راح آخر ي

تابنا هذا ك ﴿النصوص المقدسة حول استنساخ األعمال، فقال تعليقا على قوله تعالى:

ا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون لم يكن يفهم من : )[21]الجاثية: ﴾ينطق عليكم بالحق إن

اآليات إال أن األعمال تكتبها المالئكة في كتاب كل إنسان، من خير أو شر، وال يترك هذه

شيء دون كتابة، مهما بلغ من الصغر، واإلنسان يحاسب على ما كتب له في سجل

ثم دار الزمان.. وإذا باإلنسان يستطيع أن يرسل ، أعماله.. هذا الفهم الذي ال يتصور غيره

يقع عليها بصره، ثم استطاع أن يسجل صوته، ويحفظه، ويعيد صوته إلى أماكن بعيدة ال

سماعه.. وبعد قدرته على التصوير، وإثبات صورته على ألواح، وأوراق، استطاع أن

ا متتابعة له، ويعرضها بسرعة وكأنها تتحرك.. ثم بعد ذلك استطاع دمج يحفظ صورا

ا وتسمع صوته.. ثم بعد ذل ك استطاع فعل ذلك مع الصوت مع الصورة، فتراه متحركا

حفظ جميع األلوان في المكان، فترى المكان واإلنسان واألشياء وتسمع ما جرى من

أصوات فيها، وكأنك تنظر بعينيك إلى حقيقة وواقع وليس إلى صورة.. وكل ذلك يحفظ

ا حدثت في الحرب العالمية ويعرض في حياة أصحابه وبعد موتهم، فاليوم نرى أحداثا

انية، وكثير منا لم يعايش شيئاا منها.. بل هناك أقدم من ذلك مشاهد في األولى، والث

وتطور األمر أكثر من ذي قبل، إذ أصبح النسخ . النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

.41المرجع السابق، ص (1)

304

داخل ملفات، وليس على ورق أو أشرطة من أي نوع كان، وال يمكن رؤية ما فيها إال

ا، أو لقطة مصورة، وهو فما بأجهزة معينة، وبرامج لها معينة.. نراه ونشاهده نسميه فلما

في الحقيقة استنساخ لعمل بعض الناس، أو الجماعات، في مكان ما، وزمان ما، وما نراه

ا غير محدود من هو نسخة من تلك األعمال، ومن هذه النسخة نستطيع أن نستنسخ عددا

ا ألفعال أموات قد هل كوا منذ زمن ما أحدثوه في النسخ.. وبهذا الفعل أصبحنا نرى نسخا

(1) (حياتهم

ما سمي والكتاب إنثم رد على تلك التصورات البدائية للكتاب والكتابة، فقال: )

بالكتاب ليس لنوع ما يكتب عليه، وال لنوع األداة التي يكتب بها، وال لنوع المادة

دما ف عنالمستعملة في الكتابة، إنما سمي بذلك ألنه مرجع يرجع إليه، يمنع االختال

تختلف األهواء، وتضعف الذكريات، فيخرج ليكون الحكم الحاسم الذي ال ترد

ا في فلم، ا على ورق، أم مصورا شهادته، فكل ما يقوم بذلك فهو كتاب، سواء أكان مكتوبا

(2) أسطوانة(أم مسجالا على شريط أم محفوظاا على

محله ويقوم مقامه حفظ ما يذهب بعمل شيء يماثله ليحل وهكذا النسخ، فهو )

عندما يكون لديك شيء غير دائم ويهمك بقاؤه عندك؛ تعمل له نسخة مماثلة ؛ ففي غيابه

(3)(كان ال يعنيك بقاؤه وال تريد الرجوع إليه.. فال تجعل له صورة منسوخة عنهإن أما ، له

ونحب أن ننبه إلى أن ما ذكره هؤالء يتفق في كثير من جوانبه مع ما ذكره السابقون

من علماء العقيدة والتفسير، والذين ذكر الشيخ مكارم الشيرازي بعض أقوالهم

انظر مقاال بعنوان: من أسرار يوم القيامة: استنساخ األعمال وحضورها، أبو مسلم العرابلي، الجمعية الدولية (1)

.12/12/2001للمترجمين واللغويين العرب،

المرجع السابق. (2)

المرجع السابق. (3)

302

ليست مالكتب األع مما ال شك فيه أنوتقريباتهم للمسألة، في تفسيره عنها، حيث قال: )

من جنس الكتب والورق والصحف العادية، لذا فإن بعض المفسرين قالوا بأن صحيفة

عمل ألن أي ،والتي تكون جميع األعمال مثبتة فيها ،األعمال ليست سوى روح اإلنسان

وقد تكون صحيفة األعمال، هي أعضاء ، نعمله سيكون له أثر في روحنا شئنا أم أبينا

جسمنا وجلودنا، واألعظم من ذلك هو أن الصحيفة قد تكون متضمنة في األرض والهواء

وعاء أعمالنا، فترتسم والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه، ألن هذه المفردات هي

األعمال في أفق األرض الهواء والوجود الذي حولنا، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته

وإذا كانت هذه اآلثار غير محسوسة اليوم، وال يمكن دركها ، على األقلأعمالنا أو آثارها

رزق بصرا فعندما ن ؛في الحياة الدنيا هذه، إال أن ذلك ـ بدون شك ـ ال يعني عدم وجودها

(1)(جديدا آخر في يوم القيامة فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه األمور، ونقرؤها

ثم رد على االعتراض الذي قد يتوجه لهذا القول، وهو ما ورد في النصوص

على أن استخدام اآلية المقدسة من الدعوة للقراءة، وهي ال تكون إال للكتب، فقال: )

ينبغي أن ال يغير من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا، ألن كلمة الكريمة لتعبير )اقرأ(

تتضمن مفهوما واسعا، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا، فنحن مثال وفي « اقرأ»

تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول: قرأت في عيني فالن ما الذي يريد أن يفعله،

ن، بقية القصة، وعرفنا بقية العمل الذي يريد أن يفعله. كما أو أننا عرفنا من نظرتنا إلى فال

بخصوص األشعة التي تؤخذ للمرضى، « اقرأ»أننا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة

هذا بالرغم من أن األشعة، هي صورة تخضع للمشاهدة ال للقراءة، وهذا المثال واألمثلة

(2) (دخل في إطار المعنى الواسع للقراءةتؤكد ما ذهبنا إليه أن المشاهدة ت التي سبقته

(422/ 4) الشيرازيتفسير األمثل، مكارم (1)

(422/ 4المرجع السابق، ) (2)

303

ونحن مع قبولنا لكل هذه التقريبات إال أننا ال نستطيع أن نجزم بأن هذا هو الذي

سيحصل يوم القيامة، لما ذكرناه سابقا من االختالف الشديد بين النشأتين األولى

عدم وجود ثانية لواآلخرة، ولذلك ال يمكننا أن نجزم بشيء يتعلق به التصور في النشأة ال

األشباه والنظائر التي تسمح لخيالنا بذلك التصور.

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث أن نتعرف ـ من خالل النصوص المقدسة ـ

على المحتويات التي تحتوي عليها تلك الكتب، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى نوعين:

تؤرخ للبشرية جميعا، أو لدول : كتب عامة، تشبه تلك الكتب التي النوع األول

بعينها، بحيث يظهر فيها أصحاب التأثير اإليجابي والسلبي.

: كتب خاصة، وهي تشبه تلك الكتب التي يؤرخ فيها لشخص بعينه، النوع الثاني

ككتب السير الذاتية، أو المذكرات ونحوها.

وقد دلت على كال الصنفين النصوص المقدسة، وما يؤكدها ويفسرها من

لروايات، كما سنرى ذلك فيما يلي.ا

أ ـ الكتب العامة:

ال تختص بالفرد الواحد من الناس، وإنما تهتم بأعمال التي وهي تلك الكتب

البشر جميعا، وعالقتها ببعضها، أو عالقة بعض المجموعات البشرية ببعضها.. ويشير

ا لقد جئتمونا كما خلقناكم وعرضوا على ﴿إليها من القرآن الكريم قوله تعالى: ربك صف

ا ) ن نجعل لكم موعدا ة بل زعمتم أل ل مر ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين 44أو

ا فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب ال يغاد ر صغيرةا وال كبيرةا إال أحصاها ووجدوا مم

ا ك أحدا ا وال يظلم رب [41، 44]الكهف: ﴾ما عملوا حاضرا

اآليتان الكريمتان تذكران كتابا واحدا وضع في ذلك الموقف، ثم تذكران فهاتان

اها، وال كبيرة إال أحص كيف أشفق المجرمون بسبب ما كتب فيه، وكونه ال يغادر صغيرة

303

وربما يشير ذلك إلى أولئك المجرمين الذين بقيت آثارهم آمادا طويلة، ولذلك حوسبوا

على كل جريمة ارتكبوها، سواء حصلت في عصرهم، أو في غيره من العصور، وسواء

تسببوا فيها بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة.

موا إنا ﴿ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: نحن نحي الموتى ونكتب ما قد

أحصيناه في إمام مبين نكتب ، فقد قيل في تفسيرها: )[12]يس: ﴾وآثارهم وكل شيء

أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك

(1)(أيضا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر

ر ﴿ويشير إليه أيضا قوله تعالى: م وأخ نسان يومئذ بما قد ، [13امة: ]القي ﴾ينبأ اإل

بما قدم من خير وشر، وما أخر مما سن من سنة ليستن ها: )اإلمام الباقر في تفسيروقد قال

ن وزرهم شيء. وإن كان بها من بعده، فإن كان شراا كان عليه مثل وزرهم وال ينقص م

(2)(خيراا كان له مثل أجرهم وال ينقص من أجورهم شيء

وهكذا نجد في السنة النبوية الشريفة الكثير من األحاديث التي تدل على هذا،

)ال تقتل نفس ظلما إال كان على ابن آدم األول كفل من دمها، ألنه كان : ومنها قوله

(3)أول من سن القتل(

يشير إلى أن جرائم ابن آدم الذي سن القتل، لن يكفي فيها كتابه فهذا الحديث

الخاص به، والذي يكتفي بأعماله طيلة حياته، وإنما يضم إليها هذه الجرائم التي

تجاوزت حياته، وشخصه.

يعني: ما أثروا. يقول: ما ﴾ونكتب ما قدموا وآثارهم﴿(، ونقل عن سعيد بن جبير قوله: 232/ 3ر ابن كثير )تفسي (1)

سنوا من سنة، فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرا فله مثل أجورهم، ال ينقص من أجر من عمله شيئا، وإن كانت شرا

ئا. فعليه مثل أوزارهم، وال ينقص من أوزار من عمله شي

..313، ص2تفسير القمي ، ج (2)

(1333( ومسلم )3333رواه البخاري ) (3)

304

من سن في اإلسالم سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها : )وهكذا قال

ورهم شيئا، ومن سن في اإلسالم سنة سيئة، كان عليه من بعده، من غير أن ينقص من أج

(1)(وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا

إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إال من ثالث: من علم : )وفي حديث آخر قال

(2)ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده(

وص المقدسة ما يدل على أن جرائم اإلنسان ليست فقط تلك بل ورد في النص

التي اكتسبها في عصره، وإنما تلك التي رضي عنها حتى لو لم تكن في عصره، ويشير

ذي ﴿إليه قوله تعالى عن اليهود الذي رضوا بما فعل أسالفهم من قتل األنبياء: ن قالوا ال

ه عهد إلينا أال ن ؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من إن الل

ذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين قال ، وقد [143]آل عمران: ﴾قبلي بالبينات وبال

هؤالء لم يقتلوا، ولكن كان هواهم مع الذين وقد علم أنفي تفسيرها: )الصادق اإلمام

(3)(قتلوا، فسماهم الله قاتلين لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل

نما إوهكذا قال اإلمام علي مبينا دور الرضى والسخط في تمييز حقيقة اإلنسان: )

ا لميجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب

[، فما كان إال 123]الشعراء: ﴾فعقروها فأصبحوا نادمين ﴿عموه بالرضا، قال سبحانه:

أيها (، ثم قال: )أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في األرض الخوارة

(4) (من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه الناس..

(.1013رواه مسلم برقم ) (1)

( ..1331رواه مسلم برقم ) (2)

.1/204تفسير العياشي (3)

2/203نهج البالغة: (4)

301

الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في ) وقال في موضع آخر:

(1) (باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به

ن أخي فالناا كان شاهدنا أوددت ): وقال لبعض أصحابه يوم الجمل، عندما قال له

: اإلمام عليقال فأهوى أخيك معنا؟..قال: نعم، :(ليرى ما نصرك الله به على أعدائك

دنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصالب الرجال وأرحام النساء، فقد شه)

(2) (سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم اإليمان

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أن ذلك الكتاب العام ليس كتابا

األمم، ويشير إلى ذلك قوله تب أخرى، تسجل فيها األعمال بحسبواحدا، وإنما هناك ك

ة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) ﴿ى: تعال ة جاثيةا كل أم ( 24وترى كل أم

ا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [21، 24]الجاثية: ﴾هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن

فهاتان اآليتان الكريمتان تشيران إلى أن لكل أمة سجل خاص بها، يبين مسيرتها،

والصادقين من أهلها، والمنحرفين منهم، وأسباب االنحراف وغير ذلك، مما يشير إليه

﴿قوله تعالى ـ في بيان كون يوم القيامة هو اليوم الذي توضح فيه كل الحقائق المشكلة ـ:

[22]السجدة: ﴾فصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون إن ربك هو ي

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يبين كيفية عرض أمثال هذه الكتب، والتي ال

تتعلق باألفراد، إنما تتعلق بالمجموعات البشرية، فقد ذكرت أن أهل المحشر سيتشكلون

تخضع لمعايير الزوجية التي أشار إليها القرآن الكريم، وبين أن من صفوف عديدة، ربما

الخلق في اآلخرة ينقسمون بحسبها، كما نص على ذلك قوله تعالى في حق أهل الجحيم:

3/111نهج البالغة (1)

1/31المرجع السابق، (2)

310

ا ﴿ ذين كفروا إلى جهنم زمرا ، ونص عليها قوله في حق أهل [31]الزمر: ﴾وسيق ال

ذين ا﴿الجنة: اوسيق ال هم إلى الجنة زمرا قوا رب [33]الزمر: ﴾ت

وقد ورد في الروايات ما يدل على كثرة تلك الصفوف، وهو ما يشير إلى التنوع

س قال: )والناأنه عن اإلمام الباقر الكبير في أصناف الخلق، ومن تلك الروايات ما روي

، وأربعون ألف صف د صفوف عشـرون ومائة ألف صف، ثمانون ألف صف أمة محم

وقال اإلمام الصادق: )هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف، في ، (1)من سائر األمم(

(2)األرض(

وهذه الروايات تشير إلى االختالف الشديد بين األصناف، والذي قد ال يكون

بالضرورة اختالفا عقديا، بل قد يكون اختالفا في المشارب واألذواق والفهوم، وهو ما

ير اليه مصطلح الزوحية في القرآن الكريم، والذي يعني المتشاكلين في الطباع يش

ونحوها.

ب ـ الكتب الخاصة:

وهي الكتب التي تحصي أعمال كل شخص إما جميعا، أو تلك التي كلف بها،

ويحاسب عليها، وقد ورد النص على ذلك في نصوص قرآنية كثيرة منها قوله تعالى:

ا )وكل إنسان ﴿ ا يلقاه منشورا ( اقرأ 13ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا

[14، 13]اإلسراء: ﴾كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباا

التفاؤل ب فهاتان اآليتان الكريمتان تردان على تلك التصورات الجاهلية المرتبطة

والتشاؤم، والتي تجعلها منوطة بما هو خارج عن دور اإلنسان وأعماله، لتوضح أن الفأل

والتشاؤم مرتبط باألعمال، وأن تلك األعمال مسجلة، وإن كانت مخفية ال يراها اإلنسان،

2/213الكافي: (1)

2/14اإلحتجاج: (2)

311

في ذلك اليوم يراها، ويكلف بقراءتها، وبحاسب نفسه عليها. لكنه

وص المقدسة ليست مجرد شرح ووصف مثلما نقرأ والقراءة كما تفسرها النص

الكتب في الدنيا؛ فليست تلك الكتب حروفا وكلمات، بل هو نفسه العمل يراه صاحبه

ا ﴿حاضرا مثلما فعله أول مرة، كما قال تعالى: ﴾ووجدوا ما عملوا حاضرا

[ 41]الكهف:

ا ﴿وهكذا أشارت آيات أخرى إلى هذا المعنى كقوله تعالى: يوم تجد كل نفس م

ا وما عملت من سوء حضرا علمت نفس ﴿[، وقوله: 30]آل عمران: ﴾عملت من خير م

ا أحضرت رت ﴿[، وقوله تعالى: 14]التكوير: ﴾م مت وأخ ا قد ﴾علمت نفس م

ر ين ﴿[، وقوله تعالى: 2]االنفطار: م وأخ [13]القيامة: ﴾بأ اإلنسان يومئذ بما قد

يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب ): ذلك، فقال الصادقوقد وصف اإلمام

عليه، حتى كأنه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب ال يغادر صغيرة

(1)(وال كبيرة إال أحصاها

اآليات الكريمة إشارة إلى تنبيه الذاكرة تنبيها قويا بحيث تستعيد لتلكوقد يكون

أحداثا بعينها، وبدقة عالية، وكأنها تراها أول مرة، وهو ما توصلت العلوم الحديثة إلى

إمكانيته، وإن كانت ال تزال المسافة كبيرة بينها وبين تحقيقه في الواقع، لعدم قدرتها على

لتي تسجل فيها الذكريات.التعرف على الخارطة ا

دفع إذا كان يوم القيامةما يشير إلى هذا، فقد قال: )عن اإلمام الصادق وقد روي

ة وال إنه يذكره، فما من لحظ)لإلنسان كتاب، ثم قيل له: اقرأ( قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال:

اويلتنا ي ﴿ا: كلمة وال نقل قدم وال شيء فعله إال ذكره، كأنه فعله تلك الساعة، ولذلك قالو

..144، ص 3نور الثقلين، ج (1)

312

(1) ([41]الكهف: ﴾مال هذا الكتاب ال يغادر صغيرةا وال كبيرةا إال أحصاها

وقد ورد في النصوص المقدسة كذلك ما يدل على أن كل األعمال ستحضر، مهما

[41]الكهف: ﴾كبيرةا إال أحصاهاالكتاب ال يغادر صغيرةا وال ﴿كان نوعها، وأن ذلك

أنه يكتب على اإلنسان وقد ورد في الروايات واآلثار ما يدل على هذا، فقد روي

: له فقيلأنه كان يئن في مرضه، بعضهم كل شيء حتى األنين في مرضه، وقد ذكر عن

.(2)يكتب الملك كل شيء حتى األنين، فلم يئن حتى مات

، أو يؤزر عليه ،إال ما يؤجر بهى أن تلك الكتب ال تحوي لكن هناك من ذهب إل

ابن عباس أنه يكتب كل شيء، ثم يمحى ما ال عالقة له بالتكليف، قال ابن وروي عن

يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى أنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، )عباس:

ر منه ما كان فيه ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأق

ه ما يشاء ويثبت وعنده أم ﴿تعالى: من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله يمحوا الل

(31)الرعد: ﴾الكتاب

ء، كل شيتلك الكتب تتضمن ونرى ـ والله أعلم ـ انطالقا من عموم النصوص أن

ألن سيرة اإلنسان بمجموعها هي التي تعبر عن حقيقته، وتعبر في نفس الوقت عن

المالبسات المرتبطة بأدائه للتكاليف.

تحوي ظواهر األعمال، بل تحوي فقط ـ كما تشير النصوص ـ ال ه الكتب وهذ

في الحديث باطنها، واألحوال الصادرة عنها، ويدل على ذلك قوله ذلك ك

قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها )القدسي:

فاكتبوها له سيئة، فإن تاب منها فامحوها عنه، وإن هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها

233، ص 3المرجع السابق، ج (1)

هذا بناء على كون األنين شكوى، أما األنين المجرد، والذي ينفس به المريض عن آالمه، فال حرج فيه. (2)

313

(1)له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف( له حسنة، فإن عملها فاكتبوها

(، 12عموم قوله تعالى:﴿ يعلمون ما تفعلون﴾ )االنفطار:قبل ذلك يدل عليه و

فالفعل يطلق على عمل الظاهر والباطن، بل إن التكاليف الشرعية ألصق بالباطن منها

أجور ، وقد ربط بل إن الظاهر نفسه ال يصح إال بالنية، وهي عمل الباطن، بالظاهر

إنما األعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت ):األعمال بالنيات، فقال

هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو

(2)امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه(

األعمال الظاهرة استدالال بحديث واه أما ما روي من أن الملكين ال يسجالن إال

قال الله تعالى: اإلخالص سر من سري استودعته قلب من أحب، ال يطلع )جدا لفظه:

، فهو ال يقوى لرد الحديث الصحيح الصريح.(3)عليه ملك فيكتبه، وال شيطان فيفسده(

ونحب أن نختم هذا المطلب بموعظة تربوية بليغة علمنا إياها اإلمام السجاد،

ليبين من خاللها اآلثار الروحية والسلوكية للحقائق العقدية، وأنها ليست مجرد معلومات

تخزن في الذهن، ثم ال يكون لها أي دور في السلوك.

وهي تنبع من تلك التعاليم الواردة في النصوص المقدسة حول الدعوة لتحرير

رس مام السجاد هذا الدالرقيق، والتي قصرت األمة لألسف في تطبيقها، ولذلك أعطى اإل

البليغ لمن يتصورون أنفسهم سادة، ويتصورون أن لهم الحق بذلك في إذالل الرقيق.

كان علي بن الحسين عن جده اإلمام السجاد، فقال: )اإلمام الصادق فقد حدث

(.121( و )124، ومسلم رقم ) 311/ 13رواه البخاري (1)

(.1103مسلم رقم )، و 12 - 3/ 1رواه البخاري (2)

عن علم الباطن ما هو فقال ( وقد روي مثل هذا عن حذيفة، سألت النبي 104رواه القشيري في الرسالة )ص (3)

سألت جبريل عنه فقال: سر بيني وبين أحبائي وأوليائي وأصفيائي أودعه في قلوبهم ال يطلع عليه ملك مقرب وال نبي مرسل(

قال ابن حجر: هو موضوع.

314

إذا أذنب العبد واألمة يكتب عنده أذنب فالن، أذنبت فالنة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه

يهم األدب، حتى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، فيجتمع عل

ولم أؤدبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فالن فعلت كذا وكذا،

ثم يقوم وسطهم، ويقول لهم: ، يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم فيقررهم جميعاا

يا علي بن الحسين، إن ربك قد أحصى عليك كلما عملت، ارفعوا أصواتكم، وقولوا:

كما أحصيت علينا كلما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، ال يغادر صغيرة وال كبيرة

مما أتيت إال أحصاها، وتجد كلما عملت لديه حاضراا، كما وجدنا كلما عملنا لديك

فو، وكما تحب أن يعفو المليك عنك، حاضراا، فاعف واصفح كما ترجو من المليك الع

فاعف عنا تجده عفواا، وبك رحيماا، ولك غفوراا، وال يظلم ربك أحداا، كما لديك كتاب

ينطق علينا بالحق، ال يغادر صغيرة وال كبيرة مما أتيناها إال أحصاها، فاذكر يا علي بن

لم مثقال حبة من خردل، الحسين ذل مقامك بين يدي ربك، الحكم العدل الذي ال يظ

ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباا وشهيداا، فاعف واصفح يعف عنك المليك،

ه غفور رحيم ﴿ويصفح، فإنه يقول: ه لكم والل وليعفوا وليصفحوا أال تحبون أن يغفر الل

(1) ([22]النور: ﴾

واقف بينهم يبكي وينوح، لقنهم ذلك، ويعلمهم إياه، وهو )ثم ذكر كيف كان ي

ويقول: رب إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمن

ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن ال نرد

اكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلكعن أبوابنا، وقد أتيناك سؤاالا ومس سائالا

ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، وال تخيبنا، فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين،

230ابن طاووس: إقبال األعمال ص (1)

312

إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا

(كريم

من مما كان مني إليكم فهل عفوتم عني ،قد عفوت عنكم)ثم يقبل عليهم، فيقول:

سوء ملكة، فإني مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن

هم اعف لل )افيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت، فيقول لهم: قولوا: (، متفضل

ون ، فيقول(عن علي بن الحسين كما عفا عنا، وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق

، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم، (للهم آمين، يا رب العالمين)اذلك، فيقول:

(رجاءا للعفو عني وعتق رقبتي، فيعتقهم

كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة، يأتي بهم إلى وهكذا روى عنه أنه )

قابهم، وجوائز لهم منعرفات، فيسد بهم تلك الفرج والخالل، فإذا أفاض، أمر بعتق ر

(1) (المال

وكل هذه التعاليم كان لها آثارها التربوية ليس على أولئك الرقيق فقط، وإنما على

جميع أهله وتالميذه، ذلك أن تجسيد الحقائق له دور كبير في التربية بخالف تركها في

عالمها الذهني المجرد.

:وتنوعهمـ الشهود 2

أو تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر، وقبل الحساب والموازين من

أثناءهما توفير الشهود على األعمال، إما مطلقا، أو حسب طلب العامل الذي قد يشك

.تب في كتابهفي أي شيء ك

اختالف المحاسبين في طلب أولئك ومن خالل استقراء النصوص المقدسة نجد

230ابن طاووس: إقبال األعمال ص (1)

313

فبعضهم قد ال يطلبهم تعظيما لله، واكتفاء بشهادته، وبعضهم يبالغ في طلبهم، الشهود،

مثلما نراه في الدنيا بين الخصماء، ولهذا كان آخر الشهود ويرفض كل شهيد يشهد عليه،

ه إلى النار فهم ﴿هو نفس اإلنسان وجلده وأعضاؤه كما قال تعالى: ويوم يحشر أعداء الل

وزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ي

وهو خلقكم أ ذي أنطق كل شيء ه ال م علينا قالوا أنطقنا الل ل وقالوا لجلودهم لم شهدت و

ة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم وال جلودكم مر

كم أ ذي ظننتم برب ا تعملون وذلكم ظنكم ال م ا م ه ال يعلم كثيرا اكم د ر ولكن ظننتم أن الل

ن الخاسرين [ 23 – 11]فصلت: ﴾فأصبحتم م

إذا كان يوم : )لذلك، ومنها قوله اوقد ورد في الحديث ما يعطي مشاهد وصور

القيامة عرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال: هؤالء جيرانك، يشهدون عليك؟

ون، ثم : احلفوا فيحلففيقول ؛فيقول: كذبوا. فيقول: أهلك وعشيرتك؟ فيقول: كذبوا

(1)(يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم، ويدخلهم النار

عز -ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه وفي بعض اآلثار: )

عمله، فيجحد ويقول: أي رب، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل! -وجل

ان كذا؟ فيقول: ال وعزتك، أي رب فيقول له الملك: أما عملت كذا، في يوم كذا، في مك

(2) (فإذا فعل ذلك ختم على فيه :ما عملته. قال

وهذا وغيره كثير يدل على مدى الحرية التي تتاح في ذلك الموقف، وأمام

المحكمة اإللهية إلى الدرجة التي ال يقبل فيها الطغاة والمجرمون شهادة الله نفسها، كما

فلما سألوه عن ذلك، قال: ،ضحك ذات يوم وتبسم ورد في الحديث أن رسول الله

(2232مسند أبي يعلى ) (1)

(131/ 3تفسير ابن كثير ) (2)

313

عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني أال تظلمني؟ )

قال: بلى فيقول: فإني ال أقبل علي شاهدا إال من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أو ليس

تم على فيخ، د هذا الكالم مراراكفى بي شهيدا، وبالمالئكة الكرام الكاتبين؟! قال: فيرد

(1) (فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدا لكن وسحقا، عنكن كنت أجادل

رب ألم تجرني من الظلم( يدل على الضمانات الكثيرة التي )فقول المتهم في اآلخرة:

ى دليل علفعنكن كنت أناضل( )أخذها العباد إلقامة العدالة المطلقة في ذلك اليوم، وقوله:

مدى الحرية التي أتيحت له للدفاع عن نفسه.

وهذا الحديث وغيره يبين أن كل فترة البرزخ، وأنواع العقوبات التي عوقب بها

همأولئك الطغاة المجرمون، وما بعدها من فترة المحشر، لم تفلح في إصالح نفوس

يح لها لو بصيص بالخصومة والجدل، ولذلك سرعان ما يعود لها طبعها إن أتالمملوءة

من الحرية.

، ونتيجة ما يرونه من مظاهر العدالة نفهذا الصالحديث ما يشير إلى أن ورد في بل

يحتالوا على قلب الحقائق في الدنيا، وخداع الخلق بها، فلذلك تبقى هذه المطلقة، يحاولون أن

األحبولة في أيديهم يوم القيامة، ويتصورون أنهم سيخادعون الله كما خادعوا الخلق،، قال

ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك )في حديث القيامة الطويل:

وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له أال نبعث عليك وبكتابك وصمت وصليت

ـ قال ـ قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال: لفخذه انطقي شاهدنا؟

ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك

(2)الذي يسخط الله تعالى عليه(

3132(، وأبو يعلى الموصلي في مسنده برقم 14رواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم ) (1)

(11323م )( والنسائي في السنن الكبرى برق2131رواه مسلم برقم ) (2)

314

وحينذاك يندم الجاحد على جحوده، ويود لو أنه اعترف في البدء لعل ذلك يخفف عنه،

ى بهم ﴿تعالى:وهذا هو وجه الجمع بين قوله سول لو تسو يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الر

ي تفيد بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه وال ( والت42األرض وال يكتمون الله حديثاا﴾ )النساء:

يكتمون منه شيئاا، وبين ما رأيناه من صنوف اإلنكار.

سمعت الله عز وجل )فقال له: ،وقد روى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس

ـ إنهم قالوا:﴿ والله ربنا ما كنا م ـ يعني أخباراا عن المشركين يوم القيامة : األنعامشركين﴾ )يقول

أما )(، فقال ابن عباس 42: (، وقال في اآلية األخرى:﴿ وال يكتمون الله حديثاا﴾ )النساء23

نا ما كنا مشركين فإنهم لما رأوا أنه ال يدخل الجنة إال أهل اإلسالم، قالوا: ،﴾قوله:﴿ والله رب

هم فختم الله على أفواههم وتكلمت أيدي ﴾له ربنا ما كنا مشركين ﴿ وال:تعالوا فلنجحد، فقالوا

(1)(42: وأرجلهم ﴿ وال يكتمون الله حديثاا﴾ )النساء

سنحاول في هذا المطلب أن نذكر ما ورد في النصوص المقدسة من بناء على هذا

مع بيان أسرار ذلك.ومدى تنوعهم، الشهود،

شهادة الله:أ ـ

ون من أن يطلبوا معها يفي بها المؤمنون، ويستحتوهي أعظم الشهادات، ويك

ا ﴿ :، وقد قال تعالى ـ يبين محل شهادته وعظمتها ـآخر شهيدا ه جميعا يوم يبعثهم الل

ه على كل شي ه ونسوه والل شهيد فينبئهم بما عملوا أحصاه الل، وقال: [3]المجادلة: ﴾ء

ه شهيد بيني وبينكم ﴿ أكبر شهادةا قل اللا ﴿، وقال: [11]األنعام: ﴾قل أي شيء وإم

ه شهيد ينك فإلينا مرجعهم ثم الل ذي نعدهم أو نتوف ﴾على ما يفعلون نرينك بعض ال

ه شهيد على ما ﴿وقال: ،[43]يونس: ه والل قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الل

( 303/ 2تفسير ابن كثير ) (1)

311

ه العزيز الحميد ﴿وقال: ،[14]آل عمران: ﴾تعملون وما نقموا منهم إال أن يؤمنوا بالل

ذ 4) شهيد ( اله على كل شيء ماوات واألرض والل [1، 4]البروج: ﴾ي له ملك الس

وقد أخبر الله تعالى أن المؤمنين يكتفون بشهادة الله، وال يطلبون غيرها، ومن

ه ﴿األمثلة على ذلك ما قصه علينا من قصة المسيح عليه السالم، إذ قال: وإذ قال الل

ه قال سبحانك ما يا ي إلهين من دون الل خذوني وأم عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ات

ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي وال أعلم

م الغيوب )ف ه ربي 113ي نفسك إنك أنت عال ( ما قلت لهم إال ما أمرتني به أن اعبدوا الل

قيب عليهم وأن يتني كنت أنت الر ا توف ا ما دمت فيهم فلم كم وكنت عليهم شهيدا ت ورب

شهيد [113، 113]المائدة: ﴾على كل شيء

أما كيفية ذلك، فهي غيب محض، مثلما هو حال الوحي اإللهي المنزل على

األنبياء أو غيرهم، والذي ينزه عن التجسيم، وإن كان ال ينزه عن كونه حقيقة نجهل

كيفيتها.. فالله تعالى يلهم من شاء كيف شاء متى شاء.

ه ، أو حدثشخص بيقين ليس معه شك بأن الذي ألهمه ذلك اإللهامولذلك يشعر ال

هو الله تعالى، وقد يؤيد ذلك اإللهام نفيا للشك، بما يدل عليه من ذلك الحديث،

الخوارق والمعجزات.

وقد ورد في األحاديث ما يشير إلى هذا مع اختالطه لألسف بتلك الشروح

؛ فلذلك يمكننا أن نقرأ تلك األحاديث والتفسيرات التجسيمية التي ينزه الله عنها

باعتبارها إما مؤولة عن ظواهرها التجسيمية، أو اعتبار تلك األجزاء من تصرفات الرواة،

وليس لها عالقة بالحديث.

)إن الله عز وجل يدني أنه قال: ومن تلك الروايات ما رووه عن رسول الله

ذا؟ رره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كالمؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويق

320

أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك،

قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما

ن اف ﴿الكفار والمنافقون فيقول األشهاد: ا أولئك ومن أظلم مم ه كذبا ترى على الل

ه على هم أال لعنة الل ذين كذبوا على رب الهم ويقول األشهاد هؤالء يعرضون على رب

(1) ([14]هود: ﴾الظالمين

الخالئق نم ليستره كنفه فيضع القيامة، يوم العبد الله يدني) :ومنها ما ورد في األثر

الحسنة فيبيض ب فيمر كتابك، آدم ابن يا اقرأ: فيقول الستر، ذلك في كتابه إليه ويدفع كلها،

لها وجهه، ويسر بها قلبه، قال: فيقول الله تعالى: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: يا رب أعرف،

ك، فيمر كتابفيقول: إني قد تقبلتها منك، فيخر ساجداا، فيقول: ارفع رأسك، وخذ في

بالسيئة فيسود لها وجهه، ويوجل منها قلبه، وترعد منها فرائصه، ويأخذه من الحياء من

ربه ما ال يعلمه غيره، فيقول الله: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يارب أعرف، فيقول: فإني

فال يزال بين حسنة تقبل وسيئة تغفر فيسجد، ال يرى الخالئق منه إال ذلك؛ قد غفرتها لك

السجود، حتى ينادي الخالئق بعضها بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، وال

(2) يدرون ما لقي فيما بينه وبين الله تعالى مما قد وقفه عليه(

وهذا يدل على أن العبد الذي يسلم بشهادة الله، ويكتفي بها ال يجلب الفضيحة

ن ن جميع الشهود، باإلضافة إلى ألنفسه، مثل ذلك الذي يجادل، حتى يفضح نفسه بي

االكتفاء بشهادة الله قد يؤهل العبد لمغفرته وتجاوزه، ألن ذلك عالمة على كونه قد ترقى

في مراتب الكمال التي جعلته يرضى بالله.

شهادة األنبياء:ب ـ

(2334(، ومسلم )2441رواه البخاري ) (1)

( وعزاه إلى ابن أبي الدنيا132/ 2ذكره ابن كثير في )النهاية( ) (2)

321

وهي من الشهادات التي دلت عليها النصوص المقدسة الكثيرة، ومنها قوله تعالى:

ا )فكيف ﴿ شهيداة بشهيد وجئنا بك على هؤالء ذين 41إذا جئنا من كل أم ( يومئذ يود ال

ه حديثاا ى بهم األرض وال يكتمون الل سول لو تسو ، 41]النساء: ﴾كفروا وعصوا الر

42]

وإن من أهل الكتاب إال ليؤمنن به قبل موته ويوم ﴿وقال عن المسيح عليه السالم:

ا [121]النساء: ﴾القيامة يكون عليهم شهيدا

ه رب ﴿وقال حاكيا عنه: كم وكنت ما قلت لهم إال ما أمرتني به أن اعبدوا الل ي ورب

قيب عليهم وأنت على كل شيء يتني كنت أنت الر ا توف ا ما دمت فيهم فلم عليهم شهيدا

[113]المائدة: ﴾شهيد

الشهود مرتبطا بالكتب العامة، وخاصة تلك الكتب التي وربما يكون هذا النوع من

ة تدعى إلى ﴿لألمم، كما نص على ذلك قوله تعالى: تؤرخ ة جاثيةا كل أم وترى كل أم

ا كنا نستنسخ 24كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن

[21، 24]الجاثية: ﴾ ما كنتم تعملون

ا ثم ال يؤذن للذين ﴿وهو ما دل عليه قوله تعالى: ة شهيدا ويوم نبعث من كل أم

ا فقلنا هاتوا ﴿، وقال: [44]النحل: ﴾كفروا وال هم يستعتبون ة شهيدا ونزعنا من كل أم

ه وضل عنهم ما كانوا يفترون برهانكم [32]القصص: ﴾فعلموا أن الحق لل

فهذه اآليات الكريمة تدل على أن الشهود مختلفي الدرجات، أو بحسب أنواع

﴿الكتب، فالكتاب المرتبط باألمة يكون النبي هو الشاهد األكبر فيه، كما قال تعالى:

ويوم نبعث ف ا على هؤالء ا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا ة شهيدا ل: ]النح ﴾ي كل أم

ا عليكم ﴿، وقال: [41 سول شهيدا اكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الر هو سم

[34: ]الحج ﴾وتكونوا شهداء على الناس

322

وقد يكون لهذا النوع من الشهادة عالقة باألعمال الخاصة بأفراد األمة، وخاصة

من ذوي التأثير فيها، كما ورد النص على ذلك في أحاديث كثيرة تفسر قوله تعالى:

ه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عال هادة وقل اعملوا فسيرى الل م الغيب والش

، فاآلية الكريمة لم تخص رؤية المؤمنين [102]التوبة: فينبئكم بما كنتم تعملون

بالحياة دون الموت، بل هي تشملهما جميعا.

بأمته بعد ويؤكد ذلك ما ورد من الروايات الكثيرة في بيان عالقة رسول الله

موته، ومعرفته بها، وتواصله معها، واطالعه على أعمالها، ألنه ال يمكن أن يكون شهيدا

عليها من دون أن يتاح له ذلك االطالع.

حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي ): ومن تلك األحاديث قوله

رأيت من شر خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما

(1)(استغفرت الله لكم

بأمته، وعدم اقتصارها وهذا الحديث واضح في الداللة على عالقة رسول الله

ي مسنده رواه البزار فعلى حياته الدنيوية، وقد اتفق أكثر المحدثين على تصحيحه، فقد

وقال ، (3)الحافظ نور الدين الهيثمينص على ذلك كما ، بإسناد رجاله رجال الصحيح (2)

– الدين ولي وابنه الزين –وقال الحافظان العراقيان ،(4)سنده صحيح :الحافظ السيوطي

.(3)وروى الحديث ابن سعد بإسناد حسن مرسل، (2)(جيد إسناده):

( رجاله رجال الصحيح.1/24( قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد )1/313رواه البزار )كشف األستار (1)

(1/313كشف األستار عن زوائد البزار ) (2)

(1/24مجمع الزوائد ) (3)

(2/241الخصائص الكبرى ) (4)

(.3/213طرح التثريب ) (2)

(3/401(، وانظر: فيض القدير )2/114الطبقات ) (3)

323

إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده : )وقد أكد هذا الحديث بقوله

يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين

(1)(فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره

إلى هذا تلك األحاديث التي تذكر عرض األعمال على الله تعالى، وربما يشير

ذلك أن الله ليس بحاجة ألن تعرض األعمال عليه، وكيف تعرض عليه، وهو الشهيد

.على كل شيء

)إن : العرض اليومي والذي نص عليه قوله ومن تلك األحاديث ما روي عن

لليل يرفع إليه عمل ا ،يخفض القسط ويرفعه ،وال ينبغي له أن ينام ،الله عز وجل ال ينام

(2) (قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل

في ويجتمعون ،يتعـاقبون فيكم مالئكـة بالليل ومالئكة بالنهار) :ومنهـا قولـه

ــر ــالة العص ــالة الفجر وص ــألهم وهو أعلم بهم ،ص كيف :ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيس

(3) (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون :فيقولون ؟تركتم عبادي)تعرض أعمال الناس في : ومنها ما روي عن العرض األسبوعي، مثل قوله

ه فيغفر لكل عبد مؤمن إال عبدا بينه وبين أخيكل جمعة مرتين يوم االثنين ويوم الخميس

(4) (اتركوا هذين حتى يفيئا :شحناء فيقال

:، من تفسير العرض بذلك، فقد قالروي عن اإلمام الصادقويؤكد هذا الفهم ما

أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، تعرض األعمال على رسول الله )

(2244ح) 4/1311صحيح مسلم (1)

(131صحيح مسلم ) (2)

(332( ومسلم )222البخاري ) (3)

( 2232مسلم ) (4)

324

ه عملكم ورسوله والمؤمنون فاحذروها، وهو قول الله عزوجل وقل اعملوا فسيرى الل

هادة فينبئكم بما كنتم تعملون (1) ([102]التوبة: وستردون إلى عالم الغيب والش

على نبيكم إن األعمال تعرض )وفي حديث آخر عن اإلمام الباقر)عليه السالم(:

(2) كل عشية الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح(

وقد ذكر مكارم الشيرازي القيمة العملية لهذا العرض، ودوره التربوي؛ فقال:

مسألة عرض األعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإني إذا علمت أن الله الموجود )

يطلعون على كل أعمالي، وأئمتي ذلك فإن نبييفي كل مكان معي، وباإلضافة إلى

الحسنة والسيئة في يوم كل يوم، أو في كل أسبوع، فال شك أني سأكون أكثر مراقبة ورعاية

لما يبدر مني من أعمال، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن، تماما كما لو علم العاملون

جزئيات أعمالهم، يرفع إلى في مؤسسة ما بأن تقريرا يوميا أو أسبوعيا، تسجل فيه

(3) (المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم

شهادة الهداة:ج ـ

ما أنت منذر ولكل قوم هاد ﴿وهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ]الرعد: ﴾إن

ال، فهي تشير إلى أنه يوجد في كل عصر أو في كل قوم من يتولى أمر هدايتهم، بحيث [3

ويدخل فيهم األنبياء ألنهم الموكلون بهداية أقوامهم ، تخلو األرض من قائم لله بحجته

في حياتهم، واإلشراف على ذلك، ويدخل فيه غيرهم من ورثتهم بعد موتهم.

تاب ولقد آتينا موسى الك ﴿وقد أشار إلى هؤالء أيضا قوله تعالى عن بني إسرائيل:

131، ص 1أصول الكافي، ج (1)

124، ص 2تفسير البرهان، ج (2)

(204/ 3تفسير األمثل، ) (3)

322

ى لبني إسرائيل )فال تكن في ةا يهدون 23مرية من لقائه وجعلناه هدا ( وجعلنا منهم أئم

ا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون علج؛ فقد ذكر الله تعالى أنه [24، 23]السجدة: ﴾بأمرنا لم

ى منهاجه، حتى يبقى الدين الحق منارة يهتدي في بني إسرائل من يهدي بأمره، ويسير عل

بها المهتدون.

قال رب إني وهن العظم مني ﴿ومثل ذلك قوله تعالى عن زكريا عليه السالم:

أس شيباا ولم أكن بدعائك رب شقيا ) ائي ( وإني خفت الموالي من ور 4واشتعل الر

ا فهب لي من لدنك وليا ) ( يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب 2وكانت امرأتي عاقرا

؛ فزكريا عليه السالم خشي على بني إسرائيل من بعده، فلذلك [3 - 4]مريم: ﴾(3رضيا )

ارثا لهديه، ليبلغه لبني إسرائيل سليماطلب من الله تعالى أن يهبه من الولد من يكون و

نقيا من كل دنس.

ثم أورثنا الكتاب ﴿وهكذا ورد اإلخبار عن هذه السنة اإللهية في قوله تعالى:

ذين اصطفينا من عبادنا ، ثم بين مواقف األمم من هؤالء المصطفين، [32]فاطر: ﴾ال

ه فمنهم ظالم ل ﴿فقال: [32اطر: ]ف ﴾نفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الل

ولذلك فإن هذا النوع من الشهود يقدمون تقاريرهم يوم القيامة على العصور

والقرى التي كلفوا بها، مثلما نراه في الواقع من أن كل مؤسسة تسند أمورها لشخص

ره في األخير عن كيفية سير المؤسسة في عهده، ومن كان صادقا ومواظبا معين، يقدم تقري

من الموظفين، ومن كان غير ذلك.

وربما تكون اإلشارة األوضح لهذا النوع من الشهود وأهميتهم هي تلك الواردة

وعلى األعراف رجال يعرفون ﴿في سورة األعراف، والذي ورد ذكرهم في قوله تعالى:

، فهذا الوصف ينطلق على الشهود الذين يميزون [43]األعراف: ﴾كال بسيماهم

الملتزمين بالدين الحقيقي عن غيرهم عن طريق تلك السمات التي تظهر في ذلك الحين.

323

ويظهر ذلك بوضوح في مخاطبة رجال األعراف ألهل النار، وتأنيبهم لهم، قال

عراف رجاالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم ونادى أصحاب األ ﴿تعالى:

ه برحمة ادخلوا 44جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ذين أقسمتم ال ينالهم الل ال( أهؤالء

[41، 44]األعراف: ﴾نون الجنة ال خوف عليكم وال أنتم تحز

فهذا يدل على أن أولئك الرجال كانوا يعرفون األسباب التي انحرف بها

المنحرفون، ويؤنبونهم بسببها، ويعاتبونهم على تلك المواقف السلبية التي وقفوها مع

المؤمنين.

ويزيد ذلك وضوحا المحل الذي وقف فيه أصحاب األعراف، وهو ـ كما ذكر

وهذا يدل على أنه المكان ،سور بين الجنة والنارأو ،بل بين الجنة والنارجالمفسرون ـ

الفاصل بينهما، والذي يميز الواقف فيه بينهما، ألن التمييز ال يكون من داخل المحل، بل

من خارجه.

منوا آوم يقول المنافقون والمنافقات للذين ي﴿وربما يشير إلى هذا قوله تعالى:

ا فضرب بينهم بسور له باب انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا

حمة وظاهره من قبله العذاب ) ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى 13باطنه فيه الر

ه و تكم األماني حتى جاء أمر الل صتم وارتبتم وغر ه ولكنكم فتنتم أنفسكم وترب كم بالل غر

[14، 13]الحديد: ﴾(14الغرور )

فهاتان اآليتان الكريمتان، تبينان دور أصحاب األعراف في التمييز بين المؤمنين

المنافقين.. ذلك أن أولئك المنافقين قد يبدون في ظاهرهم، ومن خالل سلوكاتهم أنهم و

من المؤمنين بينما هم في الواقع ليسوا كذلك.

تمحيص أهل الجنة والنار، فقد يكون دوهذا يدل على أن من أهم أدوار الشهو

كثيرة، ةالكتاب الخاص بالشخص جيدا في ظاهره، حيث يكون له فيه قيام وصيام وصال

323

وأعمال صالحة كثيرة، ولكنه في نفس الوقت ربما يكون قد أفتى من الفتاوى، أو أصدر

من البيانات، أو كتب من الكتب، أو ادعى من الدعاوى ما انهد له بنيان الدين، وكانت

آثاره خطيرة على المؤمنين.. ولذلك يميز هذا الصنف من خالل شهادة األنبياء وورثتهم.

لهؤالء الشهود أيضا دور في الشفاعة، ذلك أن من المؤمنين الصادقين وربما يكون

من يكون صاحب أعمال كبيرة، وذات تأثير عام مهم، ولكنه في نفس الوقت كان مقصرا

في شؤونه الخاصة، حيث لم تكن له صالة كثيرة، وال أعمال صالحة كثيرة، ولذلك يغطى

مواالته للقائمين على الدين من خالل أو قصوره بما فعله من األفعال الصالحة العامة،

الهداة إليه.

ونادوا ﴿وربما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى في القائمين على تلك األعراف:

( وإذا صرفت أبصارهم 43أصحاب الجنة أن سالم عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون )

نا ال تجعلنا مع القوم الظالمين تلقاء [43، 43]األعراف: ﴾أصحاب النار قالوا رب

وهذا يدل على أنه يكون مع أولئك الهداة من ورثة األنبياء من يكون مقصرا في

شؤونه الخاصة، وإن كان مجتهدا في الشؤون العامة، ولذلك يذكر طمعه في الجنة،

النار.وخوفه من

أصحاب األعراف: )هم بعض عن قال ويشير إلى هذا من الحديث ما روي أنه

قوم غزوا في سبيل الله عصاة آلبائهم، فقتلوا فاعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله،

)قوم قتلوا وفي رواية: ،(1)وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة(

آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار، ومنعتهم معصية في سبيل الله بمعصية

(2) آبائهم أن يدخلوا الجنة(

(112/ 4تفسير الطبري ) (1)

(112/ 4تفسير الطبري ) (2)

324

فهذا الحديث ـ إن صح ـ يشير إلى أن هؤالء كان لهم دور صالح بالجهاد في سبيل

الله، والذي يخدم مسيرة األمة، لكنهم في نفس الوقت قصروا في طاعة آبائهم، وهي من

لكنها في نفس الوقت شخصية، وليس عامة.المعاصي المتعدية، و

وهذا كله يدل على أن ذلك المحل يجتمع فيه الهداة مع غيرهم من أتباعهم، وهو

(1)ما خلط األمر على المفسرين الذين اضطربت أقوالهم في تفسير أصحاب األعراف

بناء على ما يذكره أتباعهم من الطمع في الجنة.

لكن لو أنهم اعتبروا األعراف محال يجتمع فيه األئمة الهداة مع أتباعهم من الذين

فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴿ذكرهم الله تعالى في قوله:

ه لحلت كل اإلشكاالت. [32]فاطر: ﴾بإذن الل

جت ﴿بقوله تعالى: خاصة إذا دعم ذلك ، وهو ما [3]التكوير: ﴾وإذا النفوس زو

يشير إلى أن كل المتشاكلين يجتمعون في محل واحد، كما روي في الحديث أن رجال

كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق ،يا رسول الله :فقال؛ جاء إلى رسول الله

([ عشرة أقوال في المسألة، هي: )قال عبد الله بن 3/211ذكر القرطبي في تفسيره ]الجامع ألحكام القرآن ) (1)

مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وابن جبير: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.. وقال مجاهد:

قشيري: وقيل هم فضالء المؤمنين والشهداء.. وقال شرحبيل هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقيل: هم الشهداء.. وقال ال

بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله ، الذين خرجوا الى الجهاد عصاة آلبائهم.. وقال الثعلبي: األعراف موضع عال

غضيهم بعلى الصـراط ، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه وم

بسواد الوجوه.. وقال الزجاج: هم قوم أنبياء.. وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم باآلالم والمصائب في الدنيا،

وليست لهم كبائر، فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.. وقيل: هم أوالد الزنى ، ذكره القشيري

مالئكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ، ذكره أبو عن ابن عباس.. وقيل: هم

مجلز. فقيل له ال يقال للمالئكة رجال ! فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث.. وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين

ل النحاس ، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه ، فهم على يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة . واختار هذا القو

السور بين الجنة والنار.. وقال ابن عطية: والالزم من اآلية أن على األعراف رجاالا من أهل الجنة ، يتأخر دخولهم(

321

(1): )المرء مع من أحب(فقال رسول الله ؟بهم

وهذا القول الذي اخترناه، والذي تجتمع فيه اآليات القرآنية الخاصة بأصحاب

ة.ية والشيعياألعراف قال به الكثير من العلماء من المدرستين السن

محمد رشيد رضا: )فكما ثبت أن كل رسول فمن المدرسة السنية، قال الشيخ

عده؛ ثبت أيضاا أن في األمم شهداء على جملة من األمم ب يشهد على أمته أن أمة محمد

ة بشهيد ﴿شهداء غير األنبياء عليهم السالم، قال الله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أم

ا شهيداوكذلك ﴿وقال في خطاب هذه األمة: ، [41]النساء: ﴾وجئنا بك على هؤالء

ةا وسطاا لتك ا جعلناكم أم سول عليكم شهيدا رة: ]البق ﴾ونوا شهداء على الناس ويكون الر

ها ووضع الكتاب وجيء ﴿[، وقال في صفة يوم القيامة: 143 وأشرقت األرض بنور رب

وقضي بينهم بالحق وهم ال هداء مر: ﴾يظلمون بالنبيين والش وهؤالء الشهداء ، [31]الز

هم حجة الله على الناس في كل زمان بفضائلهم واستقامتهم على الحق والتزامهم للخير

(2)وأعمال البر(

الذي وصف وقد ذكر الفخر الرازي اإلشكال الوارد على هذا القول، وهو ال

لم ﴿وهو قوله تعالى: ،ةبأمثال هؤالء الهدا ال يليقوصف به أصحاب األعراف، و

)أجاب الذاهبون إلى ، ثم أجاب عليه بقوله: [43]األعراف: ﴾يدخلوها وهم يطمعون

هذه الوجه بأن قالوا: ال يبعد أن يقال: إنه تعالى بين من صفات أصحاب األعراف أن

م ار، وأجلسهدخولهم الجنة يتأخر؛ والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل الن

على تلك الشرفات العالية واألمكنة المرتفعة، ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل

النار، فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك األحوال، ثم استقر أهل الجنة في الجنة

(2340( ، ومسلم )3131البخاري ) (1)

(432/ 4تفسير المنار ) (2)

330

وأهل النار في النار، فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة، فثبت أن

وأما الطمع ، هم غير داخلين في الجنة، ال يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهمكون

المذكور في اآلية، فهو على ما ذكر هؤالء، يكون معناه: اليقين، ال الطمع الذي ال يثق

ذي أطمع أن يغفر لي ﴿صاحبه بحصول المراد، وعلى هذا قوله تعالى عن إبراهيم: وال

ين خطيئتي يوم (1)[ فهذا الطمع طمع يقين(42]الشعراء: ﴾الد

،والتمييز ،أهل الشم. .ابن عربي: )ورجال األعراف وهم رجال الحد وقال

. كان منهم أبو يزيد البسطامي! ورجال إذا دعاهم .والسـراح عن األوصاف فال صفة لهم

ن في الناس بالحج يأتوك رجاالا ﴿ الحق إليه يأتونه رجاالا لسرعة اإلجابة ال يركبون: وأذ

وهم رجال المطلع. فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم [ 23]الحج: ﴾

وهو المقام .الملك والشهادة وهم الذين كان يشير إليهم الشيخ محمد بن قائد األواني

(2)(ي أدباا مع اللهن الشبل البغدادالذي تركه الشيخ العاقل أبو السعود ب

وعلى األعراف: أي على أعالي ذلك الحجاب الذي هو ): تفسيره وقال في

هؤالء عن يمينه وهؤالء عن شماله. رجال: هم ،حجاب القلب الفارق بين الفريقين

ة يسلمون على أهل الجن ،يعرفون كالا من الفريقين بسيماهم ،العرفاء أهل الله وخاصته

لم ،ة والتحلية واألنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهمبإمداد أسباب التزكي

فال ،يدخلوا الجنة لتجردهم عن مالبس صفات النفوس وطيباتها وترقيهم عن طورهم

(3)يشغلهم عن الشهود الذاتي ومطالعة التجلي الصفاتي نعيم(

(44/ 14التفسير الكبير ) (1)

(.1/124ات المكية )الفتوح (2)

(1/224تفسير ابن عربي ) (3)

331

وايات التي بناء على الر (1)أما القائلون بهذا من المدرسة الشيعية فكثيرون جدا

صحت عندهم عن أئمة أهل البيت، وليس من فرق بينهم وبين ما ذكره القائلون بهذا إال

في المصاديق الذين يصدق عليهم ذلك الوصف.

صاحب محمد حسين الطباطبائيومن أقوالهم في ذلك قول العالمة الكبير

األولين واآلخرين، : )وعلى األعراف رجال مشـرفون على الناس من [تفسير الميزان]

يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختالف مقاماتهم ودرجاتهم

ويعرفون كالا منهم بما له من الحال الذي ،من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ،ودركاتهم

نوا من شا ،وا منهمءلهم أن يكلموا من شا ،والعمل الذي عمله ،يخصه ويأمروا ،واءويؤم

ويستفاد من ذلك أن لهم موقفاا خارجاا من موقفي السعادة التي .لجنة بإذن اللهبدخول ا

ومقاماا أرفع من ،والشقاوة التي هي الهالك بطالح العمل ،هي النجاة بصالح العمل

(2)(ولذلك كان مصدراا للحكم والسلطة عليهما جميعاا ،المقامين معاا

ذكره الشيخ مكارم الشيرازي في ومن أحسن أقوالهم في ذلك وأدقها وأجمعها ما

تفسيره، والذي حاول أن يجمع فيه بين األقوال جميعا، وهو يؤكد ما ذكرنا، فقد قال في

األعراف في األصل منطقة مرتفعة، ويتضح في مقدمة بحثه حول أصحاب األعراف: )

ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمة اإلسالم، أنه مكان خاص بين

وهو كحجاب حائل بين هذين، أو كأرض ، قطبي السعادة والشقاء، أي الجنة والنار

مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنة والنار،

([: )وأما 2/313لم يتفق الشيعة على هذا القول، فقد قال صدر المتألهين الشيرازي في ]األسفار األربعة ) (1)

عذاب، الاألعراف فهو سور بين الجنة والنار، له باب باطنه وهو ما يلي الجنة فيه الرحمة ، وظاهره وهو ما يلي النار من قبله

، 200يكون عليه من تساوت كفتا ميزانه ، فهم ينظرون بعين إلى الجنة وبعين أخرى إلى النار(. وذكر نحوه أسرار اآليات/

..312والشواهد الربوبية/

(4/132تفسير الميزان: ) (2)

332

ويشاهد كال الفريقين، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة، المشرقة أو المظلمة

(1) (المكفهرة

ـ فقال: ) ثم ذكر األوصاف الواردة ـ حسبما ورد في القرآن الكريم ة إن دراسلهؤالء

،اآليات األربع تفيد أنه ذكر لهؤالء األشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات

ا الجنة، يدخلو ي اآلية األولى والثانية وصف الواقفون على األعراف بأنهم يتمنون أنفف

لى أهل الجنة يحيونهم ويسلمون ولكن ثمة موانع تحول دون ذلك، وعندما ينظرون إ

عليهم ويودون لو يكونون معهم، ولكنهم ال يستطيعون فعال أن يكونوا معهم، وعندما

..منهم أن يكونواينظرون إلى أهل النار يستوحشون مما آلوا إليه من المصير، ويتعوذون ب

راد ذوو نفوذ وقدرة، يوبخون أهل النار ولكن يستفاد من اآلية الثالثة والرابعة بأنهم أف

(2)(ويعاتبونهم، ويساعدون الضعفاء في األعراف على العبور إلى منزل السعادة

ثم ذكر أصناف الروايات الواردة في حقهم في المدرستين السنية والشيعية، فقال:

وقد قسمت الروايات الواردة في هذا المجال أهل األعراف الى هذين الفريقين )

نحن »نقرأ: ففي بعض األحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت، المختلفين أيضا

ونقرأ في طائفة ، وما شابه هذه التعابير، «آل محمد هم األعراف»أو عبارة: ،«األعراف

هم الشهداء على الناس »أو « هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»أخرى عبارة:

. .تحكي أنهم األنبياء واألئمة والصلحاء واألولياء وروايات أخرى ،«والنبيون شهداؤهم

هم قوم استوت حسناتهم »تقول: لكن طائفة أخرى مثلما ورد عن اإلمام الصادق

وثمة روايات ، «وسيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته

سعيد »و «بن عباسعبدالله »و «حذيفة»متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن

(24/ 2تفسير األمثل ) (1)

(24/ 2المرجع السابق، ) (2)

333

(1) وأمثالهم بهذا المضمون(« بن جبير

وبناء على هذا راح يذكر وجهة نظره، وهي تتفق مع ما ذكرنا من شمول أصحاب

األعراف للشهداء الهداة، وأتباعهم من الصادقين المقصرين في العمل الصالح، فقال:

بالرغم من أن ظاهر اآليات وظاهر هذه الروايات تبدو متناقضة في بدو النظر، ولعله )

راء مختلفة، ولكن مع التدقيق واإلمعان آلهذا السبب أبدى المفسرون في هذا المجال

يتضح أنه ال يوجد أي تناقض ومنافاة، ال بين اآليات وال بين األحاديث، بل جميعها تشير

ف األعراأن ضيح ذلك: إنه يستفاد من مجموع اآليات والروايات وتو، إلى حقيقة واحدة

ومن الطبيعي أن األقوياء ، معبر صعب العبور على طريق الجنة والسعادة األبدية

الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أما الضعفاء الذي

أنه من الطبيعي أيضا أن تقف كما، وآخر سيئا فيعجزون عن العبور ،خلطوا عمال صالحا

قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين

يمشون في مثل هذه الحاالت في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا

وعلى ،ضعفاء اإليمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم

األساس، فأصحاب األعراف فريقان: ضعفاء اإليمان والمتورطون في الذنوب الذين هذا

(2) (هم بحاجة إلى الرحمة، واألئمة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع األحوال

والنقطة الجديرة باإللتفات ثم قرب صورة ذلك من خالل النشأة األولى، فقال: )

مبتنية على أساس النماذج والعينات الموجودة في هذه هي أن الحياة في العالم اآلخر

الدنيا، فهكذا الحال بالنسبة إلى األعراف، ألن الناس في هذه الدنيا ثالث فرق: المؤمنون

الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء اإليمان، ولم يدخروا وسعا في

(21/ 2المرجع السابق، ) (1)

(21/ 2المرجع السابق، ) (2)

334

ون المتمادون في لجاجهم الذين ال والمعاندون وأعداء الحق المتصلب، طريق المجاهدة

والفريق الثالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصعب عبوره ـ في ،يهتدون بأية وسيلة

الوسط بين الفريقين، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمة الحق موجهة إلى هؤالء، فهم

األعراف يبقون إلى جانب هؤالء، ويأخذون بأيديهم إلنقاذهم وتخليصهم من مرحلة

انقاذ ومن هنا يتضح أن تدخل األنبياء واألئمة في، ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين

هذا الفريق في اآلخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا ال ينافي أبدا قدرة الله وحاكميته على

(1) (كل شيء، بل كل ما يفعلونه إنما هو بإذن الله تعالى وأمره

الشفعاء من ناحية شفاعتهم للمؤمنين الثابتين على وبذلك يكون دور هؤالء يشبه

الحق، المقصرين في القيام بتكاليفه، وفي نفس الوقت دور المتشدد مع غيرهم، من الذين

واجهوا الحق، وحاربوه وحرفوه.

شهادة المالئكة:د ـ

وهي من الشهادات الكبرى المعتبرة، ألن من التكاليف التي كلف بها المالئكة

الدائم في حياة البشر، وتسجيل أعمالهم، وبدقة عالية، وهم ليسوا محصورين الحضور

فقط في المالئكة الكتبة، بل هناك مالئكة لهم أدوار أخرى في حياة اإلنسان، وهدايته،

ولهم دورهم أيضا في ذلك العالم بالشهادة.

بد ربهعجبت من مجادلة العفي إثبات شهادة المالئكة: ) وقد ذكرنا سابقا قوله

يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني أال تظلمني؟ قال: بلى فيقول: فإني ال أقبل

علي شاهدا إال من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالمالئكة

فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان ، الكرام الكاتبين؟! قال: فيردد هذا الكالم مرارا

(30/ 2المرجع السابق، ) (1)

332

(1) (فيقول: بعدا لكن وسحقا، عنكن كنت أجادل يعمل،

ا كاتبين يعلمون ﴿تعالى: وأشار إلى هذه الشهادة قوله وإن عليكم لحافظين كراما

مال ﴿، وقوله: [11 - 10]االنفطار: ﴾ما تفعلون يان عن اليمين وعن الش ى المتلق إذ يتلق

وإذا أذقنا الناس ﴿، وقوله: [14 - 13]ق: ﴾قعيد ما يلفظ من قول إال لديه رقيب عتيد

ا إن رسلنا يكت كر في آياتنا قل الله أسرع مكرا تهم إذا لهم م اء مس ن بعد ضر ون ما ب رحمةا م

هم ونجواهم بلى ورسلنا ﴿، وقوله: [21]يونس: ﴾ون تمكر ا ال نسمع سر أم يحسبون أن

[40]الزخرف: ﴾لديهم يكتبون

وغيرها من اآليات الكريمة التي تثبت كتابة المالئكة لكل أعمال اإلنسان، وأنها

دة على ما فيها.ستحضر يوم القيامة مع تلك الكتب لتكون شاه

باإلضافة إلى هذا، يحضر غيرهم من المالئكة من الذين وكلوا باالهتمام بشؤون

أخرى غير الكتابة من أمثال االهتمام بمجالس الذكر، كما ورد في الحديث الشريف قوله

: ال يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إال حفتهم المالئكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت(

، صليي أنه بينما كان رسول الله ، وروي(2)ة، وذكرهم الله فيمن عنده(عليهم السكين

ربنا ولك ): سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: الركوع، وقولهرأسه من وعند رفع

أنا، :الرجل قالف، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ (الحمد حمداا كثيراا طيباا مباركاا فيه

(3) ملكاا يبتدرونها، أيهم يكتبها أوالا(رأيت بضعة وثالثين ): قالف

)إذا كان يوم الجمعة وقفت : أو من المالئكة الموكلين بيوم الجمعة، كما قال

المالئكة على باب المسجد يكتبون األول فاألول، فإذا خرج اإلمام طووا صحفهم،

3132(، وأبو يعلى الموصلي في مسنده برقم 14رواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم ) (1)

(..2311رواه مسلم ) (2)

(330(، وأبو داود )311رواه البخاري ) (3)

333

(1) وجلسوا يستمعون الذكر(

)إن المالئكة لتضع أجنحتها :أو المالئكة الموكلين بطلبة العلم، كما قال

(2) لطالب العلم رضاا بما يصنع(

)إن لله مالئكة : كما قال أو المالئكة الموكلين بتبليغ السالم لرسول الله

(3) سياحين في األرض يبلغوني عن أمتي السالم(

)والذي نفسي بيده لو تدومون : أو المالئكة المنتشرين في كل محل، كما قال

، (4)ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم المالئكة على فرشكم وفي طرقكم(على

(2)وفي رواية: )لو أنكم تكونون كما تكونون عندي ألظلتكم المالئكة بأجنحتها(

رجالا زار أخاا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاا، أن ) وذكر

أخاا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد

نعمة تربها؟ قال: ال، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله

(3)قد أحبك كما أحببته فيه(

وغيرها من األحاديث الكثيرة التي تثبت الحضور الدائم للمالئكة عليهم السالم

صة للشهادة، مثل غيرهم من لك تتاح لهم يوم القيامة الفرفي كل شؤون اإلنسان، ولذ

(420(، ومسلم )121رواه البخاري ) (1)

/ 1(، وابن حبان )21333( )113/ 2(، وأحمد )223(، وابن ماجه )3341(، وأبو داود )2342رواه الترمذي ) (2)

241( )44)

(، 220/ 10(، والطبراني )112/ 3(، وابن حبان )2334( )401/ 2(، والدارمي )43/ 3رواه النسائي ) (3)

(423/ 2والحاكم )

(2320رواه مسلم ) (4)

(2422رواه الترمذي ) (2)

(.2233رواه مسلم ) (3)

333

الشهود، ألن العبرة في الشهود تكون بعدالتهم وصدقهم، باإلضافة إلى حضورهم أو

شهودهم لما يريدون الشهادة فيه.

هـ ـ شهود آخرون:

باإلضافة إلى أولئك الشهود الكرام، تذكر النصوص المقدسة شهودا آخرين

لهم الشهادة لعالقتهم بالعمل أو الشخص الذي يريدون الشهادة له أو عليه.كثيرين، تتاح

إذا ﴿ومن أولئك الشهود األرض التي مارس عليها العامل عمله، كما قال تعالى:

نسان ما لها )2( وأخرجت األرض أثقالها )1زلزلت األرض زلزالها ) يومئذ ( 3( وقال اإل

ث أخبارها ) ك أوحى لها4تحد [2 - 1]الزلزلة: ﴾( بأن رب

ث أخبارها﴿: قرأ قوله تعالى رسول الله وقد روي أن ]الزلزلة: ﴾يومئذ تحد

فإن أخبارها أن تشهد )قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ثم ،[4

كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه على

(1)أخبارها(

تحفظوا من ): إلى اعتبار هذه الشهادة والحذر منها، فقال وفي حديث آخر دعا

(2) األرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا، إال وهي مخبرة(

)ال يسمع :فضل اآلذان لشهادة كل من يسمعه من شجر وحجر، فقال وبين

(3) وال شيء إال شهد له يوم القيامة( مدى صوت المؤذن جن وال إنس،

وهذا ينطلق من الرؤية اإلسالمية لألرض، بل للكون جميعا، فليس هناك شيء

ي رف على الله فجامد في الكون، بل كل شيء يحمل نوعا من الحياة التي تتيح له التع

(11313( والنسائي في الكبرى برقم )3323( والترمذي برقم )2/334رواه أحمد ) (1)

(2/32رواه الطبراني في المعجم الكبير ) (2)

301رواه البخاري: (3)

334

حدود القابلية المتاحة له، ولذلك يسبحه ويحمده ويمجده، بل يستشعره من المشاعر ما

﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاا :، وقد قال تعالى(1)يشعر به األحياء

ه وتلك األمثال عاا من خشية الل رون متصد هم يتفك (21)الحشر:﴾ نضربها للناس لعل

المشاعر التي تستشعرها األرض، وهي ترى من وقد ورد في اآلثار ما يدل على

إن الجبل ليقول للجبل: هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ ):يطيع الله فوقها، ففي بعض اآلثار

ه ولداا سبحانه بل له م تعالى:﴿ فإن قال: نعم، سر به( ثم قرأ عبد الله قوله خذ الل ا وقالوا ات

ماوات واألرض كل له قانتون أفتراهن يسمعن الزور )( قال:113)البقرة:﴾ في الس

(2)يسمعن الخير(وال

ما من صباح وال رواح إال تنادي بقاع األرض بعضها بعضا، يا جاره ):وفي أثر آخر

هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك، فمن قائلة ال، ومن قائلة نعم، فإذا قالت

(3)نعم رأت لها بذلك فضال عليها(

حياة هو صورة فقط من صور ما نتصوره نحن من وهذا ليس مستغربا عقال ذلك أن

وكما أن العلم الحديث يقر ، الحياة، وهي صورة ارتباطات مادية حيوية بعضها ببعض

؛بوجود حياة في الخلية الواحدة، سواء كانت ضمن نسيج واحد أو كانت مستقلة منفردة

فكذلك تنبئنا النصوص المقدسة أن الكون كله حي جملة وتفصيال، وكل ذرة فيه أو ما

،دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده، كما أن له صورته التي نعرفه من خاللها

قال بديع الزمان النورسي مبينا هذه الحقيقة وأثرها النفسي: )فالكون بجميع عوالمه وقد

ـكما تراه عين الضاللة ـلك التجلي، واال ألصبح كل من العوالم حي ومشع مضئ بذ

ذكرنا ذلك مع أدلته بتفصيل في كتاب ]أكوان الله[ (1)

.3/110ابن أببي شيبة: (2)

.10/233رواه ابن المبارك في )دقائقه(، انظر: القرطبي: (3)

331

(1)جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالماا خرباا مظلماا(

وهكذا ورد في الروايات واآلثار ما يدل على شهادة الزمان الذي تم فيه العمل،

وم يأتي على ابن آدم إال ينادى فيه يا ليس من يأنه قال: ) ففي الحديث عن رسول الله

فاعمل في خيرا أشهد لك به ،وأنا فيما تعمل عليك غدا شهيد ،أنا خلق جديد :ابن آدم

(2) (غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا قال: ويقول الليل مثل ذلك

وهكذا ورد ما يدل على شهادة اإلنسان على أخيه اإلنسان في حدود ما يعلم، سواء

بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، مر أن رسول الله عاش في زمنه أم لم يعش، ففي الحديث

ما :فقيل له« وجبت»ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: « وجبت: »فقال النبي

هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له »وجبت؟ قال:

إن بعضكم على بعض : » قال، وفي رواية (3) (النار، أنتم شهداء الله في األرض

(2)«وجبت إنكم شهداء الله في األرض»، وفي رواية: (4)«شهداء

استخداما بشعا حيث صرنا نرى فيولألسف، فإن هذا الحديث استخدم طائفيا

تلك الدعاوى التي يتصور أصحابها أنهم الفرقة الناجية، فيضمنون ألنفسهم الواقع

الجنان مفاتيح أعطاهم قد تعالى الله الجنة، وألعدائهم أو من يكرهون النار، وكأن

. أهواؤهم لهم وشاءت شاءوا، من فيهما يدخلون والنيران

شمل من بل بل إنه شمل كبارهم لألسف، الدعاة، بصغار خاصا ولم يكن هذا

.120الكلمات، ص (1)

(303/ 2حلية األولياء وطبقات األصفياء ) (2)

(1333ح) 2/13صحيح البخاري (3)

(3233ح) 3/214سنن أبي داود (4)

(11112ح) 3/43مصنف ابن أبي شيبة (2)

340

من وكذلك: )تيمية ابن قول ذلك ومن عليه، واألوصياء اإلسالم مشايخ أنهم يدعون

، يوالشافع، أحمد: األئمة: فمثالا ، بالجنة له نشهد فإننا، عليه الثناء على األمة أجمعت

، الله مرحمه األئمة من وغيرهم، عيينه بن وسفيان، الثوري وسفيان ومالك،، حنيفة وأبو

(1) (الجنة أهل من بأنهم لهم فنشهد، عليهم الثناء على األمة أجمعت

الجنة،ب تيمية البن يشهد اآلخر هو راح الذي عثيمين ابن وتبعه على هذا الشيخ

تيمية ناب اإلسالم وشيخ[: )الصالحين رياض شرح] في حيث قال بالنار، ألعدائه ويشهد

لجنةبا له يشهد، النار في شذ والشاذ، شذ من إال عليه الثناء على الناس أجمع الله رحمه

(2)(الرأي هذا على

وكانت بايعت رسول الله ، عن أم العالءوهذا كله يخالف ما ورد في الحديث

قالت: )طار لهم في السكنى حين اقترعت األنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن

ضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول مظعون، فاشتكى عثمان فمر

، فقلت: )رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك، لقد أكرمك الله تعالى، الله

: )وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟(، فقلت: )ال أدري بأبي أنت فقال رسول الله

ما هو فقد جاءه اليقين من ربه وأني ألرجو له الخير، والله : )أوأمي(، فقال رسول الله

(3)ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي(، قالت، فقلت: )والله ال أزكي أحداا بعده أبداا(

ولذلك فإن قوانين الشهادة في اآلخرة ممتلئة بالعدالة، فال يمكن الثقة في كل

تقبل شهادتهم.الشهود، بل يحتاجون إلى تمحيص كبير حتى

أنه يمكن للشخص أن يشهد في حدود ما يعلم، ولو وهكذا أخبر رسول الله

(314/ 14مجموع الفتاوى ) (1)

.233-4/230شرح رياض الصالحين (2)

(1243رواه البخاري برقم ) (3)

341

لم يعايش ما شهد عليه، بناء على ما لديه من المعطيات، وقد ورد في الحديث أن رسول

؟فيقول: هل بلغت.يدعى نوح يوم القيامة، فيقول لبيك وسعديك يا ربقال: ) الله

ألمته: هل بلغكم؟فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: نعم. فيقال

(1) فيشهدون أنه قد بلغ( ،فيقول: محمد وأمته

ومعه والنبي ،يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل: )وفي حديث آخر قال

هل بلغكم هذا؟ فيقولون: ال. فيقال :فيدعى قومه، فيقال لهم ؛الرجالن وأكثر من ذلك

من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى :ل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال لهله: ه

بمحمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟

وكذلك ﴿فذلك قوله عز وجل: ، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا؛ فيقولون: جاءنا نبينا

ةا وسطاا ا جعلناكم أم سول عليكم شهيدا رة: ]البق ﴾لتكونوا شهداء على الناس ويكون الر

143])(2)

ومن آخر الشهود الذين ورد ذكرهم في النصوص المقدسة، والذين ال تتم

شهادتهم إال بعد عدم قبول غيرهم من الشهداء، شهادة أعضاء اإلنسان نفسه، كما قال

منا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون اليوم ﴿تعالى: ﴾نختم على أفواههم وتكل

[32]يس:

ه إلى النار فهم ﴿مصورا ذلك بصورة أكثر تفصيال: وقال ويوم يحشر أعداء الل

ليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد ع

وهو خلقكم أ ذي أنطق كل شيء ه ال م علينا قالوا أنطقنا الل ل وقالوا لجلودهم لم شهدت و

ة وإليه ترجعون وما كنتم تس تترون أن يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم وال جلودكم مر

(2/121رواه البخاري) (1)

(3/24رواه أحمد ) (2)

342

كم أ ذي ظننتم برب ا تعملون وذلكم ظنكم ال م ا م ه ال يعلم كثيرا داكم ر ولكن ظننتم أن الل

ن الخاسرين [ 23 – 11صلت:]ف ﴾فأصبحتم م

قال: )إنكم تدعون مفدماا على أفواهكم أنه وفي الحديث عن رسول الله

(1) بالفدام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه(

يا :يقولف ؛فيقول له مثل ذلك ؛في حديث القيامة الطويل: )ثم يلقى الثالثوورد

،رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع

ذا الذي من :ثم يقال له اآلن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه :ههنا إذا، قال :فيقول

حمه فتنطق فخذه ول ،انطقي :ويقال لفخذه ولحمه وعظامه ،يشهد علي؟ فيختم على فيه

(2) وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه( ،وذلك ليعذر من نفسه ،وعظامه بعمله

ا أنهم كم وهذا الحديث يشير إلى أولئك المجادلين المخادعين الذين يتصورون

خدعوا المؤمنين في الدنيا يمكنهم خداع الله في اآلخرة، وقد قال تعالى في شأنهم:

ا فيحل ﴿ ه جميعا هم يوم يبعثهم الل أال إنهم على شيء فون له كما يحلفون لكم ويحسبون أن

[14]المجادلة: ﴾هم الكاذبون

عن ابن عباس أنه قال البن األزرق: )إن يوم القيامة يأتي على وفي بعض اآلثار

ن لهم، ثم يؤذن لهم الناس منه حين، ال ينطقون، وال يعتذرون، وال يتكلمون حتى يؤذ

﴾فيحلفون له كما يحلفون لكم ﴿فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى:

فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم جلودهم ، [14]المجادلة:

ثم يفتح لهم األفواه فتخاصم ،وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم

ة وإليه ترجعون ﴿:فتقول ،جوارحال ل مر وهو خلقكم أوذي أنطق كل شيء ه ال أنطقنا الل

(3232/ 10رواه ابن أبي حاتم في )تفسيره( ) (1)

(122/ 1رواه ابن المبارك في )الزهد( ) (2)

343

(1)فتقر األلسنة بعد الجحود( ،[21]فصلت: ﴾

: والمساءلة الحسابـ 3

رتبط تمن تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر ما وضعه الله تعالى من قوانين

بحساب عباده على أعمالهم، ومساءلتهم عليها، بحسب الظروف التي أتيحت لهم،

واإلمكانيات التي كانت في طاقتهم، وإتاحة الفرصة لهم، ليجيبوا على ما يطرح عليهم

من أسئلة، واالعتذار بما يرونه من معاذير، بل يمكنهم أثناء الحساب أن يستدعوا من

يرضى بالدفاع عنهم.شاءوا من الشهود، أو ممن

وبذلك؛ فإن أقرب التشبيهات للحساب اإللهي في اآلخرة، تلك المحاكمات

العادلة التي تجري في الدنيا، والتي يعرض فيها أوال على المتهم جرائمه، ثم يتاح له بعد

ذلك تبريرها بما يراه، أو يستدعي من يتولى ذلك عنه.

ا، ستدعي دراسة كل قضية، وبكل تفاصيلهوطبعا، فإن العدالة المطلقة في اآلخرة ت

وتعالج القضايا جمعيا، وبكل سرعة، وليس مثل محاكم الدنيا والحيثيات المحيطة بها،

التي تتسم بالبطء والضعف الشديد، والذي قد يستغله المخادعون في التفلت من

ه كل نفس ﴿أحكامها، وقد قال تعالى مشيرا إلى ذلك: ه سريع ليجزي الل ما كسبت إن الل

ه ﴿، وقال: [21]إبراهيم: ﴾الحساب اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ال ظلم اليوم إن الل

[13]غافر: ﴾سريع الحساب

ففي هاتان اآليتان الكريمتان إشارة إلى كل ذلك؛ فالحساب اإللهي يشمل كل

النفوس، وبكل ما كسبت أيديها، وفي نفس الوقت يكون سريعا، ال كمحاكم الدنيا

القاصرة الضعيفة.

(3232/ 10رواه ابن أبي حاتم في )تفسيره( ) (1)

344

ـ وبناء على العدالة باإلضافة إلى ذلك؛ فالحساب اإللهي في ذلك الموقف

بق ستند فوق ذلك لكل أولئك الشهود الذين سيستند للعلم اإللهي فقط، بل يال المطلقة ـ

كن خداعهم أو رشوتهم، بخالف محاكمات الدنيا التي يمكن أن ذكرهم، والذين ال يم

يخادع فيها المتهم المحكمة والقضاة، بل قد يتمكن من إغرائهم بما يرغبون فيه من متاع

الحياة الدنيا.

وقد أشار القرآن الكريم إلى محاولة المجرمين فعل ذلك في اآلخرة، مثلما كانوا

ذين كفروا ﴿ى: قال تعاليفعلونه في الدنيا، كما فاليوم ال يؤخذ منكم فدية وال من ال

( أي لو جاء أحدكم اليوم بملء 12)الحديد: ﴾مأواكم النار هي موالكم وبئس المصير

األرض ذهباا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه.

س المجرم من استعمال هذه الوسيلة؛ فقال: ومثله ذكر القرآن الكريم يأ

رونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه )﴿ ( 12( وصاحبته وأخيه )11يبص

تي تؤويه ) ا ثم ينجيه 13وفصيلته ال [14 - 11]المعارج: ﴾( ومن في األرض جميعا

وهكذا ذكر القرآن الكريم مسؤولية كل شخص في ذلك العالم عن نفسه، وأنه ال

ا ال يجزي والد ﴿ينفعه إال عمله، كما قال تعالى: كم واخشوا يوما قوا رب ها الناس ات ياأي

[33لقمان: ] ﴾عن ولده وال مولود هو جاز عن والده شيئاا

وهكذا؛ فإن من مقتضيات العدالة اإللهية في ذلك الموقف أال يحاسب الشخص

إال على ما عملت يده، أو كان له سبب فيه؛ فال يحاسب على ما هو خارج عن قدرته، كما

ا إال وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكت ﴿قال تعالى: ه نفسا لبقرة: ]ا ﴾سبت ال يكلف الل

ا إال ما آتاها ﴿، وقال: [243 ه نفسا [3]الطالق: ﴾ال يكلف الل

ال يحاسب على ما عمل غيره، إن لم يكن له عالقة به، كما قال هكذا فإنه و

يحمل منه شيء ولو كان وال تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها ال ﴿تعالى:

342

ما يضل عليها ﴿ ، وقال:[14]فاطر: ﴾ذا قربى ما يهتدي لنفسه ومن ضل فإن ن اهتدى فإن م

بين حتى نبعث رسوالا [12]اإلسراء: ﴾وال تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذ

بناء على هذه المعايير يكون الحساب في ذلك الموقف، ولذلك يتاح لكل شخص

أن يبرر أعماله بما يراه مناسبا، وقد ال يبرر ذلك، ويقر بذنبه، ويعترف به، وبكونه يستحق

أي حكم يصدر عليه.

وبذلك فإن الحساب ليس من تجليات العدالة اإللهية فقط، وإنما هو من تجليات

تي تربيته لعباده، والسير بهم نحو مراتب الكمال ال االتي من مقتضياتهتعالى، و ربانيته

هيئوا لها، وذلك بإخراجهم من ظلمات نفوسهم إلى نور الحق.

وقد أشار إلى هذا المقصد الجليل من مقاصد الحساب الشيخ جعفر السبحاني،

راءة عدله وجوده وهو إ ،ال محيص عن كون الداعي إلى المحاسبة شيئاا آخرفقال: )

ته فمحاسب، وإن عذب فلعدله وحكمته ،فلو عفا فلجوده وكرمه ،وحكمته عند المحاسبة

ن الهدف من االبتالء ليس هو الوقوف على ما يكمن في إف ،تبارك وتعالى كابتالء عباده

(1)(بل الغاية إكمال العباد وتبديل طاقات الخير إلى فعليته ،نفوس العباد من الخير والشر

وبناء على هذا المقصد، فإن هناك من ال يحتاج إلى الحساب، إما لكونه قد طهر

في الدنيا أو في البرزخ طهارة كافية تعفيه من ذلك الموقف، أو لكونه ليس لديه من

المسؤوليات ما يحاسب عليه.

ذين آمنوا ﴿وقد أشار إلى هذا الصنف قوله تعالى: ذيقل ياعباد ال كم لل قوا رب ن ات

ابرون أجرهم بغير ما يوفى الص ه واسعة إن نيا حسنة وأرض الل أحسنوا في هذه الد

وهي تحتمل أن يكون ،قيد للفعل (بغير حساب )كلمة ، فهذه ال[10]الزمر: ﴾حساب

.4/220مفاهيم القرآن، (1)

343

،جرهمأمرتبط ب(، كما تحتمل أن يكون معناها ابرون بغير حسابيوفى الصالمراد منها: )

(يوفى الصابرون أجراا هو بغير حساب)أي

إذا نشرت : )وقد ورد في الحديث ما يؤيد المعنى األول، فقد قال رسول الله

تال هذه ثم ،الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب ألهل البالء ميزان ولم ينشر لهم ديوان

ابرون أجرهم بغير حساب ) :اآلية ما يوفى الص (1)(إن

ذكر أصناف آخرين من الذين ال عن رسول الله وهكذا ورد في حديث آخر

: )عرضت علي األمم فرأيت النبي ومعه يشملهم الحساب في اآلخرة، فقد قال

رفع لي سواد عظيم الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجالن، والنبي ليس معه أحد، إذ

واد فنظرت فإذا س ،فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى األفق

فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومنهم ،فقيل لي انظر إلى األفق اآلخر ،عظيم

ثم فسر سبب ذلك في آخر الحديث،، (سبعون ألفاا يدخلون الجنة بغير حساب وال عذاب

(2) وعلى ربهم يتوكلون( ،وال يتطيرون ،وال يسترقون ،هم الذين ال يرقون)فقال:

إذا كان يوم القيامة أنبت الله : )وفي حديث آخر ذكر ألوصاف أخرى، فقد قال

متي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف ألطائفة من

فيقولون: ما رأينا حسابا، فيقولون: هل ؟رأيتم حساباشاؤوا، فتقول لهم المالئكة: هل

قولون: في ؟فيقولون: ما رأينا صراطا، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم ؟جزتم على الصراط

فيقولون: ؛ مة محمد أفيقولون: من ؟ما رأينا شيئا، فتقول المالئكة: من امة من أنتم

غنا الله فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبل ؟نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا

فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ؟هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما

.441/ 4نور الثقلين: (1)

(3241رواه البخاري ) (2)

343

(1) (المالئكة: يحق لكم هذا ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول

صعيد واحد إذا كان يوم القيامة جمع الله الخالئق في: )وفي حديث آخر قال

:قال ؟أين أهل الصبر :يقول ،ونادى مناد من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أولهم

ذا الذي ماكان صبركم ه :فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من المالئكة فيقولون لهم

فينادي مناد :قال ،وصبرناها عن معصيته ،صبرنا أنفسنا على طاعة الله :فيقولون ؟صبرتم

مناد ثم ينادي :قال ؛بادي خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب صدق ع :من عند الله

فيقوم عنق من الناس ؟أين أهل الفضل :فيقول ،آخر يسمع آخرهم كما يسمع أولهم

كنا يجهل علينا :فيقولون ؟ما فضلكم هذا الذي ترديتم به :فيقولون ،فتستقبلهم المالئكة

،يفينادي مناد من عند الله تعالى صدق عباد :قال ،ويساء إلينا فنعفو ،في الدنيا فنحتمل

ثم ينادي مناد من الله عز وجل يسمع :قال ؛خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب

فيقوم عنق من ؟أين جيران الله جل جالله في داره :فيقول ،آخرهم كما يسمع أولهم

م ما كان عملكم في دار الدنيا فصرت :فيقولون لهم ،الناس فتستقبلهم زمرة من المالئكة

اذل في ونتب ،كنا نتحاب في الله عزوجل :فيقولون ؟به اليوم جيران الله تعالى في داره

م صدق عبادي خلوا سبيله :فينادي مناد من عند الله تعالى :قال ،ونتوازر في الله ،الله

«. اب إلى الجنة بغير حسفينطلقون :قال ،لينطلقوا إلى جوار الله في الجنة بغير حساب

ويحاسب ،فهؤالء جيران الله في داره يخاف الناس وال يخافون» :اإلمام الباقرثم قال

(2) الناس وال يحاسبون(

وهذا ال يعني أن الذين لم يحاسبوا أفضل من المحاسبين، بل قد يكون المحاسبون

جعلتهم يقفون ذلك أفضل، ذلك أن أعمالهم الكثيرة، وخاصة تلك المتعدية هي التي

230/ 1تنبيه الخواطر: (1)

131/ 3بحار األنوار : (2)

344

ذين أرس ﴿الموقف، كما قال الله تعالى عن الرسل عليهم الصالة والسالم: ل فلنسألن ال

ن عليهم بعلم وما كنا غائبين 3إليهم ولنسألن المرسلين ) ، [3، 3]األعراف: ﴾( فلنقص

أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وإذ ﴿وقال:

ا غليظاا ) ا 3وأخذنا منهم ميثاقا ا أليما ادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا ﴾( ليسأل الص

[4، 3]األحزاب:

وإذ قال ﴿: فقالوأخبر عن تلك المساءلة التي جرت مع المسيح عليه السالم،

ه قال سبحا ي إلهين من دون الل خذوني وأم ه ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ات ك ن الل

إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي وال أعلم ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق

م الغيوب ) ه 113ما في نفسك إنك أنت عال ( ما قلت لهم إال ما أمرتني به أن اعبدوا الل

ا كم وكنت عليهم شهيدا قيب عليهم وأنت ربي ورب يتني كنت أنت الر ا توف ما دمت فيهم فلم

شهيد )هم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز 113على كل شيء بهم فإن ( إن تعذ

[114 - 113]المائدة: ﴾الحكيم

ادقين صدقهم ﴿لله تعالى هذا المشهد بقوله: ثم ختم ا ه هذا يوم ينفع الص قال الل

ه عنهم ورضوا عنه ذلك ا رضي الل لهم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها أبدا

[111]المائدة: ﴾الفوز العظيم

ك فإن حساب أولئك الصادقين مما يزيد في مكانتهم ورفعتهم، ذلك أنه وبذل

تتجلى من خالل تلك األسئلة والمحاسبات مدى طهارتهم وصدقهم وإخالصهم،

والذي ربما يكون قد خفي الكثير منه في الدنيا.

وذلك يشبه كثيرا ما ذكره القرآن الكريم عن يوسف عليه السالم عند مطالبته

قضيته قبل أن يخرج السجن، ودور ذلك في إظهار صورته الممتلئة بالجمال بالتحقيق في

ائتوني به ﴿واإلخالص، فقد ذكر الله تعالى أن ملك مصر عندما علم الحقيقة قال:

341

[24]يوسف: ﴾أستخلصه لنفسي

هم منولهذا، فإن ما ورد عن دخول الفقراء الجنة قبل األغنياء، ال يعني أنهم أفضل

بهذا االعتبار، وإنما يعني أن حساب األغنياء أكبر ألنهم سيحاسبون عن أموالهم، من أين

اكتسبوها، وفيم أنفقوها، ولذلك إن نجحوا في االمتحان قد يكون محلهم من الجنة

أرفع، ألن العبرة باألعمال، ال بتأخر الدخول إلى الجنة.

فقراء تدخل الجنة من أمتي: )أول زمرة ويدل لذلك، بل يصرح به قوله

المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد

حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله

(1) حتى متنا على ذلك؟ فيفتح لهم، فيقيلون فيه أربعين عاماا قبل أن يدخلها الناس(

)قمت على باب الجنة : وعلى ضوء هذا الحديث تفسر سائر الحديث، كقوله

فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر

)إن فقراء المهاجرين يسبقون األغنياء يوم القيامة إلى الجنة ، وقوله: (2)بهم إلى النار(

)فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة ، وقوله: (3)بأربعين خريفاا(

(4) سنة(

واالختالف في التقديرات العددية إما أنه مبني على خطأ الرواة في رواية الحديث،

يث القرطبي، حأو بسبب االختالف الحاصل بين الفقراء واألغنياء، كما ذهب إلى ذلك

ابالحس كان فإذا كذلك، واألغنياء دمهم،وتق إيمانهم قوة في متفاوتون الفقراءأن )ذكر

(. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه40/ 2رواه الحاكم ) (1)

(2113رواه البخاري ) (2)

(2131رواه مسلم ) (3)

( بلفظ: )المؤمنين( 3133( )213/ 2( بلفظ: )المسلمين( بدالا من )المهاجرين(، وأحمد )2324رواه الترمذي ) (4)

بدالا من )المهاجرين(

320

ام، ة خمسمائة عالمد فتكون الجنة دخوالا األغنياء وآخر الجنة دخوالا الفقراء أول باعتبار

أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخوالا الجنة وأول األغنياء دخوالا الجنة فتكون المدة

(1)(أربعين خريفاا، باعتبار أول الفقراء وآخر األغنياء

وهكذا ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أن كبار المجرمين ال تتاح لهم

نوبهم وال يسأل عن ذ ﴿فرصة المساءلة بناء على اشتهار ذنوبهم أو كثرتها، كما قال تعالى:

﴾جان فيومئذ ال يسأل عن ذنبه إنس وال ﴿، وقال: [34]القصص: ﴾المجرمون

[31]الرحمن:

ك لنسألنهم ﴿ه اآليات وقوله تعالى: ذوقد حاول العلماء الجمع بين ه فورب

ا كانوا يعملون 12أجمعين ) ، ومن أحسن ما قيل فيها ما قاله [13، 12]الحجر: ﴾( عم

ل: األو عن طريقين:يمكن اإلجابة على هذا السؤال ، فقد قال: )زيامكارم الشيرالشيخ

وفي بعض ،إن المواقف في يوم القيامة متعددة، ففي بعضها يقع السؤال والجواب

الثاني: إن ..المواقف ال حاجة للسؤال، ألن الحجب مكشوفة، وكل شيء واضح هناك

ق، فليس في يوم القيامة سؤال للتحقي ،وسؤال توبيخ ،سؤال تحقيق ،السؤال عادة نوعان

ولكن يوجد هناك سؤال توبيخ ،مكشوف عيانا وواضح دون لبس ألن كل شيء هناك

وينطبق هذا تماما في ما لو سأل األب . وهو بنفسه نوع من العذاب النفسي للمجرمين.

. أهذا جزاء ما قدمت؟! في حين أن ؟.ابنه غير المؤدب: ألم أقدم لك كل هذه الخدمات

سؤاله إلبنه هو التوبيخ ال منكال من األب واالبن يعرفان الحقيقة، وأن قصد األب

(2)(غير!

(، بتصرف.133التذكرة بأحوال الموتى وأمور اآلخرة )ص: (1)

(214/ 12تفسير األمثل، ) (2)

321

، ورد في النصـوص المقدسة ذكر نوعين من الحساب: العسير كله وبناء على هذا

ك ، وأما العســير، فهو ذلعن العتاب والتوبيخ أما اليســير، فهو العرض المجردواليســير،

العرض الذي يكون معه التوبيخ الشديد.

ولهذا ذكر الله تعالى أن أصحاب الحساب اليسير هم المؤمنون الطيبون، بخالف

ا من أوتي كتابه بيمينه )﴿كما قال تعالى: أصحاب الحساب العسير، ( فسوف 3فأم

ا ) ا يسيرا ا 4يحاسب حسابا وفي مقابله ،[1 - 3]االنشقاق: ﴾( وينقلب إلى أهله مسرورا

ا من أوتي كتابه وراء ظهره )﴿ذكر صاحب الحساب العسير، فقال: ( فسوف يدعو 10وأم

ا ) ا )11ثبورا ا )12( ويصلى سعيرا ه كان في أهله مسرورا ه ظن أن لن يحور )13( إن ( 14( إن

ه كان ا بلى إن رب حمن ﴿، وقال: [12 - 10]االنشقاق: ﴾به بصيرا الملك يومئذ الحق للر

ا ا على الكافرين عسيرا [23]الفرقان: ﴾وكان يوما

ــير ذلك، فقد قال ليس أحد يحاســب يوم القيامة ) :وقد ورد في الحديث تفس

ا ﴿أليس الله يقول: (، فقيل له: إال معذبا يرا ا يســ ابا ب حســ وف يحاســ قاق: ]االنشــ ﴾فســ

(1) (ذاك العرض، إنه من نوقش الحساب عذب)قال: ف؟ [4

اللهم حاسبني ): يقول بعض صالتهمع في س وفي حديث آخر أن رسول الله

أن ينظر ): يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: ، قيل لهفلما انصرف (،حسابا يسيرا

(2) (يتجاوز له عنه، إنه من نوقش الحساب يومئذ هلكفي كتابه ف

نحب أن ننبه إلى أن طول الحساب وشدته، ال يعني كونه عسيرا؛ فقد يكون ذلك و

ذلك ق اإلمام الصادلكثرة المسؤوليات التي ارتبطت بالمسؤول بخالف غيره، كما وضح

فقير ،للحساب كالهما من أهل الجنة ،إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان): بقوله

(2433( و مسلم برقم )4131رواه البخاري برقم ) (1)

(3/44رواه أحمد ) (2)

322

علم أنك فوعزتك إنك لت ؟يا رب على ما أوقف :فيقول الفقير ،وغني في الدنيا ،في الدنيا

وال كان ،ولم ترزقني ماالا فأؤدي منه حقاا أو أمنع ،لم تولني والية فأعدل فيها أو أجور

صدق :فيقول الله جل جالله ،إال كفافاا على ما علمت وقدرت لي رزقي يأتيني منها

عبدي خلوا عنه يدخل الجنة. ويبقى اآلخر حتى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون

مازال ،طول الحساب :فيقول ؟ماحبسك ،فيقول له الفقير ،ثم يدخل الجنة ،بعيراا لكفاها

زوجل منه ه عثم اسأل عن شيء آخر حتى تغمدني الل ،الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي

لقد :فيقول ،أنا الفقير الذي كنت معك آنفاا :فيقول ؟فمن أنت ،برحمة وألحقني بالتائبين

(1)غيرك النعيم بعدي(

أن الحساب قد ييسر ويخفف على الشخص بناء على هكذا أخبر رسول الله و

د )حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوج: طبيعته السمحة ولينه، ففي الحديث قال

له من الخير شيء إال أنه كان يخالط الناس وكان موسراا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا

(2) عن المعسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه(

وقبل أن نذكر المجاالت التي يكون فيها الحساب ـ حسبما ورد في النصوص

المقدسة ـ نحب أن نذكر هنا مسألة مهمة تتعلق بنوع الحساب وكيفيته، ولها عالقة كذلك

[الحساب التكويني والتدوينيبالموازين ـ كما سنرى ـ وهي ما يطلق عليه ]

ب تذكر كال النوعين.. فقوله ذلك أن النصوص المقدسة عندما تتحدث عن الحسا

مس والقمر بحسبان ﴿ :تعالى ـ مثال ـ يشير إلى الحساب التكويني، [2]الرحمن: ﴾الش

خلقناه بقدر ﴿والذي يشمل كل شيء، كما قال تعالى: ا كل شيء ، [41]القمر: ﴾إن

إال عندنا خز ﴿وقال: له إال بقدر معلوم وإن من شيء ، وقال: [21]الحجر: ﴾ائنه وما ننز

.221/ 3بحار األنوار : (1)

(1231رواه مسلم ) (2)

323

ا على ذهاب به لقادرون ﴿ ماءا بقدر فأسكناه في األرض وإنماء ﴾وأنزلنا من الس

[14]المؤمنون:

كرمه العظيم، وجوده وغيرها من اآليات الكريمة التي تبين أن الله تعالى مع

الواسع إال أنه برحمته وعدالته وتربيته لعباده، يصب عليهم من فضله بحسب حاجتهم،

ل ﴿حتى ال يطغوا، كما قال تعالى: زق لعباده لبغوا في األرض ولكن ينز ه الر ولو بسط الل

ه بعباده خ [23]الشورى: ﴾بير بصير بقدر ما يشاء إن

وهذا يدعونا إلى التساؤل عن نوع الحساب في اآلخرة، وهل هو من هذا النوع،

أم أنه حساب تدويني، أي تدون فيه األعمال وغيرها، بعيدا عن البعد التكويني؟

كل ما يصدر من وقد أجاب على هذا التساؤل العالمة جعفر السبحاني بقوله: )

األعمال الحسنة والسيئة فهو ذو تأثير على مصير الفرد والمجتمع يسوقهما اإلنسان من

في بل تؤثر، أو إلى غير ذلك من اآلثار ،إلى السعادة والتكامل أو إلى الشقاء واالنحطاط

يها فما يزرعه ف ،الدنيا مزرعة اآلخرة :ولذلك قالوا ،الحياة األخروية ومصير اإلنسان فيها

وعلى ضوء ذلك فلو كان المراد من الحساب المحاسبة ، يحصده في الدار اآلخرة

نها تؤثر في مصير اإلنسان وحياته األخروية أفاألعمال كلها تحاسب بمعنى ،التكوينية

وألجل ذلك يفترق اإلنسان إلى أصحاب ، حسنها وسيئها وال يغادر فعل في ذلك المقام

حاب الشمال. ألجل جزاء أعماله وال يتطرق التخصيص إلى المحاسبة اليمين وأص

(1)(ن التكوين ال يقبل التخصيصإف ،الكونية

وبناء على هذا، فإن الحساب يشمل الجميع، ذلك أن كل عمل من األعمال له

تأثيره الخاص في اإلنسان، سيئا كان أو حسنا.

.4/224مفاهيم القرآن، (1)

324

أن يرفع الحساب، أو يخفف، أو لكن ـ لو اعتبرنا الحساب تدوينيا ـ فهنا يمكن

في تجمع الحسناتييسر، ذلك أنه يرجع للموازنات بين الحسنات والسيئات، ذلك أنه )

فيعطى ،قائمة والسيئات في قائمة أخرى ثم يوازن بينها فإن رجحت حسناته على سيئاته

(1) (وإن رجحت سيئاته على حسناته فيعطى كتابه بشماله ،كتابه بيمينه

االختالف في شمولية الحساب وعدمها راجع إلى الحساب على هذا؛ فإن ) وبناء

ألن مرجع الحساب ،وأما الحساب التكويني فشموليته أمر ال خالف فيه ،التدويني

دون ولذلك يعم الجميع من ،التكويني يعود إلى اآلثار الواقعية للعمل التي ال تنفك عنه

(2) (فرق بين صالح وصالح أو طالح وطالح

بناء على هذا، نحاول في هذا المطلب التعرف على أهم القضايا التي يحاسب

التي يمكن تصنيفها إلى صنفين: أعمال خاصة وعليها اإلنسان في ذلك الموقف،

وشخصية، وأخرى متعدية.

أ ـ الشؤون الشخصية:

وهي الشؤون الخاصة بذات اإلنسان، إما بينه وبين ربه، أو بينه وبين نفسه، وليس

لها آثار متعدية، وقد ورد في النصوص المقدسة الكثير من أنواع األسئلة التي يسأل عنها

اإلنسان في ذلك الموقف، والمرتبطة بهذا النوع، ولكن أهمها واألساس الذي تقوم عليه،

والهداة الذين كلفوا بهداية البشر. هو الموقف من الرسل

ويوم يناديهم فيقول ماذا﴿ذلك أن الهداية مرتبطة بالموقف منهم، كما قال تعالى:

﴿، ثم ذكر تميز المواقف بعد ذلك السؤال، فقال: [32]القصص: ﴾أجبتم المرسلين

ا 33فهم ال يتساءلون )فعميت عليهم األنباء يومئذ ا من تاب وآمن وعمل صالحا ( فأم

.4/221المرجع السابق، (1)

.4/230المرجع السابق، (2)

322

[33، 33]القصص: ﴾فعسى أن يكون من المفلحين

وأنتم تســـألون عني، فما أنتم )الوداع: تـه في حجةفي خطب النبي ولهـذا قـال

عها بإصبعه السبابة، يرفــــ قالوا: نشـهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال (،قائلون؟

.(1)ثالث مرات (اللهم، اشهد، اللهم، اشهد) ـ: إلى السماء وينكتها إلى الناس

وبذلك فإن كل األسئلة التالية ستكون بحسب الموقف من الرسل والهداة، وهل

تزموا بعهودهم معهم، فحافظوا على اتبعوهم، أو حاربوهم، وفي حال اتباعهم لهم هل ال

دينهم من التحريف، أم خالفوا، فأنشأوا ألنفسهم دينا جديدا؟

وأوفوا بالعهد إن ﴿ولهذا كان من أهم األسئلة السؤال عن العهد، كما قال تعالى:

[34]اإلسراء: ﴾العهد كان مسئوالا

ا ا الله تعالى على أتباع الرسل بأال ينحرفووالمراد بالعهد تلك المواثيق التي أخذه

فخلف من بعدهم ﴿عنهم، كما قال تعالى عن بني إسرائيل، والميثاق الذي أخذه عليهم:

خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا األدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله

ه إال الحق ودرسوا ما ف ه ييأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن ال يقولوا على الل

ذين يتقون أفال تعقلون ار اآلخرة خير لل [131]األعراف: ﴾والد

كون ﴿صيل، فقال: وذكر ما يقابلهم من المتمسكين بالدين األ ذين يمس وال

ا ال نضيع أجر المصلحين الة إن [130]األعراف: ﴾بالكتاب وأقاموا الص

وهذا سار في جميع األمم، ولذلك كانت أول األسئلة هي األسئلة المتعلقة

لوصايا اء بها، وتنفيذ ابالحفاظ على أصالة الدين وعدم تحريفه، وتحريف القيم التي ج

التي أوصى بها األنبياء ـ عليهم السالم ـ والتي تتعلق بذلك.

(1214ح) 2/443صحيح مسلم (1)

323

وبما أن أهم النواحي في الدين هي العقائد، فقد ذكر القرآن الكريم سؤال المفترين

ـ مخبرا عن بعض افتراءاتهم في ذلك وسؤالهم عنها ـ: علون ﴿ ويج على الله بشأنها، فقال

ا كنتم تفترون ﴾ ]النحل: لما ال ه لتسألن عم ا رزقناهم تالل وقال: [،23يعلمون نصيباا مم

ا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم حمن إناثا ذين هم عباد الر ﴿ وجعلوا المالئكة ال

[.11ف: ويسألون ﴾ ]الزخر

باإلضافة إلى ذلك، فقد ذكر القرآن الكريم سؤال اإلنسان على كل ما آتاه الله من

وال تقف ما ليس لك به علم إن ﴿طاقات، وأين وجهها، وما عمل فيها، كما قال تعالى:

مع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوالا [33]اإلسراء: ﴾الس

عن أن األسئلة في ذلك الموقف تتناول كل شيء، بناء على ما أتيح وأخبر

: )ال تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى لإلنسان من ظروف االختبار، فقال

يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أباله، وماله من أين اكتسبه وفيم

(1)ل فيما علم(أنفقه، وماذا عم

وهكذا ورد النص على كون الصالة من األشياء المهمة التي يحاسب عليها

)إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله :اإلنسان في ذلك الموقف، فقد قال

صالته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من

من نتقصاما انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بهفريضته شيء قال الرب عز وجل:

(2) الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك(

: )إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم وفي حديث آخر قال

(2413رواه الترمذي ) (1)

( 422/ 2(، وأحمد )1422(، وابن ماجه )232/ 1(، والنسائي )413(، والترمذي )434رواه أبو داود ) (2)

(1410.)

323

فإن ؟نقصها أم أتمها عبدي، صالة في انظروا: لمالئكته وجل عزالصالة، قال: يقول ربنا

مة، وإن كان انتقص منها شيئاا، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع، تا له كتبت تامة كانت

(1)فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ األعمال بعد ذلك(

ونحب أن نبين هنا أن السؤال عن الصالة ليس ـ كما يذكر المتطرفون والطائفيون

األديان تختلف في ذلك، والمدارس اإلسالمية ـ من ارتباطه بشكلها وهيئتها، ذلك أن

تختلف أيضا، وكل يمارس الصالة بحسب ما وصله من العلم، ولذلك فإن السؤال عنها

يكون بحسب ما ورد الحديث عنها في القرآن الكريم من المداومة عليها، والحرص على

الخشوع فيها، وإقامتها لذكر الله، ونحو ذلك.

ؤول عن االهتمام بأدائها وفق الشريعة، ولكن بحسب ما وطبعا هذا ال يعفي المس

وصله اجتهاده، ال بحسب حقيقة الحال، إال إذا أدخل الهوى في اجتهاده؛ فحينها

يحاسب على ذلك الهوى الذي أدخله.

وال تقتصر األسئلة في ذلك الموقف على ما يرتبط باألعمال الظاهرة، وإنما تشمل

: )يؤتى يوم رسول الله خالص، ففي الحديث قال األعمال القلبية، وخصوصا اإل

القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله تبارك وتعالى، فيقول تبارك وتعالى، ألقوا

هذه واقبلوا هذه، فتقول المالئكة، وعزتك ما رأينا إال خيراا، فيقول الله عز وجل إن هذا

: ةكان لغير وجهي، وإني ال أقبل اليوم إال ما ابتغي به وجهي( وفي رواية: )فتقول المالئك

الله رسول، وقال (2) وعزتك ما كتبنا إال ما عمل، قال: صدقتم إن عمله كان لغير وجهي(

يه ف أشرك عمالا عمل من الشرك، عن الشركاء أغنى وتعالى: أنا تبارك الله قال: )قال

(.434رواه أبو داود ) (1)

(2303( )13/ 3رواه الطبراني في )المعجم األوسط( ) (2)

324

(1)معي غيري تركته وشركه(

وهكذا ورد النص على األسئلة الكثيرة المرتبطة بالذنوب، وقد ضرب رسول الله

من غزوة حنين، نزل قفراا من األرض ليس فيه شيء، لذلك مثال تقريبيا، فعند رجوعه

اما وبعد أن جمعوا رك، (من وجد عوداا فليأت به، ومن وجد حطباا أو شيئاا فليأت به)فقال:

هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم أترون): قال من الحطب،

(2) هذا، فليتق الله رجل، وال يذنب صغيرة وال كبيرة، فإنها محصاة عليه(

(3) : )طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراا كثيراا( قالولهذا

وهكذا ورد النص على األسئلة المرتبطة بنعم الله، وما عمل فيها اإلنسان، وهل

[4]التكاثر: ﴾ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ﴿شكرها أم ال، كما قال تعالى:

: )والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم في تفسيرها وقد قال

(4) ب وماء بارد(القيامة: ظل بارد ورطب طي

يامة من يوم القالعبد )إن أول ما يسأل عنه وذكر كيفية الحساب المرتبط بها، فقال:

(2) (؟ونرويك من الماء البارد ،النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك

وقد ورد ما يفسر النوع المسؤول عنه، وأنه ليس كل أنواع النعم، بل ما ارتبط

؟ سئل عن النعم، وهل يحاسب عليها، فقال أن رسول الله بالترف منها، ففي الحديث

قال: )نعم إال من ثالث: خرقة كف بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو حجر

(2142رواه مسلم ) (1)

(2442( )22/ 3رواه الطبراني ) (2)

(، 10241( )114/ 3(، والنسائى في )السنن الكبرى( )3204( )433/ 4البزار )(، و3013رواه ابن ماجه ) (3)

(،343( )440/ 1والبيهقي فى )شعب اإليمان( )

(2331رواه الترمذي ) (4)

(3324رواه الترمذي ) (2)

321

(1) يتدخل فيه من الحر والقر(

ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حاللها : » وعن اإلمام علي أنه قال

نكم مسؤولون إاتقوا الله في عباده وبالده، ف» ، وقال: (2)«حساب، وفي حرامها عقاب

حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله وال تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم

كل نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إال ما كان في سبيل الله » ، وقال: (3)«الشر فأعرضوا عنه

»(4)

ا يدل على إجابة العباد لألسئلة التي تطرح عليهم، أو وقد ورد في الروايات م

تهربهم منها، وأنواع االحتجاجات التي يحتج الله بها على خلقه، وخاصة أولئك الذين

ة البالغ ﴿سئل عن قوله تعالى: يبررون ذنوبهم، فعن اإلمام الصادق أنه ه الحج ﴾ة قل فلل

تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي! أكنت عالما؟ فإن فقال: إن الله، [141]األنعام:

قال: نعم قال له: أفال عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهال قال له: أفال تعلمت حتى

(2)(تعمل؟ فيخصم فتلك الحجة لله عزوجل على خلقه

رانه على جي إن الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله يوم القيامةوعنه قال: )

؟ فيكون في الليل فيقال لهم: ألم يكن فالن بينكم؟ ألم تسمعوا كالمه؟ ألم تسمعوا بكاءه

(3)(حجة الله عليهم

ة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول: يا أيؤتى بالمروعنه قال: )

(20244رواه أحمد ) (1)

.42نهج البالغة : الخطبة (2)

.133نهج البالغة : الخطبة (3)

231/ 3بحار األنوار: (4)

(244/ 3بحار األنوار ) (2)

(242/ 3بحار األنوار ) (3)

330

حسن أو فيقال: أنت أ عليها السالم،حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت، فيجاء بمريم رب

قد حسناها فلم تفتتن، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: يا ذه؟ه

يقال: ف عليه السالم،رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت، فيجاء بيوسف

ي ف أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن، ويجاء بصاحب البالء الذي قد أصابته الفتنة أنت

فيقال: المعليه السي البالء حتى افتتنت، فيجاء بأيوب بالئه فيقول: يا رب شددت عل

(1) (أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن أبليتك

هذا بعض ما ورد من النصوص المقدسة واألحاديث والروايات حول كيفية

الحساب، وأنواع المسائل التي يسأل عنها اإلنسان، وطبعا، فإن المراد من ذلك ليس

ر األمثلة والتوجيه من خاللها، حتى يحاسب اإلنسان نفسه في الدنيا، الحصر، وإنما ذك

قبل أن يحاسب هناك.. فأيسر الناس حسابا في اآلخرة من حاسب نفسه في الدنيا.

ونحب أن نبين هنا أن الله تعالى يتعامل مع عباده في هذه األسئلة وغيرها ـ بحسب

خلق الله، يستر الله عليهم، وإن كانوا من تعاملهم مع عباده ـ فإن كانوا من الذين يسترون

المسارعين إلى إشاعة الفواحش، فإنهم في ذلك الموقف يتعرضون لكل أنواع اإلحراج

تأديبا لهم على سلوكهم.

ذين آمنوا ﴿تعالى: وقد أشار إلى هذا قوله ذين يحبون أن تشيع الفاحشة في ال إن ال

ه يعلم وأنتم ال تعلمون لهم عذا نيا واآلخرة والل [11]النور: ﴾ب أليم في الد

يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل : )والذي فسرته أحاديث كثيرة منها قوله

ه لاإليمان قلبه ال تغتابوا المسلمين، وال تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم، يتبع ال

(2) (عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته

(242/ 3بحار األنوار ) (1)

(4440رواه أبو داود ) (2)

331

ن أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله عز : )موقال

(1) وجل على رؤوس الخالئق يوم القيامة(

ومن كسي ثوبا من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم،)قال: و

يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله برجل مسلم فإن الله

(2)يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة(

المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان وقال: )

الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن

(3) ر مسلما ستره الله يوم القيامة(ست

وهذه األحاديث كلها تدل على أن الله تعالى يتعامل مع عباده بحسب القوانين

التي ارتضوها ألنفسهم، تأديبا لهم، حتى يعرفوا مدى الجرائم التي وقعوا فيها.

ب ـ الشؤون المتعدية:

كانوا بشرا أو غيرهم،الشؤون الخاصة بعالقة اإلنسان بغيره من الخلق سواء وهي

ذلك سأل عنها اإلنسان فيرد في النصوص المقدسة الكثير من أنواع األسئلة التي ي وقد و

والمرتبطة بهذا النوع، وهي جميعا تتفق على خطورتها، وأنه ال يمكن أن يعفى الموقف،

هم عنعنها، ما لم يتجاوز أصحابها، أو يعطوا بدلها ما يكافئها من الحسنات، أو يتحمل

صاحبها ما يكافئها من السيئات.

بعوا سبيلنا ولنحمل ﴿وقد أشار إليها قوله تعالى: ذين آمنوا ات ذين كفروا لل وقال ال

هم لكاذبون ) إنثقالهم ( وليحملن أ 12خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء

(443/ 3رواه أحمد ) (1)

(221/ 4( وأحمد )4441رواه أبو داود ) (2)

(2240( واللفظ له، مسلم )2442) 2الفتح -البخاري (3)

332

ا كانوا يفترون [13، 12]العنكبوت: ﴾وأثقاالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عم

فهاتان اآليتان الكريمتان تشيران إلى أن اإلنسان يتحمل أوزاره وأوزار من أضلهم

من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا.

بل ورد في الحديث ما يدل على أن األمر أكبر من أن يختصر في التضليل، بل

)إن الله ليسأل العبد يوم : مجرد السكوت عن المنكر يحاسب عليه اإلنسان، قال

ته قال: يا ا حج ن الله عبدا القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لق

(1)رقت من الناس(رب، رجوتك وف

)الدواوين عند الله عز عن خطورة هذا النوع من الحساب، فقال: وقد أخبر

،وجل ثالثة: ديوان ال يعبأ الله به شيئاا، وديوان ال يترك الله منه شيئاا، وديوان ال يغفره الله

ه فقد من يشرك بالإنه ﴿فأما الديوان الذي ال يغفره الله: فالشرك بالله، قال الله عز وجل: ل

ه عليه الجنة م الل وأما الديوان الذي ال يعبأ الله به شيئاا، فظلم العبد ،[32]المائدة: ﴾حر

نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صالة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك

ك الله منه شيئاا: فظلم العباد بعضهم بعضاا، وأما الديوان الذي ال يتر، ويتجاوز إن شاء

(2) القصاص ال محالة(

أيها الناس إن الذنوب ثالثة: فذنب وعن اإلمام علي أنه قال في بعض خطبه: )

له فعبد عاقبه ال أما الذنب المغفور.. نرجو ونخاف عليه مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب

م أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذي اليغفر فالله أحكم وأكر ؛تعالى على ذنبه في الدنيا

فظلم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى أقسم قسما على نفسه فقال: وعزتي

بكف، ولو مسحة بكف، ونطحة ما بين الشاة وجاللي ال يجوزني ظلم ظالم ولو كف

(.11232) 3/23( وأحمد 331الحميدي ) (1)

(. وقال: هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه.311/ 4(، والحاكم )23033( )240/ 3رواه أحمد ) (2)

333

حد عند الللعباد بعضهم من بعض حتى ال يبقى فيقتص الله ؛القرناء إلى الشاة الجماء

الحساب، وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على عبده أحد مظلمة، ثم يبعثهم الله إلى

،خاشعا من ذنبه راجيا لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ورزقه التوبة فأصبح

(1)(العقاب ونخاف عليه

من )كيفية الخالص من الحساب المرتبط بهذا النوع من الذنوب، فقال: وبين

كانت عنده مظلمة ألخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار وال درهم من قبل أن يؤخذ

(2)ألخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه(

الذنوب مفلسا، وإن جاء بجبال من الواقع في أمثال هذه وقد اعتبر رسول الله

)أتدرون من المفلس؟( : الحسنات، ألنها سرعان ما توزع على الذين ظلمهم، قال

قالوا: المفلس فينا من ال درهم له وال متاع، فقال: )إن المفلس من أمتي من يأتي يوم

سفك دم القيامة بصالة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، و

هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن

(3)يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار(

إن الشيطان قد يئس أن تعبد األصنام بأرض : )وفي حديث آخر قال رسول الله

حقرات وهي الموبقات، فاتقوا الظلم العرب ولكن سيرضى منكم بما هو دون ذلك بالم

ء يوم القيامة بأمثال الجبال من الطاعات فيرى أنها ستنجينه، ما استطعتم فإن العبد ليجي

ء فيقول: يا رب إن فالنا ظلمني بمظلمة فيقال: امح من حسناته، فما فما يزال عبد يجي

ك مثل سفر نزلوا بفالة من ء، وإن مثل ذليزال كذلك حتى ما يبقى له من حسناته شي

.21/ 3بحار األنوار: : (1)

(3234رواه البخاري ) (2)

(.2420(، والترمذي رقم )2241رواه مسلم رقم ) (3)

334

األرض ليس معهم حطب فتفرق القوم فاحتطبوا فلم يلبثوا أن أوقدوا نارهم وصنعوا ما

(1)(أرادوا وكذلك الذنوب

عن المحل الذي يتم فيه هذا النوع من الحساب، والذي تجري فيه وأخبر

ى قنطرة حبسون عل)يخلص المؤمنون من النار، فيالخصومات الكثيرة بين الخلق، فقال:

بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا

ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده ألحدهم أهدى بمنزله في الجنة

(2) منه بمنزله كان في الدنيا(

)أول ما ال: عن أخطر ما يحاسب عليه العبد في ذلك الموقف، فق وأخبر

(3) يقضى بين الناس بالدماء(

ونحب أن ننقل هنا تصويرا بليغا ألبي حامد الغزالي يصور فيه خطورة الحساب

اعلم أنه ال ينجو عن خطر الميزان المرتبط بهذا النوع، فقد قال في ]إحياء علوم الدين[: )

ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله ،والحساب إال من حاسب في الدنيا نفسه

(،وزنوها قبل أن توزنوا ،حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)وخطراته ولحظاته كما ورد

ا فرط موإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا، ويتدارك

له بلسانه كل من تعرض ويستحل ،يرد المظالم حبة بعد حبةو ،من تقصيره في فرائض الله

فهذا ،ويده وسوء ظنه بقلبه ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة وال فريضة

فهذا يأخذ ؛وإن مات قبل رد المظالم أحاطت به خصماؤه ،يدخل الجنة بغير حساب

([: رواه أحمد بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى 2310/ 3قال العراقي في ]تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ) (1)

والخرائطي في مساوئ األخالق والطبراني في الكبير والحاكم والضياء.

(3232رواه البخاري ) (2)

(1334(، ومسلم )3233رواه البخاري ) (3)

332

هذا يقول و ،بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بتلبيبه، هذا يقول ظلمتني

ني، وهذا ؤتني، وهذا يقول: قد استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوشتم

عتني باي يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول عاملتني فغششتني، وهذا يقول:

فغبنتني وأخفيت عني عيب سلعتك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول

، وهذا يقول: وجدتني مظلوما وكنت قادرا على رأيتني محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتني

دفع الظلم عني فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينا أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك

مخالبهم فأحكموا في تالبيبك أيديهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في

عليك مظلمة بغيبة عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إال وقد استحق

ومددت عنق الرجاء إلى ،وقد ضعفت عن مقاومتهم ،أو خيانة أو نظر بعين استحقار

اليوم تجزى كل ﴿سيدك وموالك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار

ه سريع الحساب فعند ذلك ينخلع ؛[13فر: ]غا ﴾نفس بما كسبت ال ظلم اليوم إن الل

ه وتتذكر ما أنذرك الله تعالى به على لسان رسول ،قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار

رهم ليوم تشخص فيه ﴿حيث قال: ما يؤخ ا يعمل الظالمون إن ه غافالا عم وال تحسبن الل

ـ 42]إبراهيم: ﴾قنعي رءوسهم ال يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء مهطعين م األبصار

فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم، وما أشد ،[43

حسرتك في ذلك إذا وقف بك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس

تقدر على أن ترد حقا أو تظاهر عذرا فعند ذلك يؤخذ حسناتك التي فقير عاجز مهين ال

(1)(تعبت فيها عمرك وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم

م فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوثم ذكر حديث المفلس، وعلق عليه بقوله: )

(221/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

333

فإن سلمت حسنة واحدة في ؛إذ ليس تسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان

كل مدة طويلة ابتدرك خصماؤك وأخذوها ولو أنك حاسبت نفسك وأنت مواظب على

وقيام الليل لعلمت أنه ال ينقضي عنك يوم إال ويجري على لسانك من غيبة صيام النهار

فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات ؛المسلمين ما يستوفى جميع حسناتك

تقصير في الطاعات فكيف ترجو الخالص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من وال

ك صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعب فكيف أنت يا مسكين في قوم ترى. .القرناء

فتقول: أين حسناتي؟ فيقال لك قد نقلت إلى صحيفة خصمائك وترى صحيفتك

ل: يا د بسبب الكف عنها عناؤك فتقومشحونة بسيئات طال في الصبر عنها نصبك واشت

رب هذه سيئات ما قارفتها قط فيقال هذه سيئات القوم الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم

بالسوء وظلمتهم في المبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة

(1) (وسائر أصناف المعاملة

ـ الموازين ومعاييرها: 4ت العدالة اإللهية في أرض المحشر تلك الموازين الكثيرة التي توزن بها من تجليا

مر بها اإلنسان، سواء فيياألعمال وأصحابها، بعد تلك المراحل الكثيرة الطويلة التي

حياته الدنيا، أو في حياة البرزخ، أو بعد تلك المواقف الطويلة في أرض المحشر.

والغرض من تلك الموازين ـ كما تدل على ذلك النصوص المقدسة ـ هو نفس

غرض تلك الدرجات التي تعطى للطلبة في الدنيا بعد مرورهم باالمتحانات المختلفة،

والتي من خاللها يحدد مصيرهم، إما النجاح، واالنتقال إلى الوظيفة المناسبة لذلك

كوين.النجاح، أو الرسوب، والعودة من جديد للت

وبذلك فإن التمييز ليس مرتبطا بالنجاح والرسوب فقط، بل بدرجة النجاح،

(222/ 4المرجع السابق، ) (1)

333

ودرجة الرسوب أيضا.. ذلك أنه على ضوئها تكون حياة الناجح أو الراسب في الدنيا.

ـ عبر النماذج الموضوعة في وهكذا األمر في موازين اآلخرة، فهي التي تحدد

حدد الدرجة التي يستحقها من يار.. وهي أيضا أهل الجنة، كما تحدد أهل الن الميزان ـ

من نجح في الدخول إلى الجنة، كما تحدد المحل الذي يدخل إليه من رسب في

االمتحان، واحتاج إلى المزيد من التربية، والتي جعلها الله تعالى في جهنم، والتي تحوي

نرى عند كما س ،هاالوسائل المختلفة للتطهير، وتتجلى فيها العدالة اإللهية بأكمل صور

الحديث عن الجزاء اإللهي.

وربما يكون هذا المثال الذي ذكرناه قاصرا، ولذلك فإن المثال األقرب واأليسر

على الفهم هو تلك التحليالت التي يقوم بها الطبيب الكتشاف العناصر المختلفة في

ية الطبيع الجسم، وزيادتها ونقصها.. ومن خالل عرض النتائج على الموازين الصحية

يكتشف العلة، ويضع العالج من خاللها.

وقد يكون في ذلك العالج حمية، تستدعي من المريض التوقف عن كثير من

اللذائذ التي كان يتناولها، أو تتطلب استعمال دواء مر، أو مرهق، لمدة طويلة أو قصيرة،

حتى يستعيد العافية.

والتي ال تزن تلك المقادير وهكذا األمر، أو قريب منه في موازين اآلخرة،

المرتبطة بالجسم، وإنما تزن تلك المقادير التي اكتسبها اإلنسان في نفسه، من أخالق

وطباع، لترى انسجامها مع حقيقة اإلنسان، فإن كانت منسجمة مع الفطرة السليمة، نجا

.هصاحبها، وإن لم تكن منسجمة احتاج إلى أن يوضع في المحل الذي يتناسب مع طبيعت

أما من يجادل في هذا النوع من الميزان، ويستصعب حصوله، أو يحيله، فيمكنه

صين عن جميع غدد جسمه، وإفرازاتها الموزونة بدقة، لتحفظ عليه أن يسأل المخت

صحته.. أو يرجع إلى الموازين الدقيقة الموجودة في الغالف الغازي، أو في الكون

334

ماء رفعها ﴿، ذلك أن مبدع كل الموازين واحد، وهو الله تعالى القائل: جميعا والس

[3]الرحمن: ﴾ووضع الميزان

وإن ذكر أن هذا ممكن في الماديات، ال في المعنويات، فليسأل عن ذلك الجهاز

، وهو اختراع بسيط من عقول قاصرة، ومع ذلك (1)الذي يسمى جهاز كشف الكذب

يؤدي الكثير من النتائج الملموسة؛ فهل يستحيل على الله أن يخلق جهازا يكشف به كل

السيئات الموجودة في اإلنسان، ومقدارها فيه على حسب الموازين الموجودة في الفطرة

األصلية.

المصادر وهذا الذي ذكرناه ليس مجرد تشبيه، وإنما هو الحقيقة ـ كما تصورها

والتي ،وازين اآلخرة بهذا االعتبار، ال بتلك االعتبارات البسيطةالمقدسة ـ فهي تعرض م

يغذيها الخيال أكثر مما يغذيها القرآن الكريم.

فقد ورد الحديث عن الموازين في القرآن الكريم في مواضع مختلفة، وبين

أهميتها، وكونها محل التمييز، ولكنه لم يفصل في كيفيتها، وال حقيقتها.. وهذا ما جعل

خيال يتدخل، ويستعمل أحيانا بعض األحاديث المدسوسة، أو تلك التي رويت ال

بالمعنى، ليجعل موازين اآلخرة شبيهة بموازين البقالين في الدنيا، وهو ما جعلها موضع

تهكم من أطراف كثيرة.

ولذلك نحاول في هذا المبحث بيان حقيقة هذه الموازين ـ كما تدل النصوص

م، وهو أداة تسجل الظواهر 1121جهاز كشف الكذب: هو جهاز قام جون أوجست الرسون باختراعه عام (1)

الفيسولوجية التي يكشف عنها جسم المتهم الخاضع لالستجواب. كالتنفس وضغط الدم وسرعة النبض. يستعان بها لتقرير

واستخدمه المحققون ورجال الشرطة 1124ام ما إذا كان المستجوب)المتهم( كاذبا في ما يقول أم صادقا. استحدث ع

والقضاة منذ ذلك الحين، ولكن مصداقيته ال تزال إلى اليوم موضع خالف عند علماء النفس ومحل اعتراض عند الفقهاء

والقضاة.

331

ـ وك ما فهمها العلماء المحققون، ال الذين يهتمون باأللفاظ، ويتصورون المقدسة القطعية

أن لها الطاقة بتصوير المعاني بدقة، حتى تلك المعاني التي ال نجد لها نظائر في هذه

النشأة.

وقبل أن نذكر ذلك ننبه إال أننا ال نقول هذا من باب استغراب أن يكون هناك ميزان

القدرة على ما وصفه القرآن الكريم من الوزن، بمختلف له كفتان في اآلخرة، وتكون له

أشكاله، ذلك أن قدرة الله تعالى لن تعجز عن خلق مثل هذا الميزان، ولكن نقوله من

الباب الذي تعرضه النصوص المقدسة نفسها، والتي لم تضع هذه الصورة للميزان، وإنما

يكون المقصود منها اكتسبت تلك الصورة من بعض األحاديث، والتي ـ إن صحت ـ

تقريب الصورة، أو يكون الراوي قد رواها بالمعنى.

وم ونضع الموازين القسط لي ﴿:فمن اآليات الكريمة التي ذكرت الميزان قوله تعالى

﴾ بها وكفى بنا حاسبين القيامة فال تظلم نفس شيئاا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا

(43)االنبياء:

فهذه اآلية الكريمة لم تصف الميزان إال بالدقة العالية، وكونه ال يبخس أحدا حقا

من حقوقه، كما أنها ذكرت أنه ال يوجد ميزان واحد، بل موازين متعددة، أي أن لكل شيء

ثلما . وغير ذلك، م.يمان ميزانهه.. ولإلميزانه الخاص به.. فللصبر ميزانه.. وللكرم ميزان

نجد في الدنيا الموازين المختلفة لكل المقادير المشكلة للبناء الكوني أو الجسدي أو

غيرهما.

وهكذا ورد في القرآن الكريم وصف الميزان بكونه يخضع لمعايير الحق، وأنه

حق فمن ثقلت موازينه والوزن يومئذ ال ﴿:على أساسها يكون التمييز، كما قال تعالى

(، وقال:﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم 4فأولئك هم المفلحون﴾ )ألعراف:

( 102المفلحون﴾ )المؤمنون:

330

ذين ت موازينه فأولئك ال وبخالفه من خفت موازينه، قال تعالى:﴿ ومن خف

ت موازينه 1وا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ )ألعراف:خسر (، وقال:﴿ ومن خف

ذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون﴾ )المؤمنون: ( 103فأولئك ال

وبذلك فإن الوصف الذي وصف الله تعالى به الميزان ال عالقة له بتلك

التصورات واألخيلة التي اعتبرها بعضهم أصال من أصول العقائد، فوضع في صفات

.(1)الميزان كونه ذا كفتين.. وكل كفة لها حجم معين

من األمثلة على هذه األقوال، والتي راحت تعتبر الكفتين وغيرهما شرطا في اإليمان بالميزان، ما أجابت به لجنة (1)

الفتوى في موقع إسالم ويب حول سؤال يقول: )هل ورد أثر أوحديث أن للميزان الذي توزن به األعمال يوم القيامة لسانا

وكفتين كأطباق السماء؟(

ت في السنة أن للميزان كفتين، أما اللسان أو وصف سعة الكفتين بأنهما يستوعبان السموات فأجابت بقولها: )ثب

واألرض فلم يأت فيه حديث مرفوع فيما نعلم ولكن وردت آثار(

ومن اآلثار التي ساقوها: ما روى الاللكائي في )شرح أصول اعتقاد أهل السنة( بإسناده عن سلمان قال: يوضع في

تان لو وضع في إحداهما السموات واألرض ومن فيهن لوسعه، وأسند عن الحسن قال: له لسان وكفتان، الميزان، وله كف

وعن ابن عباس قال: الميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات

ي ة فوروى الاللكائي أيضا في )اعتقاد أهل السنة( عن ابن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السن

أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع األمصار وما يعتقدان من ذلك فقاال: أدركنا العلماء في جميع األمصار حجازا

وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم: اإليمان قول وعمل يزيد وينقص .. والميزان حق له كفتان.

ة(: وأن الميزان حق له لسان وكفتان. وقال أبو القاسم األصبهاني في )الحجة في بيان المحج

وقال أبو الحسن األشعري في )مقاالت اإلسالميين(: واختلفوا في الميزان، فقال أهل الحق: له لسان وكفتان ..

وقال البربهاري في )شرح السنة(: واإليمان بالميزان يوم القيامة يوزن فيه الخير والشر له كفتان وله لسان.

)لمعة االعتقاد(: والميزان له كفتان ولسان. وقال ابن قدامة في

وقال ابن أبي العز الحنفي في )شرح الطحاوية(: ثبت أن الميزان له كفتان والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.

وعمود نوقال ابن جزي في )التسهيل لعلوم التنزيل(: مذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة، له كفتان ولسا

توزن فيه األعمال

وقال ابن حجر في )فتح الباري(: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على اإليمان بالميزان، وأن أعمال العباد

توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل باألعمال.

331

ذلك أن مصطلح الميزان في القرآن الكريم ال يراد منه ما نتخيله من الموازين

ذي أنزل الكتاب با ﴿البسيطة، وإنما يراد به ما هو أعمق بكثير، كما قال تعالى: ه ال لحق الل

، فقد اعتبر القرآن الكريم الميزان مقصدا من مقاصد التنزل [13]الشورى: ﴾والميزان

القرآني، ويعني بذلك أنه يضع المعايير والقيم التي تنظم حياة البشر.

ا لقد أرسلن ﴿وهكذا بين أن كل الرسل جاءوا بالكتاب والموازين، كما قال تعالى:

، [22د: ]الحدي ﴾رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط

لتي يقوم عليها السلوكويعني بذلك أنهم جاءوا بالتعريف بحقائق الوجود، والقيم ا

اإلنساني، لينضبط مع مقتضيات تلك الحقائق.

بل إن القرآن الكريم يذكر أن الميزان موجود وسار في كل شيء، كما قال تعالى:

ماء رفعها ووضع الميزان ) ﴿ ( وأقيموا الوزن بالقسط 4( أال تطغوا في الميزان )3والس

[1 - 3]الرحمن: ﴾وال تخسروا الميزان

وبذلك فإن الموازين بحسب اللغة القرآنية ال تفيد أصحاب تلك النظرة البسيطة

التي اختصرت في الموازين الحسية التي اخترعها اإلنسان البدائي، والتي تخلى عنها

لى تحتاج إالبشر بعد ذلك، حيث أصبحت الموازين ذات أشكال كثيرة مختلفة، وال

ي توزن به الحسنات والسيئات حق، قالوا: وله لسان وقال السفاريني في )لوامع األنوار البهية(: نؤمن بأن الميزان الذ

وكفتان.

وقال صديق حسن خان في )قطف الثمر(: والميزان له كفتان ولسان.

وقال ابن عيسى في )شرح النونية(: فتوزن األعمال بميزان له كفتان ولسان.

للميزان مأثور عن بعض الصحابة ثم علقوا على هذه المقوالت بقولهم: )فظهر بذلك أن ذكر اللسان مع الكفتين

والتابعين، ومشهور عند أهل العلم سلفا وخلفا، حتى قد نقل عليه اإلجماع أهل السنة. وأما وصف كفتي الميزان بأنهما

كأطباق السماء، فيشهد له ما سبق ذكره عن سلمان: له كفتان لو وضع في إحداهما السموات واألرض ومن فيهن لوسعه(

موقع إسالم ويب، بعنوان: الميزان الذي توزن به األعمال هل له لسان وكفتان[ ]انظر الفتوى في

332

الكفة الثانية، ألنها مزودة بمعايير الوزن الدقيقة.

بعض ومعهم أهل الحديث وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني ما ذهب إليه

ي وتوضع األعمال الصالحة ف ،أنه ينصب يوم القيامة ميزان كموازين الدنيامن المتكلمين

األولى أن يقال: إن هذا النوعبقوله: )ثم علق عليه أخرى، فيوزن، كفة والطالحة في كفة

تصوري ظهور من التفسير أخذ بحرفية النص دون التدبر في مغزاه، فان للكالم ظهورين:

والمراد من األول هو ما يفهمه اإلنسان عند سماع اللفظ دون .. ظهور تصديقي، وبدوي

قرائن اإلنسان بعد اإلحاطة بال والمراد من الثاني هو ما يذعن به، تدبر في القرائن الحافة به

الحافة بالكالم. فربما يكون المتبادر عندئذ من الكالم غير ما هو المتبادر من الظهور

(1) (االبتدائي

النصوص المقدسة، فقال: أمثال هذه منهج التعامل مع به ثم ضرب مثاال يقرب

هور غلق بابه، فالظاشتهرت الكناية عن السخاء والجود بقولهم فالن باسط اليد، وال ي)

البدوي منه عبارة عما يتبادر من ظاهر اللفظ وهو كون يده المحسوسة مبسوطة ال تجمع،

وان بابه ال يغلق، ولكنه ليس بمراد قطعاا، وإنما المراد هو الظهور التصديقي، وهو التأمل

ح بابه مفتوفي مفهوم هذه الجمل واالنتقال إلى ما صيغ ألجله الكالم، وهو أنه سخي، و

لكل من يحل ضيفاا عليه وآفة أهل الحديث انهم يفسرون اآليات الراجعة إلى المعارف

(2) (بحرفيتها وال يتأملون في القرآئن الحافة بالكالم حتى يقفوا على ما أريد من اآليات

وانطالقا من هذا المعنى راح ينكر أيضا على من ينكر الميزان، ويتصور أنه ليس

سبحانه يتعامل مع عباده بالعدل والقسط وأنه (3)العدل الثابت في كل شيء(سوى )

.4/222مفاهيم القرآن: (1)

.4/223المرجع السابق، (2)

.223/ 2نقله عن : شرح المقاصد: (3)

333

هذا هو المراد من نصب الموازين.أن ويقضي به، و

نه أتتعرض إلى نتيجة الميزان من دون أن تشير إلى واقعه، وذلك أن هذه الرؤية )

لقضاء والتعامل ابعدما تم التوزين يتعامل سبحانه في قضائه بالعدل والقسط، فالبد قبل

حال العباد من حيث الطاعة والعصيان، حتى تصل النوبة إلى قضائه سبحانه، من أداة تبين

(1)(فما هي تلك األداة التي تكون معياراا لكثرة الطاعات أو قلتها؟

وانطالقا من هذا راح يذكر الحقائق المرتبطة بالميزان من خالل ما ورد عنه في

األلفاظ الواردة في القرآن الكريم التي تصف مشاهد القيامة لها حقائق ) القرآن الكريم، فقال:

الذي نحتمل أن يكون له واقعية غير ما [الميزان]غيبية غير معلومة لنا، ومن هذه األلفاظ لفظ

الميزان . ذلك أن [.]الواقع الذي نشاهدهنشاهد من الموازين العرفية، ويتضح ذلك من خالل

طويلة على ما يوزن به المتاع بشيء له كفتان ولسان وساقان، وظل البشر يطلق قبل فترةكان

يستعمل الميزان في ذلك المصداق ولكن الثورة الصناعية التي اجتاحت الغرب كشفت عن

موازين لم تكن موجودة من ذي قبل، فأخذ يوزن استهالك الماء والكهرباء والغاز والهاتف

ه حرارة الهواء وضغط الجو والدم الذي يجري في عروق وغيرها، بل أحدث ميزاناا يوزن ب

ه، مبيوتر فأحدث تحوالا جذرياا في حياتاإلنسان وقلبه، كما أنه نجح نجاحاا باهراا في صناعة الك

حتى عرف هذا العصر بعصر الكمبيوتر، فأصبح كمعيار لتصحيح األغالط التي يقع اإلنسان

ميزاناا خاصاا يناسب وجود الشيء وليس الميزان كل ذلك يعرب عن أن لكل شيء . فيها.

منحصراا بماله كفتان ولسان وساقان، وعندئذ يصح أن نقول: إن الميزان المنصوب يوم القيامة

وخالصة القول فيه: إنه شيء يعلم به صالح األعمال شيء أعظم مما وصل إليه الفكر البشري.

صحيحة والباطلة، وإن لم يعلم لنا ما هي خصوصيات عن كثرتها، والعقائد ال عن طالحها، قلتها

(223/ 4مفاهيم القرآن السبحاني ) (1)

334

(1) (ذلك الميزان

وقد تعرض الشيخ السبحاني إلى المعيار الذي تتحاكم إليه تلك الموازين، وذلك عند

كلمة فيها اختلفت ، والتي[4]األعراف: ﴾والوزن يومئذ الحق ﴿تفسيره لقوله تعالى:

.األعمال ومحاسبتها أمر حق ال سترة فيه.وزن أن : أولها احتماالت:ثالثة إلى المفسرين

أن الوزن بمعنى الميزان أي ما يوزن به، ويكون المراد أن ما يوزن به هو الحق، : وثانيها

فالحق هو الذي يعرف به حقائق األعمال عند قياسها إليه. فكل عمل تمتع بقسط وافر من

في مقابل عمل ال يتمتع بقسط من الحق أو يتمتع بشيء قليل الحق ثقل الميزان عندئذ

ن الحق بمنزلة الثقل في الموازين العرفية، ويكون له تجسم : أوثالثها. فيخفف ميزانه.

واقعي يوم القيامة، فبمطابقته وعدمها يعرف صالح األعمال عن غيرها.

بذلك فإن المعيار حسب هذه االحتماالت يحتمل وجهين:و

فبمقدار ما يوصف به العمل من ؛يكون داخالا في جوهر األعمال: هو أن ألولا

يكون ثقله أو خفته. الحق

م يوم القيامة، وال يعلم صالح : هو أن الثاني الحق بالذات هو الموجود المجس

م فبمقدار ما يشبهه ويناسبه يكون األعمال عن ضدها، إال بعرضها على الحق المجس

لحق، دون مالم يكن كذلك فيوصف بالباطل.موصوفاا با

وربما يشير إلى هذا المقياس تلك الرواية التي ذكرناها سابقا، والتي يقول فيها

ة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول: يا أيؤتى بالمراإلمام الصادق: )

حسن أو فيقال: أنت أ عليها السالم،حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت، فيجاء بمريم رب

قد حسناها فلم تفتتن، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: يا هذه؟

( بتصرف.222/ 4المرجع السابق، ) (1)

332

يقال: ف عليه السالم،رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت، فيجاء بيوسف

ي ف أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن، ويجاء بصاحب البالء الذي قد أصابته الفتنة أنت

فيقال: المعليه السفيقول: يا رب شددت علي البالء حتى افتتنت، فيجاء بأيوب بالئه

(1) (أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن أبليتك

فقد اعتبر اإلمام الصادق هؤالء جميعا، مريم ويوسف وأيوب عليهم السالم

له تعرضمعايير وموازين للقيم المختلفة، لكونهم بشرا أوال، ولتعرضهم لنفس ما

المحاسبون من أنواع البالء.

،األنبياء واألوصياء()هم للموازين كونالصادق ولهذا كان من تفسيرات اإلمام

لكونهم النماذج الممثلة للقيم الرفيعة.

ولعل أعمال كل أمة تعرض على أنبيائهم وبناء على هذا قال السبحاني: )

(2) (كونه سعيداا أو شقياا فبالمطابقة مع أعمالهم ومخالفتها معهم يعلم

ما من شيء يوضع أنه قال: ) واستدل لهذا بما ورد في الحديث عن رسول الله

في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب

(3)(الصوم، والصالة

ن حسن الخلق من أبرز صفات األنبياء فمن تمتع بهأوبما ثم علق عليه بقوله: )

(4) (فهو أشبه باألنبياء من غيرهم فيكون عمله عمالا قيماا له أثره الخاص

واستدل له كذلك بما يذكر في بعض الزيارات الخاصة باإلمام علي، والتي يقول

(242/ 3بحار األنوار ) (1)

(223/ 4مفاهيم القرآن السبحاني ) (2)

(4311(، وأبو داود رقم )2004( و )2003الترمذي رقم ) (3)

(223/ 4مفاهيم القرآن السبحاني ) (4)

333

وكأن وعلق عليه بقوله: ) ،(1) السالم على يعسوب اإليمان وميزان األعمال(فيها الزائر: )

فمن شابهه فهو ممن ثقلت موازينه، ومن لم يشابهه فهو اإلمام أمير المؤمنين حق مجسم

وإن شئت قلت: إن اإلنسان المثالي أسوة في الدنيا واآلخرة يميز به . ممن خفت موازينه.

(2) (الحق عن الباطل، بل الطيب عن الخبيث، وهذا أمر جار في الدنيا واآلخرة

ض أنواع الموازين الواردة انطالقا من هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على بع

في النصوص المقدسة، والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين: موازين األعمال ودرجاتها،

وموازين االستقامة وآثارها.

وأساس هذا التقسيم قائم على اآلثار الناتجة عن األعمال، ذلك أن أحدها يمكن

جات خاصة بها، اعتباره أثرا اعتباريا، وهو تسجيل األعمال في الكتب، ووضع در

والثاني، يمكن اعتباره أثرا تكوينيا لكونه يدخل في طبيعة اإلنسان.

فللنميمة مثال، آثار عملية، ينال صاحبها الكثير من السيئات بسببها، ولذلك يمكن

اعتبار تلك السيئات أثرا اعتباريا.. ولكن األخطر منها هو وجود ملكة النميمة في القائم

يدفعه إلى العمل بها حالما تتاح له فرصة ذلك.. ولذلك احتاج بذلك السلوك، وهو ما

األمر إلى كال الميزانين، واللذين سنوضحهما من خالل العنوانين التاليين.

أ ـ موازين األعمال ودرجاتها:

وهي أول الموازين، والمقصودة باألصالة عند اإلطالق، ذلك أن النوع الثاني منها

الشرعي لقب ]السراط[، وإنما اعتبرناه من الموازين باعتباره يطلق عليه في االصطالح

يقوم بنفس دورها، أو يكمل دورها.

فدور الموازين هي حساب األعمال وقيمتها ودرجتها وآثارها ونحو ذلك.. وأما

.43المزار، ص (1)

(223/ 4مفاهيم القرآن السبحاني ) (2)

333

دور السراط، فهو حساب مدى تغلغل تلك الصفات التي نتجت عنها تلك األعمال في

فقة لفطرته أم ال.. وهل هي مواطبيعة اإلنسان،

فإن كانت موافقة، فإن صاحبها، سيدخل الجنة إن أهلته نتائج موازين أعماله

تقتضي أن يوجه صاحب تلك هلذلك، أما إن لم تكن موافقة فإن التربية اإللهية لعباد

الخصلة للبيئة المناسبة لتربيته وإصالحه إلى أن يتخلص منها، وبعدها يعود للسراط من

د صفات أخرى، وهكذا حتى يتطهر تماما، ويصبح صالحا لدخول الجنة، كما جديد لتفق

، أي بسبب كونكم [33]الزمر: ﴾طبتم فادخلوها خالدين ﴿يشير إلى ذلك قوله تعالى:

طيبين، وليس فيكم أي ذرة من الخبث، صرتم أهال لدخول الجنة.

ويشير إليه ـ وبلغة أدق وأكثر صراحة ـ قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السالم:

ه بقلب 44( يوم ال ينفع مال وال بنون )43وال تخزني يوم يبعثون )﴿ ( إال من أتى الل

اللة على هذا القانون ، فاآليات الكريمة واضحة في الد[41 - 43]الشعراء: ﴾سليم

اإللهي المرتبط بالقلوب، والذي ال يسمح ألحد بالدخول للجنة قبل حصوله على

التصفية التامة، فالجنة ال يسكنها الخبث، وال الخبثاء.

:)يخلص المؤمنون من النار ويشير إلى ذلك ما ورد في الحديث من قوله

نهم في لبعضهم من بعض مظالم كانت بيفيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص

(1) الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة(

:)ال يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى وفي بعض اآلثار

(2)ينزع منه مثل السبع الضاري(

عض احب بولهذا، فإنا نرى أن الشفاعة مرتبطة بالموازين، ال بالسراط، ذلك أن ص

(3232ح) 4/111صحيح البخاري (1)

( 431/ 4تفسير ابن كثير ) (2)

334

األعمال المنحرفة، والتي نتجت عنها بعض السيئات التي سجلت عليه، قد ال يكون لها

أثر في نفسه، أو أن أثرها زال بعد تلك المراحل التربوية الكثيرة التي مر بها، ولذلك يمكن

للشفاعة أن تتدخل ليعفى عنه، أما إن بقيت آثار تلك السيئات في نفسه، وتحولت إلى

قيقته؛ فإنه ال يمكن أن يدخل الجنة بتلك الصفات، ولهذا كان السراط ضروريا جزء من ح

ا مقضيا﴿للتطهير، ويشير إليه قوله تعالى: ﴾وإن منكم إال واردها كان على ربك حتما

[31]مريم:

دالة على أن كل الخلق يعرضون على النار، ولكن مكثهم فيها فهذه اآلية الكريمة

جابر ، ومنها ما روي عن بحسب أعمالهم، وهذا ما نصت عليه األحاديث واآلثاريكون

تا إن لم أكن سمعت رسول الله قالبن عبد الله يقول:)ال يبقى بر وال فاجر إال : صم

كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاا دخلها، فتكون على المؤمن برداا وسالماا كما

(1) من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياا(

ص، ذلك أن منهم من يمر اوهذا يدل على أن هذا الورود يختلف باختالف األشخ

عليها في لحظات قصيرة ال تكاد تذكر، ومنهم من يطول مكثه فيها بحسب عمله، وهكذا

ع العقاب فيها، فمنهم من يراها بردا وسالما، ومنهم من ال يراها كذلك.يكون نو

من هذا الورود، والذي يدل على استحالة كمال الصالحين اشتد خوف ولهذا

قيس ابن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعاا رأسه في حجر فعن االستقامة،

امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت

(2) ، فال أدري أنجو منها أم ال؟ وكان مريضاا(﴾وإن منكم إال واردها ﴿تعالى:قول الله

كان إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، ويروى عن بعضهم أنه

( : رجاله ثقات.2/303( وقال المنذري في الترغيب )3/324رواه أحمد ) (1)

(2/11رواه عبد الرزاق في تفسيره ) (2)

331

.(1)فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها

قال رجل ألخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: :قالوروي عن آخر أنه

نها؟ قال: ال، قال: ففيم الضحك، قال: فما رئي ضاحكاا حتى لحق فهل أتاك أنك صادر ع

.(2)هبالل

بناء على هذا كان أمر الموازين المرتبطة باألعمال واألجور أيسر من السراط،

ذلك أن الله تعالى برحمته وضع الكثير من الفضل والرحمة في تلك الموازين، ما لم

تتعلق بحقوق الغير.

)إن الله يستخلص رجال : ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الحديث من قوله

من أمتي على رؤوس الخالئق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجالا، كل سجل

مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: ال يا رب،

ب فيقول: بل إن لك عندنا حسنة فإنه ال ظلم عليك فيقول: أفلك عذر؟ فقال: ال يا ر

اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن ال إله إال الله وأن محمداا عبده ورسوله، فيقول:

أحضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجالت؟ فيقال: إنك ال تظلم..

بطاقة، الت، وثقلت القال: فتوضع السجالت في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السج

(3) فال يثقل مع اسم الله شيء(

الموازين، سعة فضل الله في هذه عن ففي هذا الحديث إخبار من رسول الله

وأن الحسنات التي اكتسبها اإلنسان في الدنيا، يمكنها أن ترفع الكثير من السيئات ما لم

ك لل ﴿تكن متعدية، أو لها جذور في النفس.. كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ذين ثم إن رب

(13/42تفسير الطبري ) (1)

(222/ 2تفسير ابن كثير ) (2)

(2331( والترمذي )3311رواه احمد ) (3)

340

وء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إ ك من بعدها لغفور رحيم عملوا الس ﴾ن رب

وء بجهالة ثم يتوبون من ﴿، وقوله: [111]النحل: ذين يعملون الس ه لل ما التوبة على الل إن

ا ) ا حكيما ه عليما ه عليهم وكان الل وليست التوبة للذين ( 13قريب فأولئك يتوب الل

ذين يموتون وه يئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت اآلن وال ال م يعملون الس

ا ا أليما ار أولئك أعتدنا لهم عذابا [14، 13]النساء: ﴾كف

تبين أن السيئات التي عملها اإلنسان بجهالة، ومن غير أن فهذه اآليات الكريمة

يكون لها آثار كبيرة في نفسه، يمكنها أن ترفع عنه إما بالتوبة في الدنيا، أو بما يرفعها من

ا ﴿الحسنات التي تزيل آثارها السيئة، كما قال تعالى: الة طرفي النهار وزلفا من وأقم الص

يل اكرين الل يئات ذلك ذكرى للذ [114]هود: ﴾إن الحسنات يذهبن الس

أما وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى عند حديثه عن كيفية التوبة، فقال: )و

فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه، وبصره ولسانه، وبطنه، ويده، ،المعاصي

ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته، ويفصل عند نفسه ورجله، وفرجه، وسائر جوارحه

ديوان معاصيه، حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها، ثم ينظر فيها. فما كان من

ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث ال يتعلق بمظلمة العباد، كنظر إلى غير محرم، وقعود

ة، وشرب خمر وسماع في مسجد مع الجنابة، ومس مصحف بغير وضوء، واعتقاد بدع

ماله، وغير ذلك مما ال يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن

يحسب مقدارها من حيث الكبر ومن حيث المدة، ويطلب لكل معصية منها حسنة

اتق الله حيث كنت ) تناسبها. فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات، أخذا من قوله

يئات ذلك ﴿ :بل من قوله تعالى (،لسيئة الحسنة تمحهاوأتبع ا إن الحسنات يذهبن الس

اكرين ،فيكفر سماع المالهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر، [114]هود: ﴾ذكرى للذ

مس ويكفر ،ويكفر القعود في المسجد جنبا باالعتكاف فيه مع االشتغال بالعبادة

341

محدثا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه، وكثرة تقبيله، وبأن يكتب المصحف

ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حالل، وهو أطيب منه ،مصحفا ويجعله وقفا

إن ف ؛وأحب إليه وعد جميع المعاصي غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة

ع بمعصية، فال يمحوها إال نور يرتفالمرض يعالج بضده. فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب

والمتضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة ،إليها بحسنة تضادها

زال بالسواد ال بالحرارة والبرودة. وهذا يبحسنة من جنسها لكن تضادها فإن البياض

ر من أن ثالتدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو، فالرجاء فيه أصدق، والثقة به أك

يواظب على نوع واحد من العبادات، وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو فهذا حكم ما

(1)(بينه وبين الله تعالى

وبهذا تنتفي تلك المفاهيم اإلرجائية المناقضة للقيم القرآنية، والتي تتصور أن

الرحمة اإللهية يوم القيامة ستزيح كل قيم العدالة.. وهذا غير صحيح، بل القرآن الكريم

يرفضه، فعدالة الله لها مجالها، ورحمته لها مجالها، وهما ال يتعارضان أبدا.

كل تلك األحاديث التي تذكر األجور العظيمة لما نراه وبناء على هذا يمكننا فهم

من األعمال الصغيرة، ذلك أن لتلك األعمال آثارها الكبيرة في النفس وتطهيرها، ولها ـ

ربما ـ آثارها في المجتمع، بتحويله إلى مجتمع رباني مؤمن، ولذلك يكون لتلك

الكلمات أوزانا وقيما ال نستطيع تقديرها.

)إن الرجل ليتكلم بالكلمة من : حديث ما يشير إلى هذا كقوله وقد ورد في ال

رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن

الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها، سخطه

(32/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

342

(1)إلى يوم يلقاه(

في فضل ومن األحاديث التي رويت فيما يوزن في هذا الميزان ويثقله قوله

)تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصالة فيوفون أجورهم بالموازين، الصبر:

ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم

أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البالء فال ينصب بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون

(2)لهم ميزان وال ينتشر لهم ديوان ويصب عليهم األجر صباا بغير حساب(

ن الذي ثبتوا في وجه البالء وكل ما يصرفهم عن الله ـ يالصابرهذا الحديث يبشر ف

ال حسابه، و والذين جعلهم الله حجة على غيرهم ـ ينالون من األجور ما ال يمكن تصوره

نيا حسنة كما ذين أحسنوا في هذه الد كم لل قوا رب ذين آمنوا ات قال تعالى:﴿ قل يا عباد ال

ابرون أجرهم بغير حساب﴾ )الزمر: ما يوفى الص ه واسعة إن ( 10وأرض الل

وهكذا روي أنه يمكن للمؤمن عبر كلمات قليلة يقولها أن ينال األجور العظيمة،

: ألن لتلك الكلمات تأثيرها في نفسه وفي حياته جميعا، ومن األمثلة على ذلك قوله

)كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله

(3) وبحمده سبحان الله العظيم(

لقد قلت بعدك أربع كلمات ثالث مرات لو وزنت قال لجويرية: ) وروي أنه

سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه :بما قلت منذ اليوم لوزنتهن

(4)ومداد كلماته(

(2312(، والترمذي رقم )2144، ومسلم رقم ) 233/ 11رواه البخاري (1)

(334/ 1الترغيب والترهيب لقوام السنة ) (2)

(2314( ومسلم )3403رواه البخاري) (3)

(2323رواه مسلم ) (4)

343

خصلتان أو خلتان ال يحافظ عليهما عبد مسلم، إال دخل الجنة، ): ومنها قوله

بهما قليل، يسبح في دبركل صالة عشرا، ويحمد عشرا، هما يسير، ومن يعمل

ويكبرعشرا، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، يكبر أربعا

وثالثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثالثا وثالثين، ويسبح ثالثا وثالثين، فتلك مائة

ل؟ ر، ومن يعمل بهما قليكيف هما يسي، قالوا: يا رسول الله (،باللسان، وألف في الميزان

قال: )يأتي أحدكم الشيطان في منامه، فينومه قبل أن يقوله، ويأتيه في صالته فيذكره حاجه

(1)قبل أن يقولها(

بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: ال إله إال الله، وسبحان ): ومنها قوله

(2) حتسبه(الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح للمرء المسلم في

: )من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطت عنه خطاياه ومنها قوله

(3)وإن كانت مثل زبد البحر(

: )من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مئة مرة ومنها قوله

(4) عليه(لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إال رجل قال مثل ما قال، أو زاد

ا ومنها قوله ا وثالثين، وحمد الله ثالثا : )من سبح الله في دبر كل صالة ثالثا

ا وثالثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المئة: ال إله إال الله وثالثين، وكبر الله ثالثا

وحده ال شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن

(2)كانت مثل زبد البحر(

(123( وابن ماجة)1331( والنسائي)3410( والترمذي)2032( وأبو داود)3313رواه أحمد ) (1)

(12103د)رواه أحم (2)

3442، ومسلم: 3402رواه البخاري: (3)

3443رواه مسلم: (4)

1322رواه مسلم: (2)

344

: )من قال: ال إله إال الله وحده ال شريك له، له الملك وله الحمد ومنها قوله

وهو على كل شيء قدير، )في يوم( مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة

ا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا

(1) بأفضل مما جاء به إال رجل عمل أكثر منه( يأت أحد

: )من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له، له الملك وله الحمد، ومنها قوله

(2) وهو على كل شيء قدير، عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل(

ا(ومنها قوله ، صلى الله عليه عشرا (3) : )من صلى علي واحدةا

: ))إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل األكلة فيحمده عليها، أو ومنها قوله

(4) يشرب الشربة فيحمده عليها(

يرغب المؤمنين في كثرة ذكر الله، بذكر تلك األجور وهكذا كان رسول الله

العظيمة التي أعدها الله لمن يذكره، بناء على تأثيراتها الكبيرة في إصالح النفس وتربيتها،

)أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة قال ألصحابه يوما: ومن تلك األحاديث ما روي أنه

؟ قال: )قل هو الله أحد، تعدل ثلث قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن، ثلث القرآن؟(

(2)القرآن(

ـ كما في حديث آخر ـ ، : )أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟(وقال لهم

فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: )يسبح مئة تسبيحة فيكتب

.3442، ومسلم 3403رواه البخاري: (1)

.3442رواه مسلم: (2)

112رواه مسلم: (3)

3132رواه مسلم: (4)

1443رواه مسلم: (2)

342

(1) له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة(

ال حول وال قوة إال .. أدلك على كلمة من كنز الجنة؟)أال وقال لبعض أصحابه:

(2)بالله(

عن القيمة العظمى التي يحتلها حسن الخلق في تلك وهكذا أخبر رسول الله

)يقول ما ، وقال: (3) : )ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق(الموازين، فقد قال

من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به

(4) درجة صاحب الصوم والصالة(

أبا ذر فقال:)أال أدلك على خصلتين هما خفيفتان لقي رسول الله وروي أن

على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله، قال:)عليك بحسن

(2)الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخالئق بمثلهما(

عن األجور العظيمة المهيأة للقائمين على الخدمات وهكذا أخبر رسول الله

: )من دعا إلى هدى، كان في فضل الدعوة إلى الله ، ومنها قوله االجتماعية والدعوية

(3) ن أجورهم شيئا(له من األجر مثل أجور من تبعه، ال ينقص ذلك م

، أو الدعوة العملية بإعطاء النماذج الحسنةفي فضل سن السنن ومنها قوله

، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير الصالحة : )من سن في اإلسالم سنةا حسنةا

، كان عليه وزرها ووزر من أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في اإلسالم سنةا سيئةا

3422رواه مسلم: (1)

.3434، ومسلم 3401رواه البخاري: (2)

(4311رواه أبو داود) (3)

(2003رواه الترمذي) (4)

(220/ 4كشف األستار عن زوائد البزار ) (2)

3404رواه مسلم: (3)

343

(1) بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء( عمل بها من

(2) بذل المعروف: )كل معروف صدقة(في فضل ومنها قوله

تنفيس الكرب: )من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، في فضل ومنها قوله

ر على معسر، يسر الله عليه في لدنيا انفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يس

)من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو ، وقوله: (3)واآلخرة(

(4) يضع عنه(

كفالة اليتيم: )أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا(.. وقال في فضل ومنها قوله

.(2)بإصبعيه السبابة والوسطى

والمسكين: )الساعي على األرملة السعي على األرملة في فضل ومنها قوله

(3) والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار(

الصدقة: )من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، وال في فضل ومنها قوله

يها لصاحبه كما يربي أحدكم فلو هيصعد إلى الله إال الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يرب

(3) حتى تكون مثل الجبل(

الحتساب في النفقة على األهل: )إذا أنفق المسلم نفقةا في فضل ومنها قوله

2321رواه مسلم: (1)

2324، ومسلم: 3021رواه البخاري: (2)

3423رواه مسلم: (3)

3212رواه مسلم: (4)

3002رواه البخاري: (2)

3434، ومسلم 2323رواه البخاري: (3)

2342، ومسلم 3430رواه البخاري: (3)

343

(1) على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة(

تربية البنات: )من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم في فضل ومنها قوله

.(2)القيامة أنا وهو(. وضم أصابعه

قال: )من تبع جنازة تباع الجنازة حتى يفرغ من دفنهاا في فضل ومنها قوله

حتى يصلى عليها ويفرغ منها فله قيراطان ومن تبعها حتى يصلى عليها فله قيراط والذي

(3) نفس محمد بيده لهو أثقل في ميزانه من أحد(

عن أن الوزن ال يرتبط فقط باألعمال، وإنما يرتبط وهكذا أخبرنا رسول الله

عندما تعجب الصحابة من أنه أيضا بالجوارح التي قامت بالعمل، كما روي في الحديث

:)أتعجبون من دقة ساقيه والذي قال لهم رسول الله دقة ساقي عبد الله بن مسعود

(4)نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد(

يشير في هذا الحديث إال أن تينك الساقتين الدقيقتين قامتا بأعمال فرسول الله

كثيرة، هي أثقل من جبل أحد.

)يوزن عن وزن مداد العلماء ودماء الشهداء، فقال: وهكذا أخبر رسول الله

(2)يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء(

وهذا يعني أن هناك وزنا خاصا لكل جارحة، واألعمال التي قامت بها، بل ورد ما

فال نقيم لهم يوم القيامة وزناا﴾ )الكهف: ﴿تعالى:يدل على وزن اإلنسان جميعا، كما قال

102)

2322، ومسلم 2321رواه البخاري: (1)

3312رواه مسلم: (2)

(20223رواه أحمد ) (3)

(1/420رواه أحمد ) (4)

( للشيرازى فى كتاب األلقاب.3/433عزاه المناوى ) (2)

344

:)يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فال يزن فقال: وقد فسرها رسول الله

فال نقيم لهم يوم القيامة وزناا﴾ )الكهف: ﴿تعالى:، ثم قرأ قوله (1)ه جناح بعوضة(عند الل

102)

ع الرحمة في جميع أنواووالقرآن الكريم يخبرنا عن االرتباط الوثيق بين العدل

، وال تجازى السيئات إال من باب الرحمة اإللهية الجزاء، فلذلك تضاعف الحسنات

ة ﴿تعالى عن جزاء الحسنات:، قال من باب العدل اإللهي بمثلها ه ال يظلم مثقال ذر إن الل

وقال عن جزاء ، (40وإن تك حسنةا يضاعفها ويؤت من لدنه أجراا عظيماا﴾ )النساء:

يئات جزاء سيئة ذين كسبوا الس ه من السيئات:﴿ وال ة ما لهم من الل بمثلها وترهقهم ذل

يل مظلماا أولئك أصحاب النار هم فيها ما أغشيت وجوههم قطعاا من الل عاصم كأن

(23خالدون﴾ )يونس:

يئة فال يجزى وقال جامعا بينهما:﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالس

(130إال مثلها وهم ال يظلمون﴾ )األنعام:

)قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة في بيان معناها: وقد قال رسول الله

حوها عنه، فام فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له سيئة، فإن تاب منها

وإن هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها

(2)إلى سبعمائة ضعف(

ب ـ موازين االستقامة وآثارها:

، يميز الواقفون في ذلك الموقف إلى ودرجاتها بعد أن ينتهي وزن األعمال

التبعات، وخاسرين بسبب عدم قسمين: ناجحين بسبب صفاء صحفهم من الذنوب و

(4321رواه البخاري برقم ) (1)

(123( ورواه مسلم برقم )2231رواه البخاري برقم ) (2)

341

صفاء صحفهم منها، ولذلك يحملون مباشرة إلى المحل المخصص لهم لقضاء فترة

، إال إذا انطبقت عليهم قوانين اإلذن بالشفاعةب جرائمهمبالعقوبة التي استوجبوها بس

بسبب نوع ذنوبهم، أو بسبب بعض أعمالهم الصالحة، وفي هذه الحالة يمكنهم البحث

عن الشفعاء للتوسط لهم، كما سنرى ذلك في المبحث التالي.

ا من فأم ﴿وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في بيان نتيجة الناجحين، وفرحهم بها:

﴾ (20( إني ظننت أني مالق حسابيه )11أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه )

[21 - 11]الحاقة:

ا من أوتي كتابه بشماله فيقول ﴿وقال في بيان نتيجة الراسبين وألمهم منها: وأم

( ما أغنى 23( ياليتها كانت القاضية )23( ولم أدر ما حسابيه )22ياليتني لم أوت كتابيه )

[30 - 22]الحاقة: ﴾( 21( هلك عني سلطانيه )24ماليه )عني

( ثم 30خذوه فغلوه )﴿م بسبب ذلك: نهثم بين كيف يساقون مباشرة إلى ج

ا فاسلكوه )31الجحيم صلوه ) ه كان ال ي 32( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ؤمن ( إن

ه العظيم ) ( 32( فليس له اليوم هاهنا حميم )34( وال يحض على طعام المسكين )33بالل

[32 - 30]الحاقة: ﴾

أما الناجون؛ فإن نجاتهم في ذلك الموقف ال تعني النجاة المطلقة، وإنما

ذي يفتشون فيه مثلما يفتش من يريد يحتاجون إلى المرور على السراط، وهو المحل ال

الركوب في الطائرة حتى ال يحمل معه أي ممنوعات قد تضر سالمة الركاب.

وبذلك يكون السراط نوعا من الموازين المرتبطة باإلنسان نفسه، وليس بأعماله،

ذلك أن أعماله قد وزنت وفتشت في المحال الخاصة بها، مثلما توزن وتفتش بضائع

ي الدنيا في المحال الخاصة بها.المسافرين ف

واألوصاف التي وصف بها السراط كلها تدل على هذا المعنى، فمعناه اللغوي ـ

310

،السراط: الطريق المستسهلكما يذكر الراغب األصفهاني ـ يشير إلى هذا، حيث يقول: )

(1)أصله من: سرطت الطعام وزردته: ابتلعته(

ليه إن كان فيه من الخصائص ما يستحق أي أن هذا الطريق سيبتلع كل من يمر ع

مثل تلك األصوات التي تصدرها أجهزة التفتيش في ـ للتقريب ـ ذلك البلع.. وهو

المطارات لتطلب من المار أن يخرج كل ما لديه أوال.

ليهما، ع توهكذا فإن لهذه المفردة داللتها القرآنية على االستقامة والطهارة والثبا

راط المستقيم ﴿: الدين كما قال تعالى في وصف [ يعني الدين 3]الفاتحة: ﴾اهدنا الص

ا ﴿: وقال، المستقيم .[: يعني ديناا مستقيماا 123]األنعام: ﴾وأن هذا صراطي مستقيما

بقوله ـ لمن سأله اإلمام الصادق وقد أشار إلى هذا المعنى ووسائل الحصول عليه

الطريق إلى معرفة الله عز وجل. وهما صراطان: صراط في الدنيا : )هو عن السراط ـ

ه من عرف ،وأما الصراط الذي في الدنيا فهو اإلمام المفترض الطاعة، وصراط في اآلخرة

ومن لم يعرفه ،في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في اآلخرة

(2)(فتردى في نار جهنم ،ةفي الدنيا زلت قدمه عن الصـراط في اآلخر

وهو يشير بهذا إلى أهمية التعرف على الهداة إلى الله، واالستنان بسننهم، لتحقيق

السلوك الموافق للشريعة والبعيد عن األهواء، ولهذا ربط الله تعالى السراط المستقيم

راط المستقيم ﴿بأولئك الهداة، فقال: صراط ﴿ثم فسره بقوله: ،[3]الفاتحة: ﴾اهدنا الص

ين ال ذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وال الض [3]الفاتحة: ﴾ال

وهذا يبين أن أساس التدين هو التعرف على الهداة الصادقين إلى الله حتى يتجنب

المتدين الدعاة الذين يوصلونه إلى غضب الله، أو الضالل عنه.

(333)ص ،المفردات في غريب القرآن (1)

.32معاني األخبار/ (2)

311

أي انحراف عن الدين، والقيم النبيلة التي جاء بها ستكون سببا في ، فإنوبذلك

منع المار على السراط من االستمرار في سيره، الذي يرحل به إلى الجنة، ذلك أن الجنة

ال يكفي لدخولها مجرد حصول الشخص على حسنات كثيرة، بل تقتضي كذلك الطهارة

والطيبة.

أن الجنة ال يدخلها، بل ال يشم ريحها باإلخبار قدسة المولهذا ورد في النصوص

ادخلوها ﴿ طبتم ف ، كما قال تعالى:من لم تتوفر فيه الطيبة الكافية، والفطرة األصيلة

(33خالدين﴾ )الزمر:

عدم إمكانية دخول الجنة لمن توفرت فيه بعض ولهذا ذكر رسول الله

قال إن الله تعالى ):ومن أمثلتها البخل، كما قال الصفات، التي تحول بينه وبينها،

غرس جنة عدن بيده وزخرفها، وأمر المالئكة فشقت فيها األنهار، فتدلت فيها الثمار،

(1) فلما نظر إلى زهرتها وحسنها، قال: وعزتي وجاللي ال يجاورني فيك بخيل(

مع البخالء، ولهذا وسر ذلك هو أن الجنة هي دار الكرم اإللهي، وهي تتنافى تماما

لن يدخل أحد الجنة حتى يطهر تماما من هذه الصفة.

في الحديث القدسي: أنه ال يدخل الجنة مدمن خمر وال ديوث، قال وأخبر

من)يا رسول الله وما الديوث؟(، قال:))وعزتي ال يسكنها مدمن خمر وال ديوث(، قالوا:

(2) يقر السوء في أهله(

من قتل معاهدا لم يرح ):أنه ال يجد ريح الجنة من قتل معاهدا، قال وأخبر

أال من قتل نفسا ):، وقال (3) رائحة الجنة، وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما(

(313/ 10رواه الطبراني في األوسط والكبير، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) (1)

(131/ 3رواه الخرائطي في مساوئ االخالق، كنز العمال ) (2)

.114و 113/ 3رواه البخاري (3)

312

معاهدة له وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فال يرح رائحة الجنة، وإن الجنة ليوجد ريحها

(1) من مسيرة سبعين خريفا(

ما من إمام ):أنه ال يجد ريح الجنة أي وال بات غاشا لرعيته، قال وأخبر

وال وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إال حرم الله عليه الجنة وعرفها يوجد يوم القيامة

من استرعى رعية فلم يحطهم بنصيحة لم يجد ):، وقال (2) من مسيرة سبعين سنة(

سيرة مائة عام. من انتسب إلى غير أبيه لم يرح رائحة ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من م

(3) الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام(

ال يدخل الجنة شيخ زان، وال مسكين مستكبر، وال منان بعمله على )أنه وأخبر

ليم: أثالثة ال ينظر الله إليهم يوم القيامة، وال يزكيهم، ولهم عذاب ، وفي رواية: )الله(

(4) (شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر

إياكم وعقوق الوالدين! فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام وال ):وقال

يجد ريحها عاق وال قاطع رحم وال شيخ زان وال جار إزاره خيالء، إنما الكبرياء لله عز

(2) وجل(

صنفان من أهل النار لم ):عن هذين الصنفين من أهل النار، فقال وأخبر

أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات

مميالت مائالت رؤسهن كأسنمة البخت المائلة، ال يدخلن الجنة وال يجدن ريحها، وإن

(.2343(، وابن ماجة رقم )1403رواه الترمذي رقم ) (1)

(.2/213رواه الطبراني في الكبير كما فى مجمع الزوائد ) (2)

(.142، ومسلم رقم ) 112/ 13رواه البخاري (3)

(2/440، أحمد )103رواه مسلم ) (4)

(33/ 13رواه الديلمي، كنز العمال ) (2)

313

(1) ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا(

ير سبب ال تجد رائحة الجنة، أن المرأة التي تسأل زوجها الطالق من غ وأخبر

ال تسأل المرأة زوجها الطالق في غير كنهه فتجد ريح الجنة! وإن ريحها ):فقال

(2) لتوجد من مسيرة أربعين عاما(

مسافات مختلفة لبعد رائحة الجنة، وهي ذكر حاديث ير من هذه األونرى في كث

وقدر الحاجة إلى تطهيره.تعني بعد صاحبها أو قربه من الجنة، بحسب نوع جرمه،

ولذلك كان المرور على السراط مختلفا بحسب طهارة صاحبه، فإن كان طاهرا

مر عليه من غير أن يشعر، وإن لم يكن كذلك احتاج كل مرة إلى تطهير جديد إلى أن

يصبح صالحا للركوب في المراكب التي تحمله إلى الجنة.

ولما كان ):ه بسراط الدنيا، فقالإلى هذا المعنى، وعالقت الغزاليوقد أشار

الصراط المستقيم الذي ال يكمل التوحيد إال باالستقامة عليه أدق من الشعر وأحد من

السيف مثل الصراط الموصوف في اآلخرة، فال ينفك بشر عن ميل عن االستقامة ولو في

وحيد الت أمر يسير، إذ ال يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال

بقدر ميله عن الصراط المستقيم، فذلك يقتضي ال محالة نقصاناا في درجات القرب، ومع

كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها

(3)القرآن؛ فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباا مرتين من وجهين(

هون إلى فينت ،ثم يؤمر بالخالئق إلى الصـراط)عراني: الشالشيخ عبد الوهاب وقال

أل فيس.. الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم، أدق من الشعرة وأحد من السيف

(4/122و 3/134رواه مسلم ) (1)

(1143( ، والترمذي رقم )2223رواه أبو داود رقم ) (2)

(23/ 4إحياء علوم الدين ) (3)

314

فإن جاء به مخلصاا ال شك فيه وال زيغ جاز إلى ،العبد عن اإليمان الخالص بالله تعالى

أل عن فيس ،فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسـر الثالث ،الجسر الثاني، فيسأل عن الصالة

ز فإن جاء به تاماا جا ،فيسأل عن الصيام ،فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الرابع ،الزكاة

،فيسأل عن حجة اإلسالم فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس ،إلى الجسر الخامس

از إلى الجسر السابع فيسأل عن المظالم فإن جاء به تاماا ج ،فيسأل عن الطهر من الحدث

فإن كان لم يظلم أحداا جاز إلى الجنة. وإن كان قصر في واحدة منهن حبس على كل جسر

وقعت في فإن كنت ،ففتش يا أخي نفسك.. حتى يقضـي الله فيه بما يشاء ،منها ألف سنة

وإن ،زى بهفقد سمعت ما تجا ،شئ من هذه الذنوب التي ذكرت في المواقف المذكورة

تلك األهوال من لم تقاس شيئاا ،تكن وقعت في شئ منها أو وقعت وقبل الله تعالى توبتك

،ولكن من أين لك أن تعرف أن الله تعالى قبل توبتك ،حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى

(1) (فوالله لقد خلقنا ألمر عظيم تذهل فيه عقول العقالء

باب اإلعتقاد في العقبات التي على طريق المحشر: )الصدوق: وقال الشيخ

أو ،أو أمر ،سم كل عقبة منها على حدة اسم فرضاعتقادنا في ذلك أن هذه العقبات ا

وكان قد قصر في ذلك الفرض حبس ،سمها فرضانهي. فمتى انتهى اإلنسان إلى عقبة

نها نجا م ،ة تداركهفإن خرج منه بعمل صالح قدمه أو برحم، عندها وطولب بحق الله فيها

أل عما فيس ،ويحبس عند كل عقبة ،فال يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ،إلى عقبة أخرى

ت فحيي حياة ال مو ،فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء .سمهااقصر فيه من معنى

وسكن جوار الله مع أنبيائه وحججه ،وسعد سعادة ال شقاوة معها أبداا ،فيها أبداا

،وإن حبس على عقبة فطولب بحق قصر فيه .والصديقين والشهداء والصالحين من عباده

323العهود المحمدية/ (1)

312

زلت قدمه عن العقبة ،وال أدركته من الله عز وجل رحمة ،فلم ينجه عمل صالح قدمه

(1) (فهوى في جهنم نعوذ بالله منها

يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى ﴿وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى:

ا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيه

ذين آمنوا انظرونا نقتبس من ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمناف قات لل

حمة ه باب باطنه فيه الر ا فضرب بينهم بسور ل نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا

عكم قال وا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن م

ه الغرور فاليو كم بالل ه وغر تكم األماني حتى جاء أمر الل صتم وارتبتم وغر ال يؤخذ م وترب

ذين كفروا مأواكم النار هي 12]الحديد: ﴾موالكم وبئس المصير منكم فدية وال من ال

- 12]

فهذه اآليات الكريمة تصور األنوار التي يسعد بها المؤمنون بسبب الصفاء

والطهارة التي اكتسبوها في الدنيا، بينما تخمد تلك األنوار المزيفة للمنافقين والمحتالين

أي ملكات تؤهلهم لدخول ومرضى القلوب، والذين يكتشفون حينها أنهم ال يملكون

الجنة، ولذلك ال يسمح لهم بالرحلة إليها.

له يجمع الوقد ورد في األحاديث واآلثار ما يشير إلى هذا، فعن ابن مسعود، قال: )

فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق . .الناس يوم القيامة

بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة

يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه،

وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة،

31اإلعتقادات/ (1)

313

م من يمر ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنه

كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رمالا على قدر

أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق

رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك،

(1) طانا ما لم يعط أحد(بعد أن أراناك، لقد أع

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أن للملكات الطيبة التي امتلكها اإلنسان في

الدنيا أثرها في تخفيف العقوبات عنه، أو في نجاته منها، ففي الحديث عن رسول الله

( :يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح ،رأيت رجالا من أمتي على الصراطأنه قال

ن رعدته ومضى على الصراط ،فجاءه حسن ظنه بالله ،عاصف ورأيت رجالا من ، فسك

ي فجاءته صالته عل ،ويتعلق أحياناا ،ويحبو أحياناا ،يزحف أحياناا ،أمتي على الصراط

(2)ومضى على الصراط( ،فأقامته على قدميه

ولهذا كان السراط من أخطر المواقف التي يمر بها اإلنسان في أرض المحشر،

ت األرض ﴿أنه قال في تفسير قوله تعالى: ي الحديث عن رسول الله فف كال إذا دك

ا ) ا دك ا )21دك ا صف ك والملك صف ر 22( وجاء رب ( وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذك

كرى ) نسان وأنى له الذ الخالئق وجمع الله إذا أبرز ) [23- 21: ]الفجر ﴾( 23اإل

مع كل زمام مائة ألف ملك من الغالظ ،أتي بجهنم تقاد بألف زمام ،األولين واآلخرين

،ثم يوضع عليها الصراط أدق من حد السيف.. لها هدة وغضب وزفير وشهيق ،الشداد

ما الثالثة وأ ،والثانية فعليها الصالة ،فأما واحدة فعليها األمانة والرحم ،عليها ثالث قناطر

(. وقال: هذا 404/ 2(، والحاكم )323/ 1(. والحديث رواه الطبراني )411رواه البيهقي في )البعث والنشور( ) (1)

حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ.

301أمالي الصدوق/ (2)

313

،فيكلفون بالممر عليها فيحبسهم الرحم واألمانة ،فعليها عدل رب العالمين ال إله غيره

وهو ،فإن نجوا منها كان المنتهى إلى رب العالمين ،فإن نجوا منهما حبستهم الصالة

ك لبالمرصاد ﴿قوله: على الصراط، فمتعلق بيد وتزل والناس ،[14]الفجر: ﴾إن رب

قدمه ومستمسك بقدم. والمالئكة حولها ينادون: يا حليم أعف واصفح وعد بفضلك

والناس يتهافتون في النار كالفراش فيها، فإذا نجا ناج برحمة الله مر بها ،وسلم وسلم

ي منك نجان والحمد لله الذي ،فقال الحمد لله وبنعمته تتم الصالحات وتزكو الحسنات

إن ربنا لغفور شكور( ،منه وفضلهبعد اليأس ب

أشد ساعات ابن آدم ثالث ساعات: الساعة )وقد روي عن اإلمام السجاد أنه قال:

فيها والساعة التي يقف ،والساعة التي يقوم فيها من قبره ،التي يعاين فيها ملك الموت

ثم قال: إن نجوت يا ابن آدم عند(، فإما إلى جنة وإما إلى نار ،بين يدي الله تبارك وتعالى

وإن نجوت يا ابن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت ،الموت فأنت أنت وإال هلكت

وإن ،وإن نجوت حين يحمل الناس على الصراط فأنت أنت وإال هلكت ،وإال هلكت

(1)(نجوت حين يقوم الناس لرب العالمين فأنت أنت وإال هلكت

ولهذا فإن كل أوصاف السراط التي وردت في األحاديث تشير إلى هذه المعاني

التي ذكرناها، وإن كنا ال نستطيع أن نستخلص منها أي صورة حقيقية له، بناء على

اختالف النشأتين.

، أي أن كل من يمر عليه يمكن أن يزلق الصراط زلقفقد ورد في الحديث أن

ما الجسر :سئل رسول الله ليسقط في جهنم بناء على األوصاف الموجودة فيه، فقد

يا رسول الله قال: )مدخضة مزلة، عليه خطاطيف، وكالليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة

..121، ص 3بحار األنوار، ج (1)

314

(1) عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان(

، وكل حافة أو جانب يمكنها أن أو حافتان له جنبتانووصف في الحديث بكونه

بهم (2): )يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادعتسترط من يمر عليها، قال

(3) جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار(

حديث عن النبي ففي ال ،(4)كالليبوهكذا وصف بأن لكل حافة من حافتيه

(2) معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به(: )وفي حافتي الصراط كالليب أنه قال

: )وبه كالليب مثل شوك السعدان تلك الكالليب، فقال رسول الله ووصف

أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أن

(3)ال يعلم قدر عظمها إال الله(

أي أنه دقيق جدا في تعيين ،مثل حد الموسى أو حد السيفهكذا وصف بكونه و

الصراط مثل حد الموسى، فتقول ع)ويوض :أنه قال عن النبي الملكات المنحرفة، ف

المالئكة: من يجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي: فيقولون: ما عبدناك حق

: )والصراط كحد السيف، حديث ابن مسعود الطويل يقول النبي ، وفي (3)عبادتك(

(143( واللفظ له، ومسلم )3431رواه البخاري ) (1)

)فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار( أي تسقطهم ﴿(: )قوله: 24/ 4قال ابن األثير في )النهاية( ) (2)

فيها بعضهم فوق بعض. وتقادع القوم: إذا مات بعضهم إثر بعض(

(، وابن أبي عاصم في 121( )142/ 2(، والطبراني في )المعجم الصغير( )20423( )43/ 2رواه أحمد ) (3)

(433)السنة( )

(: )كالليب جمع كلوب بفتح الكاف وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق 313/ 20قال العيني في )عمدة القاري( ) (4)

عليها اللحم. وقيل: الكلوب الذي يتناول به الحداد الحديد من النار. كذا في كتاب ابن بطال(

(112رواه مسلم ) (2)

(142(، ومسلم )3433رواه البخاري ) (3)

(. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي321/ 4رواه الحاكم ) (3)

311

(1)دحض مزلة(

وكل هذه األوصاف تبين خطورته، وأنه ال يمكن أن ينجو منه إال من هذب نفسه،

وخلصها من كل األمراض التي تحول بينها وبين التحقق بفطرته السلمية النقية.

وبذلك فإن السراط يشبه كثيرا مراكز التحليل واألشعة التي توضع في

ة، أو ، إما باألدوية البسيطالمستشفيات وعلى أساس نتائجها يتم التعامل مع المريض

بالجراحة المستعصية الصعبة الممتلئة بكل ألوان اآلالم والمخاوف.

وهذا يدل على أن السراط منسجم تماما مع العدالة اإللهية، باعتبار أن تلك

األمراض التي يكتشفها أمراض مكتسبة، ولم تكن في الفطرة األصلية.. هو منسجم

نه الوسيلة التي يطهر بها اإلنسان من األمراض التي تحول كذلك مع الرحمة اإللهية أل

بينه وبين أن يعيش حقيقته الجميلة.

: وشروطهاـ الشفاعة 5بعد تلك المواقف الشديدة التي يمر بها اإللهية والرحمة من تجليات العدالة

فالشفاعة تجل من ؛اإلذن بالشفاعة لمن يستحقون ذلكفي أرض المحشر الخلق

تجليات العدالة اإللهية، كما أنها تجل من تجليات رحمته.

أما كونها من تجليات عدالته؛ فذلك ألنها منضبطة بقوانين عامة يمكن ألي

شخص أن يستفيد منها، بخالف المحسوبيات والوسائط في الدنيا، والتي ال ضابط لها

إال األهواء المجردة.

رحمته، فذلك ألنها من أنواع الجزاء التي يجازي الله بها وأما كونها من تجليات

عباده الشافعين، لبيان مكانتهم وفضلهم ومراتبهم.

(. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي404/ 2رواه الحاكم ) (1)

400

كما أنها من أنواع الجزاء التي يجازي بها الطالبين للشفاعة لكونهم قاموا بأنواع

من األعمال الصالحة تستحق ذلك النوع من الجزاء.

ع من أنواع الجزاء اإللهي، مثله مثل سائر أنواع وبذلك؛ فإن الشفاعة في حقيقتها نو

الجزاء الموجودة في الدنيا، أو في اآلخرة، فقد أخبر الله تعالى أن الصالة يمكنها أن تزيل

الكثير من السيئات، وتمحو آثارها، وبذلك يمكن اعتبارها شفيعا لصاحبها المؤدي لها

ال ﴿كما قال تعالى: الصادق معها، يل إن الحسنات وأقم الص ا من الل ة طرفي النهار وزلفا

اكرين يئات ذلك ذكرى للذ [114]هود: ﴾يذهبن الس

ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن اإليمان والعمل الصالح، فهما من الشفعاء الذين

ذي﴿ا، كما قال تعالى: تكفر بهم الذنوب، ويرفع بهما العقوبات المرتبطة به ن آمنوا وال

ذي كانوا يعملون رن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن ال الحات لنكف ﴾وعملوا الص

ل ع ﴿، وقال: [3]العنكبوت: الحات وآمنوا بما نز ذين آمنوا وعملوا الص د وال لى محم

ر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم هم كف ومن يؤمن ﴿، وقال: [2]محمد: ﴾وهو الحق من رب

ر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها األنهار خال ا يكف ه ويعمل صالحا ين فيها د بالل

ا ذلك الفوز العظيم [1]التغابن: ﴾أبدا

وهكذا؛ فإن للتقوى والورع دورها في الشفاعة وتكفير الذنوب، كما قال تعالى:

ا﴿ ر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ه يكف ولو أن أهل ﴿، وقال: [2]الطالق: ﴾ومن يتق الل

رنا عنهم سيئاتهم وألدخلناهم جنات النعيم ا قوا لكف ، [32]المائدة: ﴾لكتاب آمنوا وات

ا ﴿وقال: ر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ه يكف ها ﴿وقال: ،[2]الطالق: ﴾ومن يتق الل ياأي

ذين آمن ه ذو ال ر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والل ا ويكف ه يجعل لكم فرقانا وا إن تتقوا الل

[21]األنفال: ﴾الفضل العظيم

وهكذا؛ فإن الجتناب الكبائر ظاهرها وباطنها دوره في تكفير الذنوب، كما قال

401

اإن تجتنبوا ﴿تعالى: ر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخالا كريما ﴾كبائر ما تنهون عنه نكف

[31]النساء:

وهكذا فإن لكل األعمال الصالحة محال خاصا تشفع فيه، وتكفر فيه عقوبات

ا ﴿الذنوب، كما قال تعالى عن الصدقات: دقات فنعم هي وإن تخفوها إن تبدوا الص

ه بما تعملون خبير ر عنكم من سيئاتكم والل ]البقرة: ﴾وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكف

231]

عن أنواع كثيرة من األعمال التي ترفع السيئات، وتزيل وأخبر رسول الله

ة بها، وبذلك يمكن اعتبارها شفيعا ألصحابها، كما قال آثارها، والعواقب المرتبط

،ال إله إال الله وحده ال شريك له :من قال)ذكر الله ودوره في التطهير من الذنوب: عن

،كانت له عدل عشر رقاب ،وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة ،له الملك وله الحمد

كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى و ،ومحيت عنه مائة سيئة ،وكتبت له مائة حسنة

(1)(ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إال أحد عمل أكثر من ذلك ،يمسي

عن دور االستغفار والتوبة في تكفير الذنوب، فقال حاكيا عن ربه وأخبر

قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ): سبحانه وتعالى

كان فيك وال أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت على ما

.(2)(لك، وال أبالي

إن مثل الذي عن دور األعمال الصالحة في تكفير الذنوب، فقال: ) وأخبر

يعمل السيئات، ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل

م عمل حسنة أخرى، فانفكت حلقة أخرى، حتى يخرج إلى حسنة، فانفكت حلقة، ث

.2311، ومسلم برقم 3213رواه البخاري برقم (1)

«حسن غريب»، وقال: 3240رواه الترمذي، ، برقم (2)

402

(1)(األرض

ونحب أن ننبه إلى ما نبهنا له في مواضع كثيرة إلى أن هذه األحاديث ال تعني

الذنوب المتعدية، فهي من حق المعتدى عليهم، إال إذا برأ ذمته منهم.. وهكذا فإنها ال

دخل اإلنسان، وبالتالي ال يستطيع أن يتعني أنواعا كثيرة من الذنوب قد تؤثر في طبيعة

بها الجنة إال بعد أن يتطهر منها، كما ذكرنا ذلك سابقا.

وهكذا األمر مع الشفاعة، فهي جزاء إلهي على أعمال صالحة مرتبطة بأولئك

الذين يشفعون له، كما سنرى ذلك في هذا المطلب.

ااإلخبار بكونه ورد في النصوصثالثة أمور وبناء على هذا، سنتحدث هنا عن

اإلذن اإللهي، وقابلية الشافع، والشفاعة بالحق.: يقبول الشفاعة، وهلطا وشر

أ ـ اإلذن اإللهي:

وهو الشرط األول واألساسي في الشفاعة، وقد نص عليه القرآن الكريم في

مواضع كثيرة، بل ال تكاد تذكر الشفاعة إال وتشفع وتقيد باإلذن اإللهي، كما قال تعالى:

فاعة عنده إال لمن أذن له ﴿ [23]سبأ: ﴾وال تنفع الش

ولذلك يرد على أولئك المشركين الذين توهموا أن ما يعبدونه من أصنام سيشفع

ه شفعاء قل أولو كانوا ال يملكون ﴿لهم عند الله، قال تعالى: خذوا من دون الل يئاا ش أم ات

ماوات واألرض ثم إليه ترجعون 43وال يعقلون ) ا له ملك الس فاعة جميعا ه الش ﴾( قل لل

[44، 43]الزمر:

وهكذا يحذرهم من أن الشفاعة ال تقبل في ذلك اليوم إال باإلذن اإللهي، قال

ا ال تج ﴿تعالى: قوا يوما زي نفس عن نفس شيئاا وال يقبل منها شفاعة وال يؤخذ منها وات

.244/ 13، والطبراني في الكبير، 243/ 24رواه أحمد ، (1)

403

ا ال تجزي نفس عن نفس شيئاا ﴿، وقال: [44]البقرة: ﴾عدل وال هم ينصرون قوا يوما وات

ها ﴿، وقال: [123]البقرة: ﴾وال هم ينصرون وال يقبل منها عدل وال تنفعها شفاعة ياأي

ة وال شفا ا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم ال بيع فيه وال خل ذين آمنوا أنفقوا مم ة ع ال

[224]البقرة: ﴾والكافرون هم الظالمون

ريمة ال تنفي الشفاعة، كما يتوهم منكروها، وإنما تنفي أن فكل هذه اآليات الك

تكون الشفاعة من دون اإلذن اإللهي، ذلك أنها مرتبطة بالتوحيد، وال تتنافى معه كما

يزعم المشركون.

ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر هذا القيد في الكثير من المواضع، حتى يزيل تلك

أنها ال تعني التفويض، وال الوساطة المطلقة، كما كان المفاهيم الجاهلية للشفاعة، ويبين

أهل الجاهلية يتصورون حين عبدوا األصنام من دون الله، وتصوروا أنها تشفع لهم بذاتها

هم ﴿من دون إذن إلهي، كما قال تعالى مخبرا عنهم: ه ما ال يضر ويعبدون من دون الل

ه وال ينفعهم ويقو شفعاؤنا عند اللقل ﴿، وقد رد عليهم بقوله: [14]يونس: ﴾لون هؤالء

ا يشركون ماوات وال في األرض سبحانه وتعالى عم ه بما ال يعلم في الس ﴾أتنبئون الل

[14]يونس:

السالم، عليهمالرسل به كل حين إلى أن وهذا ليس خاصا بالشفاعة؛ فالله تعالى ين

همه ليسوا وسائط بالمعنى الذي فوإن وكلوا بالكثير من المهام المرتبطة بالهداية إال أنهم

عدم تميزهم عن البشر العاديين في يذكر في مواضع كثيرة فالله تعالى ، المشركون

م قال تعالى:﴿ قالت له البشرية، وأنه ليس لهم أي سلطة إال ما خولوا به من الله تعالى،

ه يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن رسلهم إن نحن إال بشر مثلكم ولكن الل

ل المؤمنون﴾ ه فليتوك ه وعلى الل (، وقال:﴿ قل 11)ابراهيم:نأتيكم بسلطان إال بإذن الل

ه فل ما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء رب ما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أن مالا يعمل ع إن

404

ه أحداا﴾ )الكهف: ما أ 110صالحاا وال يشرك بعبادة رب نا بشر مثلكم (، وقال:﴿ قل إن

ما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين﴾ )فصلت: (3يوحى إلي أن

وأخبر الله تعالى أن كل تصرفات الرسل عليهم السالم سواء كانت عادية أو من

:﴿ ولقد أرسلنا رسالا من ن الله، قال تعالىتلك الخوارق والمعجزات، لم تكن إال بإذ

ةا وما كان لرسول أن يأتي بآية إال بإذن الله﴾ )الر ي (34عد: قبلك وجعلنا لهم أزواجاا وذر

:﴿ العن أحب خلقه إليه، فقمن لم يهتد هداية القدرة على ولهذا نفى الله تعالى

ه يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين﴾ إنك ال تهدي من أحببت ولكن الل

( أي 11(، وقال له:﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ )يونس: 23)القصص:

أتلزمهم وتلجئهم حتى يكونوا مؤمنين.

الهداية بمعناها الرسول نه ليس من الوظيفة التي كلف بها وأخبر تعالى أ

ه يهدي من يشاء ﴾ )البقرة: (232التوفيقي، قال تعالى:﴿ ليس عليك هداهم ولكن الل

مقتصرة على البالغ، قال تعالى:﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا وأخبر أن وظيفته

ه بصير بالعباد﴾ )آل عمران: وإن ما عليك البالغ والل وا فإن (، وقال:﴿ لست عليهم 20تول

(22بمصيطر﴾ )الغاشية:

ونفى عنه الشفاعة التي لم يأذن فيها الله تعالى، قال تعالى:﴿ استغفر لهم أو ال

ه ورسوله تستغفر لهم إن تس هم كفروا بالل ه لهم ذلك بأن ةا فلن يغفر الل تغفر لهم سبعين مر

(، وقال:﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم 40والله ال يهدي القوم الفاسقين﴾ )التوبة:

ه لهم إن الله ال يهدي القوم الفاسقين﴾ )المنافقون: تستغفر لهم لن (3يغفر الل

ونفى عنه أي سلطة في التوبة أو المغفرة أو العذاب، قال تعالى:﴿ ليس لك من

هم ظالمون﴾ )آل ع بهم فإن (، أي ليس لك 124مران:األمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذ

من الحكم شيء في عبادي إال ما أمرتك به فيهم.

402

هذه اآليات القرآنية وغيرها تنفي مفهوم الوساطة الذي يعني أي سلطة إلهية وكل

للمسيح عليه تعالى الله ولهذا، لما قال ، تخول للرسول ما يكون خاصا باأللوهية

ي إلهين من دون الله﴾ )المائدة: :﴿ أأنت قلت للناس اتخذ السالم رد ( 113وني وأم

:﴿ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته المسيح عليه السالم بقوله

م الغيوب ما قلت لهم فقد علمته تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك إن ك أنت عال

كم وكنت عليهم شهيداا ما دمت فيهم فلم ه ربي ورب يتني ا ت إال ما أمرتني به أن اعبدوا الل وف

ش قيب عليهم وأنت على كل شيء (113هيد﴾ )المائدة:كنت أنت الر

ونحب أن ننبه هنا إلى أن اإلذن اإللهي ليس كما يتوهم البعض أنه غير معقول

المعنى، ولهذا يذكرون أن الله يأذن في الشفاعة فيمن لم يعمل خيرا قط، بل إن اإلذن

اإللهي ـ كما تدل النصوص المقدسة ـ قائم على العدالة المطلقة، ولذلك يرتبط بكال

الشافعين، وطالبي الشفاعة. الجهتين:

أما ارتباطه بالشافعين؛ فيدل عليه، اعتبار الشفاعة مقاما من المقامات الكريمة التي

ال يشرف بها إال خاصة الناس من المؤمنين تكريما لهم عند الله، بناء على أعمال عملوها،

فاعة إال ﴿وجهود بذلوها، كما قال تعالى: ا ال يملكون الش حمن عهدا خذ عند الر ﴾من ات

حمن ورضي له قوالا ﴿، وقال: [43]مريم: فاعة إال من أذن له الر ﴾يومئذ ال تنفع الش

[101]طه:

ولذلك كانت هذه المرتبة، نوعا من الجزاء المرتبط بالعمل، والذي يمكن ألي

إن وفر من األعمال ما يتيح له ذلك. شخص أن يحصل عليه

وهذا الجزاء معقول المعنى، ذلك أن أولئك الشافعين حصل لهم الكثير من األذى

في الدنيا، فاتهموا بالجنون والسحر، والكثير منهم قتلوا وشوهت سمعتهم، ولذلك كان

زاء جذلك الجاه العظيم الذي يحصلون عليه بفضل الشفاعة نوعا من التعويض لهم، فال

403

حسان ﴿من جنس العمل، كما قال تعالى: حسان إال اإل [30]الرحمن: ﴾هل جزاء اإل

وأما ارتباطه بطالبي الشفاعة؛ فذلك ألن اإلذن اإللهي ال يكون لكل الطالبين، بل

هو خاص بالذين كانت لهم عالقة طيبة بالشافعين، أما أولئك الذين خالفوهم، وآذوهم؛

فيحرمون من ذلك، بسبب مواقفهم، وهو نوع من التربية لهم، حتى يعرفوا قيمة أولئك

افعين ﴿قال تعالى: الذين آذوهم واحتقروهم، كما [44 ]المدثر: ﴾فما تنفعهم شفاعة الش

ب ـ قابلية الشافع:

ذلك أن الشفاعة مثل المحاماة مرتبة من المراتب التي ال ينالها إال المستحقون

لها، ولذلك هي نوع من أنواع الجزاء المرتبطة بهم، والمتناسب مع أعمالهم.

يمكننا أن نكتشف الكثير من الصفات التي ترتبط ومن خالل النصوص المقدسة

بهؤالء، والتي أهلتهم لهذه المرتبة الرفيعة، والجاه الحقيقي العريض، وأولها الرحمة،

ذلك أن الشفاعة تنبع من رحمة الشافع بالمشفوع له، ولذلك يتدخل طالبا اإلذن اإللهي

في أن يشفع فيه.

س عن الشفاعة اللعانين الذين يسارعون أن أبعد النا ولهذا أخبر رسول الله

إلى لعن إخوانهم من غير سبب، فأمثال هؤالء ال يمكن أن يكون في قلوبهم من الرحمة

إن اللعانين ال يكونون شهداء وال ): ما يؤهلهم لهذه المرتبة الرفيعة، قال رسول الله

(1)(شفعاء يوم القيامة

بما آتاه الله من رحمة، كما لله وهكذا كان أول الشفعاء وأعظمهم هو رسول ا

[103]األنبياء: ﴾وما أرسلناك إال رحمةا للعالمين ﴿قال تعالى:

لقد جاءكم رسول من ﴿بل إن الله تعالى سماه باسمين من أسماء رحمته، فقال:

(2214رواه مسلم ) (1)

403

في ، ف[124]التوبة: ﴾م بالمؤمنين رءوف رحيم أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليك

من حب للخير والرحمة على كل هذه اآلية تصريح بما كانت عليه طبيعة رسول الله

: )إن الله لم يحرم حرمة إال وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، الخالئق، ولهذا قال

(1)كتهافت الفراش والذباب(أال وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار

ذلك المقام الرفيع الذي لم ينله غيره، حيث أعطي ولهذا نال رسول الله

الشفاعة في الموقف، كما شرحنا ذلك سابقا.

وهكذا يشفع سائر األنبياء واألئمة الدعاة إلى الحق، لما أودع الله تعالى في

صهم على الذين اتبعوهم قلوبهم من الرحمة بأممهم، وحرصهم على إيمانهم، وحر

بإحسان.

وهكذا ورد في القرآن الكريم اإلخبار عن شفاعة المالئكة، لعالقتهم بالبشر،

ولعدم اختالفهم عن الرسل في الرحمة المودعة فيهم بمن يستحق ذلك، كما أخبر الله

ذين يحملون العرش ﴿تعالى عن دعائهم للمؤمنين في الدنيا، قال تعالى: له ومن حو ال

رحم نا وسعت كل شيء ذين آمنوا رب هم ويؤمنون به ويستغفرون لل ةا يسبحون بحمد رب

بعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) ذين تابوا وات ا فاغفر لل نا وأدخ 3وعلما لهم جنات ( رب

اتهم إنك أنت العزيز الحك ي تي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذر يم عدن ال

يئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز الع 4) يئات ومن تق الس ]غافر: ﴾ظيم ( وقهم الس

الله تعالى في هذه اآلية الكريمة عن دعائهم واستشفاعهم للمؤمنين ، فقد أخبر [1 - 3

.وألوالد المؤمنين وزوجاتهم أن يدخلهم الله جنات عدن

ومن صفات الشفعاء بذل نفوسهم في الله، وتضحيتهم في سبيل الله، ولهذا

(210/ 3رواه أحمد، وأبو يعلى، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) (1)

404

لى تلك التضحيات، ولهذا أخبر ينالون التكريم الخاص بهم في ذلك الموقف جزاء ع

: )يشفع الشهيد في قال رسول الله أن الشهداء من الشفعاء يوم القيامة، رسول الله

(1)سبعين من أهل بيته(

: )للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في قال رسول الله وفي حديث آخر

من الفزع األكبر، أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن

ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين

(2)زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه(

: )يشفع يوم القيامة ثالثة: األنبياء، ثم العلماء، ثم قال وفي حديث آخر

(3)الشهداء(

عن شفاعة العلماء الصادقين المبلغين عنه، ففي وهكذا أخبر رسول الله

)ما من مسلم يحفظ على أمتي أربعين حديثاا يعلمهم بها أمر دينهم إال : الحديث قال

(4)جيء به يوم القيامة فقيل له: اشفع لمن شئت(

وهكذا ورد في األحاديث أنه بإمكان كل مسلم أن يشفع إلخوانه وأقاربه بحسب

يقول الرجل من أنه قال: ) مدى قابليته لذلك، وقد روي في الحديث عن رسول الله

أهل الجنة يوم القيامة: أي ربي عبدك فالن سقاني شربة من ماء في الدنيا، فشفعني فيه

(14304( )134/ 1(، والبيهقي )4330( )213/ 10(، وابن حبان )2222رواه أبو داود ) (1)

/ 4(، والبيهقى فى )شعب اإليمان( )13221( )131/ 4(، وأحمد )2234(، وابن ماجه )1333رواه الترمذي ) (2)

22)

(232/ 2(، والبيهقي في )شعب اإليمان( )4112رواه ابن ماجه ) (3)

(، وابن 20(، والخطيب في )شرف أصحاب الحديث( )ص: 23/ 2رواه ابن عدي في )الكامل في الضعفاء( ) (4)

(12/ 1لبر في )جامع بيان العلم وفضله( )عبدا

401

(1)(ذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منهاافيقول:

،شفع الرجل في القبيلة، ويشفع الرجل ألهل البيتيوعن اإلمام الباقر أنه قال: )

(2) (ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله. فذلك المقام المحمود

وبناء على تجسم األعمال؛ فقد ورد في األحاديث شفاعة األعمال الصالحة

في ؛ فشفاعة القرآن عموماا ألصحابها الحريصين عليها، ومن أعظم أنواع تلك الشفاعة

)اعملوا بالقرآن، وأحلوا حالله، وحرموا حرامه، واقتدوا : الحديث قال رسول الله

به، وال تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي،

كيما يخبرونكم، وآمنوا بالتوراة، واإلنجيل، والزبور، وما أوتي النبيون من ربهم،

رآن وما فيه من البيان، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، أال ولكل آية منه وليسعكم الق

نور يوم القيامة، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر األول، وأعطيت طه وطواسين

(3) وحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش(

وماحل مصدق، من : )القرآن شافع مشفع، قال رسول الله وفي حديث آخر

(4) جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار(

: )يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، قال رسول الله وفي حديث آخر

فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب أرض

..1/104مجمع البيان: (1)

(2/12مناقب آل أبي طالب ) (2)

(. قال الحاكم: 11410( )1/ 10(، والبيهقي )323/ 1( وأخرجه الحاكم )222( )222/ 20رواه الطبراني ) (3)

هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه

( 131/ 3(، وابن أبي شيبة )104/ 4(، وأبو نعيم في )حلية األولياء( )4322( )132/ 1رواه الطبراني ) (4)

(30024)

410

)1(وارق وتزاد بكل آية حسنة( عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ

بين القرآن والصيام، ثم بين سر شفاعتهما، فقال: جمع وفي حديث آخر

)الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام

والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان(

(2)

وهذا يدل على ما ذكرناه سابقا من أن الشفاعة جزاء خاص على أعمال خاصة،

ولذلك كان لعالقة المؤمن بالقرآن الكريم، أو بالصيام، أو بغيرهما من الطاعات أثر في

اإلذن بالشفاعة له في ذلك المجال.

أنه يمنع من الشفاعة فيمن حرفوا دينه وبدلوه، وهكذا أخبر رسول الله

أنه ، كما ورد في الحديث عنه ، النتفاء صلتهم برسول الله وأحدثوا فيه ما ليس منه

فيقال إنهم ؛أال هلم :أال ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهمقال: )

(3)(سحقا سحقا :فأقول ،قد بدلوا بعدك

الحق:ج ـ الشفاعة ب

نفع تعالى:﴿ يومئذ ال ت وهو الشرط الثالث من شروط الشفاعة، وقد نص عليه قوله

حمن ورضي له قوالا﴾ )طه: فاعة إال من أذن له الر ذين وله(، وق101الش :﴿ وال يملك ال

فاعة إال من شهد (43بالحق وهم يعلمون﴾ )الزخرف: يدعون من دونه الش

وهكذا أخبر الله تعالى أنه ال يحق ألحد أن يشفع في الظالمين المعتدين، كما قال

وأنذرهم يوم اآلزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ﴿تعالى:

(343/ 2(، والبيهقي في )شعب اإليمان( )334/ 1(، والحاكم )2112رواه الترمذي ) (1)

(، وأبو نعيم 340/ 1حاكم )(، وال144/ 3(، والطبراني كما في )مجمع الزوائد( )3323( )134/ 2رواه أحمد ) (2)

(131/ 4في )حلية األولياء( )

(333رواه مسلم ) (3)

411

، وهذا يدل على أن الذنوب المتعدية ال مجال للشفاعة [14]غافر: ﴾يطاع وال شفيع

فيها.

ما كل نفس ب ﴿ومثله أخبر عن ذنوب كثيرة ال يمكن الشفاعة فيها، قال تعالى:

مين ( عن المجر 40( في جنات يتساءلون )31( إال أصحاب اليمين )34كسبت رهينة )

( ولم نك نطعم المسكين 43( قالوا لم نك من المصلين )42( ما سلككم في سقر )41)

ين )42( وكنا نخوض مع الخائضين )44) ب بيوم الد ( حتى أتانا اليقين 43( وكنا نكذ

افعين ) ( فما تنفعهم 43) [ 44 - 34]المدثر: ﴾(44شفاعة الش

. أي ليس لهم تواصل روحي بالله.. .فاآليات الكريمة أخبرت أن الذين ال يصلون

. أي ليس لهم أي تواصل ورحمة بالمجتمع.. هؤالء .والذين ال يطعمون المسكين

وغيرهم ال تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو تقدموا للشفاعة لهم.

، وإنما يعني أيضا أن [اإلذن اإللهيما ذكرناه سابقا من ]ال يعني فقط الشرط وهذا

، ذلك أن اإلذن اإللهي له جانبان: جانب فيهتكون الشفاعة نفسها في مجال الحق المأذون

الشافع، وجانب القضية المشفوع فيها.

ية؛ هومن أهم شروط القضية المشفوع فيها أن تكون موافقة للعدالة والسنن اإلل

فلذلك ذكرنا سابقا أن الشفاعة ال تكون في المظالم والجرائم، ذلك أن لها أصحابا هم

الذين يطالبون بها، ويستوفون حقهم من صاحبها.

وهكذا ذكرنا أنه ال تكون الشفاعة عند السراط باعتباره المحل الذي يبحث فيه عن

الصفات التي ال تتناسب مع الجنة حتى يطهر صاحبها منها.

وهذا الشرط مع أهميته، وداللة النصوص المقدسة عليه إال أنه لألسف أسيء إليه،

نتيجة سوء فهم الشفاعة، حيث تصور البعض أو الكثير أنها مجرد تسامح ال مبرر له إال

الرحمة الواسعة، حتى لو كانت تلك الرحمة متناقضة مع العدل، ومع جميع القيم.

412

لم ينكروها جملة وتفصيال، وإنما أنكروها ونحسب أن الذين أنكروا الشفاعة،

بسبب تلك األوهام التي تسربت من خالل نصوص كثيرة، تنشر اإلرجاء، وهدر كل القيم

في سبيل إثبات عظمة الشافع، حتى أنه يمكن اعتبار العقيدة الخاطئة في الشفاعة أكبر

فداء التي جاء بها ، مثلما كانت عقيدة المعول لهدم القيم التي جاء بها رسول الله

.(1)بولس أكبر معول لهدم القيم التي جاء بها المسيح عليه السالم

استقبلهولعل أكبر من شرع هذا النوع من الفهم هو ذلك التراث الحديثي الذي

رحمة . منها بيان.تحت مسميات كثيرةوراحوا ينشرونه بكل أريحية، المسلمون لألسف

التي ال تحد.. ونحن في ذلك بيان رحمة رسول الله الله وسعة لطفه بعباده.. ومنها

ال نختلف عن المسيحيين الذين يذكرون بأن الله ـ لرحمته بعباده ـ أرسل ابنه الوحيد

ليصلب، ويكفر بصلبه كل خطايا بني آدم.

؛ولكنا ال نختلف معهم في النتيجة، نعم نختلف معهم في صورة المشهد

يشرع الخطيئة، وييسر أمرها، بل يدعو إليها.. إما بعقيدة فالشيطان في كال الدينين راح

الفداء، أو بعقيدة الشفاعة.

عبد الرحمن بن ميمون، أن كعبا دخل يوما على ومن األمثلة على ذلك ما رواه

يوم القيامة؟ فقال عمر بن الخطاب، فقال له عمر: حدثني إلى ما تنتهي شفاعة محمد

، [42]المدثر: ﴿ما سلككم في سقر﴾ القرآن، إن الله يقول:كعب: قد أخبرك الله في

فيشفع يومئذ، حتى يبلغ من لم يصل صالة قط، ولم يطعم مسكينا قط، ومن لم يؤمن

(2)ببعث قط، فإذا بلغت هؤالء لم يبق أحد فيه خير(

(، فقد كتبنا فيه مقاال مطوال في الموضـوع بعنوان ]الشفاعة بين الوهم والحقيقة[، 20انظر، أوهام وحقائق )ص: (1)

وما ذكرناه هنا تلخيص لبعض ما ورد في المقال.

.243، ص3رواه ابن مردويه، انظر: الدرالمنثور في التفسير للسيوطي ص (2)

413

فهذا الحديث الذي حدث به كعب األحبار اليهودي، يفسر به القرآن، ولسنا ندري

من أين تلقاه، وال من أين سمعه، يقضي على كل ما قصدته اآليات الكريمة من التحذير

من ترك الصالة، وترك إطعام المساكين، والخوض مع الخائضين.. وكل القيم المرتبطة

بها.

ثالثة أثالث، )أن أمة محمد :من ذكرهومثله ما رواه عبد الله بن عمر عن كعب

حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث فثلث يدخلون الجنة بغير

(1)(يدخلون الجنة بشفاعة أحمد

وهذا يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من اإلخبار عن غرور اليهود وأمانيهم

وأكاذيبهم التي حرفوا بها القيم التي جاء بها موسى عليه السالم واألنبياء من بعده، قال

ا فلن يخلف الله ﴿وق تعالى: خذتم عند الله عهدا عدودةا قل أت اماا م نا النار إال أي الوا لن تمس

نا ، وقال: [40]البقرة: عهده أم تقولون على الله ما ال تعلمون﴾ هم قالوا لن تمس ﴿ذلك بأن

ا كانوا يفترون﴾ ]آل عمران:النار إال هم في دينهم م عدودات وغر ا م اما [. 24 أي

هم في وغ ﴿واآلية الكريمة تشير إلى ما نسميه ]دين البشر[، والذي عبرت عنه بـ ر

ا كانوا يفترون﴾ ن بها على و، فدين البشر يعتمد على تلك األكاذيب التي يكذبدينهم م

أنفسهم، ثم يفرضونها على ربهم، ويتصورون أن الجنة والنار صارت بيدهم، ال بيد ربهم.

ذكره القرآن الكريم عن اليهود، هو نفسه ما وقع فيه النصارى، فقد قال كعب وما

يا أوالدي أكتب إليكم هذا لكي التخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند أحبارهم: )

يح البار، وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم األب، يسوع المس

[(1: 2رسالة يوحنا الرسول األولى ] (أيضاا

(.20/432رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان ) (1)

414

ولألسف فإننا عندما نبحث في التراث النصراني ال نجد إال نصوصا محدودة جدا

من أمثال النص السابق، لكنا عندما نبحث في تراثنا الحديثي نجد نصوصا كثيرة جدا،

، لتناقض كل القيم القرآنية، بل كل القيم التي جاءت النبوة ترفع إلى رسول الله

لغرسها، والدعوة إليها.

في بيان المقصد األكبر من مقاصد دعوته: )إنما قيم أن يقول النبي فكيف يست

ثم تأتي تلك النصوص لتهدم هذا المقصد من أساسه. ،(1)بعثت ألتمم مكارم األخالق(

ذلك أنه من المعلوم أن األخالق تحتاج في فرضها والدعوة إليها إلى حوافز، تدفع

أضدادها.. فإذا ما رفعت العقوبات.. ولم إلى العمل بها، وعقوبات تنفر من الوقوع في

تبق إال الحوافز التي يستوي فيها العاملون والمقصرون.. حينها لن تبقى أي قيمة.. بل لن

يبقى أي دين.

فهل يمكن ـ على سبيل المثال ـ أن يستقيم أمر دولة تضع القوانين المشددة

د السابقة ليس لها من مقص للجرائم.. ثم تضع بعدها قانونا واحدا يقول: كل العقوبات

. لكنها في الواقع ال أثر لها.. فيمكن لمن استحق العقوبات أن يأتي .إال التهديد والوعيد

بمن شاء ليشفع له.. فإن لم يجد فالحاكم رحيم وصاحب قلب طيب.. وسيتولى هو نفسه

صوص.تلك الن الشفاعة له، إن واقع هذه المدينة، وانهيار قيمها يشبه تماما ما فعلته أمثال

وبناء على هذا؛ فإن كل ما يروى من أحاديث الشفاعة مناقضا للقيم األخالقية

ه رسول اللوالشرعية مرفوض بناء على هذا الشرط، ومن األمثلة على ذلك ما يروونه عن

فيأتونني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، ).. : وأنه قال

فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد، ارفع، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع

(20231، رقم 10/111( البيهقى )1/112( ، وابن سعد )4131، رقم 2/341رواه أحمد ) (1)

412

رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار،

ني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا، فيدع

يا محمد، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه،

قال: فال أدري في الثالثة ـثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة

القرآن، أي وجب عليه حبسهفأقول: يا رب، ما بقي في النار إال من ـأو في الرابعة

(1)(الخلود

:قال ،أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار) :أنه قال ومثله ما يروون عنه

ق فأنطل :قال ،فآمر المالئكة أن يقفوا بهم :قال ،يا محمد ننشدك الشفاعة :فيقولون

يا رب قوم من أمتي قد أمر بهم :واستأذن على الرب عز وجل فيأذن لي فأسجد وأقول

فانطلق وأخرج منهم من شاء الله أن :انطلق فأخرج منهم قال :فيقول لي :قال ،إلى النار

(2).(.أخرج

وشفع ،شفعت المالئكة :فيقول الله تعالى) :أنه قال ومثله ما يروون عنه

فيخرج ،النارفيقبض قبضة من ،ولم يبق إال أرحم الراحمين ،وشفع المؤمنون ،النبيون

(3) (منها قوما لم يعملوا خيرا قط

يقول الله عز وجل )حديث الشفاعة الطويل:في أنه قال ومثله ما يروون عنه

؛ وفي (4)ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار(

النار، فيخرجون خلقاا أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من )لفظ آخر:

(113، ومسلم رقم ) 313 - 312/ 13رواه البخاري (1)

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب األهوال. (2)

( . 143قطعة من حديث مطول أخرجه مسلم ورقمه ) (3)

رواه البخاري ومسلم. (4)

413

كثيرا(،

فخيرنى بين الشفاعة وبين أن يغفر ،أتانى جبريل) :أنه قال ومثله ما يروون عنه

ثروا عليه فلما أك ،شفاعتى لكم :اشفع لنا فقال :فقيل ،فاخترت الشفاعة ،لنصف أمتى

(1)من لقى الله يشهد أن ال إله إال الله دخل الجنة() :قال

لسالم الذي جاء بهذا الحديث يختلف عن جبريل الذي جاء وكأن جبريل عليه ا

بالقرآن الكريم، والمملوء بالترهيب من مخالفة القيم.. والذي نسمع فيه هذا الوعيد

ا يجز به وال يجد له من الشديد: يس بأمانيكم وال أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا ﴿ل

ا﴾ ]النساء: دون [123الله وليا وال نصيرا

فكل هذه األحاديث تتنافى مع القرآن الكريم، والترهيبات الشديدة الواردة فيه،

في وهي فوق ذلك تتنافى مع أحاديث أخرى كثيرة، ال تقل عنها صحة، ومنها قوله

هذا :قالوا ؟(،هذاوأى بلد ،وأى شهر هذا ،أتدرون أى يوم هذاخطبته في حجة الوداع: )

أال وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة : )قال ،بلد حرام وشهر حرام ويوم حرام

ال ف ؛أال وإنى فرطكم على الحوض أنتظركم وأكاثر بكم األمم ،يومكم هذا فى بلدكم هذا

تبوأ فمن كذب على فلي ؛أال وقد رأيتمونى وسمعتم منى وستسألون عنى ،تسودوا وجهى

أال وإنى مستنقذ أناسا ومستنقذ منى أناس فأقول يا رب أصحابى فيقول ، مقعده من النار

(2)إنك ال تدرى ما أحدثوا(

فهذا الحديث وهو مروي في جميع الصحاح والمسانيد والسنن يخبر فيه رسول

( : رواه 10/331( قال الهيثمى )344رقم 2/32( والطبرانى فى الصغير )11334رقم 4/404رواه أحمد ) (1)

أحمد والطبرانى، وأحد أسانيد الطبرانى رجاله ثقات.

(، والنسائى 3202، رقم 2/2404( ، والبخارى )23342، رقم 2/313( )23244، رقم 2/412رواه أحمد ) (2)

(.4011، رقم 2/444فى الكبرى )

413

ون ويصومون أنه حرم من الشفاعة في أصحابه الذي عرفهم، وقد كانوا يصل الله

مويتوضأون ويحجون ويمرضون..ومع ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدته

أمهاتهم.

وهكذا نرى القرآن الكريم يحذرنا من ذلك اليوم الخطير الذي ال تنفع فيه أمثال

قوا يوماا ال تجزي نف تلك الشفاعات التي تذكرها تلك الروايات، كما قال تعالى: ﴿ س وات

ما ﴿، وقال: (44 :البقرة) ﴾نفس شيئاا وال يقبل منها شفاعة وال يؤخذ منها عدل عن

(14 :غافر) ﴾للظالمين من حميم وال شفيع يطاع

وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بغضب الله ولعنته وعقابه الشديد على ذنوب

لة عند أولئك الذين ضربوا القرآن بالحديث.. وضربوا الدين وقيمه كثيرة نراها هينة سه

بما شرعوه ألنفسهم من شرائع الهوى.

( 1ويل لكل همزة لمزة )﴿فالله تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته، فقال:

ده ) ذي جمع ماالا وعد ( وما 4كال لينبذن في الحطمة ) (3( يحسب أن ماله أخلده )2ال

لع على األفئدة )3الموقدة )الله ( نار 2أدراك ما الحطمة ) تي تط ها عليهم مؤصدة 3( ال ( إن

دة )4) [1 - 1]الهمزة: ﴾(1( في عمد ممد

ومن يقتل مؤمناا ﴿أنها الخلود في جهنم، فقال: وأخبر عن عقوبة القتل العمد، و

ا فيها وغضب ا فجزاؤه جهنم خالدا دا ا )الله متعم ا عظيما ﴾(13عليه ولعنه وأعد له عذابا

[13]النساء:

ا هما نصوصوهكذا لو تأملنا القرآن جميعا.. بل معه الكثير من السنة، لوجدنا في

كثيرة تملؤنا بالمهابة ومن خشية الله ومن الخوف من تعدي حدود الله، كما قال تعالى:

هم يتقون الله فال تقربوها كذلك يبين الله تلك حدود ﴿ [143قرة: ]الب ﴾آياته للناس لعل

: حسبك من صفية كذا عن عائشة قالت: قلت للنبى وكما ورد في الحديث

414

لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر )فقال: ـ قال بعض الرواة: تعنى قصيرةـ وكذا.

(1)(لمزجته

وبناء على هذا فإن الشفاعة هي جزاء خاص بأعمال خاصة.. وهي القرب من

الشفيع، وتعظيمه ومحبته.. وبذلك يستقيم األمر مع العدالة اإللهية؛ فالذي عاش حياته

ذابا عن دينه، حريصا على قيمه.. لكنه ـ كبشر يخطئ ويصيب ا محبا لرسول الله كله

ـ يقع في بعض الخطايا والهفوات.. التي يحتاج أن يطهر منها.. والتي يستحق العقوبة

بسببها.. وهنا تكون الشفاعة.. ال الشفاعة المطلقة.

لنقاط اح إال بعض اوهي تشبه في ذلك ذلك التلميذ الذي ال يحول بينه وبين النج

القليلة، وحينها قد يتدخل بعض األساتذة إلنقاذه، فيشفع له، ويزكيه.. ألخالقه أوال..

ولكون تقصيره محدودا ثانيا.

ربيعة بن في الحديث الذي رواه وهذا المعنى هو الذي أشار إليه رسول الله

: اسألني، ه، فقال ليكعب األسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله، فآتيه بوضوئه وبحاجت

فأعني)فقلت: إني أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال:

(2)(على نفسك بكثرة السجود

طلب أن يعينه على نفسه لتتحقق شفاعته له بمرافقته في الجنة.. فالنبي

الرجل لم ذافالشفاعة تقتضي الجانبين جميعا الشافع والمشفوع.. باإلضافة إلى أن ه

بمرافقته في الجنة إال لحبه الشديد له.. فهو لم يطلب الجنة يطلب شفاعة رسول الله

فيها. بذاتها، وإنما طلب مرافقة رسول الله

يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، ال أغني عنكم من الله وهكذا ورد في الحديث )

(2202، رقم 4/330( ، والترمذى )4432، رقم 4/231أبو داود ) (1)

.223/ 2( ، و النسائي 1320(، وأبو داود رقم )441( )2/22رواه مسلم ) (2)

411

ا عباس بن عبد المطلب، ال أغنييا بني عبد مناف، ال أغني عنكم من الله شيئا. ي ،شيئا

، ال أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله

(1)(بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، ال أغني عنك من الله شيئا

ولست أدري كيف يجتمع في العقول هذه األحاديث المتوافقة مع القرآن، مع تلك

المتوافقة مع التراث اليهودي والمسيحي.األحاديث

(203، ومسلم رقم ) 343/ 4رواه البخاري (1)

420

الفصل الرابع

.. وتجليات العدالة والرحمةالجزاء اإللهي

من أهم القوانين التي ينبني عليها الكون، وال يمكن ألحد أن يجادل فيها، ألن

الجميع عاشها في نفسه، وشاهدها في غيره، وربما تألم لها مدة طويلة من الزمن، وربما

ك، ما يمكن أن نطلق عليه ]قانون الجزاء[فرح لها كذل

وهو قانون عام شامل يقر به كل العلماء، سواء اختصوا بعلوم المادة والكون أو

بما يطلق عليه العلوم اإلنسانية.

والذي ،القانون الثالث من قوانين الحركة لنيوتنفعلماء الفيزياء كلهم يتفقون على

، أو ما يمكن أن نطلق عليه ـ بحسب المصطلح الفعلرد و العالقة بين الفعلينص على

الذي اخترناه ـ ]الفعل والجزاء[

،ينص القانون على أن لكل قوة فعل قوة رد فعل مساوية لها في المقدارحيث

وبناء على ذلك فإن قوة رد الفعل الناتجة من دفع عربة لألمام ،ومعاكسة لها في االتجاه

ولكنها تكون باتجاه معاكس لتلك القوة. ،ةمساوية لقوة الفعل الدافع

وهكذا يذكر علماء النفس اآلثار الناتجة عن المواقف والسلوكات المختلفة،

وخاصة تلك التي يمر بها اإلنسان في فترة طفولته، والتي قد تؤثر على جميع حياته..

وهي بذلك نوع من الجزاء على تلك المواقف والسلوكات.

جتماع األعراف االجتماعية، وآثارها على المواقف وهكذا يذكر علماء اال

المختلفة لكل مجتمع.. وهم بذلك يعبرون عن الجزاء المتعلق بتلك االختيارات التي

اختارها المجتمع لنفسه.

ما العملية االتصالية وهكذا نجد اإلعالميين يذكرون عند حديثهم عن أركان

421

در، دور المرسل أو المصلالمستقبل يعبرون عنه بـ ]رجع الصدى[، ويقصدون به تقمص

ن الرسالة أنتيجة لآلثار التي أحدثتها فيه رسالة المرسل.. والمرسل يستدل بذلك على

خالله ويعرف منالتي قام بإرسالها لتحقيق هدف معين، قد وصلت إلى الغاية المنشودة،

مدى قبولها ورفضها.

ذا نجد الجزاء في كل عمل نقوم به، فإن وضع أحدنا يده على التيار وهك

الكهربائي، أحس بأثره عليه، وربما يصعق لذلك، بحسب قوة ذلك التيار، وربما يحدث

فيه إعاقة طويلة أو دائمة، مع كون ذلك المس لم يستغرق منه سوى ثوان معدودة.

اء، وأنه شيء طبيعي، ولهذا يحكموبناء على هذا كله فإن العقل يقر بمعقولية الجز

بالغفلة والبله ال على تلك القوانين التي تسير بها الطبيعة والمجتمع، وإنما على الشخص

الذي يريد أن ينال جزاء أعمال لم يقم بها، أو يتفادى عقوبات ألعمال قام بها.

و هولهذا نسمع جميعا تلك العبارة التي تقول ]القانون ال يحمي المغفلين[، و

يعني بذلك أن قوانين العقوبات التي وضعها البشر لما رأوه فيها من المصلحة ال تحمي

الجاهلين بها، ما دامت قد نشرت على الرأي العام، وسمعها الجميع؛ فإن تذرع أحد

بالجهل بها، لم يعذر بجهله.

وبناء على هذا اتفقت األديان جميعا على وجود ]الجزاء اإللهي[ الخاص بأعمال

الدنيا، وخاصة تلك التي لم ينل أصحابها أي جزاء، تطبيقا لذلك القانون، وتعميما له.

بل إن كل من بحث في المعاد من الفالسفة وغيرهم اعتبر قانون الجزاء من أكبر

القوانين الدالة على المعاد، وخاصة ألولئك الذين يؤمنون بالله، وقد قال بديع الزمان

أمن الممكن لرب هذا العالم ومالكه الذي أظهر لذلك: )النورسي في بعض إشاراته

بآثاره كرما بال نهاية، ورحمة بال نهاية، وعزة بال نهاية، وغيرة بال نهاية، أن ال يقدر مثوبةا

422

(1)(تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، وال يقرر عقوبةا تناسب عزته وغيرته للمسيئين

ق ذي جـالل أظهر ســـلطان ربــوبـيـتـه الممكن لخال أمنويقول في إشارة أخرى: )

بتـدبيـر قـانــون الوجــود ابـتــداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنـظام

وانقادوا ،وبمنتهى العدالـة والميزان.. أن ال يعامل باإلحســان من احتـموا بتـلك الربوبيـة

الذيــن عصـوا بكفرهم وطغيانهم تلك يجازي أولئـك اللتلك الحكمة والعدالة، وأن

اإلنسان ال يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة بينماة.. الحكمة والعدالــ

ر، إذ يرحل أغلب الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة إال نادرا، بل يؤخ

لهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فالبد أهل الضاللة دون أن يلقوا عقابهم، ويذهب أكثر أهل ا

آيل إلى سعادة عظمى كمةأن تناط القضية بمح (2) (عادلة، وبلقاء

ولذلك فإن الفطرة السليمة التي ترى الجزاء أمامها في كل شيء.. بل ال ترى

حياتها إال ثمرة للتصرفات التي تقوم بها، ال تستبعد وجود دار خاصة للجزاء، ألن الذي

لدنيا هو نفسه الذي أبدع األخرى، والقوانين في الجميع ثابتة.أبدع ا

بل إن الفطرة السليمة يمكنها أن تكتشف أنواع الجزاء المعدة في اآلخرة، وكونها

متناسبة تماما مع أعمال الدنيا..ولذلك يمكنها أن تعرف أن هناك جنة أو دار جزاء

ين.للمحسنين، كما أن هناك نارا، أو دار جزاء للمسيئ

الدارين مختلفتين في المراتب، وأنواع الجزاء، وذلك ويمكنها أن تكتشف أن كال

بحسب األعمال التي قام بها من جوزي بتلك األنواع من األجزية.

وهذا كله ما تذكره المصادر المقدسة لألديان جميعا، والتي تتفق على أن عدالة

زاء، أو زمن خاص به.الله ورحمته وتربيته لخلقه تقتضي وجود محل خاص للج

..33الكلمات ، ص (1)

..30المرجع السابق، ص (2)

423

ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الكتاب المقدس، سواء ذلك الذي يعتمده

ها 1: 11)جامعة المسيحيون فقط، أو يعتمده معهم اليهود، فقد ورد في (: )افرح أي

اب ٱ ام شبابك و لش ك قلبك في أي أى في طريق قلبك وبمر سلك ٱفي حداثتك، وليسر

ه على هذه علم ٱعينيك، و ها يأتي بك ألمور ٱأن ه ٱكل ينونة(ٱإلى لل لد

ه ٱ)ألن : (14: 12)جامعة وفي ينونة،ٱيحضر كل عمل إلى لل ، لد على كل خفي

اا أو شراا(إن كان خير

اقدين ٱ)وكثيرون من :(2: 12)دانيال وفي ألرض ٱفي تراب لريستيقظون، هؤالء

ة ٱ لحياة ٱإلى إلى ألبدي ٱلل لعار ٱوهؤالء

(ٱ زدراء ألبدي

أقطع من أن تكون لك يدان لحياة ٱلك أن تدخل )خير :(43: 1)مرقس وفي

تيٱ لنار ٱوتمضي إلى جهنم، إلى ال تطفأ( ل

وألقها عنك. خير لك قطعهااأعثرتك يدك أو رجلك ف )فإن (:4: 14)متى وفي

ة ٱ لنار ٱو أقطع من أن تلقى في أعرج أ لحياة ٱأن تدخل ولك يدان أو رجالن( ألبدي

: يا ال ومن ق لمجمع،ٱ)من قال ألخيه: رقا يكون مستوجب :(22: 2)متى وفي

أحمق يكون مستوجب نار جهنم(

يق،ٱ لباب ٱمن )ادخلوا :(13: 3)متى وفي ه واسع لض ريق ٱورحب لباب ٱألن لط

ذين ٱوكثيرون هم لهالك،ٱيؤدي إلى لذيٱ يدخلون منه!( ل

الة يتك : (33و 33: 12)متى وفي م بها )ولكن أقول لكم: إن كل كلمة بط لناس ٱل

ين ٱسوف يعطون عنها حساباا يوم ر وبكالمك تدان(لد . ألنك بكالمك تتبر

،لحياة ٱسفر آخر هو سفر نفتح ٱأسفار. و نفتحت ٱو : )(13و 12: 20)رؤيا وفي

ا هو مكتوب في ألموات ٱودين ودينوا كل واحد بحسب ..بحسب أعمالهم ألسفار ٱمم

(أعماله

424

بعدما أخذنا معرفة ختيارناٱإن أخطأنا ب )فإنه :(23و 23: 10)عبرانيين وفي

،ٱ بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نار عتيدة أن تأكل لخطايا،ٱال تبقى بعد ذبيحة عن لحق

ين(ٱ .لمضاد

ب ٱ(: )هوذا قد جاء 12و 14)يهوذا وفي يسيه ليصنع دينونةا على لر في ربوات قد

ارهم على جميع أعمال فجورهم لجميع،ٱ تيٱويعاقب جميع فج فجروا بها، وعلى ل

عبة ٱ لكلمات ٱجميع تيٱلص ار( ل م بها عليه خطاة فج تكل

وهكذا نجد نفس المعاني في القرآن الكريم، ولكن بلغة أكثر دقة وتفصيال

وحا، ومن أمثلتها قوله تعالى في الجمع بين جزاء المحسنين والمسيئين، وبيان ووض

ه بما قالوا جنات تجري من تحتها األنهار خالدين ﴿أسباب استحقاقهم له: فأثابهم الل

ذين كفروا وكذ 42فيها وذلك جزاء المحسنين ) ﴾بوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( وال

[43، 42]المائدة:

م وقالوا ال تنفروا في الحر قل نار جهن ﴿أو قوله في بيان جزاء المسيئين وأسبابه:

ا لو كانوا يفقهون ) ا جزاءا بما كانوا يكسبون ( فليضحكوا قليالا وليبكوا 41أشد حر ﴾كثيرا

ه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ﴿، وقال تعالى: [42، 41]التوبة: سيحلفون بالل

هم رجس ومأواهم جهنم جزاءا بما كانوا يكسبون ، [12]التوبة: ﴾ فأعرضوا عنهم إن

ه من عاصم ﴿وقال: ة ما لهم من الل يئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذل ذين كسبوا الس وال

ا أولئك أصحاب النار هم فيها يل مظلما ا من الل ما أغشيت وجوههم قطعا ﴾خالدون كأن

ا ) ﴿، وقوله: [23]يونس: ا )21إن جهنم كانت مرصادا ( البثين فيها 22( للطاغين مآبا

ا ) ا )23أحقابا ا وال شرابا ا )24( ال يذوقون فيها بردا اقا ا وغس ا 22( إال حميما ( جزاءا وفاقا

هم كانوا 23) ا )( إن ا 23ال يرجون حسابا ابا بوا بآياتنا كذ ، وقال: [24 - 21]النبأ: ﴾( وكذ

ا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ) ﴿ ا شديدا ذين كفروا عذابا ( ذلك 23فلنذيقن ال

422

ه النار لهم في الل، 23]فصلت: ﴾ها دار الخلد جزاءا بما كانوا بآياتنا يجحدون جزاء أعداء

24]

حسان ﴿أو قوله في بيان جزاء المحسنين وأسبابه: حسان إال اإل ﴾هل جزاء اإل

، وهو القانون اإللهي الذي يسري على كل شيء في الدنيا واآلخرة، وهو [30]الرحمن:

ا ﴿ه أيضا، فال جزاء لإلساءة إال اإلساءة، يتضمن عكس [23]النبأ: ﴾جزاءا وفاقا

ذين قالوا﴿وقال يصف بعض ذلك الجزاء، وتوافقه مع أنواع العمل الصالح: إن ال

ه ثم استقاموا فال خوف عليهم وال هم يحزنون ) نا الل ب الجنة ( أولئك أصحا13رب

قل أذلك خير أم ﴿، وقال: [14، 13]األحقاف: ﴾خالدين فيها جزاءا بما كانوا يعملون

ا ) تي وعد المتقون كانت لهم جزاءا ومصيرا ( لهم فيها ما يشاءون خالدين 12جنة الخلد ال

ا مسئوالا كان على وما أموالكم وال أوالدكم ﴿، وقال: [13، 12]الفرقان: ﴾ربك وعدا

عف بما عم ا فأولئك لهم جزاء الض بكم عندنا زلفى إال من آمن وعمل صالحا تي تقر وا ل بال

ق به أولئك هم ﴿، وقال: [33]سبأ: ﴾ن وهم في الغرفات آمنو دق وصد ذي جاء بالص وال

هم ذلك جزاء المحسنين )33المتقون ) ه عنهم 34( لهم ما يشاءون عند رب ر الل ( ليكف

ذي عملوا ويجزيهم أجرهم ب ذي كانوا يعملون أسوأ ال ، [32 - 33]الزمر: ﴾أحسن ال

ا ﴿وقال: [22]اإلنسان: ﴾إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا

وغيرها من اآليات الكريمة التي نرى فيها التفاصيل الكثيرة المرتبطة بأنواع

نجد مثله في أي مصدر من المصادر الجزاء، وأنواع األعمال المسببة لها، مما ال

المقدسة.

يمكن اعتبار مرحلة الجزاء وبناء على ما تصوره النصوص المقدسة لكل األديان

423

من المراحل التي يمر بها اإلنسان، أو يمكن اعتبارها (1)هي المرحلة األخيرة التي نعلمها

ة، ا عن هذه النشأنشأة جديدة، ألن جسد اإلنسان وقدراته في تلك النشأة تختلف جذري

أو حتى على النشآت التي يمر بها في البرزخ والموقف وغيرها، والتي قد ينال فيها بعض

ألوان الجزاء، ولكنها ليست مثل تلك التي ينالها يوم الجزاء، وفي دار الجزاء.

م أ ﴿ولذلك سمى الله تعالى ذلك الجزاء بكونه الجزاء األوفى، كما قال تعالى:

ذي وفى )33أ بما في صحف موسى )لم ينب ( أال تزر وازرة وزر أخرى 33( وإبراهيم ال

نسان إال ما سعى )34) ( ثم يجزاه الجزاء 40( وأن سعيه سوف يرى )31( وأن ليس لإل

[42 - 33]النجم: ﴾( 41األوفى )

وهذه اآليات الكريمة تشير إلى أن هذا القانون كان مبثوثا في جميع الكتب

المقدسة، وكان األنبياء جميعا يبشرون به، حتى تقوم الحجة بذلك على الخلق.

اأبت إني ي ﴿وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السالم أنه قال في خطابه ألبيه:

ك عذ يطان وليا أخاف أن يمس حمن فتكون للش [42]مريم: ﴾اب من الر

وأخبر عن مقالة مؤمن آل فرعون لقومه في خطابه الذي وجهه لعقولهم، كما قال

شاد )﴿تعالى: بعون أهدكم سبيل الر ذي آمن ياقوم ات ياة ( ياقوم إنما هذه الح 34وقال ال

نيا متاع وإن اآلخرة هي دار القرار ) ( من عمل سيئةا فال يجزى إال مثلها ومن عمل 31الد

ا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حس ﴾اب صالحا

[40 - 34]غافر:

إني أريد أن تبوء بإثمي﴿بل أخبر أن االبن الصالح قال ألخيه عندما هم بقتله:

[21]المائدة: ﴾وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين

ــب قوله تعالى: (1) ــآت 42، 41]النجم: ﴾( وأن إلى ربك المنتهى41ثم يجزاه الجزاء األوفى ) ﴿فحس [، يوجد نش

ي التصاعدي للتعرف على الله والتواصل معه ال نهاية لها.أخرى تلي نشأة الجزاء.. ألن السير التكامل

423

الرسل عليهم وهكذا نجد الحديث عن الجزاء اإللهي ركنا أساسيا في دعوات

الصالة والسالم، ولذلك سموا مبشرين ومنذرين.. ذلك أن التبشير بالجزاء اإللهي

للمحسنين، واإلنذار اإللهي للمسيئين، من الضرورات التي تقتضيها العدالة إلقامة

الحجة، ورفع كل ذرائع الجهل بالقوانين اإللهية.

الفرصة في هذه النشأة، إما وقد سبق أن ذكرنا بأن أولئك الذين لم تتح لهم هذه

لقصورهم ونقصهم ومرضهم، أو لعدم سماعهم بالمبلغين عن الله، أو لسماعهم ذلك

التبليغ بطريقة غير صحيحة، ستتاح لهم فرصة أخرى لالمتحان حتى ينالوا جزاءهم

الخاص به.. ذلك أن الجزاء ال يكون إال على االختيارات التي تبرزها األعمال.

كله سنتحدث في هذا الفصل عما ورد في النصوص المقدسة من بناء على هذا

أنواع الجزاء، وعالقتها بالرحمة والعدالة اإللهية، وغيرها من الصفات واألسماء.

وقد رأينا أنه يمكن تصنيفها إلى صنفين:

ـ الجزاء المعنوي أو الروحي، ونريد به ما ورد في النصوص المقدسة من ذكر 1

عادة والتواصل مع الله، والتي تتاح ألهل الجنة، وما ورد فيها من الرضى والفرح والس

عكس ذلك من العقوبات التي يعاقب بها أهل النار.

ـ الجزاء الحسي: ونريد به أصناف النعيم والعذاب المعد في اآلخرة للمحسنين 2

أو المسيئين بحسب مراتبهم.

أو تشكك خصوصا فيوقبل أن نذكر ذلك نخاطب العقول التي تشكك في ذلك،

العقاب اإللهي بأن تنظر إلى الواقع بعين واقعية ال مثالية لترى كال الجزائين موجودين في

هذه الدار، ولذلك ال يستغرب أن يوجد في تلك الدار ما يوجد في هذه الدار.

أما التفكير الرغبوي، والذي يملي فيه العبد على ربه ما يشاء من أهواء، أو يقترح

يشاء من جزاء، فإن هذا النوع من التفكير، وإن أعجب أهل الدنيا، وصفقوا عليه ما

424

لصاحبه، فإنه ال يبدل شيئا من الحقيقة، وهو في أحسن أحواله يشبه تلك األماني التي

يمني بها المجرمون أنفسهم من تخفيف العقوبة أو رفعها، حتى يستطيعوا أن يمارسوا

جرائمهم براحة بال.

رئ أيطمع كل ام ﴿ه تعالى على أصحاب هذا النوع من التفكير بقوله: ولهذا يرد الل

ا يعلمون 34منهم أن يدخل جنة نعيم ) ا خلقناهم مم [31، 34]المعارج: ﴾( كال إن

يس ل ﴿ويذكر لهم القانون المتعلق بذلك، والذي يسري على كل األمم، فيقول:

ه ول ا يجز به وال يجد له من دون الل يا وال بأمانيكم وال أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا

ا ) الحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون 123نصيرا ( ومن يعمل من الص

ا الج [124، 123]النساء: ﴾نة وال يظلمون نقيرا

ا ﴿ويذكر نموذجا لهم، فيقول: ذي كفر بآياتنا وقال ألوتين ماالا وولدا أفرأيت ال

ا )33) حمن عهدا خذ عند الر لع الغيب أم ات ول ونمد له من ( كال سنكتب ما يق 34( أط

ا ) ا 31العذاب مد [40 - 33]مريم: ﴾( ونرثه ما يقول ويأتينا فردا

وقد ورد في الحديث ذكر هذا النموذج، والطريقة التي يفكر بها، وهي ال تختلف

ألزمنة، اكثيرا عن أصحاب التفكير الرغبوي الذي أشرنا إليه، والذين ينتشرون في كل

عن خباب بن األرت قال: كنت رجال قينا، وكان ويلبسون لكل زمان لباسه الخاص به، ف

لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه. فقال: ال والله ال أقضيك حتى تكفر بمحمد

فقلت: ال والله ال أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت

.(1)مال وولد، فأعطيتك جئتني ولي ثم

المعنوي.. وتجليات العدالة والرحمة:الجزاء أوال ـ

(2312( ورواه مسلم برقم )4332، 4334( ، )2011رواه البخاري رقم ) (1)

421

يتوهم الكثير ممن يسمع الخطباء والوعاظ وحديثهم عن أنواع الجزاء اإللهي

المعد للمحسنين والمسيئين في دار الجزاء، أنه مجرد جزاء حسي قد ينسجم مع الرغبات

ينسجم مع الفالسفة والمفكرين والعلماء الحسية لعوام الناس وبسطائهم، لكنه ال

والصوفية وغيرهم من أصحاب المشارب العقلية أو العلمية أو الروحية.

وهذا غير صحيح، ذلك أن الذي وفر هذه المعاني في الدنيا، ووفر معها الرغبات

الداعية إليها، هو نفسه الذي خلق اآلخرة، واعتبرها دار الجزاء اإللهي الذي ينسجم مع

الفطر والطبائع المختلفة.

ولذلك نرى القرآن الكريم يذكر هذه الناحية من الجزاء، بل يقدمها في أحيان كثيرة

على الجزاء الحسي، باعتبار أن السعادة أو الشقاء المرتبط بهما أعظم من السعادة أو

الشقاء المرتبط بالجزاء الحسي.

م يذكر لالساجدين بكل كيانهم له، ولهذا عندما ذكر الله المقربين العارفين بربهم

ما يؤمن بآياتنا ا ﴿ :قالالتفاصيل الكثيرة المرتبطة بالجزاء الخاص بهم، وإنما ذين إذا إن ل

هم وهم ال يستكبرون ) ا وسبحوا بحمد رب دا وا سج روا بها خر ن ( تتجافى جنوبهم ع 12ذك

ا رزقناهم ينفقون ا ومم ا وطمعا هم خوفا ، وهذا [13، 12]السجدة: ﴾المضاجع يدعون رب

يدل على توجههم الروحي العظيم لله، ولهذا كان جزاؤهم متناسبا مع ذلك التوجه، كما

﴾ة أعين جزاءا بما كانوا يعملون فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قر ﴿قال تعالى:

[13]السجدة:

وهذا يعني أنه يتاح لهؤالء في الجنة التجول في عوالم الملكوت المختلفة،

والتعرف على أسرار خلق الله البديع، للمزيد من اإليمان والطمأنينة والمعرفة بالله، ذلك

ه أن يتيحها لهم في الدار اآلخرة، بل هو من أن الذي أتاح هذا ألنبيائه في الدنيا، يمكن

أعظم جزائهم.

430

وكذلك ﴿وقد ذكر الله تعالى أنه أتاح هذا الجزاء إلبراهيم عليه السالم، فقال:

ماوات واألرض وليكون من الموقنين ، وذكر [32]األنعام: ﴾نري إبراهيم ملكوت الس

وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال ﴿إحياء الموتى، فقال: كيف أراه كيفية

ير فصرهن إليك ثم اجعل أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعةا من الط

ه عزيز حكيم على كل جبل منهن ا ثم ادعهن يأتينك سعياا واعلم أن الل ]البقرة: ﴾جزءا

230]

من هذا النوع، حيث كشف وهكذا كانت رحلة اإلسراء والمعراج لرسول الله

حقائق من عوالم الغيب، لم يكن ليعرفها لوال تلك الرحلة، الله تعالى فيها لرسوله

ه الكبرى﴿ى: قال تعال [14]النجم: ﴾لقد رأى من آيات رب

ولهذا، فإن أولئك العلماء أو الفالسفة الذين لم يحجبوا بنفوسهم في الدنيا،

سيستمر بحثهم وعطاؤهم في اآلخرة، بأفضل مما كان عليه، وسيتاح لهم من المخابر

دينا.. بل يمكنهم أن يمتطوا ما ومراكز األبحاث ما لم يتمكنوا من الحصول عليه في ال

شاءوا من المراكب الفضائية للرحلة ألي محل يريدونه، حتى لو كان إلى جهنم نفسها

للتعرف على أحوال أهلها.

وسنذكر هنا مشهدا قرآنيا يصف المقربين من عباد الله، وما أتيح لهم من الجزاء،

عنوي.لنرى كيف يمزج القرآن الكريم بين النعيمين الحسي والم

؛وقد بدأ هذا المشهد بذكر النعيم الحسي، الذي يوفر الفرصة للنعيم المعنوي

، قال كان عطاؤه أكبرالمادية فالمفكر أو الباحث أو الفيلسوف كلما أتيحت له اإلمكانات

ه المخلص 31وما تجزون إال ما كنتم تعملون ) ﴿تعالى: ( أولئك لهم 40ين )( إال عباد الل

( على سرر متقابلين 43( في جنات النعيم )42( فواكه وهم مكرمون )41رزق معلوم )

اربين )42( يطاف عليهم بكأس من معين )44) ة للش ( ال فيها غول وال هم 43( بيضاء لذ

431

﴾(41( كأنهن بيض مكنون )44( وعندهم قاصرات الطرف عين )43عنها ينزفون )

[41 - 31]الصافات:

وبعد أن رسم القرآن الكريم صورة لتلك البيئة التي يعيشها هؤالء المخلصين، ذكر

بعضهم فأقبل ﴿لحسي، فقال: النعيم المعنوي الذي يهتمون له أكثر من اهتمامهم للنعيم ا

، وهذا يعني أو يشير إلى أن هناك مجالس علمية [20]الصافات: ﴾على بعض يتساءلون

وبحثية كثيرة تعقد هناك، يسأل بعضهم بعضا فيها، ويستفيد بعضهم من بعض.

ثم ذكر كلمة ألقيت في بعض تلك المجالس أو المؤتمرات، ذكر فيها صاحبها

يقول أإنك ﴿( 21قال قائل منهم إني كان لي قرين ) ﴿شبهات المنكرين للمعاد، فقال:

قين ) ا لمدينون 22لمن المصد ا أإن ا وعظاما [23 -21]الصافات: ﴾( أإذا متنا وكنا ترابا

ام برحلة خاصة لرؤية ذلك القرين، ثم ذكر كيف أتيح لهم في ذلك المجلس القي

24قال هل أنتم مطلعون ) ﴿والنتيجة التي وصل إليها، قال تعالى: لع فرآه في سواء ( فاط

ه إن كدت لتردين )22الجحيم ) ( ولوال نعمة ربي لكنت من المحضرين 23( قال تالل

[24 - 24]الصافات: ﴾( 23)

فظاهر اآليات الكريمة يشير إلى كل تلك المعاني، ولكن القرآن الكريم مراعاة

للبيئات المختلفة ورد بصيغة بحيث يفهمها كل عصر، أو كل بيئة بحسب ما تعيشه.

وقد يكون ما ذكرناه اآلن بدائيا أو بسيطا جدا أمام الحقيقة، وهو كذلك.. ذلك أن

في تفسير قوله تعالى: قوله القدسي ال يمكن وصفه، كما ورد في الحديث نعيم هؤالء

ة أعين جزاءا بما كانوا يعملون ﴿ :[13]السجدة: ﴾فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قر

ر قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما ال عين رأت، وال أذن سمعت، وال خط)

432

(1) على قلب بشر(

من يدخل الجنة ينعم ال يبأس، ال تبلى ثيابه، وال يفنى ):قال في حـديث آخر و

(2) شبابه، في الجنة ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر(

ولهـذا؛ فـإن كـل تلك المراتب التي نراها في الدنيا من العلماء والحكماء والعامة

وغيرهم، ســـتكون هنـاك في اآلخرة، ولكن بصـــورة أكثر عـدالة وجماال، ألن المراتب

هنـاك مراتب حقيقية، وليس مثل الدنيا، يدعيها من قد ال يكون أهال لها، كما قال تعالى:

لنا ﴿ ]اإلسراء: ﴾بعضهم على بعض ولآلخرة أكبر درجات وأكبر تفضيالا انظر كيف فض

21]

ن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، إ): وفي الحديث قال رسول الله

. "كمـا تراءون الكوكـب الـدري الغـارب في األفق الطـالع، في تفـاضـــل أهل الدرجات

له بلى، والذي نفســي بيده، وأقوام آمنوا بال)فقالوا: يا رســول الله، أولئك النبيون؟ فقال:

(3) (وصدقوا الرسل

العلم والبحث وغيرها، يمكنها أن وبذلك؛ فإن كل ما نراه في الدنيا من مجالس

تكون هناك في اآلخرة، كجزاء خاص بالراغبين في ذلك؛ وربما يصير أكثر أهل الجنة من

الراغبين في ذلك بعد أن تتاح لهم كل أصناف النعيم الحسي التي كان الشوق إليها يحول

بينهم وبين الفكر والبحث.

وبهذا يتبين لنا مدى الزور الذي تحمله تلك األفكار التي نشرها بعض من يدعون

]أحمد القبانجي[، ذلك الذي يرتدي كذبا وزورا عمامة علماء الشيعة، التنوير من أمثال

(.4340رواه البخاري رقم ) (1)

(2433رواه مسلم رقم ) (2)

(.2223(، والترمذي برقم )2/331رواه أحمد ) (3)

433

مع كونه ال ينتسب ال للشيعة، وال للسنة، بل هو معول لحرب كليهما، بل حرب اإلسالم

نفسه.

فهو ـ نتيجة الجهل المركب بحقائق العالم اآلخر الواردة في النصوص المقدسة ـ

للجنة بقوله: )أما الجنة، فليس فيها سوى إشباع للغرائز الحيوانية راح يعبر عن احتقاره

من أكل وشرب ونكاح، وليس فيها أي إشباع للغرائز االنسانية كاإلبداع واإليثار والكرم

(1)(..لوم وتعليم العلم وحب الرئاسة ووووالشجاعة ونصرة المظ

ولست أدري كيف عرف ذلك، وهل زار الجنة حتى يحكم عليها، وهل أحاط

بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الجنة، وكونها دار الضيافة اإللهية التي تتحقق فيها

كل الرغبات المشروعة، ويتحقق معها كل أنواع السمو الروحي واألخالقي، حيث يعيش

أهل الجنة الحضارة الراقية والذوق الرفيع واألدب الجم، حيث ال لغو هناك وال تأثيم.

لكنه ـ بسبب العشى الذي أحاط ببصيرته ـ لم يعرف الجنة إال من خالل ذلك

الوعظ البارد الذي يستعمله بعض عوام الوعاظ والدعاة بعيدا عن الحقائق التي وردت

أن الجنة مجرد دار للمتع الجسدية وحدها.في النصوص المقدسة، ولذلك توهم

وهكذا بالنسبة للعقاب الذي يتعرض له المسيئون، فهو ـ مع كونه عقابا إلهيا عادال

ـ إال أنه ال يخلو من أمثال تلك المجالس التي يراجع فيها أولئك الذين استحقوا العقاب

خفف عنهم العذاب، أوما فعلوه، ليكون ـ للمستعدين للصالح منهم ـ دروسا مفيدة قد ت

قد تخرجهم منه.

فالنار ـ كما ورد في النصوص المقدسة ـ وكما سنرى الحقا، هي دار إلعادة التربية

واإلصالح، وليست للتشفي واالنتقام، فالله تعالى برحمته الواسعة، وبكماله المطلق

..12:11 - 12/ 2/ 2014 - 4333العدد: -القبانجي، الحوار المتمدنانظر: الجنة والنار، أحمد (1)

434

يتعالى عن التشفي واالنتقام.

بعض ما ورد منها نوعا من الدروس ولهذا كانت العقوبات المعنوية التي سنذكر

التي تحاول أن تخرج ما في قلوب أولئك الجهلة من ضالل وانحراف، ليبقى مصيرهم

مرهونا بذلك.

بناء على هذه المقدمات، نحاول في هذا المبحث ذكر ما ورد في النصوص

الل خ المقدسة من أنواع الجزاء المعنوي المرتبط بالمحسنين والمسيئين، وقد رأينا ـ من

االستقراء ـ إمكانية تقسيمه إلى أربعة أنواع، سنشرحها في العناوين التالية.

ـ الفرح والحزن: 1

التي يجازي الله تعالى بها عباده المحسنين المعنويمن أهم أنواع الجزاء

والمسيئين مشاعر الفرح والحزن، التي قد تكون بأسباب ظاهرة معروفة، وقد تكون من

دون أسباب.. ذلك أن الله تعالى كما خلق النعم الحسية، خلق النعم المعنوية، وجعل

لها استقالال بذاتها.

أرغد عيش، ولهذا نسمع عن ولهذا قد يحزن الشخص ويتألم مع كونه يعيش

حاالت االكتئاب الشديد، بل االنتحار المصاحب له، من ناس ممتلئين بالرفاه، وكل

ألوان النعيم، في نفس الوقت الذي نرى فيه البسطاء يمرون باألزمات الصعبة، ومع ذلك

نراهم يتحملون، بل نجدهم أحيانا كثيرة يضحكون منشغلين عنها بما أودع الله في

هم من الفرح الذي ال سبب له.قلوب

ه هو أضحك ﴿وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: وأن

، أي أن الله تعالى هو مسبب هذين االنفعالين وخالقهما، [43]النجم: ﴾وأبكى

ومرسلهما لمن شاء من خلقه.

ا ومن أعرض عن ﴿وأشار إليه كذلك قوله تعالى: ﴾ذكري فإن له معيشةا ضنكا

432

، فضنك العيش ال يعني ضيقه الحسي، وإنما يعني الضيق المعنوي، واآلالم [124]طه:

النفسية المصاحبة له.

وبناء على هذا؛ فإن الله تعالى صاحب خزائن الفرح والحزن، ينزل في دار الجزاء

مالهم ومواقفهم التي وقفوها في الدنيا.. على عباده من الفرح والحزن بما يتناسب مع أع

أما الفرح؛ فينزله على أولئك الذين لم يستفزهم الفرح في الدنيا، ويرمي بهم إلى

البطر والكبر والغرور؛ فلم يستعلوا به على عباد الله، ولم يقعوا فيما وقع فيه المسيئون

ا ﴿من الفرح الباطل، كما وصفهم الله تعالى بقوله: حوا جاءتهم رسلهم بالبينات فر فلم

ا نسوا ﴿، وقال: [43]غافر: ﴾بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلم

حتى إذا فرحوا بما روا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء أوتوا أخذناهم بغتةا فإذا هم ما ذك

إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من ﴿، وقال: [44]األنعام: ﴾مبلسون

ة إذ قال له قومه ه ال يحب الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القو ال تفرح إن الل

نيا وأحسن كما 33الفرحين ) ار اآلخرة وال تنس نصيبك من الد ه الد ( وابتغ فيما آتاك الل

ه ال يحب ه إليك وال تبغ الفساد في األرض إن الل ، 33: ]القصص ﴾المفسدين أحسن الل

33]

وإنما كان فرحهم بالله وبفضل الله، ومصحوبا بالتواضع لعباد الله، والتألم

ا ﴿آلالمهم، كما قال تعالى: ه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مم قل بفضل الل

[24]يونس: ﴾يجمعون

الممتلئون باألدب، والذين قاسوا ألوان اآلالم في الدنيا، فهؤالء المتواضعون

يجازيهم الله تعالى بأن يمأل قلوبهم بكل أنواع الفرح الذي ال ينغص وال يكدر بأي كدر،

م وآالمهم التي عانوها في الدنيا، كما قال تعالى حاكيا عنهم: والذي ينسيهم كل همومه

ذي أ ﴿ ه ال نا لغفور شكور )وقالوا الحمد لل نا دار 34ذهب عنا الحزن إن رب ذي أحل ( ال

433

نا فيها لغوب نا فيها نصب وال يمس [32، 34]فاطر: ﴾المقامة من فضله ال يمس

ه شر ذلك ﴿ووصف النعيم الذي خصهم به، فقال: اهم نضرةا فوقاهم الل اليوم ولق

ا [11]اإلنسان: ﴾وسرورا

ؤتى بأنعم أهل الدنيا : )يوقد ورد في الحديث اإلشارة إلى هذا المعنى في قوله

من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراا قط؟

والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساا في الدنيا، من أهل هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: ال،

الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساا قط؟ هل مر بك شدة

(1)(قط؟ فيقول: ال، والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، وال رأيت شدةا قط

المؤمنين الصادقين يبدأ بعدوقد ذكر القرآن الكريم أن الفرح الذي يجازي الله به

وال ﴿الموت مباشرة، ويظل مصاحبا لهم في كل المواقف كما قال تعالى عن الشهداء:

هم يرزقون ) ا بل أحياء عند رب ه أمواتا ذين قتلوا في سبيل الل ( فرحين بما 131تحسبن ال

ه من ف ذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أال خوف عليهم وال آتاهم الل ضله ويستبشرون بال

ه ال يضيع أجر المؤمنين 130هم يحزنون ) ه وفضل وأن الل ﴾( يستبشرون بنعمة من الل

[131 - 131]آل عمران:

ن للمحسنيا جزاء متوافق مع اسم الله تعالى ]الشكور[، وهو يعني شكر الله وهذ

عباده، فالشهداء الذين ذاقت أجسادهم ألوان اآلالم، وضحوا بأنفسهم في سبيل الله، من

يجازيهم الله تعالى بذلك الفرح ليعوض عن جميع أحزانهم وآالمهم.

وقف منتصرا لرسل الله، وهكذا أخبر الله تعالى عن ذلك الرجل الصالح الذي

قيل ادخل الجنة قال ياليت ﴿فقد قال الله تعالى عنه بعد أن نفذ فيه المجرمون أحكامهم:

(4/132رواه مسلم ) (1)

433

[23، 23]يس: ﴾( بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين 23قومي يعلمون )

فته بيمينه، فيصيح من فرحه الشديد وهكذا أخبر عن ذلك المؤمن الذي ينال صحي

]الحاقة: ﴾( إني ظننت أني مالق حسابيه 11هاؤم اقرءوا كتابيه )﴿في أهل الموقف:

11 ،20]

أما المسيئون والمجرمون؛ فإنهم يذوقون في كل لحظة من اآلالم النفسية

عتو والبطر والكبرياء التي كانوا والغصص والكدر واالكتئاب ما يتناسب مع ذلك ال

ا﴿يعيشونها في الدنيا، كما قال تعالى عن ذلك الذي ينال صحيفته بشماله: من أوتي وأم

( ياليتها كانت 23( ولم أدر ما حسابيه )22كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه )

[30 - 22]الحاقة: ﴾( 21( هلك عني سلطانيه )24( ما أغنى عني ماليه )23ضية )القا

وتكون مراتبهم في ذلك بحسب جرائمهم؛ أما أولئك الذين أذاقوا المستضعفين

كل ألوان اآلالم، فتسببوا في قتلهم وتشريدهم وإيذائهم، فإن كل تلك الغصص التي

تحول إليهم أضعافا مضاعفة.أصابوهم بها ت

وكما أن الفرح والحزن في الدنيا يتجدد بأسباب مختلفة، فقد ورد في النصوص

ما يشير إلى ذلك التجدد في دار الجزاء، حيث يحدث الله تعالى في كال الدارين ما يتسبب

إذا دخل : )في الفرح أو الحزن، ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الحديث من قوله

ل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة أه

عم هذا ويقولون: ن، فينظرون ،فيشرئبون. والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟.

فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا . يقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟... فالموت

يقال: يا أهل الجنة، خلود وال موت، ويا أهل النار خلود وال ، وفيذبح ،فيؤمر به ..الموت

وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي األمر وهم في غفلة وهم ﴿: ثم قرأ رسول الله ، موت

434

(1)(أهل الدنيا في غفلة الدنيا)قال: ، وبيده أشار ، ثم [31]مريم: ﴾ال يؤمنون

فرح أهل الجنة، وحزن أهل النار، فقال: وفي رواية أخرى وصف رسول الله

ثم ينادى: يا أهل الجنة، هو الخلود أبد اآلبدين، ويا أهل النار، هو الخلود أبد اآلبدين، )

فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان

(2)(اأحد ميتا من شهقة ماتو

وفي رواية: )إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى

يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة ال موت ويا أهل النار ال موت،

(3)فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم(

لى أن القصد من هذا المشهد هو توفير المزيد من السرور وهذه الرواية تدل ع

للمحسنين، والمزيد من الحزن للمتألمين، وهو ما حصل بالفعل.. ولذلك ال معنى لكل

تلك المناقشات التي وقعت في كتب المتكلمين وغيرهم من الحديث عن الموت، وهل

يمكن أن يصير كبشا ونحو ذلك؟

لمشهد من مشاهد اآلخرة رادا على رض من هذا امعبرا عن الغ الغزاليوقد قال

ر اآلخرة قد يرد في أم) المعترضين عليه، وخصوصا أولئك الذين يتهمون النبوة بسببه:

: ضرب أمثلة يكذب بها الملحد، بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده كقوله

ويكذب، لحد األحمقفيثور الم (،يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح)

م، الكبش جسو يقول: يا سبحان الله، الموت عرض،و ويستدل به على كذب األنبياء

لكن الله تعالى عزل هؤالء الحمقى و هل هذا إال محال!و فكيف ينقلب العرض جسما

(. 2441( ومسلم ) 4423رواه البخاري ) (1)

(234/ 2رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، تفسير ابن كثير ) (2)

(. 2420( ومسلم ) 3142رواه البخاري ) (3)

431

ال يدرى المسكين أن من قال: رأيت في منامي أنه جي ء بكبش،و ..عن معرفة أسراره

هذا و األمر كما رأيت،و ذبح، فقال المعبر: صدقت،و الوباء الذي في البلد،قيل هذا هو و

ال يعود قط، ألن المذبوح وقع اليأس منه، فإذن المعبر و يدل على أن هذا الوباء ينقطع

ترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا،و هو صادق في رؤيته.و صادق في تصديقه،

لى ما في اللوح المحفوظ، عرفه بما في اللوح هو الذي يطلع األرواح عند النوم عو

معناه كانو المحفوظ بمثال ضربه له ألن النائم إنما يحتمل المثال، فكان مثاله صادقا،

هي باإلضافة إلى اآلخرة نوم، و فالرسل أيضا إنما يكلمون الناس في الدنيا، ؛صحيحا

دراك ما تيسيرا إلو فا بعباده،لطو فيوصلون المعاني إلى أفهامهم باألمثلة، حكمة من الله،

، (يؤتى بالموت في صورة كبش أملح) :فقوله، يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل

ر قد جبلت القلوب على التأثو مثال ضربه ليوصل إلى األفهام حصول اليأس من الموت،

(1)(ثبوت المعاني فيها بواسطتهاو باألمثلة،

، بل نرى إمكانية وقوع هذا مثل نه مجردوما ذكره الغزالي صحيح، ولكنا ال نرى أ

المشهد في اآلخرة، ليكون تمثيال رمزيا يمأل المحسنين سعادة، ويمأل المسيئين حزنا،

مثلما نشاهد في الدنيا عند إقامة المناسبة المختلفة من إقامة بعض الطقوس التي تعبر عن

المناسبات بصيغ مختلفة.

ـ الرضى والسخط: 2

المعنوي التي يجازي الله تعالى بها عباده في دار الجزاء، سواء من أنواع الجزاء

كانوا من المحسنين أو المسيئين مشاعر الرضى وما يتبعها من الطمأنينه والسالم،

ومشاعر السخط، وما يتبعها من الحسرة واألسف واالضطراب، وكل أنواع الصراع

(23/ 4إحياء علوم الدين ) (1)

440

النفسي.

وهذا الجزاء متوافق تماما مع أنواع األعمال والملكات التي ترسخت في نفوس

كال الصنفين، ولذلك كان جزاؤهما متوافقا تماما مع تلك الملكات واألعمال، وقد ورد

إن عظم الجزاء مع عظم البالء، وإن الله : )في الحديث ما يشير إلى هذا، فقد قال

(1)(رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط تعالى إذا أحب قوما ابتالهم، فمن

ولذلك فإن كل ما نراه من ألوان البالء، مما يتوهم البعض أنه شر، هو في الحقيقة

بالء إلهي القصد منه تمحيص الصادقين من غيرهم، كما ضرب بعض المشايخ المثل

: من قد جمع بين يديه حجارة، فقالكان وعلى ذلك لمريديه، عندما زاروه في مرضه،

م ادعيتم ما بالك)فقال: ،فتهاربوا ؛أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة

(فاصبروا على بالئي ؛إن صدقتم ،محبتي

أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ﴿وهذا المعنى هو ما يدل عليه قوله تعالى:

، فقد أخبر تعالى أن من مقتضيات ادعاء اإليمان االبتالء (2)العنكبوت: ﴾وهم ال يفتنون

حتى يعلم الصادق من الكاذب، ومن يؤثر الله، ومن يؤثر هواه.

ولهذا يقترن الجزاء اإللهي بالرضى، باعتباره أكبر دليل على صدق اإليمان، قال

الم ﴿تعالى: بع رضوانه سبل الس ه من ات لمات إلى النور يهدي به الل ويخرجهم من الظ

ه هذا يوم ينفع ﴿، وقال: [13]المائدة: ﴾بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم قال الل

ادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها ه عنهم الص ا رضي الل أبدا

[111]المائدة: ﴾ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم

ه كم ﴿ويبين سر الفرق بين أهل الجنة وأهل النار، فيقول: بع رضوان الل ن أفمن ات

وقال حديث حسن غريب. 3114رواه الترمذي رقم (1)

441

ه ومأواه جهنم وبئس المصير [132]آل عمران: ﴾باء بسخط من الل

ولهذا ورد الثناء العظيم في القرآن الكريم على أهل الرضى، أولئك الذين تحملوا

كل التكاليف الشرعية من غير أن يصرفهم ثقلها أو مشاقها عن ربهم أو عبوديتهم

ه وفضل لم يمسسهم س ﴿ومحبتهم له، قال تعالى: ب فانقلبوا بنعمة من الل عوا رضوان وء وات

ه ذو فضل عظيم ه والل لون من ﴿، وقال: [134]آل عمران: ﴾الل ابقون األو والس

ه عنهم ورضوا عنه وأعد لهم بعوهم بإحسان رضي الل ذين ات المهاجرين واألنصار وال

ا ذلك الفوز العظيم جن وقال: ،[100]التوبة: ﴾ات تجري تحتها األنهار خالدين فيها أبدا

ه ورضوانا ﴿ ذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضالا من الل المهاجرين الا لفقراء

ادقون وينصرون ا ه ورسوله أولئك هم الص ذين آمنوا ﴿، وقال: [4]الحشر: ﴾لل إن ال

ة ) الحات أولئك هم خير البري هم جنات عدن تجري من 3وعملوا الص ( جزاؤهم عند رب

ه تحتها األنهار خالدين فيها ه عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي رب ا رضي الل بينة: ]ال ﴾أبدا

3 ،4]

وفي مقابل هؤالء ذكر الله تعالى الساخطين على الله الذين صرفوا حياتهم كلها

يومنهم من يلمزك ف ﴿يناوئونه، ويقترحون عليه ما تمليه عليهم أهواؤهم، قال تعالى:

دقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) هم رضوا 24الص ( ولو أن

ا إلى الل ه من فضله ورسوله إن ه سيؤتينا الل ه ورسوله وقالوا حسبنا الل راغبون ه ما آتاهم الل

[21، 24]التوبة: ﴾

وعلل أنواع الجزاء التي تنزل بهم بكونها تجسيدا لذلك السخط الذي كانوا يبدونه

ه وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ﴿لله، قال تعالى: بعوا ما أسخط الل هم ات ﴾ذلك بأن

[24]محمد:

وفاق لكال الطرفين هو أن يعطى بحسب أعماله ومواقفه ولهذا، فإن الجزاء ال

442

ونفسه التي شكلها في الدنيا.. فإن كان من الراضين، أعطى الرضى، وإن كان من

ه ثم قتلوا أو ﴿الساخطين لم يلق إال السخط، قال تعالى: ذين هاجروا في سبيل الل وال

ه ازقين )ماتوا ليرزقنهم الل ه لهو خير الر ا حسناا وإن الل ( ليدخلنهم مدخالا يرضونه 24رزقا

ه لعليم حليم ( لسعيها راضية 4وجوه يومئذ ناعمة )﴿، وقال: [21، 24]الحج: ﴾وإن الل

[11 - 4]الغاشية: ﴾سمع فيها الغيةا ( ال ت 10( في جنة عالية )1)

ولهذا قرن الله تعالى كل ما يرتبط بالمحسنين بالرضى، باعتباره نتيجة لذلك

الرضى الذي مارسوه في حياتهم الدنيا مع الله، أو مع رسله، أو مع التعاليم التي طولبوا

بتنفيذها.

التي تتجلى في دار الجزاء، بناء على هذا نذكر هنا بعض مظاهر الرضوان والسخط

وذلك من خالل العنوانين التاليين:

أ ـ الرضوان ومظاهره:

يبدأ هذا النوع من الجزاء اإللهي في اللحظة التي تحصل فيها الوفاة، حيث يقول

تها النفس المطمئنة ) ﴿المالئكة مخاطبين المحسنين: راضيةا ( ارجعي إلى ربك 23ياأي

[30 - 23]الفجر: ﴾( وادخلي جنتي21( فادخلي في عبادي )24مرضيةا )

ثم تتوالى عليهم البشائر بعد ذلك، تبشرهم بأنهم لن يجدوا في رحلتهم ما بعد

هم برحمة منه ورضوان وجن ﴿الموت سوى الرضوان، قال تعالى: رهم رب ها ات لهم فييبش

ه عنده أجر عظيم )21نعيم مقيم ) ا إن الل [22، 21]التوبة: ﴾( خالدين فيها أبدا

ولهذا نرى القرآن الكريم يصف تلك العيشة الجديدة التي يعيشها الراضون عن

ا من ثقلت م ﴿الله بكونها عيشة راضية، قال تعالى: ( فهو في عيشة راضية 3وازينه )فأم

ا من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ) ﴿، وقال: [3، 3]القارعة: ﴾ ( 11فأم

[21 - 11]الحاقة: ﴾( فهو في عيشة راضية 20إني ظننت أني مالق حسابيه )

443

وفوق تلك العيشة ينعم أولئك الراضون عن الله برضوان الله، وهو أعظم أنواع

قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين ﴿الجزاء، بل هو أعظم من الجنة نفسها، قال تعالى:

هم جنات تجري من تحتها األنهار خالدين قوا عند رب رة ورضوان من ات فيها وأزواج مطه

ه بصير بالعباد ه والل [12]آل عمران: ﴾الل

ه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من ﴿، فقال: لك أيضاذوأشار إلى وعد الل

ه أكبر ذلك هو تحتها األنهار خالدين فيها ومساكن طيبةا في جنات عدن ورضوان من الل

[32]التوبة: ﴾الفوز العظيم

يذكر الله تعالى فيه لعباده من أهل ةعن مشهد من مشاهد اآلخر وقد أخبر

ألهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: إن الله عز وجل يقولالجنة رضاه عنهم، فيقول: )

لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا ال نرضى يا

وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أال أعطيكم أفضل من ذلك؟ ،ربنا

فيقولون: وأي شيء أفضل؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فال أسخط عليكم بعده

(1)(أبدا

وهذا الرضوان اإللهي ال يمكن تصوره، وال تصور مقتضياته، ذلك أنه ال يتعلق

فقط بالنعيم، وإنما يتعلق بالعالقة بالله، ومن وثق صلته بالله، لم يحتج إلى شيء، فالله

. وماذا فقد .)إلهي ماذا وجد من فقدكعنده كل شيء، أو كما ورد في الدعاء المعروف:

من وجدك(

اسبة الحديث عن الرضوان، يطرح بعض المشاغبين الذين ـ بدل أن ينشغلوا وبمن

بالعمل الصالح الموصل للجنة ـ راحوا يشنعون على ما فيها من نعيم، ويذكرون أن الملل

(.2421، ومسلم رقم ) 334و 333/ 11رواه البخاري (1)

444

سيصيب أصحاب الجنة ال محالة، وهم يقولون ذلك بناء على ذلك التثاقل الشديد الذي

ا الجنة، ويرون أنه ال يمكن لله تعالى أن يخلق دارا يربطهم بالدنيا، حتى صاروا يرون أنه

أجمل، وال أكمل منها.

وربما يكون مصدر هذه الشبهة هو ذلك التعلق والهيام باالنحراف أو المنحرفين،

ولذلك يتوهمون أنهم في الجنة لن يجدوا الفرصة للقيام بكل تلك االنحرافات التي كانوا

يعجبون بها في الدنيا..

يكون مصدر هذه الشبهة ذلك الحب للصراع وما يرتبط به.. وقد ذكر الله أو ربما

تعالى أن الجنة ليس فيها شيء من الصراع، ألن كل من فيها طيبون ومتشاكلون

ا ) ﴿ومتجانسون؛ فهم ا وال تأثيما ا 22ال يسمعون فيها لغوا ا سالما ﴾( إال قيالا سالما

[23، 22]الواقعة:

ومهما كان مصدر هذه الشبهة، فهو مرتبط بهذه النشأة، وبتلك النفس التي أملت

تلك الشبهة، أما في النشأة األخرى، وبعد التطهيرات الكثيرة التي تمر بها النفس ابتداء

من عالم البرزخ؛ فإنها ستؤهل لتلك الحياة الجديدة، التي ال تحب إال السالم، وتكره كل

أصناف اللغو.

ك نرى في الدنيا الشاب في مرحلة المراهقة يحن لكل أصناف الصخب، ولذل

لكن العمر إن امتد به، ومر بالتجارب الكثيرة، تجده أكثر ميالنا إلى الهدوء والسالم،

وربما يختار بيتا ريفيا يقضي فيه باقي عمره حرصا على الحياة الهادئة.

تلك التصورات البسيطة التي باإلضافة إلى هذا، فإن أوهامنا عن الجنة ناشئة من

نتصورها بها، وهي أن يكون لساكنها قصر أو مجموعة قصور، يعيش في وسطها، دون

أن يتحرك أي حركة، أو تكون له أي عالقة، أو يسمع بأي أحداث، واألمر مختلف تماما..

فالجنة فيها كل ذلك.

442

ون أهلها، وال يبغولهذا يصف الله تعالى الجنة بكونها دار الرضوان التي يعشقها

الحات كانت لهم جنات ﴿عنها أي بديل، قال تعالى: ذين آمنوا وعملوا الص إن ال

[104، 103]الكهف: ﴾( خالدين فيها ال يبغون عنها حوالا 103الفردوس نزالا )

ت في الدنيا، والتي يترقى فيها ونحسب ـ والله أعلم ـ أن تلك الحركة التي كان

اإلنسان من مرتبة إلى مرتبة، ستظل هناك أيضا، ألنها من مقتضيات ربوبية الله لعباده،

ولذلك قد يترقى أهل الجنة بحسب مواقفهم وسلوكاتهم واالختبارات التي يتعرضون

.لم والملألها، فينزلون مراتب أعلى من المراتب التي كانوا فيها، وكل ذلك مما ينفي الس

إن في الجنة لسوقا ما إلى بعض هذه المعاني في قوله: ) وقد أشار رسول الله

(1)(فيها شراء وال بيع إال الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها

إن ألهل الجنة سوقا، يأتونها كل جمعة، فيها كثبان المسك، فإذا وفي رواية: )

فتمأل وجوههم وثيابهم وبيوتهم مسكا، فيزدادون حسنا ؛ الريحخرجوا إليها هبت

وجماال، قال: فيأتون أهليهم فيقولون: لقد ازددتم بعدنا حسنا وجماال، ويقولون لهن:

(2)(وأنتم قد ازددتم بعدنا حسنا وجماال

ولذلك فإن نعيم الجنة متجدد، وال نهاية لتجدده، ذلك أن قدرة الله المطلقة،

عظيم ال نهاية له، ولذلك يعيش أهل الجنة في كل لحظة سعادة جديدة، وكيف وإبداعه ال

ال يشعرون بذلك، وهم دائمو التواصل مع الله.

الحات أن لهم ﴿ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ذين آمنوا وعملوا الص ر ال وبش

ذي رزقنا من جنات تجري من تحتها األنهار ا قالوا هذا ال ما رزقوا منها من ثمرة رزقا كل

رة وهم فيها خالدون ا ولهم فيها أزواج مطه [22]البقرة: ﴾قبل وأتوا به متشابها

(2223الترمذي رقم ) (1)

(.3244) 4/142رواه مسلم (2)

443

دما يؤتى عنمجموعة أقوال في تفسيرها، ومنها أنه ) الشيرازيمكارم وقد ذكر

بالثمار إلى أهل الجنة ثانية يقولون: هذا الذي تناولناه من قبل، ولكنهم حين يأكلون هذه

الثمار يجدون فيها طعما جديدا ولذة اخرى، فالعنب أو التفاح الذي نتناوله في هذه الحياة

رة م الدنيا مثال له في كل مرة نأكله نفس طعم المرة السابقة، أما ثمار الجنة فلها في كل

طعم وإن تشابهت أشكالها، وهذه من إمتيازات ذلك العالم الذي يبدو أنه خال من كل

(1)(تكرار

المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنة يلقونها شبيهة بثمار هذه ومنها أن )

الدنيا، فيأنسون بها وال تكون غريبة عليهم، ولكنهم حين يتناولونها يجدون فيها طعما

(اجديدا لذيذ

ا﴿أما قوله تعالى: فال يعني التشابه في الطعم أو ،[22]البقرة: ﴾وأتوا به متشابها

فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث ال ؛متشابها في الجودة والجمالالشكل، وإنما يعني )

خرى، خالفا لثمار هذا العالم المختلفة في درجة النضج يمكن ترجيح إحداها على األ

(واللون والطعموالرائحة

ونحب أن نختم هذا النوع من أنواع النعيم بما ذكره بعضهم في الرد على شبهة

نة شعر بالملل في الجأقد الملل في الجنة، حيث أورد نصا لبعض المالحدة يقول فيه: )

(2)(الن لكل رحلة نهاية ولكل قصة خاتمة ولكل تجربة منتهى

محور السؤال هو موضوع الملل فقال: )ثم فكك هذا السؤال، وأعاد صياغته،

. .شباع من ملذات ورؤى جنة رب العالميننساني قد يشعر به الشخص بعد اإلإ كشعور

(لن يصل الشخص لحالة الفراغ؟أ ..؟ماذا بعد الجنة ؟هل من الممكن أن يصيبني الملل

(130/ 1تفسير األمثل، ) (1)

انظر مقاال بعنوان: قد أشعر بالملل في الحياة االخرة، محمد أحمد السالمي، منتدى التوحيد. (2)

443

يثم أجاب على هذه التسؤالت بتحديد مفهوم الملل، والتفريق بين المفهوم العام

هو الحالة الناتجة عن توقف ف ؛لملللساذج الساذج، والمفهوم العلمي.. أما المفهوم ال

. ثارة والسعادةالمثيرات التي تشعر الشخص باإل

الملل هو هرمون يفرزه الجسم لكي يتوقف عن بينما التعريف العلمي يذكر أن )

ستثارة حالة توقف االليس .. وبذلك فإنه االستجابة للمثير بعد االكتفاء بكمية معينة

(كفى)نسان عند حده ويقول له ولكنه هو هرمون يفرز في المخ ليوقف اإل ،والمتعة

طعمة كل األويتوق أل ،شخاص جائعاحد األأعندما يكون والدليل على ذلك أنه )

. بعد ان يبدأ الشخص بوضع الطعام في فمه .و غيرهأو البسكويت أالحلوة مثل الكعك

رى يشعر خومع توالي القطع األ ،ى يشعر باستثارة بالغة ومتعة فائقةولأويتذوق قطعة

(ببعض المتعة لكنها تقل تدريجيا

؛جسم االنسان مخلوق ومصمم لكي يحافظ على توازنهوالسبب في ذلك أن )

ص وعندما يقوم الشخ، فعندما ترتفع الحرارة يتعرق الجسم لالبقاء على درجة البرودة

لوزن يقوم الجسم باستخدام الدهون الزائدة لتوليد الطاقة وابقاء بحمية غذائية النقاص ا

..كذلك عندما يدخل فايروس يبدأ بتكوين خاليا مضادة وهكذا، الجسم على قيد الحياة

فراز مادة إنه بعد كمية معنية من أكل الطعام يقوم المخ بأكل هو يحدث في حالة األ ماو

فيشعر ؛و تحايد المادة المسببة لهاأتعادل مضادة للمادة التي تسبب االستثارة لكي

ويبدو هذا واضحا اذا قارنت ،الشخص باالكتفاء والملل من الطعم ويتوقف عن ذلك

سرع من أطعمة الحلوة ن المنفعة الحدية فى األأفتجد ؛االطمعة الحلوة والمالحة

فالشخص ؛نفس المنطق ينطبق على الماء، ون االكثار منها يضر الجسمالمالحة أل

وتستمر ،ول ميليجرامات من الماءأالعطشان عندما يشرب الماء يشعر باستمتاع كبير في

من ان يصل لمرحلة اليقبل معها مزيدألى إاالستثارة باالنخفاض كلما استمر في الشرب

444

(بل يصبح طعم الماء كأنه سم افعى ،الماء بتاتا

ن يغير كيميائاتأويقدر ،ل شيءعلى ك اذا كان الخالق قادرونتيجة لهذا، فإنه )إ

وقد تستمر معه ،ي شخص بالمملل من أصغر حالة امتاعيةأفعندها لن يشعر ؛المخ

ن المشاعر السلبية جميعها قد ربطها العلماء أو سنين.. وال ننسى أيام أو ألساعات

ن الخالق قادر على خلق مخ أولو اعتقدنا ،بهرمونات معينة تعكر صفو حياة االنسان

فسيكون ،ومن ضمنها الملل ،يفرز المواد الكيميائية الضارة المسببة للمشاعر السلبيةال

(بدلى األإلديك شخص سعيد

ب ـ السخط ومظاهره:

يذكر القرآن الكريم الكثير من مظاهر السخط واأللم النفسي التي يعانيها المسيئون

ومن أهم تلك المظاهر تلك في دار الجزاء نتيجة اختياراتهم التي اختاروها في الدنيا،

الحسرات التي ال تنتهي، والتي نجد القرآن الكريم يحذر منها أهل الدنيا كثيرا حتى ال

كم من قبل أن يأتيكم ﴿يقعوا فيها، ومنها قوله تعالى: بعوا أحسن ما أنزل إليكم من رب وات

ه 22م ال تشعرون )العذاب بغتةا وأنت طت في جنب الل ( أن تقول نفس ياحسرتا على ما فر

اخرين ) ه هداني لكنت من المتقين ) (23وإن كنت لمن الس ( أو 23أو تقول لو أن الل

ةا فأكون من المحسنين ) تقول حين ترى العذاب لو أن [ 21 - 22]الزمر: ﴾( 24لي كر

ومن تلك الحسرات ذلك األلم الذي يعتريهم بسبب الخسارة العظيمة التي

ذين خسروا ﴿خسروها، والتي ال يمكن أن تعوض أبدا، قال تعالى: قل إن الخاسرين ال

[.12]الزمر: ﴾وم القيامة أال ذلك هو الخسران المبين أنفسهم وأهليهم ي

وهكذا يذكر القرآن الكريم مشاهد كثيرة عن تلك الحسرات ومشاعر الندم التي

يعبر بها المسيئون عن سوء المصير الذي اختاروه ألنفسهم، وذلك عند تذكرهم لكل

وم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت وي ﴿موقف من مواقف السوء، قال تعالى:

441

سول سبيالا ) ا خليالا )23مع الر خذ فالنا كر بعد 24( ياويلتا ليتني لم أت ني عن الذ ( لقد أضل

نسان خذو يطان لإل [21 - 23]الفرقان: ﴾الا إذ جاءني وكان الش

وهكذا ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى تمكين الله تعالى المسيئين من

رؤية النعيم الذي كان معدا لهم لو عملوا صالحا، فيكون ذلك أعظم حسرة لهم، حينها

يوقنون أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم.

وليس ذلك خاصا بدار الجزاء، بل إنه يبدأ من البرزخ، كما ورد في الحديث أن

إن هذه األمة تبتلى في قبورها، فإذا أدخل المؤمن قبره، وتولى عنه قال: ) رسول الله

أصحابه، جاء ملك شديد االنتهار، فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول

ده، فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان في المؤمن: أقول: إنه رسول الله وعب

النار، قد أنجاك الله منه، وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة،

فيراهما كالهما، فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: اسكن، وأما المنافق، فيقعد

هذا الرجل؟ فيقول: ال أدري، أقول ما يقول إذا تولى عنه أهله، فيقال له: ما كنت تقول في

الناس، فيقال له: ال دريت، هذا مقعدك الذي كان لك من الجنة، قد أبدلت مكانه مقعدك

(1)(من النار

أن هذا العرض يظل طيلة البرزخ، ففي الحديث قال وهكذا أخبر رسول الله

والعشي، إن كان من أهل إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ) :رسول الله

الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى

(2)(يبعثك الله يوم القيامة

(14331) 3/343رواه أحمد (1)

في الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشـــي، وفي بدء الخلق، باب ما 113/ 3رواه البخـاري (2)

(.2433الموت، ومسلم رقم )في صفة الجنة، وفي الرقاق، باب سكرات

420

( النار يعرضون عليها 42وحاق بآل فرعون سوء العذاب )﴿ويؤيده قوله تعالى:

ا وعشيا ويوم ت اعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب غدو [43، 42]غافر: ﴾قوم الس

وسنرى الكثير من المشاهد المرتبطة بهذا عند حديثنا عن التكريم واإلهانة التي

يتعرض لها المسيئون، والتي تسبب لهم المزيد من الحسرات واآلالم كل حين.

:ـ التكريم واإلهانة 3

جزاء المعنوي التي ورد االهتمام بها كثيرا في النصوص المقدسة، من أنواع ال

تكريم الله تعالى للمؤمنين، وإهانته لغيرهم، وفي جميع المحال، ابتداء من لحظات

الموت، وانتهاء بدار الجزاء.

وهو جزاء وفاق مرتبط باألعمال، واالختيارات التي اختارها المحسنون أو

المحسنين تواضعوا لله، ولعباد الله، وفي أرض الله، ولم المسيئون ألنفسهم.. ذلك أن

لى ذلك جازاهم الله عليتجبروا، أو يتكبروا، أو يتسببوا في أي إهانة أو أذى لغيرهم؛ ف

هذه المعامالت الطيبة بكل أنواع التكريم التي لم تخطر على بالهم.

وا ه، وتمردوعلى عكسهم أولئك المنحرفون المتجبرون الذين استعلوا على الل

كل شيء بعد موتهم بأنواع على أحكامه، والقيم التي أمر بمراعاتها، فلذلك القاهم

.اإلهانة

ولذلك كان من أوصاف العذاب في القرآن الكريم كونه مهينا، كما قال تعالى:

ما نملي لهم خير ألنفسهم إنم ﴿ ذين كفروا أن ا ولهم وال يحسبن ال ا نملي لهم ليزدادوا إثما

[134]آل عمران: ﴾عذاب مهين

وكلها متناسبة مع وقد وصف القرآن الكريم المستحقين لهذا النوع من العذاب،

اإلهانات التي يتعرضون لها، ومنها التمرد على الله ورسوله ومجاوزة الحدود، قال

ا فيها وله عذاب مهين ومن يعص ﴿تعالى: ا خالدا ه ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا ﴾الل

421

[14]النساء:

ذين يبخلون ويأمرون الناس ﴿ومنها البخل وكتمان فضل الله، كما قال تعالى: ال

ه من ف ا مهيناابالبخل ويكتمون ما آتاهم الل [33: ]النساء ﴾ضله وأعتدنا للكافرين عذابا

ه ﴿ومنها الكفر بمختلف أنواعه ومظاهره، قال تعالى: ذين يكفرون بالل إن ال

ه ورسله ويقولون نؤمن ببعض ون قوا بين الل ويريدون كفر ببعض ورسله ويريدون أن يفر

ا مهيناا 120أن يتخذوا بين ذلك سبيالا ) ا وأعتدنا للكافرين عذابا ( أولئك هم الكافرون حق

[121، 120]النساء: ﴾

بوا بآيا﴿ومنها التكذيب بآيات الله، قال تعالى: ذين كفروا وكذ لئك لهم تنا فأووال

[23]الحج: ﴾عذاب مهين

تري ومن الناس من يش ﴿للتضليل، قال تعالى: ةومنها استعمال الوسائل المختلف

ا أولئك لهم عذاب مهين ه بغير علم ويتخذها هزوا ﴾لهو الحديث ليضل عن سبيل الل

[3]لقمان:

ه في ﴿ومنها إذية الله ورسوله، قال تعالى: ه ورسوله لعنهم الل ذين يؤذون الل إن ال

ا مهيناا نيا واآلخرة وأعد لهم عذابا [23]األحزاب: ﴾الد

ويل لكل ﴿ومنها التزوير والكذب على الله مع اإلصرار على ذلك، قال تعالى:

اك أثيم ) ره بعذاب 3أف ا كأن لم يسمعها فبش ه تتلى عليه ثم يصر مستكبرا ( يسمع آيات الل

ا أولئك لهم عذاب مهين 4أليم ) خذها هزوا - 3]الجاثية: ﴾( وإذا علم من آياتنا شيئاا ات

1]

ه ورسوله كبتوا كما ﴿ومنها محادة الله ورسوله، قال تعالى: ون الل ذين يحاد إن ال

ذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين [2]المجادلة: ﴾كبت ال

أن هذا النوع من الجزاء يبدأ من لحظات االحتضار؛ حينها ويذكر القرآن الكريم

422

تخاطب المالئكة أولئك المتجبرين الطغاة المتمردين على أحكام الله، بذلك الضرب

ذين كفروا ﴿والتعنيف واإلهانة، كما صور الله تعالى ذلك بقوله: ولو ترى إذ يتوفى ال

مت 20جوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق )المالئكة يضربون و ( ذلك بما قد

م للعبيد ه ليس بظال [21، 20]األنفال: ﴾أيديكم وأن الل

ه سنطيع ﴿وقال في مشهد آخر: ل الل ذين كرهوا ما نز هم قالوا لل كم في ذلك بأن

ه يعلم إسرارهم ) تهم المالئكة يضربون وجوههم 23بعض األمر والل ( فكيف إذا توف

ه وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم 23وأدبارهم ) بعوا ما أسخط الل هم ات ﴾( ذلك بأن

[24 - 23محمد: ]

ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والمالئكة ﴿وقال في مشهد آخر:

ه غ ر ي باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الل

[13]األنعام: ﴾عن آياته تستكبرون الحق وكنتم

وهكذا يقرن الله تعالى مشاهد اإلهانة باألسباب الداعية لها، حتى يبين مدى

العدل اإللهي الذي يتعامل مع كل جهة بما اختارته لنفسها.

وفي مقابل هؤالء يصف الله تعالى أول لقاء يجري بين المحسنين والمالئكة،

اهم المالئكة طيبين يقولون سالم ﴿بالسالم، قال تعالى: حيث يبدؤونهم ذين تتوف ال

[32]النحل: ﴾عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون

وهكذا يذكر القرآن الكريم أنواع التكريم والتبجيل التي يلقاها المؤمن في

ه ثم ﴿رف المالئكة، كما قال تعالى: المواقف المختلفة من ط نا الل ذين قالوا رب إن ال

تي كنت ل عليهم المالئكة أال تخافوا وال تحزنوا وأبشروا بالجنة ال توعدون م استقاموا تتنز

نيا وفي اآلخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ( نحن أولياؤكم في الحياة 30) الد

عون ) [32 - 30]فصلت: ﴾( نزالا من غفور رحيم 31ما تد

423

ويذكر القرآن الكريم تلك التحيات الطيبات الطاهرات التي تستقبل بها المالئكة

ا حتى إذا جاءوها وفتحت وسي﴿المحسنين، قال تعالى: هم إلى الجنة زمرا قوا رب ذين ات ق ال

[33]الزمر: ﴾أبوابها وقال لهم خزنتها سالم عليكم طبتم فادخلوها خالدين

عالى: قال توليس ذلك خاصا باستقبالهم، بل تظل تلك التحيات دائمة بينهم،

ا وعالنيةا ﴿ ا رزقناهم سر الة وأنفقوا مم هم وأقاموا الص ذين صبروا ابتغاء وجه رب وال

ار ) يئة أولئك لهم عقبى الد صلح ( جنات عدن يدخلونها ومن 22ويدرءون بالحسنة الس

اتهم والمالئكة يدخلون عليهم من كل باب ) ي ( سالم عليكم 23من آبائهم وأزواجهم وذر

ار [24 - 22]الرعد: ﴾بما صبرتم فنعم عقبى الد

جهات، ئون من كل الوفي مقابلهم ذكر الله تعالى تلك اللعنات التي يسمعها المسي

ا حتى إذا ﴿ابتداء من دخولهم إلى جهنم، قال تعالى: ذين كفروا إلى جهنم زمرا وسيق ال

كم جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات رب

ت كلمة العذاب على الكافرين )وي ( قيل 31نذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حق

[32، 31]الزمر: ﴾ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين

ه من ﴿ل تعالى: وهكذا تصب عليهم اللعنات كل حين، قا ذين ينقضون عهد الل وال

عنة ه به أن يوصل ويفسدون في األرض أولئك لهم الل لهم و بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الل

ار [22]الرعد: ﴾سوء الد

لبعضهم بعضا، وذلك عندما تحصل وهكذا يذكر القرآن الكريم إهانة أهل جهنم

المناوشات بينهم فيمن هو السبب فيما يحصل لهم من أنواع اآلالم، قال تعالى يذكر

ا وأن ﴿بعض تلك المشاهد: ه جميعا ة لل ذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القو ولو يرى ال

ه شديد العذاب ) بعوا ورأوا العذاب وتقطعت ( 132الل ذين ات بعوا من ال ذين ات أ ال إذ تبر

ءوا منا كذلك 133بهم األسباب ) أ منهم كما تبر ةا فنتبر بعوا لو أن لنا كر ذين ات ( وقال ال

424

ه أع 132]البقرة: ﴾( 133مالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )يريهم الل

- 134]

ه أعمالهم حسرات عليهم ﴿وفي قوله تعالى: [133]البقرة: ﴾كذلك يريهم الل

ي الصادق فام اإلمإشارة إلى أن تلك الحسرة وسببها من صنع أيديهم، كما عبر عن ذلك

الله هو الرجل يدع المال ال ينفقه في طاعةتفسيره لآلية الكريمة ببعض مصاديقها، فقال:)

طاعة فإن عمل به في.. ثم يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو في معصيته ،بخال

لك ذالله رآه في ميزان فزاده حسرة، وقد كان المال له أو عمل به في معصية الله فهو قواه ب

(1)(المال حتى عمل به في معاصي الله

كفر يوهكذا يذكر القرآن الكريم تلك الصيحات الكثيرة الممتلئة باأللم، عندما

قال ﴿: ، قال تعالىويلعن بعضهم بعضا محتجين ومتبرئين ،الظالمون بعضهم ببعض

ة لعنت أختها ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن ما دخلت أم نس في النار كل واإل

ا ض أضلونا فآتهم عذابانا هؤالء ا قالت أخراهم ألوالهم رب اركوا فيها جميعا ا ع حتى إذا اد فا

( وقالت أوالهم ألخراهم فما كان لكم 34مون )من النار قال لكل ضعف ولكن ال تعل

[40 - 34]األعراف: ﴾( 31علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون )

وهذا كله يشير إلى أن كل من باع الله ودينه إلرضاء أي جهة من الجهات؛ سوف

ل الله رسوا التي باع الله من أجلها، كما ورد في الحديث عن ترتد عليه تلك الجهة نفسه

وأرضى الناس عنه ،رضي الله عنه ،: )من التمس رضى الله بسخط الناسأنه قال،

، وفي (2)وأسخط عليه الناس( ،سخط الله عليه ،ومن التمس رضا الناس بسخط الله

ومن التمس رضاء ،لناسمن التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة ا: )رواية

.142، ص33بحار األنوار، ج (1)

(2414رواه الترمذي ) (2)

422

الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس(

ـ التواصل والقطيعة: 4

من أهم أنواع الجزاء المعنوي التي يجازي الله تعالى بها عباده المحسنين

[، ذلك أن التواصل والقطيعةوأشرفها وأخطرها ما يمكن أن نطلق عليه ]والمسيئين

القرآن الكريم يعرض حياة المحسنين والمسيئين في دار الجزاء باعتبارها حياة اجتماعية

ترتبط بجهات كثيرة ابتداء من أسرهم وأصدقائهم، والمالئكة التي تحيط بهم من كل

جانب، وغيرهم من المخلوقات، والتي تنتهي جميعا بالعالقة والتواصل مع الله تعالى،

ك المنتهى ﴿ى: كما قال تعال [42]النجم: ﴾وأن إلى رب

وهذا ما يعطي ذلك الجزاء بشقيه أبعادا تربوية كبيرة، ذلك أن المحسنين

والمسيئين بسبب تلك العالقات الكثيرة التي يجدونها، والمعاني الكثيرة التي يسمعونها

هنم الترقي في دركات ج يسيرون في سيرهم التكاملي، إما للترقي في درجات الجنة، أو

إلى أن يخرجوا منها إن كانت لديهم قابلة ذلك الترقي، كما سنرى.

وربما يكون أحسن قانون للتعبير عن العالقات التي تربط أهل دار الجزاء، وما

قبلها في أرض المحشر تلك القاعدة المعروفة التي تقول: )ما كان لله دام واتصل، وما

نفصل(؛ وكأنها تنبه وتربي أهل تلك الديار على ضرورة إقامة كان لغير الله انقطع وا

العالقة مع الله، واعتبارها األصل الذي تقوم عليه كل العالقات.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى عند إخباره عن القوانين التي تحكم النشأة

ء يومئذ بعضهم لبعض عد ﴿األخرى، فقال: ، وقد [33]الزخرف: ﴾و إال المتقين األخال

أى: تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير علق عليه الزمخشري بقوله: )

ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا، إال خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية المزدادة

423

(1)(ض في اللهقوة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغ

بناء على هذا نذكر هنا بعض مظاهر التواصل والقطيعة التي تتجلى في دار الجزاء،

وذلك من خالل العنوانين التاليين:

أ ـ التواصل ومظاهره:

يذكر القرآن الكريم الكثير من المظاهر التي تبين مدى التواصل الذي يحدث بين

المؤمنين في الجنة بعضهم ببعض، أو مع المالئكة أو مع الله تعالى، أو حتى مع

المخلوقات األخرى التي ال نعرف عنها اآلن شيئا.

خبار عن اإل ومن األمثلة على ذلك ما ورد تعقيبا على اآلية السابقة، والتي تضمنت

ء يومئذ بعضهم لبعض عدو إال ﴿التي تحكم النشأة األخرى: االتصال قوانين األخال

ال ياعباد ﴿يبين بعض مقتضياتها: فقد قال تعالى بعدها ،[33]الزخرف: ﴾المتقين

ذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين )34خوف عليكم اليوم وال أنتم تحزنون ) ( 31( ال

[30 - 34]الزخرف: ﴾ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون

:التواصلثالثة أنواع من فهاتان اآليتان الكريمتان، تشيران إلى

ن منه أمثال هذهالله تعالى حيث يكلمهم، ويكلمونه، ويسمعومع تواصل : الأولها

[24]يس: ﴾سالم قوالا من رب رحيم ﴿وغيرها كما قال تعالى: البشارة العظيمة،

،ويدل على هذا التواصل ما ورد في األحاديث من كثرة ذكر المؤمنين لله تعالى

(2)(يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس): كما قال

التصورات البدائية للجنة، وبكونها محال لألهواء والغرائز وهذا يرد على تلك

فقط، بينما هي في الحقيقة مدرسة تربوية أخرى يترقى فيها المؤمنون في مراتب السلوك

(233/ 4تفسير الزمخشري، ) (1)

.2432رواه مسلم، رقم (2)

423

إلى الله تعالى بعد أن توفر لهم البيئة المناسبة لذلك.

ولذلك كان أعظم نعمة وسعادة للمؤمنين ذلك التواصل مع الله، والذي يتجلى

في نفس تلك المظاهر التي كانت في الدنيا، ولكن بصورة أكثر وضوحا وجماال.. فمعرفة

الله أو الرؤية القلبية لله هي أكبر النعم التي يحن لها المؤمنون، وخاصة المقربين منهم.

ونحب أن نرد هنا باختصار على ما سبق أن أشرنا إليه بتفصيل في كتاب ]السلفية

آثار تلك الرؤية التجسيمية التي تسربت للمسلمين عن طريق والوثنية المقدسة[ من

اليهود وغيرهم، والذين صوروا التواصل مع الله تعالى بصورة ال تليق بجالله وجماله.

ال من بكونه ال يتم إ هفقد صوروا التواصل معالتجسيمية لله، رؤيتهم وبناء على

الشمس، وكما ترى األجسام، لتتمتع رؤيته رؤية حسية كما يرى القمر وكما ترى خالل

العين برؤيته كما تتمتع برؤية األزهار الجميلة والحدائق الغناء وغيرها.

يحشرون رؤية الله تعالى في الجنة في المواضع التي يتحدثون فيها اهمولهذا نر

عن جمال صور أهل الجنة، وجمال قصورهم، ونحو ذلك.

حادي األرواح إلى بالد رجوع إلى كتاب ]ومن أراد أن يرى تفاصيل ذلك يمكنه ال

ذكر زيارة أهل الجنة ربهم تبارك [ البن القيم، فقد عقد فيه فصال بعنوان ]األفراح

(2)[في ذكر سوق الجنة وما أعد الله تعالى فيه ألهلها، وذكر قبله بابا بعنوان: ](1)[وتعالى

وربهم في الجنة، كما وفي كليهما ذكر مشاهد للقاء الحسي الذي يجري بين المؤمنين

والملوك واألمراء في الدنيا.البشر يجري بين

عن سعيد بن ما رواه التي يستدلون بها في هذا المجال من تلك الروايات و

أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق :المسيب، أنه لقي أبا هريرة، فقال أبو هريرة

(.233حادي األرواح إلى بالد األفراح )ص: (1)

(.234المرجع السابق، )ص: (2)

424

: أن أهل الجنة إذا ي رسول الله الجنة. فقال سعيد: أو فيها سوق؟ قال: نعم. أخبرن

ورون فيز، دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا

الله في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من

هم، وما فيهم زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدنا

دني، على كثبان المسك والكافور، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم

قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: )نعم، هل (،مجلسا

تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟( قلنا: ال. قال: فكذلك ال تمارون في رؤية

الى، وال يبقى في ذلك المجلس أحد إال حاضره الله محاضرة، حتى ربكم تبارك وتع

يقول: يا فالن بن فالن بن فالن أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، فيذكره بعض غدراته في

الدنيا، فيقول: بلى. فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغت منزلتك

من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا هذه. قال: فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة

مثل ريحه شيئا قط، ثم يقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة،

قال: فيأتون سوقا قد حفت بها المالئكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى ،فخذوا ما اشتهيتم

باع ا ما اشتهيناه، ليس يمثله، ولم تسمع اآلذان، ولم تخطر على القلوب. قال: فيحمل لن

ل ذو البزة قال: فيقب .فيه شيء وال يشترى، في ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا

المرتفعة، فيلقى من هو دونه، وما فيهم دني، فيروعه ما يرى عليه من اللباس والهيئة، فما

ن فيها. زينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك أنه ال ينبغي ألحد أن يح

قال: ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهال بحبنا، لقد جئت وإن بك

ارك إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تب)من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول:

421

(1)(وتعالى، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا

بينا أهل ): قال رسول الله يروونه أن ومن الروايات التي يوردونها في هذا ما

قد أشرف عليهم من فوقهم فإذا الرب ،فرفعوا رؤوسهم نور سطع لهم الجنة في نعيمهم إذ

سالم قوالا من رب ﴿ :تعالى وذلك قول الله: قال،السالم عليكم يا أهل الجنة: فقال

فال يلتفتون إلى شيء من النعيم ما ،فينظر إليهم وينظرون إليه: قال،[24]يس: ﴾رحيم

(2) (ه وبركته عليهم في ديارهمداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نور

على ذكرها في كل محل، وهي ال المجسمةهذه بعض المشاهد التي يحرص

تختلف كثيرا عن المشاهد التي نقرؤها في كتب التاريخ واألساطير عن مجالس الملوك

حيث يقربون ندمانهم، ثم يصلونهم بأنواع الصالت.. وهي عالقة مادية صرفة واألمراء..

ال مجال فيها للمشاعر السامية، وال للعواطف الجياشة التي رأيناها عند أهل العرفان.

يات هو إسكانهم لله سبحانه وتعالى اومن العجب الذي نراه في أمثال هذه الرو

جنة ليجاورهم، ويصلهم، وتزداد صورهم خالق هذا الكون جميعا في دار من دور ال

حسنا بذلك، وكأن الله تعالى لم يخلق سواهم، وال له تدبير لغيرهم.

ومن العجب األكبر هو أحاديثهم عن جمال الله تعالى.. وهي أحاديث عن

الجمال الحسي، ال عن الجمال العظيم الذي ال يمكن اإلحاطة به، ومن أمثلة ذلك ما قاله

اس أما جمال الذات ؛ فهو ما ال يمكن لمخلوق أن يعبر عن شيء منه أو ): قال ، فقدالهر

يبلغ بعض كنهه، وحسبك أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات

وتمتعوا بجماله ؛ نسوا كل ما هم إذا رأوا ربهم، والسرور التي ال يقدر قدرها،

دوا لو تدوم لهم هذه الحال، ولم يكن شيء أحب فيه،واضمحل عندهم هذا النعيم، وو

(.224/ 1السنة البن أبي عاصم ) (1)

( 144رواه ابن ماجه برقم ) (2)

430

إليهم من االستغراق في شهود هذا الجمال،واكتسبوا من جماله ونوره سبحانه جماالا إلى

جمالهم،وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته،حتى إنهم يفرحون بيوم المزيد فرحاا تكاد تطير

(1)(له القلوب

ين في ألفاظه، إال أنه ال يرقى إلى وهو في هذا الكالم الذي يشبه كالم العارف

مقاصدهم.. فالجمال عنده هو جمال صورة الله الحسية التي لم يتصوروا أن يعرف الله

من دونها.

عالى: ت: التواصل مع األسر، ويدل عليه باإلضافة لتلك اآلية الكريمة قوله ثانيا

ا من أوتي كتابه بيمينه )﴿ ا )3فأم ا يسيرا ( وينقلب إلى أهله 4( فسوف يحاسب حسابا

ا ألهل الجنة أسرا مثلما كان لهم في ، وهذا يدل على أن [1 - 3]االنشقاق: ﴾مسرورا

.الدنيا

ذي﴿أخبر القرآن الكريم أن الذرية الصالحة تتبع آباءها، قال تعالى: قد و ن آمنوا وال

تهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ي تهم بإيمان ألحقنا بهم ذر ي بعتهم ذر بما كل امرئ وات

[21]الطور: ﴾كسب رهين

جنات عدن يدخلونها ومن ﴿أخبر أن كل العائلة الصالحة تجتمع، قال تعالى: و

اتهم ي [23]الرعد: ﴾صلح من آبائهم وأزواجهم وذر

ولهذا لم يكتف عباد الرحمن بالدعاء ألنفسهم بدخول الجنة، وإنما راحوا يطلبون

نا هب لنا من أزواجنا ﴿ها، قال تعالى: أن يجتمعوا مع أسرهم جميعا في ذين يقولون رب وال

ا ة أعين واجعلنا للمتقين إماما اتنا قر ي ، وأخبر عن دعاء المالئكة [34]الفرقان: ﴾وذر

نا وأدخلهم جنات عدن ﴿عليهم السالم لهم بهذا، فقال: تي وعدتهم ومن صلح من رب ال

.2/34شرح النونية: (1)

431

اتهم إنك أنت العزيز الحكيم ي [4]غافر: ﴾آبائهم وأزواجهم وذر

ن في ووالمتشاكلن في الدرجة والمتساوالتواصل مع اإلخوان واألصدقاء، :ثالثها

الطباع، وهو ما عبرت عنه آيات كثيرة، تذكر أن القرناء يكونون في درجة واحدة، بناء على

جت ﴿اتفاق طباعهم ومواقفهم وأنواع جزائهم، كما قال تعالى: ﴾وإذا النفوس زو

ذين ظلموا وأزواجهم ﴿: وقال(، 3)التكوير: وإذا ﴿: وقال(، 22)الصافات: ﴾احشروا ال

نين دعوا هنالك ثبوراا (13)الفرقان: ﴾ألقوا منها مكاناا ضيقاا مقر

يذكر القرآن الكريم أن العالقات االجتماعية التي تقام بين أهل الجنة أو أهل لهذا و

ا فالنار تقام على أساس التشاكل بينهم، ذلك أن كل مرتبة في الجنة أو النار تضم أصنا

لنا بعضهم على ﴿معينين، بحسب أعمالهم ومراتبهم، كما قال تعالى: انظر كيف فض

[21]اإلسراء: ﴾بعض ولآلخرة أكبر درجات وأكبر تفضيالا

ولكن مع ذلك يمكن أن يرتقي الشخص إلى مرتبة أخرى، إن كان له عالقة بها،

ه عليهم من النبيين ﴿كما قال تعالى: ذين أنعم الل سول فأولئك مع ال ه والر ومن يطع الل

ا الحين وحسن أولئك رفيقا والصهداء يقين والش د [31]النساء: ﴾والص

فقال: يا رسول الله متى قيام ، جاء إلى رسول الله وورد في الحديث أن رجال

إلى الصالة، فلما قضى صالته قال: أين السائل عن قيام الساعة؟، الساعة؟ فقام النبي

فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: ما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير

،ع من أحب)المرء م صالة وال صوم إال أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله

(1)وأنت مع من أحببت(

ذكر تلك المجالس التي يرغب الله تعالى عباده في الجنة بوبناء على هذا كله

(.2331( ، ومسلم )3344البخاري ) (1)

432

( 42إن المتقين في جنات وعيون )﴿تجمع أهل الجنة بعضهم ببعض، كما قال تعالى:

ا على سرر متقابلين ( ونزعنا ما في صدور 43ادخلوها بسالم آمنين ) ﴾هم من غل إخوانا

[43 - 42]الحجر:

إن جلساتهم اإلجتماعية خالية من بقوله: ) زيامكارم الشيروقد علق عليها الشيخ

والكل ،حالقيود المتعبة التي يعاني منها عالمنا الدنيوي، فال طبقية وال ترجيح بدون مرج

ي وبطبيعة الحال، فهذا ال يناف، إخوان، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد

تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة اإليمان والتقوى في الحياة الدنيا، ولكن

(1)(جتماعيةذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم اال

هم، مؤمنين، وتوحد بين قلوبوفي مقابل هذه العالقات الطيبة التي تجمع بين ال

يذكر الله تعالى تلك القطيعة التي يصادفها من اتخذوا من اإلخوان والخالن من صرفهم

ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني ﴿عن الله، وأبعدهم عنه، كما قال تعالى:

سول سبيالا ) خذت مع الر ا خليالا )( ياويل 23ات خذ فالنا ني عن 24تا ليتني لم أت ( لقد أضل

نسان خذوالا يطان لإل كر بعد إذ جاءني وكان الش [21 - 23]الفرقان: ﴾الذ

وقد ورد في حديث عن اإلمام علي، يفسر بعض مصاديق هذا المعنى، حيث قال:

ليالن كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله، فقال: خليالن مؤمنان، وخ)

اللهم، إن فالنا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن

الشر، وينبئني أني مالقيك، اللهم فال تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه

علم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليال. كما رضيت عني. فيقال له: اذهب فلو ت

قال: ثم يموت اآلخر، فتجتمع أرواحهما، فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل

(41/ 4) -تفسير األمثل (1)

433

واحد منهما لصاحبه: نعم األخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين،

عصية معصيتك وموبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فالنا كان يأمرني ب

رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير مالقيك، اللهم فال تهده

بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وتسخط عليه كما سخطت علي. قال: فيموت الكافر

اآلخر، فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه. فيقول كل واحد

(1)ئس األخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل(منهما لصاحبه: ب

ما يبين قيمة المحبة في الله، وكونها وقد روي في الحديث عن رسول الله

لو أن رجلين : )تجمع بين المؤمنين مهما اختلفت ديارهم وأزمنتهم، قال رسول الله

قول: مة، يتحابا في الله، أحدهما بالمشرق واآلخر بالمغرب، لجمع الله بينهما يوم القيا

(2)هذا الذي أحببته في(

وهذا الحديث ال يفهم منه فقط ما نعرفه من البعد المكاني، بل يدخل فيه أيضا

البعد الزماني، حيث يلتقي المؤمنون بكل من يحبونهم من أنبياء الله ورسله واألولياء

والصالحين، وكل من هفت قلوبهم محبة لهم.

بأهل العلم والتقوى والحكمة، ال كما يشيع ولذلك فإن مجتمع أهل الجنة مملوء

المنحرفون، من أن الجنة محل للشهوات الحسية، ال للمعاني العقلية والروحية، وكيف

تكون كذلك، وفيها األنبياء واألولياء والصالحين والعلماء.. وكلهم يبقى بنفس اهتماماته

ورغباته التي رحل بها من الدنيا.

مكن أن يكون في الجنة كل وسائل التواصل التي وفي نفس الوقت نرى أنه ي

عرفناها في الدنيا، ولكن بصورة أكثر تطورا، ولذلك فإن المغرمين بشبكات التواصل

(.2/134تفسير عبد الرزاق ) (1)

(.23/31مختصر تاريخ دمشق البن منظور ) (2)

434

االجتماعي، لن يفقدوها في الجنة، بل سيجدون أجياال أكثر تطورا، بشرط أال تحجبهم

التي ذكرناها. هذه الشبكات في الدنيا عن ربهم، حتى ال تتحقق فيهم تلك القاعدة

وهكذا يمكن أن تقام في الجنة الحفالت والمعارض والمؤتمرات، ويمكن أن

يظهر فيها المبدعون والكتاب والشعراء، ويمكن أن تحصل فيها المسابقات المختلفة،

والتي توطد العالقات االجتماعية ألهل الجنة بما يتناسب مع طباعهم وأمزجتهم.

﴾وفيها ما تشتهيه األنفس ﴿ليه قوله تعالى: ودليلنا على كل ذلك ما نص ع

ق به أولئك هم المتقون )﴿، وقوله: [31]الزخرف: دق وصد ذي جاء بالص ( لهم 33وال

هم ذلك جزاء المحسنين ذين آمنوا وال ﴿، وقوله: [34، 33]الزمر: ﴾ما يشاءون عند رب

هم ذلك هو الفضل الكبير الحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند رب وعملوا الص

، فهذه اآليات الكريمة تنص على القواعد التي تحكم هذا المجال، [22]الشورى: ﴾

ئية البسيطة، التي قد تجعل بعضولذلك ال يصح أن نصور الجنة بتلك الصورة البدا

النفوس تنفر منها.

، وكان ممن يحبون الزرع، ولهذا عندما جاء بعض األعراب إلى رسول الله

كان ) الجنة بما يتناسب مع طباعه وما يشتهي، فقد روي أنه وصف له رسول الله

ا يحدث وعنده رجل من أهل البادية نة استأذن ربه ن رجالا من أهل الجإ: )، فقال يوما

في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، لكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر

الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا بن آدم، فإنه

(1)ال يشبعك شيء(

وهذا الحديث يدل على أن الله تعالى يوفر لكل نفس في الجنة البيئة التي تشتهيها،

(2221) 423/ 2رواه البخاري ، (1)

432

لهم ما يشاءون ﴿بل يضيف إليها من كرمه ما يزيد في جمالها ولذتها، كما قال تعالى:

ذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴿، وقال: [32]ق: ﴾فيها ولدينا مزيد [23يونس: ] ﴾لل

وطبعا هذا ال يعني تلك النفوس المملوءة بالدنس، والتي قد تشتهي ما ال ترتضيه

الفطرة السليمة؛ ذلك أن أصحاب تلك الشهوات، وبعد المرور على السراط يهذبون منها

قبل دخولهم الجنة، فالجنة ال يدخلها إال الطيبون أصحاب النفوس الطيبة، والرغبات

الطيبة.

القطيعة ومظاهرها:ب ـ

في مقابل ذلك الجزاء المعنوي الممتلئ بالجمال، والذي يتواصل فيه المحسنون

مع كل شيء، ابتداء من الله تعالى، وانتهاء بأي مخلوق يرغبون في التواصل معه، نرى

أنواع القطيعة التي يعاني منها المسيئون الذين آثروا في الدنيا مقاطعة ربهم، ورسلهم،

، وجميع القيم التي جاءوا بها؛ فلذلك كان جزاؤهم من جنس عملهم.وهداتهم

هم يومئذ ﴿وقد عبر عن أخطر أنواع هذه القطيعة قوله تعالى: هم عن رب كال إن

كال بل ران على قلوبهم ما ﴿، وقد سبقت بقوله تعالى: [12]المطففين: ﴾لمحجوبون

، لتبين أن السبب في ذلك الحجاب ليس من الله، وإنما [14]المطففين: ﴾يكسبون كانوا

من عند أنفسهم، بعد أن مألوا قلوبهم بأنواع الشبه التي تحول بينهم وبين ربهم.

بين )﴿وقد سبق ذلك كله قوله تعالى: بون بيوم 10ويل يومئذ للمكذ ذين يكذ ( ال

ين )ال ب به إال كل معتد أثيم )11د لين 12( وما يكذ ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير األو

، وهي تبين أن ذلك الحجاب كان قد صنع في الدنيا بسبب [13 - 10]المطففين: ﴾

هم بها قائق والقيم التي جاءتالتكذيب والتلفيق والتزوير الذي مارسه المسيئون مع الح

الرسل عليهم السالم.

وهكذا يذكر القرآن الكريم مشهدا من مشاهد القطيعة يبدأ بدعاء المسيئين لله

433

نا غلبت علينا شقوتنا وكنا ﴿تعالى أن يخرجهم مما هم فيه، وهم يرددون بكل خشوع: رب

ين ) ا ضال نا أخ 103قوما ا ظالمون )( رب 103]المؤمنون: ﴾( 103رجنا منها فإن عدنا فإن

- 104]

ه كان فريق من 104اخسئوا فيها وال تكلمون )﴿لكن الله تعالى يجيبهم بقوله: ( إن

نا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت احمين )عبادي يقولون رب خذتموهم 101خير الر ( فات

ا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ) ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا 110سخري

هم هم الفائزون [111 - 104]المؤمنون: ﴾أن

لذي حصل لهم لم يكن سوى تنفيذا لما وهذا يدل على أن ذلك الجزاء اإللهي ا

تقتضيه العدالة اإللهية المطلقة، ذلك أن تلك الجرائم التي مارسوها في حق

المستضعفين، وسخريتهم منهم، أصبحت حجابا عظيما يحول بينهم وبين التواصل مع

الحق.

وهكذا يخبر الله تعالى عن خطاب المالئكة لهم، والمملوء بكل أنواع الشدة،

ذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ﴿لهم على شدتهم وقسوتهم، قال تعالى: جزاء وقال ال

ا من العذاب ) ف عنا يوما كم يخف ( قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى 41رب

[20 ،41 ]غافر: ﴾اء الكافرين إال في ضالل قالوا فادعوا وما دع

ويخبر القرآن الكريم عن تلك اآلالم الشديدة التي يعاني منها المسيئون، والتي

إن ﴿الله تعالى القضاء عليهم، قال تعالى: تجعلهم يطلبون من المالئكة أن يطلبوا من

( وما 32( ال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون )34) المجرمين في عذاب جهنم خالدون

ك قال إنكم 33ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ( ونادوا يامالك ليقض علينا رب

[34 - 34]الزخرف: ﴾لحق كارهون ( لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم ل 33ماكثون )

وهكذا يذكر القرآن الكريم تلك الحوارات الكثيرة التي تجري بين المسيئين،

433

والتي يستعيدون فيها جرائمهم التي مارسوها في الدنيا، ويلقي بعضهم على بعض اللوم

بسببها.

ون ﴿ومن تلك المشاهد ما عبر عنه قوله تعالى: عف وإذ يتحاج اء في النار فيقول الض

ا فهل أنتم مغنون عنا نصيباا من النار ) ا كنا لكم تبعا ذين استكبروا إن ذين 43لل ( قال ال

ه قد حكم بين العباد ) ا كل فيها إن الل [44، 43: ]غافر ﴾(44استكبروا إن

هم يرجع ﴿ومنها ما عبر عنه قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند رب

ذين استكبروا لوال أنتم لكنا مؤمن ذين استضعفوا لل ن يبعضهم إلى بعض القول يقول ال

ذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل ( قال الذ 31) ين استكبروا لل

يل والنهار إذ 32كنتم مجرمين ) ذين استكبروا بل مكر الل ذين استضعفوا لل ( وقال ال

ا رأوا العذاب وجعلنا األغالل تأمروننا أن نكف وا الندامة لم ا وأسر ه ونجعل له أندادا ر بالل

ذين كفروا هل يجزون إال ما كانوا يعملون ﴾[33 - 31]سبأ: ﴾في أعناق ال

ا وبرزوا ﴿ومنها ما عبر عنه قوله تعالى: ذين استكبروا إن عفاء لل ا فقال الض ه جميعا لل

ه لهدي قالوا لو هدانا الله من شيء ا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الل سواء ناكم كنا لكم تبعا

[21]إبراهيم: ﴾ا من محيص علينا أجزعنا أم صبرنا ما لن

وهكذا يخبر الله تعالى عن خطبة من خطب الشيطان يلقيها في أهل جهنم، يتبرأ

ه وعدكم وعد الحق ﴿فيها منهم، قال تعالى: ا قضي األمر إن الل يطان لم وقال الش

لي عليكم من سلطان إال أن دعوتكم فاستجبتم لي فال ووعدتكم فأخلفتكم وما كان

تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون

[22]إبراهيم: ﴾أليم من قبل إن الظالمين لهم عذاب

بل إن القرآن الكريم يذكر إمكانية تواصل المسيئين مع المحسنين، لكن ال لينعموا

﴿بذلك التواصل، وإنما ليتعذبوا ويتأدبوا به، قال تعالى يذكر مشهدا من تلك المشاهد:

434

ه قالوا إن ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا م ا رزقكم الل أو ممن الماء

مهما على الكافرين ) ه حر نيا20الل تهم الحياة الد ا ولعباا وغر خذوا دينهم لهوا ذين ات ﴾( ال

[21، 20]األعراف:

اب ونادى أصح ﴿، قال تعالى: المسيئين مع المحسنينومثل ذلك ذكر الله تعالى

ا كم حق ا فهل وجدتم ما وعد رب نا حق قالوا الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا رب

ه على الظالمين ن بينهم أن لعنة الل ن مؤذ [44ف: ]األعرا ﴾نعم فأذ

هذه بعض مشاهد األلم التي يعاني منها أولئك الذين آثروا أن يقاطعوا ربهم،

أرسلهم، والهداية التي أرسلها معهم، ولذلك كان كل ما حصل لهم من نوالهداة الذي

قطيعة جزاء متوافقا تماما مع اختياراتهم ورغباتهم التي شكلوا منها نفوسهم.

لتربية لهم، ليدركوا قيمة اإليمان الذي فرطوا وهي في نفس الوقت نوع من أنواع ا

فيه، وباعوه بثمن بخس، ولهذا ورد في التعقيب على بعض تلك المشاهد التي ذكرناها

ا أو بعض يوم 112قال كم لبثتم في األرض عدد سنين )﴿قوله تعالى: ( قالوا لبثنا يوما

ين ( أفحسبتم أنما 114( قال إن لبثتم إال قليالا لو أنكم كنتم تعلمون )113) فاسأل العاد

كم إلينا ال ترجعون ، وهذا درس لهم، [112 - 112]المؤمنون: ﴾خلقناكم عبثاا وأن

دنيا عن الهداية، وال تزال آثاره معهم ليتخلصوا من كل ذلك الران الذي طبع قلوبهم في ال

ها أبد ، أو يبقوا فيفي الجحيم، ولذلك احتاجوا إلى البقاء فيها حتى يزال عنهم ذلك الران

اآلبدين.

الحسي.. وتجليات العدالة والرحمة: الجزاء ثانيا ـ

من مظاهر العدالة والرحمة اإللهية في دار الجزاء ما أعد لعباده فيها من الجزاء

الحسي المتوافق مع أعمالهم، ليروا بأعينهم الحسية حصاد ما زرعوه؛ فيكون ذلك سلما

431

لمسيرتهم نحو الكمال المستعدين له بحسب طاقاتهم المختلفة.

وهذا الجزاء متوافق مع العدالة والرحمة اإللهية، كما أنه متوافق مع تربية الله

تعالى لعباده، إلخراجهم من الظلمات إلى النور.

ما توافقه مع العدالة؛ فذلك ألن كل إنسان في دار الجزاء ال يرى إال ثمرة أعماله، أ

ولذلك تختلف مراتب المحسنين والمسيئين اختالفا شديدا، بناء على النتائج التي

ظهرت في الموازين الدقيقة، وسلمت نتائجها في الموقف.

عف جزاءه للمحسنين، وأما توافقه مع الرحمة اإللهية؛ فذلك ألن الله تعالى ضا

بحيث وفر لهم أضعاف أضعاف ما عملوه، بناء على اسمه الشكور، وفي نفس الوقت لم

يجاز المسيئين إال بما غرسوه من أعمال، مع إمكانية أن يرفع عنهم البالء في حال

تحسنهم، وارتفاع آثار األوزار من نفوسهم.

حسنة أو سيئة بجوارحه وبما أن اإلنسان عمل أعماله في الدنيا سواء كانت

الحسية، وهو في نفس الوقت يتنعم تنعما حسيا، ويتألم ألما حسيا؛ فقد كان من مقتضيات

العدالة والرحمة اإللهية أن يجازى في دار الجزاء بهذا النوع من الجزاء المتوافق مع

أعماله.

ولذلك ال معنى لتلك المقوالت التي يسخر بها البعض من الجزاء الحسي،

تصور أن له من العقل والحكمة والروحانية ما يجعله يترفع عن االهتمام بذلك النوع وي

من الجزاء؛ فكل ذلك كذب على النفس.

ذلك أننا إن تأملنا في حياة أي فيلسوف أو مفكر أو عارف نجد له اهتماما بشؤونه

غيره.لالحياتية، بل يحب أن يوفر له في حياته الحد األدنى الذي يغنيه عن التطلع

يطرحون أمثال هذه الشبه شديدي اإلعجاب بالتطور نبل إننا نجد الكثير من الذي

الحضاري المادي للشعوب المختلفة، ولست أدري كيف يعجبون بذلك التطور، وفي

430

نفس الوقت يستغربون أو ينكرون ذلك التطور وتلك الحضارة التي يصف الله تعالى بها

حين.دار الجزاء المعدة لعباده الصال

وهكذا األمر بالنسبة لدار الجزاء المعدة للمسيئين؛ فإن هؤالء إن قيل لهم: إنكم

في دار الجزاء ستحجبون عن الله، ولن تتذوقوا تلك المعاني النبيلة السامية التي

يستشعرها المؤمنون؛ فال شك أنهم سيسخرون من ذلك، ألنهم أصال ال يجدون في

لك.نفوسهم أي اهتمام أو رغبة في ذ

ولذلك كان هذا النوع من الجزاء اإللهي متوافقا مع كل النفوس، ومع جميع

األعمال، باعتبار أنه ليس سوى تجسد لتلك األعمال التي قام بها صاحبها في الدنيا.

باإلضافة إلى هذا، فإن الحس دليل المعنى، وبالحس قد يترقى اإلنسان ليفهم

ي أعده الله لعباده الصالحين حجابا لهم، بل المعنى، ولذلك لن يكون ذلك النعيم الذ

على ربهم.. اسيكون مرقاة لهم يتعرفون من خالله

ذلك أن كل شيء صنعة لله، وحروف تكتبها يد القدرة، ليتعرف العبد من خاللها

يأمرنا بقراء الرحمة اإللهية من خالل حياة ـ وهو عبر عن ذلك قوله تعالى على الله، كما

ه كيف يحيي األرض بعد موتها﴿: ـ ااألرض بعد موته لروم: )ا ﴾فانظر إلى آثار رحمت الل

20)

ويأمرنا باالستبشار تفاؤال بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب

ياح بشراا بي ﴿الرياح التي يرسلها، قال تعالى: ذي يرسل الر تى إذا ن يدي رحمته ح وهو ال

ذلك ك أقلت سحاباا ثقاالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات

رون كم تذك (23)ألعراف: ﴾نخرج الموتى لعل

رته المحيطة بكل شي من خالل حروف الماء ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخب

ه أنزل ﴿الساقطة على األرض المخضرة، قال تعالى: ماءا فتصبح ألم تر أن اللماء من الس

431

ه لطيف خبير ةا إن الل (33)الحج: ﴾األرض مخضر

لمبثوثة في تقلب الزمان ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خالل السطور ا

اكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي ال يعلم ﴿بأعمارنا، قال: ه خلقكم ثم يتوف والل

ه عليم قدير (30)النحل: ﴾بعد علم شيئاا إن الل

تعراض تفاصيل دقيق المكونات ويرينا قوة الله القاهرة، وقدرته الشاملة باس

فالسموات التي ننبهر لضخامتها ال تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة ؛ وجليلها

ه حق قدره واألرض جميعاا قبضته يوم القيامة ﴿الله، قال تعالى: وما قدروا الل

ات بيمينه س ماوات مطوي ا يشركون والس (33)الزمر: ﴾بحانه وتعالى عم

بذلك فإن الحس لن يكون حجابا عن المعنى، بل سيكون دليال عليه، ولهذا كان و

كل شيء نراه في الكون مرقاة نرقى بها إلى الله، وحروفا نتعرف من خاللها عليه.

المحسنون من مظاهر واألمر في دار الجزاء مثله في دار الفناء.. ففي الجنة يعاين

الكرم اإللهي ما يملؤهم حبا وتعظيما له.. وفي النار يعاين المسيئون من مظاهر قدرة الله

ما يجعلهم يجلونه ويعظمونه، ذلك أنهم كانوا يحتقرونه ويحتقرون رسله والقيم التي دعا

ء.إليها، ولذلك كان ذلك العقاب إصالحا لهم حتى يتجاوزوا نفوسهم األمارة بالسو

وقبل أن نذكر بعض أصناف النعيم الحسي التي وردت بها النصوص المقدسة،

هذا ىتنص علنحب أن نذكر لبعض إخواننا من المسيحيين نصوصا من الكتاب المقدس

النوع من الجزاء، ألنا نراهم في أحيان كثيرة يوهمون عامة الناس عن ترفع المسيحية عن

درهم في ذلك، وهل هناك أسفار مخفية من هذا النوع من الجزاء، ولست أدري مص

تلك األحكام، أم أنها مجرد دعاوى؟الكتاب المقدس ينهلون منها

ذلك أننا نجد في الكتاب المقدس نفس ما نجده في القرآن الكريم من أنواع النعيم

والجزاء، وإن كان بصورة مختصرة، ذلك ألن الكتاب المقدس لم يول أصال مباحث

432

الكبرى، بخالف القرآن الكريم. المعاد، أهميته

العهد الجديد من الحديث عن دار الجزاء، ومن األمثلة على ذلك ما ورد في

( )فكما 42 - 40: 13)متى وخصوصا تلك التي يعاقب فيها المسيئون، فقد ورد في

كته إلنسان مالئابن العالم: يرسل انقضاء هذا النار هكذا يكون في الزوان ويحرق بايجمع

ك هنا ،لناراإلثم، ويطرحونهم في أتون المعاثر وفاعلي اعون من ملكوته جميع فيجم

ألسنان( البكاء وصرير ايكون

ربطوا رجليه ويديه، وخذوه الملك للخدام: ا)حينئذ قال :(13: 22)متى وفي

ألسنان( البكاء وصرير الخارجية. هناك يكون الظلمة اطرحوه في او

ألبرار إلى حياة أبدية( اهؤالء إلى عذاب أبدي و(: )فيمضي 43: 22)متى وفي

لمغارب المشارق وا(: )وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من 12و 11: 4)متى وفي

لملكوت السماوات، وأما بنو اويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت

ألسنان( البكاء وصرير الخارجية. هناك يكون الظلمة افيطرحون إلى

لعذاب، ورأى إبراهيم الهاوية وهو في ا(: )فرفع عينيه في 24و 23: 13 )لوقاوفي

رحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد امن بعيد.. فنادى: يا أبي إبراهيم

للهيب( الساني، ألني معذب في هذا

لذين ال ا(: )معطيا نقمة للذين ال يعرفون الله و1و 4: 1تسالونيكي 2) وفي

من مجد لرب والذين سيعاقبون بهالك أبدي من وجه المسيح، ايل ربنا يسوع يطيعون إنج

قوته(

: قداستكم. أن تمتنعوا الله(: )ألن هذه هي إرادة 3 - 3: 4تسالونيكي 1) وفي

لزنا، أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه بقداسة وكرامة، ال في هوى شهوة اعن

ألمر، ألن ايتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا . أن الاللهلذين ال يعرفون األمم اك

433

لرب منتقم لهذه كلها كما قلنا لكم قبال وشهدنا. ألن الله لم يدعنا للنجاسة بل في ا

لقداسة( ا

إلنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ابن ا: )إن المسيحقال (24: 23)متى وفي

لرجل لو لم يولد( اإلنسان. كان خيرا لذلك ابن الذي به يسلم الرجل اولكن ويل لذلك

لمراؤون، ألنكم الفريسيون الكتبة وا(: ).. ويل لكم أيها 13: 23)متى وفي

!( لداخلين يدخلونالناس فال تدخلون أنتم وال تدعون السماوات قدام اتغلقون ملكوت

د أح(: )ثم تبعهما مالك ثالث قائال بصوت عظيم: إن كان 11 - 1: 14)رؤيا وفي

يسجد للوحش ولصورته، ويقبل سمته على جبهته أو على يده، فهو أيضا سيشرب من

ئكة لمالالمصبوب صرفا في كأس غضبه، ويعذب بنار وكبريت أمام اخمر غضب الله

آلبدين( الحمل. ويصعد دخان عذابهم إلى أبد القديسين وأمام ا

لصانع قدامه الكذاب معه، النبي الوحش وا(: )فقبض على 20: 11)رؤيا وفي

ثنان الالذين سجدوا لصورته. وطرح الوحش والذين قبلوا سمة التي بها أضل اآليات ا

(لكبريتالمتقدة بالنار احيين إلى بحيرة

لحياة طرح في بحيرة ا(: )وكل من لم يوجد مكتوبا في سفر 12: 20)رؤيا وفي

لنار( ا

ك فيه المسيحيون مع اليهود، الكثير وهكذا نجد في العهد القديم، وهو الذي يشتر

: 23)إشعياء من النصوص الدالة على الجزاء الحسي، ومن األمثلة على ذلك ما ورد في

األشرار يستيقظون من ) (2: 12)دانيال ، وفي )ليس سالم قال إلهي لألشرار(: (21

(تراب األرض.. إلى العار لالزدراء األبدي

المسيحيين، وقد رد أحدهم على إخوانه من رجال وهذا ما يقوله المحققون من

الدين الذين يوهمون الناس بأن الكتاب المقدس ال يحوي أي نوع من أنواع العقوبة

434

يقول بعض الناس: كيف يمكن أن إله الحب والرحمة يسر في أن يعذب الحسية، بقوله: )

(1)(إلى األبد المخلوقات، حتى ولو كانت متمردة؟

لم يذكر الكتاب إطالقا بأن الله يريد عذاب اإلشكال، فقال: ) ثم أجاب على هذا

لكن األشرار هم الذين انفصلوا ،األشرار، كما أن ال دخل له في إلقائهم في جهنم العذاب

باختيارهم عن الله وعن نعمته المخلصة. لقد رفضوه وتبعا لذلك جلبوا الشقاء على

دة والفرح بالغفران، وبالسالم الذي وعذابهم يتضمن في حرمانهم من السعا ،أنفسهم

(يستطيع الله وحده أن يهبه

وهذا الكالم هو نفسه الذي يقوله المسلمون من أن ذلك العقاب اإللهي ليس

ةسوى حصاد لما كسب المسيئون، أما اعتباره أن العقوبة قاصرة على الحرمان من السعاد

ال في الكتاب المقدس، والذي والفرح بالغفران، فهي مغالطة تنفيها النصوص الواضحة

يقصر العقوبة على ذلك الحرمان، وإنما يضيف إليه عقوبات حسية واضحة.

(، 14: 33قول إشعياء عن وقائد أبدية )إشعياء ومن األمثلة على ذلك ما ورد في

قول دانيال عن العار في االزدراء األبدي )دانيال .. و(24: 33وعن نار ال تطفأ )إشعياء

: 1، مرقس 12: 13قول يوحنا والمسيح عن النار التي ال تطفأ أبدا )متى و ..(2: 12

ألبرار إلى حياة أبدية( )متى اقول المسيح: )يمضي هؤالء إلى عذاب أبدي و.. و(43

وسيعذبون نهارا ..آلبدينافي سفر الرؤيا: )ويصعد دخان عذابهم إلى أبد ، و(43: 22

. وغيرها من النصوص الكثيرة.(.10: 20، 3: 11 ،11: 14آلبدين( )رؤيا اوليال إلى أبد

بناء على هذا سنحاول هنا أن نذكر ما ورد في النصوص المقدسة من أصناف

الجزاء الحسي، وقد رأينا أنه يمكن اجتماعها في األنواع األربعة التالية:

انظر مقاال بعنوان: جهنم في كتب المسيحية واإلسالم، اسكندر جديد، موقع الكلمة المسيحي. (1)

432

: ذلك أن النشأة األخرى تتشكل فيها األجسام والصور ـ األجسام والصور 1

ينها، واألعمال المرتبطة بها، وال يمكن فهم الجزاء الحسي في اآلخرة دون بحسب قوان

فهم ذلك.

: ذلك أن الله تعالى وفر في دار الجزاء مساكن تتناسب تماما ـ المأوى والمسكن 2

مع الطبائع المختلفة.

: فقد وصفت النصوص المقدسة الكثير مما يرتبط بهذا ـ األكل والشرب 3

الجانب.

: وقد ورد ذكر كليهما في النصوص المقدسة، وكانا من أكبر ج والولدانـ األزوا 4

المسائل التي وقعت فيها بعض اإلشكاالت، والتي نحاول اإلجابة عليها.

:ـ األجسام والصور 1

من خالل تأمل النصوص المقدسة الواردة عن أهل الجنة وأهل النار، نستطيع

باألجسام والصور في ذلك العالم، بناء على اكتشاف الكثير من الحقائق المرتبطة

القوانين التي تحكمه، والتي تخالف في الكثير منها ما نراه في هذا العالم.

وهذا ال يتنافى مع العقل أو العلم، ذلك أن العقل يقر بإمكانية وجود قوانين تحكم

العوالم عوالم أخرى؛ فليس بالضرورة ما نراه في هذا العالم هو المعيار الذي يحكم

جميعا.

وما يراه العقل بالتأمل هو ما أثبته العلم؛ وخاصة على ضوء تلك القوانين الكثيرة

الغريبة التي اكتشفها عند تعامله مع الكائنات تحت الذرية.

بناء على هذا سنذكر أهم خصائص األجسام والصور في ذلك العالم، على حسب

ما نفهمه من النصوص المقدسة.

األجسام والصور لألعمال:أ ـ تبعية

433

كما ذكرنا سابقا، فإن األجسام والصور يوم القيامة ابتداء من البعث، تتشكل

بحسب األعمال؛ فلذلك قد ال نرى البشر بهيئة واحدة مثلما نراهم في الدنيا، بل منهم

من يكون صغيرا حقيرا مثل النمل، كما ورد في األحاديث التي تصف هيئة المستكبرين..

يكون منهم من يكون بهيئة الوحوش نتيجة غلبية سبعيته، ومنهم من قد يكون بهيئة وقد

البهائم نتيجة غلبة شهوته.. وهكذا تكون األجسام بحسب الهيئات النفسية التي أدمن

عليها أصحابها، واختاروها ألنفسهم.

ن يزإنه ليأتي الرجل العظيم الســمين يوم القيامة ال ): وقد أشــار إلى هذا قوله

ة وزنــاا ﴿عنــد اللــه جنــاح بعوضــــة، وقــال: اقرؤوا امــ ]الكهف: ﴾فال نقيم لهم يوم القيــ

102])(1)

إلى أن ما نراه في الدنيا من ألوان، هي وهكذا األلوان؛ فقد أشار القرآن الكريم

ن األلواطالء، أما ألوان اآلخرة، فهي أقنعة ولالمتحان واالختبار فقط، وهي بذلك مجرد

ها ناظرة )22وجوه يومئذ ناضرة )﴿، قال تعالى: الثابتة الحقيقية ( ووجوه 23( إلى رب

وجوه يومئذ ﴿، وقال: [22 - 22]القيامة: ﴾( تظن أن يفعل بها فاقرة 24يومئذ باسرة )

( 41( ترهقها قترة )40( ووجوه يومئذ عليها غبرة )31بشرة )( ضاحكة مست 34مسفرة )

[40 - 34]عبس: ﴾( 42أولئك هم الكفرة الفجرة )

إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ): وفي الحديث قال رسول الله

ي في السماء إضاءة( (2)ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب در

وهكذا يعاين المسيئون ما فعلوه على أشكال وهيئات مختلفة، وقد ورد في بعض

يه هوام وحيات كالبخاتين لجهنم لجبابا في كل جب ساحال كساحل البحر فاآلثار: )إ

.324/ 4البخاري (1)

.2434، ومسلم، واللفظ له، برقم 3323، 3224، 3243رواه البخاري، برقم (2)

433

اخرجوا إلى الساحل :قيل ،فإذا سأل أهل النار التخفيف ؛وعقارب كالبغال الذل

فتأخذهم تلك الهوام بشفاههم وجنوبهم وما شاء الله من ذلك فتكشطها فيرجعون

فيبادرون إلى معظم النيران ويسلط عليهم الجرب حتى إن أحدهم ليحك جلده حتى يبدو

ذلك بما كنت تؤذي :نعم فيقال له :فيقول ؟يا فالن هل يؤذيك هذا :فيقال، العظم

(1)(المؤمنين

وهذا يدل على أن كل تلك المشاهد واآلالم التي يعاني منها هؤالء ليست سوى

تجسد لذلك األذى الذي كانوا يمارسونه في الدنيا.

كون يوهكذا يكون األلم في المحل الواحد بحسب العمل، ال بحسب البيئة التي

ن منهم من : )إالشخص، ففي الحديث في وصف عذاب جهنم قال رسول الله فيها

تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم

(2)(من تأخذه النار إلى ترقوته

ب ـ انسجام األجسام مع الجزاء:

منسجمة جميعا مع الجزاء المرتبط بها، ونريد به أن األجسام في ذلك العالم تكون

ولذلك فإن ما ندرسه في الدنيا من علم وظائف األعضاء قاصر على هذه األجساد، وال

عالقة له بأجساد اآلخرة، ذلك أن القوانين هناك مختلفة تماما.

ي الذي نراه في الدنيا، ال ضرورة له موكمثال على ذلك، فإن جميع الجهاز الهض

ن الغذاء هناك مختلف، وال حاجة لهذا الجهاز الختالف الغذاء، مثلما نرى في اآلخرة، أل

الجهاز الهضمي للبقرة مختلفا عن الجهاز الهضمي لإلنسان بناء على اختالف نوع

الغذاء.

(.224/ 4رواه ابن أبي الدنيا، الترغيب والترهيب للمنذري ) (1)

(.2442رواه مسلم رقم ) (2)

434

: )يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، وال وقد أشار إلى هذا المعنى قوله

طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون يتغوطون، وال يمتخطون، وال يبولون، ولكن

ال يبولون، وال يتغوطون، وال في رواية: ) (1)التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس(

(2)يتفلون، وال يمتخطون(

وهذا الحديث يشير إلى أن جهاز اإلطراح مختلف تماما، وأنه مرتبط بجميع

الجسم، وأن ما يخرج منه هو الرائحة الطيبة.. وهذا قد يشير إلى أن التلذذ بالطعام ليس

هو قد وخاصا باللسان، بل قد يكون في جميع األجزاء التي يمر بها، أي الجسم جميعا..

غذاء هناك هو التلذذ المجرد، أي أن األجسام هناك ثابتة يشير أيضا إلى أن الهدف من ال

مكتفية ال تحتاج لشيء يضاف إليها، أو تبنى به.

والحديث يشير أيضا إلى أن الجهاز التنفسي في ذلك الحين مختلف تماما، ألن

الشهيق والزفير فيه هو تلك التسبيحات التي يسبح بها اإلنسان ربه.

فى مع ما والتي تتنا، من األشياء المرتبطة بهذا الجانبوهكذا يمكننا تخيل الكثير

نراه في هذا العالم من تصرفات أجسادنا، والتي لها عالقة بنوع الحياة البسيطة التي

نعيشها.

ذكرنا عند مناقشتنا لبعض التنويريين في كتاب ]التنويريون والصراع مع ولذلك

وجات أو مع الحور العين ال عالقة لها أن العالقة الزوجية في اآلخرة مع الزالمقدسات[

بما نراه في الدنيا، بل هي عالقة سامية، متناسبة مع ذلك العالم الممتلئ بالطهر والسمو

. 2432رواه مسلم، برقم (1)

.2434، ومسلم، برقم 3323، 3224، 3243، 3242رواه البخاري، (2)

431

.(1)والقداسة

وهكذا؛ فإن الكثير من اإلشكاالت تحل عند التعرف على هذه الخاصية من

لقياس على أجسامخصائص أجسام اآلخرة.. ذلك أن الكثير من اإلشكاالت مبنية على ا

الدنيا وهيئاتها.

وهكذا األمر بالنسبة ألجسام المسيئين؛ فهي متناسبة مع نوع الجزاء المرتبط بهم،

إن ﴿ذكر الله تعالى بعض صفات الجلود في اآلخرة، وفي جهنم خصوصا، فقال: وقد

ما نضج ا كل ذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ا غيرها ال لناهم جلودا ت جلودهم بد

ا ا حكيما ه كان عزيزا [23]النساء: ﴾ليذوقوا العذاب إن الل

وأخبر عن الطاقات التي تحملها تلك األجساد، ومدى تحملها للعذاب، فقال:

ذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب ﴿ ( يصهر به 11من فوق رءوسهم الحميم ) فال

ما أرادوا أن يخرجوا منها 21( ولهم مقامع من حديد )20ما في بطونهم والجلود ) ( كل

[22 - 11]الحج: ﴾(22من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )

حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم ﴿وأخبر عن حديث الجسد في تلك النشأة، فقال:

[20]فصلت: ﴾سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون

عن بعض صفات أجسام من يدخلون جهنم، وبين أنها وهكذا أخبر رسول الله

الكافر ما بين منكبيتتنافى مع ما نعرفه من صفات األجساد وطاقاتها في الدنيا، فقال: )

وممـا ذكرنـاه في الكتـاب: )وكـان في إمكـان التنويريين أن يســـلموا للـه فيمـا ذكر، فهو أدرى بعباده، وبرغباتهم، (1)

ــوة قلوبهم، ولتمردهم على الله، وتقديمهم ألهوائهم عليه لم يفعلوا.. بل ــب معهم.. لكنهم لقس ولذلك خاطبهم بما يتناس

بالله، مع أن القرآن الكريم لم يذكر أي شــيء يرتبط بذلك، بل اكتفى راحوا يصــورون ذلك باعتباره هوســا جنســيا، والعياذ

بـاعتبـاره من نعيم الجنـة مثلـه مثـل الولـدان المخلـدون والقصـــور التي تجري تحتها األنهار..(]التنويريون والصـــراع مع

[22المقدسات، ص

440

)1(في النار مسيرة ثالثة أيام للراكب المسرع(

)ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده : وفي حديث آخر قال

(2) مسيرة ثالث(

)إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن : قال و

(3) مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة(

)ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاا، : وقال

(4) وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة(

هذه صور تقريبية، تحاول أن تصور الحقيقة التي ال يمكن معرفتها إال بعد وكل

معاينتها، ولذلك كان الخوض فيها خوضا فيما ال يعني..

وبناء على هذا نرى أن ما يذكر في الكثير من الروايات عن طول اإلنسان ونحوه

ر مختلف في هو من آثار اإلسرائيليات التي دخلت لألحاديث النبوية، ذلك أن األم

اآلخرة تماما عن الدنيا.

ومثل ذلك تلك األحاديث التي تصف بعض ما يحصل في الجنة، وخاصة في

العالقة مع الزوجات والحور العين، فكلها أحاديث تقريبية، أو رواها الرواة بالمعنى، أو

من المدسوسات، كما سنرى ذلك عند الحديث عن األزواج والولدان.

األجسام:ج ـ روحانية

قد يكون هذا العنوان غريبا، لكن ربما يكون حال للخالف الدائر بين القائلين

(2422(، ومسلم )3221رواه البخاري ) (1)

(2421رواه مسلم ) (2)

(. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب2233رواه الترمذي ) (3)

(333/ 4(، والحاكم )4323( )324/ 2رواه أحمد ) (4)

441

الروحاني، ذلك أن األجسام في اآلخرة، وفي دار الجزاء المعاد بالمعاد الجسماني و

أكثر امن الخصائص ما يجعلهلها خصوصا، وخاصة في الديار المعدة للمحسنين، يكون

التي الكثير من الحواجز امن أجساد الدنيا، حيث تنتفي عندهشفافية وروحانية ومثالية

نراها في الدنيا بسبب القوانين الفيزيائية التي تحكمها.

ولذلك يمكن ألهل الجنة التنقل حيث شاءوا، وفي طرقة عين، ومن غير حاجة

إذا دخل أهل الجنة ) :الستعمال أقدام، أو أي وسيلة نقل، وقد ورد في الحديث قوله

الجنة اشتاقوا إلى اإلخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكئ

هذا ويتكئ هذا، فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فالن، تدري أي

(1)فغفر لنا(، يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله عز وجل

هكذا يمكنهم بمجرد الهمة أن يحصلوا على ما يريدون، ففي الحديث قال و

(2)إنك لتنظر إلى الطير في الجنة، فتشتهيه، فيخر بين يديك مشوياا(: )رسول الله

وهكذا ورد في الحديث اإلخبار عن بعض الذين يشتهون الولد، فيحصل عليه في

في الجنة كان حمله ووضعه وسنه المؤمن إذا اشتهى الولد): لحظات معدودة، قال

(3)(في ساعة كما يشتهي

عن قوة أجساد أهل الجنة، ومدى اختالفها عن أجساد أهل الدينا، وهكذا أخبر

)ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فال تسقموا أبداا، وإن لكم أن تحيوا فال تموتوا : قال

أن تنعموا فال تبأسوا أبداا، فذلك قوله أبداا، وإن لكم أن تشبوا فال تهرموا أبداا، وإن لكم

ــند البزار برقم ) (1) ( : رجاله رجال الصــحيح غير ســعيد بن دينار 10/421( وقال الهيثمي في المجمع )3223مس

والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا.

(.100(، وابن أبي الدنيا في )صفة الجنة( )303البعث والنشور( )رواه البيهقي في ) (2)

.2443رواه الترمذي (3)

442

(1)[(43]األعراف: ﴾ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ﴿عز وجل:

واألمر ـ كما ورد في الروايات ـ ليس قاصرا على البشر، بل حتى على األشياء التي

إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة، ) :تكون في الجنة، ففي الحديث قال رسول الله

(2)(عادت مكانها أخرى

وبناء على هذا ذكر الكثير من المحققين ما ذكرناه من تروحن أجساد أهل الجنة،

دل العقل على أن : )مقداد عبد الله الفاضل السيوري الحليالمتكلم لعالمة فقد قال ا

سعادة النفوس في معرفة الله تعالى ومحبته، وعلى أن سعادة األبدان في إدراك

المحسوسات، ودل االستقراء على أن الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيا غير

استغراقه في تجلي أنوار عالم الغيب ال يمكنه االلتفات ممكن، وذلك ان اإلنسان حال

إلى اللذات الحسية، وإن أمكن كان على ضعف جداا بحيث ال يعد التذاذاا، وبالعكس،

لكن تعذر ذلك، سببه، ضعف النفوس البشرية هنا، فمع مفارقتها واستمدادها الفيض من

ر بعيد أن تصير هناك قوية على عالم القدس تقوى وتشرق، فمع إعادتها إلى أبدانها غي

الجمع بين السعادتين على الوجه التام وهو الغاية القصوى في مراتب السعادة. قالوا:

(3)(وهذا لم يقم على امتناعه برهان، فلذلك أثبتوا المعادين

ه النعيم الجسماني الذي يثبت، فقد قال: )شهاب الدين القرافيوقريب منه ما ذكره

ا على ما ذكرتموه من التشنيع، بل على وفق الكرامة الربانية المسلمون ليس مف سرا

والسعادة األبدية، وتقريره: أننا نجد في هذه الدار المالذ الجسمانية تترتب على أسباب

عادية، فالمالذ إما علوم خاصة حسية كإدراك الحالوة وأنواع الطعوم المالئمة، وإدراك

(.2433رواه مسلم ) (1)

(.2/102رواه الطبراني في المعجم الكبير ) (2)

.334اللوامع اإللهية: (3)

443

رية، وإدراك المالمسة لألجسام الموافقة لجواهر األرايج المناسبة لجواهر النفس البش

الطباع، وإدراك المبصرات من األلوان واألضواء وتفاصيل أنواع الحس والجمال

وغيرها من المبصرات السارة للنفس، وكذلك القول في بقية الحواس، وأما إدراك

اءذتغاألحوال النفسية كاستشعار النفس حصول الشراب والغذاء عند حاجتها لال

واإلرواء، ونحو ذلك، فهذه هي المالذ الجسمانية ولذلك حد الفضالء اللذة بقولهم:

، فجمعوا الجميع في هذا الحد الشامل، وأما أسبابها العادية فهي [هي إدراك المالئم]

ثم هذه المباشرة تقترن بها في ، المباشرة ألنواع المآكل والمشارب والمناكح ونحو ذلك

ناوالت وقاذورات تقترن بالمباشرات، فالمسلمون يدعون من هذه العادات حاجات للمت

األقسام الثالثة األولين فقط دون الثالث، فيثبتون اللذات وأسبابها مجردة عن القاذورات

وأنواع الحاجات، فيقولون: األكل والشرب والنكاح في الجنة من غير ألم جوع وال

ائط، وال ريح منتن وال حيض وال عطش وال بصاق والمخاط، وال دمع والبول وال غ

مني وال رطوبات مستقذرة، وال إبداء عورة منقضة، وال زوال أبهة معتبرة، وال شيء مما

يعاب بنوع نقيصه، بل يجد المؤمن غاية ما يكون من لذة األكل بمباشرة أنفس المآكل من

ما غير بصاق وال تلويث، وال ألم جوع سابق وال شيء الحق، وكذلك يحصل أعظم

يكون من لذة الشرب عند مباشرة أشرف المشروبات، من غير عطش وال حاجة سابقة

وإذا كان هذا هو الذي يعتقده المسلمون من الجمع .. وال تلويث الحق وال شيء يعاب

بين النعيم الروحاني المتعلق باألرواح من إدراك معنى جالل الله تعالى وجماله وتفاصيل

لى ممر األبد والنعيم الجسماني الذي تقدم تحقيقه ؛ كان هو صفاته وآالئه المتجددة ع

لهي واإلحسان الرباني، فإن االقتصار على النعيم الروحاني تقصير من الالئق بالكرم اإل

قائله في سعة النعمة وتمام الكرامة، وأن ما يقوله المسلمون يجزم العقل الشريف بأن

، وأن يكون على غاية التمام، بل لو فرض عدم مثله ال تعرى عنه دار أريدت لغاية اإلكرام

444

..هذه المالذ البديعة منها لقال العقل الوافر لو كان فيها هذه المالذ لكانت أتم وأكمل

(1)فظهر إصابة المسلمين للصواب ببيان الحق واندفع السؤال(

أما الذين ينكرون هذا القول، ويزعمون أن هذا الجسد الذي نعيش به في الدنيا هو

نفسه الذي نعيش به في اآلخرة؛ فهو مبني على تصورات بدائية لإلنسان، تجعل منه

مختصرا في هذا القالب الطيني، بينما حقيقة اإلنسان أكبر من أن تحصر في أي قالب.

بذكره أن هذا وقد أجاب الشيخ الفيلسوف صدر المتألهين على هذا اإلشكال

البدن الذي نعيش به في الدنيا، له حقيقة في ذاته، وليس مرتبطا ارتباطا ضروريا بالنفس،

ولذلك يعود بعد انتهاء استعمال النفس له إلى وضعه الطبيعي، ترابا مثل سائر التراب.

،وفي حال الشباب ،ماهية بدن اإلنسان في حال الطفولةوقد قال عند حديثه عن

،بال :الجواب): أم أنها قد تغيرت وتبدلت ،باقية بعينهاهي هل و ،وفي حال الشيخوخة

فهو من ،كالهما صحيح ؛ إذ كل من السلب واإليجاب صادق بوجه دون وجه ،وبنعم

صح أنه هو بعينه ذلک البدن بال تبدل إال ،حيث هو بدن زيد شخصي ذو نفس شخصية

ومن حيث إنه جسم له طبيعة جسمية ـ مع قطع ،معنىبما هو ال ،في عوارض هذا المعنى

في كل بل ،النظر عن ارتباطه بأمر آخر ـ فهو في كل سنة غير الذي كان في السنة األخرى

فإذا .. ساعة ولحظة هو غير الذي كان وسيكون ؛ لكونه دائماا في التحلل والذوبان

فاعلم أنه إذا فرض تبدل هذا البدن بالبدن اآلخر مع بقاء النفس فيهما صح ،أحكمت هذا

وصح اعتقادک بأن ما يرى في المنام بعينه هو هذا ،بأن أحدهما بعينه هو اآلخر ،قولک

البدن المتعين وال عبرة بتبدل المواد والخصوصيات، فكل من يرى ببصره القلبي نفس

فقد رأي صورة ذاته بعينه ؛ إن العبرة بتعين الشيء ،مع أي تمثل كان الرسول األعظم

..103األجوبة الفاخرة عن األسئلة الفاجرة، ص (1)

442

عن فقد روى ،والبدن بمنزلة اآللة المطلقة للنفس ،هو نفسه وصورته مع أي مادة كانت

(2)((1)(الشيطان ال يتمثل بي فانفقد رآني ،من رآني في المنام): النبي األكرم

ي وكذا المادة ف ،بذي اآللة)اآللة من حيث هي آلة إنما تتعين ثم علل ذلك بقوله:

ية زيد ولهذا تكون شخص ،وإنما تتعين بالصورة وتستهلک فيها ،وجودها في غاية اإلبهام

ددت مع أن جسميته مما تبدلت وتج ،تعينه باقياا مستمراا من أول صباه إلى آخر شيخوخته

كما أن زيداا ،وكذا جسمية كل عضو من أعضائه ،بحسب االستحاالت واألمراض

كذا و ،شخصي ـ بمجموع ما يدخل في قوام هويته من النفس والبدن ـ بقى ومستمرال

جسميته وبدنه أيضاا ـ من حيث كونه بدناا لزيد ومرتبطاا به ارتباطاا طبيعياا موجود شخصي

من حيث جسميته ال من اتهوإن تبدلت ذاته بذ ،واحد مستمر من أول العمر إلى آخره

(3) (حيث بدنيته لما علمت من الفرق بين االعتبارين

)جوهرية العبد في الدنيا واآلخرة وروحه باقية والنتيجة التي خلص إليها هي أن

وكل ما ينشأ من العمل الذي كان يعمله بالدنيا يعطي ،مع تبدل الصور عليه من غير تناسخ

(4) لقالبه جزاء ذلک في اآلخرة(

ثم بين مدى توافق هذا مع ما تقتضيه الحكمة المتعالية من التوافق بين الشريعة

)إن هذا هو االعتقاد الصحيح المطابق للشريعة والملة والفلسفة والعرفان، فقال:

ؤمناا وقد أصبح م ،فمن آمن بهذا فقد آمن بيوم القيامة والجزاء ،الموافق للبرهان والحكمة

وقول بتعطيل أكثر القوى ،والنقصان عن هذا خذالن وقصور عن درجة العرفان ،حقاا

..1/42رواه البخاري ، (1)

.343، ص 2تفسير القرآن الكريم ، صدرالمتألهين، ج (2)

.343، ص 2المرجع السابق، ج (3)

.344، ص 2المرجع السابق، ج (4)

443

ويلزم ،إلى غايتها والوصول إلى كماالتها ونتائج أشواقها وحركاتها بلوغوالطبائع عن ال

أن يكون ما أودعه الله في غزائر الطبائع الكونية وجبالتها من طلب الكمال والتوجه إلى

(1)(وهدراا ،وباطالا ،وعبثاا ،ما فوقها هباءا

ـ المناخ والتضاريس: 2

من األمور المرتبطة بالجزاء، والتي ورد ذكرها كثيرا في المصادر المقدسة،

ار دوالروايات التي تشرحها، ما يمكن أن نطلق عليه ]المناخ والتضاريس[ المرتبطة ببيئة

.الجزاء بأنواعها المختلفة

هل هي ها، ومحل وقد وقع الخالف الشديد فيوهي بيئة مرتبطة بالنشأة الثانية،

موجودة في عين هذا الكون الذي نعيش فيه، أما أنها في كون آخر مستقل تماما، أم أن

الجنة في كون مستقل خاص بها، بينما النار تابعة لهذا الكون.. وهذا القول األخير هو

ل.لث من هذا الفصالذي اخترناه بناء على أدلة كثيرة نعرض لبعضها في المبحث الثا

ب باألعمال، وبمرات انبناء على هذا؛ فإن المناخ والتضاريس في دار الجزاء مرتبط

العاملين، ذلك أن لكل فرد في ذلك العالم بيئته الخاصة به، على عكس ما نراه في الدنيا،

والذي تفرض فيه البيئة على صاحبها فرضا، حيث نرى بعضهم يعيش في أجواء

ارة مملوءة بالزوابع الرملية، وبعضهم يعيش عكس ذلك في أجواء صحراوية جافة ح

رطبة ممتلئة بالعواصف الثلجية، وبعضهم على عكس الطرفين يعيش في أجواء باردة

معتدلة إما في السهول، أو في الجبال، أو على الشواطئ.. وغير ذلك مما نراه في الدنيا،

وعلى خالفه عالم اآلخرة.

لتنوع الذي نعيشه في الدنيا، أن نرى قدرة الله تعالى، وأن ومن أهم أهداف هذا ا

.344، ص 2المرجع السابق، ج (1)

443

نعرف أنها يمكن أن توفر لنا ما نشاء من األجواء والبيئات.. وأنها لم تفرض علينا هذه

البيئات التي نعيشها في الدنيا لعجز منها، وإنما فعلت ذلك الختبارنا، ولتعريفنا بقدرة

الله المطلقة.

ا التعرف على ما ورد في النصوص حول هذا الجانب بناء على هذا سنحاول هن

المهم من جوانب الجزاء اإللهي، وعالقته بالعدالة والرحمة.

أ ـ مناخ وتضاريس الجنة:

القاعدة التي تحكم دار النعيم اإللهي في هذا الجانب هي ما نص عليه قوله

دق ﴿وله: ، وق[31]الزخرف: ﴾وفيها ما تشتهيه األنفس ﴿تعالى: ذي جاء بالص وال

ق به أولئك هم المتقون ) هم ذلك جزاء المحسنين 33وصد ﴾( لهم ما يشاءون عند رب

[34، 33]الزمر:

الجبال، أو إن اشتهى أحد من أهل الجنة سكنى الشواطئ، أو وبناء عليها، فإنه

ال . فكل ذلك يمكنه أن يتحقق له بكل سهولة، و.ات حتى البيئات الجليديةغيرها من البيئ

يحتاج لذلك سوى أن يهم ويشتهي أن يعيش في مثل تلك البيئة؛ فإذا به يعيش فيها.

وقد ذكرنا هذا بناء على أن البعض راح يعترض على ما ورد في النصوص المقدسة

هوىمن أوصاف الجنة، وكونها مملوءة بالشجر الكثير الملتف، وأن هذا ربما يناسب

إلى مثل هذه المناظر في الدنيا.. وأنالذين يفتقدون البيئات الصحراوية الجافة سكان

البيئات، ومن يعيش فيها من الناس دون غيرهم.النصوص المقدسة بذلك تراعي تلك

وهذا وهم ناتج عن عدم فهم لغة القرآن الكريم أو األحاديث الصحيحة المرتبطة

، وإنما بجميع صورها ومظاهرها، الستحالة ذلكبهذا الجانب، فهي ال تذكر الحقيقة

ك الشوق لتصور بعض مشاهدها، لتحريك النفوس للشوق إليها، واالستفادة من توجيه ذ

للعمل الصالح.

444

ولذلك إن شاء شخص ما أن يعيش في بيئة أخرى، فله ذلك، وال يحتاج سوى ألن

بطا يشتهيه، ألن النعيم هناك مرتيوفر من العمل الصالح ما يعطيه القوة على توفير كل م

بما حصله صاحبه من قوى وملكات في الدنيا.

نا نجد أن تلك األوصاف الواردة فإ ؛ولكن مع ذلك، ولو عدنا ألكثر نفوس البشر

في القرآن الكريم عن مناخ الجنة وتضاريسها مما يرغب فيه أكثر الخلق، وال يبغون عنه

أي بدل.

فالقرآن الكريم يذكر أن الجنة هي مجموعة من البساتين المتنوعة المملوءة

ر ال ﴿باألشجار، والتي تجري من تحتها األنهار، كما قال تعالى: ا ذين آمنوا وعملووبش

الحات أن لهم جنات تجري من تحتها األنهار أولئك ﴿، وقال: [22]البقرة: ﴾الص

هم وجنات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها ونعم أجر جزاؤهم مغفرة من رب

،[133]آل عمران: ﴾ملين العا

وهو وصف يرغب فيه البشر جميعا، خاصة إذا كانت تلك األشجار مثمرة ومتنوعة

الماء الصافي بجانبيها فوق ذلك يسيل ، وأو تحمل أزهارا، أو لها أوراق وأغصان مميزة

.وأمامها

وقد ذكر الشيخ مكارم الشيرازي بعض النواحي الجمالية المرتبطة بذلك،

:(1)وهي

والشجر يشكالن مع بعضهما البعض منظرا جميال في منتهى الروعة ءن الما. أ1

خر.كمال من اآلإلى إويحتاج ا،والجمال، وكان كل واحد منها ناقص

التي تجري من تحتها المياه تكون ف ،شجارنهار تؤمن طراوة دائمية لألن األأ .2

..130، ص 3نفحات القرآن، مكارم الشيرازي، ج (1)

441

ال ، فإنهاو يؤتى به من الخارجأشجار التي ال تتوفر لها مياه دائمة اما األ ،خضرا زاهية

ر هذا وال بد من توف ،ساس حياة النباتاتأهو ءفالما ،تتمتع بمثل هذه الطراوة واالخضرار

ست ن انهارالجنة ليإ):الرواياتبعض في قد ورد و ،ساس للحياة بجانبها دائماالعنصر األ

(الجنة منضبطة نما تجري على سطحإ ،خاديدأفي

األنهار، بل إن األنهار تجري من تحتها فقط شجار األ تنه ليسأعجب من هذا واأل

ذين آمنوا وعملوا ﴿تجري من تحت مساكن أهل الجنة، كما في قوله تعالى: وال

ا تجري من تحتها األنهار خالدين فيها نعم أجر ئنهم من الجنة غرفا الحات لنبو الص

[ 24]العنكبوت: ﴾العاملين

أخرى نهارونحب أن ننبه إلى أن األنهار في الجنة ليست فقط أنهار الماء، بل فيها أ

﴿مختلف ألوانها، كما في قوله تعالى: تي وعد المتقون فيها أنهار من ماء مثل الجنة ال

اربين وأنهار من ة للش عسل غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذ

ىم ، واآلية الكريمة لم تحصر األنهار، وإنما ذكرت بعضها بناء على [12]محمد: ﴾صف

المعارف البسيطة للبشر.

والمالحظة التي يمكن اكتشافها بسهولة من اآلية الكريمة هي أن أنهار الجنة

السمة التي تحكم جميع نعيم أهل الجنة. ييستحيل عليها التغير والتبدل، وه

الماء الذي ال يتغير طعمه ورائحته لطول [، أي أنه )غير آسننة ]فالماء في الج

(1)(وهذا أول نهر من أنهار الجنة، وفيه ماء زالل جار طيب الطعم والرائحة، بقائه

ن الجنة مكان ال يعتريه الفساد، )ألوذلك ، لم يتغير طعمهالذي لبن الأنهار وهكذا

تتغير األطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود وال تتغير أطعمة الجنة بمرور الزمن، وإنما

(323/ 13تفسير األمثل، ) (1)

410

(أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة

ال فيها غول وال هم ﴿وهكذا أنهار الخمر، والتي وصفت في آيات أخرى بكونها

[43]الصافات: ﴾عنها ينزفون

عسل مصفى.وهكذا العسل الذي وصف بأنه

على نقاوة جو الجنة وصفائه، وخلوه من كل المكدرات الموجودة وهذا كله يدل

في الدنيا، ذلك أن الدنيا مبنية على االختالط بين الطيب والخبيث بخالف الجنة التي ال

يوجد فيها إال الطيبات، ألنه ال يسكنها إال الطيبون.

ا على متكئين فيه ﴿وهكذا وصف جو الجنة بكونه جوا معتدال، قال تعالى:

ا ا وال زمهريرا نهم ال يرون شمسا ، أي أ[13]اإلنسان: ﴾األرائك ال يرون فيها شمسا

.ذون ببردهأوال زمهريرا يت ،ذون بحرهاأيت

وهكذا ذكرت ظالل الجنة، والتي ال تعني وجود حرارة في الجنة، وإنما تعني

مثل ﴿، وقال: [23]النساء: ﴾هم ظال ظليالا وندخل ﴿البعد الجمالي لها، قال تعالى:

ها تي وعد المتقون تجري من تحتها األنهار أكلها دائم وظل [32]الرعد: ﴾الجنة ال

وقد ورد في األحاديث الشريفة وصف تقريبي لتربة الجنة ورائحتها، وقد ذكرنا

ون الجنة ذات بيئات مختلفة بحسب درجات أصحابها، ففي الحديث كونه تقريبيا، لك

ولبنة فضة، ،لبنة ذهبوما بناؤها: )عن الجنة جوابا لمن سأله قال رسول الله

ا الزعفران، من يدخلها! ينعم ال ومالطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابه

(1)(يبأس، ويخلد ال يموت

من يدخل الجنة يحيا وال يموت، وينعم وال يبأس، ): وفي حديث آخر، قال

(.4030) 2/304رواه أحمد (1)

411

نة من ذهب لب)، قيل: يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: (وال تبلى ثيابه، وال يفنى شبابه

(1)(ولبنة من فضة، ومالطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران

فضة، وترابها الزعفران، الجنة لبنة من ذهب ولبنة من : )وفي حديث آخر، قال

(2)(وطينها المسك

ب ـ مناخ وتضاريس جهنم:

ورد في النصوص المقدسة ،البيئة المعدة للمحسنينعلى عكس أوصاف

اما الجزاء المعد للمسيئين، والمتناسب تمالبيئة الخاصة ب واألحاديث المفسرة لها وصف

مع سلوكاتهم وأعمالهم ونفوسهم.

سر ذلك الجزاء عند حديثه عن اآلالم التي كان يعانيها وقد ذكر القرآن الكريم

المحسنون في الحر الشديد للدفاع عن قيم الحق، في مقابل أولئك المسيئين الذين ركنوا

ه وكرهوا أن ﴿إلى الراحة، قال تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم خالف رسول الل

ه وقالوا ال تنفروا في الحر قل نار جهنم أش ا يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الل د حر

الخيار الذي اختاروه، تفثم رد عليهم ببيان مدى تها ،[41]التوبة: ﴾لو كانوا يفقهون

ا جزاءا بما كانوا يكسبون ﴿فقال: [42]التوبة: ﴾فليضحكوا قليالا وليبكوا كثيرا

وبذلك فإن هذه البيئة التي فروا منها في الدنيا، ستالقيهم في اآلخرة بصورة أشد،

ل في ذكر تلك البيئة لتكون رادعا للنفوس عن السكون إلى ولهذا نرى القرآن الكريم يفص

الراحة، وترك ما كلفت به من تكاليف.

/ 3رواه ابن أبي شـيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني وابن مردويه، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ) (1)

2321)

(313/ 10رواه البزار، والطبراني في األوسط، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) (2)

412

مال ﴿ومن اآليات الكريمة الدالة على ذلك ما ورد في قوله تعالى: وأصحاب الش

ن يحموم ال بارد وال مال في سموم وحميم وظل م 41]الواقعة: ﴾كريم ما أصحاب الش

؛ فهذه اآلية الكريمة تصف المناخ الذي يطغى على جهنم مبينة أنه ال مجال فيه [44 -

. .ثالثة، الماء، والهواء، والظلألي تلطيف أو تكييف، ذلك أن ملطفات الجو في الدنيا

وكلها في جهنم تلفح حرا.

خوذة عن كلمة أموهي وهو الريح الحارة الشديدة الحر، ،فهواء جهنم السموم

جميع دقائق ، والذي يدخل المسام، والالسع من شدة حرارته ءوتعني الهوا ،)السم(

.وثغرات الجسم

ا فقطع ﴿كما قال تعالى: الحميم الذي اشتد حره، ، فهوماؤهاأما وسقوا ماءا حميما

[12]محمد: ﴾أمعاءهم

والذي وصفه الله تعالى في آيات أخرى، وهو الحر الشديد،اليحموم، وأما ظلها ف

( إنها 31( ال ظليل وال يغني من اللهب )30انطلقوا إلى ظل ذي ثالث شعب )﴿فقال:

ه جمالت صفر 32ترمي بشرر كالقصر ) توجهوا ):أي ،[33 - 30]المرسالت: ﴾( كأن

نحو ظل من دخان خانق له ثالث شعب: شعبة من االعلى، وشعبة من الجهة اليمنى،

وشعبة من الجهة اليسرى، وعلى هذا األساس فإن دخان النار المميت هذا يحيط بهم من

(1)(كل جانب ويحاصرهم

سالت: ]المر ﴾ال ظليل وال يغني من اللهب ﴿ وهذا الظل كما يصفه الله تعالى

بما ور، )فليس في هذا الظل راحة، وال يمنع من اإلحتراق بالنار ألنه نابع من النار؛ [31

كان التعبير بـ )ظل( سببا لتصور وجود الظل الذي يخفف من حرارة النار، ولكن هذه

(301/ 11تفسير األمثل، ) (1)

413

نه ظل محرق وخانق، إاآلية تنفي هذا التصور وتقول: ليس هذا الظل كما تتصورون،

(1) ار الغليظ الذي يعكس حرارة اللهب بصورة كاملة(وناتج من دخان الن

وقد ذكر المفسرون سر هذه االنقسامات التي ينقسم لها هذا الظل، فذكروا أن

هذه الشعب الثالث هي انعكاس للتكذيبات الثالثة ألساس الدين، وهي التوحيد والنبوة )

شارة إ والتوحيد، وقيل، إنهاوالمعاد، ألن تكذيب المعاد ال ينفصل عن التكذيب بالنبوة

والوهمية، نعم، إن ذلك الدخان إلى مبادىء الذنوب الثالثة: القوة الغضبية والشهوية

(2) (المظلم تجسيد لظلمات الشهوات

﴾ترمي بشرر كالقصر ﴿بكونها تلك النار المحرقةويصف الله تعالى

وليس ،صر على كل بيت من حجروقد كان العرب يطلقون كلمة الق، [32]المرسالت:

ليس كشرر، والمقصود منه أنه من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد اآلن من قصور

ضئيل جدا.نار هذه الدنيا التي ال تكون أحيانا إال بمقدار

هم كان ﴿وقد ذكر الله تعالى أسباب هذه البيئة الممتلئة بالقسوة، فقال: وا قبل إن

ون على الحنث العظيم )42ذلك مترفين ) ( وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا 43( وكانوا يصر

ا لمبعوثون ) ا أإن ا وعظاما لون )43ترابا لين 44( أوآباؤنا األو ( 41واآلخرين )( قل إن األو

[20 - 42]الواقعة: ﴾لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم

الترف الذي جرهم إلى الكسل هو السبب في تلك المعاناة فإن ذلك ؛وبذلك

الشديدة التي عانوها في دار الجزاء، والترف ال يعني بالضرورة كثرة المال، فقد يكون

ملك نفس غني متكبر متعال، ولذلك يعامل معاملة المترف، وقد الشخص فقيرا، ولكنه ي

)إنما الدنيا ألربعة نفر: عبد رزقه الله ماال وعلما فهو يتقي فيه : ورد في الحديث قوله

(301/ 11المرجع السابق، ) (1)

(301/ 11السابق، )المرجع (2)

414

ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم

لو أن لي ماال لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرهما يرزقه ماال فهو صادق النية يقول:

سواء، وعبد رزقه الله ماال ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتقي فيه ربه،

وال يصل فيه رحمه، وال يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله ماال

(1)(فيه بعمل فالن فهو بنيته فوزرهما سواءوال علما فهو يقول: لو أن لي ماال لعملت

ن الظلمة مع أن الرجل قد يحاسب يوم القيامة حساب المستبدي وهكذا أخبر

إن الرجل : )هل بيته، أو لم تكن له إال مسؤوليات بسيطة، قال كونه لم يكن له إال أ

(2)وإنه ما يملك إال أهل بيته( ،وإنه ليكتب جبارا ،ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم

باإلضافة إلى ما ورد في القرآن الكريم من ذكر لبيئة جهنم، الممتلئة بكل ألوان

اآلالم، فقد ورد في األحاديث بعض ما فيها مع التنبيه الذي أشرنا إليه كثيرا من أن بعض

األحاديث ربما تكون قد رويت بالمعنى، أو قصد منها التقريب.

ومن تلك األحاديث ما ورد في بيان عالقة حر الدنيا بحر جهنم، فهي تعني تقريب

: )ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء رسول الله ذلك، حتى يكون له دوره التربوي، قال

واحد من سبعين جزءاا من نار جهنم( قالوا: والله إن كانت لكافية قال: )إنها فضلت عليها

(3) ن مثل حرها(بتسعة وستين جزءاا كله

والذي بعثك بالحق ): أن جبريل عليه السالم قال لرسول الله وفي حديث آخر

(4) لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في األرض كلهم جميعاا من حره(

(14031( ، وأحمد )2322رواه الترمذي ) (1)

( 241/ 4رواه أبو نعيم في الحلية ) (2)

(2443(، ومسلم )3232رواه البخاري ) (3)

(2243( )41/ 3رواه الطبراني في )المعجم األوسط( ) (4)

412

وكما وصفت النار بالحر الشديد، فقد وصفت كذلك بالبرد الشديد، وهو

ح فيغاثون بري ؛: )يستغيث أهل النار من الحرالأنه قابن عباس ، وقد روي عن زمهريرال

(1) فيسألون الحر( ،باردة يصدع العظام بردها

: )اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب قال رسول الله وقد ورد في الحديث أن

أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف ؛ فأشد ما تجدون

(2)تجدون من الزمهرير(من الحر، وأشد ما

: )إذا كان يوم حار، فقال الرجل: ال إله إال الله، ما أشد وفي حديث آخر قال

حر هذا اليوم، اللهم أجرني من حر جهنم، قال الله عز وجل لجهنم: إن عبدا من عبادي

له إوإن كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: ال ، استجار بي من حرك، فاشهدي أني أجرته

إال الله، ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله عز وجل لجهنم:

قالوا: ما إن عبدا من عبادي قد استجارني من زمهريرك، وإني أشهدك أني قد أجرته

(3)زمهرير جهنم؟، قال: )بيت يلقى فيه الكافر، فيتميز من شدة بردها بعضه من بعض(

قوع االسـتشكال من ورود النصوص الدالة على وجود البرد و ابن حجروقد ذكر

وال ،واسـتشكل وجوده في النار، المراد بالزمهرير شـدة البرد): الشـديد في جهنم، فقال

(4)(إشكال؛ ألن المراد بالنار: محلها، وفيها طبقة زمهريرية

ومثل ذلك رأى بعض المعاصرين عدم وجود البرد في جهنم بناء على اسمها،

وقد حاولت أن أخرج ،ليس في القرآن أي ذكر صريح للعذاب بالبرد في جهنم)ل: فقا

(122رواه ابن أبي الدنيا في )صفة النار( ) (1)

(.313(، ومسلم )3230)رواه البخاري (2)

(.303رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ) (3)

(.11/ 2فتح الباري، ) (4)

413

وال يعني هذا أنا ننفي وجود عذاب بالبرد الشديد في ..آية واحدة فيها ما قال فلم أجد

أما ما ذكره ، لكنا نقول أنه لم تأت آية واحدة صريحة في هذا الباب كما أعتقد ،جهنم

وله مثلما ورد في تفسيرهم لق، الترجيحات أو التخميناتبعض المفسرون فهو من باب

ذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب ﴿: تعالى إن ال

وعذاب ،أن عذاب جهنم هو عذاب الزمهريرذكروا حيث، [10]البروج: ﴾الحريق

فعذاب جهنم هو الحرارة الشديدة كما ،ولكن هذا ال دليل عليه ،لحريق هو عذاب النارا

ا ﴿: يقول الله تعالى اء: ]النس ﴾فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا

ن ال ، لذا فنحورد تسع مرات في القرآن [نار جهنم]ويكفيك أن التوصيف القرآني ،[22

(نقبل مثل هذه األقوال

وهكذا راح آخر يحاول أن يبرهن علميا على إمكانية اجتماع الحر والبرد في مكان

رغم غرابة اجتماع النار والزمهرير في مكان واحد إال أن الظاهرة ال تعد واحد، فقال: )

ا لجهنم الدنيا د نموذجوالتي تعـ مستحيلة من الناحية الفيزيائية.. فالشمس التي نراها مثال

تعتمد على حرق الهيدروجين إلطالق الحرارة والضوء في عملية تعرف باسم االندماج ـ

وهذا االندماج أمكن تحقيقه على االرض من خالل ما يعرف بالقنابل ،النووي

ركز ن مأالهيدروجينية.. وحين أجريت التجارب على هذا النوع من القنابل الحظ العلماء

فحين تنفجر القنبلة الهيدروجينية تنطلق ،ذاته يصبح باردا الى حد كبير االنفجار

العواصف النارية من الداخل الى الخارج محدثة تفريغا هوائيا في المركز يسبب برودة

شديدة وغير متوقعة(

وهذه االستشكاالت كلها ناتجة من تحكيم قوانين النشأة األولى على النشأة

األخرى، وقد ذكرنا سابقا أن لكل شخص في تلك النشأة عالمه الخاص به، فيمكن أن

يكون الشخص في نار جهنم، وفي نفس الوقت يشعر بالبرد الشديد؛ فقدرة الله ال يحدها

413

ار إلى برد وسالم إلبراهيم عليه السالم، قال شيء، وقد ذكر الله تعالى كيف حول الن

ا على إبراهيم ﴿تعالى: ا وسالما [31]األنبياء: ﴾قلنا يانار كوني بردا

ا مقضيا ﴿وهذا ما فسر به قوله تعالى: ﴾وإن منكم إال واردها كان على ربك حتما

ال يبقى بر وال فاجر إال ): قال ، فقد ورد في الحديث أن رسول الله [31]مريم:

يدخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسالما كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار

(1)ضجيجا من بردها، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا(

يامؤمن، فقد أطفأ امة: جزتقول النار للمؤمن يوم القي: )قال وفي حديث آخر

(2)نورك لهبي(

وبذلك، فإن المحل قد يكون واحدا، ومع ذلك يختلف حال أصحابه بناء على

نفوسهم وأعمالهم، لتبعية األبدان للنفوس في تلك النشأة، كما ذكرنا ذلك سابقا.

ـ المساكن والفرش: 3

التفاصيل مع بعضفي النصوص المقدسة من أنواع الجزاء التي ورد ذكرها

المرتبطة بها المساكن التي يسكنها المحسنون والمسيئون، وما وضع في تلك المساكن

من أنواع الفرش.

في الحياة الدنيا، كان لها آثارها في اذلك أن لهذا النوع من الجزاء جذور

الشخصية؛ فمن الناس من يقعد به حبه لمسكنه وما وفر فيه من راحة عن بذل الجهد

يم الصالحة في نفسه أو دعوة الناس إليها، ومنهم من يضحي بكل شيء في لتحقيق الق

سبيل امتالك تلك القيم النبيلة أو السعي لتحقيقها في األرض.

الطرفين أن يكون له من المساكن والفرش في ولهذا كان الجزاء الوفاق لكال

..323، ص 3نور الثقلين، الجزء (1)

المرجع السابق. (2)

414

في الدنيا.لنفسه ه ااآلخرة ما يتناسب مع ما ارتض

ن الكريم التحذيرات الشديدة من الركون إلى الراحة في تلك ولهذا نرى في القرآ

، من دون بذل الجهد للعمل الصالح الذي ألجله خلق اإلنسان، قال الدنيوية المساكن

قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال ﴿تعالى:

ه ورسوله اقترفتمو ها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الل

ه ال يهدي القوم الفاسقين ه بأمره والل ]التوبة: ﴾وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الل

24]

كن وسكنتم في مسا ﴿ه تعالى الراكنين للحياة الدنيا، فيقول:وهكذا يعاتب الل

ذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم األمثال [42م: ]إبراهي ﴾ال

ويذكر لهم الهالك الذي حصل لغيرهم ممن باعوا أنفسهم مقابل تلك المساكن

أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في ﴿التي سكنوها، قال تعالى:

وكم أهلكنا من قرية ﴿، وقال: [124]طه: ﴾مساكنهم إن في ذلك آليات ألولي النهى

﴾نهم لم تسكن من بعدهم إال قليالا وكنا نحن الوارثين بطرت معيشتها فتلك مساك

[24]القصص:

ويذكر لهم البيوت التي عوضوا بها في اآلخرة، نتيجة إهمالهم ألنفسهم، وللقيم

ذين كفروا معجزي﴿الصالحة التي أمروا بمراعاتها، قال تعالى: األرض ن فيال تحسبن ال

فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ﴿، وقال: [23]النور: ﴾ومأواهم النار ولبئس المصير

( 22هذا وإن للطاغين لشر مآب )﴿، وقال: [21]النحل: ﴾فلبئس مثوى المتكبرين

[23، 22]ص: ﴾نها فبئس المهاد جهنم يصلو

وهكذا ذكر نفورهم منها، وهربهم من السكن فيها، مع أنها هي نفسها التي بنوها

ذين فسقوا فمأواهم ﴿في الدنيا، لكنهم انشغلوا بظاهرها عن باطنها، قال تعالى: ا ال وأم

411

ما أرادوا أن يخرجوا م ذي كنتم به النار كل نها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار ال

بون [20]السجدة: ﴾تكذ

وفي مقابل هؤالء يذكر الله تعالى ما أعده للمؤمنين من مساكن طيبة تعوض عليهم

م التي ء القيكل ما خسروه في الدنيا، ألن همتهم لم تكن في بناء البيوت، وإنما في بنا

ه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من ﴿تشكلت منها نفوسهم، قال تعالى: وعد الل

ه أكبر ذلك ه و تحتها األنهار خالدين فيها ومساكن طيبةا في جنات عدن ورضوان من الل

[32]التوبة: ﴾ظيم الفوز الع

وقد ورد في القرآن الكريم بعض األوصاف لتلك البيوت المعدة للمحسنين،

والتي ترغبهم في االستعداد للسفر لها، وعدم تضييع أوقاتهم في االنشغال بالترف

هم لهم غرف من ف ﴿المرتبط بمساكن الدنيا، قال تعالى: قوا رب ذين ات رف وقها غ لكن ال

ه الميعاد ه ال يخلف الل [20]الزمر: ﴾مبنية تجري من تحتها األنهار وعد الل

وهذه اآلية الكريمة تحمل أجمل األوصاف ألجمل البيوت، فهي بيوت بعضها

حولها ف منفوق بعض مثل القصور العالية.. وفوق ذلك تجري من تحتها األنهار، وتلت

ن فإن كان أهل جهنم مستقرياألشجار، يقول مكارم الشيرازي تعليقا على اآلية الكريمة: )

لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ﴿قوله تعالى: في ظلل من النار، كما ورد في

وقصور فوقها قصور خرى، أفإن ألهل الجنة غرفا من فوقها غرف [ 13]الزمر: ﴾ظلل

خرى، ألن منظر الورود والماء واألنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة أ

(1)(والبهجة بشكل أكثر

وقد ورد في السنة المطهرة وصف تقريبي لبعض ما بنيت به تلك البيوت الجميلة،

(21/ 12تفسير األمثل، ) (1)

200

من ذهب، ومالطهاعن بناء الجنة؟ فقال: )لبنة من فضة، ولبنة رسول اللهفقد سئل

المسك األذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها: ينعم وال

(1)(يبأس، ويخلد وال يموت، ال تبلى ثيابهم، وال يفنى شبابهم

بين الوصف الجميل للبيوت، والثمن الذي تبنى به، وفي حديث آخر مزج

لجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ومالطها المسك، وقال )خلق الله تبارك وتعالى افقال:

فقالت المالئكة: طوبى لك ،[1]المؤمنون: ﴾قد أفلح المؤمنون ﴿لها: تكلمي فقالت:

(2)منزل الملوك(

)أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ : قالهيئة بناء تلك البيوت، ف ووصف

بذ: القباب.الجنا، و(3) وإذا ترابها المسك(

ـــت بهيئة واحدة، وإنما لها ـــير إلى أن تلك الغرفة ليس وقد ورد في الحديث ما يش

أشــكال كثيرة، مثلما نرى في الدنيا من تنوع أنواع وأشــكال الهندســة المعمارية التي بني

إن في الجنــة لغرفــا يرى بطونهــا من ظهورهــا، وظهورهــا من ): بهــا الكون، قــال

لمن أطاب الكالم، وأطعم الطعام، وصلى )يا رسول الله؟ قال: لمن هي(، فقيل: بطونها

(4)(لله بالليل والناس نيام

إن في الجنـة لغرفـة يرى ظـاهرهـا من باطنها، وباطنها من ظاهرها، ): وفي روايـة

(2) (أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأالن الكالم، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام

قال: أن رسول الله عن الغرف المرفوعة في السماء، فقال: وهكذا أخبر

.2223، الترمذي، برقم 2/302أحمد، (1)

(332/ 10رواه البزار كما في )مجمع الزوائد( للهيثمي ) (2)

(133(، ومسلم )3342رواه البخاري ) (3)

(1144سنن الترمذي برقم ) (4)

(2430( وصحيح مسلم برقم )3222وصحيح البخاري برقم ) (2)

201

)إن أهل الجنة ليتراءون )أهل الغرف( من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر من

األفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل األنبياء

)1(ده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين(ال يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بي

وهكذا يذكر القرآن الكريم الفرش المعدة للمحسنين في دار النعيم، ومن اآليات

، وقال [20]الطور: ﴾متكئين على سرر مصفوفة ﴿التي وردت في ذلك قوله تعالى:

( ونمارق 14( وأكواب موضوعة )13رفوعة )( فيها سرر م 12فيها عين جارية ) ﴿تعالى:

[ 13 - 12]الغاشية: ﴾(13( وزرابي مبثوثة )12مصفوفة )

وهي تشير إلى بعض الفرش التي وضعت في تلك البيوت، أو الخيام، ومنها

ونها بك، وقد وصفت د الصغيرة التي يتكأ عليهائالوسا[، وهي مصفوفةالنمارق ]ال

لتكون محال لجلسات األنس الجماعية ، ةخاصبطريقة إعدادهاإشارة إلى [ مصفوفة]

التي يقيمها المؤمنون بعضهم لبعض.

وهكذا وصفت األرض التي يسيرون عليها بكونها مألى بالزرابي المبثوثة في كل

زهدهم مكان، مما يدل على الترف العظيم الذي يعيشه أهل الجنة، والذي كان جزاء على

وورعهم في الدنيا.

وقد جمع الشيخ مكارم الشيرازي بعض األوصاف الواردة لبيوت أهل الجنة من

زل منهي أن الخالصةخالل اآليات الكريمة، ثم ذكر النتائج التي وصل إليها، فقال: )

الجنة ال مثيل له من كل الجهات، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال..

كل ألوان الثمار واألنعام والعيون الجارية واألشربة الطاهرة والولدان وتجد فيه

ة، وكلهاجميلالقداح األالمخلدين والحور العين واألسرة المرصعة والفرش الفاخرة و

(.2431رواه مسلم ) (1)

202

جلساء أصفياء، إلى غير ذلك مما ال يمكن عده بلسان أو وصفه ، ومعها في متناول اليد

وكل ما ذكر وغيره .. الرحب خيلة في عالمهابقلم وال حتى تخيله إذا ما سرحت الم

سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحا، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار

(1)(وفوق هذا وذاك فثمة لقاء الله، الذي ليس من فوز يوازيه.. العالية

وكما أن المواد التي بنيت بها بيوت الجنة هي أغلى المواد، وال يختلف ظاهرها

ن باطنها؛ فكذلك الفرش التي هيئت في الجنة ظاهرها كباطنها مملتئ بالجمال، قال ع

[24]الرحمن: ﴾متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ﴿تعالى:

،بطائن هي القماش الداخلي للفرشوقد علق عليها مكارم الشيرازي بقوله: )ال

الشيء الظريف هنا أن أثمن قماش يتصور في هذه و. الحرير السميك.هو ستبرقواإل

الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش، إشارة إلى أن القسم الظاهر ال يمكننا وصفه من حيث

الجمال والجاذبية. حيث أن البطانة غالبا ما تستعمل من القماش الرديء قياسا للوجه

ك العالم يعتبر من أثمن الظاهري، وعلى هذا فإننا نالحظ أن أردأ نوع من القماش في ذل

(2)(وأرقى أنواع القماش في الدنيا، فكيف الحال بالثمين من متاع الجنة؟

ـ الطعام والشراب: 4

من أنواع الجزاء التي ورد ذكرها في النصوص المقدسة مع بعض التفاصيل

المرتبطة بها أنواع الطعام والشراب التي هيئت للمحسنين والمسيئين، والمتجانسة مع

عمالهم، أو تلك التي شكلت منها أعمالهم.أ

ذلك أن التكاليف الشرعية مرتبطة بهذا الشأن من الشؤون التي توهم البعض أنها

شخصية، فراح يسرف فيها كما يشاء من غير حدود وال قيود، وربما جره ذلك اإلسراف

(122/ 20تفسير األمثل، ) (1)

(422/ 13تفسير األمثل، ) (2)

203

ه في همت إلى إهالك نفسه، وإتالف جسده في الدنيا قبل اآلخرة.. وربما جعل بعضهم كل

الدنيا أن يستزيد من الشهوات من غير اهتمام بجوع الجائعين، وظمأ الظامئين.. وربما

راح بعضهم يمأل معدته، ومعدة أهله بطعام المحرومين الذي استولى عليه ليستزيد من

شبعه وتخمته.

ولذلك كان جزاء كل هؤالء وغيرهم يوم القيامة أن يذوقوا ألوان العذاب المرتبطة

ك الطعام والشراب الذي ضيعوا حياتهم ودينهم في سبيله.بذل

وفي مقابلهم ينعم أولئك الجائعون المحرومون الطيبون بكل ما منعوا منه في

الدنيا، ال بسبب شح األرض بخيراتها، ولكن بسبب جشع المستبدين الظلمة وكبريائهم.

ي النصوص وسنحاول هنا أن نذكر بعض األنواع واألوصاف التي ورد ذكرها ف

المقدسة، والروايات المفسرة لها، لكال الصنفين من الجزاء.

أ ـ الطعام وأنواعه:

نظرا ألهمية الطعام في الحياة، ودور الترغيب أو الترهيب المرتبط به في إثارة

النفس، ودعوتها إلى القيم الرفيعة، نرى القرآن الكريم يوليه أهمية كبرى عند ذكر أنواع

المعد للمحسنين والمسيئين، وهو يقرن ذلك دائما باألعمال، وكونها الجزاء اإللهي

السبب في حصول ذلك الجزاء بشقيه المناسب للنفس، أو غير المناسب لها.

وقد ذكر القرآن الكريم بالنسبة لجزاء المسيئين ثالثة أنواع من األطعمة، كنماذج

بناء على معرفة أسمائها ومعانيها ألنواع الطعام الذي يتناوله أهل النار، وقد اكتفى بها

لدى المخاطبين، ولكونها أيضا وافية بتحقيق الغرض من الترهيب، ولذلك ال معنى لذكر

غيرها.

ليس لهم طعام إال من ضريع ﴿أما أولها، فهو الضريع، كما قال تعالى في وصفه:

204

شجر : إنه (1)، وقد قيل في تفسيره[3، 3اشية: ]الغ ﴾( ال يسمن وال يغني من جوع 3)

شجرة ذات شوك الطئة ، وقيل إنه نها الحجارةإ: قيلهو الزقوم. و، وقيل: من نار

، وكل هذه األوصاف يمكن أن تقرب من حقيقته، ألن الغرض منه كما ذكرنا باألرض

ليس وصفه بدقة، فذلك مستحيل، وإنما تقريبه لتحقيق التنفير.

ال يسمن وال يغني من﴿ه تعالى هذا الطعام الشديد القاسي، بكونه وقد وصف الل

به مقصود، وال يندفع به محذور.، أي أنه تعذيب مجرد ال يحصل ﴾جوع

خذوه فغلوه ﴿أما الطعام الثاني؛ فهو الغسلين، وقد ورد ذكره في قوله تعالى:

ا فاسلكوه )( ثم في سلس 31( ثم الجحيم صلوه )30) ه كان 32لة ذرعها سبعون ذراعا ( إن

ه العظيم ) ( فليس له اليوم هاهنا 34( وال يحض على طعام المسكين )33ال يؤمن بالل

[33 - 30]الحاقة: ﴾ الخاطئون ( ال يأكله إال 33( وال طعام إال من غسلين )32حميم )

وهذه اآليات الكريمة تبين سر هذه العقوبات المتشددة، وسر الطعام المعد

ألهلها، ومنها عدم الحض على إطعام المسكين، أي تركه محروما جائعا، دون المسارعة

م ث إلغاثته، ولو بدعوة الناس لذلك، فكيف بمن يتسبب في ذلك الجوع، أو يكون غنيا،

يمنع الفقراء من طعامه؟

وهو دليل على مدى التجانس بين العقوبة والذنب، ذلك أن العقوبة ليست سوى

تجسيد للذنب حتى ينفر منه صاحبه، ويعرف مدى قبح الجريمة التي وقع فيها.

ولذلك كان من األقوال الواردة ،)الغسل(ويظهر من اسم هذا الطعام أنه مشتق من

ءه المادم يشبأهل جهنم، ويذكر آخرون أنه بدان الناتجة من غسل أسالة غفي تفسيره أنه ال

.. وغيرها من األقوال التي تشير إلى مدى بشاعة ذلك صحاب النارأبدان أيخرج من

(342/ 4تفسير ابن كثير ) (1)

202

.الطعام الذي ال يقصد منه إال العقوبة، ذلك أنه ال يسمن وال يغني من جوع

وأما الطعام الثالث؛ فهو الزقوم، وقد ورد في مواضع من القرآن الكريم، ووصف

وم ﴿بأوصاف كثيرة تنفر منه، منها ما ورد في قوله تعالى: ق أذلك خير نزالا أم شجرة الز

ا جعلناها فتنةا للظالمين )32) ها شجرة تخرج ف 33( إن ( طلعها 34ي أصل الجحيم )( إن

ياطين ) ه رءوس الش هم آلكلون منها فمالئون منها البطون )32كأن ( ثم إن لهم 33( فإن

ا من حميم ) لى الجحيم 33عليها لشوبا ، ثم [34 - 32]الصافات: ﴾( ثم إن مرجعهم إل

ين ) ﴿بين سر العقوبة المرتبطة بهذا الطعام، فقال: هم ألفوا آباءهم ضال ( فهم على 31إن

[30، 31]الصافات: ﴾آثارهم يهرعون

وم )﴿وهكذا وصف في آيات أخرى، قال تعالى: ق ( طعام األثيم 43إن شجرت الز

43( كغلي الحميم )42كالمهل يغلي في البطون )( 44)( خذوه فاعتلوه إلى سواء

﴾( ذق إنك أنت العزيز الكريم 44( ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم )43الجحيم )

[41 - 43]الدخان:

: إنه اسم نبات مر وذي طعم ورائحة كثير من األقوال، ومنهاوقد ورد في تفسيره ال

إنه اسم نبات يحمل أوراقا صغيرة مرة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض ، أو كريهة

شمئزاز أهل جهنم.اكل غذاء يثير ، أو أنه تهامة، وكان يعرفه المشركون

عجبوا كيف وقد كان هذا الطعام خصوصا محل سخرية من المشركين، ذلك أنهم ت

تنبت شجرته في جهنم، وهي عبارة عن نيران حارقة، وهذا يدل على مدى التعنت الذي

وصلت إليه عقولهم؛ فبدل أن يحقق هذا الترهيب أثره في نفوسهم، راحوا يسخرون منه،

تي أريناك إال ﴿ويستهزئون به، وقد قال تعالى في الرد عليهم: ؤيا ال فتنةا وما جعلنا الر

ا ا كبيرا فهم فما يزيدهم إال طغيانا جرة الملعونة في القرآن ونخو راء: ]اإلس ﴾للناس والش

30]

203

ـ ال تشبه أشجار وقد قال مكارم الشيرازي تعليقا عليها: ) ـ بدون شك شجرة الزقوم

في النار، وطبيعي أننا ال ندرك هذه األمور المتعلقة الدنيا أبدا، ولهذا السبب فإنها تنمو

قد استهزأ المشركون بهذه .. وبالعالم اآلخر إال على شكل أشباح وتصورات ذهنية

ـ كان ـ مثال التعابير واألوصاف القرآنية بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وعنادهم، فأبوجهل

د ذلك بأن في النار أشجارا يقول: إن محمدا يهددكم بنار تحرق األحجار، ثم يقول بع

وينقل عن أبي جهل ـ أيضا ـ أنه كان يهيىء التمر والسمن ويأكل منه ثم يقول ، تنمو

لهذا السبب فإن القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في . ألصحابه: كلوا من هذا فإنه الزقوم.

ينما باآليات التي نبحثها، وسيلة إلختبار الناس، إذ كان المشركون يستهزئون بها،

(1)(استيقنها المؤمنون الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها

وهذا يدل على أن من االختبارات اإللهية لعباده في هذه الدار طرح مثل هذه

المسائل، والتي تختلف العقول في التعامل معها، أما الصادقون، فينظرون إلى قدرة الله

ي حدث آثارها في نفوسهم، بينما تكون فتعالى المطلقة، فيسلمون لها، ويؤمنون بها، وت

نفوس غيرهم حجابا يحول بينهم وبين التعرف على الحق، بسبب عنتهم وكبريائهم.

هذا بعض ما ورد في النصوص المقدسة حول طعام المسيئين في جهنم، أما طعام

المحسنين، فقد ورد ذكره في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويرد عادة مقرونا بطعام

المسيئين حتى يدعو العقول لالختيار بين كال الطعامين، والعمل المرتبط بهما.

ولعل أهم األطعمة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وبشيء من التفاصيل

]الفواكه[، ولهذا وصفت أشجار الجنة بكون ثمارها متدلية لمن شاء أن يأكل منها، كما

، وقد ورد في الحديث أنها تستبدل [24]الرحمن: ﴾ان وجنى الجنتين د ﴿قال تعالى:

(42/ 1تفسير األمثل، ) (1)

203

(1)(إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة، عادت مكانها أخرى: )مباشرة حال نزعها، قال

ولذلك فإن الفاكهة موفرة في الجنة كل حين، وليس مثل الدنيا، تختلف الفواكه

]الواقعة: ﴾ال مقطوعة وال ممنوعة (32وفاكهة كثيرة )﴿باختالف الفصول، قال تعالى:

32 ،33]

عون متكئين فيها يد ﴿وقد أشار القرآن الكريم إلى كثرة الفواكه في الجنة، فقال:

تي أورثتموها بما كنتم ﴿، وقال: [21]ص: ﴾فيها بفاكهة كثيرة وشراب وتلك الجنة ال

[33، 32]الزخرف: ﴾( لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون 32تعملون )

يدعون فيها بكل فاكهة ﴿وأشار إلى تنوعها، لتتناسب مع جميع األمزجة، فقال:

﴿، وقال: [22: ]الرحمن ﴾فيهما من كل فاكهة زوجان ﴿، وقال: [22]الدخان: ﴾آمنين

ا يشتهون 41إن المتقين في ظالل وعيون ) [42، 41]المرسالت: ﴾( وفواكه مم

وضرب األمثلة على بعض ما في الجنة من الفواكه مما قد يكون له بعض الشبه في

دع مثلها جز أن يبالدنيا، وكأنه يشير إلى أن البديع الذي أبدع هذه الفواكه في الدنيا لن يع

ان ﴿أو ما هو خير منها في الدار اآلخرة، قال تعالى: ]الرحمن: ﴾فيهما فاكهة ونخل ورم

34]

وذكر منها نوعين وهما وقد ذكر الفخر الرازي سر ذكر هاتين الفاكهتين، فقال: )

أحدهما حار وكذلك ،فأحدهما حلو واآلخر غير حلو ؛الرمان والرطب ألنهما متقابالن

واآلخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء، واآلخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البالد الحارة

واآلخر من فواكه البالد الباردة، وأحدهما أشجاره في غاية الطول واآلخر أشجاره بالضد

وأحدهما ما يؤكل منه بارز وماال يؤكل كامن، واآلخر بالعكس فهما كالضدين واإلشارة

(.2/102رواه الطبراني في المعجم الكبير ) (1)

204

﴾رب المشرقين ورب المغربين ﴿فين تتناول اإلشارة إلى ما بينهما، كما قال: إلى الطر

(1)([13]الرحمن:

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هذه الفاكهة التي ورد النظير لها في الدنيا، لم توصف في

دنيا في لطعام المقربين والسابقين، وإنما وصفت في طعام الناجين، أصحاب المراتب ا

، وهو يشير إلى ما [32]الرحمن: ﴾ومن دونهما جنتان ﴿الجنة، كما قال تعالى قبلها:

سنذكره من أن المراتب الدنيا في الجنة سيرون فيها أشياء شبيهة بالدنيا، وإن كانت أجمل

ذين آمنوا وعملوا ﴿وأفضل منها بكثير، كما قال تعالى: ر ال الحات أن لهم جنات وبش الص

ذي رزقنا من قب ا قالوا هذا ال ما رزقوا منها من ثمرة رزقا وا ل وأت تجري من تحتها األنهار كل

رة وهم فيها خالدون ا ولهم فيها أزواج مطه [22البقرة: ] ﴾به متشابها

وقد علل الفخر الرازي سبب االهتمام بذكر الفاكهة، بدل سائر األطعمة، فقال:

فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها، وهذا ؛الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا)

(2)(الوجه أصح ألن من الفواكه ما ال يؤكل إال بعد الطعام

ما له نظير في الدنيا ما عبر عنه قوله تعالى ومن الفواكه التي ورد ذكرها في الجنة م

( في سدر 23وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين )﴿في وصف نعيم أصحاب اليمين:

[21 - 23]الواقعة: ﴾( وطلح منضود 24مخضود )

بوا ذا طلوهذا يدل على أن هذا النعيم متناسب مع ما كانوا يشتهونه في الدنيا، وله

أن يوفر لهم في اآلخرة، واستجاب الله طلبهم، حتى لو كان ذلك أدنى من النعيم المعد

عاما رزقهم الله تعالى ط نللمقربين، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى عن بني إسرائيل الذي

طعام علىوإذ قلتم ياموسى لن نصبر ﴿كبيرا، لكنهم رغبوا فيما هو دونه، قال تعالى:

(340/ 21تفسير الرازي، ) (1)

(313/ 21المرجع السابق، ) (2)

201

ا تنبت األرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها و ك يخرج لنا مم صلها ب واحد فادع لنا رب

ا فإن لكم ما سأ ذي هو خير اهبطوا مصرا ذي هو أدنى بال بقرة: ]ال ﴾لتم قال أتستبدلون ال

31]

وهذا يشير إلى فرق من الفروق المهمة بين أصحاب اليمين والمقربين، فالمقربون

أصحاب التسليم المطلق لله، ولذلك يعطون بحسب ما يرضى الله لهم، وأما من دونهم،

فيعطون بحسب رغباتهم واختياراتهم، ولذلك كانت جنتهم دون جنة المقربين بكثير.

ة السلبيسدر بكونه مخضودا، تمييزا له عن سدر الدنيا، ذلك أن )وقد وصف ال

الموجودة في هذا الشجر أنه ذو شوك إال أن وصفه بـ )مخضود( من مادة )خضد( ـ على

(1)(وزن )مجد( ـ بمعنى )إزالة الشوك( تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنة

يارسول الله لقد ذكر الله في : ا قال لرسول الله أعرابيوقد ورد في الحديث أن

فقال رسول الله القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟

« :قال رسول الله ، فقال: السدر، فإن لها شوكا« وما هي« : أليس يقول الله: في

سدر مخضود، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، إنها تنبت ثمرا يفتق

(2)الثمر منها عن إثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه اآلخر(

وهذا يشير إلى أن أطعمة الجنة خالية من الزوائد واألذى والقشور وغيرها من

الذي يوجد مثله في الدنيا.. ولذلك ال محل هناك للقمامة.. ذلك أن كل الطعام يؤكل،

محضر جاهز ال يحتاج ألي طبخ، باإلضافة وليس هناك شيء يرمى.. وكل شيء هناك

إلى أن ذلك الطعام يخرج على هيئة مسك، ومن كل الجسم، ولذلك ال حاجة لدورات

المياه التي نراها في الدنيا، ذلك أن الدنيا دار لالختبار، لذلك كان النعيم فيها ممزوجا،

(.430/ 13تفسير األمثل، ) (1)

(12/ 4رواه الحاكم وصححه والبهيقي، انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور ) (2)

210

بخالف نعيم اآلخرة الخالص.

ين فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة بال كلوا الت: )ويشير إلى هذا كله قوله

(1)(عجم لقلت هي التين

ومن أطعمة الجنة المذكورة في النصوص المقدسة اللحم، وخصوصا لحم الطير،

ا يشتهون ﴿كما قال تعالى: وهو يشير طبعا إلى غيره من ، [21]الواقعة: ﴾ولحم طير مم

بما يشتهيه أهل الجنة.أنواع األطعمة، ألن العبرة فيها

وكما ذكرنا في الفاكهة، فكذلك األمر في اللحم، فاشتهاء ذلك الطير كاف لجعله

أمام صاحبه ليأكل منه، من دون أن يرمي شيئا.. وفي نفس الوقت يعود ذلك الطير إلى

طيرانه مثلما تعود الفاكهة إلى محلها.

ن يديك الجنة فتشتهيه فيخر بيإنك لتنظر إلى الطير في وقد ورد في بعض اآلثار: )

ا (2)(مشويا

وقد ورد في بعض األحاديث التي لسنا ندري مدى صحتها، لعالقتها باليهود، أن

عن أول سأل النبي أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت، فقد روي أن يهوديا

، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: (زيادة كبد النون) قال:، فالجنةطعام يأكله أهل

(3)(ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)

ب ـ الشراب وأنواعه:

كما أن الشراب بأنواعه المختلفة يشكل جزءا مهما من النعيم الحسي الذي نراه

في الدنيا، فهو كذلك جزء من الجزاء الحسي الذي يراه المحسنون والمسيئون في

(.42/ 2رواه ابن السنى وأبو نعيم، المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي ) (1)

2032، رقم: 2/401البزار في البحر الزخار: (2)

(.1/133مسلم ) (3)

211

ة.اآلخر

وقد ذكر القرآن الكريم نماذج عن كال الجزائين ليرغب في التقوى التي توفر

ألصحابها كل ألوان الشراب اللذيذ الذي رأوا مثله في الدنيا، أو الذي لم يروا مثله أبدا..

وفي نفس الوقت تنفر من كل ألوان الشراب القبيح والمؤلم، والذي أعد لمن تجاوز

أمر الله بمراعاتها. حدوده، وحدود القيم التي

﴿ومن أنواع الشراب المعدة للمسيئين جراء أعمالهم ما ذكره الله تعالى في قوله:

كالمهل يشو ا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء ا أعتدنا للظالمين نارا ي إن

راب و االوجوه بئس الش [21]الكهف: ﴾ساءت مرتفقا

والذي يكون ،المقدار المترسب من الدهنوقد ذكر المفسرون أن هذا المهل هو

أو أنه المعادن المذابة، وهذا ما يشير إليه قوله عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم،

[21]الكهف: ﴾يشوي الوجوه ﴿تعالى:

وهو ما يشير إليه قوله تعالى أيضا في اآلية التي تقارن بين شراب المحسنين

ا فقطع أمعاءهم ﴿والمسيئين: ، وهذا يدل على أن [12]محمد: ﴾وسقوا ماءا حميما

الشراب ال تتوقف آالمه عند حدود شربه، بل يستمر أثره بعد ذلك في سائر الجسم، وهو

مع تلك المشروبات التي كان المسيئون يشربونها في الدنيا، وتدمر جزاء متوافق تماما

عليهم صحتهم، من غير مباالة منهم لتحريمها.

ها ال يذوقون في﴿وهكذا وصف شراب المسيئين في آيات أخرى منها قوله تعالى:

ا ) ا وال شرابا ا )24بردا اقا ا وغس هم كانوا ال يرجون 23ا )( جزاءا وفاقا 22( إال حميما ( إن

ا ) ا )23حسابا ابا بوا بآياتنا كذ ، وهذه اآليات الكريمة تذكر [24 - 24]النبأ: ﴾(24( وكذ

أن هذا النوع من العذاب متوافق مع أعمالهم، ولو أنهم كانوا يراعون مصيرهم، والمرتبط

ا وقعوا فيه. بتصديق الرسل عليهم السالم ما وقعوا فيم

212

ويذكر القرآن الكريم اضطرار المسيئين لذلك الشراب مع كونه بتلك الصفة، لما

( من 12واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )﴿ركبه الله فيهم من العطش، قال تعالى:

صديد )عه وال ي 13ورائه جهنم ويسقى من ماء كاد يسيغه ويأتيه الموت من كل ( يتجر

[ 13 - 12]إبراهيم: ﴾مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ

د ، وقطينة الخبالوقد ورد في الحديث ذكر بعض أصناف الشراب وأهلها، ومنها

(1)هل النار(عصارة أ(، أو )صديد أهل الناربأنها ) فسرها رسول الله

كل بقوله: ) ومن أهلها الذين يشربونها في دار الجزاء من عبر عنهم رسول الله

(2)(مسكر حرام، وإن على الله عهداا لمن يشرب المسكر: أن يسقيه من طينة الخبال

وورد في الحديث وصف كيفية شرب المسيئين لذلك الشراب المؤذي، وذلك

صديد )﴿تعالى: في تفسير قولهعه وال يكاد يسيغه 13ويسقى من ماء ]إبراهيم: ﴾( يتجر

يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة : )فقد قال ،[13، 13

(3)(رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج

ونفوسهم، يذكر الله تعالىوفي مقابل هذا الجزاء المتناسب مع أعمال المسيئين

أصناف شراب المحسنين، والتي تختلف باختالف أعمالهم، والتي ال تقتصر آثارها على

نفوسهم من أنواع اللذة ه بتلك اللذة التي يجدونها في شربها، وإنما فيما تحدثهم

والنشوة.

ومن اآليات التي تصور تلك المجالس التي يجتمع فيها المؤمنون الذين تورعوا

ة ﴿عن الشرب الحرام في الدنيا، ما نص عليه قوله تعالى: ويطاف عليهم بآنية من فض

(.2/131أحمد في المسند ) (1)

(2002مسلم رقم )رواه (2)

(.2243(، رواه الترمذي في السنن برقم )2/232المسند ) (3)

213

ا )12وأكواب كانت قواريرا ) روها تقديرا ة قد ا كان 13( قوارير من فض ( ويسقون فيها كأسا

ى سلسبيالا )( عيناا 13مزاجها زنجبيالا ) [14 - 12]اإلنسان: ﴾(14فيها تسم

وقد ذكر القرآن الكريم باهتمام شديد منابع ذلك الشراب، مبينا قيمته، فقد قال عند

، وقال [20]الرحمن: ﴾فيهما عينان تجريان ﴿ذكره لجزاء أصحاب المراتب العالية:

اختان فيه ﴿عند ذكره ألصحاب المراتب الدنيا: [33]الرحمن: ﴾ما عينان نض

ى عيناا فيها تسم ﴿وورد في آيات أخرى تسمية تلك العيون، ومنها قوله تعالى:

بون 23ومزاجه من تسنيم )﴿، وقوله: [14]اإلنسان: ﴾سلسبيالا ﴾( عيناا يشرب بها المقر

ا ]﴿، وقوله: [24، 23]المطففين: [ عيناا 2إن األبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا

ا ] رونها تفجيرا ه يفج [.3 -2]اإلنسان: ﴾[3يشرب بها عباد الل

وهذا كله يدل على أهمية تلك العيون، وأنواع الشراب الذي يخرج منها، وإن كان

يم ذكر بعض ما يعرف من ذلك الشراب لتقريب الصورة إلى األذهان، وإال القرآن الكر

يتحدث القرآن عن الشراب الطهور فإن األمر أعظم بكثير، كما قال مكارم الشيرازي: )

الممزوج بالزنجبيل، ومن البديهي أن الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين

والجدير بالذكر أن العرب كانوا ، آلخرةالسماء واألرض وباألحرى بين الدنيا وا

يستخدمون نوعين من الشراب: أحدهما يبعث على النشاط والحركة، واآلخر مفتر

ومهدىء واألول يمزج مع الزنجبيل، أما الثاني فمع الكافور، وبما أن حقائق عالم اآلخرة

هذه األلفاظ ال يمكن أن يعبر عنها في إطار ألفاظ هذا العالم، فال سبيل إال استخدام

غالبا « الزنجبيل»للداللة على معان أوسع وأعلى تحكي عن تلك الحقائق العظيمة. ولفظ

ما يطلق على الجذر المعطر للتوابل الخاصة لألغذية واألشربة، وإن كانت األقوال

214

(1)(مختلفة في معناه

ويذكر القرآن الكريم أن من الرفاه الموجود في الجنة تنوع األنهار، والتي ال تكون

مملوءة بالمياه مثل أنهار الدنيا، وإنما تمأل بكل أصناف الشراب اللذيذ، ومنها ما عبر عنه

غي ﴿تعالى: قوله تي وعد المتقون فيها أنهار من ماء م ر آسن وأنهار من لبن ل مثل الجنة ال

ى ولهم فيها من كل اربين وأنهار من عسل مصف ة للش يتغير طعمه وأنهار من خمر لذ

هم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا ح ا فقطع أمعاءهم الثمرات ومغفرة من رب ميما

[12]محمد: ﴾[12]

يذكر القرآن الكريم أصالة ذلك الشراب، وعدم وجود أي غش أو أذى فيه، مثلما و

[ على األرائك 22إن األبرار لفي نعيم ]﴿: هو الحال في شراب الدنيا، يقول تعالى

[ 22[ يسقون من رحيق مختوم ]24نضرة النعيم ] [ تعرف في وجوههم 23ينظرون ]

[ عيناا يشرب 23[ ومزاجه من تسنيم ]23ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ]

بون ] فين: ﴾[24بها المقر [24 -22]المطف

رحيق الفي بيان معناها ناقال أقوال المفسرين في ذلك: )وقد قال مكارم الشيرازي

وم: ومخت، ـ كما اعتبره المفسرين ـ هو الشراب الخالص الذي ال يشوبه أي غش أو تلوث

إشارة إلى أنه أصلي ويحمل كل صفاته المميزة عن غيره من األشربة وال يجاريه شراب

والختم بالصورة . ته.قط، وهذا بحد ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهار

المذكورة يظهر مدى اإلحترام الخاص ألهل الجنة، حيث أن ذلك اإلحكام وتلك

ختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي و ..األختام مختصة لهم، وال يفتحها أحد سواهم

تلوث األيدي، وأقل ما فيها أنها في حال فتحها ترمى في سلة األوساخ، بل هو شراب

(.233/ 11تفسير األمثل، ) (1)

212

ته(، يعني )نهاي« ختامه»وقيل: ، ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه طاهر مختوم، وإذا

فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خالف أشربة أهل

(1)(الدنيا، التي ال تترك في الفم إال المرارة والرائحة الكريهة

ل عنها كل أصناف وهكذا األمر مع الخمر التي تباح في دار الجزاء بعد أن يزا

األذى التي كانت مرتبطة بها في الدنيا، وهذا يدل على أن الله تعالى ما حرمها في الدنيا

[ 42يطاف عليهم بكأس من معين ]﴿إال ألجل ذلك األذى رحمة بعباده، قال تعالى:

اربين ] ة للش -42]الصافات: ﴾[43عنها ينزفون ] [ ال فيها غول وال هم 43بيضاء لذ

[ بأكواب وأباريق وكأس من معين 13يطوف عليهم ولدان مخلدون ]﴿، وقال: [43

عون عنها وال ينزفون ]14] [.11 -13]الواقعة: ﴾[11[ ال يصد

لذة ية نقبيضاء تخالف خمر الدنيا أنها فمن األوصاف التي وردت بشأنها، والتي

)ال فيها غول( وهو ما يصيب للشاربين، بخالف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب..

شاربها في الدنيا، من صداع، أو ألم في بطنه، أو ذهاب للعقل، )وال هم عنها ينزفون(

بخالف خمر الدنيا التي تذهب عقولهم.

عام والشراب الموجود في دار المحسنين ليس فيه إال المتعة ولذلك فإن كل الط

المحضة، وال تعقبه أي آثار مثل تلك التي تحدث في أطعمة الدنيا وشرابها، قال تعالى:

هم عذاب الج 13إن المتقين في جنات ونعيم ) ﴿ هم ووقاهم رب حيم ( فاكهين بما آتاهم رب

فهو في عيشة ﴿، وقال: [11 - 13]الطور: ﴾( كلوا واشربوا هنيئاا بما كنتم تعملون 14)

( كلوا واشربوا هنيئاا بما أسلفتم في 23( قطوفها دانية )22( في جنة عالية )21راضية )

ام الخالية [24 - 21]الحاقة: ﴾األي

(33/ 20تفسير األمثل، ) (1)

213

بل إن هناك إشارات قرآنية إلى اآلثار الروحية التي يحدثها ذلك الطعام والشراب

في تفسيره لقوله تعالى:العالمة الطباطبائي في نفوس أصحابه، كما عبر عن ذلك

ا ﴿ ا طهورا هم شرابا ال تدع ،أي بالغا في التطهير، فقال: )[21]اإلنسان: ﴾وسقاهم رب

،ومن القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه واالحتجاب عن التوجه إليه ،قذارة إال أزالها

وآخر دعواهم ﴿لذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال: ، وفهم غير محجوبين عن ربهم

ه رب العالمين المخلصون الحمد وصف ال يصلح له إالو[ 10]يونس: ﴾أن الحمد لل

هم ﴿قد أسقط تعالى في قوله: . ومن عباد الله تعالى. ]اإلنسان: ﴾وسقاهم رب

ونسب سقيهم إلى نفسه، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم ،[الوسائط كلها21

ينا د لهم ما يشاءون فيها ول ﴿الموهوب لهم في الجنة، ولعله من المزيد المذكور في قوله:

(1)([32]ق: ﴾مزيد

)اذا شــرب المؤمن قال: فأنه ذكر ما يشــير إلى هذا، عن االمام الصــادق وقد روي

(2)الشراب الطهور نسي ما سوى الله وانقطع اليه بالكامل(

( عيناا يشرب 23ومزاجه من تسنيم ) ﴿ولهذا قرن الشراب بالقرب في قوله تعالى:

بون بها ، وذلك الستحقاقهم لهذا النوع من الجزاء، [24، 23]المطففين: ﴾المقر

ولقابليتهم له، ذلك أن الحقائق العظمى تستدعي قابلية خاصة.

ولهذا ورد في الروايات أن أفضل شراب أهل الجنة، هو التسنيم، ولذلك يشربونه

بمعنى، (مادة )سنمق من خالصا، بينما يشربه غيرهم ممزوجا، واسم هذا الشراب مشت

، لذا كان لعين التسنيم أثرها في السير التكاملي.(سنام البعير)ومنه ()العلو واالرتفاع

:وقيل) :عند ذكره ألقوال المفسرين في تفسير التسنيم يقول مكارم الشيرازي

(.32/ 20) -تفسير الميزان (1)

.110، ص 10منهج الصادقين، ج (2)

213

ل وقي ،تسنيم: عين تقع في الطبقات العليا في الجنة ينصب شرابها عليهم من علو انصبابا

ويمزج ،وهوخالص للمقربين ،هل الجنةأواني أفيصب في ء،هو نهر يجري في الهوا

ويظهر من خالل ، وهو نوع آخر من شراب الجنة ،براربمقدار من الرحيق المختوم لأل

وكذلك ،ن هذه العين لها مكانة عالية رفيعة من ناحية المكانأالجمع بين هذه المعاني

(1)اإللهي(لى مقام القرب إ وتجذبها ،توصل الروح فهي ؛ثير المعنويأمن حيث الت

وبهذا، فإن النعيم الحسي في الجنة ليس غليظا كما يتوهم المنكرون له، بل هو

مليء بالروحانية والمعاني السامية، ولذلك فإن كل تلذذ ألهل الجنة مرتبط بحمد الله

والتواصل معه، ولذلك ال معنى لتكاليف العبادات هناك، ذلك أن الحياة هناك كلها

عبادة، والجنة كلها مسجد.

لحلي والحلل:ـ ا 2

من أنواع الجزاء التي ورد ذكرها في النصوص المقدسة أنواع الحلي والحلل التي

هيئت للمحسنين والمسيئين، والمتجانسة مع أعمالهم، أو تلك التي شكلت منها

أعمالهم.

ذلك أن من أهم التكاليف الشرعية، والتي اتفقت عليها جميع الملل والنحل، بل

األرض، تلك التكاليف المرتبطة باللباس، كما قال تعالى بعد وردت مع أول بشر على

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساا يواري سوآتكم وريشاا ﴿ذكره لقصة آدم عليه السالم:

رون ك هم يذ ه لعل (23)األعراف: ﴾ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الل

الستر، للباس، وهي ثالث منافعفي هذه اآلية الكريمة ذكر الله تعالى فقد

الجمال والزينة التي عبر عنها بالريش، والوقاية التي عبر عنها بلباس التقوى، والتي جاء و

.132، ص 3نفحات القرآن )مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر( ، الجزء : (1)

214

ا خلق ظالالا وجعل لكم من ﴿ذكرها في قوله تعالى: ه جعل لكم مم الجبال أكناناا والل

كم وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعل

(41)النحل: ﴾تسلمون

ولهذا؛ فإن من خرج باللباس عن هذه المقاصد الشرعية، يكون قد تجاوز حدود

لك يستحق من العقاب المناسب لذلك ما يؤدبه ويهذبه.الله، ولذ

وقد أشار إلى بعض مظاهر ذلك التجاوز قوله تعالى عند الحديث عن الوسائل

يطان يابني آدم ال يفتننك ﴿التي يستعملها الشيطان في إخراج البشر عن إنسانيتهم: م الش

ه يراكم هو وقبيله من كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إن

ذين ال يؤمنون ياطين أولياء لل ا جعلنا الش [23]األعراف: ﴾حيث ال ترونهم إن

لل، والذي انحرف به قارون عن الزينة أشار إليها ذلك االستكبار بالحلي والحو

ذين يريد ﴿الشرعية إلى الزينة الشيطانية، قال تعالى: ون فخرج على قومه في زينته قال ال

ذين أوت ه لذو حظ عظيم وقال ال نيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إن م ويلكم وا العل الحياة الد

ابرون اها إال الص ا وال يلق ه خير لمن آمن وعمل صالحا (40)القصص: ﴾ثواب الل

ولهذا بين الله تعالى جزاء كال الفريقين في اآلخرة، أولئك الذين آثروا الحياة

مورهم لله، ولم يتجاوزوا حدوده، الدنيا، وانشغلوا بها وبزينتها، وأولئك الذين سلموا أ

ذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب ﴿فقال: هم فال هذان خصمان اختصموا في رب

من ( ولهم مقامع 20( يصهر به ما في بطونهم والجلود )11من فوق رءوسهم الحميم )

( 22( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )21حديد )

ون ف الحات جنات تجري من تحتها األنهار يحل ذين آمنوا وعملوا الص ه يدخل ال ها يإن الل

ا ولباسهم فيها حرير )م [23 - 11]الحج: ﴾( 23ن أساور من ذهب ولؤلؤا

فهذه اآليات الكريمة تذكر الحلي والحلل التي يرتديها المحسنون والمسيئون في

211

دار الجزاء، والتي تتوافق تماما مع اختياراتهم التي اختاروها في الدنيا.

قيقية حية الكريمة أن ثيابهم نسجت من النار، أي أنها قطع أما المسيئون؛ فتذكر اآل

.. وهذا ليس بمستغرب على قدرة الله، قد فصلت لهم وخيطت على هيئة ثياب ،من النار

فالبشر وكل ما على األرض من حياة من طين، ومع ذلك يشكل بأشكال مختلفة.

ال ما منعك أال ق﴿ وكذلك الشيطان، أخبر الله تعالى أنه خلق من نار، قال تعالى:

، ومع [12]األعراف: ﴾تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

ذلك يتاح له الكثير من اإلمكانات والقدرات التي تتناسب مع طبيعته.

وكونه من الحرير، وهو ال وفي مقابل ذلك أخبر الله تعالى عن لباس المؤمنين،

يعني ما نراه من حرير، وإنما هو من باب التقريب، كما ذكرنا، أو ربما يقصد به النعيم

الخاص بأصحاب اليمين، والذي يكون له بعض الشبه بنعيم الدنيا، أما المقربون، فلهم

نعيمهم الخاص الذي ال يشبهه شيء.

عن أن المؤمنين يباح لهم في دار الجزاء وهكذا أخبر الله تعالى في اآليات الكريمة

التحلي بحلية الذهب واللؤلؤ، ألن تحريم التحلي في الدنيا بأمثال تلك الزينة، كان

اختبارا إلهيا، لرعاية حقوق المستضعفين، وحتى ال يكون الترف سببا في الكسل عن

مجاهدة النفس، والسير بها إلى الله.

آخر تلك الحلل التي يرتديها المسيئيون، فيقول: وهكذا يذكر الله تعالى في مشهد

نين في األصفاد ) ﴿ ( سرابيلهم من قطران وتغشى 41وترى المجرمين يومئذ مقر

، أو من الثياب، والسرابيل هي القمصان، أو غيرها [20، 41]إبراهيم: ﴾وجوههم النار

سفل األ ءالجزالذي يغطي سروال( ال)، وبخالفها على من البدنالقسم األ غطيتلك التي ت

.منه

ء المعروفة، سودا، وهي المادة ال)القطران(وقد أخبر الله تعالى أنها منسوجة من

220

.تبعث عند احتراقها رائحة كريهة، والتي قابلة لالحتراقوال

لحلل ألهل الجنة، وفي مقابل هذا يذكر الله تعالى الكثير من مشاهد الحلي وا

وجزاهم بما صبروا جنةا ﴿مذكرا باألعمال التي تتطلبها، ومنها ما ورد في قوله تعالى:

ا حيث ربط ذلك الجزاء العظيم بالصبر. [،12]اإلنسان: ﴾وحريرا

ا ال نض ﴿ومثله قوله تعالى: الحات إن ذين آمنوا وعملوا الص يع أجر من أحسن إن ال

ون فيها من أساور من 30عمالا ) ( أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم األنهار يحل

ا من سندس وإستبرق متكئين فيها على األرائك ن ا خضرا م الثواب ع ذهب ويلبسون ثيابا

ا ، فقد ربط الله تعالى هذا الجزاء بالعمل الحسن، [31، 30]الكهف: ﴾وحسنت مرتفقا

وقد سيق بعد هذه اآلية قصة صاحب الجنتين، وكيف كان يفخر على المؤمن المتواضع.

ون فيها من أساو ﴿ومثله قوله تعالى: ا جنات عدن يدخلونها يحل ر من ذهب ولؤلؤا

نا لغفور شكور 33ولباسهم فيها حرير ) ذي أذهب عنا الحزن إن رب ه ال ﴾( وقالوا الحمد لل

، والتي يشير دعاء المؤمنين فيها إلى المعاناة التي عانوها في الدنيا.[34، 33]فاطر:

إلى االهتمام بمنهج القرآن الكريم في عرض قضايا اليوم اآلخر، وهذا كله يدعونا

وعدم االقتصار على ذكر الجزاء دون ذكر األثمان التي يتطلبها، ألن البعض لألسف يذكر

الجنة، ويفصل كل ما فيها من النعيم، ثم يذكر بعدها أنه يمكن بالشفاعة وحدها، أو

عة.بأعمال قليلة أن تنال كل تلك الجنان الواس

وقد ورد في الحديث ما يفصل بعض ما ورد في القرآن الكريم من أنواع الحلي

والحلل، مع التنبيه الذي أشرنا إليه، وهو أن الكثير من األحاديث رويت بالمعنى، وتدخل

الرواة في ألفاظها.

بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من ، بعد أن أتي ومن تلك األحاديث قوله

221

(1) لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا(): ل رسول الله حسنه ولينه، فقا

وهذا الحديث يشير إلى بعد تربوي مهم، وهو اعتبار نعيم الدنيا قنطرة وجسرا

يقول ومعبرا لتذكر نعيم اآلخرة، حتى يصبح داعية للعمل الصالح، وكأن رسول الله

كنكم الحصول على ما هو خير من خالل هذا الحديث: إن أعجبتكم مناديل سعد، فيم

منها في سوق اسمها الجنة، وليس عليكم سوى العمل الصالح لتحصيل هذه السلعة

الغالية.

عن توفر الذهب والحجارة الكريمة في كل محل في وهكذا أخبر رسول الله

في صفة الذين الجنة، حتى الطوب الذي تبنى به البيوت، ففي الحديث قال رسول الله

ـ األلوة مجامرهم ووقود الذهب، وأمشاطهم والفضة، الذهب آنيتهم)ون الجنة: يدخل

(2)(المسك ورشحهم ـ الطيب عود

ذكر الخصال عند وأخبر أنهم يتوجون بالتيجان التي يتوج بها الملوك، قال

ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما )التي يعطاها الشهيد:

(3)فيها(

بل إن القرآن الكريم يخبر عن ذلك، فيذكر أن األواني في الجنة مصنوعة من

يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما ﴿الذهب والفضة، كما قال تعالى:

ويطاف ﴿، وقال: [31خرف: ]الز ﴾تشتهيه األنفس وتلذ األعين وأنتم فيها خالدون

ة وأكواب كانت قواريرا ) ا 12عليهم بآنية من فض روها تقديرا ة قد ﴾( قوارير من فض

[13، 12]اإلنسان:

(3/311رواه البخاري، فتح الباري: ) (1)

(.2434( ، ومسلم برقم )3323رواه البخاري برقم ) (2)

(.2311( وابن ماجه برقم )1333رواه الترمذي برقم ) (3)

222

ويبدو أن هذا النعيم المرتبط بالذهب والفضة خاص بالدرجات الدنيا كما ذكرنا،

نعيم الدنيا واآلخرة، وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، فقد قال ألنه نعيم يجمع بين

إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل ال يدخل الجنة بعده : )رسول الله

أحد، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤ، ليس فيها

ن ألف صحفة من ذهب، ليس فيها صحفة موضع شبر إال معمور يغدى عليه ويراح بسبعي

إال فيها لون ليس في األخرى، مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها، لو نزل به جميع

(1)(أهل األرض لوسع عليهم مما أعطي، ال ينقص ذلك مما أوتي شيئا

ـ األزواج والولدان: 3

بها من أنواع الجزاء التي ورد ذكرها في النصوص المقدسة، والتي خص

المحسنون دون المسيئين ذلك الجزاء المرتبط بتشكيل أسر في الجنة تضاهي األسر التي

شكلوها في الدنيا، ولكن بصورة أجمل وأكمل، ذلك أن كل المنغصات التي كانت تتعلق

بهذا الجانب في الدنيا تزال عن هذا الجزاء، ليصبح نعيما محضا، خاليا من أي تكليف أو

اختبار.

ولألسف، فمع أهمية هذا النوع من الجزاء، وآثاره النفسية في الترغيب في العمل

الصالح، إال أن الكثير راح يسيء إليه، وذلك بتحويله إلى ما تشتهيه النفوس الممتلئة

باإلثم والدنس وكل أنواع الشذوذ، لتحول من الجنة مرتعا لكل األهواء المنحرفة، مع

ها يترقى اإلنسان إلى مراتب الكمال المتاحة له.أنها دار سمو وقداسة، وفي

وقد ساعد على هذا الكثير من الروايات الدخيلة التي لم تعبر عن معاني النصوص

المقدسة، وإنما تعبر عن األهواء والغرائز، التي ال تختلف كثيرا عن تلك الغرائز التي

(.2/132تفسير عبد الرزاق ) (1)

223

صاغت كتب األدب المكشوف وغيرها.

شبهات كثيرة، نحاول الرد عليها هنا، ال من خالل ولهذا كان هذا الجانب مثار

ذكرها وتشويه الحقائق بها، وإنما من خالل ما دلت عليه النصوص المقدسة نفسها،

فعرض ما ورد فيها كاف وحده للداللة على بطالن كل تلك الشبهات، ألن مصدرها ليس

لمفسرة للنصوص.النصوص المقدسة، وإنما تلك الروايات الدخيلة، أو تلك األهواء ا

وقبل أن نذكر ذلك ننبه إلى أن ما ورد في القرآن الكريم من أصناف النعيم ليس

المقصود منه الحصر، وإنما المقصود منه إعطاء النماذج واألمثلة، وخاصة تلك التي

يكون لها دورها التربوي والسلوكي.

ي كل ولهذا نرى القرآن الكريم يراعي األعراف االجتماعية الموجودة ف

المجتمعات المحافظة، والتي تستحيي من ذكر بعض الجوانب المرتبطة بالنساء في هذا

الجانب، ولهذا ال معنى لذلك اإلشكال الذي ذكره بعضهم من أن القرآن الكريم يفرق

بين الرجال والنساء في الجنة، وأنه لذلك وفر للرجل من النعيم ما لم يوفره للمرأة،

[، متسائال عن سر وجود حور عين للرجال، الحور العينـ ]وضرب المثل على ذلك ب

وعدم وجود حور عين للنساء، ورأى أن ذلك تفريقا بين الذكر واألنثى، وأن النعيم في

الجنة خاص بالذكور ال باإلناث.

وقد راح بعضهم يعالج هذا اإلشكال باالحتيال على النصوص الشرعية وتحويلها

بهة، ولو باالحتيال، ومن األمثلة على ذلك ما ذكره بعضهم عن معانيها، رغبة في رد الش

من أن الحور العين ليسوا نساء، وإنما هن فاكهة، ثم راح يستعرض كل اآليات القرآنية

.(1)المرتبطة بهن، وبنعيم الجنة، ليحول منهن فاكهة رغم كل شيء

.2001اكتوبر 30انظر مقاال بعنوان: الحور العين، محمد البارودى، موقع أهل القرآن، (1)

224

، ثم راح تهالفظة الحور بمشتقاوقد ذكر في مقدمة مقاله المواضع التي وردت فيها

ن ن نتأمل آية مهمة مأيجب من ذلك قوله: ) يتصرف فيها، ويتالعب بها بطرق مختلفة

ه ظن أن لن يحور ﴿: القرآن تعطينا معنى جيد وحقيقي وهي قوله تعالى اق: ]االنشق ﴾إن

ن العذاب لن يعودأن المجرم الذي استلم كتابه خلف ظهره ظن إفالمعنى هنا يقول ، [14

ن هذه النعم من فاكهة أعليه ويرجع، اذاا فتطبيق هذا المعنى على حور عين يدلنا على

،من حور يعود بشكل عين التنضب، ويتفق هذا المعنى بالتالي باآلية التالية ،ستعود دوما

نشاءها بشكل إعيدت لهم على الفور أهل الجنة كلما قطفوا من فاكهة الجنة أن أوهى

ذي رزقنا من قبل وأتوا ﴿الينقطع، متماثل رزقا ا قالوا هذا ال ما رزقوا منها من ثمرة رزقا كل

ا وتعود وترجع كلما ،فهذه الثمرات كما في معنى ستحور، [22]البقرة: ﴾به متشابها

ا بهذا السياق من كونه هل الجنة، واذا تابعنا بهذا المعنى نرى اتصال باقي اآلياتأخذها أ

ي النعم من فاكهة ونعم وخيرات مختلفة، الخيرات الحسان وهذه لهم التنقطع عندما أ

يدخل المتقون الجنة من الجنسين )الذكر واالنثى( يزوجون بــها بمعنى االقتران

(لذلك فهي للذكور واالناث معا بال تفرقة ،والتالزم

في شأنهن في سورة الرحمن، ثم يعقب وبمثل هذه الطريقة راح يستعرض ما ورد

ن هذا أ نجد ﴾فيهن قاصرات الطرف ﴿فاذا نظرنا الى كلمة فيهن في آية على ذلك بقوله: )

شياء التأنيث، جنتان، عينان، مدهامتان، أجمع مؤنث في حرف النون يدل ضمن شيء من

،ى فاكهة الجنة من رمان وخالفهبل يعود عل ،نيثأوهذا بالتالي اليعود على الت.. فيهما

ن في كلتا الجنتين على حدة كثير من الفاكهة القاصرات الطرف التي يسهل الوصول أي أ

وفي السياق نفسه باالتصال مع آية اخرى، فهذه الحور مقصورة داخل خيمتها التي .. اليها

( منيضا هذه الثمار )حسب آية اخرىأتحفظها كما تحفظ كل فاكهة قشرتها وتبدو

(كمامها كاللؤلؤ المكنونأ

222

وهكذا راح يحول من كل أوصاف الحور العين في القرآن الكريم إلى أوصاف

للفاكهة، ويستعمل في ذلك كل ألوان الحيل والخدع التي مارسها أهل الكتاب من قبلنا

ليحرفوا الكلم عن مواضعه.

ما عبر عنه وهكذا راح آخر يستعمل حيال أخرى، ليحول من الحور العين إلى

وعلى ذلك فالحور هن المؤمنات .. وحار تعنى رجع أو عاد إلى ربه فى اآلخرةبقوله: )

رت أشكالهن أيضا.. العائدات فعدن فى شكل شابات ،وهؤالء المؤمنات قد تحو

وعين تعني: نجل .. جميالت كواعب ذوات عيون ساحرة فقد أعاد الله إنشائهن إنشاءا

فسوف يتزوج المؤمنون فى .. ا، والمفرد للرجل: أعين، وللمرأة: عيناء العيون حسانه

وبالطبع سيعود الرجال إلى ، الجنة بهؤالء المؤمنات الراجعات أو العائدات إلى الله

شبابهم مثل النساء، ألن لهم ما اشتهت أنفسهم، وهل لن يشتهي أحد أن يعود إلى شبابه

(1)(لنساء فسيتمتعن بأزواجهن كما سيتمتع بهن أزواجهنوهذا هو نصيب ا.. وعنفوانه؟

وهكذا نجد كل يوم من يجتهد، ليبحث عن معنى جديد للحور العين مما لم يفطن

له أحد من المفسرين وال اللغويين القدامى والمحدثين.

وبناء على هذا نذكر بعض ما فهمناه من النصوص المقدسة بعيدا عن كال

المتطرفين، أولئك الذين زعموا ألنفسهم التنوير، أو أولئك الذين استلهموا الكثير من

التصورات من التفسيرات المتأثرة باألهواء والغرائز أكثر من استلهامهم لها من خالل

النصوص المقدسة.

نة وإلزامها بزوجها:أ ـ المرأة في الج

من المسائل المرتبطة بهذا الجانب، والتي نرى أن العقل راح يتدخل فيها بما هو

.2011نوفمبر 11الحور العين، عز الدين نجيب، موقع أهل القرآن، (1)

223

التي راح البعض يفتيخارج مجاله، المسألة المعروفة بزواج المرأة المؤمنة في الجنة، و

مثلما هي في الدنيا، مع أن القاعدة الجنة كأن هناك محاكم لألحوال الشخصية في فيها، و

رف: ]الزخ ﴾وفيها ما تشتهيه األنفس وتلذ األعين ﴿هي ما عبر عنه قوله تعالى: هافي

، وهي قاعدة تحكم كال الجنسين.[31

ولهذا فإن كل األحاديث الواردة في هذا المجال، إما مردودة بما ورد في القرآن

األحوال، ذلك أن المرأة قد تكون في الكريم، أو أنها تعبر عن حاالت معينة، وليس كل

مرتبة أعلى بكثير من زوجها، أو ال تكون لها أي رغبة فيه، أو تكون لها رغبة في غيره، إما

من الذين عاصروا زمانها، أو من الذين لم يعاصروا زمانها، وقد ال تكون راغبة في الزواج

أو ال ترغب. أصال.. ولهذا من الحرج تكليفها في تلك الدار بما ال تطيق

ومن تلك األحاديث التي نرى مناقضتها للقرآن الكريم وللحقائق المرتبطة

فهي آلخر ،فتزوجت بعده ،أيما امرأة توفي عنها زوجها)قال: بالمعاد ما يروى أنه

(1)(أزواجها

أم الدرداء بعد وفاة أبي أنه خطب معاوية ويؤكـدون هـذه الروايـة بمـا يروونـه عن

أيما امرأة توفي : )يقول سـمعت أبا الدرداء يقول سـمعت رسول الله :فقالتالدرداء

(2)(عنها زوجها فتزوجت بعده فهي آلخر أزواجها وما كنت ألختارك على أبي الدرداء

إن شـــئت أن تكوني زوجتي في : )عن حـذيفة أنه قال المرأتهومثلهـا مـا يروونـه

آلخر أزواجهـا في الدنيا فلذلك حرم الله الجنـة فال تزوجي بعـدي فـإن المرأة في الجنـة

ذكره الهيثمى وقـال: رواه الطبرانى فى الكبير واألوســـط وفيـه أبو بكر بن أبى مريم وقـد اختلط. مجمع الزوائــد: (1)

4/230.

( 232/ 3المعجم األوسط ) (2)

223

(1)(أن ينكحن بعده ألنهن أزواجه في الجنة على أزواج النبي

وكـل هذه األحاديث تتناقض مع الموازين التي وردت بها النصـــوص المقدســـة

حول تعلق النعيم بـاألعمـال، والـدرجات، والرغبات.. ذلك أن المرأة قد تتعلق بزوجها

ي فرض عليها فتتعلق بجميع أزواجها، فلماذا يفرض عليها في اآلخرة ما األول، وقد ال

الدنيا؟

ومن النكـت التي تروى في هـذا البـاب أن امرأة ارتـدت في مرض موتها، وعندما

سـئلت عن سبب ذلك، أخبرت أن ذلك ليس عن قناعة بارتدادها، وإنما ألنها ال تريد أن

العتقـادها أنه ســـيفرض عليها العيش معه في تعيش مع زوجهـا الـذي آذاهـا في الـدنيـا،

اآلخرة، كما ذكر ذلك الفقهاء.

ولهذا، فإن النصوص المقدسة تذكر أن للمرأة في الجنة استقاللية تامة بالنعيم،

مثلها مثل الرجل تماما، ذلك أن النعيم في اآلخرة مرتبط باألعمال، بل هو تجسد

لألعمال..

ولذلك إن آثرت أن تعيش مع زوجها، وأســـرتها القديمة، فلها ذلك، وخاصـــة إن

أن أم حبيبة زوج النبي كان زوجها صــالحا، وربما يشــير إلى هذا ما ورد في الحديث

قـالـت: يـا رســـول اللـه، المرأة يكون لهـا الزوجان في الدنيا، ثم يموتون ويجتمعون في

ألحســـنهمـا خلقـا كـان معهـا يا أم ): قـال ف ؟الجنـة، أليهمـا تكون؟ لألول أو لآلخر

(2)(حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا واآلخرة

ـــيء من النعيم في الجنة، بل وهذا مرتبط برغبتها كما ذكرنا، ذلك أنه ال يفرض ش

كـل شـــيء مبني على الرغبـة والمحبـة، ولـذلـك فإن قوانين الزوجية في اآلخرة مختلفة

.( 31/ 3رواه البيهقي في السنن ) (1)

(131/ 2(، والعقيلي في الضعفاء )41/ 2رواه البزار ) (2)

224

في الدنيا، ومثل ذلك تلك العالقة بين األزواج، ألنها لم تكن تمـامـا عن قوانين الزوجية

في الدنيا سوى لغرض اإلنجاب، وهو قد زال في اآلخرة.

وهكذا األمر بالنســبة للباس المرأة وحجابها في اآلخرة، فاألمر فيه مختلف تماما

ار ختبعما هو في الدنيا، ذلك أن ما نراه من شهوات في الدنيا ليس الغرض منها سوى اال

واالبتالء.

ب ـ العالقة الزوجية في الجنة وسموها:

مثلما عرفنا سابقا من أن كل نعيم الجنة متسم بالطهارة والسمو والقداسة، وكونه

قة فكذلك النعيم المرتبط بهذا الجانب له عالجميعا مرتبطا بالعبودية ومعرفة الله تعالى،

نة الجفي بتلك العبودية والمعرفة لله تعالى، ولذا فقد وصف الله تعالى األزواج

رة ﴿بالطهارة، كما قال تعالى: [22]البقرة: ﴾ولهم فيها أزواج مطه

وذلك ال يعني فقط ما ذكره المفسرون من تلك المفاهيم البسيطة الخاصة

بالطهارة، بل هو يشمل كل شيء، حتى العالقة الزوجية نفسها، والتي تتسم بالسمو، وال

الدنيا، والتي استدعاها االبتالء اإللهي، وضرورة بقاء تكون مشابهة لتلك العالقات في

النوع.

بل إن الكثير من اإلشارات في النصوص المقدسة يدل على أن الذكورة واألنوثة

نسانية، الحقيقة اإلأما ولغرض التناسل، حادثة، ومرتبطة بالتكليف الشرعي في الدنيا،

بذلك كله.كة ال عالقة لها ؛ فإنها في ذاتها مثل المالئوالروح التي تمثلها

ولهذا يخبر الله تعالى في القرآن الكريم أن آدم وحواء عليهما السالم، لم يكونا

هما بغرور ﴿يميزان الذكورة واألنوثة، إال بعد أن أكال من الشجرة، كما قال تعالى: فدال

جرة بدت لهما سوآتهما وطف ا ذاقا الش ﴾قا يخصفان عليهما من ورق الجنة فلم

[22]األعراف:

221

ت وقلنا ياآدم اسكن أن ﴿أما الزوجية المشار إليها في قصة آدم، كما في قوله تعالى:

، أو المشار إليها في أنواع النعيم المعد للمحسنين، كما [32]البقرة: ﴾وزوجك الجنة

هم جنات تجري من ﴿عالى: في قوله ت قوا عند رب ذين ات قل أؤنبئكم بخير من ذلكم لل

ه بصير بالعباد ه والل رة ورضوان من الل آل ] ﴾تحتها األنهار خالدين فيها وأزواج مطه

( هم وأزواجهم 22إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون )﴿ه: ، أو قول[12عمران:

، فهي ال تعني ما نفهمه من الزوجية [23، 22]يس: ﴾في ظالل على األرائك متكئون

لنفوس ا وإذا ﴿في الدنيا، بل تعني القرناء واألشكال الذين وصفهم الله تعالى بقوله:

جت [3]التكوير: ﴾زو

ذين ظلموا ﴿ويدل لذلك أن الله تعالى خاطب المسيئين بقوله: احشروا ال

ه فاهدوهم إلى صراط الجحيم 22وأزواجهم وما كانوا يعبدون ) ﴾( من دون الل

المسيئين لن يكون لهم تمتع بالزوجات في ، مع أنه من المعلوم أن [23، 22]الصافات:

اآلخرة، ولكن المراد هم القرناء، كما ذكرنا ذلك سابقا.

ولهذا عندما ذكر الله تعالى تنعم األزواج في الجنة لم يذكر أي شيء له عالقة

بذلك، مع أنه عند ذكره للطعام، ذكر األكل، وعند ذكره لألشربة ذكر الشرب، بينما عندما

ج اكتفى بذكر جلوسهم على األرائك، وأصناف النعيم التي يعاينونها، كما قال ذكر األزوا

( هم وأزواجهم في ظالل على 22إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون )﴿تعالى:

ع 23األرائك متكئون ) ﴾( سالم قوالا من رب رحيم 23ون )( لهم فيها فاكهة ولهم ما يد

[24 - 22]يس:

ولذلك؛ فإن ما تذكره بعض الروايات في هذا الجانب من التصوير الحسي لتلك

العالقات، وتشبيهها بعالقات الدنيا، ونحو ذلك تسيء إلى ما ورد في النصوص المقدسة

من ذلك الجانب.

230

يهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ف ﴿وبناء على هذا يفسر قوله تعالى:

، وال يفسر بتلك الصور التي يذكرها من جعلوا الشغل الشاغل [23]الرحمن: ﴾وال جان

ألهل الجنة االهتمام بهذه الجوانب.

أما كيفية التمتع؛ فذلك غيب، ومن السهل تصور الكثير من االحتماالت المرتبطة

، والتي ال عالقة لها بما يحدث في الدنيا.. ذلك أنه يكفي أن يخلق الله تعالى في أهل به

الجنة كل أنواع اللذة الطاهرة عند نظرهم لزوجاتهم أو للحور العين..

ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر األوصاف الكثيرة لهن، ويشبههن بما يراه الناس

لة على ذلك تشبيههن باللؤلؤ المكنون، كما في في الدنيا من أنواع الجمال، ومن األمث

ؤلؤ المكنون 22وحور عين )﴿قوله تعالى: كأنهن ، أي [23، 22]الواقعة: ﴾( كأمثال الل

ذي يكون ال ،المستور عن األعين والريح والشمس ،اللؤلؤ األبيض الرطب الصافي البهي

ال ،فكذلك الحور العين؛ فيه بوجه من الوجوهالذي ال عيب و ،لونه من أحسن األلوان

فكل ما تأملته منها لم ، جميالت النعوت ،بل هن كامالت األوصاف ،عيب فيهن بوجه

.تجد فيه إال ما يسر الخاطر ويروق الناظر

﴾كأنهن الياقوت والمرجان ﴿، كما قال تعالى: ياقوت والمرجانويشبههن بال

والمرجان في البياض، الصفاء صفاء ، كأنهن الياقوت في الصفاءأي )، [24]الرحمن:

(1)(الياقوتة، والبياض بياض اللؤلؤ

، كما قال تعالى: عن غير أزواجهنالطرف صفن بأنهن قاصرات وهكذا و

، أي [41، 44]الصافات: ﴾( كأنهن بيض مكنون 44وعندهم قاصرات الطرف عين )﴿

ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن، بل قد قصرن على أزواجهن، ال أنهن )

(. 122/ 23تفسير الطبري، ) (1)

231

يخرجن من منازلهم، وقصرن عليهم فال يردن سواهم، ووصفهن سبحانه بأنهن

)قاصرات الطرف( وهذه الصفة أكمل من األولى، فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على

(1)(وز طرفها عنه إلى غيرهزوجها من محبتها له ورضاها به فال يتجا

)لو أن امرأة من : وغيرها من األوصاف، وقد ورد في الحديث الشريف قوله

نساء أهل الجنة اطلعت إلى األرض ألضاءت ما بينهما ، ولمألت ما بينهما ريحا ،

(2)ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها(

ج ـ الولدان المخلدون بمثابة األبناء:

من أنواع النعيم الحسي والمعنوي في الجنة، الحظنا أن ذكره خالل ما سبق من

ذلك النعيم يغطي كل حاجات اإلنسان ورغباته المشروعة، والتي لها نظير في الدنيا.

وبناء على هذا نرى أن ما ذكر في القرآن الكريم حول الولدان المخلدين ال يعني

فأهل الجنة ال يحتاجون إلى خدم، ذلك ؛أهل الجنة ما ذكره أكثر العلماء من كونهم خدم

أنه يكفي أن يهم أحدهم بالشيء، حتى يحضر أمامه من غير حاجة لتكلف إحضار أو طبخ

مثلما هو حاصل في الدنيا.

ولذلك فإن النعيم المرتبط بهم هو ذلك الشعور الذي يبثه الله تعالى في قلوب

ذي كان في الدنيا حول األبناء، وخاصة عندما أهل الجنة، والذي يماثل ذلك الشعور ال

يكونون في حال الصبا، حيث يشعرون نحوهم بعاطفة خاصة، ال يمكن أن تعوضها أي

عاطفة أخرى.

أما ما ورد في القرآن الكريم من طوافهم عليهم باألكواب واألباريق، كما قال

﴾كواب وأباريق وكأس من معين ( بأ 13يطوف عليهم ولدان مخلدون )﴿تعالى:

( 244روضة المحبين، ) ص (1)

(. 2343رواه البخاري ) (2)

232

؛ فهو ال يعني أنهم خدم، وإنما ذكر من باب مماثلة ذلك لما يحصل [14، 13]الواقعة:

في الدنيا عندما يحضر األبناء آلبائهم، وخاصة عند حضور الضيوف ما يلزم من خدمة.

ر الخدمة، كما ولهذا ذكر هؤالء الولدان المخلدون في مواضع أخرى من غير ذك

ا﴿قال تعالى: ا منثورا سان: ]اإلن ﴾ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا

هم لؤلؤ مكنون ﴿، ويقول: [11 [24]الطور: ﴾ويطوف عليهم غلمان لهم كأن

األوصاف الدالة على جمالهم، بناء على أن كل وقد وصف هؤالء الولدان بهذه

شيء في الجنة جميل، ظاهرا وباطنا، ولهذا كان في جمالهم مزيد متعة ألهل الجنة.

باإلضافة إلى ذلك كله؛ فإن النصوص المقدسة تراعي المتعارف عليه من النعيم،

هذا الخادم في وال نعرف أن أحدا من الناس يفخر أن لديه خادم جميل، بل إن وجود مثل

بيته قد يكون فيه ما فيه من التهم المرتبطة بعرضه وغيرته ونحو ذلك.

ا ميتناسب مع في القرآن الكريم بإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا المصطلح ]الولدان[

وما لكم ال تقاتلون ﴿، فلم يذكر الولدان إال بناء على هذا المعنى، كما قال تعالى: ذكرنا

نا أخرجنا من في سبيل ذين يقولون رب والولدان الجال والنساء ه والمستضعفين من الر الل

ا ]النساء: ﴾هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا

والولدان ال يستطيعون حيلةا وال ﴿قال: ، و[32جال والنساء إال المستضعفين من الر

، وغيرها من المواضع.[14]النساء: ﴾يهتدون سبيالا

أما أصل هؤالء الولدان، وهل هم خلقوا في الجنة، وألهل الجنة، أم أنه كان لهم

وأنهم ماتوا صغارا؛ فهذا مما ال دليل عليه، ولذلك يحسن عنده التوقف، وجود في الدنيا،

إال أنا كما ذكرنا سابقا أن كل إنسان لم يتح له التكليف في الدنيا، سيتاح له التكليف في

اآلخرة، وبناء عليه يكون مصيره.

ولهذا نستبعد أن يكون أولئك الولدان هم األوالد الذين ماتوا صغارا في الدنيا،

233

أما ما عدا ذلك؛ فيبقى األمر غيبا، فقد يكونون خلقوا في الجنة أصال، وقد يكونون من

ثمار بعض األعمال الصالحة الخاصة التي قام بها اإلنسان في الدنيا.

وهذا ما نميل إليه، فقد يكون أولئك الولدان الطيبين الطاهرين تجسدا لتلك

وا بكل شيء في سبيل تربية أوالدهم، وقد الجهود التي قام بها أولئك اآلباء الذين ضح

يكون تعويضا ألولئك الذين لم يتح أن يكون لهم أوالد في الدنيا، أو قد يكون تعويضا

لمن لم يتزوج أصال في الدنيا.. وهكذا.

وهذا ال يعني انقطاع صلة اآلباء بأبنائهم الذين كانوا في الدنيا، ولكن لكل منهما

ولد الكبير، أن يعوض نعمة الولد الصغير.نعيمه الخاص، فال يمكن لل

ثالثا ـ مراتب الجزاء.. وتجليات العدالة والرحمة:

ال يمكننا فهم حقيقة أي موقف أو سلوك نراه من دون فهم الدوافع التي دفعت

إليه، والغايات التي أنشئت من أجله.. ذلك أننا عندما نفهم تلك الدوافع تزاح عنا كل

شكاالت، ويزال كل غموض، ونضع جميع األمور في محلها الالئق الشبه، وتدفع كل اإل

بها.

وبناء على هذا، فإن تلك اإلشكاالت التي توهمها البعض حول استغراب اجتماع

الرحمة اإللهية الواسعة مع وجود جهنم وأنواع العقاب الموجودة فيها، وغيرها من

ر وجود الجنة، وسر اإلشكاالت يزول بسهولة، عندما يفهم سر وجود جهنم، وس

المراتب المختلفة الموجودة في كليهما.. ألنه حينذاك يدرك أنها تسير جميعا نحو تحقيق

هدف واحد، ولكن بطرق متعددة.

ولعل أهم سورة قرآنية تجلي المعاني المرتبطة بهذا، وتوضحها أيسر توضيح

بطة لكبرى المرتوأوجزه، هي سورة الفاتحة، فهي ابتداء من بسملتها توضح الحقائق ا

بالمعاد، والدوافع التي دفعت ألن يكون األمر بهذا الشكل.

234

و تبدأ هذه السورة ببيان أن كل هذا الكون بما فيه من مخلوقات بدئ باسم من

أسماء الله الحسنى، وهو اسم ]الرحمن[، وهو يعني أن كل ما في الكون من البداية إلى

النهاية منطلق ومنطبق مع هذا االسم.

حمن على العرش استوى﴾ )طـه: يدل لهذا قوله تعالى:و إشارة ففيه (، 2﴿الر

، هاومنتهية إلي ،إلى أن مملكة هذا الكون الواسعة مبنية على أساس الرحمة اإللهيةواضحة

الجليل الذي يجمع بين الداللة على منتهى الرحمة ولذلك اختار الله تعالى ذلك االسم

حكم الملك الشجاع( دل )ليدل على هذا المعنى، فإنه إذا قيل: ،والعلمية على الذات ،وكمالها

حكم الملك العادل( )ذلك على ان أكبر منجزات هذا الملك مؤسسة على شجاعته، وإن قيل:

دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله، وهكذا.

االســـتواء بقـدر ما قررت وهـذا مـا نفهمـه من اآليـة الكريمـة، فهي لم تقرر معنى

معنى الرحمة التي على أســاســها يحكم الكون، ولكن التحريف اهتم باالســتواء وأوغل

ـــود األول من البيان ـــلكه، وكاد يعرض عن معنى الرحمة التي هي المقص فيه مع دقة مس

.في هذه اآلية

ـــمه الرحمن ﴿تعالى:في قوله ، كما وبناء على هذا نرى القرآن الكريم يقرن المعاد باس

يراا﴾ )الفرقان: ـــ حمن وكان يوماا على الكافرين عس ، وهذا يعني أن (23الملك يومئذ الحق للر

ـــم ]الرحمن[ ـــمن اس كما ،الحـاكم في كـل قوانين ذلك اليوم هو الرحمة اإللهية المندرجة ض

ـــير إلى ذلـك قوله تعالى: ﴿يشيء ـــ عت كل ش ـــ (، وقال 123)األعراف:من: ﴾ورحمتي وس

ه عن القوم المجرمين﴾ أســــ ة وال يرد بــ عــ ـــ ة واس ل ربكم ذو رحمــ بوك فقــ ذ إن كــ تعــالى:﴿ فــ

(143)األنعام:

وما نراه، ولكن اإلشكال الذي يثار هنا هو عن كيفية الجمع بين األلم والعقوبة

والرحمة اإللهية، وهذا ما يفسره اسم ]الرحيم[ والذي تتشكل منه البسملة التي تفسر كل

232

شيء في الكون.

فالرحيم هو أول تجل من تجليات الرحمن، أو هو التنفيذ العملي لما تقتضيه

االرحمة اإللهية، والذي قد يظهر بمظاهر مختلفة، قد يكون من بينها القسوة التي تستدعيه

الضرورة.

وكمثال تقريبي لذلك أن يأتي مفتش لمدرسة من المدارس؛ فيرى تالميذها

منشغلين عن دراستهم، منحرفين عنها، ال يبالون بها.. وعندها تتداركه الرحمة إلنقاذ

مستقبلهم المهدد، فيقرر إرسال معلمين ممتلئين بالحزم والشدة ليعيدوهم إلى جادة

ق الممكنة.الصواب، وباستعمال كل الطر

وقد يذهب إلى مدرسة أخرى، فيجدها ممتلئة نظاما وأدبا، ويجد تالميذها

مستوعبين لدروسهم أحسن استيعاب، حينها يكتفي بالثناء على التالميذ وعلى األساتذة،

وقد يقرر أن يكافئهم بما يستحقونه من الدرجات والجوائز.

ة فيه هي الرحمة بهم، والتيفهذا المفتش، لم يفعل ذلك إال بناء على صفة راسخ

اختلف تنفيذها في الواقع بحسب المحل الذي تعامل معه.. فالمحسنون أحسن إليهم،

والمسيئون أرسل إليهم من يقوم بتهذيبهم وإعادتهم إلى جادة الصواب.

لكن الذي ال يفهم دوافع ذلك المفتش قد يتهمه بالجور والقسوة؛ فيزعم أنه اشتد

ى بناء على قسوته وظلمه وجبروته، وأنه أحسن للمدرسة الثانية بناء على المدرسة األول

على فقدانه للعدل، ولو أنه كان عادال لتعامل مع الجميع بصفة واحدة.

وهكذا يردد مثيرو الشبه، والذين يحاول البعض الرد عليهم، ال بتوضيح حقيقة

لواردة في النصوص الرحمة، وتعدد مظاهرها، وإنما بمحاولة االنقالب على القيم ا

المقدسة، لتنسجم مع ما يطلبه أصحاب األهواء من الرحمة.

وهكذا بعد أن توضح السورة الكريمة الدوافع التي دفعت لنشأة الكون، توضح

233

الغاية التي يسير إليها، والتي تقوم الرحمة اإللهية بتسيير الخلق نحوها، وهي ما عبر عنه

ه ر ﴿قوله تعالى: [2]الفاتحة: ﴾ب العالمين الحمد لل

وهذه اآلية الكريمة توضح أصال مهما جدا، ال يمكن فهم حقائق المبدأ والمعاد

من دونه، فأول اآلية يدل على الغاية، وآخر اآلية يدل على المنهج..

أما أول اآلية، فهو ]الحمد لله[، وهو غاية الكون.. أي التعريف بكمال الله تعالى

هاية له.. وقد اختار الله من أسمائه للداللة على هذا اسمه ]الله[، وهو الجامع الذي ال ن

لجميع األسماء الحسنى.. وبذلك فإن الغرض من الكون هو التعريف بأسماء الله

الحسنى التي ال نهاية لها، والتواصل مع الله عبرها.

]رب العالمين[،وأما الطريق إلى ذلك، أو المنهج المؤدي إليه، فقد تكفل به اسم

وهو اسم من أسماء الله الحسنى الدالة على األفعال، وهو تجل السم الرحمن الدال على

الذات.. وهذا االسم مشتق من التربية، وهي تعني ترقية الشيء من حال دنيا إلى حال

ن تصدق بعدل تمرة من كسب أنه قال: )م عليا، كما ورد في الحديث عن رسول الله

ربي أحدكم ثم يربيها لصاحبها كما ي ،فإن الله يقبلها بيمينه؛ قبل الله إال الطيبوال ي ،طيب

ه حتى تكون مثل الجبل (1)(فلو

لمات إلى ﴿وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ذين آمنوا يخرجهم من الظ ه ولي ال الل

ذين كفروا أولياؤهم لمات أولئك النور وال الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظ

[223]البقرة: ﴾أصحاب النار هم فيها خالدون

والظلمات تشمل كل شيء ابتداء من الجهل وانتهاء بكل السلوكات المنحرفة التي

ال تنسجم مع الموازين والنظام الذي يسير به الكون.

.1410رواه البخاري رقم: (1)

233

فإن اسم ]رب العالمين[، هو االسم المتكفل بهداية العباد، ورفعهم من ولذلك

حالتهم البسيطة إلى حالة أرقى، وذلك ما يستدعي وضع برنامج خاص يمر به اإلنسان

على مجموعة كبيرة من االختبارات، وعلى أساسها يكون الترقي.

صغار في األوالد الوكمثال تقريبي لهذا ما تقوم به وزارات التربية، والتي تستلم

مرحلة مبكرة من عمرهم، ثم تبدأ في تنفيذ برامجها، وتعقيدها كل حين، حتى يتخرج

منها أكبر قدر من الناجحين، وهي عندما تعاقب بعضهم بالطرد ال تفعل ذلك إال بناء على

عدم اهتمامهم، أو تمردهم على النظام الذي تسير عليه تلك المؤسسات، أو خشية على

ات التربوية من أن تصبح مؤسسات للمشاغبين بدل أن تكون مؤسسات لطلبة المؤسس

العلم.

ولهذا ذكر الله تعالى في اآلية السابقة أن المؤمنين المسلمين والمستسلمين لله

وقوانينه، سوف يخرجون من الظلمات إلى النور، بينما غيرهم، وهم الذين سلموا

يرون سيرا عكسيا، بحيث ال يكتفون أنفسهم للمشاغبين والطواغيت، فإنهم سيس

بالخروج عن فطرتهم النقية، وإنما قد يقعون في االنتكاسة العظمى التي تخرجهم من

إنسانيتهم، وتوقعهم في المهالك.

ولكن الله تعالى برحمته التي وسعت كل شيء يعطي الفرص الكثيرة التي ال تنتهي

يخرجون منها؛ فإن آثروا البقاء فيها كان ألولئك الذين آثروا الظلمات على النور.. لعلهم

ذلك بسببهم، وليس قصورا من الرحمة اإللهية.. ولذلك؛ فإن المشكلة ليست في سعة

الرحمة اإللهية، وإنما في توفر القابلية لها..

وكمثال تقريبي على ذلك، أننا ال نرمي شخصا بالبخل إال إذا شحت يده عما

ه إن فعل ذلك، ووفر الكثير من الخدمات للمحتاجين يتطلبه الكرم من اإلحسان، لكن

بكل سهولة ويسر.. لكن بعض المحتاجين لم يتقدم لالستفادة من تلك الخدمات.. فإن

234

المشكلة هنا ال تكمن في المعطي، وإنما في مدلى قابلية المتلقي.

وهكذا الرحمة اإللهية.. بل كل المعاني النبيلة في األسماء الحسنى، كالهداية

واللطف والرزق وغيرها.. فالله تعالى وفرها، وبكثرة.. لكن المشكلة أن البعض ال

يتعرض لها، ولذلك يحق له أن يتهم نفسه في عدم توفير القابلية، وال يحق له أن يتهم الله

و يحاسب نفسه في عدم سعيه إليها، أو يلوم أله أن يتهم يحقتعالى.. أو بعبارة أخرى:

.م الله تعالى في حرمانه منهاوال يحق له أن يته

بناء على هذا وضع الله تعالى المراتب المختلفة في دار الجزاء، ليتنقل أصحابها

من طور إلى طور بحسب استعدادهم وقابلياتهم واختياراتهم.

وقد وضحت سورة الفاتحة المراتب الكبرى للخلق في هذا المجال، حيث ذكرت

أربعة أصناف:

م عليهم، الممثلون للسراط المستقيم، والذين طولب الخلق : المنعالصنف األول

باالهتداء بهم واعتبارهم النموذج المثالي لإلنسان، كما يريده الله، كما قال تعالى:

راط المستقيم )﴿ ذين أنعمت عليهم 3اهدنا الص [3، 3]الفاتحة: ﴾( صراط ال

ابق، النخبة من التالميذ الناجحين، والذي يتاح وهم يمثلون بحسب المثال الس

لهم في الدول العادلة كل المناصب الرفيعة، بما فيها الحكم نفسه.

: السائرون على منهاج المنعم عليهم مع التقصير في الوصول إلى الصنف الثاني

نمراتبهم، ويمثلهم في سورة الفاتحة الداعون أنفسهم، والذين يطلبون من الله تعالى أ

يرقيهم إلى المراتب التي وصل إليها الفائزون.. وبذلك هم يطلبون من الله تعالى المزيد

من التربية واإلصالح والهداية.. أو المزيد من الترقي في مراتب الكمال.

: المغضوب عليهم، وهم أولئك المشاغبون المجرمون الذين لم الصنف الثالث

لخلق إليه، بكل كبرياء وطغيان، وهم الذين يعبر يكتفوا باالنحراف، وإنما راحوا يدعون ا

231

عنهم القرآن الكريم بأنهم أئمة الكفر.

: وهم الذين ضلوا، فتركوا االهتداء بالمنعم عليهم، وراحوا يتبعون الصنف الرابع

المغضوب عليهم..

بناء على هذا التصنيف انقسمت األحكام في دار الجزاء اإللهي إلى أربعة مراتب

هي:

: وهم الذين ورد في النصوص المقدسة اعتبارهم النخبة، والهدف الفائزين مرتبة

من الخلق، وأنهم يسكنون الدرجات العليا في الجنة، وقد يصيرون أساتذة على من

دونهم من أهل الجنة، ليقوموا بترقيتهم وتربيتهم وهدايتهم.. لتحقيق ذلك الدعاء الذي

منعم عليهم.يدعو فيه المؤمنون بأن يهتدوا بهدي ال

: وهم الذين حصلوا الحد األدنى من الهداية، والذي يمكنهم من المهتدينمرتبة

الدخول إلى الجنة، ولكن في مراتبها الدنيا، ويمكنهم أن يترقوا في درجاتهم فيها بحسب

قابلياتهم المختلفة.

لتعامل ا: وهم الذين تركوا الهداية اإللهية في الدنيا، أو قصروا في مرتبة الضالين

معها؛ فهؤالء يطهرون في كل المحال ابتداء من البرزخ، وانتهاء بدار الجزاء.. ومن تطهر

منهم تطهرا تاما، تمكن من دخول الجنة، لتستمر تربيته فيها.

: وهم الذين لم يمتنعوا من قبول الهداية بسبب الشبه التي مرتبة المغضوب عليهم

ي طغا على قلوبهم، ولذلك راحوا يؤدون دورا وقعوا فيها، وإنما بسبب الكبرياء الذ

معارضا للهداية اإللهية، وربما يكونون قد جروا معهم الكثير من األتباع والضالين..

ولهذا فإن عقوبة هؤالء أشد، وقد تؤول ـ مثلما يحكم على كبار المجرمين في الدنيا ـ إلى

الحكم المؤبد..

ة بحسب ما تستحقه.. فالعقاب اإللهي وهذه األقسام جميعا تتعامل معها الربوبي

240

في اآلخرة ليس القصد منه التشفي، وإنما القصد منه التربية والترقية وتنقية القلوب من

الدنس.. ولذلك من الخلق من يستجيب بسهولة.. ومنهم من قد ال يستجيب أبدا..

ولذلك كان البقاء في جهنم بحسب تلك القابلية.

ا المبحث إثبات هذه المعاني من خالل النصوص بناء على هذا، نحاول في هذ

ـ بحسب ما ذكرنا المقدسة، وما دل عليها من الروايات والعقل، وقد قسمنا مراتب الجزاء

سابقا ـ إلى ثالث مراتب.. يمكن ألي شخص فيها أن يترقى من المرتبة التي هو فيها إلى

هي: من الشروط، وهذه المراتب ما بعدها، بشرط أن تتوفر فيه ما تتطلبه المرتبة الجديدة

، ومراتب المهتدين، ومراتب الفائزين.لمنحرفينامراتب

المنحرفين: مراتبـ 1

بحسب ما تنص عليه سورة الفاتحة؛ فإن المنحرفين المستحقين للتأديب اإللهي،

يمكن تصنيفهم إلى صنفين:

م، أو الهداة : الضالون، وهم الذين يقعون في التيه الذي يحجبهم عن ربهأولهما

إليه.. وبذلك ينحجبون عن كل حقائق الوجود، والموازين التي تحكمه، ويضعون بدائل

جديدة من عند أنفسهم، مبنية على الهوى، تتشكل منه نفوسهم وسلوكاتهم، وبذلك

ينحرفون عن الصبغة األصلية التي صبغ الله بها اإلنسان، وذلك ما يجعلهم يتألمون ألما

نتهم للحقائق التي كانوا تائهين أو غافلين عنها.شديدا عند معاي

: المغضوب عليهم، وهم الذين أضافوا لذلك التيه كل أنواع اإلجرام ثانيهما

والكبر؛ حيث أنهم استحلوا الضاللة، بل راحوا يمارسون دورا عكسيا للهداية اإللهية،

.لى الظلماتوذلك بتحويل أنفسهم إلى طواغيت وجبابرة يخرجون الناس من النور إ

وبذلك؛ فإن جريمة المغضوب عليهم أكبر بكثير من جريمة الضالين.. ذلك أنهم

ال يكتفون بتحمل أوزارهم، وإنما يضيفون إليها جميع أوزار الذين أضلوهم، كما قال

241

لين )﴿تعالى: كم قالوا أساطير األو حملوا أوزارهم كاملةا ( لي 24وإذا قيل لهم ماذا أنزل رب

ذين يضلونهم بغير علم أال ساء ما يزرون [22، 24]النحل: ﴾يوم القيامة ومن أوزار ال

وبذلك؛ فإن عقوبتهم ال تتوقف فقط على تلك الملكات التي تشكلت منها

ة المرتبطة بكل الذين أضلوهم، ولذلك ال نفوسهم، وإنما يضاف إليها تحقيق العدال

يمكن أن يخرج من العقاب القائم بالدعوة للضالل في نفس الوقت الذي يبقى فيه من

كان ضحية لتضليله.

وسر الخالف الذي وقع فيه الكثير في تحديد المغضوب عليهم والضالين، هو

ليهم في الحقيقة التوهمهم أن لكال الصنفين خصائصه المميزة له، مع أن المغضوب ع

يكونون كذلك إال بعد أن يتحققوا بالضالل، ثم يضيفون إليه الكثير من االنحرافات التي

توجب الغضب اإللهي، وبذلك يكون كل المغضوب عليهم ضالين، وليس كل الضالين

مغضوبا عليهم.

باإلضافة إلى أن الضالل والغضب قد يراد منه الضالل والغضب المحدود

. ذلك أن كل منحرف عن الدين األقوم ضال في ذلك الجزء الذي انحرف فيه، والمؤقت.

: وبذلك يكون قد نال حظا من الغضب بسبب ذلك الضالل، كما يشير إلى ذلك قوله

وال ،وال يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ،ال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

هبها ع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتيرف ،وال ينتهب نهبة ،يسرق حين يسرق وهو مؤمن

فإذا أقلع ،إذا زنى الرجل خرج منه اإليمان، كان عليه كالظلة، وقوله: )(1)(وهو مؤمن

(2)(رجع إليه اإليمان

أن اإليمان يرفع مؤقتا عن هؤالء المنحرفين، ثم قد يعود، وقد ال فقد أخبر

.(23( ، ومسلم )2432البخاري )رواه (1)

.(4310أبو داود )رواه (2)

242

يعود، وذلك بحسب القدرة على التراجع، وتصحيح األخطاء، كما أشار إلى ذلك قوله

وء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأون إ﴿تعالى: ذين يعملون الس ه لل ئك ل ما التوبة على الل

ا ) ا حكيما ه عليما ه عليهم وكان الل يئات 13يتوب الل ذين يعملون الس ( وليست التوبة لل

ار أولئك ذين يموتون وهم كف حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت اآلن وال ال

اأ ا أليما [14، 13]النساء: ﴾عتدنا لهم عذابا

وبذلك فإن كل ضال معرض للغضب، والذي قد يكون مؤقتا، وقد يتحول إلى

ان على كال بل ر ﴿دائم، ولهذا يقال )المعاصي بريد الكفر(، وهو ما يشير إليه قوله تعالى:

وعمله وحركة قلمه اإلنسان (، أي أن كسب14:)المطففين ﴾قلوبهم ما كانوا يكسبون

.هي التي مألت فطرته بقعا منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه

)تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا، فأي : ويشير إليه قوله

قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير

القلب أبيض مثل الصفا ال تضره فتنة ما دامت السموات واألرض، واآلخر أسود مربدا

(1)كالكوز مجخيا، ال يعرف معروفا وال ينكر منكرا إال ما أشرب من هواه(

وبذلك فإن المغضوب عليه هو ذلك الذي طبع على قلبه؛ فصار ال يفرق بين

ر معروفا، ولم يكتف بذلك، بل راح المعروف والمنكر، أو صير المعروف منكرا، والمنك

ينشر تلك االنتكاسة التي وقع فيها على غيره، ويقوم بالدور المعاكس لدور الهداة إلى

ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنةا أن يفقهوه وفي ﴿الله، كما قال تعالى:

ا وإ ذين كفروا آذانهم وقرا ن يروا كل آية ال يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول ال

لين ) ( وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إال أنفسهم وما 22إن هذا إال أساطير األو

(1/41مسلم )رواه (1)

243

[23، 22]األنعام: ﴾يشعرون

فهاتان اآليتان الكريمتان تذكران ذلك التدرج الذي ينتقل فيه الضال من مرحلة

الضالل إلى مرحلة الغضب اإللهي، ويبدأ الضالل باإلعراض عن السماع للرسل، ثم

يتدرج إلى أن يصل إلى محاربتهم.

الين، وعالقتهبناء على هذا، نذكر هنا الجزاء المرتبط بالمغضوب عليهم والض

باألعمال والملكات التي تشكلت منها نفوسهم في دار االختبار واالبتالء.

أ ـ مرتبة المغضوب عليهم:

وهي المرتبة التي يمثلها أولئك الذين أتيحت لهم كل وسائل الهداية، ومع ذلك

الله، إلىأعرضوا عنها، وربما لم يكتفوا بذلك، وإنما أضافوا إليه ذلك التمرد على الهداة

وتشويه الهداية التي جاءوا بها، وبذلك وضعوا الحجب بين الخلق وبين األنوار اإللهية،

ولذلك كانت العقوبة المتناسبة مع جريمتهم هي تحمل جميع أوزار الذين أضلوهم بغير

علم.

ويمكننا اكتشاف هذا بسهولة عند البحث في المغضوب عليهم في القرآن الكريم؛

أولئك الذين عبدوا العجل في عهد موسى عليه السالم، وبحضور أخيه فمنهم وأولهم

نبي الله هارون عليه السالم، ومع ذلك تمردوا عليه، وعلى الهداية التي جاء بها، على

، بل راحوا يحطمون كل الحقائق تؤثر فيهمالرغم من معاينتهم للمعجزات، ومع ذلك لم

خذوا العج ﴿ه، كما قال تعالى: الوجودية، ويختصرون الله في عجل يعبدون ذين ات ل إن ال

نيا وكذلك نجزي المفترين ة في الحياة الد هم وذل ]األعراف: ﴾سينالهم غضب من رب

122]

رسول الله، وقد دلت ومنهم أولئك الذين كانوا يعلمون علم اليقين بأن محمدا

كتبهم التي يوقنون بها، لكنه عندما ظهر لم يكتفوا بعدم اتباعه، وإنما راحوا يضللون عليه

244

ق لما ﴿الناس عنه، بغيا وحسدا وكبرا، قال تعالى: ه مصد ا جاءهم كتاب من عند الل ولم

ذين كفروا ا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة معهم وكانوا من قبل يستفتحون على ال فلم

ه على الكافرين ) ه 41الل ل الل ه بغياا أن ينز ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الل

ا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين من فضله على من يشاء من عباده فباءو

ه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه 10) هو و ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الل

ا لما معهم قل فلم تقتلون أن قا ه من قبل إن كنتم مؤمنين الحق مصد 41قرة: ]الب ﴾بياء الل

- 11]

ومنهم أولئك الذين استراحوا للضاللة، وأعجبوا بها، ولم يبغوا بديال عنها،

ولذلك عندما تعرض لهم الهداة لدعوتهم ومحاجتهم أعرضوا عنهم، لما أشربت قلوبهم

ه من بعد إيمانه إال من أكره وقلبه مطمئن من ﴿من حب الضاللة، كما قال تعالى: كفر بالل

ه ولهم عذاب عظيم ا فعليهم غضب من الل يمان ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾باإل

[ 103]النحل:

الصدر له.. فالكفر قد يكون ناتجا وهذه اآلية الكريمة تفرق بين الكفر، وانشراح

عن ضالل، بسبب عدم التعرض للهداية، أو عدم توفر الحجج الكافية لالقتناع، لكن

انشراح الصدر للضالل، يعني اإلعراض التام عن الهداية مع قيام كل الدالئل التي تدل

عليها.

هوى، وللكبر ومنهم أولئك الذين راحوا يجادلون الهداة بغير علم، وإنما بمجرد ال

ه من بعد ما استجيب ﴿الذي امتألت به نفوسهم، كما قال تعالى: ون في الل ذين يحاج وال

هم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد تهم داحضة عند رب [13]الشورى: ﴾له حج

م يتعرضون ألشد أنواع وهؤالء جميعا تدل النصوص المقدسة على أنه

العقوبات، وهي الخلود في جهنم.. وهي المسألة التي أثيرت حولها الكثير من الشبهات،

242

وفسرت بالكثير من التفاسير، وقد عرضنا لألقوال الواردة فيها بتفصيل في كتاب ]أسرار

(1)األقدار[

اضعه؛ ونرى ـ احتراما للنصوص المقدسة ـ أنه ال يمكن أن نحرف الكلم عن مو

فالوعيد اإللهي بالخلود، أو بعدم الخروج من النار واضح في حق هؤالء.. كما سنرى

فيما سنعرضه من اآليات الدالة على ذلك.. لكن كيف ينسجم ذلك مع الرحمة والعدالة

؟هوتربية الله لعباد

والجواب على هذا أيضا بسيط، ومن خالل النصوص المقدسة نفسها.. فهي تشير

إلى أن الجرائم المتعدية لهؤالء تقتضي تحملهم كل أوزار الذين أضلوهم.. وبذلك

سيعاقبون مدة طويلة على ذلك..

ويضاف إليها ذلك الكبر الذي أشرب في قلوبهم، والذي قد ال يستطيعون

بذلك يستحيل عليهم الخروج من العذاب ما دام ذلك الكبر في االنفكاك عنه أبدا، و

بوا بآياتنا واستكبروا عنها ال تفتح لهم أبواب ﴿قلوبهم، كما قال تعالى: ذين كذ إن ال

وال يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ماء ﴾وكذلك نجزي المجرمين الس

[40]األعراف:

وبهذا؛ فإن للخلود سببين: السبب األول هو تحمل األوزار المتعدية للذين

أضلوهم، أو أجرموا في حقهم.. والثاني هو تلك الملكات التي عجنت بها نفوسهم،

وا لعادوا ﴿والتي قد ال يطيقون االنفكاك عنها مع طول العذاب.. كما قال تعالى: ولو رد

هم لكاذبون دل على غاية عتوهم فاآلية الكريمة ت، ،([24]األنعام: ﴾لما نهوا عنه وإن

وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم، فال تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة إال للعذاب، ولو

.، فما بعدها214انظر: أسرار األقدار، ص (1)

243

ي حقاب الطويلة فصلحت لصلحت على طول العذاب، فحيث لم يؤثر عذابهم تلك األ

نفوسهم ولم يطيبها علم أنه ال قابلية فيهم للخير أصال.

وبذلك فإن الرحمة والعدالة اإللهية متناسبة مع جرائمهم، ألنه ال يمكن أن يخرج

الجاني مع بقاء المجني عليه في العذاب.. وكذلك ال يمكن أن يخرج وفي نفسه تلك

ك عنها.. ذلك إن الخلود مرتبط باألعمال الملكات الظالمة التي لم يستطع االنفكا

والملكات..

ولو أنا فرضنا أن شخصا ما من الذين كتب عليهم الخلود، تخلص من كل تبعات

أعماله، وتخلص معها من كل تلك الملكات التي كانت سببا في عقابه؛ فإنه ال يستمر

عليه الحكم المؤبد..

ل بعدها إلى أصحاب األعمال وهذا ما قد يجمع األقوال في المسألة؛ لتؤو

أنفسهم، ومدى نجاعة التأديب اإللهي في حقهم.

ويشير إلى هذا تلك األحاديث الكثيرة التي تذكر عدم دخول نفر كثيرين إلى الجنة،

مع اتفاق العلماء على أن ذلك الدخول ليس أبديا، وإنما هو مؤقت، وقد ذكرنا أن توقيته

ل التي دخلوا بها إلى جهنم.متوقف على التطهر من تلك الرذائ

ثالثة ال يدخلون الجنة أبدا: الديوث، والرجلة : )ومن األمثلة على ذلك قوله

من النساء، ومدمن الخمر قالوا: يا رسول الله ! أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟

ه ي تشبفقال: الذي ال يبالي من دخل على أهله قلنا: فما الرجلة من النساء. قال: الت

(1)بالرجال(

ال يدخل الجنة (، وفي رواية: )ال يدخل الجنة قتات: )وفي حديث آخر قال

(323/ 4مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ) ،رواه الطبراني (1)

243

(1)(نمام

ا ﴿وهكذا في تأويلهم لقوله تعالى: ا فجزاؤه جهنم خالدا دا ومن يقتل مؤمناا متعم

ه عليه ولعنه وأعد ا فيها وغضب الل ا عظيما ، واعتباره غير مطلق، [13]النساء: ﴾له عذابا

ذلك أنهم يذكرون خروج الموحدين من النار، وبذلك يضمنون له الخروج مع أن الله

تعالى لم يخبر عن خلوده في جهنم فقط، وإنما أخبر عن غضبه عليه.

لت لو ظبل إنهم يجعلون التوحيد وحده كاف لرفع العقوبة عن كل الجرائم حتى

فقال: أرأيت رجال عمل ، إلى النبي ملكاتها موجودة في النفس، مثلما أن رجال جاء

الذنوب كلها، فلم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة وال داجة إال أتاها، فهل

له من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن ال إله إال الله، وحده ال شريك له،

، تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات ،ول الله، قال: نعموأنك رس

.(2)قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى ،كلهن

وبناء على هذا؛ فإنا نرى أن كل النصــوص الدالة على الخلود في جهنم باقية على

ولكن على المعنى الــذي ذكرنــاه، وهو ارتبــاط معنــاهــا في حق الموحــدين أو غيرهم،

الخلود بالتطهر التام من عواقب األعمال، واآلثار المشكلة لها في الهيئة النفسانية.

ذلك أن الجنة ال يدخلها إال الطاهرون الطيبون.. ولذلك إن أدخل إليها من بقي

ب حب إليها من أشرفي نفسه آثار النميمة، فسيسعى بالنميمة بين أهل الجنة.. وإن أدخل

الدياثة، فستكون شهوته هناك بناء المواخير ونشر الرذيلة.. وإن أدخل إليها من أدمن القتل

والعدوان، فسيجعل الجنة دار حرب.

ولذلك قد يكون لإلسالم دور في نجاته من الشرك، وتعرفه على حقائق الوجود،

.(102( ، ومسلم )3023رواه البخاري ) (1)

.(3/314رواه الطبراني في المعجم الكبير ) (2)

244

يحتاج ها نفسه من جرائمه، ولذلكولكنه قد ال يكون كافيا في تطهيره من اآلثار التي كسبت

إلى التطهر منها في الدنيا، فإن لم تكفه الدنيا، وال البرزخ بقيت تبعاتها عليه إلى أن

يتخلص منها، بغض النظر عن المدة المرتبطة بذلك.

وبذلك تنسجم الرحمة مع العدالة مع تربية الله لعباده، ذلك أننا في الدنيا ال يمكن

ب من الطلبة ما لم يستوف الحد األدنى من النقاط التي توجب أن نحكم بنجاح طال

نجاحه، حتى لو بقي يكرر السنة طول عمره.

، وذلك عند عرضه (1)تفسيره في الطباطبائي العالمةوقد أشار إلى هذا المعنى

القائلين قبل من والمطروحة، العذاب في بالخلود القول على المترتبة لبعض اإلشكاالت

وغيرهم، وهي والقيصري عربي وابن الشيرازي الخلود، وخصوصا صدرالدينبعدم

نفسها التي ذكرها ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.

لله ا ومن تلك اإلجابات رده على اإلشكال المتعلق بكيفية الجمع بين كون رحمة

شيء؟ له اليقوم خالد عذاب إلى مصيره من يخلق متناهية، وبين أن غير واسعة

يناسب لما اإللهية هو اإلفاضة أجاب على هذا اإلشكال بأن معنى الرحمة فقد

عديست ما إعطاء وهي، عامة رحمة: رحمتان والرحمة، القابل في الحاصل التام االستعداد

يستعد ما إعطاء هي، خاصة ورحمة، والكينونة الوجود صراط في ويشتاقه الشيء له

،الالزم الشقاء صورة وإعطاء القرب.. وسعادة التوحيد إلى الهداية صراط في الشيء

العامة ةالرحم ينافي ال، الشديد باستعداده له المستعد لالنسان الدائم العذاب أثره الذي

فال، صراطها عن خارج هو لمن لشمولها معنى فال الخاصة الرحمة وأما، منها هو بل

أن على، تبين كما الخاصة أو منها العامة سواء والرحمة الدائم العذاب بين منافاة

..413 ـ 413 ص ،1 ج ،الميزان تفسير (1)

241

.الدنيوي العذاب أنواع حتى أيضاا المنقطع العذاب في لجرى تم لو اإلشكال

يكون إنما العذاب ومن اإلشكاالت التي أجاب عنها، ما ذكره المخالفون من )أن

عذاب ودوج يصح فكيف، الدائم للقسر معنى وال، قسراا فيكون الطبع يالئم لم إذا عذاباا

(1)(؟دائم

تارة فانه، الطبع مالئمة عدم معنى يعين أن فقد أجاب عن ذلك بقوله: )يجب

الذي القسري الفعل وهو، عنده الموجود واألثر الموضوع بين السنخية عدم بمعنى

به رناقت إذا الشيء طبع عن يصدر الذي المالئم األثر ويقابله، القاسر قسر عن يصدر

وهو ،الوجود بهذا يطلبه الشيء وعاد، الشيء في صورة فصارت، فيه رسخت سم آفات

من لذاته مةمالئ اآلثار فهذه، الماليخوليائي مثال من فيه مثلنا كما، يحبه ال الحال عين في

عينهاب وهي، مالئمة الطباع عن الصادرة واآلثار، الخبيث الشقي طبعه عن صدورها حيث

حيث من مرضية غير فهي، يرتضيها ال الشيء لكون، عليها العذاب حد لصدق عذاب

(2)الصدور( حيث من مرضية كونها في والوجدان الذوق

ببعذا يجازى فكيف، اآلخر منقطع ذنباا إال يذنب لم العبد ومن اإلشكاالت )أن

(3)دائم؟(

، ةحقيق الثابت موضوعه على مرضي غير أثر ترتب العذاب وقد أجاب عنه بأن

وهي، معدة علل تحقق بعد الحاصلة الصورة معلول األثر فهذا، الشقاء صورة وهو

تأثير يلزم حتى المحدودة المعدة العلل لتلك معلوالا وليس، المحدودة المخالفات

علل طبتوس االنسانية بالصورة المادة تصور نظير، محال وهو، متناه غير أثراا المتناهي

(231/ 1تفسير الميزان ) (1)

(231/ 1) المرجع السابق، (2)

(231/ 1) المرجع السابق، (3)

220

الموت بعد االنسان عن الصادرة اإلنسانية اآلثار إن: ويقال يسأل أن معنى وال، معدة

مجموع صار فكيف، للمادة األمر مقطوعة معدات لحصول سرمدي دائمي صدور

علتها ألن، دائماا االنسان مع وبقائها المذكورة اآلثار لصدور سبباا العلل من اآلخر منقطع

لهذا معنى ال فكما، الفرض على دائماا معها موجودة ـ االنسانية الصورة وهي ـ الفاعلة

.أيضاا لذلك معنى ال السؤال

خدمات عن التكوين لنظام خدمتهم يقصر ال الشقاء أهل ومن اإلشكاالت )أن

عذاب في لوقوعهم الموجب هو فما، لسعيد سعادة تتحقق لم ولوالهم، السعادة أهل

(1)مخلد؟(

ـــاا والعبودية الخدمة وقد أجاب عنه بقوله: )إن ـــمين على الرحمة مثل أيض : قس

وهو خاصة وعبودية، الوجود مبدأ عن الوجودي واالنفعال الخضوع وهو، عامة عبودية

وأثر هيناسب جزاء القسمين من ولكل، التوحيد إلى الهداية صراط في واالنقياد الخضـوع

ةالرحم جزاؤه التكوين نظام في العامة فالعبودية، الرحمـة من ويخصـــه عليـه يترتـب

الخاصـــة والعبودية، العامة الرحمة من كالهما الدائم ذابوالع الدائمة والنعمة، العامة

مورد في لورد تم لو اإلشكال هذا أن على، والجنة النعمة وهي، الخاصـة الرحمة جزاؤه

. أيضاا الدنيوي بل، المنقطع عذاب

، ىتعال الله على االنتقام يجوز وال، انتقام للعاصي العذاب ومن اإلشـكاالت )أن

عذابال منه يجوز فكيف، المطلق الغني هو تعالى والله، النقص لجبر إال يكون ال ألنه

(2)(؟المخلد

(231/ 1) المرجع السابق، (1)

(231/ 1) المرجع السابق، (2)

221

في الذي الشـــقاء صـــورة إلى مســـتند الدائم العذاب وقد أجاب عنه بقوله: )إن

ــان ــبحانه الله وإلى، االنس ــتند إنه موجود كل في يقال الذي بالمعنى س ال الىتع اليه مس

الشاق لجزاءا بمعنى االنتقام نعم، تعالى عليه المستحيل الصـدر وتشـفي االنتقام بمعنى

ــيء واألثر ــدق مما عليه لتمرده عبده المولى به يجزي الذي الس ال كنول، تعالى فيه يص

لورد مت لو اإلشـكال هذا أن على. البتة إشــكاالا المعنى بهذا انتقاماا العذاب كون يسـتلزم

(1) أيضاا( الدنيا في بل، اآلخرة في المنقطع المؤقت العذاب مورد في

هــذه أهم اإلجــابــات التي أجــاب بهــا العالمــة الطبــاطبــائي، والتي نرى أنــه يمكن

هم ﴿:اختصـــارهـا جميعـا فيمـا يـدل عليـه قولـه تعـالى وا لعادوا لما نهوا عنه وإن ولو رد

(24األنعام: ﴾ )لكاذبون

لود خكون الكفر علة للسر في تعليل النورسي وقريب منه ما أجاب به بديع الزمان

، وهو نفسه ما ينطبق على غيره من العلل التي وردت بها النصوص المقدسة، في العذاب

األولى: جهة اإليجاد والوجود :)أيها اإلنسان! إن فيك جهتين:وقد قال النورسي في ذلك

والشر والسلبية واألخرى: جهة التخريب والعدم . والخير واإليجابية والفعل.

فعلى اعتبار الجهة األولى )جهة اإليجاد( فإنك أقل شأنا من النحلة . واالنفعال.

والعصفور وأضعف من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية )جهة التخريب(

فباستطاعتك أن تتجاوز األرض والجبال والسماوات، وبوسعك أن تحمل على عاتقك

ن منه فتكسب دائرةا أوسع ومجاال أفسح؛ ألنك عندما تقوم بالخير واإليجاد فإنك ما أشفق

تعمل على سعة طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما إذا قمت باإلساءة والتخريب،

(2)فإن إساءتك تتجاوز وتستشري، وإن تخريبك يعم وينتشر(

(231/ 1) المرجع السابق، (1)

.331الكلمات، ص (2)

222

يستطيع هدم بيت في يوم واحد ويضرب المثل على ذلك من الواقع بأن االنسان

ومثل ذلك الكفر، فهو سيئة واحدة، ولكنها ، اال أنه ال يستطيع أن يشيده في مائة يوم

تفضي إلى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضا تزييف جميع )

لها؛ ذلكاألسماء اإللهية الحسنى وإنكارها. وتتمخض كذلك عن إهانة اإلنسانية وترذي

ألن لهذه الموجودات مقاما عاليا رفيعا، ووظيفةا ذات مغزى، حيث إنها مكاتيب ربانية،

ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـال عن إسقاطه تلك الموجودات

العبودية، فإنه كذلك يرديها إلى درك العبث من مرتبة التوظيف ومنـزلة التسخير ومهمة

دفة وال يرى لها قيمةا ووزنا بما يعتريها من زوال وفراق يبدالن ويفسخان والمصا

بتخريبهما وأضرارهما الموجودات إلى مواد فانية تافهة عقيمة ال أهمية لها وال جدوى

(1)(منها

ولذلك كان هذا التخريب العظيم لكل حقائق الكون مقتضيا للخلود في العذاب،

عرفون هذا الرحمن الرحيم وال يسعون بالعبودية لحبه، بل يقول النورسي:)فالذين ال ي

يضلون إلى اإلنكار فيضمرون نوعا من العداء تجاهه.. هؤالء ليسوا إال شياطين في صور

أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صغر. والشك أنهم يستحقون عذابا خالدا ال

(2)نهاية له(

بناء على هذا سنستعرض هنا ما ورد في النصوص المقدسة من األصناف التي

يحكم عليها بالمؤبد، أو بالخلود في النار، لنرى الصفات الجامعة بينها، ذلك أن القراءة

الصحيحة لهذه النصوص هو التأمل في أسرارها، حتى نفطن للعلل التي يمكننا من

األمثال وتلك ﴿إلى فضاء معانيه، كما قال تعالى: خاللها أن نتجاوز بالمثال قفص حروفه

.332ص المرجع السابق، (1)

.303ص المرجع السابق، (2)

223

[43]العنكبوت: ﴾نضربها للناس وما يعقلها إال العالمون

بوا بآياتنا أولئك أصحاب تلك النصوص قوله تعالى:ومن ذين كفروا وكذ ﴿ وال

بوا بآياتنا ، (10س المصير﴾ )التغابن:النار خالدين فيها وبئ ذين كفروا وكذ وقوله:﴿ وال

فهذه اآليات الكريمة تربط الخلود ، (31أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ )البقرة:

بالكفر والتكذيب بآيات الله، وبحقائق الوجود على الرغم من قيام الحجج التي تدل

عليها..

وهذا يمثل في القوانين الخيانة العظمى، ذلك أن عدم االعتراف بالله، أو اعتقاد

الشركاء له، يخالف أصل الغاية من الوجود، وهي التعرف على الله، والسير إليه، ألنه ال

كمال لإلنسان من دونه.

ين لم ذومثل ذلك في المثال الذي أشرنا إليه سابقا، أولئك الطلبة المشاغبين ال

يكتفوا بكسلهم، وال بشغبهم، وإنما راحوا يتمردون على اإلدارة والقوانين التي

تحكمهم؛ فهم بذلك ال يمكنهم أن يستفيدوا أبدا من مدرسة ال يقرون بها، وال ببرامجها،

وال بإدارتها.

ومن المعلوم أن كل القوانين وفي كل العصور، ال تكتفي بالحكم على هؤالء

سجن المؤبد، وإنما باإلعدام، خصوصا إن أدى هؤالء دورهم في إثارة المجرمين بال

الفتنة والشغب.

وبناء على هذا، فإن القائلين بقصر الخلود على أمثال هؤالء قد يكون المقصود

منه عدم قابليتهم لإلصالح، بخالف غيرهم من المؤمنين، ذلك أن االعتراف لله

ر كبير في تسريع اإلصالح، وبالتالي الخروج من باأللوهية، وللهداة بالهداية، له تأثي

استحقاق العذاب.

﴿ التي تذكر أصناف الخالدين في العذاب، قوله تعالى: تلك النصوصومن

224

لمات أولئك أصحاب ذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظ وال

، وهي تشير إلى عدم التبعية للهداة، واستبدالهم (223فيها خالدون﴾ )البقرة: النار هم

بالطواغيت، ولذلك بدل أن يسيروا سيرا تصاعديا نحو الكمال، يسيرون سيرا نزوليا نحو

االنتكاسة، وهو ما يؤهلهم الستحقاق الخلود في العذاب.

ذين كفروا لبئس ما ﴿ ترى كثيراا ومثلها ما ورد في قوله تعالى: ون ال منهم يتول

ه عليهم وفي العذاب هم خالدون﴾ )المائدة: مت لهم أنفسهم أن سخط الل ، (40قد

اإللهي بالخلود في طونالحظ هنا، وفي كثير من اآليات الكريمة ربط الغضب والسخ

النار، وهذه اآلية تذكر من األسباب ذلك التولي للكفرة والطواغيت، وهو يعني بالضرورة

اإلعراض عن الهداة.

:﴿تلك النصوص التي تذكر أصناف الخالدين في العذاب، قوله تعالىومن

بوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصح ذين كذ اب النار هم فيها خالدون﴾ وال

وهي تذكر صفة الكبر، والمرتبط بتكذيب آيات الله، ذلك أن الكبر (، 33)ألعراف:

يتنافى تماما مع العبودية، ويستحيل على المستكبر أن يتحقق له السير التصاعدي

ة سهلة يمكن ترويضها نالمعرفي والسلوكي، ذلك أن كليهما يتطلب نفسا لينة هي

إصالحها، كما قال الشاعر:و

كالسيل حرب للمكان العالي العلم حرب للفتى المتعالي

مع وهو ﴿وقبله قال الله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى الس

، فمن لم يستطع إلقاء السمع بتواضع، لن يتعلم أبدا.[33]ق: ﴾شهيد

ولهذا يصف الله تعالى المتقبلين آلياته بكل صفات الخضوع والخشوع

ا وسبحوا ﴿والتواضع، كما قال تعالى: دا وا سج روا بها خر ذين إذا ذك ما يؤمن بآياتنا ال إن

هم وهم ال يستكبرون ه عليهم أولئك ﴿، وقال: [12]السجدة: ﴾بحمد رب ذين أنعم الل ال

222

ة إبراهيم وإسرائيل ومم ي ن حملنا مع نوح ومن ذر ة آدم ومم ي ن هدينا من النبيين من ذر

ا وب دا وا سج حمن خر [24]مريم: ﴾كيا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الر

ولهذا يخبر الله تعالى عن استحالة فتح أبواب سماء الحقائق للمتكبرين، قال

وال يدخلون ﴿تعالى: ماء بوا بآياتنا واستكبروا عنها ال تفتح لهم أبواب الس ذين كذ إن ال

[40]األعراف: ﴾في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين الجنة حتى يلج الجمل

وقالوا ﴿: تلك النصوص التي تذكر أصناف الخالدين في العذاب، قوله تعالىومن

ا فلن يخلف ه عهدا خذتم عند الل ا معدودةا قل أت اما نا النار إال أي ه عهده أم تقولو لن تمس ن الل

ه ما ال تعلمون ) ( بلى من كسب سيئةا وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب 40على الل

يئات جزاء ، وقوله: [41، 40]البقرة: ﴾النار هم فيها خالدون ذين كسبوا الس ة سيئ ﴿ وال

ي ما أغشيت وجوههم قطعاا من الل ه من عاصم كأن ة ما لهم من الل ل بمثلها وترهقهم ذل

(23مظلماا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ )يونس:

والمدمنين عليها بجوهرها، حيث وهي تشير إلى تجوهر المكثرين من الذنوب

تستحيل صورهم النفسية إلى تلك الجرائم.. ذلك أن اإلنسان يعجن بسلوكه في الدنيا

الصبغة التي يرتضيها لنفسه، ولهذا عبر الله تعالى عن ذلك اإلدمان بكونه محيطا

باإلنسان، ومستغرقا فيه، بحيث ال يستطيع االنفكاك عنه.

والذنوب، ذلك أن عقوبتها ال تحصر فقط في تلك وهذا أخطر ما في الجرائم

السيئات التي ينالها من ارتكبها، وإنما في تأثيرها في النفس، وغلبتها عليها، حتى ينتكس

صاحبها انتكاسة خطيرة، يتحول بعدها إلى صورة ممثلة لتلك الذنوب.

ي يهدعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر : )ويشير إلى هذا قوله

إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم

والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد

223

(1)يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا(

من األعمال الصالحة في هذا الحديث كيفية تجوهر اإلنسان بما يعمل فقد ذكر

أو السيئة، حتى تصبح صورته ممثلة لها، ولهذا كان الهداة إلى الله ممثلين للقيم النبيلة

أي أن (2)(كان خلقه القرآن، كما روي في الحديث: )بسبب تمثلهم لهالتجوهرهم فيها،

صار ممثال للحقائق والقيم القرآنية لتجوهرها في ذاته. رسول الله

وهذا ما تحقق أيضا لورثته، وهو معنى الوراثة، فهي ال تعني مجرد الحفظ الذهني،

ذين اص ﴿وإنما تعني التجوهر بالحقائق والقيم، قال تعالى: طفينا ثم أورثنا الكتاب ال

[32]فاطر: ﴾من عبادنا

إن ﴿ التي تذكر أصناف الخالدين في العذاب، قوله تعالى: تلك النصوصومن

ا ﴿وقوله: (،34المجرمين في عذاب جهنم خالدون﴾ )الزخرف: دا ومن يقتل مؤمناا متعم

ه عليه ولعنه وأعد له ا فيها وغضب الل ا فجزاؤه جهنم خالدا ا عظيما ، [13]النساء: ﴾عذابا

كل ذنب عسى الله أن يغفره إال الرجل يموت : )وقد ورد في الحديث الشريف قوله

(3)(كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا

بل قد ورد في الحديث ما يدل على الخلود المرتبط بهذه الجريمة، حتى لو فعلها

)من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في :ه الشخص بنفسه؛ ففي الحديث قال رسول الل

يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداا مخلداا فيها أبداا، ومن شرب سماا فقتل نفسه،

فهو في يده يتحساه في نار جهنم خالداا مخلداا فيها أبداا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه

.4321رواه مسلم (1)

(343رواه مسلم ) (2)

.(10/111( والطبراني في المعجم الكبير )4/143( وأبو نعيم في الحلية )3/44النسائي )رواه (3)

223

)الذي يخنق نفسه يخنقها وفي رواية: ،(1)فهو يتردى في نار جهنم خالداا مخلداا فيها أبداا(

(2)في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار(

وهذه النصوص المقدسة مطلقة تشمل المؤمنين وغيرهم، ولذلك؛ فإن إخراج

المؤمنين من هذه العقوبة بسبب إيمانهم نوع من التعدي والتأويل للنص، وهذا ما جعل

.ن الذنوب الهينةالكثير يتساهل في القتل، ويعتبره م

ومن األدلة العقلية على هذا، أن ذلك المجرم الذي قتل إنسانا، هو لم يقم بقتله

فقط، وإنما حال بينه وبين سيره التصاعدي للكمال، فقد يكون ذلك المقتول كافرا، وكان

في إمكانه أن يؤمن، وبذلك يكون قتله حائال دون تحقيق ذلك، ولهذا يلقى العقوبة

لى ذلك، ال على قتل جسده فقط، وإنما على تلك الحيلولة، وبذلك يتحمل الشديدة ع

وزر موته كافرا..

وقد رددنا في كتاب ]أسرار األقدار[ بتفصيل على تلك الشبهة التي يوردها بعض

المبررين لتلك الجرائم، وبدل أن يلصقوها بالمجرمين، يلصقونها بالقدر اإللهي، مع أن

ع الجميع وفق العدالة والرحمة اإللهية.القدر اإللهي يتعامل م

هذه نماذج عن أهم النصوص التي ورد فيها ذكر الخلود في العذاب، وهي ترتبط

في أكثر األحيان بالغضب اإللهي، وسنرى عند حديثنا عن الضالين، المزيد من النصوص

مهم ئالتي تفرق بين المغضوب عليهم والضالين، أو بين الذين كتب على أعمالهم وجرا

الخلود في العذاب، وبين الذين قد يخفف عنهم العذاب في مدته أو في نوعه.

وبناء على ما ورد في النصوص المقدسة، فإن هؤالء الذين قدر عليهم الخلود في

العذاب بسبب جرائمهم، ينزلون في الدركات بحسب ضخامة الجرم، ثم قد يترقون، إن

(101(، ومسلم )2334رواه البخاري ) (1)

(1332رواه البخاري ) (2)

224

كانت لديهم القابلية لذلك.

القرآن الكريم أن النفاق هو الجريمة الكبرى التي يستحق أصحابها الدرك وقد ذكر

رك األسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا﴾ ﴿:األسفل، كما قال تعالى إن المنافقين في الد

ا هأن نفوسهم المطاطة المرنة المتحولة يصعب علييرجع إلى وسر ذلك ، (142)النساء:

، وقد الستقامة إال بعد تطهير طويل عميقأن تنتقل من حالة االنحراف إلى حالة اال

تستطيع فعل ذلك أبدا.

ب ـ مرتبة الضالين:

وهي دون مرتبة المغضوب عليهم بكثير، وإن كان كالهما يشتركان في أصل

الضالل، لكن المغضوب عليه، يضيف إلى ضالله الكبر والظلم والجريمة ومواجهة

الهداة، ولذلك تكون جرائمه أعظم، بخالف الضال الذي قد يهتدي إلى الحق، ويذعن

.، إذا ما أقيمت عليه الحجة، أو توضح له البرهانله بسهولة

ولهذا نرى في القرآن الكريم نوعا من التساهل مع الضالين بخالف المغضوب

ن، كما قال كونه من الضاليعليهم، فإبراهيم عليه السالم في استغفاره لقريبه تذرع لذلك ب

ين ﴿الله تعالى على لسانه: ال ه كان من الض [43]الشعراء: ﴾واغفر ألبي إن

ا وأنا من ﴿وهكذا تذرع موسى عليه السالم بقتله للقبطي بقوله: فعلتها إذا

ين ال [20]الشعراء: ﴾الض

أصحاب الجنة، وتبريرهم لخطئهم بكونهم وهكذا أخبر الله تعالى عن سرعة توبة

ا رأوها قالوا إنا 22وغدوا على حرد قادرين )﴿كانوا من الضالين، قال تعالى: ( فلم

ون ) [24 - 22]القلم: ﴾( 23( بل نحن محرومون )23لضال

ضوب عليهم في بيان بعض مصاديق المغ ولهذا ورد في الحديث قوله

221

(1)(المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارىوالضالين: )

وهو حديث توجه له البعض بالتشكيك متوهما خالفه للقرآن الكريم، وذلك ليس

ذين ﴿صحيحا، فهو يوافق قوله تعالى: ذين آمنوا اليهود وال لتجدن أشد الناس عداوةا لل

ا نصارى ذين قالوا إن ذين آمنوا ال ةا لل ، ثم [42]المائدة: ﴾أشركوا ولتجدن أقربهم مود

يسين ورهباناا ﴿علل سر كون النصارى أقرب مودة للذين آمنوا بقوله: ذلك بأن منهم قس

هم ال يستكبرون ) مع ( و 42وأن سول ترى أعينهم تفيض من الد إذا سمعوا ما أنزل إلى الر

اهدين نا آمنا فاكتبنا مع الش ا عرفوا من الحق يقولون رب [43، 42]المائدة: ﴾مم

بخالف وهذا يشير إلى أن التواضع وسرعة االهتداء يكون رديفا للضالل،

المغضوب عليه، والذي قد تقام عليه كل أنواع الحجج، ومع ذلك يظل مصرا على عناده.

ولهذا لم يكن الضالل في حد ذاته جريمة، بل الجريمة المرتبطة به هي اإلصرار

بعد بيان الحق، والذي قد يصل إلى حد الغضب اإللهي، ولهذا ذكرنا أن كل المغضوب

لضالين مغضوبا عليهم.عليهم ضالين، ولكن ليس كل ا

ذلك أن المغضوب عليهم، يضمون إلى الضالل المرتبط بهم تضليل غيرهم،

وهي جريمة ال يمكن تصور مدى فداعتها، ذلك أن صاحبها ال يتحمل وزره فقط، وإنما

يتحمل جميع أوزار من أضلهم.

ذين كفروا وص ﴿ويظهر هذا المعنى بجالء في قوله تعالى: وا عن سبيل الإن ال ه د ل

ا ذين كفروا وظلموا لم ﴿، ثم قال بعدها: [133]النساء: ﴾قد ضلوا ضالالا بعيدا إن ال

ا ) ه ليغفر لهم وال ليهديهم طريقا ا وكا134يكن الل ن ( إال طريق جهنم خالدين فيها أبدا

ا ه يسيرا ـ ؛ فقد قرن الله تعالى الخلود في جهنم ب[131، 134]النساء: ﴾ذلك على الل

(2124، 2123الترمذي برقم )، و(4/334) رواه أحمد (1)

230

، وهو المرتبط بالصد عن سبيل الله، وقرنه بالظلم، وهو يدل على أن [الضالل البعيد]

الضالل وحده ليس موجبا للخلود في جهنم إال إذا اقترن به الظلم والصد عن سبيل الله.

فإن المغضوب عليهم في العادة يكونون من أئمة الكفر بخالف الضالين وبهذا؛

الذين قد يكونون من األتباع البسطاء، الذين اشتبهت عليهم األمور، ولهذا يسهل عليهم

الرجوع للحق حال تبينه، كما ذكر الله تعالى ذلك عن عوام بني إسرائيل الذين وقعوا في

ا سقط ف ﴿على خالف السامري، قال تعالى: عبادة العجل، فقد ذكر سرعة توبتهم ي ولم

نا ويغفر لنا لنكونن من الخ هم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا رب ﴾ين اسر أيديهم ورأوا أن

[141]األعراف:

فما قال ﴿تعالى: بخالف السامري الذي عوقب، ولم يذكر شيئا عن توبته، قال

سول 12خطبك ياسامري ) ( قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضةا من أثر الر

لت لي نفسي ) ( قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول ال مساس 13فنبذتها وكذلك سو

قنه ثم لننس و ا لنحر ذي ظلت عليه عاكفا ا لن تخلفه وانظر إلى إلهك ال نه في ف إن لك موعدا

ا [13 - 12]طه: ﴾اليم نسفا

وهكذا أخبر الله تعالى عن الضالل المرتبط بالمشركين في قتل أوالدهم، حيث

ه افتراءا قد ﴿قال عنهم: موا ما رزقهم الل ا بغير علم وحر ذين قتلوا أوالدهم سفها خسر ال

ه قد ضلوا وما كانوا مهتدين [140]األنعام: ﴾على الل

وبناء على هذا كله؛ فإن الضالين يختلف جزاؤهم اختالفا شديدا عن المغضوب

أو الضالين ضالال بعيدا.. ومراتبهم في العقاب تختلف باختالف قربهم من الحق عليهم،

أو بعدهم عنه.

عن بعض دركات جهنم، أخبر وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، حيث

231

.(1)في ضحضاح من نار يغلي منه دماغهفيها قاصر في كيفيته بكون المعذب العذاب وأن

قد ال تطول، ألنه في رحلته التربوية قطع شوطا كبيرا، وهذا يدل على أن فترة عذابه

ولم يبق بينه وبين السعادة إال بعض التبعات، أو بعض الملكات النفسية التي يحتاج إلى

قطعها، ليدخل بعدها مدرسة الجنة االبتدائية.

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أن أهل النار في حركة دائمة بحسب

من العقوبة، والدخول بعدها إلى الجنة، مثلما يتاح لبعض استعداداتهم للتخلص

المساجين في الدنيا الكثير من الفرص للخروج من سجونهم، بشرط إثبات صالحهم.

آخر رجل يدخل الجنة )في آخر من يدخل الجنة: قوله ومن تلك األحاديث

ه عمله جز عنرجل يتقلب على الصراط ظهرا لبطن كالغالم يضربه أبوه وهو يفر منه، يع

أن يسعى فيقول: يا رب بلغ بي الجنة ونجني من النار! فيوحي الله إليه: عبدي أنجيتك

من النار وأدخلتك الجنة تعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول: العبد: نعم يا رب وعزتك

وجاللك لئن نجيتني من النار ألعترفن لك بذنوبي وخطاياي! فيجوز الجسر ويقول فيما

نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار! فيوحي الله إليه: عبدي بينه وبين

اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك وأدخلك الجنة فيقول العبد: وعزتك وجاللك

ما أذنبت ذنبا قط وال أخطأت خطيئة قط! فيوحي الله إليه: عبدي إن لي عليك بينة فيلتفت

أحدا ممن كان يشهده في الدنيا فيقول: يا رب أرني بينتك! العبد يمينا وشماال فال يرى

وعزتك -فيستنطق الله تعالى جلده بالمحقرات فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي

العظائم المضمرات! فيوحي الله إليه: عبدي! أنا أعرف بها منك، اعترف لي بها أغفرها -

الجنة، هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف لك وأدخلك الجنة، فيعترف العبد بذنوبه فيدخل

ونحن نقبل هذا الحديث، ولكنا نرفض تطبيقه على أبي طالب، ذلك أنه من المقربين الســابقين بما قدمه لإلسالم (1)

من خدمات، كما ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب ]رسائل إلى القرابة المظلومة[

232

(1)بالذي فوقه(

وهذا يدل على ما ذكرناه سابقا من أن المغضوب عليهم، والذين كتب عليهم

الخلود في النار، لم يفعل ذلك بهم إال لكونهم ال يستطيعون أن يسلموا لله، وال أن

التمرد، يتمردون من جديد، القيم التي أرادها؛ فهم بمجرد أن تتاح لهم فرصة يسلكوا

ولذلك كانوا هم السبب فيما يحصل لهم.

ولهذا نرى أنه قد تقام ألهل النار كل حين أصناف االختبارات، فمن نجح منهم

فيها، خفف عليه العذاب، أو رفع عنه بحسب درجة نجاحه، ويشير إلى ذلك الحديث

.االذي ذكرناه سابق

لرحمة اإللهية، ذلك أن القصد منه هو التطهير ولهذا، فإن العذاب اإللهي نابع من ا

والتربية والترقي، وليس العذاب المجرد الذي ال يقصد منه إال التشفي، فالله أعظم من

أن يتشفى بأحد من خلقه.

من اصطالح )العقوبات( ليس إال نوعا ما ورد في الشرع من وبذلك فإن

جهده أن يخلص المريض من األذى ، فكما أنه ال يقال للجراح الذي يحاول (2)المجاز

الخطير الذي لحق بدنه معاقبا، فكذلك ال يقال للعمليات التي تترتب على هذا النوع من

الخطايا بأنها عقوبات إال بنوع من المجاز، فالرحيم اللطيف يستحيل عليه أن يعاقب لغير

علة أو لغير ما تقتضيه الحكمة.

بناء على هذا؛ فإن الضالل نوعان:

(402/ 10مجمع الزوائد ومنبع الفوائد )، رواه الطبراني في الكبير (1)

كما ورد في الحديث:) تعالوا بايعوني على أن ال تشركوا بالله شيئا، وال تسرقوا وال تزنوا وال تقتلوا أوالدكم، وال (2)

تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم وال تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك

،ن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه(شـيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، وم

(3331، رقم 3/1413البخارى )رواه

233

: وهو أخطر أنواع الضالل، ذلك أن وع األول: ضالل مرتبط بالحقائق العقديةالن

العقائد تشكل األساس الفكري الذي تبنى عليه حياة اإلنسان، وبقدر التوهمات،

واالنحرافات في هذا الجانب، بقدر ما يكون االنحراف في القيم السلوكية.

لله، ولذلك كان الوقوع فيباإلضافة إلى ذلك، فإن من مقاصد الخلق التعريف با

هذا النوع من الضالل مصادمة للغاية الكبرى من الخلق.

وبناء على هذا يختلف العقاب المرتبط بهذا النوع باختالف درجة الضالل ونوعه،

ودرجة اإلصرار عليه.

س : وهو الضالل الناتج من غلبة النفالنوع الثاني: ضالل مرتبط بالقيم السلوكية

والهوى على اإلنسان، وهو أيضا تختلف درجته بحسب آثاره على النفس؛ فإن طغا

عليها، وتجوهرت بجوهره، كان الضالل بعيدا، وربما يؤدي إلى االستمرار فترة طويلة

كفي العذاب، بل قد ال يطيق من حصل له ذلك الخروج من النار مطلقا، بسبب ترسخ تل

بلى من كسب سيئةا وأحاطت به ﴿الصفات في نفسه، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:

[41]البقرة: ﴾خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

أما إن كان دون ذلك؛ فسيكون عقابه دون ذلك، وقد يقتصر على فترة البرزخ، أو

غيرها من الدور التي هيأها الله تعالى لتربية عباده. الموقف، أو

وبناء على ذلك؛ فإن من لم يتم تطهيره في الدنيا، إما بالتوبة النصوح، أو

بالمكفرات المختلفة التي تستأصل ما في نفسه من الهوى، سيتعرض ال محالة للتطهير

يدخل الجنة من لم يستحيل أن بمختلف درجاته وأساليبه في الدار األخرى، ذلك أنه

با مع تطهيرا متناسيسكن الجنة اقتضت تطهير من فحكمة الله تعالى تكتمل طهارته؛

.الجرائم التي عملها

ـ مراتب المهتدين: 2

234

ونقصد بهم أولئك الذين وضعوا أقدامهم في الطريق الصحيح للهداية، ولم يبق

دادات يملكون من االستعلهم سوى السير عليه الستكمال تربيتهم وتكميلهم بحسب ما

النفسية والعقلية.

وهؤالء هم الذين يطلق عليهم القرآن الكريم أهل اليمين، وهم عموم المؤمنين،

ل من وقلي﴿ذلك أن المقربين ليسوا سوى نخبة قليلة جدا من البشر، كما قال تعالى:

كور [13]سبأ: ﴾عبادي الش

، والذين لم يمروا على كير العقوبات اإللهية قليل وهكذا، فإن عدد المهتدين ابتداء

جدا مقارنة بالذين مروا على ذلك الكير، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في عدة أصحاب

لين )﴿اليمين: ة من األو ة من اآلخرين 31ثل [40، 31]الواقعة: ﴾( وثل

على قلة المهتدين مقارنة بالذين ويشير إلى ذلك تلك اآليات الكريمة التي تدل

ثر وما أك ﴿: يغويهم الشيطان بسبب إعراضهم عن الهداة، واتباعهم ألهوائهم، قال تعالى

ق عليهم إبليس ظنه ﴿[، وقال: 103]يوسف: ﴾الناس ولو حرصت بمؤمنين ولقد صد

ا م بعوه إال فريقا ألمألن جهنم منك ﴿إبليس: مخاطبا وقال ، [20]سبأ: ﴾ن المؤمنين فات

ن تبعك منهم أجمعين [ 42]ص: ﴾ومم

وقد ورد في الحديث ما يبين مدى قلة المهتدين مقارنة بالمنحرفين، ومنها قوله

: ومعه الرجل والرجالن، )عرضت علي األمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي

(1)والنبي وليس معه أحد(

)يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في : في حديث آخر قال و

يديك، ثم يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة

(220رواه مسلم ) (1)

232

ارى اس سكوتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الن

(1) (وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد

كم إن زلزلة ﴿ في تفسير قوله تعالى: وفي حديث آخر قال قوا رب ها الناس ات ياأي

اعة شيء عظيم ) ا أرضعت وتضع كل ذات حمل 1الس ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عم

ه شديد حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب : [2، 1]الحج: ﴾الل

ذاك يوم ينادى آدم عليه السالم، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم ابعث بعثاا إلى النار. )

فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار

(2) وواحد في الجنة(

رحمة اإللهية، فواضح، ذلك أن الله تعالى أما انسجام قلة المهتدين مع العدالة وال

وفر لعباده كل وسائل الهداية، وترك لهم كل الحرية في االختيار، لكنهم بمشيئتهم

اختاروا السبل المختلفة، وما كان الله ليرغمهم على الهداية، ألنها اختيار شخصي، ال

ين قد ﴿محل فيه لإلكراه، قال تعالى: شد من الغي ال إكراه في الد قرة: ]الب ﴾تبين الر

223]

باإلضافة إلى ذلك، فإن الواقع يدل على هذا، حيث نرى أتباع المطربين والممثلين

والمهرجين والمصفقين لكل الطغاة، أكبر بكثير من عدد أتباع األنبياء والصالحين

والهداة.

وذلك ال يعود فقط لوساوس الشيطان الذي توعد أن يغوي البشر، وإنما لما في

النفوس من ميل إلى الهوى والكسل، والذي يقعد بها عن المجاهدة في ذات الله، مع أن

(222(، ومسلم )3230رواه البخاري ) (1)

(. قال الترمذي: 11112( )432/ 4(، وأحمد )410/ 3(، والنسائي في )السنن الكبرى( )3131رواه الترمذي ) (2)

هذا حديث حسن صحيح

233

ذين جاهدوا فينا ﴿الهداية ال يمكن أن تتحقق من دون المجاهدة، كما قال تعالى: وال

ه لمع المحسنين لنهدينهم سب [31]العنكبوت: ﴾لنا وإن الل

(1))حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره(: ويشير إلى هذا قوله

: )لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، وفي حديث آخر قال

فيدخلها، فحفها بالشهوات، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك ال يسمع بها أحد

فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن ال

(2)يبقى أحد إال دخلها(

والواقع يدل على أن الطلبة النجباء المهتمين بدروسهم أقل بكثير من غيرهم،

متكاسلين.وخاصة إن لم يكن في المدارس أي حزم يدفع للدراسة، ويتشدد مع ال

ولكن هذا ال يعني بقاء األمر دائما بهذه الصفة، وإنما تبقى الجنة محال الستقبال

التالميذ الجدد كل حين، وخاصة من أولئك الذين لم تكن لهم سيئات كثيرة، أو كانوا من

البسطاء العوام البله الذين لم يكن فيهم من الكبر ما يحول بينهم وبين االهتداء للحق إذا

ه، فهم بمجرد أن تنتهي فترة تطهيرهم يدخلون الجنة، كتالميذ جدد، يستفيدون من عرفو

الذين سبقوهم إليها.

:ويشير إلى هذا تلك األحاديث التي تذكر أوصاف أكثر أهل الجنة، فقد قال

، وفي تتمة الحديث في رواية أخرى: (3)(دخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)ي

(4)الجنة البله(وأكثر أهل )

(2422(، ومسلم )3443رواه البخاري ) (1)

(31/ 1(، والحاكم )4331( )332/ 2(، وأحمد )3/ 3(، والنسائي )2230(، والترمذي )4344رواه أبو داود ) (2)

.(1/141( .ومسلم )2/331أحمد )واه ر (3)

(31/ 4مجمع الزوائد ومنبع الفوائد )، رواه البزار (4)

233

وهؤالء هم البسطاء الذين لم يرتكبوا من الذنوب المتعدية، ما يقعد بهم مددا

طويلة في العذاب، باإلضافة إلى أن تواضعهم وخمولهم وبساطتهم تيسر عليهم الدخول

للجنة، وفي درجاتها الدنيا، للترقي بعدها في سلم الكمال بحسب استعداداتهم.

العاقل في الخير، المتغافل عن الشر الذي صادق البله، فقال: )وقد فسر اإلمام ال

(1)يصوم في كل شهر ثالثة أيام(

وهو يعني بذلك أن هؤالء يقتصرون على الحد األدنى من الدين، كما يشير إلى

، من أهل نجد، ثائر الرأس، جاء إلى رسول الله ذلك ما ورد في الحديث أن )رجال

خمس : »، فإذا هو يسأل عن اإلسالم؟ فقال رسول الله حتى دنا من رسول الله

ول فقال رس .«ال، إال أن تطوع»فقال: هل علي غيرهن؟ قال: .«صلوات في اليوم والليلة

قال: وذكر له .«ال، إال أن تطوع»فقال: هل علي غيره؟ قال: .«وصيام رمضان: »الله

قال: فأدبر الرجل، .«ال، إال أن تطوع»الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: رسول الله

أفلح إن صدق، : »وهو يقول: والله ال أزيد على هذا وال أنقص منه. فقال رسول الله

(2)«أو دخل الجنة إن صدق

ويدخل أيضا في هؤالء أولئك الذين أصابهم أنواع البالء في الدنيا، والتي ساهمت

)يود أهل : ر نفوسهم من الكبر والظلم وغيرها، كما يشير إلى ذلك قوله في تطهي

العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البالء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا

(3)بالمقاريض(

ويدخل أيضا في هؤالء أولئك المستضعفين المظلومين، الذين يتحمل ظالموهم

..204معاني األخبار، ص (1)

(1/31( ، ومسلم )3/232، 1/14البخاري )رواه (2)

.(2403الترمذي كتاب الزهد رقم ) (3)

234

يتحملوها جميعا، فيدخلون الجنة من غير معاناة عذاب، أو قد أكثر أوزارهم، وربما

يمرون على بعض العذاب الذي يطهر نفوسهم من الملكات التي ال تتناسب مع الجنة.

)تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين : ويشير إلى ذلك قوله

عز للها فقالناس وسقطهم؟ والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي ال يدخلني إال ضعفاء ال

حم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أر رحمتي أنت: للجنة وجل

(1) أعذب بك من أشاء من عبادي(

ويدخل أيضا في هؤالء النساء، باعتبارهم من المستضعفين المظلومين في أكثر

أهل الجنة من المستضعفين أكثر أنه قال: )عن اإلمام الصادق فترات التاريخ، وقد روي

(2)النساء، علم الله ضعفهن فرحمهن(

زرارة قال: قلت ألبي جعفر: إني أخشى هكذا روي عن اإلمام الباقر، فقد حدث و

«ما يمنعك من البله من النساء؟»أن ال يحل لي أن أتزوج من لم تكن على أمري، فقال:

(3)اللواتي ال ينصبن وال يعرفن ما أنتم عليه(هن المستضعفات من »قلت وما البله؟ قال:

وبناء على هذا ال نرى صحة تلك األحاديث المشتهرة، والتي تذكر أن النساء أكثر

أهل النار، ذلك أن الذي دسها في اإلسالم هم أولئك الذين أرادوا أن يعيدوا الموقف

جاء بها.الجاهلي من المرأة، ويدخلوه إلى اإلسالم ليشوهوا القيم التي

قال: )اطلعت في الجنة فرأيت ومن تلك األحاديث ما يروون أن رسول الله

(4)واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء( ،أكثر أهلها الفقراء

(2443(، ومسلم )4420رواه البخاري ) (1)

..434، ص 3 من ال يحضره الفقيه، ج (2)

..341، ص 2الكافي، ج (3)

2333ومسلم 3241رواه البخاري (4)

231

ثم يروون حديثا آخر يعللون به ذلك، وهو تعليل متناسب مع تلك القيم الجاهلية

أنه شريكا له، فقد نسبوا إلى رسول الله التي تريد من المرأة أن تكون عبدا لزوجها، ال

أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء( قالوا: بم يا )قال:

حسان ويكفرن اإل ،قال: )يكفرن العشير ،يكفرن بالله :رسول الله؟ قال: )بكفرهن( قيل

(1) ما رأيت منك خيرا قط( :لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت

بناء على هذا كله، فإن أسس الهداية التي ذكرها القرآن الكريم في سورة الفاتحة،

اك ﴿ ا قوله تعالى:م، نص عليهمعنيينوالتي تتيح لهؤالء الدخول إلى الجنة، تتضمن إي

اك نستعين ) راط المستقيم 2نعبد وإي ذين أنعمت عليهم 3)( اهدنا الص ﴾( صراط ال

[3 - 2]الفاتحة:

اك نستعين ﴿ففي قوله تعالى: اك نعبد وإي بيان الستعداد هذا [2]الفاتحة: ﴾إي

الصنف للسير وفق ما تتطلبه الغاية الكبرى للخلق، وهي التعرف على الله والتواصل معه،

لك.واالستعانة به لتحقيق ذ

راط المستقيم )﴿وفي قوله: ذين أنعمت عليهم 3اهدنا الص ]الفاتحة: ﴾( صراط ال

بيان الستعداد هذا الصنف للتلقي والطاعة واألدب مع من جعلهم الله تعالى هداة [3، 3

إليه.

لتعامل ا ذلك أن االختبار اإللهي ليس خاصا بالعبودية لله فقط، وإنما قد يتضمن

مع من يدعونا إلى طاعتهم وتعظيمهم، ولهذا فشل إبليس في االختبار الثاني، بعد أن أمره

الله تعالى بالسجود آلدم عليه السالم.

ولتبسيط هذا المعنى بلغتنا المعاصرة، فإنه يشترط في أي طالب يريد االلتحاق

1022رواه البخاري (1)

230

اتذتها، قت يعترف بأسبأي مؤسسة تربوية أن يعترف بنظامها ومقرراتها، وفي نفس الو

ويتعهد بالتزام تعليماتهم وتوجيهاتهم.

وهكذا األمر مع التربية اإللهية لعباده، فال يمكن أن تتم بمعزل عن طاعة الرسل

ه ويغفر لك ﴿واتباعهم، كما قال الله تعالى: بعوني يحببكم الل ه فات م قل إن كنتم تحبون الل

ه غفور رحيم )ذ ه ال يحب 31نوبكم والل وا فإن الل سول فإن تول ه والر ( قل أطيعوا الل

[32، 31]آل عمران: ﴾الكافرين

ولذلك نرى استمرارية الرسل عليهم السالم في أداء وظائفهم في الجنة، مثلما

بأممهم وأتباعهم وأهل الجنة عموما تبقى متواصلة، ألن مارسوها في الدنيا.. فصلتهم

الجنة ليست دار نعيم فقط، وإنما هي أيضا دار هداية وترق وسلوك إلى الله لتحقيق الغاية

الكبرى من الخلق، وهي المعرفة بالله.

المقربين: مراتبـ 3

الخالصة النورانية لكل الواقعين في دائرة التكليف اإللهي، ولذلك هم المقربون

الفائزون الذين كان لنفوسهم من هم المحققون لغايات الكون والحياة، وهم لذلك أيضا

الصفاء والطهارة ما جعلهم يتشربون الهداية اإللهية بكل كيانهم، ولذلك انصبغت

يطان من التأثير فيهم، وكانوا من حقائقهم بالصبغة اإللهية، ولم تتمكن لمة الش

صين.المخل

ويذكر القرآن الكريم أن الشيطان كان يعلم بوجود هذا الصنف، ويعلم أن صراعه

األكبر سيكون معهم، حيث يتولى هو زعامة فريق الضاللة، بينما يتزعم هؤالء المقربون

نن لهم في األرض قال رب بما أغوي ﴿قيادة فريق الهداية، كما قال تعالى: تني ألزي

( قال هذا صراط علي مستقيم 40( إال عبادك منهم المخلصين )31وألغوينهم أجمعين )

بعك من الغاوين 41) [42 - 31]الحجر: ﴾ ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إال من ات

231

وهذه الهبة اإللهية التي تحققت لهذا الصنف، لم تكن هبة مجردة، وإال لخالف

ذلك العدالة اإللهية، وإنما كانت لما فيهم من االستعدادات والقابليات المبنية على

يتعرضون للفتن، لكن الفرق بينهم وبين غيرهم من البشر المجاهدات، ولهذا فهم مثل

في مراقبتهم لله، ومجاهدتهم ألنفسهم كما قال تعالى عن يوسف عليه غيرهم هو

وء ﴿السالم: ه كذلك لنصرف عنه الس ت به وهم بها لوال أن رأى برهان رب ولقد هم

ه من عبادنا المخلصين [24]يوسف: ﴾والفحشاء إن

يه السالم ـ كما تنص اآلية الكريمة ـ كان مثل سائر البشر يملك نفس فيوسف عل

الهمة الدافعة إلى الشر، ولكن الفرق بينه وبينهم هو في مجاهدته لنفسه، بسبب برهان ربه

الذي يمأل قلبه، ويجعله ال يتحرك أي حركة إال وفق القيم التي أمر الله بمراعاتها.

والذي في إمكان أي شخص أن يحصل عليه وهذا هو معنى العصمة، والخالص،

ذين جاهدوا فينا ﴿إذا أدمن الرياضات والمجاهدات الروحية، كما قال تعالى: وال

ه لمع المحسنين [31]العنكبوت: ﴾لنهدينهم سبلنا وإن الل

هي غاية من خلقهم، وولهذا، فإن المقربين هم الذين انشغلوا في الدنيا بتحقيق ال

ل بعد ذلك إلى منارة من مناراتها، البحث عن سبل الهداية، والسير على ضوئها، والتحو

ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ﴿كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السالم:

ماوات واألرض وليكون وكذلك نري ﴿، وقال: [21]األنبياء: ﴾ إبراهيم ملكوت الس

[32]األنعام: ﴾من الموقنين

وقد أشار إليهم القرآن الكريم في سورة الفاتحة، ودعا إلى االلتزام بسراطهم

راط المستقيم ) ﴿المستقيم، قال تعالى: ذين أنعم 3اهدنا الص ﴾ت عليهم ( صراط ال

[3، 3]الفاتحة:

سول ﴿وقد عرف هؤالء، والمجامع الكبرى لهم، فقال: ه والر ومن يطع الل

232

الحين وح والصهداء يقين والش د ه عليهم من النبيين والص ذين أنعم الل سن فأولئك مع ال

ا﴿وقد وردت بعد قوله تعالى: ،[31]النساء: ﴾ا أولئك رفيقا ﴾ولهديناهم صراطاا مستقيما

[34]النساء:

ليس مجرد قيم نظرية سابقا ـ كما ذكرنا ـ وهذا يدل على أن السراط المستقيم

جامدة، وإنما هو قيم واقعية حية يمثلها هؤالء المقربون الذين جعلهم الله تعالى حججا

على عباده، ومنارات يهتدون بها.

ولذلك كانوا بمثابة األساتذة في هذه المدرسة الدنيوية، ومن عرف كيف يصل

الناجين والناجحين. إليهم، ويهتدي بهديهم، ويلتزم بتعاليمهم؛ فإنه ال محالة من

كل : )أن دخول الجنة متوقف على طاعته، ففي الحديث قال ولهذا أخبر

ل من أطاعني دخ)، فقالوا: يا رسول الله من يأبى؟ قال: (أمتي يدخلون الجنة إال من أبى

(1)الجنة، ومن عصاني فقد أبى(

أتباعهم، لكن الشيطان بعد يأسه من الرسل عليهم السالم، لم يكن ييأس من

ولذلك كان يستعمل كل الوسائل الستبدال الممثلين الحقيقيين للسراط المستقيم

بغيرهم ممن يخدمون مشروعه.

وكانت هذه هي طريقته في التعامل مع األديان جميعا، مستغال الحسد الذي في

م، أبى السجود آلدم عليه السال ماالنفوس التي تأبى الخضوع للغير، مثلما فعل هو عند

رين ومنذرين وأنزل معهم ﴿ل تعالى: قا ه النبيين مبش ةا واحدةا فبعث الل كان الناس أم

ذين أوتوه من بعد الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إال ال

ذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذ م ه ال ه ن ا جاءتهم البينات بغياا بينهم فهدى الل ه والل

.214/ 13رواه البخاري، (1)

233

[213]البقرة: ﴾يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

ه هذه األمة هي نفس سنتثم عقب الله تعالى على هذه اآلية الكريمة بأن سنته في

في سائر األمم، وأن الشيطان الذي أضل سائر األمم بإبعادها عن سراطها المستقيم،

لوا أم حسبتم أن تدخ ﴿وممثليه الشرعيين، سيفعل ذلك مع هذه األمة أيضا، قال تعالى:

ذين خلوا من قبل ا يأتكم مثل ال اء وزلزلوا حتى يقول الجنة ولم ر تهم البأساء والض كم مس

ه قريب ه أال إن نصر الل ذين آمنوا معه متى نصر الل سول وال [214]البقرة: ﴾الر

بناء على هذا؛ فإن الدور األكبر للمقربين في الدنيا واآلخرة هو كونهم ميزانا

لحقائق والقيم، وكونهم كذلك أساتذة لها.. ولهذا فإن مراتب الجنة تتحدد بحسب ل

العالقة بهم وبالقيم التي جاءوا بها، ودركات جهنم تتحدد بحسب العداوة المبطنة لهم،

أو للقيم التي جاءوا بها.. ولذلك كانوا قسماء للجنة والنار.. فالجنة لمن واالهم، والنار

لمن عاداهم.

إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنكم »: قال ولهذا

أخالقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون

والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟

(1)«قال: المتكبرون

يعني ما نفهمه من البركة أو النعيم المرتبطة بتلك الدرجة التي نزلوا وهذا الجوار ال

فيها فقط، وإنما يعني أن هؤالء الذين توفرت فيهم هذه الصفات، سيكونون تالميذ

مباشرين للرسل عليهم السالم في اآلخرة، مثلما كانوا تالميذ لهم في الدنيا.

هم في اآلخرة، أما صفاتهم؛ فقد هذا عن حقيقة هؤالء المقربين، والدور المناط ب

(2014الترمذي )رواه (1)

234

ذكر القرآن الكريم الكثير منها، لتكون معيارا للقيم التي أراد الله تعالى من عباده التحقق

بها.

ومن تلك اآليات ما ورد في وصف أولي األلباب، أي أصحاب العقول النقية

ماوات واألرض إن في خلق ﴿الطاهرة، المستعدة لتقبل الهداية اإللهية، قال تعالى: الس

يل والنهار آليات ألولي األلباب ) ا 110واختالف الل ا وقعودا ه قياما ذين يذكرون الل ( ال

نا ما خلقت هذا با ماوات واألرض رب رون في خلق الس انك طالا سبح وعلى جنوبهم ويتفك

[111، 110]آل عمران: ﴾فقنا عذاب النار

ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو ﴿وقال في آية أخرى تصفهم: أفمن يعلم أن

ر أولو األلباب ) ما يتذك ذين يوفون بعهد الل 11أعمى إن ( 20ه وال ينقضون الميثاق )( ال

هم ويخافون سوء الحساب ) ه به أن يوصل ويخشون رب ذين يصلون ما أمر الل ( 21وال

ا رزقن الة وأنفقوا مم هم وأقاموا الص ذين صبروا ابتغاء وجه رب ا وعالنيةا وال اهم سر

ار يئة أولئك لهم عقبى الد [22 - 11]الرعد: ﴾ويدرءون بالحسنة الس

وقد أخبر القرآن الكريم أن كل أنواع الهداية ال يمكن أن يفهمها، وال أن يستوعبها

يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي يؤتي الحكمة من ﴿إال هذا الصنف، كما قال تعالى:

ر إال أولو األلباب ك ا وما يذ ا كثيرا ذي أنزل عليك ﴿، وقال: [231]البقرة: ﴾خيرا هو ال

ذين في قلوبهم زيغ الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأم ا ال

ه اسخون في و فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إال الل الر

ك نا وما يذ ، وغيرها [3]آل عمران: ﴾ر إال أولو األلباب العلم يقولون آمنا به كل من عند رب

من اآليات الكريمة.

إن المتقين في ﴿ومن تلك اآليات ما ورد في وصف المتقين، كما قال تعالى:

هم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين )12جنات وعيون ) انوا قليالا ( ك 13( آخذين ما آتاهم رب

232

يل ما يهجعون ) ائل 14( وباألسحار هم يستغفرون )13من الل ( وفي أموالهم حق للس

[11 - 12]الذاريات: ﴾والمحروم

ر المخبت ﴿ومن تلك اآليات ما ورد في وصف المخبتين، كما قال تعالى: ين وبش

الة ( ا34) ابرين على ما أصابهم والمقيمي الص ه وجلت قلوبهم والص ذين إذا ذكر الل ل

ا رزقناهم ينفقون [32، 34]الحج: ﴾ومم

وعباد ﴿ومن تلك اآليات ما ورد في وصف عباد الرحمن، كما قال تعالى:

ذين حمن ال ا )الر ا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سالما ( 33يمشون على األرض هونا

ا ) ا وقياما دا هم سج ذين يبيتون لرب نا اصرف عنا عذاب جهنم إن 34وال ذين يقولون رب ( وال

ا ) ا )( إن 32عذابها كان غراما ا ومقاما ذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم 33ها ساءت مستقر ( وال

ا ) [33 - 33]الفرقان: ﴾(33يقتروا وكان بين ذلك قواما

ومن تلك اآليات ما ورد في وصف عباد الله الذين جمعوا كل مقامات الخير، كما

اجدون اآلمرون التائبو﴿قال تعالى: اكعون الس ائحون الر ن العابدون الحامدون الس

ر المؤمنين ه وبش [112]التوبة: ﴾بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الل

ر أعمالهم، أو مواقفهم، وغيرها من اآليات الكريمة التي تصف الصالحين، إما بذك

ذين قال لهم الناس إن ﴿أو بذكر بعض األحداث المرتبطة بهم، كما في قوله تعالى: ال

ه ونعم الوكيل ا وقالوا حسبنا الل ]آل ﴾الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا

[133عمران:

في القرآن الكريم اهتماما كبيرا بتصنيف الناس وفق القيم التي يؤمنون ولهذا نرى

بها، ذلك أن منازل اآلخرة مرتبطة بتلك التصنيفات.

أما الجزاء المرتبط بهؤالء، فال يمكن تصوره، وقد ورد في سورة الواقعة اإلشارة

ابقون و ﴿إلى بعض مجامعه، والتفريق بينه وبين نعيم أصحاب اليمين، قال تعالى: الس

233

ابقون ) بون )10الس لين )12( في جنات النعيم )11( أولئك المقر ة من األو ( 13( ثل

( يطوف 13( متكئين عليها متقابلين )12( على سرر موضونة )14وقليل من اآلخرين )

عون عنها 14( بأكواب وأباريق وكأس من معين )13دان مخلدون )عليهم ول ( ال يصد

ا يتخيرون )11وال ينزفون ) ا يشتهون )20( وفاكهة مم ( وحور عين 21( ولحم طير مم

ؤلؤ المكن 22) ا 24( جزاءا بما كانوا يعملون )23ون )( كأمثال الل ( ال يسمعون فيها لغوا

ا ) ا )22وال تأثيما ا سالما [23 - 10]الواقعة: ﴾(23( إال قيالا سالما

ه جنتان )﴿وهكذا ورد في سورة الرحمن، قال تعالى: ( 43ولمن خاف مقام رب

بان )فبأي آال كما تكذ رببان )44( ذواتا أفنان )43ء كما تكذ رب

( فيهما 41( فبأي آالء

بان )20عينان تجريان ) كما تكذ رب( 22( فيهما من كل فاكهة زوجان )21( فبأي آالء

كم رببان )فبأي آالء ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان 23ا تكذ

بان )24) كما تكذ رب( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم وال 22( فبأي آالء

بان )( فبأي آال 23جان ) كما تكذ رب 24( كأنهن الياقوت والمرجان )23ء

( فبأي آالء

بان ) كما تكذ حسان )21رب حسان إال اإل بان 30( هل جزاء اإل كما تكذ رب ﴾( فبأي آالء

ومن ﴿تعالى قال بعد ذكره لهذا النعيم: ، ويدل على هذا أن الله [31 - 43]الرحمن:

، أي تحتهما في الفضل، وهذا يدل على أن الجنة األولى [32]الرحمن: ﴾دونهما جنتان

هي جنة المقربين.

وغيرها من اآليات الكريمة التي نجد عند التدبر فيها الكثير من الفروق بين أنواع

وهؤالء المقربين.. وهي فروق ال ترتبط فقط النعيم الحسي المرتبطة بأصحاب اليمين،

باللذات الحسية، وإنما بما تختزن من لذات معنوية أشرف وأعظم.. وقد ذكرنا سابقا

امتزاج النعيم الحسي في الجنة بالنعيم المعنوي.. فكالهما يهدفان إلى التعريف بالله،

والتواصل معه.

233

م في تناولهم للذات الحسية، ال وهكذا األمر في الدنيا عند هؤالء المقربين؛ فه

يغفلون عن الله، بل يجعلون من تلك اللذات معارج روحية توصلهم بالله، وال تحجبهم

ا يجمعون ﴿عنه، كما قال تعالى: ه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مم ﴾قل بفضل الل

[24]يونس:

لكريم من أنواع النعيم الحسي المرتبط بهم مجرد نماذج، وما أشار إليه القرآن ا

ه عليموسى أن ألن النعيم الحقيقي المهيأ لهم ال يمكن وصفه، وقد ورد في الحديث

ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة أجابه، لكن عندما سأله عن أعالهم منزلة سأل السالم

فلم تر عين ولم تسمع ،وختمت عليها ،أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي)قال:

(1)أذن ولم يخطر على قلب بشر(

قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ):وفي الحديث القدسي الجليل قال

(2) ما ال عين رأت، وال أذن سمعت، وال خطر على قلب بشر(

ولهذا عندما ذكر الله هؤالء المقربين العارفين بربهم الساجدين بكل كيانهم له،

هم وهم ال ﴿قال ف ا وسبحوا بحمد رب دا وا سج روا بها خر ذين إذا ذك ما يؤمن بآياتنا ال إن

ا رزقناهم 12يستكبرون ) ا ومم ا وطمعا هم خوفا ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون رب

فال تعلم نفس ﴿: ذكر بعدها ما أعد لهم من النعيم، فقال [13، 12]السجدة: ﴾ون ينفق

ة أعين جزاءا بما كانوا يعملون [13]السجدة: ﴾ما أخفي لهم من قر

(121و 1/120مسلم ) رواه (1)

.3/1، ومسلم، 1/32البخاري، رواه (2)

234

هذا الكتاب

يبحث هذا الكتاب في أهم المسائل المرتبطة بالمصير اإلنساني،

وشقائه، والحقائق المرتبطة بذلك، من خالل المصادر الدينية وسعادته

فصول هي: ربعةأوالعقلية والعلمية، وذلك في

، ويتضمن األدلة الدينية والعقلية والعلمية والنشآت اإلنسانية الموت. 1

الدالة على أن الموت ليس سوى مرحلة من مراحل اإلنسان، وليس عدما، وال

فناء.

، ويتناول الحقائق واألحداث المرتبطة الحقائق وتجلياتالبرزخ . 2

ويتعذب الكثير من الحقائق الغيبية،بمرحلة البرزخ التي يكتشف فيها اإلنسان

بذلك، أو يتنعم به.

، ويتناول األحداث المرتبطة بالحشر العدالة.. وتجليات المعاد. 3

وص والنشر والحساب والموازين والسراط وغيرها من التي ورد في النص

المقدسة ذكر تفاصيلها، مع بيان عالقتها بصفات الله التي دل عليها العقل

والنقل، وخاصة العدالة التي تتجلى في ذلك الموقف بأكمل صورها.

، وذكرنا فيه ما ورد في الجزاء اإللهي.. وتجليات العدالة والرحمة. 4

أنواع العقوبات والنصوص المقدسة من أنواع الفضل اإللهي ألهل الجنة،

.بالعمل والسلوك ة ذلك كلهوعالقألهل النار، اإللهية