1

خريف المثقف في العراق

خريف المثقف في العراق 2

2011

3

محمد غازي األخرس

خريف المثقف في العراق2008 - 1990

خريف المثقف في العراق 4

5 توطئة

توطئة

رصاصهم. ولعلعة القتلة خطى وقع عىل الكتاب هذا تأليف يف رشعت البارود رائحة اآلن أشم أكاد إنني حد حقيقية إهنا جمازية. العبارة ليست تتصاعد من بني السطور. بل أكاد أنصت لرصاخ قتىل جمهولني يسقطون قريبا

من املكان الذي أكتب به. عامي بني للكتاب األولية املسودات أنجزت فقد العجب. يأخذنكم ال هذه ويف .2009 عام منتصف املخطوطة واستكملت و2008 2006السنوات ساد مزاج املوت يف العراق حتى أنه أضفى نكهته عىل كل شئ. ومن

بني هذه األشياء األفكار واألسئلة، النقاشات وزوايا النظر. لذا ليس عىل القارئ ان يستغرب مثال وهو يتحسس الروح "البوليسة"وهي تترسب اىل طريقة حتليل الظواهر وتتبع جذورها وليس عليه ان يستغرب ايضا من بعض القسوة يف األحكام عىل الفاعلني األساسيني املوضوعني حتت جمهر

"القناص" الذي وجدتني استعري قناعه دون ارادة مني. كانوا الذين املثقفني أولئك اعني فأنني األساسيني" "الفاعلني أقول واذ ابطال رسدية اسميها "خريف الثقافة العراقية "حيث تصل تناقضات قرن كامل اىل هنايتها املتوقعة: اجلميع ضد اجلميع، اجلميع قتلة واجلميع مقتولون، اجلميع

ضحايا واجلميع جالدون. لست متشائام لكنني أظن ان الكتاب لن يريض الكثريين وأكاد اجزم أن أول من سيعرتض عليه هو املثقف العراقي الذي نشأ وعيه يف ظل اإليديولوجيات

املتصارعة يف النصف الثاين من القرن العرشين. أسباب عدم الرىض املتوقع تعود إىل أن الكتاب حياول إعادة رسد تاريخ هذا أنتجته. وجيب أال يفهم، التي املنظومة انطالقا من حلظة اخلالص من املثقف

خريف المثقف في العراق 6

رؤية نتاج أنه األحرى بل لإليديولوجيا مضادة رؤية نتاج الكتاب أن هنا، "رسدياهتا" املتعارضة حتاول اخلالص من اإليديولوجيا ومن ثم االنعتاق من

بتعارض تلك اإليديولوجيات. لنفيس: قلت الفصول. آخر اهني أن أوشك وأنا املالحظة خطرت يل هذه وماذا بعد.. ! هل سيقرأ الكتاب بوصفه رسدية أخرى حتايث تلك الرسديات التي أنتجتها أم تراه سيقرأ بوصفه النظر يف املنظومة وحتاول تفكيكها وإعادة

"تطفال" عىل تلك الرسديات وتعكزا عليها..!! احلق أن اإلجابة عن مثل هذه األسئلة لن تكون ممكنة أبدا طاملا نحن بمواجهة تاريخ ثقايف مثل التاريخ الذي انتج مثقفنا العراقي. وأول ما يثري االنتباه، هبذا عىل تتصارع ورسدياته أبطاله. بتعدد يتعددون التاريخ هذا رواة أن الصدد،

امتالك ناصية "احلقيقة". كل يقول: هذا ما حدث وكل يزعم انه اضطهد من قبل اآلخر. كل يزعم أن انه "اهلوية" هو األقرب إىل حقيقتها. وقبل ذلك كله، كل يدعي مفهومه عن

األكثر متثيال لروح املثقف من سواه. عام من ابتداء العراقية الثقافة أحداث فصول قلبنا طاملا أننا، أيضا واحلق يبدو بشكل تارخيها كتبت حقبة أمام أننا سنجد الكويت، غزو عام ،1990التاريخ هبذا "العبث" حماولة أحيانا، املمكن، غري من يبدو أنه لدرجة هنائيا

وتفكيكه. السبب ببساطة أن أغلب من يفرتض بالكتاب التوجه إليهم إنام هم نتاج تلك الثقافة، وهم، من ثم، حمكومون، شاءوا أم أبوا املنظومة التي أنتجت لنا هذه

باآلليات التي حياول الكتاب تعريتها. لذا فإنني أكاد أنصت، من اآلن، العرتاضاهتم.

من اخلالص أن أظن فإنني املتشائمة، التوقعات نطاق يف وألبق ثانيا، كبريا. إحلاحا عيل تلح كانت التاريخ لقراءة موجها بوصفها اإليديولوجيا وهذا راجع إىل مالحظة قد يتفق عليها الكثريون وهي أن تاريخ الثقافة العراقية منذ هناية العرشينيات كان انعكاسا سيئا لتاريخ اإليديولوجيات املتصارعة يف

العراق. فإهنا ربام أقلهم، املستقلني، وما املثقفني املالحظة برىض ولئن حظيت هذه

7 توطئة

ستكون وباال عىل الكتاب جلهة أن مجيع اإليديولوجيني، وما أكثرهم، سيقرءون الفصول وكأهنا "هجاء" موجه إليهم.

فضال عن هذا، من الرضوري التنبيه إىل أن اللغة التي عمدت إليها يف بعض الفقرات لن تكون موضع ترحيب، ليس من قبل اإليديولوجيني فقط، بل من قبل النقاد "األكاديميني" أيضا. فاللغة املعتمدة متتح من جماالت حيتقرها النقاد

عادة، نقصد الرسد، لغة الريبورتاج الصحفي وألخ. تارخيي"حمايد" املرء يف حقيقة وجود مراقب تراود قد التي الشكوك ورغم

فان "احلياد" املطلوب يف هذا الكتاب لن يتوفر عىل نحو مرض أبدا.سيكون ثمة حيز واسع للرؤية الشخصية وسيخرج بعض القراء بانطباع يفيد ينحاز أحيانا إىل طرف دون القضايا. بل هو املؤلف ليس حمايدا يف بعض أن

آخر. بل يكاد يف أحيان أخرى يرصح بانحيازه لبعض املفاهيم. "حيادي" تدفق متابعة من املرء يمنع لن لكنه متاما. صحيح االنطباع هذا كتب امليتة، وشبه احلية الوثائق عرشات من املستخلصة املعلومات ملئات مني استغرق وقد صحفية. وأخبار مقاالت شهادات، حوارات، مذكرات،

احلصول عىل تلك الوثائق جهدا دام أكثر من سنتني. بركوب أشبه ذهنيات أصحاهبا وتفكيك الوثائق تلك مع اإلبحار بدا لقد هذا أستعري واإللغاء. والنفي الكراهية بأمواج هائج بحر يف سكران قارب الوصف وأنا مقتنع متاما أن اغلب املثقفني، من أبطال تلك الوثائق، بدوا أمام ناظري مهجوسني بروح العاصفة، ملتبسني هبا. فهم مثلها متاما يريدون اقتالع

كل شئ يقف يف طريقهم. آخر األشياء التي أود التنبيه هلا هي طريقة رسد األحداث وسيالحظ القارئ أن الكتاب يعتمد عىل الوثائق واملدونات بشكل أساس. لكنه مع هذا يعتمد، يف بعض األحيان، عىل ذاكرة املؤلف وجتاربه الشخصية خصوصا يف املراحل التي ال تتوفر فيها مدونات كافية كام هو األمر يف الفصل الثاين املخصص لرسد

قصة هرب املثقفني من العراق بعيد حرب اخلليج الثانية. نظام سقوط بعد العراق ثقافة يف األمور جمريات شأن شأنه املفصل، هذا صدام حسني، يبدو وكأنه ارض بكر إذ إن ما نرش من شهادات وكتب ومقاالت

يبدو شحيحا للغاية قياسا بالفرتات األخرى.

خريف المثقف في العراق 8

يف األخري جيب أن أنوه بأن الكتاب هذا جزء ثان من كتاب واسع يتناول سرية الكتابان ما التاسع عرش وقد استغرق مني القرن العراقي منذ هنايات املثقف

يقارب ثالث سنوات إىل أن تم إنجازمها واحدا بعد اآلخر. حتى عرش التاسع القرن هنايات من العراقيني املثقفني سرية يتناول األول ثقافة اجلزء، هذا وهو الثاين، يتناول حني يف اإليرانية العراقية احلرب هناية

العراق املمتدة من غزو الكويت إىل عام 2008. ولكم أمتنى، يف األخري أن يلتمس القارئ يل العذر يف ما سيقرأ يف الفصول اخلمسة القادمة. فالكتاب، أوال وأخريا، ليس أكثر من حماولة متواضعة حتتمل الكثري من اجلدل ويعتورها الكثري من النقص. وعذري يف هذا أن الكتاب ربام

هو األول من نوعه يف هذا اجلانب. الكتاب أن أظن اللذين واإلغناء التقويم من الكثري حيتاج انه املؤكد ومن

والنقاد لن يبخلوا هبام خدمة للثقافة العراقية قبل أي شئ آخر. الروائي فورا سأذكر فأنني جانبي إىل وقف صديقا اشكر أن يل كان وإذا والشاعر امحد سعداوي الذي واكب تأليفي للكتاب وكان ال يبخل عيل بآرائه مراجعة ليس الرائع، الصديق هذا جتشم لقد الغنية. ومالحظاته السديدة األخطاء من الكثري إىل ينبهني راح بل فحسب، أناة وطول بصرب املخطوطة

بغية جتاوزها. قرأ الذي ناظم حسن الباحث صديقي إىل ينقطع ال بشكر أتوجه كذلك املخطوطة ومر عليها بفكره الوقاد فأغناها بمالحظات أخذت هبا ممنونا، فضال عن تصحيح األخطاء اللغوية واإلمالئية. والشكر موصول اىل الصديق الشاعر والباحث حممد مظلوم الذي قرأ بعض الفصول وأرش بقلمه السديد عىل أخطاء

وقعت هبا مضيفا من عنده عددا من املالحظات القيمة. وأيضا ال أنسى صديقي الشاعر عيل عبد األمري الذي فتح يل مكتبته الشخصية أبان رفقتنا الطيبة يف األردن ونسخ يل ملفات ووثائق عظيمة األمهية وجدتني

ارجع اليها بعد سنوات فأجد فيها كنزا من املعلومات ال غنى عنه. ذلك جدوى الختبار حماولة من أكثر ليس برمته الكتاب فإن األخري ويف االنعتاق. وسواء اعرتض اآلخرون أم وافقوا، لن تعدو املهمة ذلك: إهنا حماولة

نجاة من "مركب سكران" واإلصغاء إىل رصاخ ركابه من بعيد.

9 مدخل ومالحظات

مدخل ومالحظات

تشبه راحة كبرية، براحة شعرت الكتاب هذا فصول من انتهيت عندما تلك التي يستشعرها واحد خرج لتوه من نقاش دام قرنا من الزمن مع أناس سفسطائيني تعطلت آذاهنم وتوقفت عن السمع يف حني مل تتوقف السنتهم عن

الرصاخ باصوات عالية طوال فصول اجلدل التي دونتها. باالمر معنيا الرحلة ستنفع هل ؟ سواي.. أحدا النقاش هذا سينفع هل

غريي..!!النفسهم. باالجابة مهسوا لو حتى عنه االجابة االخرون يستطيع تساؤل لكن الشكوك ستبقى تراودين يف ان أحدا من "أبطايل" السابقني يمكن ان يتفهم ما اردت فعله، اولئك الذين أظن أهنم لن يسمعوا حرفا واحدا مما سأقول فهم وهذه هي اخلالصة برأيي والسبب أهنم مهجوسون دائام بالرصاخ، ال االنصات وهم عىل يقني ال يتزعزع من اهنم مالك احلقيقة الوحيدون. لذلك ال أتوقع أن

يؤثر الكتاب فيهم أيام تأثري، هذا اذا مل يستسخفوه مجلة وتفصيال. بعد الكتاب تقرؤوا مل كونكم باألحاجي أشبه عبارات يف تتيهوا ال ولكي بودي أن أخترص الفصول اخلمسة بأقل ما يمكن من العبارات: يرسد الكتاب حكاية املثقفني العراقيني، منذ حدث احتالل الكويت اىل ما بعد سقوط نظام احتالل بعد العراق داخل جرى ما يتتبع األول فصول. مخسة يف البعث، ظهور من بدءا الكربى األنكسارة تأثريات عىل مركزا واالنتفاضة الكويت املد الديني مرورا بخيبة املثقفني ووصوهلم اىل عتبة العدمية وانتهاء بوقوعهم

ضحايا التطرف الثقايف يف األفكار واملامرسة. ثم يميض الفصل الثاين ليتتبع ظاهرة هرب املثقفني العراقيني من البالد بعد االنتفاضة واساليب ذلك اهلرب مركزا، هذه املرة، عىل دخوهلم فعليا يف مرحلة

عدمية ال مثيل هلا.

خريف المثقف في العراق 10

بني بالدالالت زاخرة مواجهة حلظة عند مطوال فيقف الثالث الفصل أما التسعينيات. منتصف من ابتداء املقصود الرصاع بدأ وقد الثقافة من نمطني أحد هذين النمطني كانت هاجرت رموزه من العراق يف السبعينيات وصاغت هلا خطابا خاصا يف حني خرج ممثلو النمط اآلخر من البالد زرافات ووحدانا بعد حرب الكويت. احلق ان لقاء الثقافتني مل يكن وديا باملرة وقد بدا يف بعض

مالحمه وكأنه امتداد لرصاع قديم أبطاله الشيوعيون والبعثيون. كام العراقي املثقف صورة يرتسم فهو الشئ بعض خمتلف الرابع الفصل التقطت قبل الغزو األمريكي للعراق وأثناءه ويتم الرتكيز عىل استكناه طريقة هذا ويف معها. وتعاطيه للحرب قراءته وكيفية الوطنية هلويته املثقف فهم املفصل يشخص الرصاع يف بضعة رموز اشهرها املفكر كنعان مكية الذي تغنى

باحلرب وطرح عىل ما أزعم فهام جديدا للهوية. جمريات يتتبع خامس بفصل األمر ينتهي كهذا كتاب يف متوقع هو وكام البعث وطرائق جتدد الرصاعات باملثقفني بعد سقوط نظام املتعلقة األحداث القديمة بينهم حيث تصل األمور اىل حد القتل اجلسدي وحيث يبدو املثقفون

وكأهنم يتصارعون يف مركب سكران يمكن ان هيوي هبم بني حلظة وأخرى.هذا ملخص كتاب "خريف املثقف يف العراق" ولكي ال أكون متشائام اكثر البدء: ان مثقفا يعيش التي طرحتها يف الفكرة القراء بتلك من الالزم سأذكر يف رشوط منظومة معينة كونته، ان مثقفا كهذا يستحيل ان يتفهم طرحا جيهد ثم، املنظومة، ومن تلك املذكور سيظل رهني املثقف املنظومة. تلك لتفكيك

سجني رشوطها. وهو لن يفهم شيئا طاملا بقي داخل حمبسه. مزيد واحدة من ليست سوى املتشائمة بتوقعايت تتعلق التي املالحظة هذه جمرد اهنا صائبة تكون ان الرضوري من ليس لذا شخيص. بعد ذات وهي

انطباع ال اكثر.باملقابل، ثمة ما هو غري انطباعي يف املالحظات االخرى واغلبها يدور حول

فحوى الكتاب ونتيجته شبه النهائية. الكتاب مل اقول، هبذا الصدد، وارجو اال أكون مترسعا، أن فصول ان عيل آخر لكتاب امهد فليس النني ذلك أقول واذ تنتهي. ان يمكن بعد وال تنته قبل البعث ظل كام كان عليه بعد سقوط دولة العراقية الثقافة منطق بل الن

11 مدخل ومالحظات

احلدث املزلزل. وعيل ان أشري، هنا، اىل ان االبطال السابقني مل خيتفوا من مرسح االحداث. واذا كان ذلك قد جرى، بطريقة او باخرى يف بعض االحيان، فألنه ارتبط بتغري بعض البنى الكالسكيكة التي ميزت الثقافة العراقية طوال املرحلة

املدروسة. البعثيني املثقفني مواقع التي طرأت عىل التبدالت املح،مثال،اىل ان بامكاين ترسمت بعض مالحمها التي الغرائبية اخلارطة والشيوعيني واالسالمويني يف

بحيث عاد البعض ليتسعيد حلظة اعتقد اجلميع اهنا انتهت اىل االبد. ان تفاصيل ما جرى يف السنوات اخلمس التي تلت سقوط نظام صدام حسني التحالفات بعض فجأة، انبعث املقوالت بعض ان خافيا، ليس وهذا تفيد، القديمة استعيد، فضال عن ان الكثري من الرصاعات والرصعات جتدد بالطريقة

القديمة ذاهتا حتى وان بدا املتصارعون خمتلفني عام كانوا عليه. مفاهيم بانبعاث سأذكركم املالحظة هذه جدية اىل تطمئنوا ولكي والليرباليني والشيوعيني البعثيني وباستعادة مثل"الشعوبية"و"الرجعية"

التحالف القديم ضد "الرجعيني" من اتباع الثقافة الدينية.خلقية "العراقويني"و"العروبيني"عىل رصاع بتجدد ايضا، اذكركم، ان عيل عرفه الذي الرصاع ذلك .2008 2005 اعوام الشيعي السني الرصاع العراق منذ الثالثينات وكانت ذروته يف انقالب بكر صدقي عام 1936، ومن

ثم يف انقالب 14 متوز عام 1958. السابقني خطى عىل الالحقون وسار استعيدت السابقة اللحظة ان احلال حذو النعل بالنعل لدرجة ان شاعرا "عراقويا" صعد اىل منرب احتاد االدباء، ذات مرة، واستعاد ابياتا شهرية كان وجهها حممد مهدي اجلواهري حلكمت سليامن

حمرضا اياه عىل استئصال "العروبيني" ال تـبـــق دابـــر أقـــوام وتــرهتــم

فــهم اذا وجــدوها فرصة ثـأروا هتــامس النــفـر البــاكون عهـــدهم

ان ســوف يرجع ماضيهم فيزدهر فحاسب القوم عن كل الذي اجرتحوا

عام اراقوا وما اغتالوا وما احتكروا

خريف المثقف في العراق 12

فضـيق احلبــل واشـــدد من خناقهم فربمــا كــان يف إرخــائه ضــرر

وال تـقـــل تــرة تبــقي حـزازهتـــا فهم عىل كل حال كنت قد وتـروا

املثقف بخصائص طويلة، وقفة اىل حيتاج وهذا تتعلق، االخرى املالحظة اطرح ان تفاصيله. ويل قلبنا بعض الذي التاريخ لنا هذا انتج الذي العراقي تساؤال ربام يكون مدخال لفصل مل يكتب بعد:هل للمثقف العراقي خصائص ثابتة وجوهرية تتمظهر بوصفها خصائص ال تارخيية معزولة عن السياق الذي

حييطها؟ هل االنتهازية والتقلب ونقل البندقية من كتف اىل اخرى خصيصة "عراقية" زلزال خضم يف نفسها جتد ذات اي به تقوم فعل ردة جمرد هي ام اصيلة..

تضطرب معه البنى القارة والعالقات املستقرة.. ؟ انه ألمر حمري بالفعل وهو حيتاج اىل وقفة متأنية، وقفة ذات طابع نظري ال متثل

التفاصيل فيه سوى هامش يتسع باتساع الرشوح. لكن عموما، فإن واحدة من اخلالصات التي اجتهد الكتاب يف اخلروج هبا هي ان هذه اخلصيصة تبدو كأحد حمركات التاريخ الثقايف يف العراق. وهي، يف بعض املفاصل، تظهر بوصفها املحرك املركزي كام هو األمر يف مفصل عالقة

املثقف بالسلطة وطريقة تعاطيه معها. ال احتدث، هنا، عن عالقة املثقف االيديولوجي او العقائدي بالسلطة التي ربام شارك يف بناء منظومتها بل اعني ذلك النموذج التابع الذي يستمد رشعيته دائام، ممثل النموذج هذا ان واملفارقة ضدها. او معها كان سواء السلطة من العقائديون ذلك يف بام اآلخرى الرشائح عىل تغلب برشحية وقت، كل ويف

التقليديون. لعل واحدة من نتائج الكتاب تتعلق بتفكيك هذا النموذج ومطارته يف مجيع اشكاله وتبدالته التي أمكن مالحظتها. وهي رغم كوهنا نتيجة مؤسفة اال أهنا رضورية لفهم شكل يبدو غالبا عىل اجلزء األعظم من فعاليات الثقافة العراقية

غري املؤثرة ولكن السائدة. ان هذه النتيجة، رغم اهنا غري مؤكدة، تبدو مسؤولة عن الكثري من الظواهر

13 مدخل ومالحظات

املاثلة امامنا ومنها، مثال، الغياب شبه الدائم واملمنهج لنموذج املثقف املستقل الذي ندر وجوده منذ 14 متوز 1958.

املالحظة التي اود التوقف عندها بعجالة تتعلق بظاهرة العنف املطردة الظهور يف تاريخ املثقف العراقي. وقدر تعلق االمر هبذا االخري، يبدو العنف املقصود رمزيا غالبا، رغم وجود اشارات ال بأس هبا بوجود عنف فعيل مستوحى من

رصاع االيديولوجيات يف العراق. البحث عن ضحية الكتاب هو تبدى يف فصول بالنسبة يل، كام املهم، لكن املثقف الذهن، مل يكن اىل يتبادر ملا املفكر هبا مطلقا. فخالفا العنف غري هذا الفكرة هي األبرز الضحية ان بل العنف، هلذا االبرز الضحية هو املقصود طبيعتها بسبب متاما تالشت التي املستقل املثقف فكرة الشخص، وليس املختلفني تعايش وبامكانية املسامل باحلوار تؤمن التي الفكرة فهذه املخالفة. كانت قمعت بقسوة ال مثيل هلا وبات من غري املمكن ان تنبس ببنت شفة وسط

صخب املثقفني "املسلحني" بايديولوجياهتم العنفية. النتيجة، باختصار، هو حتول املشهد اىل ساحة "قتل رمزي" بكل معنى الكلمة األعرتاف بعضهم ويأبى والكراهية االحتقار مشاعر االبطال بتبادل حيث

بـ"اآلخر". كيف يمكن ان جتد فكرة استقاللية املثقف موطئ قدم هلا يف ميدان كهذا.. !! اخلالصة ربام اتضحت بشكل مثايل يف الفصل اخلامس من الكتاب حني حتول العراق اىل شئ شبيه بمركب سكران، مركب يقتتل ركابه باملجاذيف امام انظار

العامل ويكاد مجيعهم يغرقون يف اية حلظة. هذه الصورة ليست خيالية ابدا. وقد حاول الكتاب ترمجتها بطريقة تنهل من

طرائق كتابة التاريخ بقدر ما تبتعد عنها. املالحظة ما قبل األخرية التي أريد اثارهتا هي النزاع حول "اهلوية الوطنية" هبذا خيتص ال الكتاب ان ورغم الرمزي. رأسامهلا تشكيل يف املثقف ودور مالمح كل شكل ربام اسايس رصاع ترسم يف جهد انه اال اجلوهري املحور النزعة بني املستمر الرصاع حتديدا نعني احلديثة. حقبته يف العراق تاريخ

"العروبية" املضادة هلا. "العراقوية"املحليةـ والنزعة لدى املرء اكثر من دليل عىل ان هذا الرصاع تواصل، بحدة ورشاسة أكرب،

خريف المثقف في العراق 14

والقوميات الرشائح تصدرت حني وذلك صدام. بعد ما سنوات يف حتى واالثنيات واالقليات املشهد معيدة، اىل األذهان، ذلك السؤال املختلف عليه منذ العرشينات: هل العراق كيان مكتف بذاته ام انه جزء من كيان اكرب ينبغي

االلتحاق به؟الطائفية القومية الدولة مرحلة طوال وقوة بحزم قمع الذي السؤال هذا املرسومة باصابع وخميالت العسكر بدا وكأنه فرس رهان يف سلة مألى بأسئلة مشاهبة: ما عالقتنا بالعرب مثال؟ هل يتوجب االرهتان هبم اىل ابد االبدين.. ؟ هل من الرضوري، لكي نبدأ حقبة جديدة، العودة اىل ذاتنا املنسية او لنقل ان ينبغي اسرتاتيجية اي وفق والنار..؟ باحلديد واملقموعة املقصية املهمشة،

نحاول ذلك.. ؟ اساس مادة صدام، نظام سقوط حلظة منذ شكلت، ربام االسئلة هذه مثل هذه أبطال ان واملالحظ والرؤى. واالفرتاضات االفكار من مميز حلشد النقاشات بدوا خمتلفني متاما هذه املرة فاغلبهم ظلوا مقصيني ومهمشني لعقود وكان ال يسمح هلم بابداء افكارهم حول القضايا التي يعتقدون اهنم يمتلكون

رؤى واضحة فيها. االختالف، اختالف ابطال الرسدية اجلديدة عن اقراهنم املنسحبني من ساحة التاريخ، ليس ذا منشأ فكري او ثقايف فقط بل املهم انه ذو منشأ اجتامعي ايضا. فاالغلبية املطلقة من اصحاب األفكار اجلديدة واالجوبة غري املطروقة حتيل اىل رشائح مهمشة اقتصاديا و"منفية" عن صلب املشهد السائد. والكلمة األخرية "منفية" تبدو جمازية وحقيقية يف اآلن ذاته ذلك ان عددا كبريا من هؤالء االبطال والبعض جزئي او هنائي بشكل البالد اىل عاد بعضهم بالفعل. منفيني كانوا اآلخر وجد متنفسا الثارة ما يظنه مركزيا من تلك االسئلة بطريقة جديدة: بدال من التفكري "هناك"، خارج التاريخ ربام، سيكون عليه التفكري "هنا"، يف صلب

التاريخ اجلديد. من هذه املالحظة استطيع االنتهاء بثقة من مجيع مالحظايت املبثوثة، يف هذه

اخلامتة غري التقليدية، وقبلها يف الفصول اخلمسة املكونة للكتاب. اخلتام لن يكون مسكا بالتأكيد والسبب هو أعرتاف شخيص جدا لن يريض عىل املؤلفون ينكره ما غالبا الذي االعرتاف اقصد العلمي". "احلياد مدعي

15 مدخل ومالحظات

انفسهم وحياولون خمادعة قراءهم بتوريته ما امكن هلم ذلك. األحرى انني مل أكن حياديا كام يتمنى املؤرخ "التقليدي" ان يكون. كنت مياال إىل جهة ما او رؤية معينة بل أظنني يف بعض الفقرات مل أتورع عن الترصيح

بمييل والدفاع عن "رؤيتي" التي قد ال تريض الكثريين. هذه هي مالحظتي األخرية.

خريف المثقف في العراق 16

17 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

الفصل األول

...وأخيرا هبت العاصفة

الدخول إلى الكويت: الخروج من عنق الزجاجة

المأزق يف حتليله األكاديمي للفرضيات املفرسة لنشوب احلروب بني الدول، يتوقف مسلم بن عيل بن مسلم عند عدد من السيناريوهات التي أشار هلا املختصون

ومنها ما يسمى بـ"لعبة الفراخ". حسب هذه اللعبة يتم ختيل يافعني يسوقان سيارتني مرسوقتني. ولكي يثبتا طريف عىل متقابل بشكل السيارتني اليافعان يضع أندادمها، أمام شجاعتهام طريق طويل مستقيم. وتبدأ اللعبة حني ينطلق السائقان بأقىص رسعة أحدمها نحو اآلخر. هنا سيكون أمام كل سائق خياران فقط: إما ينحرف أو ال ينحرف. الثاين يعد "الفرخة" بينام يعترب أوال ينحرف الذي إن اللعبة هي واحلكمة يف

باسال وشجاعا)1). حسب هذا السيناريو فان النتائج ال تزيد عىل أربع يرشحها روبرت ج ليرب يف

:"theory and world politics""إذا ما انحرف السائقان املعروفان هنا بالالعب )أ( والالعب )ب( يف الوقت إذا ما انحرف )أ( ومل ينحرف نفسه عد كالمها "فرخا" وال أحد منهام خيجل. )ب( عد )أ( فرخا وحقق )ب( مكانة عالية بني أنداده. وإذا ما انحرف )ب(

دار 1994 األوىل الطبعة نظرية" حماولة الكويت، صدام غزا "ملاذا مسلم عيل، بن ينظر (1(الساقي ترمجة ص 130

خريف المثقف في العراق 18

ومل ينحرف )أ( فالنتيجة هي العكس. أخريا إذا واصال االنطالق من غري أي انحراف كانت النتيجة اصطداما وكانت العاقبة يف هذه احلال هي املوت")1).

املواجهة بني نظام صدام حسني واملجتمع الدويل أثناء احتالل الكويت ربام كانت شبيهة هبذه اللعبة. قاد صدام دبابته بجنون ليكون "باسل" اخلليج وكان يعتقد، حتى آخر حلظة، أن السائق اآلخر سيرتاجع وينحرف عن اجلادة فيكون

"الفرخة". وكانت النتيجة ان اصطدم العراق بالعامل اصطداما مدويا انتهى بسيادة منطق

اللعبة نفسها: االنتحار او لنقل املوت اختيارا. و"يافعون" أخرى مضامري هناك ستكون باألحرى، التالية، السنوات يف خمتلفون. شعراء، رسامون، أكاديميون، انصاف مثقفني، فقهاء من أمثال حممد

حممد صادق الصدر وزعامء عشائر من امثال كاظم الريسان. سيكون هناك ايضا ضباط وجنود اختاروا االنتحار بعد أن ارتدوا أكفاهنم بأيدهيم وانطلقوا يف الطرف اآلخر من "طريق املوت" الذي حفرت الطائرات

األمريكية مالحمه بقسوة بعد حترير الكويت. كانت "لعبة الفراخ"، بعبارة أخرى، قد حتولت اىل منطق شامل مع االحتفاظ بفرق وحيد عام جرى بني نظام صدام حسني والعامل. ففي الوقت الذي راهن كان الطريق عن وينحرف اآلخر السائق يرتاجع ان احتامل عىل النظام ذلك تراجع أمل يف أي ثمة يكون ان اىل مضامريهم دون نزلوا قد العراق عدميو

السائق "الباسل" وانحرافه. كان املوت بالنسبة هلم اختيارا. العبارة األخرية "املوت اختيارا" ليست من عندنا بل هي عنوان كتاب شوهد شديدة بطريقة املرات إحدى يف فوتغرافيا غالفه ووثق املتنبي شارع يف يباع "الطليعة إصدار أعيد الصدر، حممد اغتيال عام ،1999 العام ففي اإلحياء: شارع يف تعرب محال قدم الفريدة: الصورة نرشت األول العدد ويف األدبية".

املتنبي ويف اخللفية كتاب معروض للبيع عنوانه "املوت اختيارا". كانت اللقطة بديعة ولعلها عكست مزاج تسع سنوات من اجلنون والعدمية وتساوي قيم املوت واحلياة يف ذلك العراق املضطرب. ذلك العراق اخلارج من

)1) املصدر نفسه

19 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

"الفراخ" ستنطلق يف رحلة بحث عن نفق احلرب، الداخل إىل قمقمها حيث سفن نجاة من طوفان العدم.

الدخول إلى القمقم: األسباب احلدث تفسري حاولت التي الرائجة التقليدية التفسريات من عدد ثمة املزلزل، احتالل الكويت، ومعظم هذه التفسريات يدور يف فلك مزدوج أحد ركنيه هو االقتصاد بينام يعزى الركن الثاين إىل شخصية صدام حسني امليالة حلل

املشاكل مع اآلخرين عن طريق العنف والقسوة. من أبرز البزاز، سعد عليه ركز آخر مأزق ثمة املرتكزين هذين جانب إىل أرخ لذلك االحتالل، وهو مأزق "خنق العراق" بمنعه من اإلطالل عىل البحر. "ال أنه تفيد األربعينيات يف السعيد نوري قاهلا عبارة البزاز،هنا، ويستعيد

استقالل ناجز للعراق ما مل يستعد منفذه الواسع عىل البحر")1)أول مرتكزي النظرية التقليدية يتمحور حول االقتصاد إذن وهو يفيد، حسب الثانية. اخلليج حلرب نتيجة سوى يكن مل الكويت احتالل أن البزاز، سعد والتفاصيل تقول إن ديون العراق يف عام 1988 "جتاوزت حسب إحصائيات غري رسمية 70 مليار دوالر يضاف إليها ما أنفقه العراق من احتياطيه قبيل بدء

احلرب مع إيران وكانت تتجاوز50 مليار دوالر")2). منترص عراق خروج بدل اقتصاديا منهك عراق خروج يعني ذلك وكان

سياسيا. لدى ماريون وبيرتسلوجت واآلخرين ممن وثقوا ما جرى إحصائيات مفيدة للغاية: عوائد النفط تنخفض من 29 مليار دوالر عام 1980 إىل 9 مليارات عام 1982 ثم إىل 7 مليارات عام 1983، أكرب ديون لدولة عربية كانت تعود بمبلغ العراق عن نيابة البرتول باعتا اللتني والكويت للسعودية احلرب بعد الدولتان منحته ما إمجايل يرفع ما وهو دوالر مليار 20 إىل 18 من يرتاوح

)1) ينظر البزاز)سعد( »حرب تلد أخرى، التاريخ الرسي حلرب اخلليج« الطبعة األوىل األهلية للنرش والتوزيع 1992 1993 ص 16

)2) املصدر نفسه ص 35

خريف المثقف في العراق 20

للعراق إىل ما بني 50 إىل 60 مليار دوالر)1). ليس هذا فقط: معدالت التضخم تتسارع بشكل خطري حتى تصل إىل 45

باملائة عام )2)1990. الغزو، حتدث صدام حسني باألرقام ويف حديثه املوجه للقادة العرب، قبل وبني أن انخفاض أسعار النفط بمقدار دوالر واحد كان يعني خسارة العراق

مليار دوالر سنويا. من حصتها زيادة عىل مرصة الكويت كانت األحداث جمريات وحسب اإلنتاج يف أوبك. األمر الذي كان سيؤدي إىل انخفاض أسعار البرتول بشكل

يؤثر سلبا عىل العراق)3). وحسب حتليل سيايس وزع عىل نطاق حمدود بعد اجتياح الكويت فإن عراقا حرب عن نتجت التي االقتصادية معضلته حتل مل إذا ممكنا يكون لن مرفها استنزاف دامت ثامين سنوات ويضيف التحليل أن احلرب مع الكويت كانت مداخيل لباتت بالنفط السوق بإغراق للكويت سمح العراق أن ولو حمتومة العراق غري كافية لسد احتياجاته االقتصادية الداخلية فضال عن خدمة ديونه)4). عدا ذلك، كان العراق قد خرج من تلك احلرب بجيش قوامه مليون رجل وكان هذا اجليش قد حتول إىل"وحش من صنع صانعي القرار وكانت احلاجة

إىل إطعامه وإبقائه منشغال مصدرا دائام للقلق")5). وهناك باحثون يعتقدون، هبذا الصدد، أن القنبلة االجتامعية يف العراق كانت اجليش إذ إن" ثالثة أجيال عىل األقل، وربام أربعة أجيال، جندوا وسيقوا إىل حرب وآالم الرعب عانوا لقد كامل. عقد نحو فيها وابقوا املعارك ميادين طويلة نازفة وحرموا من خري سنوات حياهتم الشابة الناشطة وأصبحوا جائعني

الزهراء الدكتاتورية« اىل الثورة من احلديث »العراق وبيرت(، )ماريون سلوجلت ينظر (1(لإلعالم العريب ترمجة مركز الدراسات والرتمجة الطبعة األوىل 1992 ص 370

)2) املصدر نفسه ص 370)3) ينظر البزاز )سعد( »حرب تلد أخرى« ص 43

)4) املصدر نفسه ص30)5) ينظر بن عيل )مسلم( »ملاذا غزا صدام الكويت، حماولة نظرية« دار الساقي ص 130

21 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

إىل كل شئ تقريبا")1).باجتياح البحث عن حل حتى وان كان إىل العراقية بالدولة كل ذلك أدى لبالدهم. بعائديتها امللك غازي ابتداء من العراق يعتقد حكام التي الكويت وكان ذلك يعني، بالنسبة لنظام صدام حسني املنهك، خلق منظومة اقتصادية

جديدة تتيح للعراق موارد مضافة. البحر. عىل اإلطاللة حلم استعادة يعني ذلك فكان ثانيا أما أوال، هذا حرب عن نشأت خانقة اجتامعية أزمة تصدير تعني املغامرة كانت وأخريا،

السنوات الثامين ومن ثم إجياد خمرج هلا. وأخريا كان األمر يعني، بالنسبة لصدام، حتقيق حلم شخيص عجز عن حتقيقه واعترباها بالكويت كانا طالبا قبله واالثنان قاسم الكريم امللك غازي وعبد

جزءا ال يتجزأ من العراق. يف هذا املفصل يربز الدور الشخيص يف تلك األزمة إذ حسب ما يورد أغلب الباحثني واملؤرخني، كان احتالل الكويت قرارا فرديا يعود إىل صدام حسني وحده وحتى يوم 27 متوز مل يكن أحدا من القيادة العراقية قد عرف بالقرار)2). بنظرية الغزو يضع مسلم بن عيل بن مسلم، مستهديا ويف تفسريه ألسباب "كينيث نيل والتز" القائمة عىل ثالثية "الدولة، الشخصية، النظام الدويل"، أثر

الشخصية الفردية كواحد من أهم املؤثرات يف نشوب احلرب. يف ولدوا الثالثة أن جلهة وستالني وهتلر صدام بني الباحث هذا ويقارن بيئات فقرية ونشأوا من خلفيات اجتامعية متدنية وهي بيئة مثالية إلنتاج الطغاة

كام يرى)3). قدر تعلق األمر بصدام فقد تربى يف قرية فالحية فقرية، وكانت طفولته قاسية لدرجة أهنا أنتجت لنا شخصية تعاين من مركب نقص. وقد ريب لدى زوج أمه

الذي أساء معاملته ودفعه إىل التفكري أنه غري مرغوب فيه)4). ويعتقد مسلم بن عيل أن تربية مثل هذه لعبت دورا فاعال يف تشكيل مالمح

)1) املصدر نفسه ص 130)2) ينظر البزاز )سعد(، مصدر سابق ص85

)3) ينظر بن عيل )مسلم(، مصدر سابق ص 66)4) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 22

بنامذج عالقة ذات تكون أن يغلب القلقة الرتبية هذه مثل وأن شخصيته، مسلكية يف سن الشباب تتسم بالشك، الغضب والعدوانية. منبها إىل أن طفولة

ستالني وهتلر كانت شبيهة)5). ويف حتليله لشخصية صدام يعتقد حازم صاغية أن استعداده للعنف وجد من يغذيه الحقا وهو خاله خري اهلل طلفاح الذي يوصف بـ" الصالبة" وكان يعتنق

األفكار القومية بحامس. ويف السنوات الالحقة نشط صدام يف العصابات القومية التي عرفت بتصدهيا

لـ" املقاومة الشعبية" الشيوعية)6).صدام نزعة أن إىل الباحثني من الكثري عليه يتفق الذي التحليل ويميض يقبل بقمع معارضيه ورفاقه عىل حد سواء، تشري، بشكل ال العنفية واتسامه منه البد العنيف، الصارم اجلريء، العمل أن" لالعتقاد ركونه إىل الشك،

لتحقيق النتائج")7). لذلك يرى أغلب من درسوا أسباب حرب اخلليج الثانية، عدا سعد البزاز، أنه لو مل يكن صدام حيكم العراق حينها ملا حدث االجتياح وملا جرت احلرب التي حاولت تفسري النظريات األكاديمية بعدها. واعتقاد هؤالء مستنبط من تفجر الرصاعات بني الدول. وثمة هبذا الصدد مثلث يتكون من ثالث ركائز

هي: الشخصية، الدولة، النظام الدويل.

النظام الدولي: فوضى ما بعد القطبين مل يكن األمر مصادفة بالتأكيد، فقبل أن يقدم صدام حسني عىل مغامرته، كان العامل االشرتاكي يف طريقه إىل االهنيار مثل قطع الدومينو وكانت شمس احلرب

الباردة يف طريقها إىل غروب هنائي. وعىل املرء أال ينسى، هنا، أن نظام البعث ربام كان نتاج تلك احلرب ال بمعنى بداية إفادته من ذلك الرصاع ودخوله، منذ إنام بمعنى انتامئه إىل أحد طرفيها

)5) املصدر نفسه)6) صاغية )حازم( »بعث العراق قياما وحطاما« الطبعة األوىل دار الساقي 2004 ص 42

)7) بن عيل )مسلم( مصدر سابق ص 197

23 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

السبعينيات، كطرف فاعل يف منظومة توازن القوى يف الرشق األوسط. ولعل حرب اخلليج األوىل كانت، يف واحدة من جتلياهتا، شكال من أشكال

إدامة ذلك التوازن اهلش. إن فكرة كون العراقيني "حراس البوابة الرشقية"، وهي فكرة روج هلا نظام البعث أثناء احلرب وبعدها، مل تكن شكال من أشكال االبتزاز السيايس لدول الدول العراق البتلعت هذه إيران وأنه لوال قبل أهنا مهددة من اخلليج جلهة واحدة بعد األخرى. كال كانت الفكرة صحيحة إىل حد بعيد وكان صدام يعيها جيدا وهو يتحدث إىل السفرية األمريكية حني التقاها يوم 25 7 1990 قائال: عدا دوالر مليار 40 بحدود لآلخرين مدين وهو احلرب من العراق خرج قبل تزال مسجلة عليه كديون من والتي ال للعراق، التي قدمت املساعدات بعض الدول العربية مع إهنم يعرفون وأنتم تعرفون بأنه لوال العراق ملا بقيت

هذه املبالغ عند أصحاهبا وألصبح مستقبل املنطقة عىل غري ما هو عليه")1). تراوده الشكوك وكانت حسني صدام ذهن يف مستقرة الرؤية تلك كانت حقيقة يف إنه كوفئ بغري ما يستحق وبات مهددا بأن يكون الطرف األضعف يف خارطة سياسية جديدة ترتكز عىل قطب واحد بعد اهنيار احلليف السوفيتي. لذلك مل خيف صدام قلقه هلذا الطرف أو ذاك ومنهم السفرية األمريكية التي ذكرها باألجواء العدائية التي تسود ضده يف الواليات املتحدة، متحدثا عن محلة إعالمية تشن من مركز اإلعالم األمريكي الرسمي جلهة أن"الواليات املتحدة

تظن أن حال العراق مثل احلال يف بولونيا أو رومانيا أو تشيكسلوفاكيا")2). ولوهلة اعتقد صدام أن أنشوطة غامضة تلتف حول عنقه وأن من دافع عنهم لثامين سنوات هم املبادرون إىل حياكة تلك االنشوطة، مستغلني وضع العراق

االقتصادي إلضعافه أكثر وأكثر. منهكا اإليرانية العراقية احلرب من خرج الذي البعث نظام أن واخلالصة ومهلهال اقتصاديا كان حيتاج بالفعل إىل وثبة كربى للتملص من عنق الزجاجة

)1) البزاز )سعد( »حرب تلد أخرى« ص 168)2) ينظر حسني )صدام( التصدي الطبعة األوىل دار احلرية 1990

من حوار مع وفد الكونغرس يف 12 نيسان 1990 السيناتور ارين بسكرت ص 90

خريف المثقف في العراق 24

الذي يعتقد انه وضع فيه. الركون إىل حل آخر البزاز طارق عزيز إن كان باإلمكان وحني سال سعد وزير أجاب مثال، انقالبا، العراقيون يدبر كأن االجتياح من خطورة أقل أن إذ اسرتاتيجية رضبة من البد حسني:"كان صدام من املقرب اخلارجية املعاجلات الصغرية مل تكن مناسبة للمشكلة وما بلغته من خطورة وكان أمامنا

أحد خيارين: إما نأخذ املبادرة ونرضب أو إننا نؤكل تدرجييا")1). ما، حد إىل واألسباب، الوقائع ترسد رواية وهي الرواية، هذه تكن مل بلسان السلطة يف العراق مظهرة، هذه األخرية، وكأهنا ضحية مؤامرة متعددة خربوا الذين أولئك أمام املتاحة الوحيدة الرواية هي تكن هذه مل األطراف،

أساليب نظام البعث واسرتاتيجياته.املعقول من فإنه االقتصادي، باجلانب تعلقه قدر معقوال، األمر بدا ولئن بالنسبة لصدام حسني طوال التي استحكمت العقدة أيضا احلديث عن تلك الدائم ملجاهبتهم األعداء" واالستنفار "توهم نقصد عقدة السلطة، تارخيه يف

داخليا وخارجيا. احلرب منطق إىل آنذاك العراقية القيادة جلوء املستغرب من يكن مل وهلذا اخلليج. ولدى دول احلرب ضد أم يف إيران احلرب ضد االستباقية سواء يف

املرء من الدالئل ما ال حيتاج إىل إثبات. قدر تعلق األمر بأولئك األعداء املتخيلني فإن زوال احلليف السوفيتي وانفراد الواليات املتحدة بقيادة العامل ربام أعطى االنطباع لدى صدام بان مرحلة تصفية األنظمة الشمولية الشبيهة بتلك التي اهنارت قد بدأت وكان ذلك يعني، ليس االستعداد للمجاهبة حسب، إنام اختيار الزمان واملكان وهتيئة مرسح املعركة.

وكان من سوء حظ الكويت أن تكون ذلك امليدان.

المعركة: انتحار الثور في الخليج يف 2 آب /أغسطس 1990عربت قطاعات كبرية من اجليش العراقي احلدود الكويتية متوغلة يف العمق الكويتي ثم سيطرت كليا عىل املراكز الرئيسية يف شتى

)1) ينظر البزاز )سعد( »حرب تلد أخرى« ص 32

25 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

أنحاء الكويت ومن ضمنها البالط األمريي. كام قام اجليش العراقي بالسيطرة عىل اإلذاعة والتلفزيون الكويتي.

برئاسة عالء الكويت حكومة صورية وبعد يومني من االجتياح نصبت يف حسني واستمرت ألربعة أيام قبل أن ختتفي وتعلن الكويت كمحافظة عراقية. النومان، قائد اجليش الشعبي يف الكويت، بمنصب حمافظ وعني عزيز صالح

للمدينة اجلديدة. لقد كان من الواضح من التطورات املتسارعة أن السلطة العراقية قد وضعت من عددا األمن جملس أصدر ما رسعان إذ عليه حتسد ال موقف يف نفسها العراق حتى 15 أمهل القرارين 660 و678 واألخري القرارات من ضمنها وخالل الكويت. من للخروج هنائي كموعد 1991 يناير / الثاين كانون قرابة مليون املتحالفة معها املتحدة والدول الواليات التالية حشدت األشهر حسني صدام رفض لو فيام القوة الستخدام واضحة النية وكانت جندي

االنسحاب من الكويت. املهلة انتهاء من واحد يوم بعد أي 1991 الثاين كانون يناير/ فجر16 يف شنت الكويت من قواته لسحب للعراق األمن جملس منحها التي النهائية طائرات قوات االئتالف محلة جوية مكثفة وواسعة النطاق شملت العراق كله من الشامل إىل اجلنوب وقامت بـ109،867 غارة جوية خالل 43 يوما بمعدل 2،555 غارة يوميا. أستخدم خالهلا 60،624 طنا من القنابل والبعض يقفز

بالرقم إىل 10000 طن وأكثر من 400 صاروخ)1). ويف 26 فرباير 1991 بدأ اجليش العراقي باالنسحاب بعد أن أشعل النار يف حقول النفط الكويتية وتشكل خط طويل من الدبابات واملدرعات وناقالت اجلنود عىل طول املعرب احلدودي الرئييس بني العراق والكويت. وقصفت قوات التحالف القطعات العسكرية املنسحبة من الكويت إىل العراق ما أدى إىل تدمري ما يزيد عن 1500 عربة عسكرية عراقية. وبالرغم من ضخامة عدد اآلليات املدمرة إال أن عدد اجلنود العراقيني الذين قتلوا عىل هذا الطريق مل تزد عن 200

)1) للمزيد حول جمريات احلرب راجع مثال »حرب تلد أخرى« لسعد البزاز و«االمر ال حيتاج و«القسوة احلمداين لرعد القرن« يغادرنا ان »قبل وايضا شوارسكوف لنورمان بطال«

والصمت« لكنعان مكية

خريف المثقف في العراق 26

قتيل ألن معظمهم تركوا عرباهتم العسكرية والذوا بالفرار. سمي هذا الطريق يف ما بعد بطريق املوت أو ممر املوت)1).

الرئيس األمريكي جورج بوش األب عن حترير يف 27 فرباير1991 أعلن الكويت بعد 100 ساعة من احلملة الربية: "الكويت أصبحت حمررة، واجليش

العراقي هزم"

العودة إلى الذات: انتفاضتان في عراق مجنون كانت صورة االنسحاب تشبه حلظة مجدهتا الكارثة: خيط كابويس طويل من

دبابات حمرتقة وجثث متفحمة تزامحت للهرب من املوت. إنه "املطالع" حيث املمر الوحيد الرابط بني أضغاث الكويت وحلم النجاة باجتاه البرصة يتحول يف آخر ساعات االنسحاب إىل ممر موت ال مثيل له. ولئن املمر يف مئات الصور نجح مصورو وكاالت األنباء يف اصطياد مشاهد ذلك فان املصورين أنفسهم فشلوا يف التقاط مشاهد ولقطات مماثلة لدخول اجلنود

اهلاربني إىل البرصة. لدينا هنا مدونة وحيدة مكتوبة بصدق من قبل شاعر ثامنيني خدم يف الكويت بكل أصغى قد باملوسيقى املهتم األمري، عبد كان عيل احتياط. ضابط بصفة "عائد من املوت توا" بعد اقل جوارحه لرصخات العودة وكتب نصا بعنوان

من عرش سنوات من احلرب)2). هنا تطالعنا املشاهد ذاهتا التي طاملا واجهتنا يف العديد من الكتب والشهادات: دبابات مدمرة، العام،عربات الطريق يف مرمية جثث جامدة، رعب حلظة

حمرتقة، كالب تنهش األجساد وأجساد تنازع آخر أنفاسها.كانت الصور كابوسية بالفعل:"ما لن أنساه إطالقا هو مشهد ذلك اجلندي وظهره، كتفه تغطي تكاد والدماء الطريق طرف عىل جالس وهو الشاب استدار بوجهه نحو األفق وامتداد العشب والطني، كان حيرك رأسه بإطراقة،

)1) ينظر احلمداين )رعد( »قبل ان يغادرنا التاريخ« الطبعة األوىل الدار العربية للعلوم رشقيات القاهرة 2007 ص 238

)2) ينظر عبد االمري )عيل(، جملة املسلة العدد اخلاص بالذكرى العارشة لالنتفاضة سنة 2001 العدد الثالث السنة الثانية »يف بيتي عائد من املوت توا« عام 2001 ص6

27 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

بندم كنت اعرفه، ظهره إلينا وآخر الضياء يف عينيه خيتلط بآخر الضباب الذي بدأ ينقشع")1).

إن الصورة هذه تذكر بتلك الصور التي تفنن كنعان مكية بتصويرها يف كتابه "القسوة والصمت" السيام الوصف الدقيق جلثة ذلك اجلندي العراقي الذي رآه أحد الكويتيني يف ممر املطالع: "لن أنساه مطلقا طاملا حييت، كان ميتا بالطبع.. بسيارات حماط صغري إسفلتي اتساع عند زاوية يف الطريق عىل وجهه ممددا، حمطمة، كان جسمه باجتاه الشامل الرشقي باجتاه الفاو كام أظن، كانت قبضتاه مطبقتني وذراعاه متوازيني يشكالن قوسا من حول جبينه.مل يكن بالوسع رؤية تلقي وشك عىل واحد وكأنه بدا الرأس مؤخر فقط وجهه، مالمح من أي رسالة أو كأنه مستلق باستقامة عىل بطنه من أجل أن يدع الشمس تسمر ظهره

(2("خرجوا موتى وكأهنم بالفعل، بدوا، وقد باألشباح أشبه العائدون كان خوفا ويتصارخون حفاة ممزقة، واملالبس مشعثة الشعور قبورهم: من للتو ربام أناس بينهم مرعبة. وكان بطريقة التي الحقتهم األمريكية الطائرات من شارفوا حافة اجلنون. ومنهم ذلك اجلندي الذي صوب مدفع دبابته إىل صورة كبرية لصدام حسني تنتصب يف ساحة سعد ثم أطلق عليها النار مدشنا انتفاضة

آذار. األمريكي الرئيس حتريض إىل االنتفاضة تعزو التي الرؤى تلك عن بعيدا للخروج عىل السلطة يف العراق، كانت العودة من الكويت شبيهة بالعودة إىل الذات. لكن الذات، هذه املرة، حمطمة مثل عربة عسكرية أصيبت يف الصميم،

منكرسة وشبه ميتة. ويف املدونة التي بني أيدينا عبارات تيش بمثل هذه االنكسارة السيكولوجية املريعة بسبب الدخول يف جتربة الكويت:" تناثرت الشظايا وظلت عجلتنا بني نتأملها وهي مستمرة يف الطريق كأهنا تنادينا:هيا فالرحلة حريقني، بني نارين طويلة ومن نثار ما تبقى من جمموعات اجلنود بدأت صيحات تتعاىل،هسترييا ملشاهد تتضمن حركات مثل االرتفاع إىل فوق ثم االرتفاع إىل األرض،عناق

)1) املصدر نفسه ص8)2) ينظر مكية )كنعان( »القسوة والصمت« مصدر سابق ص 28

خريف المثقف في العراق 28

املتشظية بقاياي عىل بكفيه،حتاملت وجهه يغطي وكل يفرتقان ثم اثنني بني وأثناء مسريي أحسست بعجزي عن احلركة أحسست أن ظهري انكرس... نعم

انكرس ظهري.. انكرس ظهري.. انكرس ظهر بالدي.. انكرس ظهري")1). الكويت،حيث نادرة مثل جتربة "ذاتا" خترج من جتربة إن هنا القول يمكن الطائرات األمريكية حترق آالف اجلنود اهلاربني يف الصحراء، كانت مهيأة متاما

لالنتحار احتجاجا عىل السلطة التي أدخلتها إىل تلك التجربة الرهيبة. لذلك وقدر تعلق األمر بالتطورات التي أعقبت االنسحاب ال تبدو حادثة إطالق أحد اجلنود العراقيني النار عىل صورة لصدام يف ساحة بمدينة البرصة غريبة أبدا فنحن إزاء حلظة جنون غري مسبوقة. ال يف سيكولوجية اجلندي الذي نجا بأعجوبة من جحيم اريض، إنام يف سيكولوجية أهايل أولئك اجلنود الذين رأوا بأنفسهم صورة االنسحاب، وقبل ذلك عاشوا، قرابة مخسني يوما، وسط كله البلد تدمر األمريكية الطائرات حيث أخرى بطريقة ولكن ذاته اجلحيم

وحتوله إىل أنقاض. لقد بدت البالد، بالفعل، وكأهنا "مكسورة الظهر"،غري أهنا، يف الوقت نفسه، بالعار واخليبة الغضب خيتلط نصف جمنونة ومتر بحالة هسترييا غري مسبوقة.

باالنكسار. لذا مل يكن غريبا أن يندفع آالف الشبان إىل االنتقام من السلطة يف مدن اجلنوب والفرات األوسط ليحتلوا املباين الرسمية واملعسكرات ومقرات حزب البعث وبعض الكارثة من الناجون اجلنود أولئك قوامها مسلحة جماميع وليشكلوا

الضباط من ذوي الروح الثورية. ثم يرشعون، يف األيام األوىل، إىل االنتقام ممن اعتربوهم عمالء ومتعاونني مع النظام". والحقا سيؤكد القائد العسكري رعد احلمداين أن السلطة واملنتفضني

كانوا قساة ضد بعض)2). يف التطورات الالحقة أفتى أبو القاسم اخلوئي برضورة تشكيل جلان حلفظ األمن بعد أن غابت السلطة هنائيا. وكانت لغته األبوية تنصح بالرأفة وإظهار

)1) عيل عبد االمري مصدر سابق)2) رعد احلمداين مصدر سابق

29 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

أقىص درجات الرمحة بالبعثيني. )1) كانت االنتفاضة، مثل مجيع الثورات الشعبية العفوية، رسيعة وعارمة، وبدت يف الكثري من فصوهلا أقرب إىل اهلسترييا اجلامعية التي ختتزن خياال دمويا انتقاميا

هائال. يف تكونت التي الثورة ببؤر لاللتحاق اجلميع أرسع الناقمون الشبان كان

احلال يف اغلب مدن اجلنوب والفرات األوسط. يوم 2 انه يف الصاحلي القائد نجيب تلك األحداث يرسد ويف شهادته عن آذار اعلنت االنتفاضة يف ذي قار مثال عىل أيدي عرشين ثائرا. ويف اليوم التايل والقلعة واالصالح الشيوخ وسوق والفهود اجلبايش اىل االنتفاضة انتقلت النار مثل االنتفاضة كبري يف رسيان أثر الشيوخ لعشائر سوق والكرمة وكان

يف اهلشيم. بعض دون آخر تسعيني شاعر احلظ حلسن وهو كيطان، اخلالق عبد أما مشاهداته عن تلك األيام، فيحدثنا يف "سرية مبكرة لألمل" عن جمريات األحداث بعد األهايل إىل السلطة كانت وجهته بنداء مرعب مفتتحا شهادته العامرة يف

هروب املنتفضني إىل أهوار النارصية وإيران. أول حتذيري نداء هذا الشجعان.. العامرة مدينة أبناء "يا يقول النداء كان التحذير، هذا قرائتكم من ساعات خالل بيوتكم بإخالء وأخري..عليكم الباسل ستبدأ املدينة الن طائرات جيشنا أنتم وعوائلكم إىل خارج واخلروج واجلواسيس العمالء لطرد اجلرثومية باألسلحة املدينة بقصف ساعات بعد

منها")2). اخلالق عبد يصف االنتفاضة من سنوات عرش بعد نرش الذي النص ويف كيطان وضع مدينته بعد استتباب األمر للسلطة. كانت العبارات مكثفة لكنها "كانت الطرق مغلقة ورأيت بعيني العديد من اجلثث املرتوكة يف العراء دالة: ومنها جثة أحد جمانني املدينة وهي تغرق بالدم بعد أن نخرها رصاص القوات

)1) »ينظر مكية )كنعان( »القسوة والصمت«، مصدر سابق، وأيضا تريب، تشارلز، »صفحات من تاريخ العراق« الدار العربية للعلوم 2006 ترمجة زينة جابر إدريس ص 334

)2) ينظر العدد اخلاص من جملة املسلة ملناسبة مرور عرش سنوات عىل االنتفاضة العدد الثالث السنة الثانية آذار )مارس( 2001 ص23

خريف المثقف في العراق 30

مل أخرى جثة بجثته، فمثلوا لالنتفاضة العام القائد اعتقدوه وربام النظامية أتعرف عليها وكانت الكالب تنهش فيها عىل مقربة من وجود مفرزة للجيش

كانت تعتقل املارين تارة وتفتش هوياهتم وموجوداهتم تارة")1). سلطة جنون يقابله املوت من الناجني جنون آذار: انتفاضة انتهت وهكذا

بالكاد نجت هي األخرى من السقوط. واملحصلة هي أكثر من 145ألف قتيل أكثر من 35 ألفا منهم قتلوا عىل أيدي

األجهزة األمنية)2). ويرجح معظم املؤرخني سبب فشل االنتفاضة أن اتفاقا عقد يف صفوان وفيه العراقي اجليش لقيادات شوارزكوف نورمان األمريكية القوات قائد سمح باستعامل املروحيات التي استعملها اجليش العراقي بكثافة إلمخاد االنتفاضة)3). يف غضون ذلك، خرج صدام حسني من عىل شاشة التلفزيون ليعد بإجراء إصالحات سياسية جذرية منها تنظيم انتخابات ترشيعية وفصل رئاسة الوزراء

عن رئاسة اجلمهورية ووضع دستور دائم للبالد وإطالق حرية الصحافة. أنه كان ردة فعل رسيعة عىل ثورة لقد فهم اخلطاب، حتى مع يقني اجلميع

الشيعة واألكراد، عىل أنه أشبه بـ"انتفاضة"مقابلة تقودها السلطة ضد نفسها. رسم إعادة بغية السلطة إليها سرتكن جديدة قديمة نظرية ستطالعنا هنا العاصفة لألحداث فهمها مع يتناسب بام العراقي والثقايف السيايس املشهد

آنذاك. إهنا نظرية "الضد النوعي" التي ستكون ملمحا جديدا يف عراق التسعينات.

مفهوم الضد النوعي ما هو مفهوم الضد النوعي هذا؟ ومل تم استخدامه آنذاك؟ سؤاالن سيكونان

)1) املصدر نفسه ص32)2) اجلزائري )زهري( »املستبد، صناعة شعب، صناعة قائد« معهد الدراسات االسرتاتيجية ص

222العدد املسلة جملة )شكر( خلخال وأيضا 336 ص سابق مصدر )تشارلز(، تريب ينظر (3(الثانية.)االنتفاضة السنة الثالث العدد 2001 سنة لالنتفاضة العارشة بالذكرى اخلاص

الشعبية العراقية الوقائع والدروس( ص 18

31 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

من األمهية بحيث يمكن أن حتيط اإلجابة عليهام باملشهد كله وتفرس الكثري من ظواهره.

يعني مفهوم الضد النوعي اختالق نمط معني يكون مضادا يف النوع، مماثال يف الشكل، لنمط آخر. ويستخدم هذا املفهوم غالبا لتحييد أنامط معينة من خالل لسحب تيار أو ما حزب إجياد يتم كأن الشكل يف متاثلها هلا أضداد اختالق

البساط أو نزع الرشعية من تيار آخر مشابه له شكال وخمتلف مضمونا. هذا املفهوم استخدم كنظرية يف أكثر من جمال ومن قبل الكثري من األنظمة. ويورد حسن العلوي يف"العراق دولة املنظمة الرسية" أن الربيطانيني استخدموه يف اهلند والعراق حني جندوا اهلنود ملقاتلة مواطنيهم والعراقيني ملقاتلة مواطنيهم

أيضا)1). ويمثل عىل ذلك، يف مناسبة أخرى، بحادثة اختيار اسم أول فوج يف اجليش الشيعة إمام الكاظم، موسى اسم للفوج العسكري جعفر اختار إذ العراقي السابع، يف حماولة الختالق ضد نوعي "شيعي" لقمع الشيعة)2). وهو ما جرى

بالفعل بعد سنوات يف بعض مدن اجلنوب. دائام النوعي الضد مفهوم استخدم فقد البعث بنظام األمر تعلق قدر استقتلت مثال الثامنينيات عقد فطوال والشيوعيني. األكراد مع وخصوصا السلطة عىل تشكيل حزب "شيوعي" آخر ليكون ضدا نوعيا للحزب الشيوعي

األصيل املعارض هلا. وقد جرت حماوالت لتأسيس ذلك احلزب الشكيل باالتفاق، تارة مع، عزيز احلاج، وأخرى مع ماجد عبد الرضا ويوسف محدان وظلت املحاولة قائمة إىل يف املوجودين الشيوعيني إقناع لصعوبة نظرا التسعينيات يف هنائيا طويت أن

العراق باالنضامم إليه. السياسة األحزاب ذاكرة ففي بعثية بدعة تكن مل املاكرة املحاولة هذه إن الصائغ وداود رشيف عزيز حماوالت مثل شبيهة كثرية حماوالت العراقية بفهد، املرتبط اللينيني احلزب تنافس شكلية شيوعية أحزاب إلجياد وغريمها

)1) العلوي )حسن( »العراق دولة املنظمة الرسية« طبعة دار روح األمني األوىل ص 129 1426 األوىل األمني روح طبعة العراق« يف القومية والدولة »الشيعة )حسن( العلوي (2(

هجرية ص 164

خريف المثقف في العراق 32

الكريم وعبد العراقيني الشيوعيني بني اخلالف تفجر وأثناء سلامن. يوسف قاسم حاول األخري إجياد ضد نوعي للحزب الذي يقوده سالم عادل وكانت يقوده الذي احلزب إجازة ورفض أجازه الذي الصائغ داود بقيادة املحاولة

سالم عادل)1).قدر تعلق األمر بام جرى عام 1991، شعر نظام صدام أن مزاج املنتفضني وشعاراهتم كانت تشري إىل "ضد" ديني مذهبي يتعاطى شعارات معينة ويدين بالوالء، كام يعتقد، لدولة إيران. وكان صدام حسني أو كاتب آخر قريب منه قد عرب برصاحة عن تلك الفكرة من خالل سلسلة مقاالت نرشت يف صحيفة العراق فيها هجوما كاسحا عىل سكان جنوب "الثورة" بعد االنتفاضة وشن متهام إياهم اهتامات يندى هلا اجلبني من قبيل أهنم يقدمون والئهم املذهبي عىل الوطني واهنم جماميع من اجلهلة والرساق وفاقدي الرشف)2) وان"هذا الصنف من الناس بوجه عام كان مركز أبواق غري رشيفة لعنارص الشغب واخليانة التي األخرية")3)، األحداث يف األوسط الفرات ومدن العراق جنويب اجتاحت واهنم" من أصول جاءت مع اجلاموس الذي استورده القائد حممد القاسم من

اهلند")4)، وأن "أبرز عاداهتم رسقة ممتلكات اخلصم عندما خيتصمون")5). نظام صدام حسني االنتفاضة حتمت عىل أحدثتها التي الصدمة أن ويبدو "الضد" املذهبي بفصله عن إيران إعادة التفكري يف كيفية احلد من خطر ذلك صميم إىل مبارشة وتذهب التقليدية القمع طريقة تستبعد جديدة بطريقة

املذهب فكريا وفقهيا. استدارت سنة من بأقل االنتفاضة تلك فبعد مصادفة، يكن مل األمر لعل القاسم أيب وفاة مستثمرة العلمية النجف حوزة إىل مفاجئة استدارة السلطة

أي عليها تثبت مل طبعة خمرضم« شيوعي قائد ذكريات السنني، »صدى )زكي( خريي (1(معلومات عن دار الطبع او سنة الطبع ص236 وأيضا حنا بطاطو« العراق الكتاب الثالث العربية االبحاث مؤسسة الرزاز عفيف ترمجة االحرار« والضباط والبعثيون الشيوعيون

بريوت الطبعة الثانية عام 1999 ص 250 )2) املستبد ص 232

)3) املصدر نفسه ص 232)4) املصدر نفسه ص232

)5) املستبد ص 232

33 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

اخلوئي، املرجع األعىل آنذاك، ومن ثم وفاة عبد األعىل السبزواري الذي خلفه. باجتاه شخصية شيعية عراقية غري معروفة هي حممد حممد كانت االستدارة رمز إىل االعتبار معيدا 1992 عام للمرجعية تصدى الذي الصدر صادق حيظى بتقديس الشيعة العراقيني وهي عائلة الصدر التي أنجبت أبرز شخصية علمية عارضت نظام صدام حسني وقادت ضده انتفاضة شهرية عام 1979.

املقصود هو حممد باقر الصدر الذي أعدم مع أخته بنت اهلدى عام 1980. التفاصيل تقول إن السلطة، وقد بدا ذلك مثريا لالنتباه، أتاحت هلذا املرجع أعاد أن فكان يشاء كام الروحية استخدام سلطاته الصدر حممد حممد صادق فتح املدارس شبه املعطلة واستقبل مئات الطلبة اجلدد وترافق ذلك مع انطالق محلة إعالمية غري مسبوقة حتول فيها السيد الصدر إىل شخصية مجاهريية بكل ما تعنيه الكلمة: صوره تطبع بعرشات آالف النسخ وكتبه تباع يف األسواق حتت

مرأى السلطة وسمعها. احلال أنه ليس مصادفة أيضا أن يتم، يف الوقت نفسه،اغتيال أبرز رموز احلوزة اإليرانيني من أمثال املريزا عيل الغروي ومرتىض الربوجردي. ويضيق اخلناق اغتيال ذهب فيها عدد من الذي نجا بإعجوبة من حماولة السيستاين عىل عيل

حراسه)1). وقد ملح الكثريون، هبذا الصدد، ومن بينهم عبد املجيد اخلوئي إىل أن اغتيال السلطة ملرشح املحتملني املنافسني إطار"تصفية يف جاء اإليرانيني املراجع الذي رأى الصدر السيد حممد السلطة هو أن مرشح أعىل وقال دينيا مرجعا اخلوئي إنه متعاون مع السلطة التي تستغل اسم عائلة الصدر لفرضه مرجعا مع

إنه غري مؤهل لذلك")2) ما جيب االنتباه له، هنا، أن تيار السيستاين كان فهم من قبل الشيعة والسلطة

عىل حد سواء بوصفه امتداد ملرجعية أيب القاسم اخلوئي. يف تلك األيام شاع يف العراق أن السيد حممد الصدر يقوم بـ"تعريق" احلوزة العلمية باالتفاق مع السلطة حيث خول بمنح رخص اإلقامات للطلبة وللعلامء

)1) ينظر رؤوف )عادل( »حممد حممد صادق الصدر، مرجعية امليدان، مرشوعه التغيريي ووقائع االغتيال« املركز العراقي لالعالم والدراسات دمشق 1999ص 309

)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 34

أمور النجف وتسوية الدينية يف املدارس عىل حد سواء واستالم مسؤوليات التجنيد وغري ذلك من األمور اإلدارية.

من واحدة حول احلكيم آل مع مكشوف رصاع يف دخل مرة ذات ويف املدارس التي استوىل عليها ابناه مصطفى ومؤمل.

وإلقاء الكتب طبع يف هلا حد ال حريات الصدر منح ذلك، عن فضال املحارضات وإقامة صالة اجلمعة يف مسجدي الكوفة والسهلة. أما شعبيا فقد منح الشيعة حرية كاملة يف أداء مجيع طقوسهم الدينية من زيارات ولطميات

وحتى تسيري مواكب تطبري أيام عاشوراء. احلال أن تلك احلرية ظلت مفتقدة منذ منتصف السبعينيات وقد وصل األمر ومطاردة الشيعية اجلوامع عىل حتى التضييق الثامنينيات،إىل أيام بالسلطة،

املصلني فيها ومنع إطالق اللحى بالنسبة للشبان. الثامنينيات بداية اإلنسان يف تقارير رسمية نرشهتا منظامت حقوق وحسب كان أعداد املعدومني وسجناء الرأي يف تصاعد مستمر منذ مطلع العقد لدرجة مرة من أكثر العراق يف السياسية السلطة خاطبت الدولية العفو منظمة أن سجينا 552 تقاريرها أحد حسب بلغت وكانت اإلعدام عمليات إليقاف

للفرتة من 1977 إىل )1)1983.ولئن وثقت هذه األرقام يف تقارير رسمية فأن األعداد احلقيقية تتجاوز تلك املعلنة بكثري فحسب أحد أعداد صحيفة "البعث"الدمشقية الصادر بتاريخ 42 4 1981، قال ممثل املتظاهرين الذين احتلوا، سلميا، مقر منظمة العفو الدولية يف باريس عام 1981 أن العدد احلقيقي للسجناء السياسيني يتجاوز 70 ألفا يف

وقت يتجاوز عدد الذين تم اغتياهلم 100 ألفا)2) احلال أن نسبة كبرية من أولئك املضيق عليهم سواء باالعتقال أم بالقتل كانوا من الشيعة وأغلبهم اهتموا باالنتامء إىل حزب الدعوة الذي أعدم منظره حممد من قرار الحقا صدر ثم 1980 عام قلنا كام اهلدى بنت وأخته الصدر باقر

جملس قيادة الثورة بأثر رجعي يقيض بإعدام أعضائه دون حماكمة.

)1) ينظر املطبوع اخلاص )بالد اخلوف وارض الرعب، دراسة يف مجهورية صدام( من إصدار مجعية احلقوقيني العراقيني تقديم امحد رائف، الزهراء لإلعالم العريب ص 129

)2) املصدر نفسه ص ص128

35 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

عدا ذلك عدلت السلطة السياسية عرشات القرارات بام يتناسب مع توجهها القايض بالتضييق عىل حرية العمل السيايس كام جرى مثال مع املادة )200 / 1( من قانون العقوبات البغدادي املستقى من املادة 26 من الدستور املؤقت. األحزاب وتأسيس والتظاهر واالجتامع الرأي "حرية تكفل األخرية وهذه التعديالت، القانون". وكانت الدستور ويف حدود واجلمعيات وفق أغراض عام 1974، تضمن إعدام أي شخص ينتمي إىل حزب البعث إذا أخفى انتامئه

إىل تنظيم سيايس آخر)1). أما يف ما يتعلق بتهمة"العاملة" إليران فثمة قرارات أخرى عديدة استهدف هبا الشيعة منها مثال تشجيع تطليق الشيعة لزوجاهتم من ذوات األصل اإليراين للزوج "يرصف أنه الثورة قيادة القرار كام صدر عن جملس منطوق قال وقد العراقي املتزوج من امرأة من التبعية اإليرانية مبلغ قدره أربعة آالف دينار إذا كان عسكريا وألفان ومخسامئة دينار إذا كان مدنيا يف حالة طالق زوجته أو يف

حالة تسفريها إىل خارج العراق")2)النظر 1992تم عام فولكلورية تعد كانت التي املعطيات هذه من انطالقا بالكثري من الريبة إىل االنفتاح عىل الشيعة يف عهد مرجعية حممد الصدر وذلك املعروف يف قمع لتارخيها نظرا ثقة بسلطة صدام انعدام أي إىل التأكيد راجع

الشيعة. احلال أنه علينا االنتباه إىل شئ مهم للغاية، هبذا الصدد، فقد أحيا ذلك املرجع مرجعية رموز عند معطلة كانت التي والرشعية الفكرية املقوالت من عددا "النيابة أو العامة" "الوالية يسمى بام االعتقاد قبيل من التقليدية النجف

املطلقة" يف عرص الغيبة. املقصود منها إعطاء الفقيه اجلامع للرشائط مجيع صالحيات األمام الغائب وحتوله، بعد ذلك، إىل "ويل أمر" أو "ويل فقيه" كام قال بذلك عدد من الفقهاء املشهورين وأبرزهم حسني النائيني واإلمام اخلميني الذي صاغ تلك النظرية

يف ما أطلق عليه "احلكومة اإلسالمية")3).

)1) املصدر نفسه ص139)2) املصدر نفسه ص152

)3) العلوي )حسن(، »الشيعة والدولة القومية« ص 22 26 وأيضا اخليون )رشيد( »املرشوطة

خريف المثقف في العراق 36

إن هذه النظرية، يف الواقع، مل جتد قبوال عند أغلب املراجع التارخييني الكبار وأيب احلكيم وحمسن الشريازي احلسن أيب السيد أمثال من النجف حوزة يف القاسم اخلوئي، وقد امتد هذا التيار بشكل غلب عىل حوزة النجف وملخص الغيبة ال جيب أن تكون مطلقة بل الفقيه يف عرص التيار أن والية يراه هذا ما "اإلمام حقوق من ألهنا املهامت بعض ترك عموما الفقهاء وعىل "خاصة".

الغائب" حرصا. والنتيجة عدم إمكانية وجود ما يسمى بـ"ويل األمر" مطلقا الن هذا املنصب

من حق "الغائب". بعد تتجسد، أن هلا قيض فقد العامة بالوالية القائلة األخرى النظرية أما الثورة اإلسالمية يف إيران بفضل جهود اإلمام اخلميني، ولذا باتت واحدة من

إليها بكثري من احلرسة. التي كان العراقيون يرنون "االحتكارات" اإليرانية لعل هذا ما فهم من قبل السلطة آنذاك، وهو ما أدى حسب رأهيا إىل ازدياد حدة والء شيعة العراق إليران، ومن ثم، تقديسهم الرموز العراقية املعارضة املوجودة هناك وأشهرهم حممد باقر احلكيم الذي رفعت راياته أثناء االنتفاضة

بوصفه زعيم شيعة العراق املعول عليه. لقد أحيا السيد الصدر مقولة "الوالية العامة" فأصبح، بالرضورة "ويل أمر"

بنسخة عراقية شأنه شأن عىل اخلامنئي، ويل األمر "اإليراين". عدا ذلك، أعطت والية األمر للمرجع حممد الصدر حق إقامة صالة اجلمعة

وهي ممارسة غري معمول هبا يف مرجعية النجف التقليدية. يف متاما خمتلفة ملرجعية عنوانا اجلمعة صالة أصبحت ما رسعان وبالفعل العراق فكان جامعا السهلة والكوفة يزدمحان أحيانا بام يفوق مليوين مصل يف

حني أقيمت الصالة يف أكثر من 70 منطقة يف عموم العراق)1). مثل تفعيل بمجرد انه هو فورا الذهن إىل يتبادر أن يمكن الذي املعنى إن تلك املقوالت أصبح لدينا "ضد نوعي" فعال للغاية. ضد ربام أفرغ االختالف

واملستبدة، مع كتاب تنبيه األمة وتنزيه امللة« معهد الدراسات االسرتاتيجية بريوت حتديدا الفصل الثالث من ص41 اىل ص 80

)1) ينظر رؤوف، )عادل(، مصدر سابق ص 151

37 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

العراقي اإليراين من كل حمتواه. له املشككون بمرجعية الصدر فالرجل يقال هنا ليس استنتاجا روج إن ما قائال: "الوسط"، وفيه يؤكد له مع جملة الكالم يف حوار شهري نفسه قال هذا املظاهر تؤيد السلطة اآليت: الوجه عىل بالسلطة عالقتنا نلخص أن "يمكننا وهي السياسة يف نتدخل ال إننا دام ما علينا تعطف وهي وترعاها الشيعية تكف رشها عنا ما دمنا نكف رشنا عنها، بمعنى أهنا تلتزم إزاءنا سياسة املعاملة

باملثل")1).

أضداد نوعية وليس واحدا انتفاضة آذار عىل قدم وساق يف النوعية بعد سارت عملية اختالق األضداد محلة صدام عدي قاد واملقروء، واملسموع املرئي اإلعالم ففي املجاالت مجيع واسعة الخرتاق األعالم الشمويل الذي رسخته الدولة ومن ثم جاهد إىل اختالق ضد له يامثل، بالشكل، ذلك الذي حيلم العراقيون بوجوده منذ سنوات طويلة.

وتلفزيون اليومية "بابل" صحيفة أسست االسرتاتيجية هذه من انطالقا وإذاعة الشباب، ويف ظل التغيري الواسع ذاته أسست جمموعة صحف أسبوعية إىل إدارهتا وأنيطت وغريها، "و"املصور" و"الزوراء الشباب" "نبض مثل صحفيني شبان "متحمسني للتغيري" ومن ذوي النزعة احلداثية من أمثال رحيم

مزيد وهاشم حسن وطه البرصي وجواد العيل وجواد احلطاب وغريهم. لقد قاد عدي صدام حسني املوجة بنفسه وأعطى محايته الشخصية للمتمردين

اجلدد متيحا هلم حريات غري حمدودة.وهي البيايت وميسون مزيد رحيم أمثال من الشبان أولئك باستطاعة كان وفضح الوزراء "رششحة" بوقاحتها عرفت الشباب تلفزيون يف مذيعة فسادهم وختويف اجلميع بأن عصا النقد ال ترحم. وكان اخلط األمحر الوحيد التي ال البعث الرئيس وأفكاره ومبادئ حزب املوضوع أمامهم هو شخصية

تقبل التبديل.لقد كانت املوجة عارمة بطريقة مذهلة وكان يمكن ألي صحفي نرش ما يشاء

)1) املصدر نفسه ص 103

خريف المثقف في العراق 38

"نبض الشباب" و"الزوراء" وكان عىل الوزير من نقد للدولة يف صحف مثل املنتقد أو املؤسسة املفضوحة تدارك الوضع برسعة قبل أن يتجدد النقد وربام

ينتهي بإقالة أي مسؤول. وبطريقة يامرس، كان عدي أن كالتايل: آنذاك الوضع البعض فهم لقد متطرفة، دور احلزب املعارض يف أي بلد ديمقراطي وكان ذلك جيري برىض املوضوع مع التعاطي اجلميع عىل وكان وبرصه، سمعه وحتت حسني صدام

بوصفه سياسة الدولة اجلديدة. سني إىل يعود عدي نجم فصعود مفاجئة بطريقة حيدث مل ذلك كل إن رئاسة تسلم إذ الرياضة يقترص عىل البداية نشاطه، يف الثامنينيات وكان جمال اللجنة األوملبية ودخل يف رصاع مفتوح مع وزير الرياضة آنذاك نوري فيصل

الشاهر. هذه ودخل، للصحفيني نقيبا عدي أصبح ،1989 عام يف أي ذلك، بعد

املرة، يف رصاع مع كبار املتنفذين البعثيني يف هذا اجلانب. حقول يف متوج غري إمرباطور إىل الشاب حتول الثانية اخلليج حرب بعد التلفزيون واإلذاعة الرجل جمال الرياضة والصحافة دخل عديدة فإىل جانب قبل أن يثب إىل الثقافة داخال يف رصاع مستميت ضد أعضاء ما يسمى"املكتب

املهني".

الثقافة كضد نوعي ذلك مالمح تبني البدء، يف حيتم، ثقايف نوعي ضد اختالق مسألة فهم إن النمط الذي اعترب، قبل حرب اخلليج الثانية نمطا مضادا خلطاب السلطة. أي إن عىل املرء، قبل كل شئ، اسرتجاع مالمح النمط الذي اعتربته السلطة مضادا

هلا، يف فرتة ما ، ثم رسعان ما خلقت له، ضدا نوعيا يف ما بعد.متصارعان تياران الثامنينيات، يف العراقية الثقافة جتاذب شديد، باختصار وكان التقليديون الثقافة حرس ومثله البعث ثقافة مع متامه تقليدي أحدمها اغلبهم من جيل الستينيات بينام اآلخر حداثي متامه مع رؤى فهمت من طرف من عادة، املستلهم، املوروث خطاهبا مع وتتعارض مضادة بوصفها السلطة القومي. وقد جتسد الرصاع يف حقول األدب ونظرياته واملوقف من اخلطاب

39 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

الرتاث واملناهج اجلديدة التي دخلت العراق. يتمثل االجتاهني:هذا بني حمتدما الرصاع ظل الثامنينيات فرتة وطوال بالستينيني من أمثال سامي مهدي وخالد عيل مصطفى ومحيد سعيد وأمثاهلم املاجدي وخزعل اجليزاين زاهر أمثال من والثامنيني بالسبعينيني يتمثل وذاك

وسالم كاظم وأتباعهم. اختصارها يمكن هذا مع لكن ومعقدة واسعة الصدد، هبذا التفاصيل، باآليت: يف ما يتعلق باملوقف من األدب، انحرص الرصاع يف الدعوة إىل قصيدة النثر إذ دعا األدباء اجلدد إىل كتابتها حمتذين خطوات الشاعر السوري أدونيس الذي قاد احلداثة العربية منذ اخلمسينيات وبات منذ جتربة جملة "شعر" اللبنانية

رافدا جد مؤثر يف الشعرية العربية واملوقف من الرتاث. مثل، الثامنينات يف العراقية الثقافة إىل أدونيس مقوالت دخول أن احلال وأبرز خماطره فقط. ثقافيا وليس خطر سيايس ناقوس البعث، لثقافة بالنسبة حسب رأي سامي مهدي، وهو أكثر الستينيني البعثيني وعيا هبذه املسألة، هو

املوقف من اللغة والرتاث. فأدونيس وأتباعه من املتلفني حول جملة شعر نظروا إىل اللغة عىل أهنا عائق جيب إزالته ورأى بعضهم برضورة تقعيد "اللغات املحكية" واعتبارها بديال يف حني ركز أدونيس عىل إحياء املهمش واملقيص من تراث الشعوب العربية وهو

ما يعني، بالنسبة للقوميني، بعثا خطريا لـ" شعوبية" قديمة)1). حول الرصاع خيترصها التي املخاطر هذه عىل مهدي سامي ركز لذلك قصيدة النثر واملوقف من اللغة. واليكم ما يقوله يف كتابه "أفق احلداثة وحداثة النمط" وهو كتاب خصصه لتسفيه آراء أدونيس يف اللغة والدعوة أىل قصيدة

النثر واملوقف من الرتاث.أو العربية األمة تراث بمعاداة شعر جتمع اهتام "إن مهدي: سامي يقول االنقطاع عنه ليس اعتباطيا وال تعسفيا بل هو ناجم عن نظر عميق يف أشعارهم

وتفحص دقيق ألقواهلم")2).

)1) كان هذا الفهم معروفا عىل نطاق واسع وشبه سائد ويعد سامي مهدي أفضل من نظر له)2) ينظر مهدي، سامي أفق احلداثة وحداثة النمط دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1988 ص

41

خريف المثقف في العراق 40

العريب جزءا من واقع لغوي الرتاث الشعراء يعتربون "أولئك أن ويضيف تراث به شعراء جتمع شعر فهو يؤمن الذي الرتاث أما فيه... ليس هلم خيار العريب. بل اهلالل اخلصيب التي مرت عىل املرشق الوثنية واملسيحية املراحل

عىل وجه التحديد")1). قدر تعلق األمر بالثقافة العراقية واستلهامها حماوالت أدونيس ورؤاه يتوقف النثر ومن كتبوا قصيدة الذين الستينيني سامي مهدي يف بضعة أسطر مهامجا ثم الثامنينيني من أمثال سالم كاظم وخزعل املاجدي قائال "وقد قام أصحاب هذه املحاوالت مؤخرا بالدعوة إىل كتابة جديدة كتابة تلغى فيها األنواع األدبية وهو ما دعا إليها أدونيس يف جملة مواقف منذ أواخر السبعينيات متأثرا بام راج يتحدثون هبم فإذا اليوم إال املعنيون إليه يفطن ومل اجلديد الفرنيس النقد يف عنها وكأهنا اكتشاف جديد وجيرتحون هلذا الشكل معاناة جديدة وغطاء نظريا مهلهال هو خليط من فتات املفاهيم التي استهلكها أدونيس طوال ربع القرن تتوفر كلها يف التقليدية النثر أن عيوب قصيدة القول البداهة املايض... ومن فوجد البوق استيقظ الفجة املاجدي خزعل حماولة والسيام املحاوالت هذه

نفسه نحاساـ وقبلها حماولته خزائيل ـ)2) أن ما يكتبه سامي مهدي كان عادة هو السائد عمليا يف الثقافة العراقية خالل فرتة الثامنينيات. وطبقا ملوقفه من األدباء الشبان، فان ذلك يعني: هتميش كل ما يتعلق بالرؤى األدونيسية املتبناة من قبل األدباء العراقيني خصوصا الشعراء، جملة عىل نشاطهم ويقترص النثر قصيدة دعاة هيمش أن املنطقي من كان لذا "الطليعة األدبية"املخصصة للشباب رغم أن أغلبهم كانوا يقاربون األربعينيات

من أعامرهم. األحيان بعض ويف السائدة للثقافة معارضني الواقع، يف اعتربوا، لقد التعبوية الثقافة رفد مل يشرتكوا يف منهم الكثريين أن للسلطة جلهة معارضني املوزونة القصيدة شعراء شأن هو كام اإليرانية العراقية احلرب أثناء السائدة

والعمودية. املهرجانات يف النثر، قصيدة جيل اجليل، ذلك زمالء بعض أسهم ولئن

)1) املصدر نفسه ص 38)2) املصدر نفسه ص38

41 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

التعبوية وأطروا صدام حسني فألهنم كانوا ينتمون إىل التيار اآلخر الذي مثله أدباء البعث.

النظام درن عن االبتعاد هو عندهم القاعدة فأن النثر، قصيدة كتاب أما احلاكم أثناء الكتابة واللهاث خلف كل ما تكرهه السلطة من أفكار.

احلقيقة أن هذا الرصاع استمر حتى عام 1991 وكان من الوضوح بحيث إن كتابة قصيدة النثر عدت آنذاك معيارا لثورية الشاعر ومعاكسته لثقافة النظام السائدة. بل انك طاملا كنت أدونيسيا، حتى دون أن تعلن عن ذلك، تكون أبعد

عن شبهة االندراج يف عجلة النظام ثقافيا.إىل االجتاه وبدا سابقا تتفجر مل كام اللغة" "تفجري فكرة آنذاك شاعت لذا الغنوصيات والعرفانيات واستلهام نصوص النفري وابن عريب وباقي املتصوفة موضة تلك األيام. أما احلديث عن "الرؤيا الواسعة" و"العبارة الضيقة" فكان

زادا يوميا للسبعينيني والثامنينني. ما جرى الحقا هو أن تلك املنظومة ستتبدل كليا وسيلتفت إىل شعراء قصيدة النثر واحلداثيني عموما من قبل عدي صدام حسني وسيستخدمون الختالق

الثقافة كلها وليس الشعر فقط. "ضد نوعي" يسود أشكال وهو مطلك، خالد يعني 1991 العام يف أنه الصدد، هبذا تفيد، التفاصيل شاعر شاب يكتب قصيدة النثر وينحدر من عائلة بعثية، كرئيس ملنتدى األدباء حييل الذي السلطة وربيب التعبوي الشاعر الصائغ، لعدنان خلفا الشباب

للمرحلة السابقة. مع تسنم مطلك هذا املنصب بدا وكأن دماء جديدة تتدفق يف املشهد األديب حيث سينظم املنتدى ملتقى لشعراء الثامنينات عام 1992. وللمرة األوىل، يتم إىل أقرب وسيبدون شعراء للنظر ملفت باحرتام الشعراء مع هؤالء التعامل

"الرسميني" و"املمثلني" لنمط ثقايف سائد. يف غضون ذلك سيعاد إصدار جملة "أسفار" هبيئة حترير ثامنينية بعض أعضائها ثقافيني آخرون كمحررين "بابل" يف حني سيعني شعراء يعملون يف صحيفة مطلك خالد من كل وهم و"القادسية" "الثورة"و"اجلمهورية" صحف يف وعبد الزهرة زكي وحممد تركي النصار ومنذر عبد احلر وسعد جاسم وحسن

النواب. أما وسام هاشم فكان من أوائل العاملني يف صحيفة "بابل".

خريف المثقف في العراق 42

كانت النتيجة التي ملس اجلميع نتائجها رسيعا هو حتول الثامنينيني من جيل و"مغيب" كام شكوا هم أنفسهم قبيل اجتياح الكويت)1)، إىل جيل "مهمش" من الكثري وحيرك العراقية الثقافة "مركز" يف يقف لنفسه، "مضاد" رسمي

مفاصلها. تتبادل حيث الشعراء وشقق عجمي حسن ومقهى منتدى"نعمة" بدل إىل الثامنينيون الرسمية سيدخل املؤسسات لوثة بعيدا عن القصائد واألفكار صلب املؤسسة "حمررين" للمجالت والصحف و"مدراء" لبعض املؤسسات.

هل كان الستينيون من أعضاء املكتب املهني موافقني عىل تلك التغيريات! احتاد انتخابات يف مستميت رصاع من جرى ما هو والدليل بالتأكيد، كال األدباء عامي 1993 و1994، حيث سيفوز أدباء شبان بينهم شعراء ثامنينيون يف األوىل وسيقودهم رعد بندر ملدة عام يف حني سيعود الستينيون إىل واجهة حرس هبا ويفوز املهني املكتب يقودها 94 "ثأرية"عام انتخابات يف االحتاد

الثقافة التقليديون وعىل رأسهم هاين وهيب)2).لقد حدث األمر بطريقة غريبة بعض اليشء يف الدورة االنتخابية عام 1993 التي جرت يف نقابة املهندسني وأرشف عليها صباح ياسني. منع الستينيون من الرتشح بأمر من عدي صدام. وسحب محيد سعيد وعبد األمري معلة وسامي مهدي ونجامن

ياسبن وغريهم ترشيحهم مقابل مرشحني شبان من السبعينيني والثامنينيني. املركزي املجلس بمقاعد آنذاك شبانا يعدون أدباء استحواذ هي والنتيجة وكان عىل رأسهم رعد بندر الذي أصبح رئيسا لالحتاد ومعه رعد عبد القادر ووارد بدر السامل وعبد الزهرة زكي وحممد تركي النصار وزعيم الطائي وهادي

ياسني عيل وجواد احلطاب ووسام هاشم وشوقي كريم وغريهم. االعرتاضات أثريت ما اذ رسعان بسالم متر مل االنتخابات نتائج أن احلال من املكتب املهني وتك التشكيك هبا ما أدى اىل أعادهتا يف السنة نفسها فرجع احلرس القديم، ولكن بمعية عدد من الشباب من أمثال هادي ياسني وجواد

احلطاب ومنذر عبد احلر.

)1) ينظر مثال العدد اخلاص من جملة »أسفار« عام 1989املخصص جليل الثامنينات. )2) ينظر بندر)رعد( حوار يف صحيفة الرياض العدد 13534 يوم اخلميس 14 يوليو 2005

43 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

األحرى أن الرصاع بني تيار عدي صدام وتيار املكتب املهني كان عىل أشده آنذاك وثمة إشارة مهمة ترد عىل لسان رعد بندر يف حوار أجرته معه صحيفة "الرياض" السعودية، إذ يزعم "شاعر أم املعارك" أنه مل يكن بعثيا وأنه، مع هذا، فاز برئاسة االحتاد عام 1993، ويف املرة الثانية عام 1996 فاز أيضا بأكرب عدد من منعه الغفور، عبد الغني عبد حينه، يف الثقافة وزير لكن األصوات من رئاسة االحتاد بحجة أنه مل يكن منتميا إىل حزب البعث، األمر الذي دعا بندر

إىل تقديم شكوى إىل صدام حسني طرد عىل إثرها عبد الغفور من الوزارة! )1)إن مثل هذا الطرح معقول جدا، فجزء من رصاع عدي ضد "السلطة" آنذاك البعث من أجل خلق ضد نوعي التقليديني يف حزب كان موجها إىل احلرس له، ضد يتكون أساسا من "بعثيني" جدد غري منتمني، يف الواقع، لكنهم مع هذا أكثر متثيال ألفكار البعث األصيلة من أولئك "العجائز" من أمثال إلياس فرح

وسامي مهدي ومحيد سعيد. حقيقة األمر أن ذيول ذلك الرصاع استمر طويال، ورغم عودة بعض رموز "شبان" من عددا أن إال ،1996 عام سلطاهتم ممارسة إىل املهني" "املكتب عدي ظلوا يناكدون ويشاكسون"عتاة الثقافة العراقية"، وكان يمكنك اإلصغاء

لبعض أصداء ذلك الرصاع هنا وهناك وهبذه الطريقة أو بتلك. رعاه الذي مثال التسعيني الشعر ملتقى الصدد، هبذا يتذكر، أن وللمرء بتعليق هدد الذي األدباء احتاد لرغبة خالفا املرسح منتدى يف سلوم فاروق

عضوية املشاركني فيه حسب شهادة عبد اخلالق كيطان)2).لقد جرى كل ذلك بالتساوق مع محلة شاملة قادها عدي صدام لـ" تفجري" مؤسسات أبيه اإلعالمية والثقافية من الداخل. وكان يف النية تركيز كل املفاتيح يف أصابعه، ففي عام 1993حل منتدى األدباء الشباب ودمج أعضاؤه يف احتاد تشكيلها أعيد ثم والفنية األدبية واجلمعيات النقابات مجيع وحلت األدباء الثقايف" وشمل "التجمع أطلق عليه لتجمع مركزي تتبع بوصفها تشكيالت من وغريها الفنانني ونقابة الشعبيني والشعراء التشكيليني مجعيات األمر

اجلمعيات الشبيهة.

)1) املصدر نفسه)2) ينظر كيطان، )عبد اخلالق(، صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 8 4 2002

خريف المثقف في العراق 44

كان اجلديد يف املوضوع هو استبعاد احلرس القديم واستبداهلم هبيئات تتكون من مثقفني شبان أمثال رعد بندر ووسام هاشم وحممد النصار وهاشم حسن

ورحيم مزيد وخالد مطلق ووسام هاشم وغريهم. التساؤالت التي تطرح، هنا، هي اآلتية: إذا كان مفهوم الضد النوعي خيتلق كانت وإذا احلقيقي، حمتواها من معينة آيديولوجيا أو ما فكرة إلفراغ عادة "بابل" والصحف األسبوعية األخرى قد مثلت ضدا نوعيا لصحافة صحيفة املعارضة خارج العراق، وإذا كان تيار حممد الصدر قد مثل ضدا نوعيا خلطاب املعارضة الشيعية املوجودة يف إيران، إذن ما الذي كان يراد من الضد النوعي

الثقايف متثيله، ضد من عليه أن يتوجه يا ترى وملاذا! أي: مل يتوجه عدي إىل الثامنيني مثال ومن ثم احلداثيني ودعاة املناهج اجلديدة

الختالق ضد نوعي ثقايف... ! من كان املقصود بالضبط؟ إن إجابة عن هذا السؤال رضورية جدا ملعرفة عدد كبري من النتائج املتحصلة تشكل الذين الشبان املثقفني عند الطاغية العدمية تلك شيوع ومنها الحقا

وعيهم بعيد حرب اخلليج الثانية وهم اجليل الذي سمي"جيل التسعينات".فعالني بوصفهم الثانية اخلليج حرب بعد بروزا الذين الثامنيني أن احلقيقة ورسميني يف الثقافة العراقية إنام مثلوا ضدا نوعيا ألنفسهم أوال، أو لنقل اهنم احلرب طوال وميزهتم طويال، هبم ارتبطت التي القيم لتلك "ضدا" مثلوا

العراقية اإليرانية. حمتواها الثقافية"من بـ"املعارضة تسميته يمكن ما إفراغ هو اهلدف كان

وتدمري حمموهلا الذي عرفت به طوال الثامنينيات. باألحرى، لن يعود اجليل هامشيا ولن يكون ملقوالته سحر معارضتها خلطاب الثقافة الرسمية. ستصبح قصيدة النثر أكثر من كوهنا "موضة"، بل ستتحول إىل

خطاب شائع وسيكون عىل النقاد قول كل ما لدهيم حوهلا. إن األمر ليشبه، هنا، ما جرى بالنسبة لظاهرة حممد الصدر ومقلديه ولكأن السلطة آنذاك خاطبت اجلميع بعبارة واحدة: خذوا راحتكم إىل آخرها وافعلوا

وقولوا ما تشاءون، أهذا ما كنتم حتلمون بقوله!قولوه إذن ولنر كيف سيكون األمر بعد فرتة قصرية.

45 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

نتائج الضد النوعي لتلك بالنسبة ووخيمة للسلطة بالنسبة النتائج باهرة االسرتاتيجية كانت

األنامط األصلية. التصارع يف ترشع الشيعية السياسية التيارات وسقيام: سفيها بدا شئ كل إىل"صدريني" املتدينون وينقسم الطائفة، متثيل رشعية حليازة بينها فيام احلكيم" "آل سب املمكن من يصبح عقود منذ األوىل و"سيستانيني"وللمرة

والتشكيك بأصالة معارضتهم لسلطة صدام. بل يف أثناء إقامة عزاء حممد الصدر الذي اغتيل عام 1999، دخل حممد باقر

احلكيم لتقديم التعازي فقذف باألحذية)1).اخلالصة أن املعارضة التي قدست رموزها طويال أنزلت إىل األرض وصار باإلمكان التشكيك بكل شئ يتعلق هبا. وكان املستفيد األكرب من هذه اهلزة هي

السلطة احلاكمة. األمر ذاته حتقق يف صحافة عدي"احلرة" فقد نجحت، هي األخرى،يف خلخلة الفهم التقليدي للزوج القديم: سلطة / معارضة. أصبحت السلطة متارس دور البنية الكالسيكية النتيجة أهنا نجحت يف حتطيم املعارضة ضد نفسها وكانت القارة منذ خروج األحزاب الدينية والعلامنية: امتص بعض الغضب ووفرت الصحافة "االنتقادية" فرص عمل للمتمردين واالنتهازيني واألصالء عىل حد

سواء. يف احتجاجا صمتت كانت التي الرموز من الكثري استدرجت إهنا بل إعادة إىل وغريمها خضري وحممد خلف السيد عريان أمثال من الثامنينيات إنتقادية الذعة لعريان نشاطها، وكان باإلمكان، يف تلك األيام، قراءة قصائد غالء عن حتدثت إحداها الشباب ونبض كالزوراء صحف يف خلف السيد

الطامطة مثال. ثقايف راكد وكان حمررون تنشيط جو تلك الصحف يف عدا ذلك، نجحت فتحوا قد وغريهم كيطان اخلالق وعبد دواي وسالم عيل الشيخ امحد مثل

)1) رؤوف، )عادل(، »مرجعية امليدان« ص 394 نقال عن بيان نرش يف صحيفة املبلغ الرسايل العدد 150 االثنني 27ذو القعدة 1419 ه املوافق 15 اذار 1999

خريف المثقف في العراق 46

صفحاهتم الثقافية لزمالئهم من جيل التسعينيات فراح هؤالء ينرشون بكثافة ودون رقابة أحيانا.

املستوى يف النوعي الضد نتائج إزاء بال ذا شيئا يعد ال ذلك كل أن عىل الثقايف. وعلينا، هبذا الصدد، الوقوف طويال عند نشوء جيل عدمي بكل معنى الكلمة، جيل بدا وكأنه فقد اإليامن بكل شئ فتساوت عنده املفاهيم والظواهر

وقيم الكتابة واملواقف. يردده ما كان باطل: هذا التقليدية. كل شئ املتعارضات بل تساوت عنده ثم الدولة عام 1991 إهنيار بعينيه مشاهد االهنيار، يرى املثقف اجلديد وهو اهنيار"ضدها" بعد ذلك، اهنيار أخالقيات احلداثة وانسحاق أنموذجها الذي

بات منذ الثامنينيات مثاال حيتذى. الذي الثامنينيات جيل إىل العودة علينا اخلطرية النتيجة هذه نتفهم ولكي استثمر، بنجاح، يف خلق ضد نوعي مناقض خلطابه وطريقة تفكريه وموقفه من

السلطة أثناء مرحلة "اهلامش" التي كان يرزح حتتها.احلديث سينصب،هنا، ليس عىل اهنيار مقوالت ثقافية أو تبدل ظواهر كتابية، وهو ما بدا واضحا بعد حرب اخلليج الثانية، إنام سيرتكز حول اهنيار يف املوقف

من السلطة بشكل أربك الوسط الثقايف وخلخله متاما. ينافس بات والعمود التفعيلة شعراء حيتقر كان الذي النثر قصيدة فشاعر أولئك الشعراء يف متجيد السلطة وبقصائد نثر هذه املرة. ولن يعود األمر غريبا حني يقرأ شاعر مثل نصيف النارصي قصيدة يف عيد ميالد صدام حسني عنواهنا

"شمسك عىل الفراتني ساطعة.. وشموسهم رماد". بإمكان كان امليمون"، ميالده عيد يف القائد الرئيس إىل" اإلهداء وعدا

النارصي القول، عىل غري العادة: / بنذالتكم موتوا خياناتكم/ بزفت بعاركم، موتوا / املحارم أوالد "يا وأنت / األمل أنت املرجتى، أنت صدام / للكالب حلومكم نطعم وسوف خيمتنا يا / الكبرية خيمتنا يا / أعامرنا وكل أرواحنا كل فدتك الفادي/

الوحيدة / شمسك عىل الفراتني ساطعة / وشموسهم رماد")1).

)1) جملة أسفار العدد 11 1989 ص 8

47 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

أما أمل اجلبوري فتكتب "يا سيد املرسات/ يا أهيا املبجل النبيل / ليظل قلبك واحة من كرنفال / ليظل عمرك سدرة من حب/ كي يكرب العراق/ عاريا من

احلزن/يا سيد الفرات")1). ويفهم فهم ولئن كان حاسام من جهات عديدة. التبدل اثر ذلك أن احلال دائام عىل أنه شكل من أشكال االنتهازية عرفته الثقافة العراقية يف كل وقت، فان أحدا لن يستطيع إنكار أثره يف إشاعة نوع من اخليبة املريرة من اهنيار جيل ثقايف كامل نظر إىل "هامشيته" القديمة ومتنعه الشجاع يف الثامنينات عىل أنه دليل عىل

جدوى اإليامن باحلداثة. كان املثال الذي رضبه عدد كبري من أبناء ذلك اجليل، يف عقد الثامنينات، يف طريقه إىل إنجاز مهمة مقدسة بالنسبة للجيل األحدث غري أن اهنيارهم املحزن أنفسهم أدى بمن جاء بعدهم إىل طريقني واستخدامهم كـ"ضد نوعي" ضد

يؤديان كليهام إىل"جحيم" عدمي واحد. أبطاهلا هذه أوسع، اهنيار دورة إكامل املذكور يف االهنيار ناحية ساعد فمن املرة تسعينيون شبان كتبوا كل أنواع الشعر من قصيدة النثر إىل قصيدة التفعيلة القصيدة العمودية. وكان بعضهم أكثر تطرفا يف متجيد السلطة من األكرب إىل

سنا منهم.سمج بشكل السلطة مديح شاع التسعينات، عقد هناية يف ما، فرتة ويف

ومبتذل للغاية وعد الناجون من هذه املوجة أقلية ال يعتد هبا. ورغم أننا غري معنيني، هنا، بإحصاء األسامء أو التذكري هبا وهي مهمة تكفل هبا كثريون إال أنه من الرضوري استذكار نامذج من طرائق الكتابة والتنبه إىل هذه فالقصيدة، جديد. نمط تعكس"عدمية"من التي الفني االنحدار ظاهرة أكثر من كالم ال تبدو يف بعض األحيان فني بل ال بأي معيار تلتزم املرة، ال

معنى له: "يا فارس املجد شعب تصافحه

وهو يف كل حني يبايعك يا من فيك كل الشجاعة والسخاء

)1) جملة أسفار العدد / اب 1992

خريف المثقف في العراق 48

وسامحة العظامء نرفع اليوم لك أصواتنا نعم للعراق للوطن العظيم")1)

لنقرأ األنموذج التايل أيضا: "نستقبل العيد

وكلنا أمل بغدنا السعيد

لفجرنا اجلديد يميض بنا صدام")2)

عن هنا نتحدث ونحن نفسه، االهنيار أسهم فقد األخرى الناحية من أما اهنيار عدد من الوجه األخالقي واالجتامعي، يف له وليس عن الثقايف الوجه اليقينيات أمهها اليقني التقليدي بوجود مثقف ملتزم ، وهذا االهنيار ال يبدو، يف الواقع سوى نتاج الهنيار يقني أخر يتعلق بجدوى أفكار احلداثة كوهنا عاصام

معرفيا وأخالقيا عن الوقوع يف التناقضات. املثقف إذا كان التساؤل مريرا جدا: ما معنى اإليامن باحلداثة وروحها كان مستعدا، بكل فظاظة، إلدخاهلا كعنرص جديد يف سياق سمته االنتهازية وعنوانه

متجيد السلطة! وأمل النارصي نصيف أمثال من النثر قصيدة بكتاب يتعلق ال األمر إن منتصف بعد ظهروا الذين الشعراء حشد ومعهم الشاله وعيل اجلبوري املناهج احلديثة. وانه املرتكز عىل النقد يتعدى ذلك إىل إنام األمر التسعينيات دارت "احلداثوية" التي النقدية الدراسات تلك استحضار فعال الطريف ملن حول روايات صدام حسني، مثال، فرغم أن الراويات تبدو متدنية املستوى وال تستجيب ألدنى رشوط هذا الفن. إال انه كان بمقدور لغة النقد "احلديث" إهيام املرء بام مل يستطع العمل املكتوب إهيامه به. وقد تفنن عرشات النقاد يف تسويد

)1) ينظر الراشد )عبد اللطيف( صحيفة اجلمهورية بتاريخ 2002/10/17 والقصيدة جاءت بمناسبة يوم االستفتاء

)2) ينظر الفهد )خيون دواي(، جريدة اجلمهورية يف الصفحة االخرية بتاريخ 1995/3/2

49 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

مئات الصفحات للحديث عن تلك الروايات)1). التي عرفت النثر ملا كان جيري قي قصيدة يبدو، لألسف، مشاهبا إن األمر العدمية من نوع شيوع هي والنتيجة النارصي. نصيف يظن كام بـ"ترفعها"

الشاملة عند اجليل األحدث. مل يعد أبناء هذا اجليل، باألحرى، يقرءون حسب الشيخ جعفر كام كانوا يقرءونه سابقا، مل يعد"عريان"ساحرا بصمته ولوعته، ومل يعد حممد خضري بعيدا جدا عن يبدو كام اضطرارا وكتب، مرة ذات منه قريبا جلس فقد الدكتاتور"، أدران" "كراسة كانون". وقبل كل شئ مل تعد أفكار احلداثة عاصام من الوقوع يف اخلطيئة. بعيد ذلك بسنوات قليلة جدا، وحتديدا ابتداء من عام 1993،رشع انتهازيو "اليقينيات" من تبقى ما كل عىل هنائي بشكل اإلجهاز يف الثامنيني اجليل

التقليدية التي ورثوها عن األجيال السابقة. وكان يمكن مراقبتهم وهم خيرجون من البلد زرافات ووحدانا لينقلبوا عىل

السلطة التي مدحوها سابقا أو حتى التي خدمتهم. املثال األبرز عىل تلك الظاهرة ربام هو الشاعر عدنان الصائغ الذي أثار لغطا ملجرد خروجه من العراق حيث تصدى له زمالءه هناك لفضحه بشكل مزر، خصوصا بعد فوزه بجائزة عاملية متنح عادة لضحايا االضطهاد. إقرأ عىل سبيل

املثال سيل الكتابات التي نرشها زميله نصيف النارصي. لقد بدا املشهد طريفا للغاية حتى لكأنه يشبه مشهد لصوص يفضحون بعض

يف هناية فيلم ذي إيقاع رسيع.

التسعينيات: حقبة العدم التي الكتابة بأنامط تتعلق وهي الفرتة هذه يف هلا االنتباه علينا ظاهرة ثمة شاعت يف العراق آنذاك. وإذا كان لنا استثامر ما يتيحه النقد األديب، وهو مفيد غالبا لتوضيح رؤى سوسيو ثقافية كالتي اهتممنا هبا حلد اآلن، فيمكن التنبيه إىل مجلة متغريات برزت عند جيل جديد من الشعراء والنقاد عىل حد سواء.

)1) ال نرغب يف التذكري بأسامء أولئك النقاد وعناوين دراساهتم فهي مبذولة بكثرة يف ارشيف الصحف واملجالت العراقية كاألقالم والطليعة األدبية واجلمهورية والثورة وغريها.

خريف المثقف في العراق 50

وهم ما أطلق عليهم جيل التسعينيات. احلال أنه لكي نفهم بعض هذه املتغريات علينا استعادة بعض مالمح الكتابة متيزت التي الثامنينيات مرحلة نقصد سبقتهم، التي احلقبة يف شاعت التي برصاع أصحاب قصيدة النثر ضد املؤسسة الرسمية السائدة، من جهة، وغلبة

املنهج البنيوي يف النقد، من جهة أخرى. لنستعد، أوال، بعض ما كتبه "األكاديميون اجلدد"، الحقا،عن تلك املالمح. يقول حسن ناظم، مثال "ومهام بلغ االدعاء األجوف من أن نصوص الثامنينات قاومت بطريقتها اخلاصة فإن حاهلا ال يسمح بدعم هذا االدعاء ما دامت أي النصوص - تعاين من رهاب ينأى هبا بعيدا عن واقع رشس لتنعم بأمان مزيف. كانت النصوص تتالطم وحياكي بعضها بعضا وحتاكي قصيدة النثر العربية وعىل كلامت خالهلا يطشون بنزهات القيام حبذوا والشعراء واألجنبية.

ألسنتهم عبارة واحدة: ليـأت القراء باملعنى.." )1) هذه العبارات، عىل عموميتها، تصلح لتكون عنوانا لفهم تلك اإلشكاليات الثامنينيات، من جهة، وباجليل النثر العراقية أثناء حقبة التي ارتبطت بقصيدة

الذي رشع نفسه يف الثقافة العراقية عربها، من جهة أخرى. عن"الواقع نأت الثامنينيات يف الشعر لغة أن تفيد األساسية الفكرة إن الفناء وراحت أرتال الرشس"، واقع احلرب واملوت واألحادية واالنتظام يف

تتفجر داخليا بطريقة تشبه ما جيري يف جبهات القتال. ليس هذا كل شئ، فتلك العبارات، عبارات حسن ناظم، مل تقل "غري املفكر به" بشكل رصيح. والسبب، أن النقد، يف العراق، ليس نقد حسن ناظم وزمالئه الذين سنعود إليهم الحقا، إنام النقد يف الثامنينيات، كان انشغل بتتبع اللغة بعد عام البحث عناء نفسه يكلف ومل والتارخيي االجتامعي سياقها عن عزهلا أن نجده حاسام هنا: نعني فكرة التداخل بني ما هو أديب بام هو سوسيولوجي ومن

ثم، ما هو معريف بام هو سيايس، ومدى إحالة أحدمها لآلخر. كام الشعراء، أن حتى الكثريين أذهان يف لتخطر تكن مل املسألة هذه لعل

)1) ينظر ناظم )حسن( »شبحية النصوص وعنف الواقع »جملة »املسلة« السنة الثانية العدد 3 2001. ص 34

51 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

يكتفون العراقية الثقافة يف وأثرهم أنفسهم عن يتحدثون وهم كانوا النقاد، باحلديث عن اللغة واألسلوب بمعزل عن أي شئ آخر.

السبعينيات شعراء فكر فحني ذلك. عىل أمثلة إيراد الصعب من ليس به مل يستحرضوا ارتبطت التي النصوص والثامنينيات، مثال، بجيلهم وطبيعة

احلرب بوصفها صانعة لتلك اللغة. أن أحدا مل يفعل ذلك، إال اللهم بطريقة مبسطة مثل هذه التي أعلن هبا عدنان تراوغك القصيدة عنيدة جدا هلا من يا .." قدوم زمالئه عام 1987 الصائغ دائام يف املصعد أو يف اخلندق أو داخل حقيبة امرأة عابرة أو غصن أو شخصية القصيدة، وتبقى أنت اللحم والدم والبكاء وتبقى أحالت صديقك سامء من بني أو املحاسب أمام تتقاطع التأجيل أقساط عىل وحياتك مؤجال مرشوعا

عيني القناص األعور")1) إىل عزوه أهنم حد به وحيتفون الغموض جيملون باألحرى، الشعراء، كان أيضا، النقاد الشعراء، وال أن ال بمعنى فهمها. النثر كام أيسء طبيعة قصيدة البائسة الثامين السنوات حرب نعني األم، احلاضنة أثر إدراك استطاعوا الصوري لغتها وسياقها أنتجت أتوهنا. وهي حرب التي عاشوا يف والعدمية

والرمزي، ومن ثم، رؤيتها املخصوصة للعامل والظواهر. ما جيب الرتكيز عليه أن كتاب قصيدة النثر بدا وكأهنم يعيدون كتابة احلرب نفسها بطريقة أخرى. إذ مثلام كانت احلرب طويلة، مرتهلة، وبال معنى، جاءت

القصائد طويلة أيضا، مرتهلة وبال معنى. أو بطريقة تعني، التي جتلت بوضوح كانت أن هذه اخلصيصة املؤكد ومن واالجتامعية السياسية املتواليات وتلك الشعر لغة بني التداخل إن بأخرى، املعريف الثقايف تداخل إىل بدوره، حييل تداخل وهو جلية، كانت له احلاضنة

بالسيايس االجتامعي.الشعر، ثمة أما هذا األخري فيمكن أن يتجسد يف فعاليات عدة ففضال عن النقد ورواج بعض املناهج وانحسارها يف فرتات معينة، وهذا ما حدث بالضبط

يف العراق إبان حرب اخلليج األوىل.

)1) ينظر الصائغ )عدنان( »حراس الوطن« العدد

خريف المثقف في العراق 52

تم الرتويج للمنهج البنيوي الشكالين إبان يستطيع املراقب التساؤل مثال: ملماملنهج ذلك رعاية إىل الرسمية املؤسسة عمدت ملاذا األوىل! اخلليج حرب اشهر بأس هبا من أعدادا ال الثقافية طبعت الشؤون دار أن به حتى والتبشري كتب اللسانيات التخصصية يف وقت أوقفت صحف رسمية مثل "اجلمهورية" و"الثورة" و"القادسية" صفحاهتا الثقافية لنرش دراسات ذات طابع بنيوي. وكان نقاد مثل حاتم الصكر ومالك املطلبي وياسني النصري وسعيد الغانمي وعبد اهلل ابراهيم ال يتوقفون عن نرش تطبيقات شكالنية مغرقة يف الغموض والتعقيد.. ؟ هل كان ذلك حماولة من املؤسسة الثقافية خللق خطاب ثقايف يتسم بالغموض

الشديد والتعقيد البالغ؟انه ترافق مع رواج نمط آخر من الواقع، والغريب إن ذلك شبه مؤكد، يف الكتابة مناقض له كليا وهو نمط رعته السلطة وأطلق عليه آنذاك تسمية "الثقافة

التعبوية". وهذه األخرية كان اندرج يف نظامها املئات من الكتبة والشعراء. أن تناقض اخلطابني وعدم وجود ما جيمع بينهام ربام كان تناقضا ظاهريا بل لعله أخفى، يف حقيقته، تكامال يف اجلوهر، إذ أن اخلطابني كانا جيهدان لتحقيق الغاية نفسها وهي إشاعة ثقافة ال متت إىل الواقع بصلة ، ثقافة ال متثل أحدا وال

يتواصل معها أحد.يتغنى تعبوي ناقد املشهد: ذلك صناعة عىل عمال ناقدان الواقع، يف ثمة، النصوص طالسم فك يف جيهد شكيل وناقد أحد من مقروء غري باحلرب بطالسم من االصطالحات والبيانات واإلحصاءات. ومها معا يشكالن، مع يف التواصل عىل عصيا مثلثا الدالة، وغري املهومة اللغة ذي الثامنيني الشاعر

مرحلة علت فيها أصوات املدافع وتداخلت الوجوه بالغبار.الذين العراقيون فالباحثون الصدد هبذا يقوله ما ناظم حسن الناقد لدى "تعاملوا مع هذه املناهج احلديثة كانوا مجيعا حيسون بأن مثل هذه املناهج ال تثري سخط أحد، ال سخط السياسيني وهو األهم وال سخط النخبة املثقفة أمجاال، وال سخط أقراهنم من النقاد إال نادرا وهذا السخط األخري ال يعبأ به أحد وربام النوع هذا من بالنقاد حتف تربيكات ثمة كانت فقد صحيحا العكس يكون

ناهيك عن رواج دراساهتم يف جمال النرش.. ")1)

)1) ناظم )حسن( مصدر سابق ص35.

53 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

هذا ما جرى يف الثامنينيات فام الذي تغري يف التسعينيات يا ترى! غزا الذي البنيوي املنهج من واملوقف الشعر أنامط بتغري األمر تعلق قدر الثقافة العراقية يف الثامنينيات علينا االنتباه إىل رأي ال خيلو من صحة مفاده أن ما حدث بعد حرب اخلليج الثانية، يف مستوى الشعر، قصيدة النثر خصوصا، مل يكن يعدو اآليت: لقد حسم الرصاع يف، مستوى اللغة الشعرية لصالح العبارة اليومية الواضحة، القصرية واملكثفة بعد أن كانت العبارة، يف الثامنينيات،جمردة

غامضة وطويلة.هذا ما حدث بالفعل، لكن املسألة،هنا، ال تتعلق بشئ قدر تعلقها بتبدل فهم املعايري املحققة ملا يسمى "الشعرية". أي إن الشعراء،يف التسعينيات، ما عادوا

يعبئون بتلك املعايري التي راهن عليها سابقوهم. إن أمر اهنيار اللغة البيانية الفخمة السائدة يف الثامنينيات يبدو شبيها، يف هذه الفرتة، بام كان حيدث من اهنيارات يف عراق تلك األيام. فحرب اخلليج الثانية، كل فيه دمر بلد حمطم. شبه بلد إىل العراق أحالت كانت واخلاطفة القصرية شئ، البنى االجتامعية، البنى االقتصادية، ما تبقى من الطبقة الوسطى، أوهام

القوة بالنسبة للسلطة، وأحالم الكرامة بالنسبة للطبقات املسحوقة. الرسيعة يف األشكال. التحوالت كرنفال غرائبي سمته إىل البلد لقد حتول فاهندام البنى االجتامعية واالقتصادية أدى إىل ظهور أشكال بنيوية جديدة يف كافة املجاالت بام يتالئم مع احلقبة اجلديدة: األرصفة تصبح أسواقا واألسواق

أرصفة، السيارات دكاكني متنقلة والبيوت كراجات ومعامل للببيس كوال. كان السوق يفرض إيقاعه بشكل قاس عىل كل مالمح احلياة يف العراق حمدثا تغيريات شكلية بدت معها تلك األشكال عابرة ومؤقتة. بمعنى أن األشكال

كانت عرضة إىل التبدل يف أية حلظة تبعا ملا يستجد عىل أرض الواقع. إىل يتحول أن يمكن مثال، العائيل، املنزل هو فهذا كثرية، ذلك يف األمثلة يمكن الدار حديقة هي وهذه وضحاها، ليلة بني مشتمالت أو شقق بضعة أو حتى جممع طبي فرن أو دكاكني عنها ثالث بدال ليظهر فجأة، أن ختتفي،

"عابر"... ! بنية كاملة ثقافيا، ويف مشهد غرائبي مثل هذا، كان من املؤسف أن تتحطم وتتحول إىل ركام، املؤسسات تتوقف عن اإلنتاج، املفاهيم تتبدل وتفقد قواها

خريف المثقف في العراق 54

الرمزية، أحالم اجليل اجلديد تنهار حمدثة ضجيجا هائال. غري أن األبرز من بني كل تلك االهنيارات كان اختفاء الكتاب املطبوع بوصفه أحد أهم املؤسسات التارخيية املوروثة. ذلك أن احلصار االقتصادي الذي أطبق عىل عنق احلياة يف عراق ما بعد حرب اخلليج الثانية أثر يف تراجع أعداد الكتب دخول إىل قياسا فاحشا ارتفاعا الكتب أسعار ارتفاع إىل أدى ما املستوردة

األفراد. "الناسخني" من رشحية لتظهر املناسب بديله إنتاج إىل السوق سارع هنا، والروايات الكتب استنساخ خالل من املثقفون حيتاجه ما رفد يف ختصصت املدن من وغريها ودمشق والقاهرة بريوت يف حديثا الصادرة والدواوين

وبيعها رسا وعلنا. كان األمر نوعا من أنواع القرصنة غري القانونية. فأنت تستطيع رشاء أحدث "العراقي" الفقري، البائس والشبيه بباقي الكتب بأبخس األثامن ولكن بشكله إىل يكون ما أقرب كله ذلك بدا وقد السوق. يف املعروضة "املعادة" السلع

ارتكاب جريمة ختالف"القانون" يف وضح النهار وبعلم الدولة والعامل. كانت احلقبة عدمية بشكل ال مثيل هلا: اجلميع يتمردون وال يعودون يعبئون عليهم أطلق ومثقفون شعراء املعايري عىل متردوا الذين بني من وكان بشئ. تسمية التسعينيني. وكانوا خليطا من فلول ثامنيني مل حيققوا أجمادا شخصية يف

الثامنينيات وشبان بدءوا تلمس الطريق مع حرب اخلليج الثانية. الشعراء والقصصاصني سارعوا عام 1993 إىل اخرتاع املالحظ إن هؤالء ما نقصد احلياة. عن املتوقف املطبوع للكتاب كبديل جديد مؤسيس شكل سمي آنذاك بـ" ثقافة االستنساخ" التي راجت يف العراق لدرجة أهنا أصبحت

طوال التسعينيات رشعية ومعرتف هبا. الرسمية للمؤسسة باحتقار تيش لفتة يف والقصصاصون، الشعراء كان وإحساس باالختناق، يذهبون إىل مكاتب االستنساخ املنترشة يف الباب املعظم وامليدان وشارع املتنبي ويصدرون كتبهم الصغرية احلجم عىل حساهبم اخلاص. من مستوحاة فقرية بدائية بطريقة تطبع "الكتيبات" أو الكتب هذه كانت مشهد العراق االقتصادي آنذاك. يطبع الديوان الذي ال يتجاوز حجمه حجم الكف تقريبا بطريقة االستنساخ وبعدد حمدود، ثم يوزع باليد وبالربيد. وما هي

55 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

إال أيام حتى يكتب عنه النقاد وكأنه قرأ عىل نطاق واسع. إنه "وهم كتاب" وليس كتابا، لذا يبدو من املنطقي أن يربز إىل الوجود آنذاك "وهم جيل" وليس جيال، وان يرسخ "وهم اجليل" هذا "وهم اختالف" و"وهم

تغري" يف األساليب والعبارات والطرائق الكتابية. العابر واملؤقت فهذا شئ واضح ما هيمنا من الظاهرة،حقيقة، ليس طابعها شكل تطابق هو املهم كامل،إنام وثقايف اجتامعي سياق إىل حييل وهو متاما

الكتاب مع نمط الكتابة التي يتضمنها. اجلديدة القصائد كانت الدالة، وغري املرتهلة الثامنينيات لقصائد فخالفا شبيهة بالكتاب املستنسخ وصورة لغوية عنه. العبارات فقرية شعريا، قصرية، وذات معنى واضح، ال زوائد، ال بالغات تقليدية، وال أي شئ يذكرك بذلك

الرنني عايل الصوت الذي ساد يف الثامنينيات. هذه: مثل قصائد عىل يعثر حني الكتب تلك يقلب وهو املرء يدهش لن قبور أحبتي/ األحياء جدا / برشى وأبنائها ")1) أو “ عىل / الورد "فليسقط يف القابعة "األشياء أو ، “ سنصل حتام / تقلقي ال / عاطلة حافلة الفندق الظل / هناك حتت األشجار/ تلكم قلوبنا / تذرق عليها العصافري" ، أو "يف حروبه القادمة / فقدنا كل شئ / كل شئ / حتى البكارات")2)، أو "خترجني من اإلطار/ كلوحة أخرى" ، او "الوطن وحبيبته احلرب/ التقيا خلسة / قالت

احلرب/ أحبك / قال الوطن…")3).

نقيض العدم: األكاديميون الجدد كان "األكاديميون اجلدد"، وهو لقب أطلقه خالد مطلك هتكام عىل جمموعة من املثقفني الشبان، قد بدءوا يتجمعون حول بعض، بعد منتصف التسعينيات. كل من النريان حتارصهم أناس مثل املحبطة بأحالمهم بالفعل، بدوا وقد

جانب.

)1) ينظر كتاب« الشعر العراقي اآلن« طبعة شخصية بتحرير الشاعرين فرج احلطاب وعباس اليوسفي صدر سنة 1997 ص 18

)2) املصدر نفسه ص 42)3) املصدر نفسه 22

خريف المثقف في العراق 56

كان بعضهم قد اكملوا للتو دراساهتم األكاديمية العليا من أمثال حسن ناظم وسهام جبار وحيدر سعيد ومجال العميدي ويوسف اسكندر وحييى الكبييس

وصفاء صنكور، يف حني كان البعض عىل وشك إهناء تلك الدراسات. أمثال األكاديمية خارج والشعراء من املثقفني من آخر عدد كانوا، ومعهم عيل بدر وحكمت احلاج وعبد الزهرة زكي ورعد عبد القادر وامحد الشيخ عيل والكاتب، مهجوسني بتمثل روح املنهجيات احلديثة، ليس يف النقد فقط بل يف

التعاطي مع ظواهر الثقافة املختلفة.ما جيدر االنتباه له هو أن هواجس هذه اجلامعة بدت مناقضة لكل ما انتهينا الثانية اخلليج حرب بعد ما حقبة يف العدمية الروح شيوع من سابقا إليه والسبب أن هؤالء مثلوا ردة فعل عنيفة عىل فكرة "موت اإلنسان" التي أشاعها كان ما خالل من ليس العراقية الثقافة غزا قد األخري وكان البنيوي املنهج يكتبه "البنيويون" العراقيون يف اجلرائد واملجالت، بل من خالل تلك الكتب املستنسخة التي كان يروجها مكتب صغري يف الوزيرية يدعى "مكتب الرواي

"وكان يرتاده طلبة جامعة بغداد بداية التسعينيات. وفالسفة باختني وميخائيل كوهني وجان جاكوبسن رومان كتب كانت املغاربة والنقاد وتودوروف فوكو ميشيل ومؤلفات فرانكفورت مدرسة واملرصيني قد بدأت، بالفعل، يف نحت مالمح جيل نقدي حاد الوعي مل تعرف

له الثقافة العراقية مثيال. ورغم أن معظم أولئك الشبان مل يتجاوزوا الثانية والعرشين من أعامرهم إال اهنم مع هذا حلموا بـ"تفجري" الثقافة العراقية وحتطيم تلك األيقونات العتيقة

التي شكلتها منذ الستينات. إمكانياهتم ولئن فهم األكاديميون اجلدد كل شئ مبكرا فإهنم اجتهوا، بكل ومحاسهم، يف ردة فعل غريزية، إىل ترميم ما اهنار من يقينيات بافرتاض يقينيات إنه آنذاك، سحريا بدا واحد مفهوم يف ترتكز األخرية هذه وكانت جديدة. ورموزها، مفهوماهتا وظواهرها، العراقية الثقافة تاريخ تفكيك "التفكيك"،

رؤاها املتحجرة و"أجياهلا" الومهية. أمكنة خاصة منها مكتب االستنساخ يتجمعون يف كان األكاديميون اجلدد عجمي حسن ومقهى املعظم باب يف عيل الشيخ امحد الشاعر يملكه الذي

57 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

وقاعة "حوار" التي أسست عام 1994. وكانوا يف جلساهتم اخلاصة يتجادلون حتيل والدقة الغموض بالغة اصطالحات ويتعاطون النقد نظريات آخر يف

ملناهج ما بعد البنيوية مثل التفكيكية والتأويل ونظريات االستقبال والتلقي. وعىل املرء االنتباه، هنا، إىل أهنم كانوا يعدون، حتى وان مل يعربوا عن ذلك رصاحة، بنسف الثقافة العراقية إن أتيحت هلم الفرصة. وهو ما سيجري الحقا

عىل أيدي بعضهم يف أكثر من جمال. وبرسعة انتبهت السلطة الثقافية الرسمية إىل ما جيري عىل أيدي هؤالء الشبان فراحت متد خيوط من العالقة معهم عىل أمل استدراجهم للعب دور شبيه بام

جرى لشعراء الثامنينات بعد حرب اخلليج الثانية. بمعنى أن السلطة الثقافية املرتهلة، الفاقدة ألي بريق كانت بأمس احلاجة ملثل ملفات بإعداد منهم أن كلف عدد وبالفعل حدث املختلفني. الشبان أولئك املقرب القادر الشاعر رعد عبد "األقالم" وكان تتساوق مع مزاجهم يف جملة جدد كنقاد وجودهم ترشيع يف بارزا دورا لعبت وصل صلة مثل قد منهم

يعدون بالكثري. تقليدية كـ"األقالم"، متت التي بدت شيئا جديدا يف جملة امللفات عدا تلك مرة وذات واملرابد. الثقافية املؤمترات من عدد إىل النقاد هؤالء بعض دعوة استخدموا كواجهة، حتظى باالحرتام فعال، الستقبال الشاعر صالح ستيتية يف

ملتقى نظمه بيت احلكمة. لتسفيه نار قناعاهتم، كملقط يكون ذلك ضد أن استخدموا، دون اهنم بل آراء زمالئهم الذين أطلقوا عىل أنفسهم تسمية "جيل التسعينات" وكان أولئك التسعينيون قد دخلوا يف رصاعات سقيمة مع السلطة الثقافية السائدة خصوصا الناقد خالد عيل مصطفى. وبدا من غري املفهوم، بالنسبة ألولئك الشعراء، أن بدر وحيدر سعيد وأيضا سعيد أمثال عيل اجلدد" من "األكاديميون يصطف احلطاب وفرج احلالق عيل مجال أمثال من جيلهم "أبناء" ضد اهلادي عبد

وعباس اليوسفي. احلال إن أمر استدراج األكاديميني اجلدد وحتويلهم إىل "ضد نوعي" أوشك أن ينجح لوال اتسام هؤالء الشبان بـ"طهرانية" مزعجة للسلطة. فخالفا لشعراء الثامنينيات الذين استخدموا سابقا إلنجاز مهمة مشاهبة، أبدا األكاديميون اجلدد

خريف المثقف في العراق 58

"اخلط األمحر" الذي وضعوه ألنفسهم، يقينا ال يتزعزع بأفكارهم وابقوا عىل متجهني بكل طاقاهتم إىل النقد اجلديد واملناهج احلديثة.

مع غالبا جيري األمر كان كام املستحيل"كسبهم" من أن األخري، يف وبدا، انتهازيي الثقافة العراقية.

ولعل تكليفهم عام 1999بتحرير جملة مهمة مثل "الطليعة األدبية" صب يف االجتاه ذاته، نعني االلتفاف عىل "طهرانية" أولئك الشبان وحماولة تفتيتها بشكل

متدرج. الكتاب عنوان خيترصه الذي العدد لالنتباه، املثري العدد خرج األخري يف يف األغرب هو لعقد تذكارية كصورة واملتلقط املتنبي شارع يف املعروض األكاديميون كتب هكذا الكتب.. أيتها األكياس صباح وتفاصيله: أحداثه

اجلدد إىل جانب صورة "املوت اختيارا"

الموت اختيارا الكتب ختتار موهتا وتتحول كانت الذي الوقت ذاته،1999، ويف العام يف من خزانة أفكار إىل منجم أكياس، كان "الضد النوعي" ينتحر بعيدا. ففي مدينة السلطة، فوجئت "الناطقني"، للشيعة إماما الصدر حممد توج حيث النجف

ذات مرة، بالرجل وقد ارتدى كفنا قبيل أن يتوجه إىل صالة اجلمعة. بدت اإلشارة مرعبة بالفعل، فالرجل مستميت ومستقتل وهو ينتظر أن جتهز

السلطة عليه علنا بعد وصول األمور بينهام إىل نقطة احلسم واالقتالع. قبل ذلك، تصاعدت شعبية الصدر وبات معبود املاليني وحتول من مرجع الفتاوى التباعه إىل زعيم دنيوي ينظم أمور العشائر ويتدخل يف ديني يصدر

كل صغرية وكبرية بحياة طائفته. وبعد اعتقال عدد من وكالئه يف مدينة النارصية، جترأ الرجل بمناداة هزت

األركان هو ومئات اآلالف مطالبا الدولة باإلفراج عن صحبه. مل تفرج السلطة عن املعتقلني..

مل تسمح ألتباعه باملسري إىل كربالء سريا عىل األقدام.. بدأت املضايقات، تأزمت العالقة..

59 الفصل األول / وأخيرا هبت العاصفة

ارتدى حممد الصدر كفنه األبيض وجلس يف مسجد الكوفة منتظرا القتلة..مل يكن االنتظار طويال..

قتل الصدر..

خريف المثقف في العراق 60

61 الفصل الثاني / لعبة النرد

الفصل الثاني

لعبة النرد

من رسائل الصحراء إلى وثائق اللجوء السياسي

مدخل على شكل صفقة ذات يوم من عام 2001 وبينام حشود املثقفني العراقيني اهلاربني من جحيم والصحفي الشاعر االمري، عبد عيل كتب عامن، إىل زحفها تواصل العراق العراقي الذي اهنمك بالشأن األديب املتمفصل بالعمل السيايس، قائال "رسخت أسامء يف الثقافة العراقية فكرة احلرية بوقوفها ضد طغيان السلطة منذ هناية احلرب ما العراقية وفجاعة القضية منعطفات أن يومنا هذا، غري الثانية حتى العاملية شهدناه بعد حرب اخلليج الثانية من مؤرشات، أكانت يف اتساع العمل الوطني املعارض أم اهلجرة شبه اجلامعية ملثقفي البالد، كشفت عن ظاهرة غريبة انطوى حتت لوائها اخلارجون من أتون الرعب بعد عام 1991 وهي ظاهرة االرتباط بشكل أو بآخر بأطياف املعارضة العراقية ومن ثم االنفصال عن تلك األطياف

ما أن يكون" اهلدف "قد تم إنجازه أال وهو الوصول إىل بلدان اللجوء")1). ثم يواصل الشاعر الذي أدار جملتي "املسلة" و"أوراق ثقافية" طرح اعرتاضه بلهجة شديدة قائال أن "هؤالء املثقفني غالبا ما يتحولون إىل منابر تندد باملعارضة

وفكرهتا ما إن يصلوا "جنة اللجوء". تتحول املسألة كلها إىل جمرد صفقة")2). التنبيه نقصد األمر، هذا مثل إىل يشار التي األوىل املرة ربام، كانت، تلك

)1) عبد االمري )عيل( املسلة العدد الثاين السنة الثانية 2001)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 62

إىل ظاهرة هلاث املثقفني بحثا عن اللجوء السيايس بأية طريقة. إذ ما أن يصل األديب أو الفنان أو األكاديمي إىل عامن حتى يبادر إىل إعالن موقف رصيح، ال يقبل التأويل، معارض للسلطة يف بغداد. وهو ما يتطلب إقامة نوع من العالقة

مع تيار سيايس معارض. ثم ما أن حيقق املثقف غايته التي هاجر من أجلها وحيصل عىل البطاقة الزرقاء حتى ينقلب رأسا عىل عقب، فيبدأ يف تسفيه احلركات السياسية والطعن فيها حد أنه يتحول بني ليلة وضحاها من معارض للسلطة إىل معارض للمعارضة.

كان األمر سمة ملثقف عراقي طبع بمالحمه تلك املرحلة.

عذابات المطهر املثقف وهو يقدم عىل ذلك مل يكن ثمة حل آخر: هذا ما كان يقوله ضمري اخليار الصعب للغاية، نقصد التخيل عن اهلوية العراقية، ال بوصف هذه األخرية خمياال عريضا يرزح حتت ثقل ذاكرة متتد إىل آالف السنوات إنام بوصفها جمرد أوراق ثبوتية حيتاجها املرء للتنقل من مكان إىل آخر بحثا عن األمان، العمل، املجد، واىل آخر األشياء التي تشكى منها العراقيون بعد كارثة حرب الكويت

وما نتج عنها. كانت األمور جتري بطريقة تثري يف الذهن أسئلة عديدة، أسئلة مثل: هل كنا نشهد فصال آخر من فصول العدمية التي طاملا متيز هبا أبناء الرافدين! بمعنى، عن واحلاد، القاطع الشكل هبذا التخيل، يقرر وهو العراقي املثقف كان هل "جنسيته" يامرس طقسا آخر من طقوس العدمية التي رأينا بعض متظهراهتا يف

الكتابة الثامنينية! تكرر: ما غالبا الذي املشهد هذا يتخيل أن وللمرء متاما، واضح ذلك إن مثقف عراقي حيزم حقائبه بعناية، خيبئ أوراقا رسمية، أو مزيفة، أوراقا خيمن انه سيكون بحاجة هلا وهو يقدم الطلب، طلب التخيل عن جنسيته، ثم يغادر

جحيم العراق عىل عجل قائال مع نفسه لن أعود إال جثة هامدة. ثم ما أن يصل إىل األردن حتى يبدأ يف إعداد نفسه لقضاء فرتة املطهر القاسية قبل الوصول إىل اجلنة. فإن فشل كان عليه أن يعدم نفسه بنفسه عائدا إىل اجلحيم

حيث يمكن للسلطة أن تنهي وجوده بمجرد الوصول إىل طريبيل.

63 الفصل الثاني / لعبة النرد

ليست هذه األفكار جمرد أخيلة، إهنا حقيقة خيترصها اآليت: بعد حرب خليج الثانية، وجد العراقيون أنفسهم يف جحيم حقيقي، اقتصاديا واجتامعيا وثقافيا، بحثا عن اجلحيم ذلك من للهرب متاح ما هو استثامر كل النخبة وكان عىل

منفى يقدم شكال من أشكال اجلنة املوعودة. اجلحيم، ذلك تفاصيل لتصديق مستعد العامل أن البعض اكتشف وإذ جحيم العراق، سارعوا إىل استكشاف السبل املوصلة إىل ذلك العامل واالرمتاء

بأحضانه. وكالعادة، كان املغامرون يف املقدمة، أولئك الذين وصلوا إىل إيران وصحارى

السعودية ونجحوا يف حتصيل املبتغى. إذ األردن، عىل املطل اجلدار يف مسبوقة غري كوة فجأة، برزت، ذلك بعد يغامر العراق وإنقاذ من لتصديق ما جيري يف أممية مستعدة ثمة مفوضية كان

بالتشبث بطوق النجاة امللقى يف منطقة تدعى" الشميساين" غرب عامن. كان حدث العثور عىل تلك املفوضية صاعقا بحجم اآلمال التي فتحها أمام عدد حمدود من املغامرين، إذ سارعوا، وبرسية تامة، لطرق تلك البوابة الفريدة. والدنامرك هولندا إىل السفر تأشريات وجاءت الطلبات قبلت وبالفعل،

والسويد، ليجد املغامرون أنفسهم يف جنة حقيقية. طرق عىل آخرون فأقدم النتائج، حمسوبة املغامرة صارت آخر، بعد ويوما البوابة ذاهتا لالنتقال إىل جنان املنايف حيث املساعدات املالية تقدم دون مقابل تشبه ربانية تقاعد منحة إهنا ثمن، دون مبذولة واملدرسية الصحية والرعاية

احللم. أو للمحظوظني، أشهر بضعة يستغرق قد الذي األردين اإلنتظار مطهر بضعة سنوات لسيئي احلظ، كان يعني حدوث احتامالت قد يصعب عىل املرء القرسي التسفري املؤقت، فاحتامالت ختيلها دون أن يصاب بمس من اجلنون إىل العراق واردة يف كل حلظة. ومعنى ذلك ملن قدم أوراقه للمفوضية يشبه، يف

وجه من الوجوه، تقديم أوراق حمكوم باإلعدام إىل املفتي. عدا ذلك فإن احتامالت رفض املفوضية طلب املتقدم للحامية، لعدم ثبوت صحة ادعاءاته، وارد أيضا، ومعنى ذلك أن يعلق املرء يف "املطهر"، فال هو عائد

إىل جحيمه وال هو ذاهب إىل جنته.

خريف المثقف في العراق 64

انا املحض. العدم يف املعلقني األعراف بأصحاب شبيهني أولئك كان شخصيا تعرفت اىل واحد منهم ظل اثنتي عرشة سنة ينتظر ان يفتح ملفه الذي

اغلق منذ البدايةـ)1). اليوم العراقيني، وهم أولئك أن النتائج، إال أمر، ومهام تكن مهام يكن من يف جنان املنايف، كانوا قرروا خوض التجربة القاسية، وكانت الوسيلة الوحيدة الشخصية هبام انفردت خصائص مجلة بعث هي بنجاح لتحقيقها املمكنة

العراقية: العدمية، السفسطة، االنتهازية، التطرف وغريها. وقبل امليض يف تتبع كيفية تشغيل هذه اخلصائص، لنعد أدراجنا إىل ما جرى

بعد حرب اخلليج الثانية

وفود ما بعد الحرب: رسائل الصحراءاالنتفاضة وفشل الثانية اخلليج حرب بعد كثريا ساءت قد األمور كانت ازدادت ضغوط أطنابه يف كل مكان، الذي رضب الثقايف ففضال عن اخلواء اخلدمات له، مستوى أدنى إىل يصل الفرد دخل هائلة: لدرجة املادية احلياة ترتاجع بطريقة مرعبة يف وقت جتهد الدولة إلبقاء العجلة دائرة حتى وان وقع

عبء ذلك عىل الطبقات املسحوقة. الفساد اإلداري ينخر األسس كلها فتكاد هذه تتهاوى يف مشهد يشبه فصال من فصول اخلراب الذي طاملا قرأه املثقفون وهم يطالعون سفر هذا البلد طوال

آالف السنني. كل ذلك أدى إىل تنامي الشعور بالعدمية عند رشائح عريضة من املجتمع، أوهلا رشحية املثقفني املرتامية يف انحدارات أصحاهبا. فعدا انتامء العديد منهم إىل فئة املوظفني الصغار، كان ثمة مثقفون ينتمون إىل طبقة برجوازية مرفهة بعض التي حياهتم بمامرسة اكتفوا إذ باهلجرة، فكر من أخر هؤالء كان وقد الشئ

تأثرت بشكل طفيف. لكن مقابل هؤالء وأولئك، بدت األغلبية املحسوبة عىل طبقة املسحوقني،

عىل حيصل ومل 1991 عام األردن إىل وصل وكان عبود مانع احلسني عبد اسمه كان (1(االعرتاف األممي ال يف عام 2002 وقد سافر إىل كندا قبيل سقوط نظام البعث

65 الفصل الثاني / لعبة النرد

وهم املثقفون الكسبة الذين كانوا يف عرشينياهتم، أول من استشعر لفح اجلحيم اجلديد، لذا كانوا أول املبادرين باختاذ القرار، قرار اهلرب من العراق.

كان أغلب أولئك إما طالبا يف اجلامعات أو مترسحني أو هاربني من اجليش. بالنسبة ملن قضوا الكويت، خصوصا بعد غزو بالضياع لقد شعروا، حقيقة، عطور بدل البنادق دخان يتشممون القتال، جبهات يف شباهبم سني أمجل الدفاتر تنتجها مصانع حسني كامل بدل محل التي القاذفات النساء وحيملون الصغرية التي كانوا حيتفظون هبا يف بيوهتم البائسة حيث األشعار تكاد تنتحر،

هي األخرى، من فرط خيبات أصحاهبا.إن فشل االنتفاضة ربام كان آخر فصول تلك اخليبة. بل لعله أدى إىل وصول الشعور املرير باليأس إىل ذروته. فبعد أن شارف احللم، حلم تبدل األوضاع، عىل التحقق، هي ذي قسوة النظام تسفر عن نفسها بشكل غري مسبوق حمطمة اآلمال مجيعا: عرشات اآلالف، سواء شاركوا يف التمرد أم مل يشاركوا، اقتيدوا والنارصية الساموة صحارى يف أغلبهم آثار واختفت جمهولة مصائر إىل

وضواحي النجف وكربالء والديوانية.

إنه غضب صدام حسين يعصف بتلك األحالم. من املؤكد أن تلك األحداث املفصلية رسعت باختاذ القرار، وقدمت تسهيالت عىل الناقمني املثقفني أن يعني ال هذا لكن طويال. املثقفون هبا حلم بتنفيذه أوضاعهم املزرية مل يكونوا قد حلموا قبل حرب الكويت باهلجرة من العراق، كال، كان احللم قديام والبعض حاولوا حتقيقه حتى أثناء احلرب حني اجتهوا إىل إيران هربا من العراق، كام جرى مع نصيف فلك، شقيق القاص محيد املختار، وهو شاعر ومرسحي كان قرر مقاطعة النرش يف الصحف واملجالت العراقية،

احتجاجا عىل النظام. الحقا عاد لكنه 1986 عام إيران إىل احلدود املغامر املثقف هذا عرب لقد

ليودع يف السجن. األمر ذاته، ولكن بنجاح، حدث مع الشاعر أمحد عبد احلسني الذي عرب، هو

اآلخر، إىل إيران بعد هناية حرب السنوات الثامين مبارشة. ما نريد اإلشارة إليه، هنا، هو أن النقمة عىل األوضاع، وكانت ابتدأت باكرا،

خريف المثقف في العراق 66

جعلت من خيار اهلرب خيارا مطروحا بقوة، بالنسبة للكثريين. يعني أن ذلك ال إال القرار، املصري حمرضا مبارشا لذلك ولئن كانت عتمة مثقفي عند شاعت التي الفكرة تلك وأبرزها أخرى حمرضات وجود عدم احلاملني، لبعض بالنسبة السفر، أن من منهم، الشبان خصوصا الثامنينات،

يمكن أن يكون مفتاح الشهرة واملجد وحتقيق الذات الضائعة. اليساريون املهاجرون فعله ما أصداء أن إىل ربام راجع الفكرة هذه أصل الذين غادروا العراق هناية السبعينات كانت تصل إىل العراق خمتلطة بالكثري من األوهام: النجاح األديب، التحصل عىل شهادات عليا، طبع الدواوين والكتب، التعرف إىل كبار األدباء العرب، حضور املهرجانات والتنعم باألضواء، وغري

ذلك من املبالغات التي كانت شائعة. واقع األمر أن االستغراق بمثل تلك األحالم مل يكن نوعا من البطر قدر ما كان تنفيسا عن ضغط هائل وقع عىل كاهل الشبان الذين أغلقت احلرب كل

افق أمامهم. كان، باألحرى، هروبا من الواقع، لذا مل يكن غريبا، آنذاك، تداول مثل هذه القرارات، احلاملة بمعظمها، رسا واالدعاء الدائم بتنفيذها قريبا، أو تأجيلها، يف

أغلب األحيان، إىل الوقت املناسب. كان اإلنصات ملثل تلك األحاديث، أحاديث اهلرب من البالد، يوحي بفكرة

واحدة: اجلميع سيهرب عاجال أم آجال. لكن ذلك مل يكن ممكنا طاملا كانت حرب اخلليج األوىل دائرة، فالسلطة منعت السفر هنائيا منذ السنة األوىل لتلك احلرب، األمر الذي حول مسألة الذهاب إىل

بالنسبة للعراقيني. "اخلارج" حلام حقيقيا مع الوصول إىل عاصفة الصحراء التي هبت عىل بالد الرافدين عام 91 يكون املثقف قد وصل إىل حلظة حلمية ال تتكرر. فأليام معدودة قلعت تلك العاصفة للنارصية املحاذية الصحراء إىل العراقيني من اآلالف فاندفع السجن بوابة

والساموة ليصلوا إىل القوات األمريكية املتجحفلة هناك. مل تكن املسألة لتكلف الكثري، ما عىل املرء سوى قطع بضعة كيلومرتات سريا

عىل األقدام، ومن ثم تسليم نفسه إىل األمريكان بوصفه الجئا. املربرات بدت متوفرة آنذاك، فالسلطة بدأت يف مهامجة مدن اجلنوب والفرات

67 الفصل الثاني / لعبة النرد

األوسط الثائرة عقابا هلا عىل متردها، ومن ثم، دخلت قوات احلرس اجلمهوري تلك املدن وعاثت فيها تدمريا معتقلة عرشات اآلالف من الشبان والرجال)1). لذلك، بدا من املنطقي أن يسارع الناجون إىل اهلرب والتشبث بسفن النجاة

املوجودة يف الصحراء. غزو أن السيام به معرتفا الرهيب، الدموي القمع نقصد املربر، هذا كان إنموذج إىل الغريب، العام للرأي بالنسبة حوله، كان للكويت حسني صدام

هتلري مستعد الرتكاب أفظع اجلرائم. وبرسعة فاقت التصور، وجد األمريكان أنفسهم بمواجهة عرشات اآلالف األرايض داخل خاصة معسكرات إىل ونقلوهم فاستقبلوهم اهلاربني. من

السعودية)2).قدر تعلق األمر باملثقفني احلاملني بالسفر، سنجد أنفسنا أمام حشد من الناجني استطاعوا الوصول إىل تلك املعسكرات واللجوء إليها. وكان أولئك خليطا من مل جيدوا األوضاع ممن والناقمني عىل واحلاملني والصعاليك العدميني املثقفني الفرصة يف عراق تلك األيام لتحقيق ذواهتم. فأغلبهم كانوا جنودا يف اجليش فيام بعضهم تطلع إىل اهلجرة متأمال حتقيق األسطورة ذاهتا التي سبق أن حققها السبعينيون والستينيون يف هناية عقد السبعينيات. لذا مل يفوت هؤالء الفرصة متر دون أن يمرقوا من الفتحة الصغرية التي توفرت باجتاه احللم. حلم اهلجرة

إىل املنايف األوربية. املوت ومل جيدوا طريقا غري أولئك قد نجوا فعال من النظر إن كان وبغض اهلرب كام زعموا آنذاك، إال أن حلظة ولوج الصحراء كانت قد حانت بالفعل، املتحدة الواليات إىل الوصول يف واملثقفني األدباء عرشات بنجاح وانتهت

والسويد وهولندا وبريطانيا والدنامرك وكندا والنروج وغريها من البلدان. شعالن رشيف أحد هؤالء الذين نجحوا يف الوصول إىل هولندا. إنه شاعر منذ األديب الوسط عرفه املستنرصية، جامعة اآلداب كلية يف وطالب شاب

»الطبعة العريب العامل يف واالنتفاضة والطغيان احلرب والصمت، »القسوة كنعان مكية، (1(األوىل 1994 الساقي بريوت ص

)2) من هذه املعسكرات »رفحا« و«االرطاوية« التي تفيد التقارير ان عدد الالجئني اليهام بلغ اكثر من ثالثني الف عراقي.

خريف المثقف في العراق 68

منتصف الثامنينيات بوصفه مثقفا بوهيميا متمردا حييل لنمط من الشبان الذين دمرت احلرب نفسياهتم.

الجئي من أصدقائه بعض يتناقلها كان نادرة رسائل مجع الشاعر هذا املخيامت يف الصحراء السعودية ونرشها يف جملة تدعى "واحد" أسسها مع عدد

منهم عام 1997. الوثيقة بعنوان "رسائل الصحراء" وتتضمن أكثر من عرشين رسالة يبدو أن

األصدقاء تداولوها يف معسكري رفحاء واالرطاوية)1). أمهية الوثيقة أهنا ربام الوحيدة التي تتيح لنا االطالع عىل نمط التفكري الذي ورغم االنتفاضة. بعد ما معسكرات إىل جلأوا الذين املثقفون به يتحىل كان الشكوك التي يمكن أن تراود املرء يف أن تكون الرسائل قد كتبت بعد الوصول إىل املنفى بسنوات، إال أننا مع هذا نستطيع العثور عىل بعض املعطيات اجلديرة

بالتوقف. يف األصدقاء، أولئك التقاء كان إن البداية، يف رشيف، شعالن يتساءل تلك املخيامت، جمرد مصادفة، ثم جيزم أن األمر مل يكن كذلك، رغم أننا أمام

مصادفة، بالفعل. يقول "مل يكن هناك من موعد بيننا، هكذا اجتمعنا يف خميامت رفحاء واألرطاوية مثل ناجني من حمرقة، من حطام وحيد يلتقي الواحد اآلخر، يدهش يف البدء

لغرابة املصادفة ثم شيئا فشيئا بدا األمر كام لو كان متفقا عليه")2). رشيف مجعها التي الرسائل يف ترد التي اإلشارات من عددا فأن وبالفعل تؤكد ما يذهب إليه من أن" كل كان له درب أوصله إىل ذلك املكان اخلرايف،

كل له حكاية ومل يستغرق األمر سوى أيام معدودات")3). احلديث عن انتفاء عامل املصادفة، رغم أن أبطال احلدث الذين تقدمهم تلك الرسائل جاءوا من مدن خمتلفة، منفردين أحيانا، ومجاعات يف أحيان اقل، ال

)1) صدر العدد األول من املجلة يف هولندا عام 1997 واملحررون الرئيسون هم كل من صالح املزدوج نرش شعالن الثاين العدد حيثاين، فالح الصويف، محيد حداد، شعالن رشيف. ويف

رشيف ملف الرسائل املذكورة. ص 141)2) جملة »واحد«، العدد الثاين ص ص 141

)3) نفس املصدر ص152

69 الفصل الثاني / لعبة النرد

نتاج هم شبان هبا يقوم مجاعية شبه ظاهرة أمام أننا واحد: شئ سوى يعني لسياق واحد، األمر الذي يربر فكرة أن االلتقاء هناك، وسط الصحراء، مل يكن

مصادفة. عىل أن ما يعنينا من تلك الرسائل ليس، بالتأكيد، تبني مسألة اتفاق الشبان أم عدمه، عىل اهلرب معا، إنام املعني، هنا، هو البحث عن أسباب ذلك اهلرب. ولنطرح جانبا الزعم بأننا أمام هروب من قمع بسبب االشرتاك يف االنتفاضة،

رغم أن فالح الصويف خيرب أحدهم أن "أخيه أصيب بعد اقتحام املنظمة")1). للمثقفني، بالنسبة نادرة، كانت األسباب جانبا، ال ألهنا مثل هذه سنطرح بل الن بعض الرسائل، كام سنرى، ترسم حكايات ال أثر فيها ألشباح حرس

مجهوري يطاردون شعراء متمردين. جل ما يمكن العثور عليه بوفرة هو صورة مثقف بوهيمي حييا واقعا افرتاضيا ويعيش يف نطاق ذاكرة متخيلة يمكن أن توجد"هناك تلك التي أغوتنا ورصخنا

ألجلها نقطة ضوء ستتسع وتلتهم كل شئ.. الصرب أو الرضوخ.." )2). صورة بدت آنذاك، الواقع، تفاصيل عن املنفصل املثقف هذا صورة إن أنموذجية، ذلك أن هذا املثقف كان احتمى خلف جدار اللغة باكرا، وأيقن أن املثقف احلقيقي الواقع هي، بشكل ما، تعميق لصورة التسامي عىل خصيصة فألننا ذلك نقول وإذ له. تسطيحا ذاته الواقع من االقرتاب يكون ما بقدر التأثر بفعل العراق مثقفني كان شاع يف أنموذج من باألحرى، عن نتحدث، كائن إىل يتحول املثقف حيث اللبنانية بنسختها العربية احلداثة بتيار الكبري

مفارق للمجموع وراء للعامل يسبق اجلميع ويقودهم. بالتوازي مع هذا، بدا أن ثمة سياقا حمليا أخر ضغط بقوة عىل مثل هذه الرؤية، وأعطاها الكثري من العنارص حيث حتولت فكرة اخلروج من العراق من جمرد انتقال من مكان إىل آخر إىل انتقال من وضع وجودي وثقايف إىل وضع وجودي

وثقايف مغاير. نحن، باألحرى، أمام فكرة جديدة طبعت دائام بنكهة عراقية خاصة، نكهة

)1) نفس املصدر ص 159)2) سعيد، )ادوارد(،« االهلة التي تفشل دائام »ترمجة حسام الدين خضور، دار التكوين دمشق

الطبعة االوىل ص152

خريف المثقف في العراق 70

معينة. ذات مالمح هلا، هوية بالنسبة املنفى، تارخيية شكل بنامذج ربام تذكر، لنتذكر املتنبي مثال أو اجلواهري أو البيايت وسعدي يوسف، ثم لنربط بني نزعة هؤالء امليالني إىل التنقل يف املنايف وتلك اهلوية التي يبدو أهنا رسخت متاما يف تاريخ الثقافة العراقية لدرجة أن اخلروج من العراق بدا بوصفه بحثا دائبا عن

هوية حقيقية. إن املفكر إدوارد سعيد، املهجوس أبدا هبذه الفكرة، فكرة املثقف املنفي، كان تأمل بشكل معمق عددا من املشاكل ومن بينها مشكلة االندماج املفتقد لدى أنموذج معني من املثقفني يسميهم "الدخالء" إذ غالبا ما يشعر هؤالء األخريون

أهنم عىل خالف مع جمتمعاهتم، وغري متكيفني. بفكرة سعيدا يكون ألن مياال النوع،"يبدو هذا من املثقف، أن يرى سعيد التعاسة، وبالتايل يشوبه نوع من االستياء املتاخم لسوء اهلضم، أو رب من سوء

الطبع عىل نحو نزق")1). العراقيني، السعداء بتعاستهم املثقفني الفكرة تنطبق عىل عدد كبري من هذه

واملستاءون أبدا من أوضاع جمتمعهم. "آه اللعنة عىل كل شئ، نحن اآلن نقرأ يف رسائل رفحاء عبارات مثل هذه أقرب إىل انتامئنا وأقرب إىل فجيعتنا املستمرة، نعم فجيعة مستمرة، لكننا ببساطة كبرية غري قابلني للموت بل نحن قابلون للحياة وال يمكن ألي كائن مهام كان ضالعا يف القسوة أن يبعدنا ولو قليال عن الشعر، هذا الذي يمأل املكان، املكان

املتجذر يف رشاقتنا املجنونة للرمل، املجنونة بامتالء كبري")2). ال علينا من هذه اللغة اإلنشائية، لكن من الواضح أن األصدقاء كانوا سعداء بتعاستهم، وهو ديدن الكائن الذي يدعى"مثقفا". أنظروا إىل هذه العبارة "يف تؤلف التي الكيميائية مركبايت ومجيع ذرايت خالياي، بكافة وأنا املساء هذا جسدي الشاحب، أقف متنفسا مع هذا اهلواء اجلليل وهذه اللحظات احلبىل،

لكنها حبىل بامذا؟ باالنكفاء عىل عبوسة الصحراء")3). السعيد لكنه املجموع، مع توائمه عدم بسبب التعيس املثقف فكرة إن

)1) جملة »واحد«، مصدر سابق ص 152)2) املصدر نفسه ص 152)3) املصدر نفسه ص 153

71 الفصل الثاني / لعبة النرد

بتعاسته، يمكن أن جتد دائام يف فكرة العزلة الفردية بوصفها نفيا طوعيا شكال ال غنى عنه للتمظهر. بل لعل الفكرة األخرية ليست، يف حقيقتها، سوى الوجه

اآلخر لعدم التوائم مع املجموع. الوحيد للخالص من هذا البكر هو احلل البحث عن األرض هنا سيكون املنطقي أن يكون صادق زورة سعيدا املأزق الوجودي واملعريف اخلانق. ومن "وهو اللجوء إىل الصحراء وهو يسرتجع صورة شعالن رشيف، قبل حدث

يقلب املدن بأصابعه عىل اخلريطة ". زورة كان، يف تلك الرسالة، عىل يقني بأن "املالئكة متسح بلعاهبا األرض التي وعدنا أنفسنا هبا.. ذلك حق فنحن خلقنا حيامن الفاكهة وأغوينا هبا اجلامل..

فتهيأ لذلك وادخر بعض املوسيقى")1). واقع األمر أن الشعور بعدم صالحية املثقف العراقي للعيش يف جمتمعه، ومن ثم، البحث عن مسارب للتحرر كان راسخا عند اجليل الذي بقي يف العراق ولعل األمر يشري، هنا، إىل تكون شكل من أشكال اهلوية، بالنسبة هلذا النمط من املثقفني، يلخصها نزوع دائب إىل اخلروج من املكان بحثا عن أسطورة ما، حيث يغدو "اخلارج املنفى" ميدانا فعليا لتمظهر ذات حقيقية مل جتد ممكناهتا يف

السياق املحيل الذي وجدت فيه. وإذا جاز لنا التحدث عن أنامط من "اخلروج" بحثا عن جتسدات هلذه الفكرة فلن يكون من الغريب أن نقرأ تعبريا مثل "اخلروج الشعري"، مقابل اخلروج

السيايس الذي طبع جتارب املثقفني العراقيني اليساريني. االصطالح األخري، اخلروج الشعري، يعود، هذه املرة، إىل مثقف سبعيني هو

كامل سبتي، وكان هرب من العراق عام 1989. يقول "كنت أفكر باخلروج الشعري، الذين سبقوين كان خروجهم سياسيا، رضبت أحزاهبم وغادروا العراق، خرجت من العراق مدفوعا بحلم جتديدي شخيص إلنقاذ خراب ما يف نفيس ولرؤية الذي كنت أمحله عن الثقافة الغربية ما إذا كان حقيقة يمكن أن تؤسسني من جديد أو حترضني عىل كتابة أخرى")2).

)1) املصدر نفسه ص153)2) سبتي، كامل »اخلروج من العزلة ملواجهة الشاعرية احلزبية« صحيفة الزمان اللندنية العدد

1136 بتاريخ 9ـ 10 2002

خريف المثقف في العراق 72

هذا اهلاجس ربام دار يف خلد من جلأوا إىل األمريكان بعد حرب الكويت، ذلك أن اخلروج، وان مل يكن شعريا، إال أنه بدا ذا طابع ثقايف حيث السنة الصحراوية تعد، يف األخري، بتحقق حلم ال مثيل له، وكان ضمري املثقف هيمس لنفسه: "ال يمكن أن نبقى هكذا دون شوارع البد من أصابع تتلمس مرايا احلب البد من لغة تنمو يف ثياب أخرى، سنبكي كثريا قرب احتضاراتنا املبكرة، احتضاراتنا الطازجة يف ورق السليفون.. محيد كيف نفتح مدينة ونحن عشاقها الضائعون حول استهتاراتنا يف كنف اجللجلة.. هل سنبقى شاخصني خلساراتنا املتالحقة

أحالمنا املتزايدة؟ هكذا سندفن الشوارع يوما ما ونفتض بكارة األمكنة")1) ضوءا بوصفها متخيلة تبدو هناك توجد التي رشيف شعالن ذاكرة إن

بمقدوره التهام كل شئ. ينار سوى بحلم الوصول إىل أوربا. لكن ذلك لن احلال أن هذا الضوء ال يكتب "أمتنى لك جلوءا طيبا")2)، حيدث دون متني احلصول عىل جلوء طيب: أحدهم مازحا ويأيت ذلك بالطبع، بعد ممارسة هجرة حلمية:" نلتقي يف مكان الطبيعي حقنا ألنه ذلك حيدث أن بد ال النقي، باهلواء مشبع دفئا، أكثر ما

باحلياة")3). لكن عىل الرغم من غلبة الطابع احللمي ألغلب الرسائل، وهو طابع ال يبدو يموء حتت بليل الطفويل اآلرس، شارع "احللم بـ مثقفني مأخوذين غريبا عىل اخلطى وأنت تزيح الضباب واملوسيقى ومتص البياض)4). عىل الرغم من هذا الطابع، ثمة جانب إخباري ملئ بعبارات أخرى تستعيد بعض واقعية احلدث:" مل تكتب يل متى خرجت من العراق؟ وأين كنت أثناء االنتفاضة؟ وهل رأيت فاضل اخلياط؟ وملاذا مل تذهب مع عبد اهلل إىل إيران ما دمت قد كنت معه؟ وهل

هناك أمل أن ترحلوا إىل إيران أو سوريا؟")5). ويف حلظة أخرى، يبدو بعضهم غري مصدقني لوجود أصدقاء "أنا هنا يف هذا

)1) جملة واحد، مصدر سابق، ص »153 )2) املصدر نفسه ص151

)3) املصدر نفسه ص 151)4) املصدر نفسه ص147

)5) املصدر نفسه ص 149

73 الفصل الثاني / لعبة النرد

املكان األسطوري ومعي عقيل، فالح، عامد، صالح حيثاين، أصدقاء آخرون وحشود هائلة من اململني والسلفيني واملرىض واملتصحرين قبل الصحراء ")1). وللمرء أن يتخيل ما رآه املرسل املثقف يف ذلك املخيم: متدينون، منحطون، حقيقيون ثوار مجيعا، هؤالء وقبل جمرمون، اجتامعي، اضطهاد من هاربون

قادوا االنتفاضة وهربوا بعد فشلها. واختالفه املثقف تفرد فكرة أن هو وغريها، الرسالة هذه يف يالحظ، ما والسفلة اململني بأولئك يتعلق األمر ال للعيان. بارزة تبدو جد املجموع عن واملرىض واملتصحرين، إنام تشمل، ربام، مجيع، من يقع خارج الدائرة الضيقة ملا يظن أهنا إنتلجنسيا تتجاوز يف اهتامماهتا وأسئلتها اهتاممات العاديني ومهومهم. منوية حيوانات جمرد وكأهنم الرسائل إحدى يف يبدون األخريين ان بل متحفزة ال أكثر. يقول خضري النزيل واصفا حلميد حداد بعض مصاعبه النفسية بسبب وجوده يف خميم واحد مع هؤالء العاديني "عىل أية حال، أنتم أسعد حظا مني طاملا إنكم معا، أما أنا فكل الذين حييطون يب لدهيم ثقة عمياء بام خيبئونه حتت رساويلهم، بدأت أعلم بعضهم القراءة، وأطلعهم عىل حكايات ألف ليلة

وليلة يف حماولة يائسة لتقليم أظافرهم ")2) وكبح العاديني أظافر تقليم الشاعر، حيملها التي ذاهتا الرسولية املهمة إهنا

مجاع حيوانيتهم. عىل أن مجيع هؤالء، سواء كانوا مثقفني رسوليني أم أناس عاديني، كانوا يف يتداول شعالن رشيف وصالح حيثاين الذين الصحراء الوفود، وفود انتظار

وفالح الصويف أخبارهم بكثري من القلق. للجوء، املانحة البلدان ترسلهم الذين املستشارون أولئك املقصود،هنا،

عادة، إىل املناطق املنكوبة لدراسة ملفات الالجئني والبت هبا.إن القلق من أن ال تؤيت املغامرة أكلها يبدو طاغيا عىل بعض الرسائل، لنقرأ السفارة إىل بفاكس إلينا الوفود حواس استدراج "حاولنا أحدهم يكتبه ما / 15 يف سيعودون األمريكي، الوفد إىل سلمت طلبات وثالث األمريكية

)1) املصدر نفسه ص 150)2) املصدر نفسه ص 150

خريف المثقف في العراق 74

7 وربام معهم أسامؤنا، العارفون أكدوا لنا جدوى ما فعلنا، افعلوا أنتم أيضا وال تصمتوا، إذا قابل أحدنا فليذكر اآلخر يف املقابلة، املقابلة جدية، العارفون

أكدوا لنا.. ")1) أن أطرق أي "مل أحاول يأسا من بني زمالئه فيبدو األكثر أما صادق زورة باب ليقيني أن ذلك غري جمد، يف البداية كنت أكتب للشعب رسائل باإلنكليزية ومتشاهبة تقليدية الردود وكانت جنيف يف السامية واملفوضية السفارات إىل

تنبئ بأيام عجفاء")2) اآلن يمكن االنتهاء من قراءة الرسائل بكثري من الثقة: إن جلوء أولئك املثقفني إىل األمريكان مل يكن هربا من موت حمقق، رغم أن اآلالف من "العاديني" كانوا سيقتلون حقا لو ظلوا يف العراق، وعلينا لكي نتأكد، من هذه الفكرة، الذهاب إىل ذاكرة كاظم طوفان، أحد الشعراء الذين جلأوا إىل القوات األمريكية، هاهو ذا يرسد لشعالن رشيف حكاية قيامه باملغامرة، "الليل كان مجيال، لذلك طرق يرجتف كان زورة، صادق وجدت خرجت صباحا، اخلامسة الساعة الباب آخر يف أديب وانتظرنا حقيبتي وجلبت دخلت أكلمه، مل سيجارة، وبيده الشارع، كانت فكريت، ومع أول خطوة لثالثة خرجوا يف ليل اليوم األول من نيسان، سمعنا عويل نساء من بيت جماور كان مع صادق درهم واحد، بتنا ليلتنا يف فندق يف النارصية، ويف اليوم التايل وصلنا إىل األمريكان، كان حلام خرافيا

قد حتقق")3)

وفود عمان ثمة وفود أخرى الصحراء، كان انتظرها مغامرو التي الوفود بموازاة تلك الوحيدة النافذة األردن، باجتاه بغداد من تتسلل وهي مراقبتها يمكن خمتلفة

املتاحة أمام العراقيني يف تلك األيام. كان أبطال تلك الوفود هم املثقفون أنفسهم، هذه املرة، أولئك الذين قرروا

البقاء يف العراق بعد حرب اخلليج الثانية ألسباب عديدة.

)1) املصدر نفسه ص 155)2) املصدر نفسه ص 153)3) املصدر نفسه ص 148

75 الفصل الثاني / لعبة النرد

إتاوة فرضت السلطة أن فعدا آنذاك، للغاية صعبا الفردي االنسالل كان باهضة تتجاوز مائتي دوالر ملن يرغب باستصدار جوازات سفر، كانت هناك قيود أمنية وقانونية كثرية فرضت، فبعض املوظفني كاألطباء والضباط وعلامء إىل باإلضافة العراق، بمغادرة مل يكن هلم احلق العليا الشهادات الذرة ومحلة

تلك القيود التي طالت ذوي امللفات السياسية القديمة. الصائغ عدنان أمثال عامن يف املستقرين فأوائل برسعة، عولج ذلك لكن وعبد الزراق الربيعي وفضل خلف جرب وغريهم بدءوا يف استثامر صداقاهتم إما عراقيني أدباء إىل دعوات لتوجيه األردنية املؤسسات يف املتنفذين مع مثل املؤسسات بعض عىل ضيوفا ليحلوا أو هناك مهرجانات يف للمشاركة

بيت الشعر األردين)1)وبالفعل نجحت الفكرة نجاحا منقطع النظري وصارت الدعوات ترتى تباعا إىل وزارة الثقافة واإلعالم ليسافر عرشات املثقفني العراقيني حتت سمع السلطة وبرصها. وألسباب سنحاول التبرص فيها، كانت املوافقات تتم دون إثارة أي نوع من أنواع العراقيل وصار بإمكان املثقفني التخلص هنائيا من عبء الرضيبة

املالية الباهضة واللحاق بزمالئهم يف عامن. متثله كانت ملا بديال آنذاك، العراقيني، للمثقفني بالنسبة عامن مثلت لقد كانت وكام اليساريني. السبعينات مهاجري من لسابقيهم بالنسبة بريوت بريوت بالنسبة ألولئك حمطة عبور إىل بلدان أوربا أو غريها، ستمثل عامن، هي أو أو هولندا السويد أو الدنامرك بلدان جديدة مثل إىل األخرى، حمطة عبور

كندا أو الواليات املتحدة. التساؤالت التي تثريها الظاهرة، ظاهرة اهلجرة من العراق بموجاهتا املتعاقبة، كثرية لكن أبرزها يتعلق بموقف السلطة البعثية من تلك اهلجرة فقد بدا وكان السلطة غضت الطرف رغم علمها األكيد بنية املثقف الذي يتدبر أمره بأعذار

كثرية للخروج من العراق. ال خيتلف األمر هنا كثري اختالف عن موقف السلطة من هجرة اليساريني يف

هناية السبعينات عن هجرة الحقيهم من مثقفي التسعينيات.

)1) هادي احلسيني احلياة يف احلامية الرومانية موقع كتابات 26 أيار 2009

خريف المثقف في العراق 76

إن" هذا السبعينات عراق من اهلرب أيام تستذكر وهي سعيد هاديا تقول صورة له تلتقط أن تستطيع ال انك أي السطح فوق مجاعيا يكن مل اهلروب كان لكنه اليهودية اهلولوكست مآيس صور أو الفلسطيني كالتهجري وثائقية كردستان، السورية، احلدود مبعثرة: جغرافية مسارات له اختذ مقنعا هروبا ينتمي ما منها وأساليب وبطرق ورشقا شامال أي اإليرانية،ألردن، احلدود إىل أساليب الفرار من اخلدمة العسكرية ومنها ما يشبه ترصفات طفل خائف مذعور قتل أهله ومنها ما يتكئ عىل كذب برئ ومفضوح خوفا من إعدام البد

منه")1). وتواصل سعيد مركزة عىل التفاصيل أنه من بداية عام 78 "تتبعت إىل أساليب اهلروب: إجازات مرضية، إجازات بدون راتب، توسط للحصول عىل منحة

دراسية يف اخلارج، سفر طارئ أو مفاجئ بسبب وفاة أو زفاف ")2). غري أنه من املهم التأكيد، هبذا الصدد، أن مثقفني قالئل فقط هم الذين هاجروا بطرق غري رشعية، كام جرى مثال مع الشاعر برهان الشاوي الذي هرب مشيا

عىل األقدام إىل إيران بعد تعرضه لتجربة رهيبة عىل أيدي رجال األمن)3). من وانطالقا وبرصها السلطة سمع حتت سافروا فقد املطلقة األغلبية أما مطار بغداد، بجوازات سفر رسمية أو حتى بإيفادات من قبل السلطة كام جرى مع فاضل العزاوي الذي ذهب إىل أملانيا إلكامل دراسته اجلامعية أو شوقي عبد

األمري الذي سافر إىل باريس ملهمة مشاهبة. املوقف من مهاجري السبعينيات مل يكن ليختلف يف شئ عن موقف السلطة من الحقيهم، فغض الطرف تواصل من لدن السلطة رغم علمها األكيد بنيات املهاجرين فهم ما أن يصلوا دولة أوربية ويرتبوا أمر إقامتهم هناك حتى يعلنوا

موقفهم الرافض للسلطة. وإذ يتساءل املرء عن علة هذا الصمت البعثي ستتبادر إىل الذهن فورا تلك الفكرة التي ترى أن سلطة البعث مل تكن معنية يوما هبجرة املثقف أو بقائه، هي

)1) سعيد، هاديا »سنوات مع اخلوف العراقي »دار الساقي ص17. )2) املصدر نفسه، ص 18

)3) العزاوي، فاضل »الروح احلية، جيل الستينات يف العراق« دار املدى الطبعة االوىل 1997 ص 272

77 الفصل الثاني / لعبة النرد

ال تتعامل معه كام تتعامل مع الساسة السابقني مثالـ فهؤالء األخريون يقيدون يف سجالت منع رسمية تصدرها اجلهات األمنية وتعمم عىل مكاتب إصدار اجلوازات، كذلك األمر مع الضباط وعلامء الذرة وغريهم ومن املستحيل أن

يفكر هؤالء جمرد تفكري يف السفر من العراق. األمر هذا مل حيدث مع املثقفني، سواء كانوا مغمورين أم مشاهري عدا أسامء قد ال تتجاوز أصابع اليد الواحدة، كالشاعر مظفر النواب الذي استثني من قبل

صدام حسني وسافر. رسد تعيد ربام هجرهتم من سنوات بعد املثقفني كبار كتبها التي املدونات الوقائع. فهذا هو سعدي يوسف مثال، أبرز شعراء احلزب الشيوعي يطرق بابه، كام يروي ويطلب منه بعض املثقفني البعثيني االنتساب إىل احلزب احلاكم عام

1979 ثم يمهل عرشة أيام، فإن مل يستجب، تولت أمره جهة أمنية. يرفض سعدي األمر، وقبل انتهاء املهلة، يودع الرجل مدينته البرصة ويرزم

حقائبه مهاجرا من العراق)1). من نفسه منع املرء يستطيع لن املتكررة، احلكاية تلك عن النظر وبغض التساؤل: كيف لسلطة عرفت بقسوهتا مثل سلطة البعث أن تسمح هبرب رجل

تكاد أوراقه تتحول إىل جهة أمنية! إن ما جرى لسعدي يوسف كان جرى، بطريقة أو بأخرى، آلخرين غادروا

العراق دون أن تلتفت هلم السلطة أو متنعهم! حلظة الفاصلة، اللحظة تلك استعادة بصدد وهي تذكر، سعيد هاديا إن اهلرب من العراق، أن طارق عزيز الذي كان يعد أرفع مسؤول ثقايف يف ذلك الوقت، كان سأل، ذات مرة عن هذه الظاهرة، ظاهرة هروب املثقفني فأجاب بأنفسهم، مل يطردهم أحد ومل يغضبهم أحد، هم اختاروا ترك "هؤالء خرجوا

جنة الوطن، فليخرسوا أذن نعيم التمتع باالنتامء إليه")2). معارضة أية صديقي سنوات"يا بعد بندر رعد طرحه كان الرأي نفس العراق من خرجوا وقد الدولة دوائر يف موظفني مجيعهم كانوا يزعمون..

)1) يوسف، سعدي »خطوات الكنغر« دار املدى، الطبعة األوىل 1995 ص)2) سعيد، هاديا، مصدر سابق ص 18

خريف المثقف في العراق 78

بإيفادات رسمية موقعة من وزير الثقافة.. أعطني اسام واحدا كان يف سجون يتالهث كان حينام رقبته عىل النظام سيف كان واحدا اسام أعطني النظام.. العراقية الرئاسة من شهري راتب لديه يكن مل واحدا اسام أعطني للكتابة.. سواء أكان يعمل أم ال يعمل، كلهم كانوا يتاجرون بادعائهم االضطهاد والقمع أية عن الرئاسة.. من رواتبهم تستلم وزوجاهتم اخلارج يف األفواه وتكميم

معارضة يتحدثون.. ال أدري..." )1) ليس هذا فحسب، فرعد بندر يزعم أن وزارة الثقافة عملت، يف التسعينات، توقفت التي األدبية املجالت كافة فأعيدت املناسب لألدباء املناخ توفري عىل جديدة مديات وفتح جديدة أفكار طرح وتم احلصار بسبب الصدور عن الثقافية الساحة ظهروا عىل األدباء من االنفتاح جمموعة هذا جراء فتشكلت

العراقية بقوة. ويكاد بندر جيزم أن أغلبيتهم مل يكونوا بعثيني وأنه تم طبع جماميعهم الشعرية والقصصية والنقدية وأمسكوا بزمام املبادرة الثقافية دون أن تفرض عليهم أية "أكثرهم حني خرجوا من العراق ولكي يضفوا عىل اشرتاطات. واملفارقة أن أنفسهم صفة معاريض الداخل كانوا يتاجرون بإصداراهتم التي صدرت هلم يف

العراق عىل أهنا كتابات معارضة لكي يمنحوا اللجوء")2). واقع األمر، وبعيدا عام يقوله رعد بندر، فإن اآلراء التي يمكن أن تتبادر إىل الذهن عن سبب سكوت السلطة عن خروج املثقفني العراقيني سواء يف عقد السبعينات ام التسعينات، وبغض النظر عن صحة ادعاء هذا الطرف أو ذاك، كانت كثرية لكن أقرهبا إىل احلقيقة أن السلطة حني فعلت ذلك، يف السبعينات، فألهنا أرادت التخلص من آخر بقايا التعددية يف الثقافة العراقية بعد أن قضت

عىل التعددية ذاهتا سياسيا. بالنسبة جرى، ما أن عرفنا ما إذا ويتأكد سيقوى الرأي هذا مثل لعل للشيوعيني، كان جرى بالنسبة لآلخرين أيضا ومنهم اإلسالميون والليرباليون

بل حتى القوميون من ذوي النزعة الليربالية.

)1) بندر، رعد، صحيفة الرياض العدد 13534 يوم اخلميس 14 يوليو 2005)2) املصدر نفسه

79 الفصل الثاني / لعبة النرد

العراق ستينيي من اجلبهة رفاق عىل ينطبق الذي الرأي هذا فأن باملقابل، وسبعينييه ال يمكن أن ينطبق عىل الحقيهم من مثقفي الثامنينيات والتسعينيات. ذلك أن األخريين ظهروا يف مناخ خمتلف: بدل الرصاع الثقايف البارز والتعددية اللذين كانا سمة السبعينيات، كان ثمة أحادية مطلقة يف الثامنينيات والتسعينيات. غري أنه، باملقابل، كانت هناك أسباب أخرى ال تقل أمهية عن تلك الرصاعات. واحلديث سينصب، هنا، عىل جانب عظيم األمهية هو اجلانب االقتصادي: بدل الوسطى عموما بحثا الطبقة املثقفون وأبناء اهلرب بحثا عن احلرية، سيهرب عن الرخاء. وبدل اهلرب بحثا عن تعدد مفتقد، سيهرب املثقفون بحثا عن لقمة

خبز شحيحة. إن نظرة عابرة عىل عراق ما بعد حرب اخلليج األوىل ستبني أن تدهورا هائال

قد طرأ عىل كل مناحي احلياة بام يف ذلك االقتصاد. بعض أن لدرجة األرصفة عىل الرزق يلتمسون بدءوا املوظفني صغار يكنزون "وكبارهم بسطية املليون "بلد تسمية العراق عىل أطلقوا الساخرين من املال العام وجياهدون يف نقلها إىل خارج البالد، ضباط اجليش الذين باتوا أضحوكة يف تلك احلرب بسبب جميئهم من جبهات القتال حفاة األقدام بدءوا

يف امتهان أعامل مزرية، بالنسبة هلم، من قبيل السياقة. نتائج بوصفها معها التعاطي العراق عىل كان مرعبة أرقام هنا، لدينا، حلرب السنوات الثامين، فالعراق الداخل إىل احلرب بجيش يبلغ عديد جنوده

222000 رجال كان خرج، من تلك احلرب، بام يقارب املليون جنديا. العراق احلرب بمدخرات تبلغ أربعني مليار دوالر ويف الوقت الذي دخل كان عليه اخلروج، من تلك الكارثة، بمديونية ترتاوح بني ثامنني إىل مائة مليار وتبلغ الظهر تقصم املدينة للدول خدمات تسديد عليه كان انه علام دوالر.

سنويا ما يقارب عرشة مليارات دوالر)1).وتدمري الكويت غزو بعد تضاعف كان الكامل االقتصادي االهنيار هذا البنى التحتية للدولة وحتويلها إىل شبه عاجزة عن إدامة حياهتا وحياة مواطنيها.

ينظر وللتفصيل يف ذلك »الطبعة األوىل ص 35 وأيضا تلد أخرى البزاز، سعد، »حرب (1(الفصل األول من الكتاب

خريف المثقف في العراق 80

لقد ارتفعت معدالت التضخم بشكل غري مسبوق لدرجة أن العملة املحلية اهنارت متاما ومل يعد أمام احلكومة حل سوى طبع عملة ورقية دون غطاء.

مثل هذه الظروف غري املسبوقة أثرت بشكل مبارش عىل كل رشائح املجتمع السيام الكسبة وصغار املوظفني. فالقدرة الرشائية انخفضت لدرجة أن راتب املوظف احلكومي مل يعد يساوي أكثر من ثالثة دوالرات أمريكية، األمر الذي أدى إىل استرشاء الفساد اإلداري يف كل مفاصل الدولة وظهور مهن حقرية مل

يكن يعرفها العراقيون قبل هذا الوقت مثل "الدوارة" وباعة األرصفة)1)وبام أن املثقفني كانوا بغالبيتهم املطلقة تنتمي إىل تلك الرشحية املنهارة، فقد

توجب عليهم البحث عن حلول حتى وان متثلت ببيع كتبهم عىل األرصفة. النتيجة: تصاعد موجة اهلجرة إىل بلدان أوربا وأمريكا واسرتاليا وكندا وحتوهلا إىل مشكلة تعاين منها بعض تلك الدول. واإلحصائيات تفيد هبذا اجلانب أن عدد طالبي اللجوء يف أوروبا، يف عقد التسعينات، ارتفع إىل 191040 مقاربة بـ 24750 يف عقد الثامنينات. وكان 50 ألفا آخرون قد وصلوا إىل الواليات

املتحدة وبضعة آالف يف اسرتاليا ومثلهم إىل كندا)2).

التجربة الليبية من بني مجيع هذه الدول تبدو التجربة الليبية جديرة بالتأمل، ال بسبب ضخامة أعداد املهاجرين إىل ذلك البلد فقط، إنام بسبب ما رافق جتربة السفر من ظواهر

وأبرزها اختاذ تزييف الوثائق الرسمية سبيال للنجاة من اجلحيم العراقي. ما هذا لكن ليبيا، احلل يكون أن آنذاك، ذهنه، يف ليخطر يكن مل أحدا إن النفطي الصحراوي، البلد ذلك فتحت سفارة جرى صيف عام 1994حني استعدادها عن معلنة العليا الشهادات ومحلة املدرسني أمام بوابتها أيضا،

الستقباهلم وتوظيفهم برواتب مغرية.

التفاصيل ينظر »صدام اخلارج من حتت الرماد.. والدة صدام حسني من جديد )1) ملزيد من »للمؤلفني اندرو كوكبورن وباتريك كوكبورن ترمجة عيل عباس مكتبة مدبويل القاهرة دار

املنتظر بريوت الكتاب خال من سنة الطبع. ص 210 اىل ص220)2) للتوسع يف هذا املوضوع ينظر نعمة فياض )هاشم(، »العراق دراسات يف اهلجرة السكانية

اخلارجية »دار الرواد للطباعة والنرش بغداد سنة 2006 ص 9

81 الفصل الثاني / لعبة النرد

حيثيات االنفتاح الليبي جتاه العراقيني تستحق وقفة قصرية، فقد حدث أن طرد الزعيم الليبي معمر القذايف مجيع الفلسطينيني العاملني يف ليبيا كمعلمني وحماسبني وموظفني بدرجات أدنى. وفهم ذلك كنوع من أنواع االحتجاج عىل

اتفاق القيادات الفلسطينية مع إرسائيل يف ما عرف باتفاق أوسلو. ما جرى أن جلنة ليبية ذهبت إىل العراق لغرض التعاقد مع عراقيني ليحلوا

حمل الليبيني")1)كان احلدث صاخبا، فقد صار عىل السفارة استقبال آالف الطلبات يف ذلك الصيف الساخن، طلبات تقدم هبا مدرسون قدامى وخرجيون جدد وأكاديميون وأصحاب شهادات مل حيصلوا عىل وظيفة يف العراق. وبالفعل ما إن حل موعد بدء السنة الدراسية حتى ذهب املدرسون املحظوظون إىل العاصمة األردنية،

بعد تأشري جوازاهتم، ومن هناك إىل صحارى ليبيا عرب الطائرات. كل ذلك عىل نفقة الكليات واملدارس التي استقدمتهم، عىل أن يستقطع كل

شئ من الرواتب التي ترصف هناية العام الدرايس. كانت عقود العمل املذكورة حلمية بكل معنى الكلمة، ففي العطلة الصيفية أن املرء الدوالرات، وعىل أهليهم ويف جيوهبم آالف املدرسون زار الالحقة خرافية معدالت التضخم نسبة فيه بلغت لبلد بالنسبة ذلك يعنيه ما يتخيل

حيث الدوالر يعادل قرابة ثالثة آالف دينار عراقي. ووجد الليبي، احللم بوابة عىل املتزامحة اآلالف تضاعفت التالية السنة يف العديد من املثقفني ضالتهم السيام مدرسو اللغة العربية واإلنكليزية املفضلون

لدى الليببني، وأولئك الذين حتصلوا عىل شهادات املاجستري والدكتوراه. كان احلل رائعا ومثاليا، نقصد أن يذهب نقاد أمثال عبد اهلل إبراهيم وفاضل ثامر وسعيد الغانمي وغريهم للعمل كمدرسني يف الثانويات الليبية أو أساتذة يف اجلامعات واملعاهد برواتب قد تصل إىل 600 دوالر، أي ما يعادل مليوين تلك عراق يف يتجاوز، ال كان املوظف راتب إن علام شهريا، عراقي دينار

األيام، دوالرين أو ثالثة أو حتى مخسة يف أفضل األحوال. التجربة ووصل عدد كبري من املنتفعني من تلك ازداد عدد التالية السنة يف

)1) ينظر »صدام اخلارج من حتت الرماد »ص 210

خريف المثقف في العراق 82

املثقفني العراقيني، ومن كافة األجيال، إىل ليبيا، ثمة ناظم عودة، حسن ناظم، يوسف إسكندر، خزعل املاجدي، عبد األمري جرص، غريب إسكندر، كريم شغيدل، خالد جابر يوسف، عباس العامري، عيل حاكم، باقر جاسم، صالح

هويدي، سمري اخلليل، سعيد الغانمي، فاضل ثامر وغريهم. ليبيا إىل للوصول جتاوزها املثقفني أولئك عىل كان مشكالت ثمة أن عىل وهي حتصيل شهاداهتم الدراسية من جامعاهتم، ومن ثم تصديقها لدى وزارة التعليم. وبام أن القانون كان يمنع استصدار الشهادات، السيام بالنسبة لبعض يتم كأن رشعية، غري طرق إىل الركون املثقف عىل كان فقد االختصاصات، الشهادات عن متييزها يصعب شهادات لتنظيم حمرتفني مزيفني مع التعامل

األصلية. أبطال هذا احلل كانوا، يف الواقع، فنانني تشكيليني استثمروا الفرصة كأحسن مهمتها وكانت رسي بشكل تعمل صغرية ورش منظومة وشكلوا يكون ما للزبائن تقديم خدماهتا ثم، دقيقة، ومن بطريقة الرسمية إعادة صنع األختام يف الرسامني وعامرات الثورة مدينة يف الكائن "مريدي" سوق وكان اجلدد.

منطقة الكرادة أشهر مكانني لتعاطي هذه الظاهرة. فقوانني السبل هذه مثل انتهاج إىل مضطرين واملثقفون املدرسون بدا لقد الدولة منعتهم من احلصول عىل شهادات التخرج وتصديقها، يف وقت فرضت قوانني أخرى متنع سفر ذوي بعض االختصاصات أو تضع قيودا عىل املوظفني

يف الدوائر. كان تزييف األوراق الرسمية احلل الوحيد املتاح يف مثل ذلك الوضع.

وكام هو متوقع، حدث أن أغرت سهولة احلصول عىل وظيفة مدرس يف ليبيا، من جهة، وتيرس احلصول عىل شهادة مزيفة، من جهة أخرى، مثقفني آخرين، ال يملكون مؤهالت دراسية، لطرق باب املغامرة والذهاب مبارشة إىل ليبيا بعد تدبري شهادات مزيفة وتقديم أنفسهم لليبيني بوصفهم أصحاب شهادات عليا. وكان عليهم انتظار البت يف طلباهتم يف البلد نفسه وليس يف العراق كام جرى

للدفعات األوىل املهاجرة. عبور عىل املثقفني من العديد أقدم املقامرة، بل املغامرة، الروح هذه بمثل البحر انطالقا من ميناء العقبة األردين وصوال إىل مرص ومنها عن طريق الرب إىل

83 الفصل الثاني / لعبة النرد

ليبيا أمال بإنقاذ أوضاعهم املادية املزرية. السلطات أعادهتم حني منهم املنحوسني بعض الطالع سوء رافق ولئن املرصية خائبني إىل األردن إال أن الكثريين نجحوا يف العبور وفازوا بوظائف

استطاعوا من خالهلا تسديد الديون التي أوصلتهم إىل هناك. الركون إىل املقامرة بدا، آنذاك، وكأنه اخليار الوحيد املتاح أمام مثقف بدا يف

طريقه لالهنيار متاما بسبب قهر الظروف االقتصادية.

مقهى عمان: العدميون يلعبون النرد العراقية كالذات منكرسة ذات يف املقامرة، روح استنهاض مسألة تكن مل الذين غامروا املزيفني اخلارجة من حرب الكويت، مقترصة عىل األكاديميني بالذهاب إىل ليبيا دون ضامنات باحلصول عىل عمل. إنام شملت أغلب املثقفني

الذين قرروا اخلروج من جحيم العراق اآلخذ باالتساع يوما بعد آخر. غري فصال دخلوا قد املثقفون هؤالء يكون كاألردن بلد إىل وباالنتقال مسبوق من فصول الرحلة حيث ستمتزج الروح العدمية بروح املقامرة وطابع

االنتهازية بتقلب املزاج واملواقف. إن أول مشهد يمكن أن يصادفنا يف عامن هو التايل: هنارا، عرشات املثقفني، بأيدهيم حقائب جلدية صغرية، يتحلقون حول بعض يف مقاه، مثل السنرتال، الشاي العاصمة، يتحاورون بنشاط، يرشبون الفينيق، وسط ومنتديات، مثل

ويلعبون النرد الطاويل أو الدومينو غري عابئني بشئ)1)كان اللعب جادا وذا طبيعة سادو- ما زوخية حيث الالعبون يعذب بعضهم الزهو، بمشاعر أو الدنانري، من عدد خسارة أمل األمل، بمشاعر ملتذين بعضا

وأحيانا بمشاعر الشامتة والتشفي. كانت احلظوظ تتأرجح ومعها تتأرجح ضحكات النرص أو مههامت اهلزيمة. وكان ثمة مقامرة حقيقية، ال رمزية، ال بالدنانري فقط، بل باملصائر واحليوات

املنفلتة من منظومتها. أما يف املساء فلم يكن األمر ليختلف كثري اختالف عن هنار عامن العدمي،

)1) املصدر نفسه ص 210

خريف المثقف في العراق 84

فأنت إذا مددت رأسك إىل عتمة بعض البارات القريبة سرتى املثقفني أنفسهم يسرتجعون والوجود. واحلداثة الشعر يف ويتناقشون اخلمرة حيتسون وهم العريب. العامل يتوقفون عن إطرائها كوهنا أقوى هوية يف اهلاربة وال عراقيتهم ثم قبل أن يميض كل إىل شقته، خيتلفون ويتهم بعضهم اآلخر بالعاملة ملخابرات صدام، وقد ينتهي األمر بصفعة تنزل عىل هذا اخلد أو ذاك أو، بأقل األحوال

بصقة ختتلط فيها رائحة الثاملة برائحة احلقد. ويف غالب األحيان تستكمل تلك السهرات يف الشقق الصغرية التي يسكنها بعضهم بشكل مجاعي، وتقع هذه، غالبا، يف مناطق سكنية رخيصة مثل جبل

اللويبدة أو جبل عامن وغريمها.املثقفني أوائل بانحدارات تتعلق اآلن، عندها، التوقف علينا التي الفكرة الذين وصلوا إىل هناك، فمعرفة مثل تلك االنحدارات يمكن أن تفيدنا يف تبني سبب ركوهنم إىل تلك املغامرة رغم أن بعضهم مل يكن مضطرا إىل الركون إليها. وإذ نقول ذلك فألننا نريد اإلشارة إىل انحدار بعضهم من مؤسسات السلطة ذاهتا. ولنا أن نتذكر، هبذا الصدد، أدباء مثل عدنان الصائغ الذي يعده الكثريون اإلدارية اهليئة عضو الربيعي، الرزاق عبد أو املدلل، وربيبها السلطة صنيعة ملنتدى األدباء الشباب واملحرر يف جملة أسفار أو حممد تركي النصار الفائز يف االنتخابات الشهرية الحتاد األدباء وهي انتخابات جرت بتوقيع عدي صدام

حسني وبإرشافه املبارش أو حتى عباس اجلنايب، مساعد عدي املقرب. لعله من املفيد أن نذكر، ما دمنا بصدد تبني انحدارات أوائل اخلارجني من إىل فثمة، الوحيدين يكونوا مل هؤالء أن الثانية، اخلليج حرب بعد ما عراق "أدران" املؤسسة الرسمية، كام جانبهم، مثقفون آخرون عرفوا بابتعادهم عن الشاعر كاظم، أو سالم القديم، اليساري األمري، عبد أمثال عيل دائام، يشاع املنعزل منذ منتصف الثامنينات، أو املثقفون األقل شهرة أمثال صالح حسن أو

فاضل اخلياط وغريمها. فضال عن أكاديميني اختذوا من اجلامعات األردنية مالذا أبديا هلم وأشهرهم

ربام عيل عباس علوان. سلطة عىل فاملحسوبون شاسعا، كان وأولئك هؤالء بني االختالف إن الذي الشعبي الشاعر جيجان، عباس حتى أو اجلنايب عباس أمثال البعث،

85 الفصل الثاني / لعبة النرد

عرف بمدائحه لصدام حسني، ربام شعروا، بغريزة حتيل إىل خصيصة االنتهازية، أن البقاء يف سفينة جتنح نحو الغرق لن يكون جمديا بالنسبة هلم، يف وقت قرر األخريون، أمثال دنيا ميخائيل أو عيل السوداين وأمثاهلام أن املقامرة بحيواهتم البقاء يف أكثر جدوى من املجهول ربام يكون ومصائرهم والقذف هبا يف جلة

ذلك اجلحيم املادي والروحي الذي بات يمثله العراق. وأولئك هؤالء حتلق الواقع، يف لتمنع، تكن مل اجلذرية االختالفات هذه ثم، عىل واملراهنة، من النرد، لعبة نفسها، اللعبة ذاهتا وممارسة الطاولة حول

رميات احلظ التي يتيحها "الزار".لفهم اآلن رضورية تبدو العدمية وألعاهبا املقهى إىل العودة أن ويبدو سيكولوجية أولئك املقامرين السيام الذين سارعوا بإعالن موقفهم من سلطة

البعث وقطعوا طريق العودة لبغداد هنائيا. قدر تعلق األمر هبذا املنطق، يبدو أننا سنكون أمام شكل صادم من أشكال العدمية. ففي الوقت الذي قرر املثقف ترك قياد قدره بيد املصادفة، مل جيد أفضل باحتامل عابئ غري الغامضة هنايتها إىل املقامرة، لعبة اللعبة، مع الذهاب من

خسارته كل شئ. نحن، باألحرى، إزاء املقامرين أنفسهم الذين كنا عرفناهم دائام. اهنم العبو أو أرباح ومعها السيئة، أو احلسنة حظوظهم انتظار أدمنوا الذين "الريسز"

خسائر،غري متخيلة. إهنم الالعبون أنفسهم يظهرون فجأة يف حمطة االنتظار األردنية، بعد أن ظهر

زمالؤهم يف خميامت اللجوء السعودية. املشهد، هذه املرة، سيكون غريبا وفنطازيا:عيل عبد األمري يغالب عبد الستار نارص يف لعبة نرد تعتمد رمية حظ ال أكثر. املبلغ الذي قد يبدأ بدينار أردين ربام

يتصاعد، أحيانا، ليصل إىل مخسة عرش دينارا. يف طاولة أخرى ثمة عيل السوداين، القاص، يالعب عامد الظاهر، التشكييل،

بينام عبد اخلالق كيطان الشاعر واملرسحي، ينازل طارق احلارس، الصحفي. يمكن مقربة عىل بينام الضحكات تقارع والضحكات تتعاىل الرصخات العراقيني عن يبحثون وهم األردنيني البوليس رجال أشباح يلمح أن للمرء

الذين ارتكبوا جريمة جتاوز مدة اإلقامة الرشعية.

خريف المثقف في العراق 86

إن مثل هذه الصورة لن تستكمل ما مل نتعرف عىل اخلطوات اخلطرية التي كان يسارع املثقف العراقي القادم إىل األردن إىل اختاذها بمجرد وصوله إىل هناك.

هذا املثقف، باألحرى، كان يسارع بالذهاب إىل مفوضية الالجئني الكائنة يف منطقة الشميساين، غرب عامن، ثم يقدم أوراقه طالبا احلامية من سلطة صدام

التي يزعم أهنا تطارده لسبب ما. التفاصيل تبدأ بالشكل اآليت: يأيت املثقف إىل أماكن معينة، الساحة اهلاشمية مثال، حيث يلتقي العراقيون عرص كل يوم. وإذ يبدي هذا املثقف رغبته بالتقديم التي عليه اختاذها، عليه إىل تلك املفوضية، يبدأ األصدقاء يف رشح اخلطوات أوال ترتيب "قصة" تربر أسباب هربه من العراق، قصة يكون هو بطلها املطارد، ثم عليه تدبري وثائق تدعم قصته، وأخريا، يتوجب عليه إعالن موقفه من النظام يف صحيفة أو جملة وغالبا ما تكون "أوراق ثقافية" أو "املسلة" أو "الزمان" أو "الوفاق" أو "بغداد" او"نداء الرافدين" او"املؤمتر" رغم أن األخريتني مل تكونا

رائجتني يف بورصة املتزامحني عىل "إعالن املواقف". املفوضية قضايا يف عريضة خربة إىل حتتاج الرتتيبات هذه مثل أن وبام وقصص الالجئني املأخوذ هبا، فقد شاع يف عامن وجود "عارفني" أو "خرباء" عرب األصدقاء بيد األخذ هي هؤالء مهمة وكانت أنفسهم. املثقفني بني من

تقديم النصائح واإلرشادات أو "بيعها" أحيانا. يتجاوز يكن مل إذ زهيدا كان الرضورية النصائح تلك مثل ثمن أن ورغم من سواء املفوضية، إىل املتقدمني كثرة أن إال مخر" "زجاجة أو دنانري مخسة رشحية املثقفني أو غريهم، صعد من وترية تلك األعطيات وضاعفها، خصوصا

يف الفرتات التي تفتح املفوضية باب القبول عىل مرصاعيه. لعل مثقفي عامن، يف أعوام 99 إىل 2001، يتذكرون جيدا الدور الذي لعبه النواب من بعده، وقبلهام شاعر شعبي يدعى الشاعر ستار موزان، ثم حسن صالح اجليزاين، يف بيع "القصص"لعدد كبري من املتقدمني وكتابة املوضوعات

املضادة للسلطة وتسهيل نرشها هلم يف صحف كالزمان والوفاق وبغداد. عىل للحصول مثىل كطريقة النرش بجدوى جازم اعتقاد آنذاك ساد لقد املضادة مواقفهم عن املعلنني أن املفوضية العتقاد راجع وذلك اللجوء،

للسلطة سيتعرضون خلطر اإلعدام إذا ما أعيدوا إىل بالدهم.

87 الفصل الثاني / لعبة النرد

عدم مع حتى املساكني هؤالء محاية إىل مضطرة ستكون املفوضية فان لذا اقتناعها بقصصهم.

بدت بطريقة شاع كان املزعوم، االضطهاد قصص القصص، تلفيق إن مضحكة يف أحيان كثرية.

للمرء أن يطالع األعداد التي صدرت من "أوراق ثقافية"، وهي نرشة تسحب "الفويت كويب"، تصدر من قبل مكتب حركة الوفاق الوطني يف عامن، بطريقة من املفوضية هبا أقنعوا املثقفني أن يبدو التي القصص عرشات عىل ليتعرف

خالهلا باحلصول عىل محايتها. بعد، فيام كندا إىل سافر معروف ملحن وهو ماجد، رسور رتب كيف لنر أنني املشكلة لكن أغاين مجيلة إىل أخرى "كنت أحلن من فرتة يقول حكايته. مل أجد منفذا إلخرج هذه األغاين إىل الناس.. كام أن عدي كان يصدر األوامر للشعراء وامللحنني املعتمدين لكي يكتبوا أو يلحنوا للغناء املتخلف أما بالنسبة املتخلف وقد ال البديل ملوقفي الشخيص فقد حاولت كثريا االبتعاد عن هذا التي أحلن من خالهلا أن أقطع أصابعي أنني قررت يف يوم من األيام تصدق وبالفعل فقد حاولت ذلك ولكن انتابني اخلوف أثناء التنفيذ ومل يقطع إال إصبع

واحد وكرس إصبع آخر..." )1). الثامين السنوات حرب خملفات من تكون قد التي املقطوع اإلصبع قصة القصص عرشات فثمة طبعا. األغرب تكن مل أصابعهم، اآلالف فقد حيث التي تدور حول الثيمة ذاهتا: الصدام مع السلطة ومن ثم اهلرب منها والوصول

إىل األردن. كانت املقابالت الصحفية املشبعة بمثل تلك احلكايات تبدأ، دائام، بالسؤال بالنسبة رضوريا بالذات الفرتة هذه يف العراق من خروجك كان "هل ذاته شاب تلفزيوين خمرج وهو آكوب فائز إىل املرة، هذه موجه، السؤال لك؟". يبدو من سياق احلوار الصحفي إنه" كان مرغام عىل ذلك اخلروج ألن النظام بدأ بتطويق كل إبداع وخنقه ويعرف اجلميع الدور التخريبي الذي قامت إذاعة

)1) ال توجد مدونات كثرية حول هذا األمر سوى عدد من املقاالت الصحفية والشهادات منها، مثال، حتقيق كتبه الشاعر حكمت احلاج لصحيفة القدس اللندنية نرش يف صحيفة »القدس

العريب« بتاريخ 2002/6/7

خريف المثقف في العراق 88

وتلفزيون عدي للثقافة العراقية")1). أدق عن بفضول يسأل إنام بالعموميات املحاور يكتفي ال وكالعادة، املثقف اهلارب. يسأل املؤكد أهنا ستخدم قضية التفاصيل، وهي تفاصيل من املحاور بفضول كيف؟ فيجيب آكوب" لن أحتدث عن حفالت التعذيب التي تعرض هلا املخرجون أمام العاملني ولن أحتدث عن زجهم يف سجن الرضوانية الفن يلجم أن يعقل فهل احلرية، سقف عن أحتدث أن أريد ولكن وغريه..

املعتمد عىل املخيلة برشوط غبية بل ويف أحيان كثرية مضحكة")2). إن جلم الفن واحلديث عن سقف احلرية املفقود يف العراق كانا قد تكررا كثريا يف مئات املدونات التي عول عليها إلنجاز املهمة، مهمة احلصول عىل اعرتاف

املفوضية. لكن ذلك قد ال ينفع أحيانا إذا ما صيغ بعبارات ملتوية حتتمل أكثر من تأويل، عبارات مثل هذه التي تعود إىل عيسى حسن اليارسي حني سأل يف حوار عام يقصد من "عودة أيوب" وهي قصيدة كان كتبها الشاعر قبل سفره من العراق. يقول:" أيوب أنا، وأيوب أنت وأيوب هو صمت الوجع البرشي الذي يمتد من قطب الثلج إىل قطب الثلج، أيوب هو الفجيعة، فجيعة هذا اإلنسان الذي ظل حيمل جرحه النازف ومل جيد من يقدم له قطعة صغرية من الضامد، أيوب

هو اجلحيم الذي نقوم بني أمواجه التي تضطرم ليل هنار")3).صدام نظام تقصد انك قال ومن لليارسي يقول أن املستشار بإمكان كان حسني هبذه العبارات! أو مل ال تكون مبارشا يا رجل ما دمت ال تستطيع العودة

إىل العراق! انتهاج كان يمكن ملثل هذه االعرتاضات أن جتعل األمر عسريا ما أدى إىل لنقرأ، كمثال عىل مبتذلة يف مبارشهتا. قد تكون املثقفني أشكاال من اإلعالن ذلك، العبارة التي كتبها الشاعر أديب كامل الدين "يف الشهور األخرية صارت وبقيت العامل أرصفة عىل توزعوا املخلصة الكلمة فأصدقاء ضخمة عزلتي املغيبة القصيدة خالل من نرصخ املخلصني الشعراء من قليلة وقلة وحدي

)1) ينظر جملة »اوراق ثقافية« العدد الثالث السنة الثالثة 2001)2) ينظر جملة »اوراق ثقافية« العدد الثالث السنة الثالثة 2001 ص 33

)3) املصدر نفسه العدد العدد الثالث السنة الثانية ترشين الثاين 1999 ص4

89 الفصل الثاني / لعبة النرد

عىل هذا اخلراب العجائبي الذي طال كل شئ يف الوطن، لذلك كله كان البد من إعالن املوقف املعارض للسلطة ورموزها وقمعها بشكل رصيح. البد من الرفض القاطع للمامرسات التي حولت العراقي إىل جثة متحركة دون حلم أو

أمل أو معنى")1). ستة ومعه املفوضية إىل ذهب لشاعر بالنسبة الواضحة العبارات هذه مثل دواوين صادرة عن مؤسسات الدولة وجائزة إبداع ناهلا يف السنة ذاهتا كانت أكثر من كافية، فالرجل أديب معرتف به ولديه ما يؤيد ذلك بقوة، لكن األمر

بالنسبة ملن يشك يف كونه أديبا أو صحفيا، سيكون أصعب بكثري. لذا فإن عبارات أكثر مبارشة، خصوصا إذا تضمنت أسامء رموز السلطة مثل

صدام أو عدي أو تفاصيل من جرائمهم، ستكون جمدية أكثر. يسأل التشكييل الشاب حممد غازي محودي عن كيفية رؤيته للفن التشكييل يف عراق احلروب فيجيب: ".. والفن نتاج حربني وحصار قاس بالتأكيد خرس هو ابدا يمت. مل لكنه وإبداعات نامذج وغيبت وديمومته روحه من الكثري باق وله أثره املتميز بالقياس اىل جتارب اآلخرين كل هذا بسبب سلوك أهوج نراه الفاسدة وما وطائش وسياسيات عشوائية قادها صدام وإدارة مؤسساته من هجرة مجاعية للمبدعني مل يكن إال ردة فعل طبيعية ملا جرى وجيري داخل أسوار العراق "الوفاق السنة التاسعة العدد 391 25 كانون الثاين 2001 )2).

أقل من سنة من بعد اسرتاليا اىل الذي وصل التشكييل ذلك ما يصح عىل الصدد، هبذا ولدينا، زمالئه، من العرشات عىل ينطبق املذكور احلوار نرشه مئات األسامء مل يعرف أغلب أصحاهبا قبل وصوهلم إىل األردن، قيس هاشم، أمحد السعيد، مصطفى البهاديل، حممد املحنة، محيد الصاحلي، محزة إهياب املشعل، عدنان فالح، عامد اجلاسم، حممد عبد اهلادي الشعالن، ريسان هاشم، ياسني حممد، حممد جليل، عبد الكريم اجلنايب، حليم سليامن، صالح حسن آل بدن، حممد غازي محودي، كريم بغدادي، هدى عبد الواحد كاظم، أمحد كاظم، رسول عدنان، غازي إبراهيم، فراس حبيب، رعد الكاتب، وإىل آخر القائمة.

)1) جملة »اوراق ثقافية »العدد الرابع السنة الثالثة اذار 2001)2) جريدة »الوفاق« السنة التاسعة العدد 391 25 كانون الثاين 2001

خريف المثقف في العراق 90

املشاهري، مع جرى الذي ذاته هو املغمورين املثقفني هؤالء مع جرى ما فهؤالء وأولئك كانوا ذهبوا مع منطق املغامرة إىل أبعد مدى ممكن غري مبالني

بشئ. إهنم، باألحرى، أناس عدميون تساوت عندهم القيم يف الجدواها وعبثيتها، ومتاثلت أمام أنظارهم املصائر مجيعا فهي سواء ما مل حيالفهم احلظ لينعتقوا من

منظومة العدم التي وجدوا أنفسهم متامهني معها. حينئذ فقط يمكن أن يتغري كل شئ فتصبح احلياة ذات جدوى عظيمة.

يف مجيع األحوال، وللتذكري حسب، لنا أن نتخيل كيف أقدم هؤالء، أوال، مدخراهتم ومحلوا عقاراهتم فباعوا العراق داخل متعلقاهتم كل تصفية عىل املفوضية، ال يعولون عىل شئ قدر تعويلهم عىل رمية وأحالمهم وجاءوا إىل النرد التي حتدثنا عنها آنفا. فأن أصابت كان خريا وان فشلت فعليهم العودة إىل

نقطة الصفر والبدء من جديد. األردنيني، العسس نوبات من احليطة اختاذ املثقف عىل األثناء، هذه ويف

وتكثيف النرش وانتظار الفرج لعله يأيت من حيث ال يتوقع أحد.

قوائم عدي: الفرج أن تكون خائنا هل كانت مقامرة املثقف بحياته عديمة اجلدوى!

كال مل تكن كذلك رغم تلك األخبار التي كانت تروج، أحيانا، يف صحافة أن بعد العراق إىل تسفريهم تم الذين املثقفني بعض إعدام حول املعارضة

رفضت املفوضية االعرتاف هبم. يوجد ال أنه رغم األمر هذا مثل حدوث عىل اآلن دليال نمتلك ال إننا عاقل بإمكانه تصديق أن يستقبل مثقفون من أمثال عبد املنعم األعسم أو عيل

السوداين بالورود بعد أن سخروا أقالمهم بحدة للنيل من سلطة البعث. للمتوقع أفعال مناقضة بردود نادرة السلطة يسمح يف أحيان علام أن مزاج يف عادا ثم خمتلفة، ظروف يف كل العراق، غادرا معروفني ألديبني جري كام

تفاصيل غامضة دون أن يعاقبا. باملثقفني األمر تعلق طاملا جدا فعاال سيكون باألحرى، السلطة، مزاج املشاهري وذوي التأثري. أما أولئك املغمورون ممن ال تتوفر لدى مديرية األمن

91 الفصل الثاني / لعبة النرد

العامة ملفات عنهم، فسيكون األمر معهم خمتلفا متاما إذ يفقد املزاج، إن توفر، كل معناه، طاملا أن السلطة ال تعرفهم.

كانوا بعضهم أن آنذاك، جرى، ما فأن املغمورين هبؤالء األمر تعلق قدر اضطروا إىل العودة، بالفعل، بعد تسفريهم من قبل السلطات األردنية. وكانت مل كوهنا لعودهتم أساسا تنتبه مل لعلها بل هلم، تتعرض مل السلطة أن املفاجأة

تنتبه، يف األساس، هلرهبم. كان الشاعر خالد نعمة الشاطي، وهو شاعر تسعيني مغمور، أحد هؤالء فقد ذهبت املفوضية ملقابلته يف السجن بعد أن القي عليه القبض بسبب جتاوزه مدة

اإلقامة الرشعية، ثم سفر الرجل إىل العراق بعد أن رفض طلبه. بعد مدة وصلت أخبار خالد الشاطي إىل عامن: كان الرجل يتسكع يف مقاهي

الديوانية. مقابل هذا كله، لن يعدم املرء وجود حكايات تشري ملزاج خمتلف أبدته السلطة. والبطالن، هذه املرة، مثقفان معروفان عىل نطاق واسع، كانا خرجا من العراق وأعلن أحدمها، يف"ساعة شيطان"، معارضته الرصحية لنظام البعث. بينام عمل

اآلخر مدير مكتب صحيفة عرفت بكوهنا منربا معارضا. مبارك، البعثي، وحممد الصحفي أن عاد كل من مظهر عارف، لقد حدث "املاركيس"، إىل بغداد. وكانت املفاجأة أن أحدا منهام مل يتعرض الناقد األديب

ألذى. مالبسات خروج مظهر عارف وعودته ربام تستحق التوقف، بسبب من أهنا

يمكن أن تكون مثاال عىل طريقة تفكري السلطة. املالبسات موضحة بشكل رسمي من لدن االحتاد العام للكتاب والصحفيني بمأزقه فاتح االحتاد يفيد أن"عارف بيانا إذ أصدر األخري املعارض العراقيني املعارضة، فصائل إىل االنضامم يف ورغبته السلطة أوكار يف به يمر الذي فتعاطف االحتاد معه وسهل خروجه إىل كردستان ومنها إىل دولة أخرى وقد السلطة أجهزة حول ودقيقة هامة معلومات عن وجوده أثناء عارف كشف وممارساهتا الدموية. إال أن ذلك الصحفي بدأ باتصاالت مشبوهة بعد اإلنذار الذي وجهته له السلطات العراقية عرب وكالئها يف الدولة املضيفة وقد حاول االحتاد أن يعزز من معنوياته املنهارة دون جدوى، فخضع يف األخري لرشوط

خريف المثقف في العراق 92

السلطة وحاول القيام بالدور املرسوم له باالعتداء عىل أحد رموز املعارضة ثمنا لعودته إىل بغداد ومكافأته.

إال أن األجهزة األمنية عاجلته بالطلب منه مغادرة الدولة املضيفة عاجال فعاد إىل بغداد فاقدا إرادته الوطنية وشجاعته ")1).

عودة عارف وطريقة تقبل السلطة له ربام كانتا أنموذجا كالسيكيا من نامذج إىل نادما أدراجه يعود ثم إثام يرتكب ضال ابن للمخطئني: الرسائل توجيه

املنزل فيصفح عنه األب وحيتضنه من جديد. املعني بالرسالة هذه، بالتأكيد، هم أولئك اخلاطئون الذين عليهم العودة إىل أحضان األب. إهنم املثقفون العراقيون الذين هاجروا إىل املنايف، وهناك، أعلنوا

موقفهم الرافض للسلطة. التي أحاطت بمظهر عارف. ثمة مثال آخر مل حتظ عودته بأية ضجة كتلك إنه الناقد حممد مبارك الذي أدار مكتب صحيفة "الزمان" يف األردن ألكثر من

عامني ثم عاد أدراجه إىل العراق غري عابئ بشئ. كانت "الزمان" التي أسسها الصحفي سعد البزاز عام 1997 منربا ال خيفي بغداد إىل الصحيفة، عاد تلك مبارك، رغم عمله يف لكن للسلطة. معارضته وكانت املفاجأة التي أثارت استغراب الكثريين، آنذاك، أن حيتفي احتاد األدباء

بعودته بدل أن حياسب كام هو متوقع. لقد فرست عودة مبارك تفسريات عديدة، فمقابل من رأى أن الرجل كان أحال غض طرف ثمة من آنذاك، أشيع يف عامن "إستخباراتية"، كام يف مهمة تربط مبارك بمحمد التي القرابة البزاز إىل عالقة السلطة عن عمله مع سعد سعيد الصحاف، وزير اخلارجية، ومن ثم، وزير اإلعالم يف آخر تشكيلة وزارية

حكمت العراق قبل سقوط البعث، كان األخري ابن أخت األول. اآلن، وبغض النظر عن تلك التفاصيل التي أضفت عىل خروج مظهر عارف وعودته طابعا بوليسيا واستخباراتيا مشوقا، يبدو من املؤكد أن السلطة بدت مواقفهم إعالن إىل ومسارعتهم املثقفني هجرة ظاهرة مع التعاطي يف بارعة

)1) ينظر جملة »املسلة« العدد التاسع السنة األوىل آب / أغسطس وأيول / سبتمرب 2000 ص 119

93 الفصل الثاني / لعبة النرد

املعارضة هلا. االنتباه ومن االنتباه إىل الطرف غض من التكتيكات تغيري هو املقصود بثت مع التي قبيل بث رسائل عملية كتلك أفعال معينة من بردود القيام إىل كانت والرجعة اهلروب قصة أن الكثريون اعتقد ولئن املذكور. الصحفي مفربكة، من أساسها، إال أن ثمة رسائل أخرى الحت يف األفق ذاته، أفق عامن، كام يفهم من التحذير الذي أطلقه االحتاد املعارض نفسه، ذات مرة، عرب جملته "املسلة" التي قالت يف افتتاحية عددها الثاين أن أصدقاء االحتاد رصدوا ثالث نارصـ الستار وعبد احلطاب وجواد بندر رعد من هبا كل قام مريبة زيارات انقالبه عىل السلطة حيث ترددوا عىل مقهى السنرتال وانفردوا بعدد من قبل األدباء وحذروهم من االنتامء لالحتاد مقابل إغراءات مادية ووعود بمناصب

مهمة")1). مع تصاعد الظاهرة، ظاهرة اهلجرة، وحتوهلا قبل هناية القرن إىل شبه مجاعية، بالغرض. فكان البد من أن يعلن امللغزة مل يعد يفي الرسائل بدا أن أسلوب شئ ما، قوي وعاصف ال يلفت النظر حسب، إنام يضع النقاط عىل احلروف.

صحيفة عرب نفسه حسني صدام عدي بختم سيمهر املرة، هذه اإلعالن، الزوراء، وهي واحدة من الصحف األسبوعية الكثرية التي أرشف عليها آنذاك. احلدث كان كاآليت: الزوراء تنرش يف عددها 164 الصادر يوم 27 متوز يوليو العراقيني املثقفني عام 2000 قائمة فريدة من نوعها تتضمن أسامء 306 من الذين هاجروا من البالد. وتصنف أولئك اخلارجني إىل ثالثة أصناف هم أوال:

مرتدون، ثانيا: باحثون عن عمل، وثالثا: وسط مل تتضح مواقفهم ـ)2). املالحظ، هبذا الصدد، أن الزوراء قدمت القائمة بلغة يشم منها رائحة "لوم" موجه إىل جهة ما، فهي تقول نصا: تنرش الزوراء أسامء األدباء العراقيني الذين غادروا القطر، فمنهم من ذهب بحثا عن عمل أو ارتد أو ظل موقفه متأرجحا

يف الوسط. وهذه حصيلة ما كسبناه من بعد 7 / 2 / 1996. رائحة اللوم التي يمكن شمها تتعلق حتديدا بالتاريخ الذي زعمت أنه بداية

)1) جملة »املسلة« العدد الثاين السنة االوىل)2) ينظر صحيفة« الزوراء »العدد 164 الصادر يوم 27 متوز يوليو عام 2000

خريف المثقف في العراق 94

بزوغ الظاهرة وهو 7 / 2 / 1996، أي اليوم الذي عاد فيه "احلرس القديم" لقيادة املؤسسات الثقافية بعد قرار حل التجمع الثقايف الذي ترأسه عدي لعدة

سنوات. لكأن الرجل يريد القول أن نتيجة حل التجمع كانت التالية: 306 من املثقفني

العراقيني غادروا العراق بحثا عن عمل، وهناك ارتدوا.إىل عابرة نظرة عليه ربام جتيب التمليح يف حمله! سؤال ذلك كان لكن هل صنف يف فلدينا أمامها، وضع الذي اخلروج وتاريخ أثبتت التي األسامء املرتدين مثال مليعة عباس عامرة التي خرجت عام 1980 وشوقي عبد األمري العلوي األعرجي وحسن السبعينات وحممد حسني العراق هناية من اخلارج

اهلاربان سنة 80. ولدينا يف صنف "الباحثني عن العمل "أسامء مثل صالح فايق، فؤاد النكريل،

حممد سعيد الصكار، زهري اجلزائري! النواب، مظفر فثمة املتأرجحة املواقف ذوي من الوسط أسامء أشهر أما

جليل حيدر، فوزي كريم، شاكر لعيبي، عبد الكريم كاصد، هاشم شفيق..! املعلومات بدقة معنية تكن مل النهاية، يف فالقائمة، املهم، هو هذا ليس واملواقف وأسباب اهلجرة قدرعنايتها بإيصال فحوى رسالة ما إىل جهات معينة

ال يستبعد أن يوجد بعضها داخل العراق. العودة إىل عبارة هذه حصيلة ما كسبناه من بعد 2 / 7 ربام تستدعي إىل الذهن رصاعا كنا تأملنا بعض مالحمه يف الفصل السابق، نعني الرصاع بني عدي صدام الثقافة واإلعالم القديم، أصحاب مكتب الثقافة وفريقه، من جهة، وحرس

القومي، من جهة أخرى. إذ يبدو أن "عديا" رتب تلك القائمة، عىل عجالة، وقدمها بوصفها "خسائر" كان يمكن تفادهيا لو مل جيرب عىل حل التجمع الثقايف معلنا هزيمته أمام أعضاء مكتب الثقافة واإلعالم القومي التابع حلزب البعث وكان مرشحو األخري قد

فازوا يف انتخابات احتاد األدباء بعيد حل التجمع. ليس هذا كل ما يف جعبة الئحة الزوراء، فثمة رسالة ال يمكن إغفاهلا وجهت فأنتم إحذروا املثقفون، أهيا ببساطة: تقول الرسالة العراق. خارج للمثقفني تفعلون ما متاما، نعرف، ونحن بالكامل، ملفاتكم ولدينا جيدا مرصودون

95 الفصل الثاني / لعبة النرد

خارج بلدكم، نعرفكم واحدا واحدا، وهذه القائمة ليست سوى تذكري بذلك. القائمة التي أطلق عليها املثقفون العراقيون تسمية "الئحة التخوين" أثارت عاصفة من ردود األفعال الغاضبة فقد رأى فيها البعض هتديدا علنيا بالقتل يف وقت قرأ البعض اآلخر، خلف سطور القائمة، مؤامرة خللط األوراق، هدفها

إرباك املثقفني وشق صفوفهم)1). مرد هذه القراءة عائد إىل طريقة بعثرة األسامء يف اخلانات الثالث حد أن احتاد األدباء املعارض أصدر بيانا، هبذه املناسبة، نبه فيه املثقفني إىل هذه املحاولة قائال أن"اللجنة املشبوهة التي كلفتها السلطة بإعداد هذه القوائم توخت مترير أسامء العراقية الثقافة الصلة بحركة املعزولني واملنبوذين وفاقدي عدد من عمالئها بني دسهم بذلك حماولة املعارضة العراقية الوطنية القوى لدى واملكشوفني

رافيض سلطة صدام". صنف يف أسامؤهم وردت الذين أولئك يسمي ال البيان فأن ولألسف

املرتدين وكانوا، يف حقيقتهم، من "عمالء السلطة املعزولني". بالعاملة لالهتام دائام، عرضة، كانت وغريها األسامء هذه أن القول يمكن يف تغدو، كانت األسامء ببعض أحاطت التي الشائعات أن لدرجة للسلطة بعض األحيان، اقرب إىل احلقائق لفرط تكرارها بني املثقفني العراقيني املقيمني

يف املنايف. أسباب ذلك تكمن يف أن مثقفا خارجا من دولة ذات طابع خمابرايت رهيب التي نفسها األمنية اهلواجس بالـتأكيد، معه، نقل كان حسني صدام كعراق

رزح حتت وطأهتا طوال بقائه يف العراق. لذا فأن املثقف القادم إىل عامن، آنذاك، يظل عرضة لالهتام بالعاملة للسلطة أو، بأقل تقدير، كتابة التقارير للسفارة، فرتة من الزمن إىل أن يثبت، هو، براءته حاال، صدام، سلطة من موقفه يعلن أن الطرق وأشهر بأخرى. أو بطريقة

ويقدم أوراقه اىل املفوضية. أما بخالف ذلك فسيكون متهام وربام منبوذا من الوسط الثقايف هناك.

)1) أعيد نرش القائمة يف جملة »املسلة »العدد التاسع السنة األوىل آب / أغسطس وأيول / سبتمرب 2000

خريف المثقف في العراق 96

تزكية أرادت ربام "الزوراء" صحيفة يف عدي نرشها التي التخوين قائمة بعض أولئك املتهمني كام رأى البيان.

أسامؤهم وردت الذين األدباء قبل من احلكاية هذه استثمرت كيف اآلن يف مقابالهتم نتائج بانتظار عامن يف كانوا الذين أولئك خصوصا القائمة! يف

املفوضية! اللغة عن مرتجم وهو محيد، أمحد بطلها صغرية حكاية عليه جتيب سؤال

الفرنسية عمل فرتة، قبل سفره إىل عامن، يف صحيفتي "بابل" و"القادسية". مفوضية إىل طلب تقديم إىل فرتة بعد سارع عامن اىل محيد وصل أن بعد من رصيح بإعالن موقف يدعم قضيته مل إذ قاتال اخطأ خطأ لكنه الالجئني

السلطة كام يفعل األدباء عادة. لذا فقد رفض طلبه. أن وبعد ثانيا. طلب وقدم قضيته املرتجم أستأنف طويلة ليست فرتة بعد قوبل تم رفض طلبه وقررت املفوضية إغالق ملفه هنائيا بسبب ارتكابه خطأ جديدا، فبدل أن يقدم بصفته مرتمجا هاربا من قمع النظام أجرى تغيريا فقال إنه شاعر أيضا وقدم كدليل عىل ذلك بضعة قصائد كان عمل عىل نرشها بعد

رفض طلبه األول. استنتجت فقد خمطئا كان لكنه صاحله يف سيكون ذلك أن محيد ظن لقد املفوضية من ترصفه هذا أنه مدع وبدل أن يثبت إنه شاعر ومرتجم راود اللجنة التي قابلته الشك يف أن الرجل ليس هذا وال ذاك. لذا اغلق ملفه فأصيب بخيبة مريرة وإحباط قاتل قرر عىل إثرمها القيام بمغامرة العودة إىل العراق قائال: أن

اعدم يف العراق خري ألف مرة من أن أظل معلقا هنا. حني صدرت قائمة عدي كان ترتيب اسم أمحد محيد يف صنف املرتدين هو وشك عىل غريق إىل القدر يرميه نجاة حبل يشبه احلدث ذلك كان العارش.

املوت. بوصفه قبوله وأعلنت املفوضية ملف محيد فتحت أسابيع حتى إال ما هي الواليات إىل املرتجم اشهر عىل هذا حتى هاجر ذلك إن مرت ما ثم الجئا.

املتحدة. لقد أنقذه عدي!

97 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

الفصل الثالث

على أعتاب الزلزال: الثقافة ضد نفسها

مدخل بهيئة تنويهذات يوم، من عام ألفني، ويف أعىل صفحتها الثقافية ، نرشت صحيفة القدس اللندنية تنوهيا مثريا لالنتباه بعث به الشاعر رسكون بولص ردا عىل إدراج اسمه تم مفاحتتهم لعضوية أنه ، الصحيفة، يف عدد سابق قالت قائمة مرشحني يف

برملان أطلق عليه "برملان املثقفني العراقيني". التنويه يستدعي بعض التأمل، فلنقرأ

فرنسيسكو سان يف املقيم بولص رسكون العراقي الشاعر من "جاءنا توضيح ينفي فيه أي صلة بـ" برملان املثقفني العراقيني"املزمع عقده قريبا، كام رسكون يقول املايض. الثالثاء ليوم العريب، القدس عدد يف ذلك اىل أرشنا بولص" إن أحدا من املثقفني العراقيني املعنيني هبذا املؤمترمل يتصل يب أو يستطلع القائمة املقرتحة رأيي هبذا اخلصوص، وقد تعجبت من ورود اسمي يف تلك للهيئة الرئاسية لـ" الربملان" من دون علمي. وكام يعرف اجلميع فإنني ال أدخل يف هذه األالعيب ، ال من قريب وال من بعيد ، فضال عن كوين ال أملك طموحا للعمل اإلعالمي أو السيايس ، أو "اهلوسة" كام نقول يف العراق. لذا يرجى نرش

هذا التنويه ")1)املوضوع ، قبل أي شئ ، ذو مالبسات علينا استحضار بعضها. فقبل ذلك

)1) ينظر صحيفة »القدس العريب« اللندنية السنة الثانية عرشة – العدد 3476 14 متوز )يوليو( 2000

خريف المثقف في العراق 98

بأيام نرشت الصحيفة نفسها تقريرا خربيا مطوال جاء فيه أن"مصدرا يف امللتقى العراقيني املثقفني برملان أعضاء انتخاب أن أكد لندن ومقره العراقي الثقايف سيتم قبل هناية هذا العام – 2000 وأن اللجنة املنتخبة ملتابعة إنجاز املرشوع تلقت ترشيحات عديدة ، وأن باب الرتشيحات سيظل مفتوحا لكافة املبدعني

العراقيني األحرار املقيمني يف خارج بالدهم ")1). ثم يميض التقرير ناقال عن لسان حسني اهلنداوي، الذي عرف بكونه عضو اللجنة املنتخبة املكلفة بمتابعة االتصاالت لبلورة املرشوع ، أن عدد املرشحني لعضوية الربملان يف تزايد مستمر، وربام يصل إىل مخسامئة من املبدعني العراقيني زنكنة، هيفاء ، يوسف سعدي اهلنداوي، حسني ، احلريري "إبراهيم بينهم

خالد املعايل، أمحد املهنا، رسكون بولص وغريهم")2)برملان املثقفني العراقيني الذي أعلن عن تزايد أعداد األدباء املنتمني له ، وهم أدباء اتضح أن بعضهم مل يبلغوا به، كام حدث مع رسكون بولص وهيفاء زنكنة مثالـ ، كان أعلن عن تأسيسه يف شهر آيار عام 2000 وأطلق عىل االجتامعات ، الدورة انتخبت وقد للربملان"، األوىل الدورة أعامل آنذاك" عقدت التي وحسني الشيخ وسالم احلريري وابراهيم يوسف سعدي من كل بدورها، اهلنداوي ورشيد البندر كلجنة مخاسية كلفت بتنظيم االتصاالت مع اآلخرين

الستكامل املرشوع. املهم أن التنويه الذي أرسله رسكون بولص ، وبعد ذلك الرسالة ذات اللهجة الغاضبة التي بعثت هبا هيفاء زنكنة، رسعان ما ألقيا الكثري من الشكوك حول ذلك املرشوع، مرشوع الربملان الثقايف بأمانيه العريضة وعباراته التي أخذ عليها

الكثريون طابع "اإلطالق" والعمومية. بالعودة إىل تنويه بولص، ذي العبارات البسيطة،علينا االنتباه إىل املفردة التي ختم هبا التنويه، فبعد أن يعرب الشاعر املقيم يف الواليات املتحدة عن استغرابه للطريقة التي ورد فيها اسمه، نراه يقول بتلقائية "وكام يعرف اجلميع فإنني ال أدخل يف هذه األالعيب، ال من قريب وال من بعيد فضال عن كوين ال أملك لذا العراق. يف نقول كام اهلوسة أو ، السيايس أو اإلعالمي للعمل طموحا

)1) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية العدد نفسه )2) نفس املصدر

99 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

يرجى نرش هذا التنويه".تساؤل رسكون بولص ربام راود املئات ملقيا عىل "الربملان" شكوكا قوية يف ما جرى أن إىل عائد االنطباع مثل هذا وأسباب "هوسة". من أكثر ليس أنه

أحال إىل معركة طويلة خاضها املثقفون العراقيون طوال عقود من الزمن. وإذ نحاول اآلن استعادة ذلك الفصل الذي جسده "برملان املثقفني "، بكل ما أثار من ضجيج ، فألننا نريد استعادة تلك املرحلة من الرصاع ، نقصد املرحلة "برملان" سعدي يوسف ، كرد عايل الصوت عىل حدث التي متثلت ذروهتا بـ

ثقايف الفت جرت فصوله قبل قرابة عام ، يف لندن أيضا. هاجروا ملثقفني جديدا منربا مثلت "التي "املسلة جملة إصدار هو املقصود من الكثري املنفى إىل وصوهلم وأثار الثانية اخلليج حرب بعيد العراق من العراق منذ هناية عقد الذين هاجروا من املنفى ،بالنسبة ألدباء اللغط والريبة

السبعينيات. أكثر تكن مل أهنا الحقا سيظهر التي املعركة تلك نستعرض أن قبل ولكن الداخل ثقافة بـ" رصاع التسعينيات هناية منذ يسمى بات ملا أخر جتسيد من االفرتاق حلظة الفاصلة، اللحظة تفاصيل بعض استعادة علينا واخلارج".

النهائي بني جناحي الثقافة العراقية التقليديني، الشيوعيني والبعثيني. العراق يف نقصد حتديدا حدث خروج الشيوعيني، واليساريني عموما، من ، ثم ومن العراق، عن كبديل املنفي بلدان واختاذهم السبعينيات، عقد هناية تشكيلهم هناك مالمح ثقافة معينة سيطلق عليها الكثريون تسمية ثقافة اخلارج، مالمح مقابل االصطالح، هبذا اعرتافهم بعدم الدائم رموزها ترصيح رغم سيقرر مثقفون وهم البالد، داخل البقاء قرروا مثقفون صاغها أخرى ثقافة

العديد منهم اللحاق بزمالئهم بعيد حرب اخلليج الثانية. احلدث األخري ربام كان سببا مبارشا يف نشوب املعركة األخرية، معركة برملان

املثقفني، أو"اهلوسة" التي تربأ منها رسكون بولص يف تنوهيه آنف الذكر.

المثقف العراقي: المسدس يطلق المشهد"القدس صحيفة يف يوسف سعدي مع أجري طويل حوار اآلن أمامي التعقيبات عرشات ونرشت إليه ودعت الثقايف الربملان تبنت التي العريب"

خريف المثقف في العراق 100

املضادة له واملرحبة به. احلوار يتطرق ملسائل عديدة من بينها البيان الذي تاله – وربام كتبه – سعدي آنذاك. وبغض النظر عن مجيع األشياء التي حتدث عنها سعدي، كان ثمة سؤال طرح عىل نطاق واسع بعد نرش البيان التأسييس للربملان املذكور، واملقصود هنا العراقية الثقافية األسامء من عدد استقبال بعدم وزمالؤه سعدي إليه دعا ما التي كانت ارتبطت بنظام صدام حسني طويال قبل أن خترج من البالد وتعلن

معارضتها له. كاآليت:"الشئ اإلجابة وكانت حتديدا، املسألة هذه عن سعدي سأل لقد أننا نستبعد كل من أساء إىل البيان الذي أثار هذه النقاط هو قولنا الوحيد يف الثقافة الوطنية عرب أجهزة النظام وكل من عمل يف دائرة املخابرات. وأعتقد أن هاتني النقطتني مرشوعتان متاما ألنه أي الربملان باألساس عمل ثقايف، وعندما وضعوا مثقفون فهناك ذلك، أعني فإنني الوطنية الثقافة إىل أساء من أقول املسدسات يف أفواه مثقفني آخرين وقتلوهم فليس من املعقول أن تقول تفضل

يا صاحب املسدس معنا")1) تكن مل لندن، يف الربملانيون، خاضها التي واملعركة إذن، احلقيقة هي هذه

سوى استباق للحظة كانت بدأت بالتكشف بعيد حرب اخلليج الثانية. "مسدس" بمعنى أن سعدي ورفاقه ربام كانوا، عرب برملاهنم، يستبقون غزو املايض، القرن ستينيات منذ العراقي، املثقف استعاره كان مسدس قديم، يتداخل أن قبل الساسة، مع العسكر فيها تداخل فريدة، حلظة من انطالقا

هؤالء األخريون مع املثقفني. الشهري غوبلز مسدس إىل مبارشة تذهب التي اإلحاالت تلك عن وبعيدا الذي كان يتحسسه كلام سمع مفردة الثقافة. كان ثمة، يف عراق البعث الذي سينتج، الحقا عراق صدام حسني، أنواع ال حتىص من مسدسات، ال حيملها

وزراء "الدعاية" فقط، إنام حيملها املثقفون أنفسهم. للمرء أن يتذكر، هبذا الصدد، ذلك املشهد الغريب الذي كان يطل به رعد بندر، إبان ترأسه منتدى األدباء الشباب، يف بداية عقد التسعينيات، فقد كان

)1) صحيفة »القدس العريب »اللندنية السنة الثانية عرشة العدد العدد3344

101 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

املسدس معلقا بشكل بارز حتت سرتته. اخلاكي، لون يف استغرق الذي فالعراق باملرة، غريبا آنذاك األمر يكن مل الرموز،املسدس، تلك بمثل الثامين وبعدها، كان متخام السنوات أثناء حرب األنيقة، الزيتوين بدالت النطاق، املقوس، احلذاء السيف، الرشاش،احلربة،

وحتى أجهزة الالسلكي. إقامة أثناء هاشم وسام الشاعر صورة استعادة اآلن الطريف من ولعله مهرجان األمة الشعري عام 1984، إذ كان عليه محل جهاز السلكي أثناء تنقله يف القاعات وبني الضيوف، والسبب ببساطة أنه كلف من عدي صدام أن يكون

عىل اتصال دائم به أثناء فرتة املهرجان. الذي دأب املخيف السالح مثله الذي املادي البعد املسدس ذي بعيدا عن رعد بندر عىل تعليقه يف حزامه، يف مطلع التسعينيات. كان ثمة، يف السبعينيات، إىل أحالت أداة جمرد األخري بوصف "املسدس" ال ملفهوم مطلقة شبه سيادة تلخيصا بوصفه بل 1936فقط، عام صدقي بكر انقالب منذ العسكر، أم السلطة مع اآلخر، سواء كان هذا اآلخر سياسيا إنموذجيا لطريقة تعاطي أم العنف، نفسها، منطلقاهتا من السلطة مع تعامله يف انطلق وسواء مثقفا،

كانت له رؤية مضادة. حلظة أول أن هو اخلصوص، هبذا هلا، االنتباه يمكن التي اإلشارات أوىل خصام تفجرت بني سلطة البعث واحلليف الشيوعي كانت انطلقت عىل خلفية

اكتشاف خاليا ماركسية يف اجليش أعدم عىل أثرها ثامنية وثالثون شيوعيا)1). بدا مربر السلطة رشعيا، للوهلة األوىل، جلهة أن تأسيس خاليا ذات طابع تلك مثل مبادئ عليها تقوم التي األعراف حسب يعد، اجليش يف سيايس بموجبها سارت التي املعايري أهم ألحد انتهاكا للدولة، التابعة املؤسسات الدولة العراقية منذ تأسيسها،عىل اعتبار أن الدولة هي الوحيدة التي من حقها

احتكار العنف وممارسته بدنيا ورمزيا. "قوى بورديو بيري يسميه ما احتكار إىل فقط حييل ال هنا املقصود العنف

الطبعة االوىل الساقي بريوت قياما وحطاما دار العراق، سلطة صدام )1) حازم صاغية بعث 2003 ص 42

خريف المثقف في العراق 102

القهر" مثل اجليش والرشطة، إنام يشمل خمتلف أنواع الرأسامل،"رأسامل القوة ثقايف رأسامل اقتصادي، رأسامل الرشطة، اجليش، القرس أدوات او املادية التجمع من حيث هو، رأسامل رمزي وهذا أعالمي، راسامل أفضل، وبقول يشكل الدولة بأمساكه بنوع من ما وراء الرأسامل مانحا سلطة عىل سائر أنواع

الرأسامل وعىل حائزهيا ")1). ما حدث بالنسبة ألولئك الشيوعيني الذين أعلنت السلطة إعدامهم مل يكن حدثا خارج السياق. فالبعث الذي قرر منذ البدء احتكار العنف، شأنه شأن أية سلطة دكتاتورية أخرى، كان وجد منذ األيام األوىل صيغة آيديولوجية مناسبة

ملالمح تلك املرحلة. وعلينا التذكري هنا بالعبارة التي راجت يف كواليس املفاوضات التي مجعت

الشيوعيني بالبعثيني للوصول إىل صيغة لتحالفهم. العبارة تقول ببساطة أن عىل من يريد االلتحاق بركب الثورة "االلتزام بعدم

إجياد والءات خاصة داخل القوات املسلحة غري الوالء للثورة ")2). الرفاق الشيوعيون ال تقرتبوا من حمرمات الرسالة كانت واضحة إذن: أهيا

الدولة، دولة البعث، وإال فاملوت بانتظاركم. حادثة اكتشاف اخلاليا املاركسية يف اجليش التي ردعت بقسوة، ربام جاءت يف وقتها متاما. ذلك أن التحالف الذي عول عليه الطرفان، كل حسب وجهة نظره ومصاحله، كان وصل إىل طريق مسدود بعد أقل من مخس سنوات من إعالنه. السبب ال يعود إىل اختالف وجهات النظر، كام يعتقد الكثريون، قدر عودته مل 1968 عام متوز من الثالثني بعد السلطة عىل استوىل الذي البعث أن إىل السلطة عام 1963، استوىل عىل الذي نفسه بأي شكل من األشكال، يكن،

وفقدها بعد أشهر. الكثريون ممن كتبوا حول هذه املسألة يرصون عىل احلديث عام أسموه "عقدة فقدان السلطة" التي ضغطت عىل قيادة احلزب العائدة إىل املشهد. لكن بعيدا

)1) بورديو )بيري(، »العقالنية العملية حول األسباب العملية ونظريتها »ترمجة عادل العوا دار كنعان للدراسات والنرش دمشق الطبعة األوىل ص 129

)2) حازم صاغية مصدر سابق ص 84

103 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

للقيادة اجلديدة االنتباه الصدقية،علينا الكثري من التي متتلك العقدة عن هذه ستبدو فاألخرية الالحقة. السنوات يف حاسام سيكون معطى عىل والرتكيز من الثامن يف السلطة عىل استولت التي احلزب قيادة عن االختالف كثرية

شباط. نحن، هذه املرة، أمام رجال بلباس مدين، ال عسكري، لكنه لباس يشبه ألبسة

رجال العصابات الذين يمكن رؤية شبح املسدسات تلمع خلف معاطفهم. املسدس الغثيان: لدرجة واقعيا أبدا، كال، كان احلدث ليس جمازيا التشبيه أية حلظة، النار يف أنه موجود وشغال، ويمكن أن يطلق بطل املشهد اجلديد.

وحيسم األمور بطريقة ال عهد للعراق هبا. لنتأمل احلادثة األشهر التي وقعت بعد ثالثة عرش يوما من االنقالب: صدام ينتبه عبد الذي الوقت حسني وصحبه يدخلون غرفة رئيس اجلمهورية، ويف الرزاق النايف، رئيس الوزراء ورشيك االنقالب، إىل أن شيئا غريبا حيدث عىل النايف بمرافقته إىل البكر، يشهر صدام املسدس ويأمر مرأى من أمحد حسن املطار حيث يغادر األخري إىل املغرب قبل أن يقتل بعد حني. مشهد ربام يذكر آنذاك: مسدس يشهر فجاءة وضحية بغداد بمشاهد كانت تزخر هبا سينامت

تغادر مرسح احلياة، أو السياسة إىل األبد)1) إن حادثة النايف التي دشنت ما يمكن تسميته مرحلة "املسدس" يف العراق، نتاج وكأهنم بدوا الذين القادة اجلدد. القادة نمط الوجود إىل أبرزت كانت بأنواع الستينيات، يف امللتبس، السيايس، الرصاع مراحل من معقدة مرحلة الوالءات رصاع األفكار، رصاع العسكر، رصاع الرصاعات، من عديدة واالنتامءات، بدءا من الوالء للمذهب مرورا بالوالء للمنطقة وانتهاء بالوالء

للعشرية والعائلة. بغض النظر عن مالمح هؤالء القادة وهوياهتم وطريقة بروزهم واختفائهم من مرسح األحداث، بدا من األكيد أن صدام حسني سيكون بطل السيناريو أروقة يف العقد، منتصف منذ صيته ذاع الذي نفسه هو الرجل فهذا القادم.

)1) العلوي )حسن( »العراق دولة املنظمة الرسية »مؤسسة روح األمني الطبعة االوىل 1426 هجرية ص 45

خريف المثقف في العراق 104

حزب البعث، بوصفه "أبو مسدس"، الذي رافق أشقياء اجلعيفر وقادهم، أكثر من مرة، كام تروي بعض القصص، لتهديد أصحاب الدكاكني ممن يمتنعون عن

اإلرضاب الذي يدعو له البعثيون أحيانا. فقدان كارثة بعيد أسس الذي حنني جهاز عىل املرشف حسني، صدام إنه

السلطة عام 1964. والقادم اآلن بالسالح نفسه إىل واجهة احلدث. )1) املهم أن البعثيني وصلوا السلطة أخريا وبزي خيتلف كليا عن زهيم القديم، ال عسكر يف املقدمة، كام هو احلال يف التجربة السابقة، سوى الرمز القديم، ابن تكريت، امحد حسن البكر، يتقدمه ابنه الروحي، صدام حسني، الذي سيتعهد

باملحافظة عىل السلطة وعدم تضييعها. حراس قوامه جهاز وتأسيس التقليديني، العسكر إقصاء ذلك إىل السبيل جدد يتمتعون بروح هي خليط من روح العسكر وروح البعث. أما القائد فهو

الرئيس. النائب" وليس "السيد املرة: العنف، تم األمر بصيغة جديدة هذه قدر تعلق األمر بمسألة احتكار بدل أن تتقاسم قوى القهر "اجليش والرشطة" احتكار العنف، اجليش بوصفه هذا سينحرص حميل، قمع مؤسسة بوصفها والرشطة خارجي قمع مؤسسة اجليش عىل وسيكون رسي، طابع ذات أمن بقوى فشيئا، شيئا االحتكار، التحول، يوما بعد آخر، إىل مؤسسة تابعة، إليديولوجيا السلطة، أوال، ولرقابة قوى أمن ناشئة، متخصصة ومفصولة تقريبا عن كل مؤسسات الدولة. وهي قبل أي شئ، ذات والء مزدوج، حلزب البعث، املتامهي، بشخص معني ومنطقة

معينة وعائلة بعينها. إهنم رجال صدام اجلدد، البعثيون، التكارتة، ومن ثم، أبناء آلبو نارص، أعامم

صدام حسني. تفاصيل ذلك التحول كانت حافلة عىل أن أبرز ما فيها هو بروز الشخصية املزدوجة لصدام حسني. ففي الوقت الذي يفرتض بالرجل أن يكون بعيدا عن األجهزة األمنية، كونه مثل واجهة احلزب السياسية، بدا األمر بالنسبة للجميع وكأهنم أمام ظاهرة غري مسبوقة يف العراق فاألمني العام املساعد للحزب ونائب

)1) صاغية )حازم( مصدر سابق ص 42

105 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

رئيس جملس قيادة الثورة هو نفسه من سيرشف عىل "مديرية العالقات العامة"، التي ستتحول بعد حني إىل "مديرية املخابرات العامة "، ومها معا وريثتا ما سمي

بجهاز حنني الذي أرشف عليه صدام بنفسه منذ منتصف عقد الستينيات)1). ترمجة كل هذه التفاصيل ال تعدو اآليت: لقد قاد صدام انقالبه بخطى بالغة وترافق البالد، مقاليد يف األول املتنفذ إىل 1975 عام بعد وحتول البطء، ذلك مع عملية إقصاء واسعة للمنافسني السياسيني، بعد أن ختلص باكرا من

املنافسني العسكر.عليه، السيطرة بام يضمن اجليش تنظيم يعيد أن الرجل كان عىل ذلك بعد بخليط حماط "عقائدي" جيش إىل حتويله ثم ومن تبعيثه هي املثىل والطريقة من األحزمة، عائلية ومناطقية ليغدو من الصعب اخرتاقه، ال من قبل اخلصوم السياسيني فقط بل من قبل الضباط من ذوي الطموحات البونابرتية، أمثال عبد

الرزاق النايف وناظم كزار وغريمها.ومناسبة رمزية الشيوعية اخللية اكتشاف حلظة تبدو الرؤية هذه وفق الرفاق يمنع مل الذي الكرنفال الشيق، اجلبهوي الكرنفال هناية إلعالن متاما

الشيوعيني من زرع خالياهم يف املؤسسة العسكرية املحمية جيدا. جهد كبري إىل بحاجة يكن مل الذي العنف سلطة احتكار عن بعيد غري

لرتسيخه وإضفاء ملسة جديدة عليه. امتيازات احتكار اجل من جديدة رصاعات حقل بناء مهمة هناك كانت األمرين أن ذلك العنف، سلطة احتكار حقل نقصد احلقل، هبذا مرتبطة متالزمان بالرضورة كام يقول بورديو، بمعنى أن احلصول عىل رشعية احتكار العنف البدين سيتمفصل، وهذه إحدى صفات الدولة، بطريقة ال فكاك منها باحلصول عىل حقل متجانس من سلسة احتكارات ثقافية واقتصادية واجتامعية

تعتمل الدولة كلها)2). املسألة، هبذا الصدد، ستكون شديدة اخلصوصية إذا ما تتبع املرء تلك الظواهر التي راجت يف عراق السبعينيات وغدت بعد ذلك ملمحا ال ينسى من مالحمه.

)1) املصدر نفسه ص 57 وأيضا ص 49)2) بورديو بيري مصدر سابق ص 130

خريف المثقف في العراق 106

دائام جتد وبأشكال متامثلة، وبسياقات الفت بتناغم جتري األمور كانت طريقة ما لتالئم موضوعاهتا، بدءا من البيت مرورا بالشارع واملدرسة وانتهاء

باحتاد األدباء أو مجعية الشعراء الشعبيني.األمثلة يف ذلك كثرية، وإذا كان من الرضوري أحيانا االلتفات إىل بعضها، فسبب ذلك ال يكمن يف حماولة أرشفتها، هنا، كام قد يظن البعض، إنام الستباق

أثرها الذي سيظهر الحقا، كام سنرى.الفكرة التي نريد التنبيه هلا هي التالية: ال يمكن وضع حد فاصل بني مفهوم االحتكار بوصفه مفهوما مركزيا تقوم عليه فلسفة السلطة، من جهة واستخدام جهة من عديدة، بأشكال تتجسد أن يمكن كآلية الرمزي والعنف العنف أخرى. فعن طريق هذا األخري يمكن لفكرة االحتكار أن تتجسد، هبذه الطريقة

وتلك، ويف هذا احلقل من املامرسات أو ذاك. أنه اخلصوص، السيام هبذا مثاليا، يبدو الكالم احتكار سلطة احلديث عن التي املؤسسات إىل حييل الذي نفسه بالقدر أفكارا بوصفه الكالم إىل حييل

يتداول بوساطتها الكالم. واملالحظة التي يمكن االنتباه هلا، هبذا الصدد، أن البعثيني مل يكونوا مهيئني، بعيد استالمهم السلطة، إلعالن احتكارهم فورا للمؤسسات التي يتداول هبا الكالم، لذا اضطروا إىل اإلبقاء عىل العديد من القوانني التي كانت سارية قبلهم

مثل قانون الصحافة واملطبوعات الذي استبدل عام 1969 بقانون آخر)1). هذه الفكرة هلا عالقة بفكرة أخرى هي أن سلطة البعث التي امتلكت كوادر ال بأس هبا مكنتها من ملء مؤسسات القهر"اجليش والرشطة" برسعة كبرية مل

تكن متلك العدد الكايف من املثقفني القادرين عىل إنجاز املهمة نفسها. ليست هذه املالحظة اخرتاعا شيوعيا، بل إن أحد قياديي البعث كان وجد ما يكفي من الشجاعة لالعرتاف هبا بعد اعتزاله العمل السيايس. يقول هاين كل برغم العراق يف للبعث مالزما بقي الثقايف املستوى تدين "إن الفكيكي اجلهود التي بذلتها قيادات خمتلفة وكانت روح العداء للشيوعيني تقيم عميقا

)1) العزاوي )فاضل( »الروح احلية، جيل الستينات يف العراق« منشورات املدى الطبعة االوىل 1997 ص 244

107 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

يف نفوس األعضاء واألنصار.. فمشاعر احلب والتقدير أو الكراهية والبغضاء طغت عىل الرصانة الذهنية يف حماكمة املسائل املطروحة ")1).

وتغليب األوائل للبعثيني الثقايف املستوى تدين عن الفكيكي حتدث ولئن البعث عالقة عىل ذلك انعكاسات إىل يمهد فإنه والعاطفة، االنفعال روح

املتأزمة دائام بالوسط الثقايف مقابل حيوية عالقتهم باألوساط األخرى. أنه إال وشعراء، أدباء من خيل مل البعث مجهور أن الفكيكي"صحيح يقول الفنانني، يستهو مل املحافظة، القومية أفكاره عن فضال عهده، حداثة بسبب احليل كعيل وأدباء شعراء عىل البعث أجواء يف الثقايف الوجود اقترص وفيام وشفيق الكاميل وأمرية نورالدين وأمحد عبد الستار اجلواري، وصديقة احلزب نازك املالئكة، انصب تركيز البعث عىل بناء املناضل الذي يتصدى ويصمد")2). باألحرى نحن أمام حزب عميل، ال نظري، حزب انصب اهتاممه، منذ البدء، عىل تطوير قدراته إلنجاز مهمة االستحواذ عىل السلطة، وهو ما نجح به نجاحا

الفتا فيام بعد. هذا التباين اجلوهري يف طبيعة احلزبني كان أدى الحقا إىل بروز ظاهرة فريدة من نوعها، ففضال عن الكراهية املريرة، كام يرى حازم صاغية،" أحس كل من الطرفني بحسد مر حيال اآلخر فالبعث نظر إىل احلزب اللينيني الثاين عددا يف عىل قادر بعضله، قوي األول مدرسة: أستاذ إىل مصارع نظرة العريب العامل

ممارسة القتل، لكنه يتمنى امتالك شئ من معرفة الثاين." )3) نفوس يعرتي أن باملرارة لشعور البد كان بالسلطة، البعثيني تنعم ومقابل سادة الثقافة العراقية، الشيوعيني الذين "حسدوا البعث كام يفعل فالح بالكاد

يكفيه قوته إذ ينظر إىل بدوي يغنم، بالسلب والنهب، قطيعا بعد آخر")4). من حوهلم وامللتفني الشيوعيني املثقفني ليمنع يكن مل باملرارة الشعور هذا احلافل تارخيهم من واملستمدة أحاطت هبم التي السحرية اهلالة تلك ترسيخ

)1) الفكيكي )هاين( »اوكار اهلزيمة جتربتي يف حزب البعث العراقي« دار رياض الريس لندن الطبعة األوىل سنة 1994 ص 168

)2) املصدر نفسه)3) صاغية )حازم( مصدر سابق ص 79

)4) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 108

باإلنجازات، وتقف عىل رأسها ارتباط حركة احلداثة الشعرية هبم. األمر الذي اخلمسينيات منذ مؤسساهتم حازهتا التي الثقافية القداسة تلك آنذاك، برر،

ووصلت ذروهتا يف الستينيات والسبعينيات.التي شهدت سيادة شبه مطلقة للفكر السبعينيات قدر تعلق األمر بمرحلة وكأنه العراقي، للمثقف بالنسبة الشيوعي، احلزب إىل االنتامء بدا اليساري،

بطاقة مرور إىل عامل املجد والشهرة. وعىل الرغم من مجيع االدعاءات التي أطلقها أغلب املثقفني العراقيني،الحقا، من أهنم كانوا "ال منتمني" وأهنم حاربوا "االنتامء العقائدي"، وبعضهم يقصد حتديدا االرتباط باحلزب الشيوعي، إال أن أحدا منهم لن يستطيع إنكار ظاهرة ورشعي، حمرتم بمظهر للخروج ومؤسساهتا اليسارية الثقافة قداسة استثامر

وربام معرتف به. حني يستعيد شاكر لعيبي مثال حادثة تكليفه هو زميله هاشم شفيق لتحرير بلسان الناطقة الصحيفة الشعب" "طريق صحيفة يف الشباب أدب صفحة أوىل سينرشون السبعينيات شعراء من الكثري أن" يذكر الشيوعي، احلزب

قصائدهم يف تلك الصفحة". الشعب طريق يف النرش "كان قائال املعلومة هذه أمهية موضحا يميض ثم حدثا سارا بالنسبة للشعراء العراقيني مجيعا رغم أهبة الصحافة الرسمية وسخاء

مكافآهتا. كان النرش فيها طريق الشعب جمدا شخصيا بمعنى من املعاين ")1) واقع األمر أن ومها ثقافيا مثل هذا بدا حقيقيا إىل درجة كبرية، إذ أن أغلب شيوعيني إما كانوا آنذاك بـ"الكبار" عليهم اصطلح الذين والفنانني األدباء ويوسف يوسف وسعدي البيايت الوهاب عبد من بدءا للحزب، أصدقاء أو الصائغ مرورا بيوسف العاين وزينب وناهدة الرماح وضياء العزاوي وانتهاء

بمظفر النواب وعريان السيد خلف وشمران اليارسي وفؤاد سامل وغريهم.هاديا أن لدرجة اإلهيام من كبريا قدرا ومتتلك بارزة جد الظاهرة كانت سعيد، الصحفية اللبنانية التي رافقت التجربة العراقية يف السبعينيات، رأت أن اجلو اليساري كان أكثر أغراء لالستقطاب، فهو "يستطيع أن يضعك يف غاللة

)1) لعيبي )شاكر( »الشاعر الغريب يف البلد الغريب« دار املدى، الطبعة االوىل 2003 ص 110

109 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

من الشعر واألغنيات واملوسيقى والنجوم الثوريني فيام اجلو العرويب البعثي ال يذكرك إال بشعار مبتور وقصائد فخر رسعان ما متلها وتفضل أن تعود إىل امرؤ القيس واملتنبي وأيب متام وأيب نؤاس، أي إىل األصول قبل تأطريها وحتجيمها. والغناء، والرواية واملوسيقى املرسح يف الفتة حركة البعثيون الرفاق يطلق مل كانت كل األسامء التي سمعت هبا ثم تعرفت عىل بعضها متيل إىل صالح الرفاق

الشيوعيني ")1) إىل االلتفات البعثية السلطة عىل حتم الذي الوحيد يكن مل السبب هذا املثقفني اليساريني عموما والشيوعيني بشكل خاص، لإلفادة منهم. فعدا ذلك، كان ثمة مزاج عام ساد شعوب أغلب البلدان املتحررة حديثا من نري االستعامر، وكان هذا املزاج يتجه بقوة نحو األفكار اليسارية واالشرتاكية، بوصفها خيارا جديدا هلذه الشعوب بغية مقاومة اإلمربيالية األمريكية التي مثلت آنذاك وريثا

طبيعيا لإلستعامرين الربيطاين والفرنيس. بل إن صدام حسني نفسه كان روج لنفسه صورة معينة راقت للشيوعيني، وذكرهتم، ربام، بذلك احللم القديم: العثور عىل كاسرتو العراق، وانتشاله من

براثن الربجوازية الوطنية. مل تكن هذه الرؤية نتاج خميلة رومانسية طيبة حتىل هبا مثقفو اليسار العراقيون، يف تلك املرحلة، إنام هي رؤية سياسية رسمية عرب عنها قادة احلزب الشيوعي أليمة ذكرى هنا ولدينا أخرى. أحيانا وواضحة أحيانا خماتلة خمتلفة، بطرق يستعيدها فاضل العزاوي بطلها زكي خريي، عضو املكتب السيايس للحزب الشيوعي العراقي، إذ اجتمع هذا األخري، ذات مرة مع بعض املثقفني من ذوي امليول اليسارية يف بيت هاشم الطعان، وكان العزاوي حارضا إىل جانب آخرين أمثال عبد الرزاق عبد الواحد وحسب الشيخ جعفر وامحد خلف وفوزي كريم

ومحيد اخلاقاين وصادق الصايغ وياسني النصري وابراهيم أمحد. البعث حلزب االنتامء رفض عىل احلارضين األدباء خريي "زكي الم لقد إذا مل يكونوا راغبني إياهم إىل االنتامء إىل ذلك احلزب التعاون معه، داعيا أو باالنتامء إىل احلزب الشيوعي، بدعوى أن الرفيق فهد كان قد أوىص: قوو تنظيم

)1) سعيد )هاديا( »سنوات مع اخلوف العراقي« دار الساقي بريوت الطبعة االوىل 2003 ص 90

خريف المثقف في العراق 110

حزبكم، قوو تنظيم احلركة الوطنية ")1). لقد كان من املنطقي ، إذن، االلتفات إىل اخلصوم الذين بدوا يف تلك األيام هي الصدد، هذا يف امللموسة، الوقائع وأبرز العراقية الثقافة سادة وكأهنم السلطة اجلديدة نية إعادة تأسيس احتاد األدباء كمناسبة إلبداء حسن استثامر جتاه اآلخرين. فقد قرر البعثيون تقاسم مقاعد اهليئة اإلدارية الحتاد األدباء مع الشيوعيني واتفق اجلانبان يف االجتامع التأسييس، عام 1969، الذي خصص

هلذا الغرض"مناصفة احلصص بينهام، باسم السياسة ". أنه الثورة صحيفة مقر يف عقد الذي االجتامع ذلك يف سعيد محيد وأعلن "تم االتفاق سياسيا عىل توزيع مقاعد رئاسة االحتاد بيننا وبني الشيوعيني وإذا كان الشيوعيون يرغبون يف تقديم أسامء مستقلة فان ذلك سوف يكون ضمن

حصصهم، ولكنهم أبلغونا أهنم ال يرغبون بذلك ")2). مل تكن هذه احلادثة سوى نقطة رشوع لتقاسم احتكار سلطة الكالم، مشفوعا برقابة بعثية صارمة عىل الرفاق الشيوعيني، رقابة قد تصل، أحيانا، إىل استثامر" قد التي التجاوزات بعض لوقف البعث امتلكها التي البدين" القهر قوى يرتكبها رفاق املرحلة. الوقائع التي يروهيا أغلب اليساريني تكاد تكون متواترة هبذا الشأن، وهي وقائع قد تبدأ بمقال افتتاحي يف صحيفة الثورة يرد به "مروان

"اسم مستعار عىل قصيدة يلقيها جليل حيدر يف احتاد األدباء)3). فاطمة أو الصائغ كيوسف أدباء وتعذيب اعتقال إىل لتصل تتطور ثم مع حدث كام القتل، إىل معينة، أحيان يف الذروة، تصل لعلها بل املحسن، الرقابة تظل األحوال، هذه كل ويف السبعيني. الشاعر املعاضيدي، خليل

البعثية صارمة، ال تفوهتا شاردة وال واردة. املهم أن حقل الرصاع من أجل احتكار امتيازات مرتبطة باحتكار العنف كان يف طريقه إىل احلسم دون مقاومة تذكر إذ رسعان ما فهم الشيوعيون الرسالة ،

وبدءوا يف إعداد أنفسهم، ال للمواجهة، إنام لتغيري مجيع اسرتاتيجياهتم. بدال من املغامرات غري املحسوبة،عليهم اآلن التخفيف من هلجتهم وتشديد

)1) العزاوي )فاضل( مصدر سابق ص 245 )2) العزاوي )فاضل( مصدر سابق ص245

)3) املصدر نفسه ص 90

111 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

الرقابة الذاتية عىل أتباعهم، بل قمعهم إذا لزم األمر. احلوادث الطريفة كثرية، هبذا الصدد، فذات مرة مثال رفض صادق الصائغ "جنوح بسبب الشيوعي لعيبي يف صحافة احلزب للشاعر شاكر نرش قصيدة لذا كان عىل السلطة. يفهم خطأ من طرف أن مهلوس وتداع جمازي" خيش لعيبي نرش القصيدة يف التآخي، ال طريق الشعب أو الفكر اجلديد كام يفرتض.

(1(

املتصاعدة الثقايف القهر الذاتية لن تنفع شيئا أمام استرشاء لغة الرقابة لكن اكتشاف عام العام، ذلك منذ االعرتاف، اجلميع عىل .1977 عام من بدءا اخللية الشيوعية يف اجليش، أن الكرنفال انتهى وأن فجر املسدس الثقايف قد الح فعال، سواء خلف مكاتب املدراء أو حتت جاكيتاهتم، وهو عىل استعداد لتنفيذ

تلك التهديدات املرعبة التي بدأ يتعرض هلا اليساريون. كان سبق ذلك إجراءات رمزية عديدة مثل صدور أوامر نقل حكومية طالت مثقفني شيوعيني وحولتهم من مدراء عامني، يف وزارة اإلعالم، إىل موظفني يف وزارات أخرى مثل الري واملالية وغريمها. كام حدث مع سعدي يوسف، مثال ، الذي نقل من وظيفة مدير حترير يف جملة "الرتاث الشعبي" إىل موظف يقتعد

مكتبا حقريا يف غرفة عفنة ومظلمة بوزارة الري)2). الكالم سلطة احتكار مسألة كانت هل اآليت: هو هنا يطرح الذي السؤال إحدى خمرتعات سلطة البعث يف السبعينات؟ ثمة من حتدث، الحقا، أي بعد عن آنذاك، الثقايف املشهد طبعت التي الثنائية اإليديولوجيا سلطة من حترره احتكار ثنائي مارسه احلزبان املتحالفان عىل نطاق واسع كام سيورد الكثريون

الحقا)3). الثقافة كالسيكيات من أصبحت التي االعرتافات تلك عن بعيدا لكن العراقية،علينا التنبيه إىل أن أغلب من حتدثوا عن هذه املسالة مل يكونوا أكثر من

نتاج لتلك الثنائية. بمعنى أن الكثري من الشكوك يمكن أن تراود املرء وهو يقرأ اعرتافات تنطلق،

)1) لعيبي )شاكر(، مصدر سابق ص 142 )2) العزاوي )فاضل( مصدر سابق ص23

)3) املصدر نفسه، ص 24

خريف المثقف في العراق 112

أو الثقافة، ثنائية ، املعقدة املنظومة تلك بعد عقود، من مثقفني نشأوا يف ظل تأميمها حسب وصف بعض السبعينيني.

الثقافية باملاكنة ارتباطه من طويلة سنوات بعد مثال لعيبي شاكر انتبه مل اليسارية إىل مساوئ الرفاق القدامى! هل كان اعرتافه بريئا!

ازدواج من نوع التامس إىل حقا السبعيني اجليل أبناء اضطر هل باملقابل، السائد، كام يرى فاروق يوسف، الفكر للفرار من اإلذعان لسلطة الشخصية أم أن ذلك النوع من االزدواج كان، يف احلقيقة ، نوعا من "براغامتية" الغرض منها قطف ثامر جمد معني ربام يتمثل يف إطراء ستيني عىل قصيدة تنرش يف "طريق

الشعب" أو يف نقيضتها "الثورة"! الطريف أن االزدواج الذي يمثل به فاروق يوسف بتجربة الشاعرين خزعل املاجدي "البعثي الذي رأى يف التخيالت اجلنسية نوعا من اإلهلام الذي يضع تفكيك يف املنهمك الشيوعي شفيق، وهاشم أسطورته، متناول يف اإلنسان

أرسار اللذة الذاتية يف اكتشاف العامل العابر")1)أن هذا االزدواج ربام وجد يف السياق العراقي أفضل فرصة للتجسد، بغض النظر عام إذا كان املرء شاعرا أو ناقدا أو حتى صحفيا. بل حتى بغض النظر عن

كونه عراقيا أو عربيا قذفت به األقدار إىل بغداد. احلزب يف انتظمت التي اللبنانية سعيد، هاديا ترويه ما هو الطرافة مرد مل الصحفية فهذه اجلبهة، جملة باء"، "ألف يف وعملت العراقي، الشيوعي

تتوقف عن النرش يف "طريق الشعب" أثناء عملها يف ألف باء.تزال ، مع زمالئها، ال النوع من االزدواج التي خاضت ذلك هاديا سعيد تتذكر بمزيد من احلرية:"عشت بدوري يف تلك الفرتة ثنائية من نوع آخر ألين ظننت أين سأجد دوري يف اخلدمة العامة وهو الدرس األول الذي تعلمته يف دائرة يف مكاين سأجد كام باء، ألف يف أكتبها التي التحقيقات يف الصحافة، النضال وااللتزام،عرب اجتامعي احلزيب بمسؤولتي احلزبية، ومن خالل املقاالت

التي كنت أوقعها باسم مستعار هو عادل خليل وتنرش يف "طريق الشعب". ما احلكمة من هذا الوضع املزدوج؟.. كأن الشخص من أمثايل كان حيتاج إىل

)1) يوسف )فاروق(، »صحيفة »الراية« القطرية بتاريخ 13 نوفمرب 2004

113 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

شهادة وإىل ما يدرأ عنه هتمة اخلوف أو اإلمهال.. ")1) حقيقة األمر أن االزدواج الذي تربره سعيد، الصحفية الشيوعية ، بالبحث عن االنتامء أو اهلوية، االنتامء ملهنتها أو ألفكارها السياسية، هو ذاته الذي يربره فاروق يوسف ،الشاعر الالمنتمي، بالبحث عن الشعرية وعواملها. ولئن ألقى األخري بالالئمة عىل "سوء احلظ التارخيي" الذي جعل أبناء جيله "الالمنتمني" يدورون يف فلك تلك الدائرة التي طحنت الكثريين منهم؟ فإن أحدا لن يقدر اآلن عىل إعادة الزمن إىل الوراء، للخالص من تلك املاكنة. كل شئ تم بنجاح ، االزدواج مىض إىل هنايته صانعا لنا تارخيا ثقافيا كامال، تارخيا سيسمح، بعد أكثر

من عقدين، بانتقال الفهم ذاته إىل املنايف التي وصتلها املاكنة اليسارية.نقصد الرصاع الحتكار سلطة الكالم، وهو ما ال يمكن حدوثه دون استعادة يف ختيم املريرة ذكرياته تزال ال الذي البعثي املسدس القديم، املسدس شبح نفوس الرفاق، رفاق سعدي يوسف الذين وضعت املسدسات يف أفواههم ، العراقي الشاعر توصيفات النهاية، حسب إىل قرص يقادون ، وهم يوم ذات

األشهر أثناء دفاعه عن الرؤية التي عرضها يف مبادئ الربملان الثقايف. عن يوسف سعدي املحاور يسأل مصادفة، ليس وهذا ، نفسه احلوار يف مغالطة تراءت له، يف البيان، إذ يف الوقت الذي يدعو البيان إىل العمل الثقايف. "القتلة"، املثقفني استبعاد قبيل من معينة، سياسية إشارات البداية، منذ ترد القاتل باملسدس ال "هذه ليست سياسة، كل ما نريد قوله أن فيجيب سعدي ينتف أن الذي ال يستطيع حتى الوديع له باجللوس مع هاشم شفيق، يسمح

دجاجة، هذه ليست سياسة، هذه أخالق")2).مرحلة املسدس مل تنته إذن بخروج الضحايا، بل هي مستمرة، شغالة وفاعلة، جتربة يستذكرون وهم اليساريون املثقفون كررها طاملا التي "املفردة" يف ال البعثيني، السيام يف السبعينيات، إنام يف تبني موقف صارم رصاعهم املرير مع مما يسمى بـ "مثقفي الداخل" الذين خرجوا من العراق رزافات ووحدانا بعد

حرب اخلليج الثانية.

)1) سعيد )هاديا(، مصدر سابق ص155عام شباط 10 بتاريخ 3344 العدد اللندنية العريب »القدس« صحيفة )سعدي( يوسف (2(

2000

خريف المثقف في العراق 114

فالعديد من هؤالء األخريين كانوا، حتى وقت قريب، من محلة املسدسات مثقفي من املتشددين أوساط يف سادت رؤية حسب والرمزية، احلقيقية ،

املغرتب، عىل رأسهم سعدي يوسف.لكن األمر هذا، أمر املسدس البعثي ، كان حسم باكرا، بالنسبة ملثقفي السلطة، ونفي نفيا جازما. وهنا علينا استعادة تلك الصورة التي يتخيلها سامي مهدي لـ" عبد اهلل املوهوم "، أو سعدي يوسف الذي أهديت له القصيدة الشهرية عام

1979، سنة خروجه من العراق. يرسم سامي مهدي الصورة التالية لثقافة املسدس:

عبد اهلل املوهومإىل: س. ي

جنة هي ، أو لعبة رصت تتقنها وتزوقها بيديك؟

أنت تنشئ مما تومهت زنزانة وجتند يف باهبا رشطي

وتصطنع الرعب منه.. وإذ ال جياريك

حتشو مسدسه بالرصاص وتغريه أن يطلق النار، غيضا،عليك

أنت مل تتغري إذن وهو الوهم

تسعى إليه ، إذا ما ابتأست، فيسعى إليك

ديوان الزوال ص 25

المثقف في مصعد: من الحيرة إلى المجهول أنا "صاعد

او نازل

115 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

لست أدري فام بني حدين من ظلمة وفراغ

يعلقني مصعد ال قرار له بينام يقف االخرون

هنا وهناك عىل ريبة بانتظاري "

سامي مهدي "الزوال "ص9 تلك عنه جتيب ربام سؤال مهدي! سامي إىل هنا، االلتفات، علينا مل معظم أن نحسب خصائص وهي الشاعر. هذا عليها توفر التي اخلصائص ذاهتا، املنظومة نتاج أهنم سوى لسبب ال عليها. يتوفرون العراقيني املثقفني

منظومة االزدواج بني هاويتني متناقضتني. األزمة. هلذه جيدا أنموذجا حياته طوال مثل مهدي سامي أن مثال لنقل إحدامها قيميتني منظومتني بني دائم رصاع خضم يف وقوعه حتديدا، نقصد،

تناقض األخرى. لدينا يف قصيدة املصعد جتسيد مثايل لشاعر عرف بازدواجية فريدة من نوعها. فسامي مهدي، مرهف احلس الذي يكتب يف الديون نفسه: "إذا ما صغرت غدا / فسأهرب من طيش أمي / وتقوى أيب / وسأغدو إىل حارة/ ليس فيها رجال كدودون / أو نسوة كالرجال / ولن أتعلم يف أي مدرسة / بل سأبحث عن لذة مل أغرر هبا ذات يوم / وعن لعبة فاتني الدور فيها / فان فاتني الدور ثانية / فسأرسق كيس امللبس من بيت عمي / وآكل حتى املالل / وأنثر ما تبقى عىل

العابرين / وأفزعهم / وسأضحك / أضحك / حتى أموت")1)يرتنم الذي الدموي نفسه الربيئة هو اللغة يكتب هبذه الذي سامي مهدي بعرس الدم ، مناديا نفسه: "اعرف أنك شاعر/ ولكن ليس رضوريا أن تشيخ /حتى اخلرف كآراغون / أعرف أنك حزين / ولكن من السخف أن تنتحر كاميكوفسكي/ ال تفكر هبذين، وال بغريمها أبدا / ال تفكر حتى بلوركا / فقد

)1) ينظر مهدي)سامي(، ديوان« الزوال« دار الشؤون الثقافية العامة بغداد الطبعة االوىل 1981 ص 22

خريف المثقف في العراق 116

كان وديعا أكثر مما جيب / كان وديعا / فقتل قبل أن يقاتل")1) عىل أن ابرز، وربام أخطر أنواع االزدواج التي اعتملت جتربة سامي مهدي بني جوهري تناقض خضم يف الرجل وقوع جيسده الذي ذلك هو وغريه منظومتني من القيم إحدامها تتمثل يف وهم امتالك احلرية، اخلضوع الشرتاطات

املكان، سياسيا وثقافيا.الفكرة يمكن أن تصاغ بسؤال مثل هذا: ما معني اختيار سامي مهدي البقاء ، الفردية احلريات عىل التضييق باجتاه تسري األمور كانت وقت يف البالد يف

فضال عن حرية التعبري؟ قصيدة املصعد التي كتبت يف أيلول عام 1978، عام اخليار املصريي بالنسبة للمثقفني العراقيني، ربام جتيب عن هذا التساؤل. فهي ربام تكثف تلك احلرية قرار عالقني خالهلا، يف"مصعد ال أنفسهم وآخرون مهدي وجد سامي التي له"، مصعد يتجاذبه خياران ياميز أحدمها اآلخر. نقصد خيار البقاء داخل البالد

، مقابل خيار اخلروج إىل املنفى.التربيرات أو الطرق تلك تأمل اآلن ، هيمنا األول باخليار األمر تعلق قدر التي أجربت هبا الذات، أو أقنعت، عىل البقاء يف مكان بدا من الواضح أنه جينح نحو سلب أي أفق للحرية الفردية، فضال عن حرية اإلبداع. خصوصا أن مدار

احلديث يتعلق بمثقفني نادوا وناضلوا طويال لرتسيخ مثل هذه القيم. أول هذه التربيرات، وقد برز ذلك مبكرا، اختذ مظهرا أدبيا رصفا، فقد رشع األدباء يطبقون ما يمكن تسميته، اآلن ، فكرة استبدال الوطن باللغة، او لنقل حتويل اللغة إىل وطن. ومن ثم ، اختالس الوقت لكتابة األشعار واستثامر أخر ما تتيحه االستعارات واملجازات من مديات املخاتلة والتواري ، كام حدث مع

سامي مهدي ذاته. املصعد بحرية يفتتحه الذي الديون ،" "الزوال ديوانه صفحات أخر ففي وينهيه بإعالن الوالء لثقافة احلرب بلغة تعبوية مبارشة "أحنه مشينا... مشينا.. مشينا.. للحرب/ عاشك يدافع من أجل حمبوبته/ أحنه مشينه للحرب / هو ذا العرس / هو ذا مهرجان النار دورية متيض / وأخرى تعود / ومدفع يرعد

)1) املصدر نفسه ص 110

117 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

/ وآخر جييب")1) يف أخر صفحات ذلك الديون ، يكتب مهدي مستبقا ما سيمليه عليه خيار

البقاء داخل البالد: "لست أسأل عام كتبت

وأسال عام سأكتب.. بيني وبني الكتابة مستقبل هاربوجماهيل حترسها اجلن

أدركها حلظة ثم تفلت منيوال يتبقى لدي سوى طائر أنا اختاره

ثم أطلقه يف قصيدة ")2).أن جيزم يكاد فالرجل النظر، إمعان من الكثري إىل حيتاج ال األمر،هنا، إن ال أحد من حقه توجيه السؤال: مل كتبت هذا؟ مقابل جزم ال يوجد ما يربره، خارج اشرتاطات املكان، بان بني الشاعرـ سامي مهدي مثال هنا وبني الكتابة،

"مستقبل هارب" و"جماهيل حترسها اجلن". ساحته االزدواجية أنواع من آخر نوع انبثاق تعني ربام الفكرة هذه ترمجة

الكتابة. إهيام ثمة ، "كتب" عام الشاعر مساءلة حقه من أحد ال أن فكرة مقابل يسرتعي االنتباه مفاده أن احلرية موجودة يف الفعل نفسه، فعل الكتابة، وهذا

الوجود املفرتض ال يرتبط بأي شئ خارجه. اخليار يملك الشاعر دام ما املكان اشرتاطات عن للحديث إذن معنى ال

واالختيار" وال يتبقى لدي سوى طائر أنا اختاره / ثم أطلقه يف الكتابة")3) املسألة ال تتعدى اآليت إذن: احلرية ممكنة ، وإمكانيتها تكمن يف االختيار، مهام كان غريبا ومناقضا لروح الشعر نفسه، القائمة، أساسا، عىل حرية التعبري. أمل

نقل أننا أمام االزدواج ذاته! فقط. مهدي بسامي تتعلق ال الشعر إىل السيايس القمع من اهلروب فكرة

)1) املصدر نفسه ص 113)2) املصدر نفسه ص 135

)3) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 118

فأغلب الشعراء الذين فضلوا البقاء داخل العراق عربوا عن الفكرة ذاهتا، جلهة أن الشعر بدا دائام وكأنه أفضل أنواع املتاريس األدبية، السيام يف البلدان التي

تسود فيها أنظمة دكتاتورية مثل النظام الذي حكم العراق بعد عام 1979. الرأي املتبنى، هنا، يشري إىل التجاء الشاعر للرمز حينا ولألسطورة حينا آخر. بل إىل اللغة التي ال تدل عىل شئ ، كام حدث يف ما بعد منتصف عقد الثامنينيات،

هربا من سلطة دولة قمعت اآلخر، بجسده ، قبل أفكاره. تطبق أن قبل أي مبكرا، الشعر، بلغة احتمت التي مهدي سامي عبارات الدكتاتورية عىل أنفاس املثقفني، مثلام يؤيد التاريخ املثبت حتت القصيدة 1978 ، ال تبدو كثرية االختالف عن العبارة الواضحة التي كتبها فاروق يوسف بعد

قرابة ربع قرن من ذلك. العيش يف ظل احتملت اليوم: كيف بعضهم يسألني يقول"حني لقد كتب وأكتب اجلامل أرعى كنت بيرس: هلم أقول الزمن؟ هذا كل الديكتاتورية

الشعر")1). مثل هذه احللول التي ركن إليها املثقفون ربام جاءت كطريقة مثىل، ال للهرب املثقف ضمري الضمري"، "إرضاء أشكال من كشكل بل ، فقط السلطة من العراقي الذي قرر البقاء داخل العراق، يف قفص واحد، بمعية الوحش، ومن أو القاسيتني، بروح ستبدو، هي األخرى ، جد قاسية، التطلع إىل عينيه ، ثم

ستكون كذلك يوما بعد يوم.

شراسة الداخل: حرب على اإليديولوجيا مل يكن مجيع من بقي يف العراق من مثقفي تلك املرحلة ينتمون إىل أنموذج سامي مهدي، فالسياق الثقايف والسيايس الذي حييل له األخري ربام عد، بالنسبة لألجيال اجلديدة يف الثقافة العراقية،عتيقا جلهة أنه مثل امتدادا للرصاع الثنائي طويل األمد الذي غذاه التناقض بني الشيوعيني والقوميني. غري انه، مع ذلك، كان خطابا سائدا بمعنى أنه امتلك السلطة، سلطة الرمز وسلطة حيازة الكالم،

وقرس اآلخرين عىل االمتثال هلا.

)1) يوسف )فاروق(، صحيفة الراية القطرية تاريخ صدور العدد 13 نوفمرب 2004

119 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

لقد كان ثمة ترويج ذو طابع سلطوي لذلك النوع من الثقافة الذي مثله سامي السامرائي وماجد مصطفى عيل وخالد سعيد محيد أمثال من ورفاقه مهدي

وغريهم من ستينيي الثقافة العراقية الذين قرروا البقاء داخل العراق. نقصد التعامل مع الثقافة بوصفها جتسيدا خلطاب البعث الفكري. لكن ذلك الرتويج كان حمدودا للغاية، بل يبدو من املؤكد اآلن أنه اصطدم بمعارضة جدية والرحى، القطب بني مهددة نفسها وجدت التي األحدث األجيال لدن من

قطب املسدس البعثي ورحى الضحية اليسارية الناشطة خارج البالد. يف وعيهم تفتح الذين أولئك نعني فنحن األحدث األجيال نقول وإذ إىل يتحول ويكاد التعدد يفتقد البلد حيث للبعثيني، املتسلطة األحادية ظل

إمرباطورية لغوية ذات اجتاه واحد ال اثر فيها ألي أفق. يف هكذا سياق نشأ انطباع سيكون له تأثري بالغ يف جمريات األمور الحقا. إنه االنطباع الذي يفيد أن موت الثقافة العراقية، إذا كان ثمة إمكانية للحديث عن مثل هذا املوت، إنام راجع إىل هذا الرصاع اإليديولوجي الذي غذته التناقضات

بني اليساريني والقوميني. أبدوا نقمة شديدة عىل فكرة املؤمنون هبذا االنطباع خليطا من مثقفني كان ذلك مخرية أن إىل التنويه،هنا، املهم من ولعله باآليديولوجيا. الثقافة ارهتان حقبة إىل تارخييا ينتمون الذين املثقفني من بثلة جتسدت قد كانت اخلليط

الرصاع ذاته. نقصد حقبة الستينيات والسبعينيات. نعني أولئك الذين عرفوا إما باستقالهلم

أساسا أو بانفصاهلم املتأخر عن إحدى اإليديولوجيتني املتناحرتني. ما إىل املعسكر وذاك، واجتهوا بأنفسهم عن هذا نأى هؤالء األخريون لقد الرمحن عبد الربيكان، حممود مثال لنتذكرـ الثقايف. بالتصوف تسميته يمكن طهامزي، حممود جنداري، رشدي العامل، عيل احليل، حممد خضري، وغريهم.

الدكتاتورية، من للهرب الفرصة توفر رغم العراق، يف بالبقاء هؤالء قرار لذكرها. معينة ال جمال اجتامعية بظروف مرتبط فردي قرار انه فهم عىل كان لكن ذلك الفهم سيستبعد الحقا ليحل مكانه فهم جديد مفاده أن القرار كان

ثقافيا، أو كام تفهم هاديا سعيد، مهنيا. فهي إذ تستعيد حلظة اهلرب تتوقف عند من قرروا البقاء، ناقلة نقمة البعض

خريف المثقف في العراق 120

ال مثال املهني،ـ الصحفي قاسم، رياض فهاهو اخلاطئ. القرار عىل منهم البعثي العرس لزمالئه" يف هناية فرتة القرار شبه اجلامعي اعرتاضه عىل خيفي الشيوعي وكان اهلروب قد بدأ ،كان هيمس يل: ملاذا هيربون؟ ملن يرتكون البلد؟ ملاذا نسمح بوصمنا بالفارين؟ كان مهنيا بامتياز، ولعله كان مثاال ملجموعة من الكتاب والصحفيني مل يكن البقاء يف بغداد أو يف مدن العراق األخرى أثر محلة التبعيث عام 1978 يعني هلا االنتامء إىل الرفاق البعثيني الذين أحكموا القبضة

االن ")1) بعد نشوب حرب السنوات الثامين، كان اتساع تلك اخلمرية املتصوفة متوقعا متاما، والسبب، كام رأينا أنفا، يتعلق بالتداعيات الرهيبة، النفسية والثقافية، التي

أنتجتها احلرب. غري بعيد عن ذلك، وباإلضافة إىل متقاعدي احلزبني املتناحرين، والفرديني الذين املثقفني رشحية ستظهر الشعر"، ويكتبون اجلامل "يرعون ظلوا الذين خدموا يف جبهات القتال وخربوا، هذه املرة، رائحة املسدس واستخدموه فعال. سيكون هؤالء من أشد الرشائح الثقافية نقمة، ال عىل السلطة التي حولتهم إىل قطيع بلون اخلاكي فقط، بل عىل مجيع اإليديولوجيني الذين حولوا الثقافة الذي سبتي كامل توصيف حسب احلزبية اإلقطاعيات يشبه ما إىل العراقية

هرب من العراق بعد حرب اخلليج األوىل. "لقد كنت أنرش يكتب سبتي الذي وجد، مثل اآلخريين، مهربه يف احلداثة حتمل قد العراقية الثقافة يف احلداثة هامش بأن فخورا وأقوهلا بلدي، داخل ما وحرب بينها فيام األحزاب وحرب إيران مع الدكتاتور حرب الويالت: رسخته األحزاب من تقاليد جمرمة، ومل تثبط مهته يف احلداثة ومل تتغري أفكاره يف

احلرية والفن واحلياة ")2). مع هذا، مل تكن احلداثة وال التصوف الثقايف ليقدران عىل منع الرشاسة من التسلل إىل مفاصل اخلطاب وحتويله إىل خطاب مستفز، عنيف وحمتدم، خطاب يلتمس أقوى العبارات التي يمكن ملخيال التطرف العراقي توفريه للمتالسنني.

)1) سعيد )هاديا(، مصدر سابق ص 75)2) سبتي )كامل(، »اخلروج من العزلة ملواجهة الشاعرية احلزبية« صحيفة الزمان اللندنية العدد

1136 بتاريخ 9ـ 10 2002

121 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

أو إيديولوجي إطار انطلقوا من الذين ينطبق عىل اجلميع، سواء هنا األمر من إطار ثقايف. بمعنى أن لغة شاكر لعيبي املتهم بكونه مثقفا يتحزب لليسار الذي الثامنيني الشاعر قد ال ختتلف كثري اختالف عن لغة أمحد عبد احلسني، الذ، كأبناء جيله، بتهويامت اللغة طوال مرحلة الثامنينيات. اللسان يبدو واحدا

واخلطاب املستفز واملحتدم متامثل لدرجة تلفت النظر. املثال بني أيدينا، فهذا هو شاكر لعيبي هياجم املهاجرين اجلدد واصفا إياهم ذلك مربرا و"احليالني"، "املخادعني" وأيضا و"الطائشني"، بـ"املتحذلقني"

بأهنم كانوا نتاج سلطة البعث حتى وان مل يندرجوا يف ماكنتها الفاسقة. رد أمحد عبد احلسني سيكون مماثال متاما، ولكن بطريقة املدافع الغريزي عن

أبناء جيله. لعيبي رصاص عن اختالف كثري خيتلف ال رصاصا احلسني عبد سيطلق أم السلطة صنيعة وطيشه حذلقته بفضل املجهول "املثقف كان إن ليتساءل تارخيها طوال أنتجت التي هبا اخلاصة املزمنة أمراضها ختتزن ذاهتا ثقافتنا أن

صفحات زائفة ألسامء أشد زيفا")1) ثم يميض الشاعر القادم من غبار احلروب التي سبق أن نوه هبا زميله كامل الشعر بأن أجيال لقارئه لعيبي، يوحي استنتاج أعني "فانه، باملثل سبتي لريد العراقي السابقة مل تكن قد عرفت مهرجني وأدعياء وعيارين وشطارا نستطيع، أنا وإياه، تسميتهم بدءا من روادنا طيب اهلل ثراهم الذين حاول أحدهم إقناع العامل بأنه حكم باإلعدام ثالث مرات ومل تنقذه إال مظاهرات العراقيني احلاشدة

اهلاتفة بحياته")2). البيايت، الوهاب عبد هو فاملقصود واضح، التلميح موفقة: رصاصة إهنا الثقافية أحد رواد احلداثة الشعرية، الذي ارهتن اسمه لوقت طويل باملؤسسة التي رعاها احلزب الشيوعي العراقي. وهذا األخري متهم، دائام، بغرس بذرة

التحزب واألدجلة يف الثقافة العراقية. بعيدا عام متثله مثل هذه املالسنات التي شاعت منذ منتصف التسعينيات، أي

شوال 22 21 االحد السبت، 1106 العدد اللندنية الزمان صحيفة امحد، احلسني، عبد (1(1422 ه. 5 6 يناير كانون الثاين 2002

)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 122

منذ أن قرر عرشات املثقفني العراقيني اللحاق بزمالئهم يف املنفى، فإن ما هيمنا، رفاق كامل توفر عليها التي الرشسة اللغة البحث عن مصادر هذه اآلن، هو

سبتي وامحد عبد احلسني. أهي نتاج سياق العنف الذي وجدوا أنفسهم جزءا من ماكنته القاسية أم إن

األمر أبعد من ذلك!أن رغم فقط، البعث ماكنة نتاج الواقع، يف تكن، مل اخلطاب يف الرشاسة خطاب هذا احلزب جتاه اآلخر، ربام كان إنموذجا مثاليا هلذه الرشاسة، ولدينا املوجهة ومقاالته مهدي سامي قصائد فيها تبدو أمثلة املدونات ذاكرة يف

للشيوعيني أقلها تطرفا. إن األمر يرجع إىل أسس اخلطاب الثقايف العراقي نفسه، فهذا اخلطاب القائم عىل نفي اآلخر وإلغائه، بطريقة عنيفة، كان نمذج، كام رأينا، وفق آلية جمتمعية و، من ثم، سياسية تقوم عىل األسس ذاهتا: نفي اآلخر، تغييبه، قتله، رضبه أو دخل الذي العزاوي فاضل مع جرى كام باملسدس، له التلويح تقدير، بأقل عليه حممد سعيد الصحاف والرشر يتطاير من عينيه ثم رصخ به:" إىل متى تظل

حاقدا عىل البعثيني بسبب8 شباط؟ أمل حين الوقت لتنسى ". ومل ينس الصحاف أن يضع يده "عىل وسطه، حيث يوضع املسدس وقال يل:

إذا مل تتخل عن أفكارك املعادية فهناك وسائل أخرى للتعامل معك")1). مثل هذه اآللية يف التعامل مل تكن لتقترص عىل سلطة البعث يف تعاطيها مع برهان أو اعتقل وعذب الذي الصائغ أو يوسف العزاوي أمثال املعارضني، عىل مشيا العراق يغادر أن قبل نفسيا دمر الذي آنذاك، الشاب الشاوي، واستعامل فالرشاسة بينهم، فيام املثقفني تعامل إىل ذلك تتعدى إنام األقدام. ملمحا عراقيا بات أنه إىل درجة واملادي، كان شائعا الرمزي بنوعيه، العنف

مميزا. تتعلق بسياق ثقايف أو أديب قدر تعلقها بسياقات إن رشاسة مثل هذه قد ال حتيل إىل آليات فهم لآلخر تتيحها ثقافة اجتامعية ترى يف اآلخر عدوا مفرتضا

وخصام أبديا.

)1) العزاوي، فاضل، مصدر سابق ص 230

123 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

مناخ من اخلارجني األدباء أذهان يف التبس قد اآلخر شبح كان ثقافيا، احلروب يف أكثر من شكل. ففضال عن السلطة السياسية، وخطاهبا ذي الطبيعة تزال شغالة رغم اختالف أشكال ثمة سلطات أخرى رمزية ال العنفية، كان

جتسدها. إهنا اإليديولوجيا القابعة خلف جاكيتات املثقفني اليساريني، ضحايا املسدس عىل نرياهنم فتحوا الذين أولئك وباريس، وجنيف لندن يف املقيمني البعثي، اهلاربني اجلدد من جحيم البعث مطلقني عليهم سيل اهتامات ربام تبدأ بمامرسة اإلرهاب الفكري وقد تنتهي بجرائم قتل قديمة، يكتب فاضل العزاوي داعيا أبوابنا ملن ظل هيرج نفتح لنا أن ينبغي "هل إىل إغالق األبواب بوجه هؤالء القمع من النظام ويربر له جرائمه ويشتم ضحايا طيلة عقود وينعم بخريات

املبدعني العراقيني؟")1) يف له روج الذي التوصيف حسب الداخل، أدباء هجرة بعد جرى ما إن املالسنات واخلصومات الثقافية املعنية، هو أن كل خميال هذه الرشاسة سيوجه ضد مهاجري السبعينيات، السيام متطريف اليسار الذين أظهروا مشاعر احتقار

وكره ال حد هلا لرشحية كاملة من املثقفني بحجة أهنم نتاج سلطة البعث. يكتب كامل سبتي بلغة فيها من االنكسار قدر ما فيها من العنف، والكالم موجه، بالتأكيد إىل أحد مهامجيه من مثقفي اليسار العراقي"ماذا كنت ستفعل لو كنت هناك يف العراق أكنت ستهرب مثلنا وتعرض جسدك للتمزيق أن هم كشفوا خمططك، أكنت سرتىض أن حيكم عليك باإلعدام وتنام يف املحطات، جائعا مرشدا بال خبز أو صديق أو حزب وقبلها؟ أكنت سرتى بان تعيش يف فنادق امليدان وغرف احليدر خانة فقريا، ال تكتب عن الدكتاتور وال متلك لقمة ذهبت، وإذا األدباء احتاد إىل تذهب أال عليك فسيكون دبرهتا فان للعشاء، نحن بينام جنيف يف تعيش كنت التايل.. اليوم بغداء التفكري عليك سيكون الشوارع، ال فرق، برصاص أم يف اجلبهات ندري يف أي حلظة نموت، يف ال إيران أو برصاص عسكر الطوارئ يف الداخل.. أكنت تعرف أننا نعيش حربا

فرباير شباط اجلمعة 18 العدد 3351 اللندنية العريب القدس فاضل، صحيفة العزاوي، (1(2000

خريف المثقف في العراق 124

يا عيني.. ! ")1) بالشعور باخلذالن والشعور باحلقد، احلسد فيها خيتلط التي الروح هبذه باهلزيمة، دخل اخلارجون من غبار حروب يف نزاعات جديدة ضد أصدقائهم

القدامى.

برلمان: أدب الخارج أدب الداخل آخر من متظهرات هذا لندن متظهرا الذي أسس يف املثقفني برملان كان هل الرصاع الرشس! إن ذلك يمكن أن يتضح متام االتضاح إذا ما ربط املرء بني عاد الذي الثقافة ميدان شهدها التي التطورات وبني النشاط هذا انطالق

لريهتن باإليديولوجيا رغم مجيع الترصحيات التي حتاول نفي ذلك. ولعل تتبع التفاصيل، هبذا الصدد، سيكون كثري النفع الكتشاف حقيقة تفيد أن الربملان مل يكن، يف جوهره، سوى ردة فعل عىل حدث بارز هو تأسيس جتمع ثقايف جديد ستطلق عليه تسمية االحتاد العام للكتاب والصحفيني، وكان هذا التجمع مرعيا من جانب حركة سياسية كانت نشأت بعد حرب اخلليج الثانية

هي حركة الوفاق الوطني. رصاع أن القول علينا ومالبساته، االحتاد هذا أمر إىل نأيت أن قبل ولكن الذين الداخل مثقفي بعض ضد يوسف، سعدي رأسهم وعىل الربملانيني، سبق ان تورطوا بالتعاون مع أجهزة النظام لن يكون مربرا ما مل يعرج املرء عىل الظاهرة ذاهتا، ظاهرة اهلجرة شبه اجلامعية، متبنيا طبيعتها ومن ثم، أثرها يف ما يعتقد انه اختالط لألوراق وخلخلة ملشهد كانت استقرت مالحمه منذ حدوث الزلزال السبعيني حني انقسمت الثقافة العراقية إىل ثقافتني، واحدة يف املنفى، وأخرى داخل العراق، األوىل يسارية، متفتحة وذات أفق واسع، بينام األخرى،

قومية، متحجرة وذات اجتاه واحد ووحيد. ما جرى بعيد حرب اخلليج الثانية كان خلخل، يف الواقع، هذا التقسيم الصلد واخلالص، ولئن وجد اليساريون أنفسهم بمواجهة عرشات املثقفني اجلدد ممن

)1) سبتي، كامل، »اخلروج من العزلة ملواجهة الشاعرية احلزبية« صحيفة الزمان اللندنية العدد 1136 بتاريخ 9ـ 10 2002

125 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

كانت رائحة النظام الدكتاتوري ال تزال عالقة بمالبسهم فإن هؤالء سيجدون امتيازاهتم "األساتذة" الذين طاملا حسدوهم عىل أمام لوجه، أنفسهم، وجها

وشهرهتم، واألجماد التي خيل للجانبني أهنم حققوها. كام الدكتاتورية، جحيم من متأخرين نجوا الذين هؤالء فإن باملقابل "األساتذة"، آليديولوجية مفرطني وكره احتقار مشاعر سيبدون سيزعمون، مع واحد قفص يف هنارا، جهارا هؤالء، أيديولوجية سيضع بعضهم إن بل

آيديولوجية النظام. هناية بمعجزة، العراق من اخلارج وهو أنه، من دهشته أحدهم وسيعلن الثامنينيات، سيفاجأ "برؤية مشهدين متامثلني قوامهام النبذ واإلقصاء وهتميش

اآلخر")1).يف أما املنفيني، املثقفني بحق الالإنسانية الكرهية القسوة ثمة الداخل، ففي املنفى الواسع حيث وصل فإن ما سرياه لن يكون أكثر من "تغليب نظرة مسبقة إزاء كل اخلارجني توا من الوطن، نظرة مؤداها أن من مل خيرج مبكرا فهو أكثر

تلوثا بسخام الكارثة")2). بعضهم، أو اليساريني أذهان يف موجودة، كانت النظرة هذه مثل مربرات فاغلب املهاجرين اجلدد كانوا حتى وقت قريب حمسوبني عىل ثقافة البعث، أو

بأقل تقدير، كانوا نتاجا هلا. كانوا، باألحرى، عبارة عن مسدسات قديمة ترتبص بأعداء األمس، نقصد اليساريني الذين نجوا بجلودهم ووعيهم وهاهم اليوم مهددون يف عقر منفاهم. مئات وكتبوا البعث مؤسسات يف عملوا كثر أدباء عن بالطبع، نتحدث، الصفحات يف متجيد حروبه ومدح طغيانه أو حتى العمل يف مؤسساته، أدباء متفاوتون يف كل شئ، بمواهبهم، بدرجة وعيهم وقبل كل شئ بقرهبم وبعدهم

عن أفكار السلطة. لقد كانوا، يف الواقع، خليطا من العدميني والنفعيني والباحثني عن املجد أو

شوال 22 21 االحد السبت، 1106 العدد اللندنية الزمان صحيفة امحد، احلسني، عبد (1(1422 ه. 5 6 يناير كانون الثاين 2002

)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 126

الرفاهية أو حتى لقمة اخلبز. لكن رغم هذا، كان بينهم الكثري من املثقفني الناقمني عىل السلطة القمعية، الكارهني هلا. ويمكن للمرء أن يميز هؤالء بيرس استنادا إىل مواقفهم من ثقافة

البعث. بمعنى آخر فإن أحدا لن جيازف فيضع كامل سبتي أو عيل السوداين أو باسم صدام لعدي مساعدا عمل الذي اجلنايب عباس مع جنب إىل جنبا املرعبي الحتاد ومؤسسا لندن يف سياسيا الجئا املطاف به انتهى ثم طويلة سنوات

معارض للسلطة. كذلك، فإنه من السخف مقارنة أديب بعثي، مثل عبد اجلبار نارص حسني، مصابا العراق، إىل عاد ثم املحمرة معركة يف اإليرانيني لدى أسريا وقع كان باالكتئاب الدائم، بعد حرب اخلليج الثانية، ومل تكد متيض عليه بضعة شهور هذا مثل مقارنة السخف من سدين، إىل وصل ومنها عامن إىل سافر حتى السلطة بأعطيات تنعم الصائغ عدنان مثل بشاعر حقيقة املضطهد األديب عن يدور اغلبها دواوين مخسة له وطبعت كبرية رسمية مسؤوليات وتسلم األدباء ألكثر عادة متنح عاملية بجائزة ليفوز األمر به انتهى ثم احلرب، عوامل

تعرضا لالضطهاد. مثل هذا االختالط كان أنتج، يف أحيان كثرية، الكثري من اللبس لدى متتبعي الظاهرة، ظاهرة اهلجرة، ومراقبي التغريات الثقافية التي طرأت بسببها. لكن كان بالنابل، احلابل اختالط تراثي، بتعبري أو األوراق، اختالط عن بعيدا يمكن مراقبة تغري جوهري ربام اخترص بموقف اقرب إىل السيكولوجي كان بلدان اجلدد يف املهاجرين استقرار هؤالء بمجرد السبعينات انتاب مهاجري بعضهم مصادفة ثم، املتحدة،ومن والواليات وهولندا والسويد كالدنامرك

نجاحات حمدودة لكنها واضحة. اليسار مثقفي لدى شديدة حساسية إثارة إىل رأينا، حسب أدى، ذلك إن أمام وضع جديد متاما حيث موجات أنفسهم، فجأة، الذين وجدوا العراقي اهلجرة املتتالية تبدأ بخلخلة، إن مل نقل هدم، بعض مالمح التاريخ الثقايف الذي

شيد انطالقا من حلظة االنفصال التي حتدثنا عنها آنفا. اللحظة التي كرست الحقا وباتت جزءا من بدهييات الثقافة العراقية. نعني

127 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

فكرة وجود ثقافتني عراقيتني إحدامها تواجه األخرى، وأحيانا تناقضها. األوىل باختصار: أو مطرودة: واألخرى طاردة، األوىل جملودة، واألخرى جالدة،

األوىل ملوثة، وسخة وقمعية بينام الثانية طهرانية، إنسانية، وشفافة. الداخل به قبل غزو مثقفي الفصل االفرتايض مل يكن مرصحا إن مثل هذا آخرين. مثقفني أفواه يف املسدسات وضع من قيل، كام بينهم، وكان للمنفى بجهود املشيد الثقايف التاريخ تدنيس خطر اقرتاب ومع فشيئا، شيئا لكن اليساريني، أصبح الترصيح بمثل هذه األفكار مباحا عىل ألسنة عدد كبري من

املثقفني بعضهم ذو وزن أمثال سعدى يوسف وفاضل العزاوي. كان إبداء املوقف من مقولة وجود ثقافتني عراقيتني موضة تلك األيام وبدا سواء واملواقف األفكار الستعراض مناسبة وكأنه للكثريين بالنسبة األمر،

كانت سياسية أم ثقافية. ولئن حاول البعض اسرتضاء مزاج مثقفي املنفى الذي بدا أكثر ميال لتقبل فكرة الفصل، إال أن عددا مهام من األدباء أبدى امتعاضه الشديد من الفكرة لدرجة أن صادق الصائغ شبه الثقافة العراقية بقطرة دم حتمل املواصفات ذاهتا

إذا ما وضعت حتت املجهر)1). كان االمتحان عسريا ذلك أنه يبدو من العبث متاما البحث عام يفرق قصيدة يكتبها شاعر مقيم يف بغداد، كرعد عبد القادر، عن قصيدة يكتبها كاظم جهاد يف باريس أو شوقي عبد األمري يف عدن. قد يصح ذلك يف بعض أوجه النقد بقوة، حترض املكان يفرضها التي السياقات أن اعتبار عىل الرواية حتى أو أثر عن التحدث مثال نيازي صالح بإمكان كان هذا، مع لكن، وهناك. هنا املكان بطريقة إطالقية يبدو فيها أدباء الداخل وكأهنم حمكومون، رغم أنوفهم،

بسياقات إجبارية يستحيل الفكاك منها. تعلق إذا السيام متاميزتان ثقافتان بالرضورة، هناك، "بالتأكيد نيازي يقول األمر باملغرتبني الذين يعيشون يف بلدان صناعية متقدمة حيث اللغة خمتلفة يف التاريخ متضاد يف أكثر األحيان، أول ما اإليقاع واالستعامل والداللة وحيث

)1) الصائغ )صادق(، صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3360 السنة احلادية عرشة الثالثاء 29 شباط 2000

خريف المثقف في العراق 128

عقلية إىل تدرجييا تنتقل حيث عقليته هو كهذه بلدان يف املغرتب لدى يتغري تدوينية بعد أن كانت شفاهية بحيث يصبح الكالم خمتربيا دقيقا، أي ال يلقى

عىل عواهنه")1). وبعد أن يواصل الشاعر املقيم يف لندن طرح رؤيته حول اثر السياق املكاين يف الثقافة، يعود إىل أدباء الداخل ليقول "حقا ثمة نصوص مؤثرة وعميقة يكتبها مبدعون عراقيون يف الداخل، ولكن مما خيشى عليها أهنا مرحلية وخيلو بعضها

من النمو التدرجيي")2). إن مثل هذا الرأي كان شاع كثريا لدى مثقفي املنفى. نقصد فكرة الرتكيز عىل أثر املكان يف التغريات التي قد تطرأ عىل أنامط التفكري، ومن ثم رؤى النصوص وطرائق بنائها. لكن هذه الفرضية تظل ناقصة، عىل الدوام، رغم حججها التي

تبدو مقنعة. من منا يستطيع اآلن مثال إقناع قاص مثل حممد خضري، وهو املقيم يف مدينة البرصة منذ والدته، بأنه لو كان قد هاجر إىل مدينة كلندن لتغريت عقليته من

شفاهية إىل تدوينية! هل ثمة أكثر من هذا السارد اهنامكا بالتدوين! بوجود القائلني التي هتدد بخلخلة رؤى الرموز أنه حتى مثل هذه املفارقة مرحلية سطحية، وأخرى وتدوينية عقالنية عميقة واحدة عراقيتني، ثقافتني وغري نامية، حتى مثل هذه الرموز التي يقف عىل رأسها حممد خضري ستكون من نتاجات ثقافة اخلارج، حسب رأي يعود لشاكر لعيبي:" يتبقى أن أفضل ما يف الثقافة العراقية يف داخل العراق مثل حممد خضري وطهامزي والربيكان وقلة

أخرى غريها ينتمي يف احلقيقة إىل الثقافة العراقية يف خارجه")3). ولكن كيف! جييب شاكر" ألن هذه األخرية ثقافة اخلارج هي التي دافعت وسعت إىل تعريف تلكم األسامء إىل الوسط الثقايف العريب وكتبت عنها")4)..!

خالصة ما يراه هذا الشاعر ومعه عدد ال بأس به من اليساريني أن جل من

)1) نيازي )صالح(، صحيفة القدس العريب اللندنية العدد)2) املصدر نفسه

)3) لعيبي )شاكر( صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3366 السنة احلادية عرشة الثالثاء 7 آذار / مارس 2000

)4) املصدر نفسه

129 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

أمر وهو بأخرى، أو بطريقة البعث بثقافة لوثوا قد كانوا العراق داخل بقي سيصاغ الحقا بمقولة ذات طابع إقصائي ترى أن الباقني هناك، شاءوا أم أبوا، انفراد البعث وظهور دكتاتورية صدام حسني جزءا من تلك سيصبحون بعد

املاكنة الفاسقة للسلطة. يقول شاكر لعيبي يف مدى صدقية الرأي الذي يقسم مثقفي العراق إىل مثقفي داخل ومثقفي خارج "لن يستطيع اإلرهاب الثقايف من أن يمنع العقل السليم مداحة خوافة وجلة متهافتة ثقافة األوىل عراقيتني ثقافتني يرى أن من اليوم لكنها ذكية لدى اجليل األقدم ومحقاء لدى اجليل األحدث تكاد أن حتتقر حرفة للدولة اآليديولوجي الربنامج مع متسقا وأسلوبيا لغويا وختتط هنجا الكتابة العراقية الراهنة، إهنا ثقافة داخل.. باملقابل، ثمة ثقافة عراقية أخرى طلعت من النسغ العريب العراقي لكي خترج يف رحلة طويلة يف منفى سمح هلا بأن تلتقي

بزوايا نظر خمتلفة وبأساليب وقواعد.. الخ ")1). مربرات هذه الرؤية، عند شاكر وغريه، جتد يف اإليديولوجيا أثرا يامثل، إن مل نقل يزيد، عىل أثر املكان كسياق منتج ألنامط التفكري كام رأينا مع صالح نيازي. احلزب عاما من سلطة ثالثني أن عليها طويال هي الرتكيز تم التي الفكرة الواحد بكل قرسها وقسوة مرتكزاهتا الفكرية القائمة عىل قيم الشمولية وإلغاء

اآلخر كانت كفيلة بخلق ثقافة بمثل هذه املواصفات.يقول التشكييل فيصل لعيبي يف شهادة له حول مالبسات هذا األمر أن"ثقافة والنازي، الفايش العنرصي الرتاث من مقوماهتا استمد الذي احلاكم احلزب متلك تصورا معينا وهلا أهداف واضحة وخطط آنية ومستقبلية كام اتضح بعد والفلسفة واألدب والفنون والرتبية والتعليم الثقافة تبعيث تم عندما ذلك والدين واملجتمع والشوارع والساحات واملدن. وهذا موجود يف إنتاج مثقفي اهنم يدعون الذين أولئك لدى أيضا، وربام حتى الداخل واخلارج النظام يف واملالجئ املنايف يف إخواهنم من الصفح يطلبون وجاءوا ثالثا النظام طلقوا

البعيدة ")2).

)1) املصدر نفسه)2) صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3377 السنة احلادية عرشة الثالثاء 21 آذار / مارس

2000

خريف المثقف في العراق 130

االنتقال مع أننا هو املهم لكن كثرية، هنا تثار أن يمكن التي املالحظات إىل أثر اإليديولوجيا، من جهة، وإىل حادثة اهلجرة اجلديدة التي قام هبا مثقفو الداخل، من جهة أخرى، سنجد أن املصطلح ذاته، مثقفي الداخل، سيصبح حاملو إليها انتقل كان أخرى أمكنة استيعاب يستطيع بحيث مطاطية أكثر

املصطلح. فهؤالء سيوجدون، بعد حرب الكويت، يف أمكنة جديدة كانت تعد، حتى الذبن اليساريني نقصد األخرى، الثقافة ممثلو يشغلها خالصة أمكنة جميئهم،

هربوا من العراق منذ السبعينات. مثل هذا األمر مل يكن ليغيب عن ذهن أبرز القائلني بالفصل اإليديولوجي هلاتني الثقافتني، فهذا هو سعدي يوسف يضيف إىل إيديولوجيا البعث مؤثرا "جذر وشبانه: حسني صدام عدي إنه التداخل. فوىض إنتاج يف ساهم آخر ذلك جتده عند عدي صدام حسني الذي قام بام يسمى متردا عىل احتاد األدباء فأوجد احتادا خاصا به مجع يف إطاره عنارص أكثر شبابا، فقد اعترب محيد سعيد العراق. يف شبابيا احتادا فأقام ديناصورات الصائغ ويوسف مهدي وسامي كثري ممن شاركوا يف احتاد أدباء عدي وتعاونوا معه هاجروا ويرست هلم سبل اهلجرة، هؤالء يدعون اآلن أهنم يمثلون ثقافة الداخل ويبدو أن هؤالء الشباب يريدون أن يقوموا بدور، وهم شباب وهلم ما يشاءون، ولكن ليس هلم احلق يف

أن يقولوا أهنم يمثلون ثقافة الداخل")1) يف الشك للمرء يمكن الذين من ذلك او املثقف هذا يقف ال األمر إن

دوافعهم بل انه يتعدى ذلك اىل مثقفني آخرين عرفوا بعمق تفكريهم. "الوفاق"عىل بصحيفة منشور يف يشطب فهو أحدهم كان العلوي هادي كل جتربة الثقافة العراقية التي فضلت البقاء داخل العراق قائل، وهو يتعرض ملوقف املثقفني العراقيني من حرب اخلليج الثانية: "الكالم جيب أن يقترص عىل

مثقفي املنفى ألهنم وحدهم أهل الثقافة يف بلدهم")2). أصحاب فكرة الربملان الثقايف مل يكونوا، يف الواقع، أقل تشددا من العلوي

)1) صحيفة »القدس العريب »اللندنية السنة الثانية عرشة العدد العدد3344)2) املهنا )أمحد(، األنسان والفكرة مركز احلضارة العربية القاهرة ص45

131 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

شكال بعضهم عند الطروحات أخذت وان ذاته الرأي يرون فهم ولعيبي، اهلنداوي، عضو السياسة. لكن مع هذا يكتب حسني النقد منه إىل أقرب إىل إال ، قطعا هلا عالقة ال العراقي الداخل ثقافة إن للربملان" التنفيذية اهليئة عالقة تضاد ورفض ، مع ذلك الرغاء الذي يسعى البعض إىل تقديمه كثقافة بينام هو إعالم سلطة. هناك بال شك مبدعون بني أدباء السلطة لكنهم داخل الواحدة ، لكن يف األصل فقط، فقد أطفأت القهم اليد ال يتجاوزون أصابع السلطة ذاهتا، وأحيانا أطفئوا القهم بأنفسهم. اآلن أالحظ أن بعضهم ، حتت ضغط تقدم العمر وثقل التاريخ ، بدا يشعر بندم عىل ما فعله بنفسه مكتشفا أنه

ضيع املشيتني كام نقول باملثل الشعبي")1). بالسياسة غالبا امللتبسة التربيرات هذه عن وبعيدا باختصار، الفكرة والتحزب، ال تعدو اآليت: البقاء داخل العراق واالنخراط، بإرادة أو بدوهنا، يف سياق النظام الذي أنتجته الدكتاتورية ال يمكن أن يمر دون أن يرتك أثرا يف

الذوات مهام نأت بنفسها عن الدرن. كانت هذه الفكرة هي السائدة غري أننا مع هذا نستطيع العثور عىل إلتامعات نادرة، هنا وهناك، تفكر بطريقة أخرى مغايرة متاما وإذ يتتبع املرء األمر سيجد الرسب خارج يغردون وكأهنم آنذاك، بدوا، املغاير الرأي هذا أصحاب أن يمكن ما هلدم جياهدون إنام األمر، هذا عن يتحدثون وهم أهنم، والسبب

تسميته اآلليات اإليديولوجية املتامهية بالرؤى الثقافية. كانوا باألحرى قد ختلصوا من ذلك اإلطار اجلامعي الذي وجدوا زمالءهم مندرجني ضمنه. أمحد املهنا، الكاتب واإلعالمي الذي هرب هو اآلخر يف هناية "اإلنسان والفكرة الوحيد العراق، كان أحد هؤالء. يف كتابه السبعينيات من هجوما الذعا عىل رأي هادي العلوي آنف الذكر قائال "بموجب املهنا "يشن هذا التصنيف يتم شطب مثقفي العراق يف الداخل، أفرادا ومؤسسات وإنتاجا. معارضة. احلال هذه يف هو سيايس بموقف يتقرران هنا والعدم الوجود إن املثقف ليس الذي يعمل وينتج يف حقول الفكر واألدب والفن. انه املعارض "مهام الثقافية واألسامء والنتاجات املؤسسات هذه أما فقط. املنفى يف وعلنا

)1) لعيبي )شاكر( صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3366 السنة احلادية عرشة الثالثاء 7 آذار / مارس 2000

خريف المثقف في العراق 132

اختلفنا عىل تقييمها" فليس وراءها شغيلة ثقافة. ماذا هم إذن؟ إهنم بسهولة، ال وجود هلم من األساس")1).

أمحد املهنا يكاد يلمس، هنا، لب املشكلة: فاملثقف موجود يف املنفى فقط أما يف الداخل، فال شئ عىل اإلطالق.

وإذا كان هناك، حسب عبارات حسني هنداوي السابقة، مبدعون" بني أدباء السلطة "فإهنم" ال يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ، لكن يف األصل فقط، فقد

أطفأت القهم السلطة ذاهتا ، وأحيانا أطفئوا ألقهم بأنفسهم ". إنه العدم املحض املرادف دائام لظالم الدكتاتورية.

اجلبار عبد فالح السوسيولوجي هو فهذا استثناء جمرد املهنا رأي يكن مل يفند رأي كل من يقول بانقسام الثقافة العراقية بني داخل خارج قائال "القول بانقسام الثقافة إىل داخل وخارج سطحي وسقيم، فالثقافة الوطنية تتفاعل يف أطر حاضنة واسعة قوامها الرتاث املمتد عند البعض إىل سومر وأكد.. هناك بال ريب متايز يف الثقافة العراقية بل ويف كل ثقافة، بني أجيال وتيارات فنية")2). وإذ يتساءل عبد اجلبار عن منشأ هذا الفكرة الغريبة يعود ليقول "ال أعرف املنشأ الدقيق هلذه الفكرة لكنني صادفتها عند بعض اليساريني الذين التمسوا مطلقي أحد أن ذهني يف انغرس الذي األول االنطباع سنوات. قبل اهلجرة

القول هبذا التاميز يسعى إىل إجياد موقع خاص له ولربام لشلة حوله ")3). الفكرة إذن ذات منشأ سيايس، لكن األمر قد ال يقف عند هذا، فثمة امتيازات أدبية واجتامعية كانت ارتبطت بذلك املنشأ: أن يكون املثقف شيوعيا ومنفيا، يف الوقت نفسه، فمعنى ذلك أن حيوز عىل رشعية متثيله للثقافة العراقية احلقيقية.

منذ املهاجرين بمالمح ارتبطت التي تلك إهنا الثقافة! تلك ما هي مالمح هناية السبعينات.

ما جرى الحقا هو أن عرشات املثقفني واألدباء الذين قرروا مغادرة العراق "املمثلني الرشعيني" وينافسوهنم عىل بعد حرب اخلليج الثانية بدءوا يزامحون

)1) املهنا )أمحد( مصدر سابق ص)2) عبد اجلبار )فالح( صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3354 السنة احلادية عرشة الثالثاء

22 شباط / فرباير 2000)3) املصدر نفسه

133 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

ذلك االمتياز الومهي. هنا برزت ردة الفعل العنيفة التي اخترصت بفكرتني، األوىل أن هؤالء "الغزاة" إنام هم نتاج طبيعي للدكتاتورية وهم حيملون، شاءوا

أم أبوا، صفات ومقوالت الدكتاتورية ذاهتا. أما الفكرة الثانية فتقول أن ثقافتني يف مكانني متاميزين يف نظمهام وسياقاهتام

البد أن ينتجا لنا نمطني من الكتابة والرؤى واألشكال. الذين واملثقفني األدباء لدن من وجه أكمل عىل ستستغل األخرية الفكرة جوهبوا بالطرد واالزدراء، نقصد أولئك األدباء والنقاد الذين أطلقت عليهم

تسمية أدباء الداخل. التي شغل هبا عدد من الصحفية تلك اخلصومات النبش يف املقصود ليس الصحف مثل القدس والزمان وغريمها، إنام املقصود هو بروز موقف مضاد، من قبل مثقفي الداخل أو ممثليهم الذين وصلوا متأخرين إىل املنفى، وهو موقف سمته ازدراء كل أثر أديب أو ثقايف أنتجه املهاجرون السبعينيون عىل اعتبار انه ال

يملك حق ادعاء متثيله األدب العراقي احلقيقي. املربرات جاهزة: طول عهد الفراق بالوطن، غياب التقاليد، الفوىض، عدم

وجود رقابة فنية.. الخ. جرحية ذات به تقوم فعل ردة كونه إىل أقرب الصدد، هبذا يبدو، األمر إن واالستخفاف اجلدد املهاجرين أولئك وعي ازدراء أن أي جلرحها. انتقاما بتجارهبم واعتبارها فاقدة للقيمة كان أدى هبم، يف األخري، إىل حماولة احلط من

منتقدهيم وسحب اعرتافهم القديم هبم.لكأهنم يردون عىل االحتقار قائلني: ومن انتم لتعرتفوا بنا!

مجلة اسمها المسلة: حركة اسمها الوفاق اقتلوا هذا االحتاد بأي ثمن!

املنرب املسلة، الثاين من جملة للعدد افتتاح هكذا عنون عيل عبد األمري كلمة الذي سيعد أحد أبرز منابر املثقفني العراقيني اخلارجني"منذ بعض الوقت" من

العراق. مناسبة املقال هي اإلشارة إىل اهلجمة التي تعرض هلا احتاد األدباء العراقيني

الذي أسس يف لندن قبل مدة وجيزة من إصدار تلك املجلة.

خريف المثقف في العراق 134

التي الوطني الوفاق حركة من مادي وبدعم ،1999 عام األمر حدث منذ والداخل لندن يف املقيم القديم، البعثي عالوي، أياد السيايس يتزعمها

بداية عقد التسعينيات إىل صلب املسهد السيايس املعارض لسلطة البعث. السياسية الساحة عىل طرأت مباغتة إعالمية بانتفاضة أشبه األمر كان العراق" عن "حترير إثر صدور قانون املعارضة لسلطة صدام حسني العراقية من عدد نجح نوعه من فريد قانون وهو ،1998 عام األمريكي الكونغرس الساسة العراقيني املقيمني يف الواليات املتحدة يف إقناع صناع القرار األمريكان مليون 98 مبلغ ورصف البعث نظام إسقاط حماوالت بدعم ويقيض بتبنيه

دوالر من اجل ذلك)1). جزء من تلك األموال ذهبت، يف الواقع، ملصلحة حركتني ستربزان بشكل قوي يف السنوات الالحقة ومها حركة الوفاق الوطني واملؤمتر الوطني العراقي

الذي يتزعمه امحد اجللبي. باختصار شديد، قررت احلركتان تنشيط عملهام الدعائي ففاحتت عددا من املثقفني العراقيني املتواجدين يف بعض العواصم بغية إجياد قنوات لرصف تلك

األموال. املثقفني املقيامن يف لندن، ومعهام عدد من العلوي وفوزي كريم كان حسن أمثال أمحد املهنا وهاشم العقايب قد اندرجوا يف إعالم حركة املؤمتر عرب صحيفة محلت اسم "املؤمتر" وذاع صيتها كثريا يف عدد من العواصم. أما حركة الوفاق السعيد مثل مهدي لندن يقيم يف آخرين بعضهم مثقفني إىل فاجتهت الوطني وعباس اجلنايب بينام يتوزع اآلخرون يف مدن كردستان العراق، فضال عن عامن

ودمشق. جملتان وأخريا املستقبل"، و"نداء "بغداد" مها وصحيفتان إذاعة ثمة كان

أدبيتان مها "املسلة" و"أوراق ثقافية".لكن األهم من هذا كله هو تأسيس هيئة جتمع املثقفني من خمتلف االجتاهات ويف شتى الدول تكون بمثابة "احتاد عام للكتاب والصحفيني" يف دول املنفى.

)1) كوكبورن )اندرو وباتريك( صدام اخلارج من حتت الرماد، والدة صدام من جديد ترمجة عيل عباس مكتبة مدبويل القاهرة ودار املنتظر بريوت خالية من سنة الطبع من ص 100 اىل

109

135 الفصل الثالث / على أعتاب الزلزال

يف حزيران من ذلك العام أعلن رسميا عن والدة هذا االحتاد بعد أن تشكلت، انطالقا من كرستان، جلنة حتضريية من عرشين مثقفا أخذت عىل عاتقها إنضاج فكرة االحتاد ووضع مالحمه ومنهاج عمله ونظامه الداخيل ، أهدافه وتوجهاته. هيئته ألعضاء انتخابات أجريت أن بعد التأسييس املؤمتر عقد مدة بعد "فالح من تتكون الرسمية، اإلحتاد جملة املسلة، نرشت كام وكانت، اإلدارية الستار عزيز وطاهر طيب النصار وعبد تركي احللفي وحممد العامري ومجعة أمني وسعد جاسم وفاضل نوري وكامل حممد البرصي وكاظم أمحد وجليل مند قادر وجعفر أنور حممد ومصطفى اجلنايب وعباس جابا وخوشابا جواد ومهدي السعيد وأمحد الصالح وحممد رشيف وهادي احلسيني وعصام حممد

وعيل عبد األمري وعبد اخلالق كيطان وصباح الالمي")1). أمهية االحتاد املذكور ال تكمن يف أسامء مؤسسيه التي كان أغلبها يعود إىل أدباء وصحفيني مغمورين، وال تكمن أيضا يف كون عدد ال بأس به من املؤسسني كانوا خارجني من العراق توا أمثال صباح الالمي وعبد اخلالق كيطان وهادي

احلسيني. إنام األمهية تكمن يف كونه مدعوما، وهي املرة األوىل التي حتدث، من حركة

سياسية ناشئة حديثا وممولة علنا من دافع الرضائب األمريكي. لقد كانت املعلومة األخرية، حداثة احلركة ودعمها من الواليات املتحدة، هي املثرية لالنتباه لعدد كبري جدا من املثقفني العراقيني. وهم مثقفون وأكاديميون كان أغلبهم، إن مل نقل مجيعهم، حمسوبني عىل اليسار العراقي وكانوا هربوا من

العراق منذ السبعينيات وبعضهم منذ الستينيات.أنه عىل السيايس املشهد لتصدر واملؤمتر الوفاق حماولة إىل هؤالء نظر لقد جهد أمريكي مشبوه، غايته ليست إسقاط نظام صدام إنام إدامته بطريقة جديدة. لقد بدا األمر، بالنسبة هلم، استفزازيا متاما، خصوصا أن هذه الرموز اجلديدة للمعارضة عهد ال جديدة قاعدة تأسيس يف ورشعت اإلعالم اكتسحت

العراقية التي طبعت طوال عقود بطابع يساري قومي هبا. الشعور الذي ساد آنذاك تلخص بأن هذه التيارات السياسية تريد االلتفاف

)1) املسلة العدد األول السنة األوىل أيول / سبتمرب ص 100 103

خريف المثقف في العراق 136

البساط من حتت أرجل ممثليه وقد عرب العراقي، وسحب الشعب عىل نضال أغلب املثقفني الكبار من ذوي النزعة اليسارية عن مثل هذا التخوف. هذا هو

مظفر النواب يقول أن "هناك جهود مريبة يراد هلا تصدر املشهد السيايس")1). يف وقت يشن فاضل العزاوي هجوما الذعا واصفا هؤالء بأهنم "بزغوا فجـأة اإلعالمية الساحة عىل وسيطروا الثانية اخلليج حرب بعد األرض باطن من معتمدين عىل الصحف واإلذاعات والتلفزيونات العربية واألجنبية التي بذلت

كل ما يف جهداها لتنصب منهم أبطاال جددا ومنقذين للشعب")2). أما عبد احلسني اهلنداوي فيكتب "أما الزمر العراقية من العرفاء أو السامرسة عىل انتداهبا لفرض واشنطن خلطط أو األجنبية لألجهزة التابعة الكسبة أو أشبه إنام شئ يف العراقية الوطنية املعارضة من ليست فهذه املقبل العراق بحوانيت خردة تعرض بضاعتها للبيع الرخيص عىل حساب الشعب العراقي

ومستقبله")3).

)1) صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3366 السنة احلادية عرشة الثالثاء 7 آذار / مارس 2000

)2) صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3348 السنة احلادية عرشة الثالثاء 15 شباط / فرباير 2000

)3) صحيفة القدس العريب اللندنية العدد 3351 السنة احلادية عرشة اجلمعة 18 شباط، فرباير 2000

137 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

الفصل الرابع

في قلب الزلزال

ربيع 2003: شرفة كنعان مكية

توطئة املفكر مكية، كنعان يكتب للجدل، إثارة العبارات أكثر من واحدة يف العراقي، وهو يرى، من خالل شاشات التلفزة، أوىل صور القصف االمريكي بغداد عىل املتساقطة القذائف أصوات إن" يكتب ،2003 عام ربيع لبغداد أعذب من أمجل موسيقى سمعتها أذناي، بل هي كقرع أجراس احلرية تؤذن

لفجر جديد للعراق ")1) العبارة كانت أكثر من صادمة، ففي الوقت الذي كان العراق يتعرض حلرب دامية حيث القصف يطال كل مفاصل البلد، والنار تكاد تندلع يف كل مكان، بدا كنعان مكية وكأنه يطل من رشفة أخرى ال عهد للمثقف العريب هبا، متامال التي أوقف أكثر من ربع قرن من البعث املفرح: إهنيار دولة الفجائعي املنظر

حياته من أجل هدمها، نظريا يف البداية، وعمليا، يف آخر االمر. غاضبة صارخة، كانت املقالة، ذيوع بعد استثريت، التي االفعال ردود يصح أخالقي معيار أي وفق هو: املطروح التساؤل وكان باملرارة. وشاعرة بوصفها القصف ألصوات واإلصغاء بلده باحتالل الرسور إبداء للمثقف

موسيقى عذبة. اىل أعادت أحدهم، توصيف "، حسب او"الفاجرة الصادمة، العبارة تلك

)1) هذه العبارة ترد يف مقال ملكية نرشته صحيفة »نيو ريبابليك »عشية انطالق احلرب

خريف المثقف في العراق 138

االذهان الفكرة الكالسيكية عن املثقف اخلائن "امللعون" حسب توصيف حممد يف محاسا أقل يكن مل الذي الزهاوي صدقي مجيل للشاعر االلويس شكري "العرب"يف عددها رقم 35 قصيدته اإلنكليز حني كتب يف صحيفة استقبال

الشهرية "والء اإلنكليز" التي يقول يف بعضها: وجدت اإلنكليز أويل احتشام

مامم اظ الذم ، حف أباة الضيمم فصادقهم جتد أخالق صدق

هلم، والصدق من شيمم الكرامم أهيا العريب واترك تبرص

والء الرتكم من قوم لئامم ووالم اإلنكليز رجال عدل

(1( وصدق يف الفعالم ويف الكالمم و"فاجر"، عميل أيضا، "ملعون" إنه الزهاوي، عن خيتلف يكن مل مكية

حسب وصف كاتب عراقي يف صحيفة "القدس العريب")2). غري أن اللعنة، هذه املرة، لن تصيبه وحده. كام حدث ملواطنه الزهاوي الذي رشحية ستشمل بل املناسبات، إحدى يف "العراقي" صفة االلويس عنه نزع "باملعارضة فلسطيني كاتب وصفهم الذين العراقيني املثقفني من عريضة باالستخبارات آخر عراقي شاعر ربطهم حني يف املتـأمركة"، العراقية

االمريكية، مطلقا عليهم تسمية "مثقي الـ" يس أي ايه ")3). إهنم أتباع "ابن علقمي" العرص، كنعان مكية.

"وطنيني"، ال تبدو مسألة "خونة" ام النظر عام إذا كان مكية واتباعه بغض "عراقيا" ملكا جذىل بروح املوت خطى وقع اىل واإلنصات بالدمار، التغني التي أطلوا منها عىل أبدوا مشاعر مماثلة، وإن بدت الرشفة ملعونا. اآلخرون

احلدث مناقضة لرشفة مكية.

)1) انظر جملة »املجلة »االلكرتونيةـ العدد الرابع السنة االوىل مايس حزيران 2004)2) املصدر نفسه

)3) الكاتب هو حممود البيايت انظر صحيفة القدس العريب اللندنية عدد 9 / 8 / 2004

139 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

ولدينا، هنا مثال ال خيلو من داللة يذكره كنعان مكية نفسه وهو يصف موقف املثقفني العرب من إحدى حلظات حرب اخلليج الثانية.

إذ ما إن أطلق صدام حسني بضعة صواريخ من نوع سكود عىل تل أبيب، الذي أحدثته يف املحدود الدمار املرئية مشاهد من وعرضت وسائل اإلعالم الفلسطيني والعريب حتى الشارع الغبطة يف ينابيع مبان، حتى تفجرت بضعة أن ناقدا تونسيا كتب يصف الدمار الذي أنزله أول صارووخ "عراقي ": أه..

ياجلامل هذا الدمار النبيل")1). التونيس الناقد ورشفة ،2003 ربيع عىل مكية رشفة الرشفتني، هاتني بني عىل خريف خليج الرصاع، رصاع اهلويات واآليديولوجيات. كانت ثمة هوية

تتغري: دولة متوت ومعها مثقفها، وأخرى تولد ومعها مثقفها أيضا.

أبعد من شرفة الحرب: موت الدولة ال النظام بالرتحاب، األمريكية الدمار آلة استقبلت التي مكية عبارة تبدو ال ثقافيا، الربيع ذلك يف العامل عليه صحا الذي الفجائعي املشهد عن قسوهتا يف لتقل العراقي. فنحن إزاء مثقف جديد يف طروحاته، صادم يف عباراته، حتى ليبدو اللذين سادا طوال العربيني الثقافة والوعي يف طريقه إلنجاز قطيعة مع نظام

القرن املايض. ال يتعلق األمر بالعبارة "الفاجرة" التي كتبها وأثارت مئات الردود واملواقف املتباينةـ ستكون لنا معها وقفة فيام بعدـ إنام األمر حييل إىل رؤية شبه كاملة كان طرحها منذ هناية الثامنينات ومست أكثر مقوالت الثقافة العربية قداسة، رغم

أنه انطلق، يف مرشوعه املذكور، من أزمة هويته العراقية حرصا. احلال أنه عىل الرغم من أن مرشوع الرجل الفكري مل يكن ليبعد كثريا عن مشاريع غريه، جلهة اهنامكه بتعرية النظام الدكتاتوري الذي حكم العراق أكثر من ثالثة عقود، إال أن مكية بدا خمتلفا كثريا. وجتسد ذلك االختالف بانشغاله الطويل بإعادة النظر يف إرث العالقة املعقدة التي ربطت، دائام، املثقف الرشق

أوسطي العريب خصوصا بقضايا بالده.

)1) انظر اخبار الرشق 16 اذار 203

خريف المثقف في العراق 140

حالة العراق ربام كانت عينة،ال بالنسبة ملكية، بل بالنسبة لرشحية عريضة من املثقفني العرب.

السبب، يف ذلك ال حيتاج كثري عناء لتبينه، فاملقدسات التي أراد مكية حتطيمها ليست مقدسات عراقية فقط، بل هي مقدسات عربية وإسالمية أيضا.

"مجهورية صاحب أراد ما خالصة تبدو ال الحقا، فيه سنتوسع باختصار اخلوف" ترسيخه سوى اآليت: عىل املثقف، كي حيدث قطيعة مع تاريخ عالقته هبويته أوال، وبعالقة هذه اهلوية باآلخر الغرب ثانيا، حتطيم ذلك النسق الثقايف الكامل الذي تكون منذ مرحلة النهضة. أي مرحلة التعرف إىل اآلخر املمتدة إبان وذلك العرشين. القرن منتصف حتى عرش الثامن القرن منتصف من

حصول تلك الدول "الناهضة" عىل استقالهلا. نقول أنه إذا ما صادف أن نجح مثقف ما بإحداث مثل هذه القطيعة، وهو ما جرى مع كنعان مكية، فسيغدو من السهل، حينئذ، التفوه بالعبارات "الفاجرة"

الشبيهة بام قاله وهو ينظر إىل مفاصل دولته تتفكك عىل يدي "آخر" جديد. املهم، يف كل هذا، أن ما يعد "فاجرا" و"خائنا"، بالنسبة لذلك النظام، النظام وتم النسق حطم طاملا كذلك يعود لن آلياته، حسب اهلوية تكونت الذي

اإلنعتاق من إساره. هذه الفكرة تربر، بشكل ال يقبل الشك، اهليجان الثقايف"البدائي" الذي قوبل به كنعان مكية من قبل رشحية املثقفني العريضة، أبناء ذلك النسق املقدس. وإذا كان للمرء أن حييص اللعنات التي صبت عىل رأس مكية فإنه سيتذكر،يف احلال، حسني طه عىل أو رشدي سليامن عىل يوم، ذات صبت، التي اللعنات تلك

وعيل عبد الرازق. النظر بغض ذاته الفعل اخلروج عىل"املقدس" يستتبع أن ببساطة، السبب، عن نوع اخلطاب املعني بالتقديس، سواء كان دينا ام أدبا ام أخالقا ورشفا أم

أي شئ آخر. هذا التلخيص ملا حاول مكية القيام به لن يعفينا من التامس التفاصيل بتوسع. لكن ليس قبل ان نقف أمام الرجل نفسه، كنعان مكية، من يكون؟ وملاذا أثار

كل ذلك الضجيج يف الثقافة العربية؟

141 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

من هو كنعان مكية؟ الثانية إثر تعود معرفة الثقافة العربية بكنعان مكية اىل ما بعد حرب اخلليج احتالل دولة الكويت. ففي ذلك الوقت تعرف املثقفون العرب عىل مكية من خالل كتابه الشهري "مجهورية اخلوف" الذي غزا املكتبات واألرصفة، يف العامل

العريب، بعد أن ذاع صيته يف أوربا والواليات املتحدة.إن" الزمن غري العادي يفعل بالكتب أمورا عجيبة ")1). كان كنعان مكية قال هذه العبارة بمناسبة تقديم كتابه الثاين"القسوة والصمت" بعيد حرب اخلليج

الثانية. إن اإلشارة، واضحة، بالنسبة ملن تابع مسرية الرجل آنذاك، خصوصا إذا ما وكانت حرب القاهرة، أثناء وجوده يف التي صادفها املفارقة تلك وقفنا عىل

اخلليج الثانية قد انتهت للتو. لقد رأى الرجل عرشات الطبعات املقرصنة لكتابه األول، علام أن املخطوطة كانت تعرضت للكثري من االضطهاد من قبل دور النرش إذ امتنعت هذه االخرية

عن طبعها ألسباب أقرب إىل السياسة منها إىل أي شئ آخر. فنظام صدام كان ال يزال حمتفظا بالكثري من قوته اإلعالمية، وكانت جرائمه تسميته يمكن الذي النوع ذلك اىل ربام تنتمي الكثريون عليها اطلع التي هناية حتى كان الرجل أن سوى لشئ ال بتذكرها"، املسموح "غري باجلرائم حرب اخلليج األوىل حليفا اسرتاتيجيا للغرب. لكن غزو الكويت قلب األمور

رأسا عىل عقب. دوائر خارج النظام ذلك خفايا ينري شئ أي عن يبحث العامل راح لقد

االستخبارات العاملية، وكانت األخرية تعرف كل شئ تقريبا. ليس ما العادي" بالكتاب نفسه، فعل" الزمن غري يقول مكية حينئذ، وكام متوقعا، فتحول "مجهورية اخلوف" إىل وثيقة أنموذجية ملعرفة خفايا ذلك النظام

وأرساره.يقول مكية عن كتابه الذي انتهى منه عام 1986 واقتىض نرشه زمنا طويال "إنه منذ وقت قريب جدا كانت قلة ضئيلة من الناس فقط مستعدة ألن تصدق

)1) انظر »القسوة والصمت »كنعان مكية الطبعة االوىل دار الساقي 1994 ص 241

خريف المثقف في العراق 142

أن األمور سيئة إىل هذا احلد داخل العراق")1)ويف كل األحوال، فأن"مجهورية اخلوف "أصبح أشهر كتاب يف العامل، وبات

منذ ذلك احلني، مرجعا فولكلوريا ملعرفة قمع نظام البعث ضد أبناء شعبه. احلديدية، حسني صدام نظام إعالم شبكة تفككت أن وبعد األخري، يف صارت تسمية "مجهورية اخلوف"مرادفا مزعجا لتسمية العراق لدرجة أن جملة التاسع بعد الرئيسية، غالفها بصفحة ظهرت الشهرية "نيوزويك" األمريكية The "من نيسان 2003، لتعلن اخلرب عىل املأل هكذا: "موت مجهورية اخلوف

(2( ."Republic of Fear" Is Deadكنعان مكية إذن، وهذه العبارة جمازية يف جانب وحقيقية يف جانب آخر، كان مكتشف مجهورية اخلوف، ال بالنسبة للعراقيني الذين عاشوا يف خضمها، وال بالنسبة ألولئك الذين هربوا منها باكرا او الحقا. إنام، بالضبط، بالنسبة للرأي العام األمريكي. السيام إذا عرفنا أن هذا الرأي العام شهد انقالبا غري مسبوق

يف تقييمه لنظام البعث بعد احتالل الكويت عام 1990. بإشاعة مكية كنعان أثر يف اليوم، املجادلة، بمقدوره يكون لن أحدا إن واملعاهد األكاديميات بعض أروقة من بدء، ذي بادئ انطلق، عام، رأي الدولة عىل حي مثال هو إنام العراق يف البعث نظام أن يفيد األسرتاتيجية البوليسية ذات الطابع الدكتاتوري، وأن وجوده عىل رأس السلطة يعني املزيد

من انتهاك حقوق اإلنسان. كان املجال الذي ركز عليه مكية هو توثيق تلك االنتهاكات عرب أكثر من قناة، من اجلهد االكاديمي، اىل الكتابة الفكرية، ومن هذه األخرية إىل التلفزيون. خذ عام األنفال محلة عن عرض ما أمهها للتلفزيون أفالم عدة يف مسامهته مثال

1988 يف كردستان العراق. 1992 عام يف مورو آر إدوارد جائزة عىل مكية حاز الفلم، يف ولدوره

كأحسن فيلم وثائقي يبحث يف العالقات اخلارجية. مهامت كنعان مكية مل تقف عند هذا، فقد كان أحد الداعني لعقد مؤمتر لقوى

)1) نفس املصدر ص 7)2) نفس املصدر ص 7

143 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

العراق عام 1992، وكانت تلك القوى حتى العراقية يف كردستان املعارضة ذلك الوقت مرشذمة يف اجتاهات وتيارات وكتل ال يربطها رابط سوى بضعة حتالفات ثنائية مثل تلك التي ربطت الشيوعيني بالكورد واإلسالميني بعضهم

بالبعض اآلخر)1).الرجل ملا سيفعله قياسا أمهية كبرية ذا يعد قد ال النشاط كله إن ذلك عىل إذ مع تصاعد حظوظ موافقة اإلدارة بعيد أحداث احلادي عرش من سبتمرب. من ورفاقه مكية صعد بالقوة، البعث نظام تغييري اسرتتيجية عىل األمريكية من اجللبي، أمحد أمثال القرار، صنع دوائر من املقربني العراقيني الساسة نشاطهم إلقناع صقور اإلدارة األمريكية بإسقاط نظام صدام، ومن ثم مساعدة

العراقيني يف إعادة تأسيس دولتهم عىل ضوء مبادئ الديمقراطية. إعداده كان ذروة هذا الذي أسهم مكية يف الشهري عام 2002 لندن مؤمتر

النشاط. بدأت طروحات بعد صدام، ما التحضريات ملرحلة بعد ذلك، ويف خضم "القسوة والصمت"، تناقش التي ضمنها بعض كتبه، خصوصا النظرية مكية بشكل جاد يف إطار جلنة شكلتها وزارة اخلارجية األمريكية برئاسة توم دريك

وتتألف من 32 عضوا وتدعى "جمموعة عمل املبادئ الديمقراطية".)2)كانت مهمة هذه اللجنة، باختصار، إنجاز"مرشوع مستقبل العراق".

ورقة متثله األمهية بالغ تطور لدينا مكية، كنعان بأفكار األمر تعلق بقدر ،2002 عام من الثاين ترشين شهر "الربوسبكت" يف جملة يف األخري نرشها

وهي حصيلة عمل هذه املجموعة. وكان سبق ملكية أن قدمها يف صياغة أوىل إىل املؤمتر الذي عقده معهد "أمريكان أنرتبرايز أنستتيوت AEI" حتت عنوان" اليوم القادم: التخطيط لعراق ما بعد

صدام حسني". بتاريخ 3 ترشين األول 2002. )3)

)1) ينظر حممد عيل االتايس »معلومات مضللة عن ادوارد سعيد: كنعان مكية واليمني االمريكي جلديد »اخبار الرشق 16/ 3/ 2003

)2) انظر حممد عيل االتايس »معلومات مضللة عن ادوارد سعيد: كنعان مكية واليمني االمريكي جلديد اخبار الرشق 16/ 3/ 2003

)3) نفس املصدر

خريف المثقف في العراق 144

العراقي اجلانب من املؤمتر أنه حرض تقول املفصلية األحداث تلك مفكرة املستوى عىل إىل جانب مكية، أمحد اجللبي وأتباعه. مقابل وفد أمريكي رفيع رأسه ريتشارد بريل، احد النافذين يف احلزب اجلمهوري ومساعد وزير الدفاع

االمريكي دونالد رافسيلد أثناء احلرب وبعدها. )1)من املهم القول أن مسألة إسقاط نظام صدام حسني بدت، يف املؤمتر املذكور،

مسألة وقت ال أكثر. املؤمتر ذلك يف الفت بوضوح برزت اجللبي أمحد ورفيقه مكية دور أمهية ربام أكثر من أي وقت مىض. ولعل يف احلادثة التي يذكرها أحد منتقدي كنعان مكية نقال عن موقع املعهد الذي نظم املؤمتر دليال ال يقبل الشك يف تعاظم دور الرجلني، فحني قام ريتشارد بريل إللقاء كلمته، مل جيد ما يقوله، للتدليل عىل أمهية مكية واجللبي يف عراق ما بعد صدام، سوى اإلشارة إليهام بالقول:"احلل الوحيد يف العراق هو إحالل طغمته احلاكمة بأناس من مثل هؤالء املوجودين

من حول الطاولة ". )2) التي الشهرية ورقته عليه تدل ما وهو املذكور، املؤمتر يف مكية، وجد لقد املقبلة، الدولة شكل عن أفكاره أجرأ لعرض سانحة الفرصة هلا، سنعرض أسس مع جذري، بشكل متقاطعا، سيكون شكل وهو صدام. بعد ما دولة فيها تسيد آلية عىل أسايس، بشكل املعتمدة، الربيطانيون. بناها التي الدولة

العنرص العريب السني، بثقافته عىل باقي العنارص، بثقافاهتا. هذا األمر هيأ، حسب مكية وغريه، األجواء لربوز شكل من أشكال الدولة اإلنكليز. مؤسسوه توقعه مما أبعد دورا اجليش فيها لعب دولة النازية، شبه كانت مأساة اآلشوريني عام 1933 وقمع انتفاضات العشائر يف جنوب العراق ستضطهد األقليات حيث الدولة هذه طبيعة عن الدموية اإلعالنات أوىل

والطوائف لن يعرتف بحقوقها. أبرز دعاوى مكية، ملعاجلة هذه املسألة، متثلت بتبنيه فكرة العراق الفيديرايل

يناير العراق »بتاريخ 16 املنشورة يف صحيفة احلياة بعنوان »عراقية انظر مثال مقالة مكية (1(2003

)2) ترد العبارة يف الورقة التي قدمها كنعان مكية ملؤمتر »امريكان انرتبرايز »الذي عقد بتاريخ 3 ترشين األول 2002 انظر حممد عيل االتايس »معلومات مضللة عن ادوارد سعيد »

145 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

وهي فكرة حازت رىض دوائر صنع القرار يف واشنطن مثلام حازت تأييد أبرز قوتني مضطهدتني يف عراق القرن العرشين، الشيعة واألكراد.

قدر تعلق األمر هبذه الدعوة، عىل املرء التوقف أمام فكرة جوهرية، فالعراق الفرعية عىل حقوقها باهلويات فيه ما يسمى الذي يمكن أن حتافظ الفيديرايل الثقافية سيعني بالرضورة إقصاء مركزية الثقافة العربية عن البلد. وهو ما يدعو

له مكية دون مواربة.اإلقليمية لصالح يلعب آخر "عامال هناك أن الصدد، هبذا يرى، مكية إن اجلديدة العراقية الدولة اعتبار استحالة وهو الفيدرايل للنظام أسايس كمبدأ النظر وبغض مواطنيه لكل يكون أن الديمقراطي جيب العراق عربيا.. كيانا العربية الدولة أن فرضية يعني القبيل، وهذا انتامئهم أو دينهم أو عن عرقهم

مقصاة".)1) بالنسبة لغالبية املثقفني من ذوي كانت عبارات مثل هذه شبيهة بالصاعقة، النزعة العروبية. فمكية الذي كان جترأ، سابقا، فأطلق تسمية "مجهورية اخلوف" عىل دولة البعث، الدولة التي جسدت حلم القوميني العرب او "أسطورهتم"، نزع نقصد سابق. مفكر طرحها عىل جيرؤ مل فكرة طرح عاتقه عىل سيأخذ

"عن العراق. "اهلوية العربية قوميات من يتكون العراق أن بام اآليت: عىل يقوم اجلديد مكية رأي مفاد يبدو واحد، ديني او "قومي" رابط بينها جيمع ال متنوعة وأعراق وطوائف هذه بني كل العالقة من جديد نوع تنظيم إىل الركون اليوم، الرضوري، من وال جهة، من متساوية، حقوقا للجميع تضمن عالقة واملكونات. األعراق املكونات األخرى كام حدث أبناء باضطهاد او طائفة أو عرق لقومية تسمح

خالل القرن العرشين، من جهة أخرى)2). لقد وجدت فكرة مكية اجلديدة صدى هائال لدى دعاة العراق "العراقي"، السيام الكورد والعرب الشيعة. مقابل ذلك، كان عىل القوميني العرب اعتبار

الفكرة مساسا بإحدى أهم مقدساهتم الثقافية.

)1) انظر مقالة كنعان مكية »عراقية العراق: فيام خيص مسألة الفدرالية »صحيفة احلياة 16 يناير 2003

)2) املقالة نرشت يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 / 12 / 2002.

خريف المثقف في العراق 146

نظام وفق تكون إنام العثامنيني من الربيطانيون ورثه الذي العراق أن ذلك آلية حمددة: هوية الدولة جيب أن كالسيكي عمره مئات السنني، ويرتكز عىل

تكون عربية إسالمية وإذ نقول إسالمية فنعني حتديدا كوهنا سنية. القائلة الوصفة ترمجة وكانت عقب، عىل رأسا شئ كل قلب أراد مكية بالعراق غري العريب تفيد أن احلل الوحيد لكل مشاكل القوميني،عربا وأكرادا،

هو صياغة هوية لعراق يتشكل فيدراليا. ولكن ليس عىل أساس اإلثنيات.

عراقية العراق: الصدمة تصوغ الهوية "إذا ما قيض للفيديرالية يف العراق أن تقلع، فعليها أال تكرس أي نوع من القومية أو الطائفية. إذ ال يمكن إقامتها إال عىل فكرة "عراقية العراق" فوق كل

أشكال القومية والطائفية. هذا هو السبيل الوحيد للتغلب عىل الرتكة القاتلة حلزب البعث، التي يمكنها، متجسدة يف القوميات العربية أو الكردية أو الرتكامنية أو اآلشورية املتصارعة،

أو يف الطائفية، أن تؤدي إىل دمار العراق، حتى بعد زوال صدام حسني")1).هوية العراق كانت جمال الرصاع الوحيد.

صحفا غزا الذي الواسع الفكري التجاذب من استخالصه يمكن ما هذا العاصف يف صحيفة أنرتنيت عديدة بعد نرش كنعان مكيه رده عربية ومواقع احلياة عىل مقالة كتبها إدوارد سعيد للصحيفة نفسها بعنوان "معلومات مظللة عن العراق" وحفلت هبجوم غري مسبوق من جانب هذا املفكر عىل مكية. إذ مل يكتف بعده حمرضا عىل حرب عام 2003 إنام طعن يف كفائته العلمية واعتربه العراقيني "تفاهات" من قبيل قوله أي مكية"إن كاتب ترهات وأحيانا مروج ملتزمون بالفيديرالية بدال من حكم مركزي. وما يقدمه إلثبات ذلك تافه متاما

.(2("إدوارد سعيد التي ميزت لغة النظر عن منطق االستهانة واالزدراء وبغض

)1) انظر »معلومات مضللة عن العراق »ألدوارد سعيد منشورة يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 / 12 / 2002 ومما جاء فيها قوله عن مكية »

)2) انظر ملقال حممد الرميحي »غضب ادوارد سعيد »املنشور يف صحيفة احلياة بتاريخ 11 / 12 2002 /

147 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

التي حفلت بالشتائم، حسب توصيف الكثريين، يبدو أن أبرز ما أثار حفيظة املفكر الفلسطيني وغريه هو ابتكار مكية وصفة العراق "غري العريب"

من العراق لغزو مكية تربير "ذروة "االسترشاق" أن كتاب صاحب يقول جانب الواليات املتحدة يتمثل يف اقرتاحه أن يكون العراق اجلديد غري عريب. الذي العريب العام الرأي عن بازدراء مكية أي يتحدث كالمه، معرض ويف لن يكون له، حسب قوله، أي شأن إطالقا. وهذا يمهد بالطبع لطرح تكهناته احلل هذا سيتحقق كيف أما السواء. عىل واملايض املستقبل بشأن اخليالية السحري بنزع اهلوية العربية فإن مكية ال يفصح، كام هي احلال أيضا يف ما يتعلق بتوضيح كيف سيتم ختليص العراق من هويته اإلسالمية وقدراته العسكرية.

إنه يشري إىل خاصية مبهمة يطلق عليها "اإلقليمية". )1)بغض النظر عن موقف، ال سعيد فقط، إنام أغلب الذين شاركوا يف مهامجة وكأهنا مكية رد من املستلة السابقة الفقرة تبدو العريب"، "غري العراق فكرة الذي الشخصاين الطابع ذلك من له وإخراج كله، الرصاع لطبيعة تلخيص وسم املعركة، معركة مكية - سعيد، ليصل إىل جوانب قد تبدأ باحلديث عن هوية العراق إال أهنا، بالتأكيد، لن تنتهي إال باحلديث عن هوية املثقف. وبني

اهلويتني أكثر من وشيجة كام سيتضح الحقا. يف ليست، العرب القوميني حفيظة أثارت التي العراق فيدرالية مسألة إن احلقيقة، سوى واحدة من متظهرات املشكلة، مشكلة العراق يف عالقته هبويته،

أوال، وعالقته بمحيطه العريب، ثانيا. متناقضتني، رؤيتني تنازع نقصد فنحن العريب بمحيطه عالقته نقول وإذ واحدة تنظر إىل العراق بوصفه "بروسيا" العرب وهو ذو هوية عربية ال تقبل جمرد النقاش، بينام ترى األخرى أنه ليس أكثر من بلد متعدد األعراق، متنوع األقوام، وأن مشاكله ال يمكن أن حتل دون إزاحة أي شكل يطمح إىل اختصار املنادون هبا عربا أم أكرادا أم آشوريني أم البلد يف أي فكرة قومية، سواء كان

تركامنيني.

)1) انظر »معلومات مضللة عن العراق »ألدوارد سعيد منشورة يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 / 2002 / 12

خريف المثقف في العراق 148

التي األفكار تلك معها تزاح أن جيب بل وحدها ضامنة ليست الفيدرالية يتحول هبا العراق إىل واحد عريب وآخر كردي وثالث آشوري... الخ.

هذا ما يوضحه كنعان مكية بجالء يف رده حد انه يعرب عن صدمة عظيمة لندن، فحني احلرب، يف قبل العراقية املعارضة لقوى أقيم هزته خالل مؤمتر العراقيني العريب جاءت املعارضة األقوى، ال من العراق غري طرحت وصفة

العرب، كام قد يتوقع الكثريون، إنام من األكراد. تقوم فيديرالية ال بروز إىل توصال "صيغت الفكرة أن مكية يرى كام العلة كأساس اإلثنية عن األقوى املدافع أن ظهر لكن العراق. يف اإلثنيات عىل

للفيديرالية إنام كانت املنظامت الكردية نفسها")1).فكرة العراق غري العريب التي ربام مل يوفق مكية يف إطالق التسمية الصحيحة التمييز التوقف عند العراق الالقومي، تستدعي عليها، لعل األصح تسميتها بالغ الفرادة الذي يفرق به مكية بني مفهومني متداخلني من مفاهيم القومية. إذ من الواضح أن الرجل يميز جيدا بني مفهومني اختلطا غالبا عند كثري من

منتقديه. يقول مكية، هبذا اخلصوص، أن املقصود بالقومية، بالنسبة له" ليس بالتأكيد املقصود هو ما تسميه بالوطنية. بل أو ما يسمى الدولة الوطن أو حب حب حن آرندت القومية القبائلية وهذا النوع من القومية هو شعور ال يتعلق بكيان

معطى أصال ")2). إنام بفكرة كيان يقرب أن يكون أسطورة. كان مكية قد طرح هذا املفهوم بتوسع أثناء انتقاده ملوقف املثقفني العرب من حرب اخلليج الثانية يف كتابه "القسوة والصمت". ففي أثناء تلك احلرب، وجد املثقفون العرب، وأغلبهم عاشوا يف الغرب وترشبوا قيمه، أنفسهم أمام مازق فكري واضح، فهم مل يستطيعوا كتم مشاعرهم "القومية" جتاه احلدث املفصيل، وأعلنوا، رصاحة، أهنم مع عملية احتالل الكويت وضمها حد أن مفكرا مثل جورج طرابييش يقول "ما حدث يف 2 آب مل يكن خيارا بني وحدة أوتوقراطية كلتامها وجتزئة حتمالن وحدة بني باألحرى خيارا كان بل ديمقراطية وجتزئة

»املنشورة يف صحيفة احلياة الفدرالية يتعلق بمسألة فيام العراق: انظر مقالة مكية »عراقية (1(بتاريخ 16 يناير 2003

)2) نفس املصدر

149 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

وصمة األوتقراطية، وليس ألحد أن يامري يف أن وحدة ديمقراطية خري ألف مرة من جتزئة أتوقراطية ولكن أليست وحدة أوتوقراطية خري بمرة واحدة عىل البواعث تكن ما أيا إذن اخلليج يف حدث ما أوتوقراطية.. جتزئة من األقل

الذاتية لفاعله القطري هو فعل قومي")1)الكويت بضمه حسني صدام أن فيعتقد التونيس، املفكر جعيط، هشام أما دخل "دينامية التاريخ"، يف وقت مل جيد البعض اآلخر غضاضة من االعرتاف أنه وقف "مع النظام العراقي من غري أن يتنازل عن معارضته للعالقات القمعية

التي يقيمها مع شعبه". )2) يف كل هذه املواقف، بدا أن ثمة انحيازا ثقافيا عربيا إىل جانب فكرة معينة، لكن ميزة هذه الفكرة هي أهنا خيالية ترتسم وطنا عىل شكل أمة عظيمة وكبرية ال يسمح هلا الغرب بالتحقق. وما ال يسمح له بالتحقق حيتاج إىل أنظمة ورموز والذاكرة احلافل التاريخ ذي العظيم العراق ذلك صدام، عراق شاكلة عىل

احلضارية التي يمكن أن تلتمع يف أشد األوقات حلكة. صدام نظام أن الغامضة احلداثيني بطريقة يعرتف مثال احلاج انيس الشاعر قمعي ودكتاتوري وأن احتالله الكويت مرفوض متاما. بعد ذلك يقف لتأمل التي اليومية التفاصيل تلك كل من أصالة أكثر له بالنسبة تبدو أخرى فكرة عىل برهان سوى الواقع يف هنا تساؤالتنا ليقول"ما يتوقف حوهلا، يتساءل احلقيقة وحيتقر الذي حيتقر األمريكي العرص براءتنا يف سذاجتنا، عىل سخافة أغبانا وما التاريخ، يف جذورا واألعمق عراقة منه األكثر ويكره الضعفاء

نتساءل ونتأمل عوض أن نقتل". )3)إدوارد سعيد مل يكن خارج هذا الرسب املتجانس، فبعد عرشة أيام عىل الغزو والغرب العرب بني الثقافية اهلاوية فكرة "األندبنبدت" متحدثا عن كتب يف

رابطا بينها وبني االستقطاب السيايس املتعاظم يف اخلليج)4). لقد ختيل سعيد أن فكرته جديدة، لكن احلقيقة أن ذلك مل يكن جديدا باملرة.

)1) نفس املصدر)2) انظر »القسوة والصمت »كنعان مكية الطبعة االوىل دار الساقي 1994 ص 258

)3) نفس املصدر ص 240)4) نفس املصدر ص 242

خريف المثقف في العراق 150

او العربية الذات تعرف بدايات إىل متتد ربام اخلليج اتسعت يف التي فاهلاوية الرشق أوسطية عىل اآلخرـ الغرب.

الرصاع هلذا طبيعيا امتدادا باألحرى، كانوا، وزمالؤه الفلسطيني املفكر الذي تم الرتكيز عليه حتى غدا يف األخري ملمحا ال يمكن نكران آثاره يف اهلوية

العربية. أسطورة بوصفه الوطن بل مكية، كنعان وطن ال الوطن، إىل االنحياز ساندوا الذين العرب املثقفني أغلب عذر كان القبائلية"، "القومية خلقتها الغزو املذكور، حتى أن السوري كامل أبو ديب، احلداثي الشهري، عرب عن ذلك

بقصيدة يقول فيها: "قد يكون الوطن طاغية متجربا

قد يكون رشطيا تطاردنا كالبه الباهشة يف رش داخل األسوار وقد يكون الوطن كهف خيباتنا

ومذبح أحالمنا العذبة... غري انه يظل يف مجيع أحواله وأطواره الوطن

ونظل ال نستطيع أن ال نكون إال مع الوطن)1)"تعليق كنعان مكية عىل هذه القصيدة كان حادا فهو إذ يتساءل عن ماهية ذلك الوطن الذي ال نستطيع إال أن نكون معه. يعود ليجيب، بال مواربة إنه الوطن األسطورة، الكيان غري املعطى، وغري املجسد، بل ذلك الشئ الذي يمكن أن

يكون "سجنا وحكاية خرافية يف آن واحد". )2)إنه الوطن الذي صنعته القومية القبائلية، وطن أبو ديب وهشام جعيط، وفواز الكويت احتالل بعد بالصدمة أصيبوا ممن وغريهم سعيد وإدوارد طرابليس ثم، بدال من أن يصحوا من سكرهتم األسطورية الطويلة راحوا يصعدون من البدائي واالهتياج القلق "بني جتمع مشاعر عن كتاباهتم، يف معربين، موهتم

واالنفصام الرصيح". )3)

)1) انظر »القسوة والصمت »كنعان مكية الطبعة االوىل دار الساقي 1994 ص 257)2) نفس املصدر ص 276)3) نفس املصدر ص 242

151 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

يقول مكية حملال جوهر املشكلة الثقافية التي جتسدت أثناء تلك األزمة، أن املشكلة "ناشئة من املنطق الداخيل للنموذج اآلديولوجي احلاكم القومية الثقافية

والذي يضم يف جمموع ما يضم املاركسيات والقوميات واإلسالميات". )1)إنتاج إىل أدى احلاكم اآليديولوجي للنموذج الداخيل املنطق أن بمعنى وجد وإذ أسطورية، أو خيالية ما "هوية" أناس عربها زور إستثنائية طريقة اإلدراك إىل فجأة، سارعوا، اهلوية تلك أسطورية مأزق أمام أنفسهم هؤالء "أهنم بحاجة ماسة ويائسة إىل واحدة، وأثناء بحثهم عن ذلك شعروا أنه من الرضوري أن ينحوا جانبا كل ما هو فردي وبالتايل مرتبط باحلياة ومشدود إليها "الضحية" الفاقدة للون والتي يمكن أن تقدم فقط حسا مغلوطا لصالح لغة

بالطمأنينة اجلمعية")2)أن أغلب الكتابات التي نرشت آنذاك من قبل الباحثني والصحفيني العرب إليها والركون الضحية لغة تغليب بالذات، الثيمة هذه حول تدور كانت األسطورية اهلوية الثقيل،وهم الوهم وطأة اكتشاف خيبة من مالذا بوصفها

اآلتية من أفكار اقرب إىل السامء منها إىل األرض. تركيز مكية عىل هذا الفهم هلوية املثقف، نقصد تنحية اجلانب الفردي املرتبط بالطمأنينة مغلوطا حسا تقدم أن يمكن التي "الضحية" لغة لصالح باحلياة اجلمعية، بدا وكأنه شئ جديد بكل معنى الكلمة، ولعل يف األمثلة الكثرية التي التأمل. فإزاء تغني أبو ديب بفكرة الوطن األسطورة، ثمة يقدمها ما يستحق

تغن مناقض ينتخبه مكية انتخابا من ركام املدونات غري املفكر هبا. بمعنى أننا، أمام فكرة أخرى لوطن حقيقي، ال أسطوري، وطن قاس هيرب

منه اجلميع، وأوهلم املثقفون، وهم يقولون بلغة واقعية، فردية وساخنة: كل رشاع مل يعد إليك يا خمافر احلدود

ال باحثا، سدى، عن املعنىولكن هربا من املعاين السود

فهو رشاعي

)1) نفس املصدر 243)2) نفس املصدر ص 242

خريف المثقف في العراق 152

يقول مكية عن هذه القصيدة التي كتبها الشاعر فوزي كريم بعد خروجه من ديب أبو وقلق جعيط لدى العروبة هاجس تسقط كهذه "قصيدة أن العراق كريم وتفرده، باختالفه الشاعر احتفال عىل تقوم ألهنا هويته حول البكائي تقبل حالته كحالة "ترشذم" وقد فعل ذلك برقة بالغة، قصيدته فعل متواضع،

فعل إقرار وجتدد يف آن. ويف غياب هذا التقبل لطبيعة احلالة اإلنسانية املركبة اهلزيلة وغري اإليديولوجية عليه تعلق حمورا وإرسائيل للغرب ومتفاقمة متواصلة مرضية كراهية تبقى

مفاهيم "عروبة" و"هوية إسالمية" أكثر وأكثر انحطاطا ".)1)من عرب مثقفني لدى العبارات هذه مثل تثريه أن يمكن عام النظر بغض أمثال جورج طرابييش وإلياس خوري وغريمها، وبعيدا أيضا عن مكية الذي فأن للعروبة، مضاد هو ما لكل أنموذج اخلوف" وكأنه "مجهورية منذ بات، اإلنتلجنسيا أغلبية لدى التبلور، إىل كان يف طريقه الدولة أو للوطن مفهوما

العراقية التي خرجت من العراق هربا من قومية البعث املتطرفة. وليس من قبيل املصادفة أبدا أن يغدو مكية منظر املفهوم اجلديد للدولة، دولة لكونه ال املشرتك. فقيههام اعتربوه واألكراد الشيعة أن خصوصا الفيدرالية، شيعيا، كام سيقال الحقا، إنام الن الرجل، الغريب الثقافة، يدعو ملا يدعوان له، وهو بصدد إقناع الغرب بأهنام يستحقان دولة أفضل من هذه التي اضطهدهتام

قرابة قرن. جهوي وحتى وسيايس ثقايف سافر، انقسام باألحرى، أمامنا، سيكون العراقيني الشيعة سريبط الذي االسرتاتيجي التحالف مقابل وطائفي: بالكورد. ثمة حتالف سينشأ بشكل مفاجئ بني القوميني، سواء كانوا عراقيني أم عربا، من جهة، وبني اإلسالمويني املتطرفني السنة، من جهة أخرى. وسيكون من الطبيعي أن تتفجر معركة جديدة / قديمة كانت مقدماهتا قد بدأت بالفعل

بواجهة أخذت طابعا رمزيا أكثر من كونه شخصانيا. اذ ما إن نرش مكية مقاله حتى اهنمر سيل عاصف من الردود من قبل كتاب عىل تركز بمجملها املقاالت وكانت وعراقيني، عرب وصحفيني وباحثني

)1) نفس املصدر ص 249

153 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

اخلطر القادم: نزع اهلوية العربية عن العراق، تفكيك الدولة وتقسيمها، تفريس البلد.. الخ.

التي رؤيتهم قومي"العراقي" عن الال العراق فكرة أتباع دافع مقابل هذا، صحيفة يف نرشها التي سعيد إدوارد مقالة وكانت لتحقيقها. الوقت حان للنزول إىل ساحة اجلدل. وأبراز ما أكثر من معقول "احلياة" قد قدمت مربرا

أسامها حممد عيل األتايس "املشاعر الشوفينية العراقية املعادية للعرب)1)". ان الرشاسة السيام املعركة ستكون عظيمة فأن النظر عن أي شئ، وبغض من كبريا عددا استفزت بعبارات مقالته "أهنى واإلمربيالية "الثقافة صاحب

املثقفني العراقيني، يقول:املثقف إنه يمثل عرض ألشياء عدة يف آن. مكية ظاهرة زائلة. لكنه "يمثل أصبحت كلام أعظم السلطة كانت وكلام تردد، غري من السلطة خيدم الذي شكوكه أقل. إنه رجل مغرت ال يبدي أي رأفة وأي حتسس للمعاناة اإلنسانية. وبتجرده من أي مباديء أو قيم ثابتة، يبدو عىل شاكلة الصقور املناهضني للعرب رامسفيلد( ودونالد ولفوفيتز وبول بريل ريتشارد )مثل أخالقيا املستهرتين الذين ينترشون يف إدارة بوش مثل الذباب عىل كعكة. فال يبدو أن اإلمربيالية األمريكية الغطرسة او الوحشية اإلرسائيلية أو سياسات االحتالل الربيطانية تعوقه ولو للحظة. األسوأ من هذا كله، إنه رجل يمتاز بالتفاخر والسطحية، مطريا نفسه ملعقوليته حتى عندما حيكم عىل شعبه بمزيد من العذاب ومزيد من

الترشيد. واأسفاه للعراق". )2)العراقيني عرشات قبل من عنيفة فعل ردة دون متر لن اجلارحة اللغة هذه ومن مجيع التيارات وكان القاسم املشرتك بينها هو دفاعها املستميت عن كنعان مع أختلف سعيد، إدوارد العريب املثقف "أهيا القصاصني الحد نقرأ مكية. يف جنديني اختالف لكنه العراقيني، املعارضني من غريي مثل مكية كنعان جبهة واحدة لكل رؤيته اخلاصة يف األحداث فلامذا حرشت نفسك وملصلحة

واليمني مكية كنعان سعيد: إدوارد عن مضللة معلومات 2003 3 16 الرشق أخبار (1(األمريكي اجلديد

)2) انظر »معلومات مضللة عن العراق »ألدوارد سعيد منشورة يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 / 2002 / 12

خريف المثقف في العراق 154

من.. ؟ "وخيتم جاسم املطري مقالته شامتا بـ "اغربوا عن وجه قضيتنا العادلة أهيا الغربان ")1)

عراق العرب / عراق العجم: الوطن األسطورة يتحالف أن العراق، هوية حول االنقسام هذا وفق الطبيعي، من كان لقد الكورد والشيعة يف دعمهم الرصيح ملرشوع إسقاط نظام صدام. ذلك أن األمر نظام بإطاحة يتعلق املهم، هو وهذا إنام، سيايس نظام بإطاحة فقط يتعلق ال

دولة جتاوز عمرها تسعني عاما. لألسباب نفسها، ولكن بشكل مقلوب، ال يبدو األمر جمافيا للمنطق أن يتحد القوميون بجميع توجهاهتم وتياراهتم، وان يتحالفوا مجيعا مع العرب من غري العراقيني، عدا اخلليجيني طبعا للوقوف، ضد احلرب قبل أن تقع،ومن ثم، ضد

مرشوع إعادة بناء الدولة العراقية وفق أسس جديدة، بعد وقوعها.الشئ الذي جيب أال يغيب عن األذهان، هبذا الصدد، هو أن وقوف الشيعة، بكل اجتاهاهتم األساسية، إىل جانب إسقاط نظام البعث، ومن ثم، إهناء شكل الدولة العراقية احلديثة القائمة عىل سيادة اهلوية العربية وثقافتها، سيؤدي، فيام بني الرصاع نقصد السنوات، ملئات مكبوتا ظل ثقايف رصاع تفجر إىل بعد، تعبريات "حسب العرب و"الشعوبية بني أو "املوايل". وثقافة العربية، الثقافة

فولكلورية مأثورة. رغم احلديثة، العراقية فالدولة لتبينه، ذكاء كثري حيتاج ال ذلك يف السبب كان لذا واإلدارية. الثقافية، نظمها بكل "سنية" كانت الظاهرية، علامنيتها أخرى، مع مرة الذين حتالفوا، القوميني قبل األمر، من يفهم أن املنطقي من منذ العربية الثقافة يف شاع عام كثريا تبعد ال شاكلة عىل "السني"، اإلسالم اجلاحظ: إننا إزاء هنضة "شعوبية" تغذهيا حضارتان صادف أن اتفقتا، كل من ثم، من و، دولتها وحتطيم العربية الثقافة غزو عىل اخلاصة، حساباهتا زاوية

متكني الشيعةـ الصفويني املرتبطني بإيران من إقامة دولة جديدة "غري عربية". احلضارتان املعنيتان مها حضارة الفرس، من جهة، وحضارة الغرب السيام

)1) ينظر صحيفة احلياة اللندنية

155 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

إىل التنبيه بمكان الرضوري من ولعله أخرى. جهة من املتحدة الواليات نزع عىل اجلانب، هذا يف ركزوا، إذ السنة العرب القوميون فيها وقع مفارقة الصفة الدينية عن إيران الداعمة ملثل هذا الغزو يف وقت أولوا اجلانب الديني

اهتامما خاصا فيام يتعلق بدعم الغرب ألبطال التغيري يف العراق. أمام غزو فاريس ذي طابع قومي بإيران، سنكون تعلق األمر إننا، قدر أي يريد حمو الغرب بوصفه غزوا صليبيا التعامل مع يتم بالدين يف حني ملتبس

اإلسالم. هذه الرؤية كانت شاعت، بقوة، بعد فرتة وجيزة من احلرب. والسبب واضح، ففضال عن أن بعض أفكار كنعان مكية وجدت طريقها إىل التطبيق يف عراق ما بعد صدام، بدا أن ثمة قوى، كانت تعد حتى سقوط نظام صدام، حمسوبة عىل اإليرانيني، ستكون سيدة املشهد اجلديد، وهي قوى دينية يؤمن بعضها بوالية

الفقيه علنا بينام البعض اآلخر يؤمن بصيغ ال تبعد كثريا عن ذلك. "العاممة" أروقة العراق، ومع عودهتم غزت إىل أبنا حمسن احلكيم لقد عاد مع"ويل املتحالفة احلكيمية احلوزة ورثة عاد الذي الوقت ويف القرار. صنع األمر" يف طهران، هنض املارد الصدري، ذو السحنة العراقية النجفية، وخرج من قمقم صدام، متمثال هذه املرة بقائد صغري السن، قليل التجربة هو مقتدى حممد حممد صادق الصدر، وكان أبوه اغتيل يف النجف عام 1999 عىل أيدي

أتباع صدام حسني كام رأينا سابقا)1).ولكن جديد، من الواجهة، لتصدر الدعوة حزب عاد ذلك عن بعيد غري

بروح املنتقم غري الظاهرة للعيان. دولة الدولة، مع قديم لتصفية حساب عادوا اجلميع بدا وكأن األخري، يف السنة فيها بدا للعراق تارخيية هوية ورثت والتي قوميتها يف املتطرفة البعث دائام عربها الشيعة ارتبط هامشية هوية مقابل العروبة. مع دائام متحالفني

بـ"التفريس" و"الشعوبية" وما اىل ذلك من مفاهيم.

)1) ينظر الفصل األول

خريف المثقف في العراق 156

هوية العراق العربية: قريش والموالي الصورة املتخيلة لعراق "أعجمي" حياول الشيعة ترسيخه بعد سقوط الدولة دائام استعادهتا إنام هي صورة مستعادة وتتم الواقع ليست جديدة يف القومية من نسق ثقايف عرويب جيد أصوله يف تراث عرص التدوين، السيام يف الفرتة التي نشب فيها الرصاع الثقايف بني املدافعني عن العرب، من جهة، وتلك الرشحية جهة من ،" التسوية "أو"أهل "الشعوبية تسمية عليها أطلقت التي العريضة

أخرى. يف تلك الفرتة، حتديدا، انبثقت فكرة تفريس العراق وكانت اخللفية رصاعا

ثقافيا ذا أبعاد عرقية بني اهلويتني الفارسية والعربية. حديثا، أمني وأمحد قديام، اجلاحظ أمثال العربية، الثقافة ممثلو حاول ولئن احلط مقابل العرب دفاعا عن فضائل بوصفه قومي ثوبا شبه الرصاع إلباس منهم من قبل الفرس املستعربني، فإن أحدا لن يكون بمقدوره إشاحة البرص

عن أصل الرصاع، وكان قريبا زمنيا من فرتة ترشيعه ثقافيا. كان املشكل قد تفجر، أوال، بني العرب املسلمني الذين فتحوا العراق وسكان البلد األصليني. كان ثمة ماليني عدة من العراقيني"النبط" ال يزالون موجودين

حني غزا العرب املسلمون أرض السواد وأهنوا السيطرة الفارسية فيه. )1)كان أولئك الفالحون، سليلو األقوام التي كانت موجودة يف العراق البابيل لبسا سبب لذي األمر املهزومة. الفرس لدولة رعايا واآلشوري، واألكدي لدى أغلب املؤرخني األوائل إذ اعتقد هؤالء أن جل سكان ارض السواد كانوا

فرسا أو ذوي هوية فارسية.

ابو احلافظ االمام تأليف السالم« او مدينة بغداد »تاريخ ينظر مثال األمر للتوسع يف هذا (1(بكر امحد بن عيل اخلطيب البغدادي دراسة وحتقيق امني عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بريوت لبنان الطبعة االوىل 1997 خصوصا اجلزء األول »باب اخلرب عن السواد وفعل عمر فيه وألي علة ترك قسمته بني مفتتحيه »من ص 36 اىل 42 وأيضا »باب بيع ارض السواد

وما روي يف ذلك من الصحة والفساد« ص 42. العربية الوحدة دراسات مركز العربية« لالمة التارخيي »التكوين الدوري العزيز عبد وأيضا بريوت 1986 خصوصا الفصل الثاين وينظر أيضا عيل الوردي، »دراسة يف طبيعة الشخصية

العراقية« من ص 109 اىل 115

157 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

يقول وهلوسني "إن أكثر من نصف سكان الكوفة كانوا من املوايل وكان هؤالء املوايل حيتكرون احلرف والصناعة والتجارة وكان أكثرهم فرسا يف جنسهم ويف لغتهم. جاءوا الكوفة أرسى حرب ثم دخلوا يف اإلسالم ثم أعتقهم مالكوهم إىل حاجة يف ظلوا ولكنهم أحرارا صاروا وبذلك هلم، موايل فكانوا العرب

محاية ساداهتم ")1)التي وجدها العرب يف أما أمحد أمني فال يتورع، وهو يتحدث عن األقوام "سكان البلد األصليني" بني مزدوجني جاعال العراق، عن وضع ما يسميهم

منهم هامشا ال يعتد به كثريا. يقول "ففتح العراق وكان يسكنه بعض قبائل عربية من ربيعة ومرض وبعض مزدكية ومنهم نصارى منهم وكان األصليني البلد سكان عدا الفرس من

وزرادشتية)2)". بغض النظر أن كان االلتباس مقصودا أم غري مقصود، فإنه سينتج، يف ما بعد، إشكاليات تارخيية وثقافية عديدة ومعقدة، بل ستكون هذه اإلشكاليات دعامة وعالقة جهة، من بالعرب، العراقيني عالقة تناولت التي لألفكار أساسية

الشيعة بالسنة، من جهة أخرى. لكن قبل التوقف عند هذا االلتباس، عىل املرء أن يرجع إىل أصل املشكلة. لدينا، هبذا اخلصوص، صورة تنقلها املدونات التارخيية الرسمية التي وضعها

املؤرخون العرب يف عرص التدوين. دخل العرب، جزيرة يف اإلسالم انتصار بعد اآليت: هو جرى ما ملخص اجليش العريب، وكان مكونا من قيادة قرشية وقوام من قبائل عربية، إىل عدد من

البلدان منها الشام وأرض السواد وفارس. وبعد أن صارت الغلبة للمسلمني، اضطرت األقوام التي فتحت بلداهنا إىل النزول عند حكم الغالب: إما أن يسلموا أو يدفعوا اجلزية بالنسبة ألصحاب

الديانات التوحيدية أو أن حيكم فيهم السيف إذا كانوا وثنيني أو مرشكني.

)1) ينظر أمني ، أمحد ـ فجر األسالم ، يبحث يف احلياة العقلية يف صدر االسالم إىل أواخر الدولة األموية ، منشورت بيضون ـ دار الكتب العلمية ص27

)2) نفس املصدر ص89

خريف المثقف في العراق 158

خليط أمام أنفسهم العرب وجد الرافدين، بالد بسكان األمر تعلق قدر متعدد يدين بديانات متنوعة منها ما هو رافديني مثل املندائية واملانوية، ومنها ما هو فاريس مثل املجوسية والزرادشتية إىل جانب الديانتني التوحيديتني اليهودية والنرصانية، واألخرية كانت منترشة عىل نطاق واسع يف احلرية. )1) ج 1 ص89

املفتوحة، البلدان وباقي املغرب، وبالد ومرص الشام بالد مع جرى وكام نزل السكان عند حكم الطرف املنترص فدخل أغلب أهل العراق اإلسالم بينام

فرضت اجلزية عىل من قرر البقاء عىل ديانته التوحيدية. لكن هذا مل يكن كافيا، فلدى العريب قانون جديد سيرسي عىل اجلميع بام يف

ذلك الذين اختاروا اإلسالم. جزيرة يف شائعا كان الذي الرق من النمط ذلك أي ،" "املواالة نظام إنه

العرب وكان متناسبا مع نظام العصبية القبلية عندهم. بشكل يتحول، آخر سبب ألي أو الرشاء أو احلرب طريق عن فاملسرتق طبيعي، إىل موىل ملالكه. ويظل كذلك حتى لو من عليه سيده باحلرية وأعتقه. )2) وبام أن سكان البلد املفتوح كانوا اسرتقوا عن طريق احلرب ومل تكن لدهيم ذلك، واستتبع مستملكني، أرقاء غدوا فقد الفاحتني للعرب كام عصبيات بشكل تلقائي، دخوهلم يف مواالة القبائل التي تكون منها اجليش العريب" فكان لكل جندي عريب تقريبا إماء وعبيد يستخدمهم يف حوائجه ويستولد اإلماء إن

شاء ")3).من الواضح أن اصطالح موىل الذي نشأ، أول ما نشأ، يف بيئة عربية جاهلية اعتمدت مبدأ العصبية القبلية تعرض إىل تبدل جوهري بعد ظهور اإلسالم. فأصبح يشمل رشحية عريضة وجدت طالئع الدولة اإلسالمية اجليش العريب الذي تقوده أرستقراطية قريش نفسها بمواجهتها. نقصد سكان العراق الذين

كانوا حمايدين يف ذلك الرصاع. ويف تعليقه عىل التبدل اجلوهري الذي طرأ عىل االصطالح، يقول أمحد أمني

)1) ينظر أمني ، أمحد ، نفس املصدر ص89 )2) نفس املصدر ص94

)3) نفس املصدر 97

159 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

إن" املصطلح كان يطلق عىل كل من دخل اإلسالم من غري العرب سواء اسرتق أو مل يسرتق بل جاء هذا االستعامل يف كتب الفقه أيضا".)1)

وينقل أمني عن الزبلعي تعليال فقهيا للتبدل الطارئ إذ يقول األخري" وسمي العجم موايل ألن بالدهم فتحت عنوة بأيدي العرب وكان للعرب اسرتقاقهم

فإذا تركوهم أحرارا فكأهنم أعتقوهم واملوايل هم املعتقون")2)العراق أيام فتح به راجعان إىل التأويل واألخذ واحلال أن هذا رشعية هذا رافقت التي الفقهية النقاشات من العديد الصدد، هبذا الطربي، وينقل "فيئا" أفاءه اهلل عىل السواد واعتباره بعد اخذ التي ظهرت املتغريات اجلديدة املسلمني. يقول "عن املستنري بن يزيد عن إبراهيم بن يزيد النخعي اخذ السواد صار أبى ومن الذمة وله اجلزية فعليه أجاب فمن الرجوع إىل فدعوا عنوة ماله فيئنا فال حيل بيع شئ من ذلك الفئ فيام بني اجلبل إىل العذيب من ارض

السواد".)3)واقع األمر أن املوايل عوملوا معاملة جد قاسية بعد أن باتوا يف أيدي مالكيهم ولعل مزرية. بطريقة واستعبدوا االحتقار صنوف لشتى تعرضوا إذ العرب اجلاهلية، التقاليد من املوروثة االسرتقاق فكرة إىل راجع املعاملة هذه منشأ حسب أو، حرب غنائم بوصفهم املوايل إىل نظر النظرة هذه بموجب إذ االصطالح الديني اجلديد، جمرد "فئ "أفاءه اهلل عىل الفاحتني شأهنم شأن باقي

ثروات البالد. يذكر الطربي يف تارخيه أن أرشاف الناس التقوا يف الكوفة أثناء ثورة املختار فارجفوا وأخذوا يقولون" وهلل لقد تأمر علينا هذا الرجل بغري رىض منا ولقد أدنى موالينا فحملهم عىل الدواب وأطعمهم فيئنا ولقد عصتنا عبيدنا فحرب

بذلك أيتامنا وأراملنا ". ويكمل الطربي روايته قائال "إهنم بعثوا إليه أي املختار شبث بن ربعي فقال له: عمدت إىل موالينا وهم فئ أفاءه اهلل علينا وهذه البالد مجيعا فأعتقنا رقاهبم

)1) نفس املصدر ص94 )2) املصدر نفسه ص

)3) »تاريخ األمم وامللوك »حممد بن جرير الطربي مؤسسة األعلمي للمطبوعات حتقيق نخبة من العلامء اجلزء الثاين ص 88

خريف المثقف في العراق 160

يف رشكاء جعلتهم حتى بذلك هلم ترض فلم والشكر، ذلك يف األجر نأمل فيئنا")1)

إذا آنذاك، مربرة كانت املختار عىل الكوفة أرشاف غضبة أن األكيد من انطلقنا من النظام الثقايف واألخالقي الذي كان سائدا بعد الفتوح.

من ومنعوا دنيا درجة من مواطنني النبط املوايل عد النظام، ذلك فحسب ركوب الدواب، وميزوا عن العرب يف امللبس وطريقة التعامل.

بل اهنم منعوا، يف عهد احلجاج، من دخول املدن، وكان األخري نفى النبط من واسط حني نزل هبا، ثم إنه كتب إىل عامله عىل البرصة، احلكم بن أيوب يقول: النبط، فإهنم مفسدة للدين والدنيا. فكتب إذا أتاك كتايب فأنف من قبلك من األخري إليه قائال: قد نفيت النبط إال من قرأ منهم القرآن وتفقه يف الدين. فعاد احلجاج يكتب له: إذا قرأت كتايب فادع من قبلك من األطباء، ونم بني أيدهيم،

ليقفوا عروقك فأن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه والسالم)2)وإمعانا يف إذالل هؤالء النبط عمد الوايل األموي نفسه، ذات مرة، إىل وسم

أيدهيم باملرشاط حتى أن شاعرا أزعجه أحد املوايل فقال هيجوه لو كان حيا له احلجاج ما سلمت

صحيحة يده من وسم حجاج)3) إن هذه املعاملة ما كانت لتمر مرورا عابرا عىل املوايل فقد كره هؤالء األمويني كرها شديدا وأصبحوا يتحينون الفرص للثورة عليهم. وبالفعل تم هلم ذلك بن عيل بن زيد إىل الثقفي، عبيد أيب بن املختار من بدءا عديدة رايات حتت

احلسني إىل عبد الرمحن بن األشعث الذي التف حوله أكثر من عرشين ألف. من الرضوري التنبيه، يف هذا الصدد، إىل أن سخط املوايل عىل بني أمية مل يكن

ذا أبعاد دينية قدر ما كان ذا أبعاد اقتصادية واجتامعية وثقافية. النبط حول عيل بن أيب التفاف إذا عرفنا أن إن األمر يمكن أن يتضح أكثر

)1) املصدر نفسه اجلزء الرابع ص 517)2) ينظر أمني ، أمحد ـ ضحى اإلسالم ، الكتاب األول ـ منشورات حممود عيل بيضون ـ دار

الكتب العلمية ـ بريوت ص 29 )3) نفس املصدر ص28

161 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

طالب، قبل جميء بني أمية، وحتوهلم إىل شيعة له وألبنائه، فيام بعد، ربام راجع، بالدرجة األوىل، إىل اختالف تعامل عيل مع املوايل.

يف والثالث الثاين السيام األول، الثالثة اخللفاء ميزهم الذي الوقت ففي التعامل سارع هو إىل مساواهتم مع العرب بالعطاء بعد استالمه اخلالفة.

وكان منطلقه يف ذلك قاعدة ظلت ملغاة أو معطلة طوال ثالثني عاما وهي اإلسالم وان بالتقوى"، إال أعجمي عىل لعريب فضل أن"ال بمبدأ االلتزام

يساوي بني املؤمنني بغض النظر عن ألواهنم وجنسياهتم وأعراقهم. أساسيني: تيارين حول ثم، من الرصاع، "تبلور اسامعيل حممود يقول انضامم بفعل التيار األخري مجاهريية وثورية اكتسب العثامنية وشيعة عيل وقد حازهتا إقطاعيات إىل أراضيهم حتويل بعد إليه واملزارعني املالكني صغار سواد من عثامن عىل الثورة انطلقت ملاذا يفرس وهذا القديمة االرستقراطية

العراق ووادي النيل")1).. لكن األمر مع عيل مل يدم طويال، إذ ما إن عادت األرستقراطية القرشية لبسط أمية بني انتصار خط بفضل العامل اإلسالمي والثقافية عىل السياسية هيمنتها

حتى استعيدت العصبية ذاهتا وعاد التمييز بني العرب واملوايل بشكل أشد. فبمواجهة رسيعا. ستتضح املوايل مع األموية التعامل طريقة تداعيات العصبية العربية بقيادة أرستقراطيي قريش، ستربز عصبيتان أخريان مضادتان من التشيع، إهنام قوميا. ستتجسد األخرى بينام مذهبيا شكال ستأخذ واحدة

جهة، والشعوبية، من جهة أخرى. قدر تعلق األمر بالشعوبية، رغم إننا سنتحدث عن ذلك بتفصيل أكثر الحقا، فان املعنيني باألمر مل يكونوا بغالبيتهم عربا. إنام كانوا نخبة ثقافية فارسية سبق أن استعربت بعد فتح العرب للعراق وفارس، لكنها ظلت حمتفظة بذكريات

حضارة ال تزال طرية. بفعل حامليها عند استثريت ما رسعان التي ومدنيتها فارس حضارة إهنا

االضطهاد االجتامعي واالقتصادي والثقايف الذي مورس ضدهم.

)1) ينظر، اسامعيل، حممود »سوسيولوجيا الفكر االسالمي اجلزء الثاين طور االزدهار »مكتبة مدبويل القاهرة 1988 ص 58

خريف المثقف في العراق 162

لقد راح عدد من هؤالء الذين أطلقت عليهم تسمية املوايل يفككون القاعدة التي انطلق منها األمويون يف التمييز بني العرب وغري العرب. وإذ راح هؤالء املوايل يبحثون يف اإلسالم عام يدعم وجهة نظرهم القائلة بفكرة املساواة مل جيدوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم الناس "يا أهيا القرآنية أفضل من اآلية

شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اهلل أتقاكم ".إن الكثري من املفرسين مثل الطربي يرجحون أن املراد بالشعوب هو النسب خيالف الرأي وهذا القريب. النسب هو بالقبائل املراد بينام البطون، البعيد، رأى حيث بالشعوبيني وصفوا الذين املفرسين بعض اعتقده ما تامة خمالفة بالشعوب هم املراد أن العرب يف حني قبائل بالقبائل هي املقصود أن هؤالء

العجم. يقول أمحد أمني الذي ينترص إىل الرأي األول "الذي يظهر أن تفسري الشعوب أن فيه واستطرد أعجمي وضعه تفسري شعويب هو بالعرب والقبائل بالعجم

العجم أفضل من العرب ألن اهلل قدمهم يف الذكر".)1)وسواء كان الذي وضع التفسري أعجميا أم عربيا، فان أحدا لن يستطيع بعد تلك اللحظة، حلظة االختالف يف تفسري تلك اآلية، غض الطرف عن التناقض

الذي أنتجه الرصاع بني العرب واملوايل. أنفسهم أشبه الذين وجدوا فاملوايل برأينا، كانت ردة فعل طبيعية، املسألة، بالعبيد يف دولة ترفع شعار املساواة أمام اهلل بدءوا يف هدم النظام من الداخل، الشعوب وهي فكرة جوهرية يقوم املساواة بني الرتكيز عىل فكرة وذلك عرب األصول ذوي من املوايل متطريف من كبريا عددا أن ورغم اإلسالم. عليها الفارسية حرفوا الرصاع ليتخذ شكال قوميا حمضا جتسد، كام سنرى الحقا، يف تراشق ثقايف طعن فيه العرب وعدوا جمرد "رعاة أبل" و"محلة عيص"، شاء القدر أن ينترصوا بفضل ديانة جديدة عىل أمم أرقى منهم بكثري يف املدنية، عىل الرغم من هذا إال أن منشأ الرصاع مل يعدو الفكرة آنفة الذكر: االنتفاضة ضد فكرة التمييز وحماولة التمركز حول فكرة املساواة التي نادى هبا اإلسالم ورسختها

جتربة عيل بن أيب طالب قصرية العمر.

)1) ينظر أمني ، أمحد ـ ضحى اإلسالم ، الكتاب األول ـ ص 49

163 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

فأغلبية الرصاع من اإلطار هذا خارج وأبنائه لعيل التشيع يكن مل مذهبيا، مقابل متاما: منطقيا يبدو والسبب الكوفة، موايل من كانوا له تشيعوا من األرستقراطية القرشية املتمثلة بعثامن بن عفان، ومعاوية، املتمركزة حول فكرة التمييز حسب االنحدار القومي والعرقي، تشدد عيل يف االلتزام بمبدأ املساواة

وإحالل اإليامن والتقوى معيارا لتقسيم العطاء. يروي ابن أيب احلديد يف رشحه هنج البالغة أن امرأتني، واحدة من العرب، بالسواء وطعاما دراهم إليهام فدفع "فسألتاه عليا جاءتا املوايل، من وأخرى فقالت إحدامها: إين امرأة من العرب وهذه من العجم فقال: إين واهلل ال أجد

لبني إسامعيل يف هذا الفئ فضال عىل بني إسحاق" ويف رواية أخرى شهرية رواها عيل بن شعب املدائني أن"طائفة من أصحاب عيل عليه السالم مشوا إليه فقالوا: يا أمري املؤمنني، أعط هذه األموال وفضل ختاف من واستمل والعجم املوايل عىل وقريش العرب من األرشاف هؤالء املال، يف يصنع معاوية كان ملا ذلك له قالوا وإنام وفراره، الناس من خالفه فقال هلم: أتأمرونني أن أطلب النرص باجلور؟ ال واهلل ال أفعل ما طلعت شمس وما الح يف السامء نجم، واهلل لو كان املال يل لساويت بينهم فكيف وإنام هي

أمواهلم!")1)للتدليل عىل عدالة الروايات، فهي مفيدة، ال أمثال هذه املهم مالحظة من عيل، بل لوجود التباس واضح بني مصطلحي املوايل والعجم. ففي الوقت التي تعرتض املرأة عىل املساواة كوهنا من العرب يف حني صاحبتها من العجم. يميز أصحاب عيل بني الرشحيتني متييزا بينا. فثمة موايل وثمة عجم وعىل اإلمام أال

يساوي الفئتني مع العرب. العرب عند آلية، توفر عدم إىل عائد آنفا، أوضحنا كام اللبس، هذا مرد القادمني إىل العراق، يمكن هبا تفريق هؤالء عن أولئك. ولذا كان من املنطقي الذين وجدوا أنفسهم العرب إنام عىل أن خيتلط األمر، ال عىل املؤرخني فقط

أنفسهم بني ظهراين سكان البلد املختلطني أساسا. إن ما جرى، يف الواقع، بدا وكأنه أقرب إىل املصادفة التارخيية فاملوايل كانوا

)1) نفس املصدر ص462

خريف المثقف في العراق 164

عبارة عن خليط من أقوام غري عربية. هناك، باألحرى، فرس وعراقيون نبط والفئتان يطلق عليهام عجم، تارة، وأخرى موايل.

فإن معني، تارخيي سياق حتمها مصادفة جمرد معا وجودمها أمر كان وإذا تعرضهام لشكل واحد من أشكال االضطهاد مل يكن مصادفة.

النتيجة أن عملية اخللط بينهام التي ستتم يف عرص التدوين وتكوين املذاهب وصياغة املقوالت الثقافية والكالمية لن تكون، بأية حال من األحوال، مصادفة

هي األخرى. املسار حدث هكذا: يف الوقت الذي تشيع أغلب موايل الكوفة لعيل بن أيب طالب، صاحب مقولة املساواة، ودخلوا يف رصاع مكشوف ضد األرستقراطية املركزية لزعزعة ثقافية معركة إدارة بصدد الفارسية النخبة كانت القرشية،

العربية التي أريد إضفاؤها عىل اإلسالم من قبل األرستقراطية القرشية ذاهتا. يف إطار هذا احللف غري املعلن، فهم العروبيون يف عرص التدوين أهنم أمام عدو واحد ذي متظهرين، واحد أخذ صيغة مذهبية واآلخر أخذ صيغة عرقية. وبدا االثنان وكأهنام ينخران يف األسس نفسها: إهنام باختصار الشيعة والشعوبية. ثمة العرب، عىل الناقمني الفرس فمقابل صنفني، إىل املوايل انقسم لقد عراقيون ناقمون عىل األرستقراطية القرشية. ويف الوقت الذي وجد العراقيون املوايل حاول األموية، بصيغتها العربية اهلوية تعارض هوية التشيع يف النبط الفرس استثامر التشيع كحركة معارضة تنطلق من األسس نفسها عدم املساواة لرضب املركزية العربية بنسختها األموية وإعادة بناء الدولة وفق أسس جديدة بفضل العباسية الثورة انتصار بعد حدث ما وهو القومي. باجلانب حتفل ال

العنرص الفاريس املتحالف مع املقوالت العلوية. حافظت إذ للشيعة بالنسبة بجديد يأت مل العباسية الدولة تأسيس أن غري التي رسخها األمويون رغم املذهبية ذاهتا للدولة عىل األسس اهلوية اجلديدة انكفاء القومية العربية. وبالتايل كان حدوث الطالق بني صنفي املوايل أمرا البد

منه. الثقافة ذاكرة أن رسخت، يف بعد الدولة، ولكن تلك الشيعة من لقد طرد

العربية امللتبسة بذاكرة الفقه، فكرة كوهنم والفرس شيئا واحدا.

165 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

سليم مطر: اللعنة على العرب الشعوبية عالقة نقصد األمر، هذا عن حتدث من أفضل مطر سليم لعل

بالعراقيني وكون العروبية جاءت كمضاد هلا. كان سليم مطر، وهو روائي عراقي شغف بمسألة "اهلوية الوطنية" وخصص أفكاره بشكل قد كلل التسعينات ابتداء من منتصف الكتابات الكثري من هلا جيد وبنى معامرا فكريا ييش بتأثره بطروحات السوري أنطوان سعادة، واألخري "أمة بوجود القائلة أفكاره حدة بسبب األربعينات، يف أعدم، سوري مفكر

سورية "منفصلة عن "األمة العربية". قبل أن نتحدث عن عالقة الشعوبية بنشوء القومية يف العراق وسوريا، علينا يتعلق التوقف ولو بشكل عابر، أمام بعض أفكار سليم مطر األساسية يف ما

بمشكلة غياب اهلوية الوطنية. عرف سليم مطر أوال بوصفه روائيا، وكانت روايته األوىل"امرأة القارورة" والده عن البطل يرث حيث العراقية" "األمة حول أفكاره أوىل رسبت قد قارورة سحرية حتوي داخلها امرأة أسطورية خالدة تبدو وكأهنا صورة مستعادة من إنانا أو عشتار حيث يتجسد من خالل هذه املرأة مفاهيم اخلصب والنامء

واجلنس. وحيث متثل خزانة ذاكرة ال ينفد. )1) يف الرواية املذكورة التي نرشت عام 1991 يربع سليم مطر يف طرح أفكاره حول األصل املشرتك ألبناء الرافدين بطريقة بالغة الروعة. ومنذ ذلك العمل األديب أثار سليم مطر االنتباه إىل جدة أفكاره التي مل يعتدها املثقفون العراقيون، "العروبة" التي تبدو كواحدة من بدهييات املناداة باالنفصال عن فكرة نقصد الثقافة العراقية، ومن ثم، العودة إىل مرياث بالد الرافدين بوصفه خزينا هلوية

مغيبة. بعد ذلك، نشط الرجل يف طرح أفكاره عن طريق مقاالت جريئة وحادة يف الصحف واملجالت العراقية والعربية قبل أن جيمع أهم ما كتب من مقاالت ودراسات يف كتابه "الذات اجلرحية" عام 1997 وهو كتاب أحدث ضجة كبرية

وصار يستنسخ داخل العراق بأعداد مل يكن حيلم هبا املؤلف.

)1) ينظر، األخرس، حممد غازي »جملة املسلة العدد

خريف المثقف في العراق 166

كان العراقيون حينها قد وصلوا إىل ذروة أزماهتم السياسية والثقافية وباتوا "العروبة" بعد احتالل الكويت وما عىل شفا حفرة من طالق هنائي مع فكرة

نتج عنه. بكافة العراقيني، أن مطر سليم قول هو االنتباه أثارت التي األفكار أوىل من يتخلصوا ولكي العرب عن منفصلة أمة يشكلون وقومياهتم، طوائفهم

أزماهتم عليهم االعرتاف هبذه الفكرة وتطبيقها سياسيا وثقافيا. )1) يف ترد أن سواء حد عىل والعرب للعراقيني بالنسبة جدا، املثري من وكان كتابات سليم مطر مصطلحات مثل "البلدان الناطقة بالعربية "كبديل ملصطلح

"األقطار العربية". أعاد سليم العريب، العامل ثقافيا عن العراق انفصال بفكرة األمر تعلق قدر ذاهتا، بالفكرة قبله قال الذي سعادة أنطوان السوري ألفكار االعتبار مطر انفصال سوريا عن العامل العريب، وكانت املنطلقات النظرية واحدة تقريبا وأبرز

مفصل فيها االعتامد عىل املحدد اجلغرايف والبيئي بوصفه معيارا لنشوء األمم. وشكلت اجلغرافية كونته بلد العراق" إن الصدد، هبذا مطر، سليم يقول والفرات، ومها حماطان هبضاب كربى النهران دجلة فهناك الطبيعية. حدوده العريب اخلليج اجلنوب ومن الشامية اهلضبة الغرب فمن النواحي، كل من

وهضبة نجد ومن الشامل جبال طوروس ومن الرشق جبال زخاروست ")2) الطبيعية عزلت أن مثل هذه احلدود كتاباته وحواراته، وهو جيزم، يف مجيع العراق دائام وشكلت منه وحدة سياسية واجتامعية وحضارية منفصلة وذات

مالمح ال تشابه أية مالمح أخرى. حقيقة األمر إن هذه النظرية مل تكن سوى صدى ملا ردده أنطوان سعادة يف األربعينيات من القرن املايض فاألمم إنام تتكون "بتأثري بيئة طبيعية متميزة عن

سائر البيئات الطبيعية املجاورة هلا ")3) وبام أن سوريا الكربى حماطة بحواجز طبيعية تفصلها عن األمم واألوطان

)1) ينظر مطر، سليم »الذات اجلرحية، اشكاليات اهلوية يف العراق والعامل العريب الرشقمتموسكي« املؤسسة العربية للدراسات والنرش الطبعة االوىل ص 360

)2) املصدر نفسه ص 183 185)3) احلرصي، ساطع، دفاع عن العروبة، دار العلم للماليني الطبعة الثالثة بريوت ص 41

167 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

األمم سائر عن "ختتلف سورية "أمة تكون إىل أدى ذلك فأن األخرى األخرى)1).

وإذا كان سعادة قد حدد خريطة الوطن السوري بأهنا متتد من "جبال طوروس يف الشامل إىل قناة السويس يف اجلنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة ومن البحر السوري يف الغرب إىل الصحراء يف الرشق حتى االلتقاء بدجلة")2)، فأن سليم مطر حيدد خريطة األمة العراقية بامتدادها من اخلليج العريب جنوبا أىل جبال زاكروس شامال ومن الصحراء العربية غربا إىل اهلضبة اإليرانية رشقا. واحدة أمة دوما التي عاشت يف هذه األرض شكلت األقوام أن هنا املهم رغم اختالف اللغات والقوميات والطوائف، بمعنى أنه خالفا لنظرية ساطع اللغة معيارا لنشوء األمم، عد سليم مطر مهتديا القائمة عىل اعتبار احلرصي

بنظرية أنطوان سعادة اجلغرافيا هي املعيار وليس أي شئ آخر. لذا يرفض مطر الكثري من املقوالت املتوارثة من قبيل تعاقب أقوام وحضارات متنوعة يف تاريخ بالد الرافدين، وهو يرى هبذا الصدد أن السومريني واألكديني والبابليني واآلشوريني و"الناطقني بالعربية "الذين استعمروا العراق بعد ظهور اإلسالم إنام يشكلون حضارة واحدة ممتدة يف الزمن وأن مجيع هؤالء هم الذين

شكلوا هوية العراق)3)متسك "إن التالية: النقطة يف تكمن ومطر سعادة بني االتصال نقاط إن فلكي والرتكي. اإليراين العمالقني مواجهة العروبة،غايته بحجة العراقيني تصارعتا اللتني القوتني هاتني مواجهة يف العراقيني نحن وحدنا نكون ال عىل احتالل العراق خالل القرون األخرية، اصطنعنا فكرة االنتامء إىل )األمة

العربية( كقوة ومهية كربى")4). املجاورتني، القويتني األمتني إىل رسالة إيصال أرادوا العراقيني أن بمعنى الطامعتني دائام يف استعامر العراق، بأن هناك عمقا عربيا حيميهم. وهو املنطلق ذاته الذي انطلق منه أنطوان سعادة يف تربير ارمتاء السوريني يف أحضان العرب.

)1) نفس املصدر ص41)2) نفس املصدر ص48

)3) مطر سليم مصدر سابق ص 264)4) من حوار مع سليم مطر املسلة العدد االول السنة الثانية ترشين االول، ترشين الثاين 2000

خريف المثقف في العراق 168

أن عىل سعادة طروحات مناقشة بصدد وهو يؤكد احلرصي ساطع إن بل أفكار األخري إنام تكونت كردة فعل عىل املوجة العروبية الطاغية يف بالد الشام. يقول احلرصي "الحظت بكل وضوح أن فكرة العروبة كانت ختتلط يف ذهن أنطوان سعادة مع معاين البداوة الصحراوية من جهة ومع احلزبية املحمدية من جهة أخرى، وقد توهم الرجل أن فكرة الوحدة العربية ما هي إال قناع يتقنع به دعاة الطائفية اإلسالمية، لذلك أخذ حيمل عليها كام حيمل عىل الطائفية بشكل

عام ")1). ويميل ظن احلرصي يف كتابه "دفاع عن العروبة "أن أول من صادفهم أنطوان سعادة وخالطهم من دعاة العروبة "كانوا من املسلمني وربام كانوا من الرجعيني العروبة طائفيون متسرتون أو مقنعون واملتذبذبني ولذلك توهم أن كل دعاة

.(2("وأثر والعراق سوريا يف التاريخ مسري تأويل حياول وهو سعادة، إن بل األوىل الطبعة يف القول، إىل يذهب للعراق، بالنسبة إيران وجماورة اجلغرافية انقساما ليحدثوا الشيعة "إىل جلاءوا الفرس أن "إىل األمم "نشوء كتابه من ونفوذهم استقالهلم وليستعيدوا األموية سورية سيطرة من فيه يتخلصون الروحيني واملاديني وتابع العراق الفرس لتصبح السيطرة فيه ومتسكت سوريا

بالسنة لكي ال تذوب يف العراق وبالد فارس")3) هنا حيرض شبح فكرة "الشعوبية" التي لعبت دورا هائال يف "تعريب" العراق

كام يرى الكثريون وليس سعادة ومطر فقط. لظهور النبيهة احلرصي تأويالت ساطع من ربام مستلهم تفصيل ولألخري أفكار سعادة، إذ مثلام يميل ظن احلرصي إىل اعتبار أيديولوجيا "احلزب القومي السوري" ردة فعل ثقافية عىل نمط من القوميني العرب "الطائفيني" الذين ربام يذهب العرويب، الفكر نشأ حيث الشام بالد يف سعادة أنطوان إليهم تعرف سليم مطر إىل االعتقاد أن السوريني والعراقيني حرصا وقعوا حتت سطوة هذا الكائن اخلرايف الذي خلقوه، القومية العربية، وأهنم الوحيدون الذين خيشون

)1) احلرصي، ساطع دفاع عن العروبة ص31)2) نفس املصدر ص36)3) نفس املصدر ص61

169 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

التباهي أو حتى احلديث عن حضارة إقليمهم بحجة أن ذلك سيعد "شعوبية" و"قطرية "خالفا للمرصيني واملغاربة الذين ال خيونون حني يتغنون بحضاراهتم

القديمة)1). ما نريد الوصول إليه هو تكرار ما فكر به، أوال، أنطوان سعادة حني قال أن االرمتاء يف أحضان العروبة بالنسبة للسوريني والعراقيني كان بسبب اخلشية من الفرس ومن ثم ما فكر به احلرصي، ثانيا، حني فرس ظهور أفكار سعادة عىل إهنا

ردة فعل عىل نوع من العروبية اإلسالمية "الطائفية".ال تعقيد يف طرح كهذا: فالشعوبية كانت نتاج جماورة العراق حلضارة عظيمة ومهزومة ثقافيا كحضارة فارس والعروبية مل تكن سوى ردة فعل متوقعة. ومع تصاعد الرصاع يف القرن العرشين ودخول تيارات سياسية يف البودقة السوراقية املعقدة، تصاعد الرصاع واحتدم لينتج لنا نسخة من قومية متطرفة تزاوجت مع

إسالم "طائفي"، كان ممثلها ساطع احلرصي وميشيل عفلق وصدام حسني. وكام هو متوقع، حدث أن ظهر"النبي" القومي اجلديد، أنطوان سعادة، ليبرش

بأفكاره وليرس عىل هديه أتباع آخرون من بينهم العراقي سليم مطر. وكام هو متوقع أيضا، سيقرأ سعادة من قبل احلرصي عىل أنه "شعويب" ناقم "عمقه عن العراق بفصل املنادين وكل مطر سليم سيقرأ مثلام العروبة عىل

"العريب عىل أهنم شعوبيون وناقمون عىل العروبة.

عودة إلى كنعان الشعوبي: تعاطفها "عدم عليها آخذا كتابايت سعيد إدوارد انتقد نفسه املنوال "وعىل "مع العرب وأهنا قدمت نظرية تقول أن العنف يف الرشق األوسط، مطبوع يف

اجلينات العربية "كنعان مكية / القسوة والصمت

هل كان مكية شعوبيا؟ يبدو أن سؤاال كهذا كان قد خامر ذهن إدوارد سعيد وهو يالحظ هجوم غريمه العاصف عىل الثقافة العربية. وقبل اإلجابة عن هذا

)1) من حوار نرش يف مواقع االنرتنت والصحافة يف 2006/12/22 وأجراه مع سليم مطر الكاتب امحد اهلاشم

خريف المثقف في العراق 170

منها كنا حتدثنا عن جانب التي الشعوبية إىل العودة علينا االفرتايض السؤال وأجلنا احلديث عن بعض اجلوانب التفصيلية األخرى هلذه الفقرة.

الباحثون أشبعها التي الشعوبية متظهرات بأحد معنيون باألحرى، نحن، درسا. وهو الطعن يف العرب وحتقريهم أمام إعالء شأن احلضارة الفارسية التي

اهنارت عىل أيدي العرب املسلمني. إىل اإلسالم ضحى فرتة يف العرب قيمت التي النزعات أمني أمحد يقسم ثالث، األوىل ترى أن العرب خري األمم وحججهم يف ذلك كثرية أغلبها ذو مثل هبا امتازوا معينة خلقية صفات هلم العرب أن قبيل من عنرصي طابع

الكرم والشجاعة والنجدة وحسن البيان.. والخ)1)يف حني يعزو البعض تفضيلهم إىل ظهور اإلسالم فيهم ومحلهم عبء نرشه

بني األمم األخرى. النزعة الثانية رأت أن العرب ليسوا أفضل من غريهم وال أدنى. وأن األمم

سواء يف ذلك وأن معيار األفضلية إنام يتعلق بالتقوى واإليامن ال غري. الثالثة فتحط من شأن العرب وتفضل عليهم غريهم من األمم. النزعة أما وحججهم يف ذلك كثرية أمهها أن "العرب ال يمتلكون أي ميزة عىل حني أن كل أمة هلا ميزة تفخر هبا، فالرومان تفتخر بعظم سلطاهنا وكثرة مدائنها واهلند تفخر بحكمتها وطبها وكثرة عددها والصني تزهى بصناعاهتا وفنوهنا اجلميلة، وليس للعرب أي من ذلك، جدب يف األرض وبداوة يف عيش، كانوا يقتلون املكرمة ويفعلون والسلب الغزو من حال هلم يستقر وال الفقر من أوالدهم الصغرية كإطعام جائع وإغاثة امللهوف فيملئون الدنيا هبا شعرا ونثرا ويتيهون

بذلك فخرا")2)ويرى أمني أن الشعوبيني "كانوا أصنافا خمتلفة منهم فرس ومنهم نبط ومنهم أندلسيون وقد صبغت الشعوبية كل صنف من هؤالء صبغة خاصة فالفرس هلم صبغة خاصة تدعو إىل االستقالل واختذت بعض األحيان شكل زندقة وإحلاد احلرث معيشة وتفضيل وزراعتها لألرض عصبية شكل يف ظهرت والنبط

)1) ينظر، امني، امحد »ضحى االسالم »اجلزء االول ص 47)2) نفس املصدر ص 50

171 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

عىل خمتلفة ثورات ثاروا املرصيون والقبط ومعيشتها الصحراء عىل والزرع العرب وأرادوا طردهم من بالدهم وكان آخر ثورة كبرية يف عهد املأمون")1).

تارخييا، فإن ابرز اسم ارتبط بالشعوبية هو ابو عبيدة معمر بن احلارث الذي قال عنه ابن خلكان انه "يكره العرب وألف يف مثالبها كتبا "مثل "مرج راهط وكتاب املنافرات وكتاب العققة وكتاب أدعياء العرب وكتاب لصوص العرب

وكتاب فضائل الفرس وكتاب النقائض بني الفرزدق وجرير")2). بينهم وكان املوايل، هبا عومل التي القاسية املعاملة أن يبدو آنفا، قلنا وكام فرس كانت ال تزال ذكريات حضارهتم العظيمة طرية يف أرواحهم، هي التي العرب حتقري نعني الثالثة، نزعتها يف بالشعوبية املتمثلة الفعل ردة إىل أدت

واحلط من شأهنم. وأكثر ما جتسد ذلك يف األدب والشعر، السيام بعد شيوع نوع من االنفتاح يف أسايس كعنرص الفرس ودخول األموية الدولة سقوط بعد املسبوق غري

الدولة اجلديدة. لقد أصبح من غري املستغرب أن تشيع يف األمصار العربية كالبرصة والكوفة

أبيات من الشعر هتزأ بالعرب وقبائلهم وعاداهتم مثل قول أيب نؤاس عاج الشقي عىل رسم يسائله

وعجت أسأل عن مخارة البلد يبكي عىل طلل املاضني من أسد

ال در درك قل يل من بنو أسد ومن متيم ومن قيس ولفهام

ليس األعاريب عند اهلل من أحد)3)

لكن االستهزاء مل يكن ذا شأن أمام ظهور شكل من أشكال العصبية الفارسية

)1) نفس املصدر ص54)2) ينظر للتوسع يف املوضوع ينظر عبد اهلل سلوم السامرائي الشعوبية حركة مضادة لالسالم

واالمة العربية دار الرشيد للنرش 1980 خصوصا الصفحات من 92 108)3) ينظر ديوان ابو نؤاس حتقيق امحد عبد احلميد الغزايل طبعة القاهرة 1934 ص 46

خريف المثقف في العراق 172

التي بدت كمضاد للعصبية العربية. فقد وصل األمر بالشاعر اخلريمي أن قال يفتخر بقومه الفرس:

وناديت من مرو وبلخ فوارسا هلم حسب يف األكرمني حسيب

فيا حرستا ال درا قومي قريبة فيكثر منهم نارصي ويطيب

وان أيب ساسان كرسى بن هرمز وخاقان يل لو تعلمني نسيب

ملكنا رقاب الناس يف الرشق كلهم لنا تابع طوع القياد جنيب)1)

وبغض النظر عن الظروف التي أدت إىل نشوء الشعوبية، وتلك التي أدت إىل سيادهتم يف عرص التدوين، يبدو من الواضح أن نظرة العرب هلم إنام انطلقت عىل حاقدون إهنم ثانيا: وأوباش، سفلة إهنم أوال: هي منطلقات ثالثة من

العرب، وثالثا: إهنم متآمرون عىل اإلسالم. وال عداوة أرسخ الشعوبية هذه يف أر "مل بقوله يصفهم قتيبة ابن هو فهذا أشد نصبا للعرب من السفلة واحلشوة وأوباش النبط وأبناء أكرة القرى، فأما عليهم وما هلم ما فيعرفون الديانة وأهل منهم اخلطر وذوو العجم رشاف

ويرون الرشف نسبا ثابتا")2). وهذا هو اجلاحظ الذي اهتم، هو نفسه بكونه شعوبيا وبأنه يفضل النبط، تارة، "فتفهم عني، فهمك والرتك، طورا آخر، عىل العرب. هذا هو اجلاحظ يقول اهلل، ما أنا قائل يف هذا ثم أعلم انك مل تر قوما أشقى عىل هؤالء الشعوبية وال أعدا عىل دينه وال أشد استهالكا لعرضه وال أطول نصبا وال أقل غنام من أهل أكبادهم وتوقد الصدور منهم طول جثوم احلسد عىل النحلة وقد شفى هذه نار الشك والشنآن يف قلوهبم وغليان تلك املراجل الفائرة وتسعر تلك النريان

)1) ينظر السامرائي، عبد اهلل سلوم، الشعوبية حركة مضادة لالسالم واالمة العربية، ص 106)2) ينظر أمني، امحد، مصدر سابق ص 56

173 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

املضطرمة")1) أما تآمرهم عىل أهل اإلسالم والكيد له بعد ادعائه تقية ومكرا فيكاد يكون من بدهييات الثقافة العربية فأغلب الشعوبيني كانوا دخلوا اإلسالم جمربين بعد

انتصاره عىل أممهم. ولئن دخلوه ظاهرا فإهنم كانوا يكيدون له يف الباطن حسدا ومقتا. وبام إهنم كانوا ورثة ثقافة وحضارة فارسيتني أقدم من اإلسالم وأعرض ذاكرة ورموزا مزدكية من القديمة أدياهنم عنارص من الكثري إعادة أنفسهم عىل آلوا فقد

ومانوية وغريمها إىل الدين اإلسالمي ومن ثم تفريسه. هكذا رأى املدافعون عن الثقافة اإلسالمية ذات الصبغة العربية القومية وهم الفارسية والعراقية، يف العربية، السيام يراقبون الصعود احلثيث للعنارص غري

سلم احلضارة اإلسالمية الناشئة. وكام رأينا آنفا، كان التحالف غري املعلن بني النبط العراقيني والفرس، جلهة قد قريش، أرستقراطيي دولة عليها قامت التي املشرتكة لألسس معارضتهام أدى، فيام بعد إىل اختالط هؤالء بأولئك وامتزاج بعض مقوالت أولئك ببعض

مقوالت هؤالء. كل ذلك أدى إىل نشوء نظام فكر عريب، سستيم، يقوم عىل آلية ينظر عربها إىل اآلخر بوصفه عدوا مسترتا، كامنا ومتواريا خلف شكل معني من أشكال

اإلسالم. لذا، ليس من الغرابة يف شئ أن يأيت مفكر عريب بعد أكثر من ألف عام ليقول به الذي يسترتون إليه وستارهم يأوون الذي الشعوبية أن" التشيع كان عش

.(2("املدافعون قاله ملا صدى كوهنا سوى فهمها يمكن ال الفكرة هذه مثل إن األوائل عن الثقافة اإلسالمية بملمحها العرويب أمثال ابن قتيبة الذي يعتقد أن من ذهب مذهب الشعوبية "قوما حتلوا بحلية األدب فجالسوا األرشاف وقوم والغضاضة آلداهبم األنفة فدخلتهم السلطان فقربوا الكتابة بميسم اتسموا

)1) ينظر اجلاحظ، البيان والتبيني، اجلزء الثالث ص22)2) أمني، امحد، مصدر سابق ص 56

خريف المثقف في العراق 174

ألقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عنارصهم")1).إن آلية "املكر واملكيدة" التي نظر عربها بناة الثقافة العربية إىل اآلخر وفهموه التدوين، إىل ما يشبه منظومة فكر كاملة من خالهلا كانت حتولت، بعد عرص وقد ساعد عىل ذلك استقرار شكل الدولة لفرتات طويلة حسب اآلليات ذاهتا

التي أرساها األمويون. وهو شئ أدى إىل تكون هوية ثقافية ورأسامل رمزي يقوم عىل أساس واحد:

دولة عربية إسالمية / سنية. ثقافة فارسية وإرث مانوي أو مزدكي. بد أن حييل إىل أما ما عدا ذلك فال العرب الطعن يف متآمر مهمته فاريس فهو لو كان عربيا قحا، وحامله، حتى

واحلط من شأهنم. هل حافظ إدوارد سعيد وجوزيف مسعد وإلياس خوري عىل هذه اآلليات؟

هل التزموا بأسس النظرية العربية تلك؟ من املؤكد أن ذلك قد حصل، والدليل هو ما جرى مع كنعان مكية. فبموجب اآللية ذاهتا، يأخذ إدوراد سعيد عىل مكية رضبه الثقافة العربية بطريقة ال هوادة

فيها. بدولة اإلطاحة مرشوع تسبق لسعيد حمارضة من مستلة األخرية العبارة "مل يكتب صدام بأكثر من عرش سنوات، يقول سعيد وهو يتحدث عن مكية هويته. محت التي املزيفة األسامء من صفا استخدم بل أبدا، احلقيقي باسمه فعل وقد بالكامل، العربية الثقافة هستريي نحو وعىل عشواء خبط ورضب

ذلك هبذه الطريقة لتكسبه اهتامم القراء الغربيني")2).باسمه يكتب "مل التدوين برتاث عرص تذكر بطريقة يتكرر نفسه املنطق إن هستريي نحو وعىل عشواء رضب و"رضب التقية، التواري أبدا"، احلقيقي الثقافة العربية بالكامل"، احلقد معربا عنه باهلدم والتشويه، ثم "فعل ذلك هبذه

الطريقة لتكسبه اهتامم القراء الغربيني" التآمر مرة أخرى.

)1) نفس املصدر ص 56)2) نظر »معلومات مضللة عن العراق »ألدوارد سعيد منشورة يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 /

2002 / 12

175 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

اهلوية للمنافحة عن اجلعبة من سالح ما يف يكن كل مل أن هذا األمر واقع الثقافية ضد اآلخر الذي متثل يف مكية، فاألخري ليس حمض فرد يعرب عن فكرة شخصية إنام هو نتاج سياق صنعه اآلخرـ العدو وهنا علينا التوقف عند السؤال

الذي استنكر مكية جمرد صدوره: مني وراه؟ كان مكية، العاصفة ضد إدوارد سعيد مقالة أثارهتا التي املعركة يف خضم الذكر قد شاركوا آنفة الفكرية العربية بمنظومتها الثقافة أبناء العديد من ثمة يف اجلدال، ومن بينهم الفلسطيني جوزيف مسعد الذي أثر الرتكيز، يف مقالته أنتج الذي األمريكي السياق عىل احلياة، صحيفة يف األخرى هي املنشورة "شعوبية" إىل عينتني حتيالن بوصفهام كنعان مكية وفؤاد عجمي مثل ظواهر يمني مع متحالف ليكودي بيمني متمثال الغرب وداعمها منتجها جديدة

مسيحي نافذ القرار يف الواليات املتحدة. )1) تتلخص رؤية هذا الكاتب يف أن بروز مكية وعجمي راجع إىل االنتفاضات السياسية والثقافية التي هزت أمريكا يف عقد الستينيات والسبعينيات حيث جلأ اخلطاب العنرصي األمريكي املهيمن إىل استقطاب نمط من املفكرين ليشكلوا ما يسميه مضادا نوعيا جلهة انتامئهم إىل ثقافات أخرى مثل العربية واألفريقية. ملقاة كانت بمهامت بالقيام تكفله يف تكمن النوعي املضاد هذا وظيفة إن عىل عاتق األمريكيني أنفسهم. بمعنى أن مقولة مثل إن اإلسالم دين ذو طبيعة تنطلق من أن انطلقت من مثقف مسلم من لو فيام إقناعا أكثر عنفية ستكون

برنار لويس. )2)يف مثل هذا السياق حياول اآلخر إعادة إنتاج خطابه بوساطة مثقفني مثل فؤاد عجمي، األكاديمي اللبناين، الذي "برز يف أوائل الثامنينات كأهم صوت عريب

معاد للعرب ومؤيد إلرسائيل عىل الساحة األمريكية".)3) وفق املعني ذاته، ينعى إلياس خوري املصري العريب القاتم، وهو يراقبه عرب قراءته لألخر - أمريكا، "األكثر اعتداال يتبنى خطاب املسترشق برنارد لويس الذي يدعو إىل حتطيم الفكرة العربية، واألكثر تطرفا يتحدث عن عراق فيديرايل

)1) يننظر مقالته »صحيفة »احلياة« اللندنية عدد يوم 3/ 2 1/ 2 0 0 2)2) نفس املصدر)3) نفس املصدر

خريف المثقف في العراق 176

إىل كنعان أبراهامز إليوت وغري عريب، من ريتشارد بريل إىل وولفويتز، ومن مكية، حلقة مقفلة من العداء لكل ما هو عريب وفلسطيني ومسلم، جتتاح دوائر صنع القرار يف البيت األبيض، وتلقي بظالهلا عىل املصري العريب املطروح اليوم

حتت مبضع الصواريخ والقنابل التي سوف تتساقط فوق بغداد".)1) ما مجعية طمأنينة عن والباحثة الضحية بلغة امللتبسة البكائية الرؤية هذه خالله من تصدى الذي التدوين تراث منطق من اإلفالت لتستطيع كانت و"السفلة "األوباش" أولئك والزنادقة، للشعوبيني العربية الثقافة حراس

"الذين يطعنون يف أرشاف العرب، حسب تعبريات ابن قتيبة. فكام هيبط مستوى اخلطاب عند احلديث عن هؤالء األخريين لدى اجلاحظ عن احلديث عند سعيد إدوارد لدى اخلطاب مستوى سيهبط قتيبة، ابن أو و"تافه"، لالشمئزاز" مثري "شئ إىل األخري هذا خطاب يتحول إذ مكية.

بل"مغرت و"يمتاز بالسطحية". إنه املنطق ذاته، منطق احتقار الشعويب أو الزنديق واحلط من شأنه.

من حفظ إذا منهم "والناشئ يصفهم كيف اجلاحظ، إىل مثال، لنستمع، عهده وألردشري أمثاله، لبزرمجهر وروى ملحة، العلم ومن فتيقة الكالم ولعبد احلميد رسائله والبن املقفع أدبه وصري كتاب مزدك معدن علمه وكتاب التدبري وابن عباس يف الفاروق األكرب يف إنه كليلة ودمنة كنز حكمته، توهم العلم بالتأويل... فيكون أول بدوه الطعن عىل القرآن يف تأليفه والقضاء عليه

بتناقضه... الخ")2).إىل ظاهرة يشري أبو مسعد وهو يكتبه جوزيف فرق عام ثمة كبري ترى هل

مكية "غري الثقافية "التي عراها إدوارد سعيد "املثقف النقدي". احلاسم إدوارد سعيد فعل رد فهم يمكن أنه ال "واحلقيقة أبو مسعد يقول الثقايف الغطاء ونزع باالسم هلا وتعيينه مكية كنعان ظاهرة عىل والقوي العالقة وتعرية تفكيك يف األسايس سعيد إدوارد مرشوع إطار يف إال عنها، جياهر ونقدي منشق كمثقف بدوره الدائم التزامه ويف واملعرفة، السلطة بني

)1) ينظر صحيفة »النهار« البريوتية عدد يوم االحد 9 آذار /مارس 2003لرئيس حمفوظة الطبع حقوق الرابعة الطبعة الثالث اجلزء والتبيني، البيان اجلاحظ، ينظر (2(

املجمع العلمي العريب االسالمي يف بريوت حتقيق ورشح عبد السالم هارون ص

177 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

واملثقف اجلامعي لألستاذ معني مفهوم عن سعيد إدوارد دفاع إن باحلقيقة. النقدي يأيت يف مواجهة نامذج من شاكلة مكية تشكل نقيضه املبارش، ألهنا متثل حماولة اخرتاق حقيقي له من الداخل، أي من طريق االنتامء إىل العامل األكاديمي وادعاء االنتامء إىل الثقافة، من أجل خدمة مآرب بعيدة كل البعد عن قيم البحث العلمي املستقل والفكر النقدي التي كرس هلا إدوارد سعيد جل وقته وجهده

وأعامله")1).قطب وكأهنا تبدو العربية العقلية حتكم التي التآمر منظومة إىل العودة إن شخص ذاته: املشهد عىل دائام، تبقي، واخللفية مبذول، جهد كل يف الرحى مشبوه متمرتس خلف لغة ثقافية زائفة هياجم مثقفني عربا حقيقيني، ال لشئ املشبوه باجلهد ربام، نفسه وزمالءه مذكرا، سعيد يقول سوى كوهنم كذلك.

لكنعان مكية الذين العرب املثقفني مكية هاجم والصمت(، )القسوة الثاين، كتابه "يف اهتمهم باالنتهازية والالأخالقية ألهنم إما أشادوا بأنظمة عربية خمتلفة أو لزموا الصمت عىل االنتهاكات التي تقرتفها احلكومات املختلفة ضد شعوهبا. مل يقل كأحد اجلريمة يف واشرتاكه بالذات هو صمته تاريخ بالطبع،عن شيئا، مكية املستفيدين من سخاء النظام ، عىل رغم أنه كان يملك احلق، بالطبع، يف العمل مع من يشاء. لكنه تفوه بأخس األشياء عن أشخاص مثل حممود درويش وعني قصيدة كتب درويش وألن زعم، ما حسب التطرف ونؤيد قوميني، لكوننا لصدام. كان معظم ما كتبه مكية يف الكتاب، حسب رأيي، مثريا لالشمئزاز")2). تركيز سعيد، هنا، عىل مهامجة مكية للمثقفني العرب مل يكن عابرا أبدا، وال الثقافة نفسه، رضب اجلهد تفسري فهو يصب يف جمرى عابرا، يكون أن جيب الدفاع عاتقه "االسترشاق" عىل كتاب صاحب أخذ اللتني العربيتني واهلوية

عنهام دائام. إن التناقض جد واضح بني الرجلني، ففي الوقت الذي يوقف مكية حياته لتعرية نظام سيايس حيكم بلده، ومن ثم تفكيك أسس اهلوية التي أنتجت مثل

)1) ينظر صحيفة »النهار« البريوتية عدد يوم االحد 9 آذار /مارس 2003)2) نظر »معلومات مضللة عن العراق »ألدوارد سعيد منشورة يف صحيفة احلياة بتاريخ 13 /

2002 / 12

خريف المثقف في العراق 178

هذا النظام، كان جهد إدوارد سعيد قد انصب يف اجتاه مناقض متاما هو الدفاع عن هذه اهلوية وتفكيك األسس التي يتعاطى من خالهلا اآلخر الغرب معها.

سعيد موقف منتقدي من العديد أذهان عن لتغيب تكن مل املالحظة هذه املتعنت أزاء مكية، يقول العراقي حيدر الشيخ عيل" يكفي أن نراجع عناوين كتبه يعني - إدوارد سعيد - لكي ننتبه إىل أن حساسيته كانت دائام منشدة اىل نقد اخلارج، أمتثل يف املسترشقني )"االسترشاق"( أم التغطية اإلعالمية الغربية )"تغطية اإلسالم"( أم دور اإلمربيالية يف الثقافة "الثقافة واإلمربيالية" الخ. ويف املقابل تكفي مراجعة مماثلة لعناوين كتب مكية كي نالحظ أن حساسيته متجهة

إىل نقد الداخل وتراكيبه")1). واملستمر اخلوف" مجهورية من" املمتد مكية مرشوع بالتأكيد، يعني، إنه بعالقة الفن باالستبداد "النصب"، لكن قبل هذا وذاك، املنشغل بتعرية "القسوة "القومية بطبعتها العراقية البعثية و"الصمت"العريب. واملهمة األخرية هي التي

أثارت حفيظة العديد من املفكرين العرب.

مكية سعيد: من أنا: من أنت.. لمن نكتب! عىل مؤيدا سعيد، وافق اخلليج، وحرب املثقفني عن ذاهتا، املقابلة )ويف "من هم يف كتبه تساءل عن كل العريب، العامل للتآمر يف وجود مصدر شعبي مني بالعربية: يقولون كام أو باسمهم، الشخص هذا يتحدث الذين احلقيقة وراه؟" ويمكن اختصار نقطة اخلالف األساسية بيني وبني سعيد بالتايل: بينام أنا أرفض جمرد طرح أسلة كهذه عىل أي كائن برشي، يوافق هو عىل طرحها. الرد املربك الذي أوجهه إىل أكتب لنفيس، حايل حال أي كاتب أخر هذا هو

هؤالء النقاد( كنعان مكية / القسوة والصمت

الطعن يف الثقافة العربية هو ما أثار أكثر من سؤال عند سعيد: باسم من يتكلم أنه يبدو التي الثقايف العراقي ومن يقف وراءه، وما هي مالمح املرشوع هذا

جند للتنظري هلا!

)1) ينظر حيدر الشيخ عيل صحيفة »احلياة »عدد يوم 4 كانون الثاين / يناير 2003

179 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

يقول كنعان مكية وهو يف معرض تفكيك مثل هذه األسئلة "إن مرصيا ينرش باللغة العربية يف مرص ليس مثقفا عربيا صاحلا أو مثقفا من الطراز الصالح أن اعترب نفسه مرصيا وكان مصنفا يف حلقة من النارشين والنقاد والقراء تقترص نشاطاهتا عىل مرص. حتى كونه عربيا يميس موضع تشكيك أن مل يتخذ املوقف

املناسب خالل حرب اخلليج. من جهة أخرى، ليست هناك أية شكوك حول عروبة أستاذ فلسطيني يعلم يف جامعة أمريكية ويعرب عن رفضه الواليات املتحدة بلغة إنكليزية بليغة، ألنه

يفكر كعريب وألن قضيته قضية العرب أمجعني")1) املقصود بالتأكيد أن مشكلة إدوارد سعيد وأتباعه تتعلق باملوقف من الغرب أنك بمعنى آخر، شئ أي عن النظر وبغض قبلهم من فهم كام االستعامري ستكون حمل شكوك ال تنتهي حاملا تنحرف عن املسار القبيل الذي من املفرتض أن تسري فيه: العداء للغرب والتحدث باسم مجاعة ومهية، أمة، ومن ثم، التامهي

مع رؤية غريتارخيية ال حتفل بأي سياق خارج منظومتها الرهيبة.وإذ يكتب املرء أو يفكر خارج هذه املنظومة فإنه يستدعي التساؤل إن كان

هذا املرء يكتب لنفسه ام انه مدفوع من األعداء. مكية يفكك هذه الرؤية التآمرية ببساطة ووضوح شديدين قائال "إن املسائل كان. ألي وليس لنفيس أكتب كوين عن تنجم الوحيدة احلقيقية األخالقية أكتب "إنني وأقول استدير أن بمقدوري لو كان لتكون أسهل فاحلياة كانت

باسم الشعب العراقي، أو لفضح جرائم صدام "ذلك ليس حقيقة". السؤال متجه، هنا، إىل دافع الكتابة وليس إىل مغزاها، ملن نكتب وملاذا، هل نحن مدفوعون آيديولوجيا أم ان األمر جمرد هوس باكتشاف وكشف احلقائق! خيتلط آيديولوجي بوازع الكتابة نحو وأتباعه سعيد إدوارد حترك ولئن باألخالق دائام وابدا، فأن املسألة عند اتباع مكية فردية متاما جلهة أن هناك "دائام توتر صعب بني الدافع الداخيل الذي هو أساس الكتابة ومغزى النتيجة النهائية

فقد ال يكون مغزى النتيجة النهائية كام يرغب الكاتب")2).

)1) ينظر مكية، كنعان« القسوة والصمت »الطبعة االوىل دار الساقي 1994 ص 245)2) نفس املصدر ص 245

خريف المثقف في العراق 180

ويرضب مكية أمثلة شخصية من كتابه "القسوة والصمت" فحني أجرب الفتى الكردي تيمور عىل احلديث كان األخري قد أصبح هدفا لالغتيال يف وقت شعر

املعارضون العراقيون بالرىض التام هلذا "الفضح ")1). بمعنى أن ما هو فردي يف هوس مكية كان حتول إىل آيديولوجي عند اآلخرين. التفسريات أنواع جلميع "عرضة يظل بتيمور فعله ما فضيلة أن واخلالصة

وأمهها ال عالقة له بالسؤال: ملن أكتب أو حتى من أنا". قدر تعلق األمر بتفجر اجلدل عقب نرش مالحظات سعيد عىل أفكار مكية، الوسط يعمالن يف فالرجالن اجلدل. الشخصاين يف اجلانب إىل الكثريون نبه ذاته، التدريس يف اجلامعات، ويف البيئة نفسها، الواليات املتحدة، ومها مهتامن

بقضيتي بالدهيام بطريقتني خمتلفتني. الفلسطيني، اهنمك بتعرية الغرب انطالقا من مأساة األول، إدوارد سعيد، بينام وطريقة. طريقة وبألف حلظة كل حيارهبا الغرب أن يعتقد التي هويته اهنمك اآلخر، كنعان مكية، بتعرية هويته نفسها واضعا أفقا جديدة يمكن أن

تبني انطالقا منه هوية أخرى. األول ظل حمافظا عىل توازنه التارخيي / األسطوري بوصفه عربيا أنموذجيا يعيش يف منفى هوية تلتبس بشكل الضحية، يف حني حياول اآلخر، العراقي، بمعطيات تلتبس تارخيية هوية لصالح حتطيمها ثم ومن األسطورة تفكيك

الواقع وتعيد االعتبار لكل ما هو فردي وحيايت غيبته تلك األسطورة. باملقابل، يبدو أن مصادفة ما هي التي جعلت أزمة اهلوية العربية، وإشكاليات اهلويات املحلية وعالقة كل منهام باآلخر الغرب تتجسد ال يف جدل الرجلني، بوصفهام شخصني، بل بكوهنام ضحيتي هويتني متشاهبتني: العراق وفلسطني. نكون لن ولعلنا هو"الذخر". فلسطني لذاكرة بالنسبة العراق أن ذلك فالعراق هو البابيل. السبي إىل الذخر ممتدا لنا هذا تراءى ما "إذا "أسطوريني هبيئة مرة ذات فعال جاء وقد املحبط، الفلسطيني ذاكرة يف املوعود املخلص نبوخذ نرص، ثم هبيئة صالح الدين األيويب، وقد خيل للفلسطينيني أنه كاد جيئ

أخريا هبيئة صدام حسني.

)1) نفس املصدر ص 255

181 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

من الطريف أن مكية نفسه يكتب بسخرية الذعة عن هذه "األسطورة "وان مل يقل الفكرة نفسها، فكرة "أسطورة" العراق بالنسبة للفلسطينيني، لكنه حتدث أبابيل "طيور منازهلم إىل عودهتم أثناء رأوا الذين الفلسطينيني أولئك عن

تتجمع فوق مسجد مكة املقدس")1).تتلو الدجاجات أن للفلسطينيني خيل حني تقع تكاد اخلليج حرب كانت

آيات قرآنية وأن وجه صدام ينطبع عىل وجه القمر مرات عديدة. إدوارد سعيد مل يكن بمنأى عن تلك التخيالت، رغم انه يعيش يف الواليات املتحدة، فهو يشرتك مع أبناء بلده بـ "الوعي" واحد. وال أحد جيرؤ اليوم عىل وضعها أنتجها التي األسطوريات بكل لفلسطني بارا أبنا يكن مل أنه القول إىل اآلخر بوصفه عدوا، النظر العاطفي، اهليجان اخليالية، اهلوية االستثنائي:

تنحية اجلانب الفردي، وااللتصاق األبدي بلغة الضحية، وانتظار املخلص.إن إدوارد سعيد نفسه، وهو يتأمل صور املثقف، يف سلسة حمارضاته الشهرية،

يكاد جيزم أن ال مثقف يمكنه اخلالص من مشكلة والئه هلويته الثقافية. فهو مثل أي شخص أخر ينتمي إىل نوع ما من مجاعة قومية أو دينية أو إثنية وطبعا اجلامعة، أو بالعائلة الفرد تربط التي اللغوية الروابط فوق أحد و"ال القومية. بالنسبة ملجموعة نامية وحمارصة لنقل البوسنيني أو الفلسطينيني اليوم احلقيقي اجلسدي وأحيانا السيايس باالنقراض مهدد شعبك أن الشعور فإن ضد للقتال أو حلاميته، قوتك نطاق يف شئ أي وبفعل عنه، بالدفاع يلزمك

األعداء القوميني وطبعا هذه نزعة قومية دفاعية")2) لكن ما إن يتعدى سعيد القضية القومية التي تشغل ذهنه حتى يتناقض، يف الكتاب عينه والتفاصيل تتعلق حرصا بمثقفني اثنني يشري هلام املفكر الفلسطيني

أحدمها غريمه العراقي. واآلهلة، باآلهلة، االرهتان فكرة إىل بشري مكية وهو كنعان يقول سعيد عن حفنة اكتشفت يقول: الغرب، / اجلديد األيديولوجي الرب عن كناية هنا، صغرية جدا من املثقفني العرب دورا جديدا هلا يف أورويا والواليات املتحدة،

)1) نفس املصدر ص 255)2) سعيد، )ادوارد(،« االهلة التي تفشل دائام »ترمجة حسام الدين خضور، دار التكوين دمشق

الطبعة االوىل، ص 53

خريف المثقف في العراق 182

للحركة ومؤيدين تروتسكيني، غالبا ماركسيني، مناضلني مرة ذات كانوا الفلسطينية،أصبح بعضهم بعد الثورة اإليرانية إسالميا، وعندما اهنزمت اآلهلة السرب بعض رغم املثقفون، هؤالء خرس بعيدا، االنسحاب إىل واضطرت

املدروس هنا وهناك إبان البحث عن آهلة جديدة ليخدموها ")1).ويستمر سعيد مركزا عىل غريمه" أحد هؤالء، عىل وجه اخلصوص، رجل كان ذات مرة تروتسكيا خملصا، فيام بعد هجر اليسار واستدار، كام فعل آخرون كثر، إىل اخلليج حيث حقق عيشا الئقا من العمل يف البناء، تقدم ثانية قبيل أزمة اخلليج متاما،وأصبح ناقدا متقدا ألحد األنظمة العربية عىل وجه التحديد")2).

ليذكره أعوام عرشة بعد سعيد يعود الذي مكية كنعان هو طبعا املقصود باسمه، لكن بطريقة فيها الكثري من االزدراء الذي يبدو وكأنه احتقار ذو طابع

شخصاين وثقايف، يف اآلن ذاته. التعريف بمكية عادة بكونه عىل صلة هبارفرد "جيري املرة يقول سعيد هذه لكنه برانديس )كالمها يف بوسطن(. يف جمال األبحاث وكربوفسوريف جامعة باجلبهة وثيقة صلة السبعينات،عىل بداية يف األوىل للمرة عرفته عندما كان، الديموقراطية لتحرير فلسطني. وكان آنذاك، حسب ما أتذكر، يدرس اهلندسة يقل شيئا مل لكنه آي يت(، )إم للتكنولوجيا ماساتشوسيتس املعامرية يف معهد عن اوباألحرى األنظار، عن اختفى ثم فيها. رأيته التي املرات خالل يذكر لكتاب مؤلفا خليل، سمري اسم حتت 1990 يف السطح إىل وظهر أنظاري. حسني صدام حلكم وصفا وتضمن اخلوف( )مجهورية عنوانه بإشادة حظي

بقدر كبري من الرتويع واإلثارة")3).احلق ان املسالة مل تكن مفاجئة أبدا، إذ بدت طريقة مكية يف اإلنصات لوقع وسمت والصدم االختالف من طويلة لرحلة تتويج حلظة وكأهنا احلرب، مواقف الرجل ورؤاه فيام يتعلق بطريقة تعاطي املثقف يف أنموذجه اجلديد مع

مسائل بالده. عىل أوسطي" رشق مثقف" فيها جيرؤ التي األوىل املرة هي ربام، فهذه،

)1) نفس املصدر ص 134)2) نفس املصدر ص 134)3) نفس املصدر ص 135

183 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

هناية منذ جسدت، قوة قبل من تقصف بالده يرى وهو الفرح مشاعر إبداء احلرب العاملية الثانية، بالنسبة للثقافات"الوطنية" املناهضة لالستعامر،الوريث

األنموذجي للدول االستعامرية القديمة بريطانيا، فرنسا، إيطاليا. "الثقافية" الشتائم من بوابل مكية جيابه أن متاما املستغرب من يكن مل لذا والسباب غري املؤدب، وكان أبطال املعركة عرشات الكتاب والصحفيني، من بينهم أناس مغمورون وجدوا يف موضوعة اجلدال فرصة للنرش وحتقيق بعض

الشهرة. أرشيف صحف مثل" العرب" و"القدس العريب" وبعض مواقع االنرتنيت مثل أخبار الرشق وإيالف، تزدحم، اليوم، بعرشات، إن مل نقل مئات، الكتابات

التي تفننت يف مهامجة املثقفني العراقيني الداعني إىل"احتالل بلدهم". وبغض النظر عن أساليب الشتم التي طالت موقف مكية، املعروف قبل هذه التي احلادثة بكونه أحد أبرز الداعني، ومن ثم، املخططني، أو لنستعر املفردة فأن العراق، احتالل "املحرضني" عىل األتايس مثل حممد عىل كتاب يفضلها اجلميع استعادوا يف الرجل، ببساطة، صورة "اخلائن" األنموذجي املوروثة، يف

الثقافة العربية،عن حقبة التحرر الوطني ومناهضة االستعامر. املثقفني ظاهرة عىل مثال سوى يكن مل مكية أن فكرة األخرية، الفكرة التي هي الظهر، يف وطعنوه بلدهم عىل حرضوا الذين "اخلونة"، العراقيني العاصف الظهور إشكالية كلها، اإلشكالية ختترص ربام أهنا والسبب هتمنا، قطيعة إحداث إىل العبارة برصيح أحيانا الداعي، التفكري، من النمط لذلك

هنائية مع كل ما من شأنه التذكري باهلوية القديمة للعراق، العراق العريب. مكية ظاهرة عن كتبوا من أغلب عن لتغيب تكن مل األخرية الفكرة هذا حتى أن ما يسميه حممد عيل االتايس بظاهرة "الشوفينية العراقية" مضت بعيدا يف"التشكيك بكل ما هو عريب" وهي، اليوم جتد هلا منارصين كثرا يف أوساط "إىل املتأمركة، وهم كام يقول ال يتوقفون عن دعوة العرب العراقية املعارضة بالقضية قضيته ربط وعدم العراق وشأنه وترك بلداهنم إىل شؤون االلتفات

الفلسطينية")1).

)1) ينظر حممد عيل االتايس »معلومات مضللة عن ادوارد سعيد: كنعان مكية واليمني االمريكي

خريف المثقف في العراق 184

االتايس، وغريه، ربام وجدوا الكثري من األدلة عىل هذه الفكرة، فكرة طرح مكية مقابالت يف وله العراقي، العراق إىل وااللتفات جانبا العريب العراق

وترصحياته ومقاالته، السيام ذات الطابع السيايس املبارش، معينا ال ينضب. إنه يذكر مثال عبارة أخرى ال تقل يف إثارهتا حلساسية املثقفني العرب من تلك

لتي كتبها يف صحيفة "نيوريبوبليك "غداة احتالل العراق. ففي مقابلة ملكية مع صحيفة الغارديان الربيطانية يقرر األخري أن "إرسائيل بنيت عىل أنقاض 400 قرية فلسطينية، ولكن هناك ثالثة أو أربعة آالف قرية دمرها النظام العراقي.. إذا كنت تعيش يف العراق لن تكون فلسطني سؤالك

املركزي".فكرة مثل هذه التي يطرحها مكية ليست غريبة باملرة بالنسبة لنامذج أخرى "مجهورية صاحب أفكار مع بالرضورة، يتفقون، ال قد عراقيني مثقفني من العراق". فها هو شاعر "مثله عىل" احتالل "حيرضون اخلوف". بل لعلهم ال كجامل مجعة يأخذه التطرف بعيدا يف "تقريع" العرب وإيذائهم بأقسى العبارات العراق باسم تتلفظوا ال العربان "أهيا قائال الذهن يف ختطر أن يمكن التي وتوسخوه بأفواهكم من حرص مزعوم عليه، فالعراق عراقنا ونحن أدرى بام فيه، فال تزامحوننا عليه من جديد وانرصفوا لبعض شؤونكم بارك اهلل فيكم، فال

كوبونات نفط للفنانني مستقبال وال مرابد للمتشاعرين")1)واسعة.وكالعادة أفعال ردود أثارت وقد واستفزازية غاضبة املقالة كانت وأردنيون ومرصيون وخليجيون فلسطينيون وفيهم العرب املثقفون اصطف جهة، من منفيا، بكونه مذكرين "تافه" مثقف "مجعة" بان لريددوا وشاميون

ومهتام باألدب اإليروتيكي، من جهة أخرى. انتامء هلذه يتربأ من كل العراقي "الشاعر إن املحاميد الصحفي خالد يقول القوميات مجيع يذكر فإنه العراقيني شمل مل مؤمال يرصخ وحني املنطقة، من هدية لكم، فسنرتكها فلسطني.. أما والعرب: املسلمني ماعدا واألديان الرئيس القائد، لتحرروها بدوننا، خذوها كلها.. هي وقدسها فقد شبعنا حروبا

جلديد »اخبار الرشق 16 3 2003)1) ينظر »الوطن« السعودية العدد 907 السنة الثالثة 256 مارس

185 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

وحان لنا أن نسرتيح ونلملم شمل أكرادنا ومهاجرينا ونستعيد هيودنا وصابئينا ومسيحيينا... نستعيد عراقنا من جديد، عراقنا الوديع. حرروا فلسطني بدوننا، األمة سيف خملصكم، خربه ما لبناء سيكون فجيشنا املجد، هذا نريد فال

املقبور، الرئيس املؤمن صالح الدين األخري، هذا إذا كنتم قادرين")1) "الوطن" السعودية لطرح ملف وحسب رأي الكاتب الذي اختار صحيفة مجال مجعة، فرس املقال عىل أنه "شعور باإلحباط الشديد لدى الشاعر". وقالت الكاتبة الفلسطينية سوسن الربغوثي، "إننا نتفهم مشاعر مجال مجعة، ولكن نرش يتم ال وأن املقال ينرش ال أن مطالبة العرب فرقة من سيزيد املقال هذا مثل الرد عليه إال بام يربر الوضع النفيس للمحبطني مثل مجعة. أما الروائي والشاعر املرصي سمري الفيل فيقول: مع كل حمنة تنكشف معادن الرجال والنساء أيضا حماولة التعريج عىل قضايا هامشية أمر يتناىف مع أبسط أبجديات الفكر.. حسنا أن أوال علينا مناقشتها.. وقت هذا ليس قديمة، ومرارات اختالفات هناك

ندفع العدوان، وال تفرقوا فتذهب رحيكم ، وحيكم!! )2)

إصغاء أخير: هوية المثقفمن كل هذا اجلدل والنقاش الذي يصل حد صب اللعنات لن يتبقى سوى يلخصها فوزي كريم يف مقالة هي األروع عىل اإلطالق يف التي الفكرة هذه

سلسلة ما قيل يف هذا اخلندق أو ذاك. لقد انترص فوزي كريم لفهم كنعان مكية وخلص الرصاع املحتدم بني العراقيني العراقيون، وهم مكية، كنعان قضية يف الضحية إن اآليت: بالشكل والعرب والثقافة اإلعالم ضمري تشغل ومل القومية األبعاد من أساسيا بعدا تشكل ال

العربيني ولو حلظة واحدة ولذلك، مل تكن فعالية مكية حمتضنة من قبلهام. أن حتى اليوم حتى واستنكارمها النتقادمها عرضة ظلت العكس عىل بل

مرتجم كتاب "القسوة والصمت" فضل أن يبقي اسمه جمهوال ". املثقف وفهم تبدل جوهري يف هوية ثمة الفكرة هي أساس اخلالف، هذه

)1) املصدر نفسه)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 186

جديد النتامئه: بدل أن ينتمي إىل ذلك الوطن األسطوري الذي يسمى" األمة املغيب، الفعيل انتامئه إىل العودة له - مثال املثقف - مكية قرر هذا العربية"، والعراقي العريب للمثقف عهد ال جديدة حرب ساحة إىل النزول ثم ومن

بمثلها سابقا. عن الرصاع حرف شأنه من ما كل وتأجيل االنتامء وجهة تصحيح نقصد الدموي حسني صدام نظام إسقاط ليست بالتأكيد وهي، احلقيقية غايته والبشع، حتى وان بدت املهمة الرئيسية هي هذه إنام الغاية هي إعادة اكتشاف إىل العودة دالالت، من العودة هذه حتتمل ما بكل للمثقف احلقيقية اهلوية الذات، االحتفاء باحلرية الفردية املغيبة، اخلروج من السجن األسطوري، نزع النظارات املصبوغة بالرصاص املذاب والنظر إىل"اجلريمة" بوصفها "جريمة".

وتفاصيل ذلك، يف العراق، جمسدة مثل جثة قتيل تطالعك كل حلظة. أن يكون إدوارد سعيد فلسطينيا، وان يكون صدام حسني مدعيا قوميا برع يف خداع ماليني العرب الساكنني يف "أمة" رمزية ال وجود هلا، يف الواقع، كان يعني لألسف جماهبة هيجانات بدائية ال تنقطع، هيجانات أبطاهلا أكاديميون مرموقون الغيطاين مثل مجال وأدباء أبو مسعد وصحفيون إدوارد سعيد وجوزيف مثل

وأبناء شوارع وشغيلة وطلبة جامعات وأئمة جوامع وحتى ربات بيوت. هبا يرتبط التي الرمزية املجاالت تناسب أشكاال تأخذ املسالة كانت "املهتاجون" ومجيعها ختلص إىل أن "بغداد العباسية؟ يف طريقها إىل الضياع وأن

اهلوية العربية للعراق ستتالشى أمام هجمة الشعوبيني. العراقيني املثقفني املثقفني العرب مل يكتف بذلك بل راح حيمل بل ان أحد احلر، للتفكري ويفتقدون و"طائفيني" مزيف وعي ذوي بوصفهم املسؤولية "أمة قائمة بذاهتا، مصاحلها واحدة، ومستقبلها واحد، سواء ويعدون الطائفة

كانت يف إيران أو باكستان")1).احلال أن أزمة الفهم بني عدد كبري من املثقفني العراقيني من أمثال كنعان مكية وفوزي كريم وغالبية املثقفني العرب كانت وصلت إىل طريق شبه مسدود مع جرى ما وملخص هلا عريضا عنوانا سعيد مكية خالف وكان احلرب بدء

)1) ينظر مقالة رشاد أبو شاور يف صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 13 1 2003

187 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

حسب فهم فوزي كريم أن "إدوارد سعيد حياول جاهدا أن يعالج أزمة العراق الزاوية هذه من مكية كنعان معاجلة ويتأمل األمريكية اإلمربيالية أطامع مع فيأخذه الغيظ الن األخري ال يكاد يرى إال أزمة العراقيني يف مسلخ نظام صدام أجل األخري املهجورة. ألن واملدن القرى وخرائب القتىل وإال جثث حسني عداوته إىل حني، أجل كل عداوته يف حربه القومية وحربه األممية واإلنسانية إىل

حني وتفرغ للحرب مع صدام حسني بل لالستغاثة والنجدة")1). النواب مظفر أمثال من واخلمسينيني الستينيني زمالئه من لعدد وخالفا كان لعله بل العظم حتى "كنعاين" وكأنه كريم فوزي بدا يوسف، وسعدي

واحدا من ملهمي كنعان مكية. أمل يستشهد األخري بقصيدة لألول كان كتبها قبل أن تربز ظاهرة مكية! نقصد

تلك القصيدة التي ختترص عالقة املثقف بوطنه ببالغة منقطعة النظري: كل رشاع مل يعد إليك يا خمافر احلدود

ال باحثا، سدى، عن املعنىولكن هربا من املعاين السود

فهو رشاعيشظايا بعض إىل اآلخر هو كريم فوزي يتعرض أن غريبا يكون مل لذلك احلجارة التي تناثرت يف كتابات املثقفني أثناء اجلدل حول احلرب. فالرجل مثل املهنا وعدنان حسني، وعيل عبد القشطيني وأمحد أقرانه كخالد الكثريين من

األمري وجبار ياسني". يف الوقت ذاته كان ثمة ترحيب حيي أبداه عدد كبري من املثقفني مثل فالح عبد اجلبار الذي سأل مستفتيه يف صحيفة القدس "هل أنتم بحاجة إيل أن أقول

لكم إنني أعارض احلرب، أمريكية كانت أم غري أمريكية! "خاليف مع اآلخرين أهنم ثم يعود ليعرض بالعرب وبعض العراقيني قائال يبصمون عىل احلرب إن جاءت من مستبد من أهلنا، ويرفضوهنا إن جاءت من تكون عندي لن أو غريها أن هذه احلرب أيضا، آخرين غريب! وخاليف مع

)1) أبو مطر )أمحد( سقوط دكتاتور، دراسات تقارير وثائق مطبعة االنصار االسالمية الطبعة األوىل 2003 ص 261

خريف المثقف في العراق 188

ذريعة ألمد اليد إىل املستبد، أو أبيح تقبيل يده")1). يف فأتى ترصحيا كاصد الكريم عبد قاله تلميحا اجلبار عبد فالح قاله ما االستفتاء ذاته عىل أسامء مثقفني عرب كمحمد عابد اجلابري ويوسف إدريس تلك ذكر جمرد وكان حسني صدام حروب من بمواقفها مذكرا قباين ونزار األسامء بالطريقة التي ذكرت هبا إعالنا واضحا بتأييد احلرب حتى مع وجود بال رهيبة ستكون التي للحرب رفضنا "إن هذه مثل عراقيا مأثورة عبارات شك، لن يوقفها، إال إذا أردنا أن نسجل موقفا تارخييا مل يعد شعبنا يأبه له، وهو

يعيش حربه اليومية منذ ثالثني سنة")2).احلال أن مثل هذه العبارات كانت راجت قبيل احلرب عىل ألسنة الكثري من املثقفني العراقيني وكانت تتميز عموما بمخاتلتها وإعالء هلجة الضحية العاجزة

التي مل يسمعها ولن يسمعها أحد. إبداء موقف رصيح من احلرب، مع أم ضد، بل يف بدا ذلك هتربا من وقد أحيان معينة يلجأ بعض املثقفني إىل تنظريات معقدة للهرب من إبداء موقف يشبه واألخري النصري وياسني عبد كريم مع مثال، احلال، هو كام رصيح باستعانة الطغيان من العراقي الشعب "لتخليص اإلمربيالية بـ" االستعانة

فاوست بالشيطان.بل قبليا، أو دينيا، أو قوميا روحا ليس احلديث العراقي الروح يقول"إن هو روح ثوري وعلمي وحديث، وهذا الروح يتطلب املراهنة عىل الرش أيضا الطغمة مارستها التي االهنيارات بعد نفسه جتديد يعيد كي وحده، اخلري ال احلاكمة ضده. إن طريقنا يف الوصول إيل احلداثة ال يمر عرب النوايا احلسنة فقط، فالطريق إيل اجلنة كام ينادي فاوست ميلء بالرش، لن يكون بمقدورنا االنتصار احلادي القرن معادلة هذه منه، أقوي برش نستعن مل ما بنا املحدق الرش عىل

والعرشين ومن يفهمها جيد نفسه متلبسا الروح العراقي احلديث ")3). إن الرجل مع احلرب، يف الواقع، لكنه خيشى هيجان زمالئه اليساريني شأنه الثقافية اليسار بامكنة ارهتنوا فهؤالء املنفى العراقيني يف األدباء شأن عرشات

)1) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 9 1 2003)2) ينظر صحيفة القدس اللندنية بتاريخ 6 1 2003

)3) املصدر نفسه

189 الفصل الرابع / في قلب الزلزال

منذ عقود وهم بحاجة لتلك املاكنة حتى وان مل يعودوا مؤمنني بأفكار اليسار.ولعل إبداء موقف رصيح داعم للحرب األمريكية سيفقدهم عطف تلك املاكنة

ان مل نقل جير عليهم عداوهتا. هذا النمط من املثقفني خيتلف جذريا عن النمط الذي يمثله النقيضان مكيةـ بينام نجد هناك املالمح الرؤية وحدة يف سعيد وأمثاهلام. هنا نجد وضوحا يف

غموضا يف الطرح وغيابا للمالمح. األحوال من حال بأية يشبه ال طرافته، عىل فاوست، بمثال االستعانة احللفاء الذين وقفوا مع قوات األملان املثقفني بمثال القشطيني استعانة خالد ضد بالدهم أثناء احلرب الثانية. ورغم أن اإلنموذجني يعلنان كل بطريقته أهنام النصري خماتال بطريقة بينام كان القشطيني كان واضحا جدا مع احلرب إال أن

"ثقافية" بارعة.نقرأ للنصري عبارات مثل هذه "علينا أن نستعني بالشيطان كي نغري هذا النظام واملتخلف والقبيل الساكن املعارضة خطاب ونغري لشعبه، والقاتل الفاسد العشائرية ملنطق وال اجلدد، املستعمرين ملنطق خيضع ال التغيري ولكن أيضا،

املتخلفة بل ملنطق األمم املتحدة واملتحرضة وهذا ما نطالب به ")1).أنه يقف ضد إبان احلرب القشطيني، يكتب خالد اللغة اخلطابية أمام هذه املثقف ال يعتقد أن "خائن"، بل ألنه بالده، أجل يقف ضد بالده، ليس ألنه

وطن له سوى احلق واحلقيقية. يقول"إنني كمثقف حر ال أعترب نفيس ملتزما بأي وطن. وطن املثقف احلر هو احلق واحلقيقة، حيثام تكون عليه أن يكون بجانبها.حتى لو كانت ضد وطنه")2). العاملية احلرب أثناء ففي القريب. التاريخ من أمثلة القشطيني ويرضب واملوسيقار كارت برخت املرسحي منهم األملان و"كان املثقفون الثانية وقف فايل والنجمة الغنائية مارلني ديرتيش التي كرست وقتها للطواف بني القوات

الربيطانية تكرهبم وتسليهم وتشد أزرهم ")3).

)1) املصدر نفسه)2) ينظر القشطيني )خالد( وطن املثقف الرشق األوسط الثالثاء 25 مارس 2003 العدد 8883

)3) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 190

من لنمط أنموذج جمرد هنا وهو النصري، ياسني يكتب الذي الوقت ويف املثقفبن اخلطابيني، يكتب" شخصيا أنا مع وجود قوي دولية حلفظ االستقرار الطائفية نار إذكاء وعيل الشعب تفرقة عيل عاما ثالثني طوال عاش بلد يف التي السياسية اجلديدة ال األحزاب الفئات واألحزاب قتل والعنرصية وعيل

ال تريد تغيري بنيتها الفكرية أو السياسية")1). غري برسالة القشطيني خالد يتوجه ذلك النصري يكتب الذي الوقت يف يف بالده قوات شاركت الذي بريطانيا وزراء رئيس بلري، توين إىل مسبوقه

احلرب، وفيها يطلب إبقاء القوات يف العراق وعدم االنسحاب منه برسعة: "عزيزي املسرت بلري

عىل الشكر بجزيل العراق يف واملعذبني املسحوقني مجيع باسم لكم أتقدم علينا أحسنتم لقد حسني،... صدام طائش، حاكم ظلم من لبلدنا حتريركم احلسنة تكملوا وال لنا، حكمكم باستمرار املعروف أكملوا ولكن بتحريرنا

بالسيئة ")2). البلد وترك واالنسحاب سجيتها عىل األمور ترك هنا، يقصد، القشطيني يف يد أبنائه وحياول القشطيني إقناع توين بلري برأيه" العراق خليط عجيب من املجموعات هذه من واحدة من حكمهم واملذاهب، والقوميات األجناس يزعج املجموعات األخرى ويثري املشاحنات. يفضلون يف األخري أن حيكمهم الغريب الذي ال ينتمي إىل أي جمموعة منهم. إنه بلد مل يذق الوحدة الوطنية منذ أكثر من ألف سنة ومل حيكم نفسه بنفسه أو يتوىل إدارة شؤونه منذ سقوط بغداد عىل يد هوالكو عام 1251 وحتى عام 1932 عندما أعطته بريطانيا استقالله. استمر حتت هيمنتكم وتوجهاتكم حتى 1958 وحاملا استغنى عن إرشافكم اخلارجية احلروب وأخريا األهلية واحلروب واالغتياالت املطبات يف دخل

املأساوية عىل يد صدام ")3).

)1) ينظر صحيفة القدس اللندنية بتاريخ 6 1 2003)2) ينظر صحيفة القدس اللندنية بتاريخ 6 1 2003

العدد 2003 مارس 25 الثالثاء األوسط الرشق املثقف وطن )خالد( القشطيني ينظر (3(8883

191 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

الفصل الخامس

العراق ما بعد الزلزال

المثقفون في المركب السكرانمن ذا الذي سينجو...!

مدخل فولكلوري حادثتان مروعتان ربام تلخصان تفجر الرصاع الدامي الذي استهدف رشائح السابق. احلادثتان متشاهبتان النظام بعد سقوط العراقيني املثقفني متعددة من عن وينحدر معمم أحدمها متاما، خمتلفتني أيديولوجتني إىل حييالن وبطالمها املؤسسة الدينية التقليدية رغم مترده عىل بعض مقوالهتا بينام اآلخر ينحدر عن

أيديولوجية يسارية رغم مترده، هو اآلخر، عىل بعض مرتكزاهتا. وإليكم ما كتبه عدنان حسني بعد ستة أيام من مقتل عبد املجيد اخلوئي، أول

بطيل مدخلنا الفولكلوري هذا "إىل قتلة عبد املجيد اخلوئي..

مل تكونوا جمرد غوغاء فالبد إنكم ارتكبتم فعلتكم اآلثمة بوعي وعزم وعن بجثته ومثلتم ضحيتكم أوصال قطعتم أنكم والدليل وترصد تصميم سابق معتادة يف أية مراسم دفنها من دون يتم أن الشارع وفرضتم وسحلتموها يف

التشييع والعزاء بالضبط كام كان يفعل صدام حسني مع ضحاياه")1).

)1) ينظر صحيفة »الرشق األوسط« اللندنية العدد 8905 املوافق 16 ابريل 2003 13 صفر 1424

خريف المثقف في العراق 192

نقلت التي األوسط الرشق صحيفة نرشهتا مقالة ختام يف جاءت العبارة احلادثة الفظيعة بوساطة معد فياض، الصحفي الذي نجا بإعجوبة من املجرزة

وكان راح ضحيتها حيدر الرفيعي"الكليدار" وعبد املجيد اخلوئي. كانت اجلريمة رهيبة وقد بدت، حقيقة، نذير شؤم تذكر بعرشات احلوادث أو شخص تعليق أو بسحل ينتهي بدائي هيجان العراق: تاريخ يف الشبيهة حسني حتى أو، السعيد نوري أو اإلله عبد الويص مع جرى كام أشخاص

كامل وغريه. كانت املشاهد تقليدية يف دمويتها لكن اجلديد، اآلن، أهنا ترتكب يف أقدس األماكن الشيعية، صحن اإلمام عيل، وتودي بحياة ابن أكرب مراجع الدين يف

تاريخ النجف، عبد املجيد ابن أيب القاسم اخلوئي. بطل مدخلنا اآلخر قتل بعد تلك احلادثة بخمس سنوات تقريبا ولكن بطريقة

أخرى تناسب طرائق االغتيال التي ستشيع يف العراق ابتداء من عام 2005. فبعد أن يغادر كامل شياع، املستشار يف وزارة الثقافة مكتبه متوجها إىل مكان سكنه، يكمن له عدد من املسلحني عند جرس حممد القاسم "الرسيع" ويمطرونه مثل غامضة االغتيال عملية كانت اجلميع. أنظار أمام الرصاص من بوابل

مئات العمليات األخرى. بعد تلك احلادثة بأيام يكتب سعدي يوسف كلمة بعنوان"القتل مرتني" وفيها يقول أنه نصح كامل شياع، يف آخر زياراته إىل لندن، بعدم العودة إىل "املستعمرة "ماذا كان يفعل يف"بغداد اجلديدة"؟ أكان يكتب افتتاحياتم صحيفة، "متسائال ها؟ أكان يكتب خطابات ال معنى هلا، ألناس ال مرجتــعــها أكثر من مطبوعممعنى هلم؟ أكان حياول أن يرمم صورة شائنة عصية عىل الرتميم، صورة العراقم

املستعبدم املحتل! ")1). كان توقيت أسئلة سعدي يوسف يف غري حملها ويف غري وقتها بالتأكيد، فمقتل كامل شياع، عام 2008، كان شبيها بمقتل عبد املجيد اخلوئي عام 2003 جلهة الثقايف والوسط النجفي املجتمع من املشهد يف كل أركان هزتا العمليتني أن

وخلخلتاه من األعامق.

)1) ينظر موقع »احلوار املتمدن« العدد 2387 بتاريخ 28/ 8/ 2008

193 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

كامل شياع والكثريون يعتقدون أن الرجلني مل يكونا خائنني حتى وإن حرشمظاملا مع اخلونة والعمالء واللصوص يف وزارة بول بريمر األوىل "كام "حرشا

يرى سعدي. فوىض ضحية وراحا والكلامت بالرصاص قتال قد االثنان كان هذا مع تقليدي مثل كامل شياع إىل رجل فيها مثقف شيوعي يتحول عارمة، فوىض "بعثي". ولنستمع ينتسب إىل أعرق مؤسسة شيعية إىل "خائن" ورجل معمم يف هناية املدخل التقليدي هلذه العبارات الرهيبة التي ينقلها أحد شهود العيان املجيد عبد السيد يطعن املجاهدين أحد اخلوئي:" كان املجيد عبد حادثة يف بمفك براغي )درنفيس( حيث مل يسعفه الوقت للحصول عىل خنجر أو سكني أشفي غلييل فأجابه دعني قد مات، يتوقف ألنه أن الواقفني أحد حني سأله من البعثيني اخلونة، فسأله هذا الشخص هل تعلم من هذا الذي مزق جسده، فأجابه" كال، أكيد إنه أحد البعثيني"، فأجابه أنت واهم، هذا السيد عبد املجيد يده وأخذ يرصخ" الدرنفيس من املجاهد ورمى فارجتف السيد اخلوئي، إبن

ملاذا أخربونا بأهنم خونة!" )1)

الجميع »خونة »... كام هو شأن أغلب املثقفني الذين قتلوا بعد عام 2003، كانت التهم املوجهة اهلائج يف أفهم اجلمهور العيان، قاله شهود ما إذ حسب اخلوئي مزدوجة إىل النجف أن عبد املجيد اخلوئي ورفاقه كانوا من فلول"البعثيني" وهم حني قتلوه

كانوا عىل يقني من هذه الفكرة. يف الوقت ذاته، قال مقتدى الصدر، يف لقاء معه بعد الواقعة، أن مقتل اخلوئي

جاء عىل خلفية دخوله مع قوات االحتالل)2). األمريكان مع الدين"املتعاون" لرجل أنموذجا مثل اخلوئي أن األحرى والربيطانيني وكان هييأ للعب دور سيايس ما يف عراق ما بعد صدام. فهو كان واحدا من أبرز الفاعلني يف مؤمتر لندن الذي سبق احلرب، وكان أسس، يف تلك

)1) ينظر جريدة )الوطن( الكويتية اجلمعة 2003/1/10)2) ينظر »اجلزيرة نت« بتاريخ اخلميس 10 إبريل 2003 - 8 صفر 1424

خريف المثقف في العراق 194

األيام، ما يعرف بـ"املجلس الشيعي العراقي". "قم" مدينة إىل احلرب، نشوب قبيل ذهب، أنه األيام تلك أخبار وتفيد بالواليات االستعانة طريق عن حسني صدام نظام إسقاط ملرشوع للرتويج مرجعية أتباع من اجلالية أبناء من كبري عدد برفض جوبه وهناك املتحدة "يعيش الصدر.. وارجع إىل حممد حممد صادق الصدر الذين رصخوا بوجهه

أمريكا")1). األموال بمحاكمته"ومساءلته عن كانوا طالبوا تظاهروا ضده الذين أن بل التي سيطر عليها وهي تعود أساسا للمرجعية الدينية حقوق رشعية قالوا أنه استوىل عليها باخلديعة بعد وفاة والده املرجع الشيعي األعىل اإلمام أبو القاسم

اخلوئي")2). املجيد عبد ربطت التي العالقة درجة عن النظر بغض أنه األمر حقيقة عموما، فهم، أنه إال إيران يف املوجودة املعارضة التقليدية بالتيارات اخلوئي بوصفه أحد الداعني إىل التعاون مع اجلهود األمريكية الربيطانية إلسقاط نظام "نيوزويك" أن لدرجة األمريكان مع ختفى ال اتصاالت له وكانت صدام. العربية تنقل يف أحد تقاريرها أن "وكالة املخابرات املركزية قامت قبيل نشوب للسيطرة التي ستبذل اجلهود يساعد يف أن باخلوئي ورجته باالتصال احلرب عىل النجف وكذلك إلقامة صلة وصل بني املرجعيات الدينية واالئتالف. وقد

تقبل الرجل هذا الرجاء)3). البحرية ملشاة تابعة سمتية طائرة قامت نيسان من الثالث "يف أنه وتضيف وبدأ مهجور بيت يف أقام وهناك النجف إىل ومجاعته هو بنقله األمريكية العظمى عيل اهلل آية التقليدية ومنها النجف الزيارات ملرجعيات بسلسلة من

السيستاين")4).

)1) ينظر جريدة )الوطن( الكويتية اجلمعة 2003/1/10)2) نفس املصدر

)3) ينظر عالوي )عيل عبد األمري(، »احتالل العراق، ربح احلرب وخسارة السالم »املؤسسة العربية للدراسات والنرش بريوت 2007 ص 134 و135 وينقل عيل عبد األمري عالوي

هذه املعلومات عن جملة »نيوزويك« األمريكية عدد 19 ايار 2004)4) نفس املصدر ص135

195 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

بالعودة إىل التهم الثالث التي تداوهلا النجفيون لتربير عملية قتل عبد املجيد اخلوئي يمكن القول،عموما، أن احلادثة خلصت، بطريقة مثالية، مالمح املرحلة

التي ستسم حقبة ما بعد صدام. التهمة األوىل: أنه بعثي، وهذا يعني أن البعثيني سيكونون هدفا لـ"اجتثاث" جسدي وفكري. التهمة الثانية: أنه جاء عىل ظهر الدبابة األمريكية وهذا يعني

أن "العمالء" من أمثاله سيكونون عرضة للقتل يف كل حلظة. أما التهمة الثالثة فهي: أنه ضد مرجعية حممد الصدر وهذا يعني إدامة الرصاع

القديم، رصاع املرجعية الناطقة ضد املرجعية الصامتة. ثالث إىل العراقيون املثقفون سيصنف املعقدة، احلرب هذه آليات حسب للتغيري. وهم املناهضني تعبريات املثقفون"اخلونة" حسب أوال: فهناك فئات ثانيا: النظام بوصفهم سلطة جديدة. وهناك العائدون إىل العراق بعد سقوط الدولة حتى سقوط يملئون مؤسسات كانوا الذين املثقفون"البعثيون". وهم

النظام السابق. وثمة، يف األخري، املثقفون املستقلون املهنيون وهم الذين عملوا يف املؤسسات الثقافية واإلعالمية بوصفهم حمرتيف إعالم وكان عاد أغلبهم بشكل فردي بعيدا

عن األحزاب العائدة إىل املشهد العراقي. املفارقة التي يتوجب الوقوف عندها رسيعا أن مجيع هذه الفئات بدت عرضة

للقتل، اجلسدي أحيانا والرمزي غالبا، ومن أطراف خمتلفة ولدوافع متعددة. وقبل أن نأيت إىل الفئات التي مثلها مثقفو ما بعد صدام لنتوقف عند مفهوم "القتل الرمزي" الذي سيلعب دورا مركزيا يف اخلطاب اإلعالمي والثقايف يف

العراق وخارجه. ترى ما املقصود هبذا املفهوم!

بعيدا عن التنظريات الفكرية التي يمكن أن تشتت أذهاننا وحترف موضوعنا إىل وجهة أخرى، نقول أن املقصود بـ" القتل الرمزي "هو اخلطاب الثقايف الذي بعد صدام وأبرز خصائصه هو هتييج اجلامعات والتحريض ما ساد يف عراق

عىل كراهية اآلخر واحتقاره وقتله. أو"البعثية" "أو"الكفر" أو"العاملة بدعاوى"اخليانة" غالبا ذلك ويأيت خترج عقائدي أو فكري طابع ذات هتمة أي أو أو"اإلحلاد" أو"اإلرهاب"

خريف المثقف في العراق 196

مرتكبها من دائرة امللة أو اجلامعة الوطنية أو السياسية أو القومية وجتعله "خائنا" يتسم بالتفاهة والدونية.

و"القتل الرمزي" املقصود ربام خيتلف عن "العنف الرمزي" الذي يعود إىل عامل االجتامع بيري بورديو. فالعنف عند األخري يربز كنتيجة لـ"حتوير عالقات السيطرة والرضوخ إىل عالقات عاطفية: حتويل السلطة إىل كريزما أو إىل فتنة يف

وسعها بعث جذل عاطفي ". إىل فرض رضوب من اخلضوع نزوع أكثر من ليس الرمزي العنف ان أي والطاعة عىل مجاعة ما بطريقة متتح من نظرية اإليامن أو إنتاج اإليامن لدرجة أن املنضوين حتت سلطة ذلك العنف الرمزي يستجيبون له كام يستجيبون للعقائد

الدينية فهو عنف مفروغ منه وبدهيي. خالل من املوضوعية "البنى يف بورديو حسب الرمزي العنف ويتجسد خالل من الذاتية العقليةـ البنى ويف املهيمنني سلطة حتفظ التي القوانني

مقوالت اإلدراك والتقدير التي تعرتف باهليمنة أو القوانني املفروضة ")1).اآلخر عن قتل فكرة ترسيخ فيعني نقصده الذي الرمزي القتل مفهوم أما طريق اإلشارة سواء كانت لغوية أم غري لغوية كأن يعمد شخص ما إىل تقطيع أوصال دمية متثل شخصا حقيقيا أو إحراق علم يمثل دولة ما أو أيديولوجيا

خمصوصة. وباستطاعتنا الزعم أن االختالف بني العنف الرمزي والقتل الرمزي يكمن بالرضورة يف حني يعمل بإلغاء اآلخر جسديا ينتهي يف أن األول منهام قد ال

اآلخر عىل إنجار هذه املهمة حرصا سواء رمزيا ام فعليا. أشاريا الرمزي" "القتل عملية مورست مثال، حسني، صدام حماكمة يف عىل حماكمته جلسات أوىل خالل دأب حني نفسه، املخلوع الرئيس قبل من لتأدية مدلوالهتا تتضافر إشارية رسائل إيصال حتاول معينة وضعيات اختاذ

معنى"القتل الرمزي" ألعضاء املحكمة. نار رمزي عىل القايض هبيئة تشبه إطالق من ذلك توجيه أصابع يديه نحو

القايض. وكذا استخدامه القلم الذي بدا مثل سيف.

)1) ينظر أوكان )عمر( مدخل لدراسة النص والسلطة أفريقيا الرشق 1991 ص 24 و26

197 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

احلال أن املفهوم جتسد يف عراق ما بعد صدام عىل أوسع نطاق وكانت دائرة املقصودين به تتسع لتشمل رشائح متعددة مثل رشحية املثقفني الذين تعاونوا من "االحتالل" وعملوا يف مؤسساته، ورشحية الكتاب واملثقفني البعثيني ورشحية

الليرباليني والعلامنيني الذين فهموا عىل أهنم "ملحدون" أو"كفرة". فضال عن رشحية املنتمني إىل الطوائف والقوميات املكونة للمجتمع العراقي: الشيعة يقتلون السنة رمزيا والعرب يقتلون األكراد بطريقة أخرى، املسلمون التي املزدوجات هذه آخر وإىل الرتكامن يقتلون واألكراد املسيحيني يقتلون

تشري إىل فوىض "القتل الرمزي" السائدة. ما تستثمر ما الرمزي" كثرية وهي غالبا "القتل فكرة آليات جتسد أن املهم تتيحه السياقات املتوفرة. فالشيعة، مثال، استثمروا املنرب احلسيني كشكل متاح اجلمعة صالة السنة استثمر حني يف رمزيا السنة قتل عىل للتحريض أمامهم

ملامرسة "قتل رمزي" مضاد مادته مئات األحاديث النبوية املوروثة.مجيع"القتلة يشمل بالتأكيد، واألمر، عينة سوى يكن مل االستثامر هذا الرمزيني" الذين نشطوا يف العراق بام فيهم املثقفون من أدباء ومفكرين وشعراء

وقصاصني وفنانني. لقد جاهد هؤالء مجيعا يف التحريض ضد بعضهم اآلخر من خالل أشكال التي املقاالت والدراسات والبيانات اجلامعية املتاحة أمامهم. وأبرزها الثقافة انطلقت من طرف ضد آخر وكانت النتيجة هو حتول العراق إىل ميدان "قتل"

بدائي غري مسبوق يف تاريخ البلد.

المستقلون: أحالم وكوابيساملقصود باملثقفني املستقلني هم رشحية عريضة تتكون من مثقفني كانوا داخل يعملون كانوا التي مؤسساهتم مع أو فرادى إما إليه عادوا وآخرين العراق

معها. لدينا، هبذا الصدد، خليط من إعالميني وأدباء قدموا من منايف خمتلفة، إيران،

سوريا، اإلمارات، األردن، أوروبا، الواليات املتحدة.. إلخ. زهري أمثال من السبعينيات هناية منذ العراق من هاجر كان بعضهم اجلبار عبد مشتت، رعد امحد، إبراهيم املهنا، أمحد كريم، فخري اجلزائري،

خريف المثقف في العراق 198

من الثانية اخلليج حرب بعد العراق ترك من ومنهم احللفي. مجعة الرفاعي، أمثال رسمد الطائي وعامد اخلفاجي وأمحد عبد احلسني وحسني عالوي وجماهد أبو اهليل وصادق االزرقي. ومنهم من غادر العراق يف التسعينيات من أمثال داليا العقيدي وابراهيم الساعدي وسعدون حمسن ضمد وعيل خصباك ورعد

كريم عزيز واملؤلف وغريهم. عن بابتعادهم العراق، داخل املوجودين زمالئهم مع هؤالء، عرف ولئن األحزاب، بالنسبة ملثقفي املنفى، وعن الدولة بالنسبة ملثقفي الداخل، يف مرحلة

ما قبل هناية نظام صدام حسني وما بعدها. إال أن عالقات األولني، مثقفي املنفى، مع تلك األحزاب مل تنقطع متاما وكان اإليديولوجي املشهد صلب إىل الحقا بعضهم وثوب مالحظة للمرء يمكن احلمود نارص طاهر مع مثال، جرى، كام املهمة املناصب من عددا وتسنمهم شخيص بشكل عاد كان إنه رغم الثقافة لوزارة وكيال بعد ما يف عني الذي وبعيدا عن كوادر حزبه القديم، حزب الدعوة تنظيم العراق. شأنه، يف ذلك، شأن عيل املوسوي الذي استدعاه نوري املالكي ليسلمه إدارة "املركز الوطني لإلعالم" رغم أنه عاد، هو اآلخر، من خارج العراق بعيد سقوط النظام السابق بوصفه صحفيا حمرتفا وكان عمل لسنوات مديرا لألخبار يف قناة احلرة مكتب

بغداد. املثقفني"غري من آخر عدد مع حدث باملقلوب، ولكن ذاته، األمر الوفاق كوادر"حركة مع عاد صحفي وهو الساعدي إبراهيم املستقلني"مثل الوطني" من دمشق وعمل فرتة يف صحيفة "بغداد" قبل أن يعني مديرا لإلذاعة

العراقية ويقطع صلته بالوفاق هنائيا. عن البعيد اإلعالمي العمل إىل املستقلني أغلب انرصف النامذج هذه عدا إشكاليات املشهد السيايس. وقد أبدوا انتامء ملهنهم الصحفية وأسهموا يف دفع

اإلعالم خطوات غري مسبوقة إىل أمام. يف برزت التي املؤسسات من عدد عند هنا، التوقف، الرضوري ومن وترسيخ احلديثة الصحافة مفاهيم إشاعة وحاولت للتغيري األوىل السنوات معايريها غري املعروفة يف عراق صدام. املقصود مؤسسات مثل صحيفة" املدى" وقناة "احلرة "وقناة "الرشقية "وصحيفة "الزمان" فضال عن عرشات الصحف

199 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

الصغرية املمولة من جهات داخلية. )1)كريم فخري أن التفاصيل تفيد مثال، "املدى"، بصحيفة األمر تعلق قدر وزهري اجلزائري الشيوعيني القديمني سارعا منذ األيام األوىل إىل إقامة جرس من العالقة مع جمموعة من املثقفني الذين عرفوا بانحيازهم إىل الليربالية وقيم احلداثة يف التفكري وهم كل من حيدر سعيد ومجال العميدي وعبد الزهرة زكي وسهيل سامي نادر وأمحد سعداوي وحممد درويش وقاسم حممد عباس الذين منظومة عىل املتمرد إيران، من القادم الطائي رسمد إليهم انضم ما رسعان

التفكري الدينية التي بدأ مشواره معها بعد انتفاضة آذار عام 1991. وما هي إال أيام حتى اتفق فخري كريم وزهري اجلزائري مع هؤالء املثقفني املتوقع إىل الصحيفة "املدى" التي ستتحول بشكل أرسع من إلصدار جريدة

األكثر قراءة يف عراق ما بعد صدام بسبب طابعها الليربايل.الكونغرس من املمولة األمريكية "احلرة" لقناة التابعة عراق احلرة قناة أما والطاحمة إىل إشاعة قيم الليربالية يف العامل العريب فأسست بعد أشهر من تأسيس صحيفة "املدى" وأنيطت إدارهتا إىل أمحد املهنا، اإلعالمي والكاتب الذي عمل بضعة يقيض أن العريب" قبل األوسط" و"القدس "الرشق صحيفة يف طويال سنوات يف قناة "أبو ظبي" وكان معه يف القناة زميله رعد مشتت املقيم يف لندن،

واملعروف كواحد من أبرز املخرجني التلفزيونيني يف العامل العريب. لقد أدار أمحد املهنا هذه القناة بنجاح واستطاع خالل مدة يسرية استقطاب عدد ال بأس به من أبرز األسامء الثقافية العراقية القادمة من املنفى واملوجودة يف البلد عىل حد سواء فكان أن انضم إىل "احلرة "كل من عامد اخلفاجي ورسمد وفالح عباس محزة ولؤي واملؤلف خلخال وشكر العقيدي وداليا الطائي ميسم مثل نشيطات وصحفيات الساعدي، وعارف حسن وقيس الذهبي

سعدي وشيامء املياحي. املثقف احلر املستقل الفريق وليامرس دور الحقا سينظم أمحد سعداوي إىل سيناريو، كاتب بوصفه املؤسسات من عدد يف واحد وقت يف وليعمل يف"احلرة"، ومراسل صحفي، يف البي يب يس، وكاتب حتقيقات يف مالذه األول،

)1) ينظر عالوي )عيل عبد األمري( مصدر سابق ص 128

خريف المثقف في العراق 200

جريدة "املدى". عىل ،" "الزمان صحيفة شأن شأهنا "فاعتمدت، "الرشقية قناة إما املنهارة املؤسسات"الرسمية" يف بعملهم عرفوا العراق داخل من صحفيني العراقي التلفزيون برامج مقدمي إىل "إضافة كصحيفة"اجلمهورية" و"الثورة السامرائي وجميد نجيب وهناد متي شمعون أمثال من العراقية والفضائية وشيامء عامد زبري إضافة إىل أمحد عبد املجيد الذي أدار مكتب الزمان يف بغداد

منذ األيام األوىل للتغيري. من الرضوري اإلشارة، هبذا الصدد، إىل أن صاحب املؤسسة، سعد البزاز، مع أصدر أن بعد النظام إسقاط من أيام بعيد العراق إىل بالعودة كان سارع عدد من كتاب صحيفته املقيمني يف عامن "ميثاق رشف مهني". وكان من بني السوداين وهاشم حسن واملؤلف الستار نارص وعيل امليثاق عبد املوقعني عىل

وحاتم عبد اهلادي وحسن النواب وناظم عودة وحسن ناظم وغريهم. )1) فإن انتشارا اجلرائد أوسع عدت التي "الزمان" بصحيفة األمر تعلق قدر املبالغ به عىل البالد أخذوا عليها اعتامدها العراقيني داخل املثقفني الكثري من عدي مؤسسات يف يعملون النظام سقوط حتى كانوا "بعثيني" صحفيني

صدام. وكان مثل هذا األمر"ال يغتفر" حسب مزاج تلك األيام. إن االنطباع الذي ساد بشكل فوري مل يكن ليعدوا ذلك: سعد البزاز "بعثي" وهو ال ينطق باسم النظام الذي اهنار للتو حسب، إنام يعارض العملية السياسية

دون هوادة ويدعو إىل" املقاومة "يف جريدته وقناته الفضائية. لذلك وقدر تعلق األمر هبذه املؤسسة، مؤسسة "الزمان"، يبدو من الصعب

عدها ضمن املنابر املستقلة كام هو األمر مع "املدى" و"احلرة". بالتعددية يؤمن ليربايل خطاب ترسيخ جهود اجلهود، تلك فإن هذا مع واالعرتاف بحق اآلخر يف االختالف، ستجابه برسعة وسيكون عىل العاملني يف تلك املؤسسات التعاطي مع فئات متنوعة من األعداء أبرزها فئة املتشددين

من أتباع التيارات الدينية املتطرفة، سنة وشيعة. فاألخريون أرادوا بناء منظومة قرس ذات بعد عقائدي تشمل املجتمع كله،

)1) ينظر صحيفة »الزمان« اللندنية العدد 1478 تاريخ 14 4 2003

201 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

وكان املثقفون األحرار أول األعداء الذين ينبغي إسكاهتم أو حتى قتلهم. لذلك كان من املتوقع متاما حدوث خصام، ومن ثم، صدام بني الفئتني.

"اخلطوط بعض ظهور قبيل من رمزيا شكال البدء يف الرصاع أخذ ولئن احلمر" ذات الطابع الديني من قبيل منع الغناء والرقص وكل ما حييل إىل احلياة املدنية إال أن األمر رسعان ما حتول إىل رصاع فعيل شبيه بذلك الذي عادة ما الكالسيكية، الدولة بمؤسسات املرتبطة التقليدية القهر قوى فيه تستخدم

رشطة وجيش. الدولة مظاهر معها غابت اضطراب بفرتة يمر كان العراق أن وبام لكن، لألحزاب التابعة واملليشيات املسلحة املجاميع تكفلت فقد التقليدية، واحلركات الدينية هبذه املهمة. وكان أن رشعت تلك املليشيات فعليا يف تقنني

أنظمتها القرسية بشتى الوسائل. قدر تعلق األمر بفكرة "القتل الرمزي"، يمكن القول أن مراحل التحول من جمرد كوهنا فكرة تتجسد بالرمز إىل فعالية مادية ما كانت لتستغرق وقتا طويال. كان األمر جيري، عادة، وفق املخطط التايل: يبدأ "قتلة "ما فعلهم بشكل رمزي

ثم رسعان ما يستكمل "قتلة" فعليون دورة املحو ماديا. لن يعدم املرء العثور عىل أمثلة حتى وان مل تنطبق عىل مأزق املثقفني املستقلني

ذلك أن دورة "القتل الرمزي" بدت شاملة وكلية احلركة.ففي مثال، ،2004 عام بعد بغداد يف استعرت التي الطائفية احلرب لدينا األيام ذاهتا التي شهدت أوىل جلسات حماكمة صدام حدث أن قامت جماميع من الشيعة بتحطيم التمثال الرأيس للخليفة العبايس أيب جعفر املنصور املنتصب يف

منطقة املنصور. كانت اإلشارة واضحة وهي تعلن، ببالغة، انتهاء حقبة السيادة "السنية" يف بغداد وابتداء حقبة "شيعية ". متثال املنصور مل يكن سوى رمز يف ذلك الرصاع وقد فهم حتطيمه، من الطرفني، كنوع من أنواع "القتل الرمزي" الشبيه بحدث

إزالة نصب "مسرية حزب البعث "املنتصب يف منطقة العالوي. املناسبة الرمزية األشكال إجياد "والعقائديني "الطائفيني عىل سهل ولئن التمسوا أنفسهم العقائديني فإن هؤالء البعض بعضهم ضد إلعالن حروب املثقفني األحرار من املوجهة إىل الرمزي القتل وسائل أخرى إلعالن مرحلة

خريف المثقف في العراق 202

أولئك املؤمنني بالثقافة املنفصلة عن منظومة العقائد ذات الطابع القرسي. وكام هو متوقع كانت الوسائل رمزية أيضا: تعليق الفتات هتديدية يف أماكن التقليدية يف بغداد مثل كورنيش األعظمية، كتابة عبارات عىل اجلدران اللهو

مثل: "سنطلق النار عىل العشاق" أو "ممنوع رشب اخلمور يف هذا املكان". وانحدارات األماكن بتنوع تتنوع الالفتات هذه عىل التوقيعات وكانت

اجلهات الدينية املتنفذة فيها. كان ثمة، ولنبق يف نطاق الرمز، مظاهر أخرى تؤدي الرسالة املرعبة نفسها األماكن بعض وظائف وحتويل السكنية واملناطق الشوارع أسامء تغيري مثل التسجيالت أو حمال مثال اىل حسينيات التي حتولت البعث كمنظامت حزب التي حتولت إىل مكاتب لبيع أقراص الغناء املرتبطة تقليديا بتعاطي كاسيتات

مدجمة للطميات وخطب دينية. يف مرحلة تالية بدأ الرمز يفرض بقوة السالح فتم تفجري عدد من حمالت بيع املناطق، نادرة، قتل حالقون يف عدد من اخلمور والتسجيالت. ويف حوادث عىل وضيق الشخصية السيارات أصحاب من الغناء كاسيتات وصودرت

املتربجات يف املناطق الشعبية من أجل إرغامهن عىل ارتداء احلجاب. من خشية األنظار عن التواري األحرار املثقفني عىل كان األيام، تلك يف رصاع مكشوف خيرسون فيه حيواهتم. ويف األخري، وجد هؤالء املثقفون أن ال جمال أمامهم سوى اهلرب إىل خارج البالد للنجاة من دائرة القتل الفعيل التي بدأت تتسع يوما بعد يوم. خصوصا بعد تعقد الرصاعات يف البالد وحتوهلا إىل

ملمح أسايس من مالحمها. الفتور بدأ الطائفي، العنف تفجر عام ،2005 عام من وابتداء لذا، الفاعلة املؤسسات خصوصا املستقل العراقي اإلعالم رشايني يف يدب او هجرة هي املرحلة، هذه يف البارزة، الظاهرة وكانت كـ"املدى"و"احلرة". واإلمارات ومرص واألردن سوريا إىل املستقلني املثقفني "هرب" مئات لنقل

خشية عىل حياهتم التي بدأت تطاهلا التهديدات. اخلالصة أن فكرة "القتل الرمزي" التي سادت يف الثقافتني، العاملة والشعبية، داخل العراق وخارجه، انتهت إىل النتيجة املتوقعة: انتصار إسرتاتيجية "القتل أغلب هروب ثم ومن وسنة، شيعة األساسيني، فاعليها وتسيد الرمزي"

203 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

واآلداب والفكر الصحافة يف زمالئهم من العرشات قتل بعد املستقلني األكاديميني واألساتذة الدولة موظفي من الوسطى الرشحية ومن والفنون

واألطباء واملحامني وغريهم. الرواي النعاس وعصام الرزاق قتل عبد مثال، املعلنة، يف ظل هذه احلرب الرمضاين ومازن عجام االمري عبد وقاسم السوداين ومطرش هبجت وأطوار مسلم مطرش ورعد ادم، وأمحد جمذاب وداي وفليح خزعل احلسني وعبد

ومؤيد سامي وكامل شياع والعرشات وغريهم. لألسف، كان اهلرب من الكابوس هو احلل األمثل ملئات املستقلني من مثقفي العراق، أولئك الذين بدأت مسريهتم مع عراق بعد عام 2003 بأحالم عريضة

لكنها انتهت بكابوس ال يصدق.

المثقفون »الخونة«يأيت من هنا ال وإثباته بالتأكيد، املثقفني"اخلونة" ليس من عندنا، اصطالح الثقافة يف شاعت نظر بوجهات ارتبط رشعي كمصطلح به االعرتاف باب

العربية والعراقية التي ناهضت احتالل العراق وإسقاط نظامه. الذي دخل يف التيار امتدادا طبيعيا لذلك مثلوا املثقفني األحرى أن هؤالء السابق، النظام سقوط قبل التقليديني األيديولوجيني ضد حاسمة معركة

نقصد القومية واليسارية، وكانت معركة مكية - سعيد أبرز جتسيد رمزي له. وبغض النظر عن أي شئ فإنه ليس ثمة حدودا مميزة أو دقيقة لتعريف هؤالء املثقفني لكنهم عموما شكلوا اجلسم األسايس يف عراق ما بعد صدام. وأبرز خصيصتني يمكن تـأشريمها هنا هو أن أغلبهم، إن مل نقل مجيعهم، جاءوا من

املنايف، من أوربا، أمريكا، إيران، سوريا، األردن، الكويت... والخ. )1)املؤسسات يف للعمل االحتالل سلطة مع مربمة بعقود إما جاءوا وإهنم العراقية أو مع أحزاهبم التي دخلت العراق واستلمت السلطة بشكل أو بآخر. ورغم صعوبة الفصل بني هؤالء وأولئك، نعني ما عرف بمثقفي"األورها"

الفصل األمري( مصدر سابق ينظر عالوي )عيل عبد بالتفصيل املحور )1) لالطالع عىل هذا السادس من ص 169 ص 188

خريف المثقف في العراق 204

من انطالقا بيرس بعض عن الفئتني متييز يمكن أنه إال األحزاب، ومثقفي التفاصيل التي غدت اليوم معروفة وموثقة ملن يريد أرشفة األحداث الرسيعة

التي جرت آنذاك. أحزاهبم، وهي قدموا مع الذين املثقفني البدء، جمموعة كبرية من لدينا، يف أحزاب معدودة: احلزب الشيوعي العراقي، حزب الدعوة بفصائله، املجلس

األعىل، الوفاق الوطني، املؤمتر الوطني، األحزاب الكوردية. إثبات سوى ورائه من طائل ال إحصاء جمرد إىل األمر يتحول ال ولكي أمثال كامل القول، هنا، أن مثقفي األحزاب من ينبغي األحداث كام جرت، الشاوي وبرهان املوسوي ومدين األمري عبد وعيل اجلزائري ومفيد شياع بديال بوصفهم برزوا ما رسعان وغريهم راوندوزي وفرياد األمني وكفاح ملثقفي البعث فكان أن تسلموا مناصب رفيعة بعد تشكيل جملس احلكم فأصبح مفيد اجلزائري وزيرا للثقافة ومدين املوسوي وكيال له يف حني تسلم عدد من

املثقفني مناصب أخرى يف هذه املؤسسة أو تلك.ولئن مثل هؤالء نسبة ضئيلة، نوعا ما، يف جسد املشهد الثقايف العراقي املتسع رسيعا العراقية الثقافة تسم بدأت اآليديولوجية بصامهتم فإن يوم بعد يوما أو املحاصصة مبدأ من انطالقا الكربى اإلدارية املناصب احتكارهم بسبب التوافق الذي بنيت عليه إدارة الدولة بشكل عام. وكانت الثقافة جزءا من ذلك

التقاسم. كثريا خمتلفة كانت العراق إىل العائدون املثقفون مثلها التي الثانية الفئة واشنطن يف وضعت حيث بأشهر العراق غزو قبل ما إىل تعود والتفاصيل خطط مللء فراغ ما بعد سلطة صدام وأنيطت هذه املهمة إىل ابرام شولسكي من

وحدة اخلطط اخلاصة يف وزارة الدفاع. لقد شكل شولسكي ما أطلق عليه "املجلس العراقي للتنمية واإلعامر" وهو ما عرف اختصارا بـ "أورها". وكانت مهمة هذا املجلس إعادة عجلة الدولة

العراقية املنهارة وتشغيلها من جديد. يف هذا املفصل، يربز اسم مهندس أمريكي من أصل عراقي يدعى عامد ضياء املتحدة الواليات يف املقيمني من 150عراقيا مع وتعاقد املجلس ترأس كان عراقية حكومة لتشكيل األجواء وهتيئة االئتالف قوات مع للعمل وأوربا

205 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

مؤقتة. وتنقل التقارير الصحفية يف تلك األيام أن عامد ضياء قدم إىل الكويت قبل "أورها" وكان الغزو بشهرين لتجنيد األخصائيني يف اخلارج كجزء من خطة بينهم عدد كبري من املثقفني العراقيني من أمثال عصام اخلفاجي واسامعيل زاير

وصادق الصائغ وحسني اهلنداوي وعامد اخلفاجي وغريهم. )1)إن مسألة استقاللية أولئك املثقفني عن األحزاب العراقية املختلفة، خصوصا أن تفيد أقاويل وهناك للنقاش عرضة ظلت املتحدة، الواليات مع املتعاونة أو "أورها" بطريقة "يف "مثقفيها زرع يف نجحت والتيارات األحزاب بعض الذين وظفوا كانوا قريبني من الكثريون أن أغلب بأخرى يف حني يكاد جيزم مراكز القرار "العراقي" يف واشنطن من أمثال امحد اجللبي وكنعان مكية وغسان

العطية. اختلف الحقا مع احلكومة الذي العلوي أمثال حسن أن مثقفني من املهم وحسني املاشطة وجالل الشبوط اجلبار عبد وحممد زاير واسامعيل العراقية درويش العاديل وصادق الصائغ وعبد احلسني اهلنداوي وعبد احلليم الرهيمي ومحيد الكفائي وصادق املوسوي كانوا نشطوا برسعة وتسلم بعضهم مناصب رفيعة يف الدولة العراقية فأدار إسامعيل زاير، مثال، صحيفة "الصباح"، وعمل اهلنداوي، يف ترأس حسني الثقافة يف حني الصائغ مستشارا يف وزارة صادق يف األمناء هيئة الرهيمي احلليم عبد وترأس االنتخابات، مفوضية ما، فرتة شبكة اإلعالم العراقية قبل أن يستلم جالل املاشطة إدارة شبكة اإلعالم نفسها.

كعصام األمريكان مع املثقفني هؤالء بعض اختالف عن النظر وبغض اخلفاجي الذي استقال من "أورها" وحسن العلوي الذي اختلف مع احلكومة العراقية بعد فرتة وجيزة من عودته إىل العراق إال أن األغلبية منهم سارت وفق

ما هو مرسوم هلا. وثمة شئ طريف ينبغي التوقف عنده، هبذا الصدد، فأغلب هؤالء املثقفني القديمة بطريقة فأبدلوا مواقفهم التغيري وحاجة األمريكان هلم انتهزوا فرصة تذكر بأسالفهم من مثقفي العراق يف أوىل سنوات االحتالل الربيطاين من أمثال

)1) املصدر نفسه ص 169 188

خريف المثقف في العراق 206

أنستاس واألب الدجييل وكاظم الرصايف ومعروف الزهاوي صدقي مجيل الكرميل.

"العرب" باسم جريدة الربيطانيون أسس أن حدث األعوام تلك ففي املثقفني فكان أن أظهر عدد كبري من األدباء تبدال أمام أقالم أبواهبا ورشعوا تقول فكتبت نفسها بيل املس استغراب أثار الربيطانيني جتاه املواقف يف اإلنكليز وهم اآلن العنيفة ضد املقاالت يكتبون األتراك "كانوا يف عهد أهنم يكتبون املقاالت العنيفة ضد األتراك"، وهي ال جتد تفسريا مقنعا لذلك اذ يبدو أن"الكلامت عند الرشقيني هي جمرد ألفاظ ال تعني شيئا فقد يقولون اليوم شيئا

وينقضونه غدا".)1) حقيقة األمر أن الظاهرة التي أدهشت املس بيل تكررت بحذافريها بالنسبة ففي اهلنداوي وحسني الصائغ صادق أمثال من "األورها" مثقفي لبعض باألجندة املرتبطة املعارضة التيارات انتعشت التي الفرتة عام 2000، أي يف األمريكية، يكتب صادق الصائغ: "يف رأيي فإن مثل هذه الزمر ال متثل املعارضة العراقية احلقيقية فهي زمر طفيلية مستفيدة وتعتاش عىل استمرار نظام صدام وإطالة وتعقيد األزمة العراقية وواضح أن وجود هذه املعارضة مفيد ورضورة للنظام فهو يساعده يف االستمرار يف احلكم بقدر ما هو رضوري ومفيد بالنسبة

ألمريكا نفسها ")2).نقل ذاهتا األيام ففي وقسوة، تطرفا أكثر فيبدو اهلنداوي احلسني عبد أما عنه ترصحيه يف صحيفة "القدس" العريب اللندنية "إذا كان املقصود باملعارضة العراقية هذه الزمر واجلامعات اهلزيلة املمنوحة بقرار من واشنطن أو لندن أو عاصمة أخرى فهذه ليست بمعارضة وطنية وال حتى عراقية إنام بالفعل أدوات البعض أخرى مدانة يف مرحلة استتباع حلرب اخلليج وإىل آخر القصة بل إن منها قد يكون يف األصل نبتة خبيثة من بستان النظام العراقي نفسه اخلبري العريق

يف هذا األمر".)3) اندالع قبل ما إىل استمر اهلنداوي أن موقف األكثر غرابة، يف احلقيقة، هو

)1) ينظر الوردي )عيل( ملحات اجتامعية من تاريخ العراق اجلزء الثالث ص »ص 430 جزء 4. )2) ينظر صحيفة »القدس العريب« العدد 3360 29 شباط 2000

)3) ينظر صحيفة »القدس العريب«

207 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

احلرب بأسابيع. فهو يقول، يف ملف آخر فتحته الصحيفة نفسها "هذا االحتالل باملحاصصة يقصد السؤال كان إذا أما السبل. وبكل اآلن من مقاومته جيب الطائفية واإلثنية النسب التي خصصت لألحزاب الشيعية والقومية يف اهليئات القيادية واملساعدات األمريكية فهي مشكلة عديمة األمهية يف نظري ألن هذه

األحزاب ال متثل إال نفسها ووالءاهتا الراهنة حتى إشعار آخر".)1)بامكنة التحاقا املثقفني أرسع كانا والصائغ اهلنداوي أن هنا، الطريف، الثاين عمل حني يف االنتخابات ملفوضية رئيسا عني فاألول "االحتالل"

مستشارا يف أول وزارة للثقافة شكلت بعد سقوط صدام. عامة شبه ظاهرة إىل تشري عينة سوى ليس والصائغ اهلندواي موقف إن طالت أغلبية املثقفني العراقيني ممن سارعوا إىل االنقالب عىل مواقفهم ومسايرة

التحوالت العاصفة التي متر بالبلد. ولعل األمر ال يقترص عىل مواقف املثقفني الذين عادوا من خارج العراق إنام يتعدى ذلك إىل العرشات من زمالئهم املوجودين داخل البالد وكان بعضهم هلم وجدوا هذا مع لكنهم سقوطه. حتى البعث نظام عىل جتوزا، حيسبون، أقدام ال بأس هبا. وجترأ بعضهم عىل طرح نفسه "اجلديد" مواطئ العراق يف "املضطهدين" و"املهمشني" حسب اصطالحات عراقية بوصفه ينتمي اىل فئة

شائعة. ثمة سنجد أنفسنا بمواجهة معركة من نوع خاص ستجري فصوهلا يف السنتني التاليتني لسقوط صدام ولعل املعركة املذكورة مل تكن سوى امتداد لتلك التي نشبت عىل صفحات اجلرائد واملجالت قبل سقوط النظام، نقصد ما عرف يف

أدبيات الثقافة العراقية بـرصاع "مثقفي الداخل واخلارج".

المثقفون البعثيون مل يكن مقتل داود القييس، وهو موسيقي بعثي أوقف فنه خلدمة آيديولوجيا حيدر مقتل عن شئ يف ليختلف اجلديد" "العراق أيام أول يف السلطة، الكليدار. ورغم أن الرجلني ينتميان إىل حقلني خمتلفني، أحدمها حييل إىل دائرة

)1) ينظر صحيفة »القدس العريب« بتاريخ 9 1 2003

خريف المثقف في العراق 208

الدين واآلخر إىل دائرة الثقافة، إال أن املقتلني أشارا إىل بدء مرحلة جديدة من الرصاع داخل العراق.

نقصد مطاردة البعثيني واصطياد من تتوفر الدالئل عىل "جرمهم" أثناء احلقبة السالفة.

كانت األحداث جتري، تلك األيام، بغموض شديد وبطرق ال عهد للعراق بمثلها: مئات املجاميع متارس اصطياد" املجرمني" بطرق "مافيوية" وعىل أوسع

نطاق أمام صمت يكاد يكون مطبقا من قبل األمريكان واحلكومة. هل كان األمر اجتثاثا جسديا معرتفا به!

ربام.. وإال كيف نفرس انتظام تلك العمليات ملدة أشهر ويف كافة مدن العراق وغالبا يف وضح النهار!

إىل العريضة الرشحية تلك تقسيم يمكن البعثيني باملثقفني األمر تعلق قدر فئتني: األوىل تتألف من أدباء عقائديني تسلموا أرفع املناصب اإلدارية يف عراق صدام حسني من أمثال سامي مهدي، محيد سعيد، رعد بندر، لؤي حقي، جواد احلطاب، هاين وهيب، نجامن ياسني،عيل اليارسي، عبد الرزاق عبد الواحد،

الياس فرح وغريهم. وعرفوا البعث، وليس السلطة، عىل حسبوا مثقفون فهم الثانية الفئة أما بقرهبم من الفئة األوىل وعملهم الدائب معها وأغلب هؤالء كانوا من صغار وانتهازيون. منافقون إهنم عىل إليهم،عموما، نظر وقد والصحفيني، األدباء لذلك مل يكن غريبا أن يتوارى الكثريون منهم، يف األيام األوىل، إما خجال من

تارخيهم أو خوفا عىل حياهتم. غادروا كانوا األوىل الفئة إىل املنتمني أغلب أن الالحقة سيتبني األشهر يف وقيادات األمنية األجهزة وعنارص اجليش ضباط شأن شأهنم رسيعا العراق اإلمارات، األردن، مرص، سوريا، هو اجلديد مستقرهم وكان البعث حزب

اليمن، البحرين، عامن، وأحيانا بعض الدول األوربية. يف الوقت ذاته وجد عدد ال بأس به من أعضاء الفئة الثانية أعامال يف الصحف "السنية" األحزاب أصدرهتا التي خصوصا اجلديدة العراقية والفضائيات

والقومية بعد سقوط النظام بأقل من سنة. يلتقي احللو أمري هو فهذا الشئ بعض طريفة تبدو الصدد، هبذا األمثلة،

209 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

العزاوي وقيس النرصاوي اإلله عبد أمثال من القدامى القوميني أصدقاءه أمثال البعثيني من العديد من "اجلريدة" يف وقت جيد فيعمل معهم يف جريدة صباح سلامن وزيد احليل مالذا ال بأس به يف"حركة الوفاق الوطني" التي رفعت

شعار إعادة تأهيل البعثيني ممن مل تتلوث أيدهيم بدماء العراقيني. )1)ال بل أن فخري كريم نفسه مل يضع خطا أمحر عىل املثقفني "البعثيني" بل ترك الباب مواربا أمام عودة من يفرتض طردهم من اجلسم الثقايف العراقي اجلديد. مع هذا فإن املزاج الطارد ملثقفي عهد صدام، خصوصا الذين عرفوا بمدحيهم املستمر لنظامه، ظل سائدا لفرتة طويلة وكانت كتب من مثل"معجم أدباء أم قادسية صدام" فضال أدباء املعركة" و"معجم املعارك" و"قصص حتت هليب "ديوان املعركة" كانت مطلوبة بقوة يف "الطليعة األدبية" وسلسلة عن جمالت شارع املتنبي وكان من املنطقي أن ترتفع أسعارها أضعافا عام كانت عليه قبل

سقوط النظام. السبب، كام سيظهر الحقا، يتعلق بعمليات" نبش" طويلة إلحصاء األدباء ساهر تعبريات "حسب العبثية بحروبه و"تغنوا مدحوا"الطاغية" الذين اهلاشمي، وهو اسم رمزي أحدث ما يشبه الزلزال عام 2006 حني نرش سلسلة مقاالت انتهت بإثبات قوائم أسامء شعراء وقصاصني قال إهنم" لوثوا تارخيهم

بمدح الطغيان". كان عدد أولئك يتجاوز املئات بينهم أدباء كانوا انتقلوا إىل اخلندق املعارض هذا ومع الربيعي وفاضل املرادي نوري مثل الثامنينات منذ صدام لسلطة

فوجئوا بإيراد أسامئهم يف قوائم اهلاشمي.

ال أحالم: »الساهر« يصنع الكوابيس مل يكن اختيار املثقف املذكور اسم "ساهر" للتوقيع عىل املقاالت التي أرعبت اجلميع عام 2006 ليخلو من الداللة. كان اإلحياء قويا بأن املهمة يقف خلفها املتهمني. وهم "ضد الوثائق وتقديم" ادعائه "سهر" لسنوات إلحصاء رجل

)1) للتفصيل يف هذا املحور ينظر مظلوم )حممد( »عراق الكولونيالية اجلديدة« دار رياض الريس الطبعة األوىل 2005 خصوصا الفصل الثالث من ص 155 167 ـ

خريف المثقف في العراق 210

"الطبالني" و"املداحني" الذين" شاركوا يف خراب العراق" و"تغنوا حشد من باستالمهم وعزهم اجلياع خبز رسقة "رشف التاريخ هلم وسجل بحروبه" تنتمي إىل األدب ذليلة كسيحة ال تافهة الطاغوت األخرق عن كلامت دنانري

وال إىل أي جنس ثقايف آخر". الرمزي" "القتل إسرتاتيجية أسميناه ما مع تنسجم املوجة كانت ثقافيا، املغذية الوثائق من املزيد اهلاشمي ساهر لدى وكان اجلميع. هبا شارك التي الرعب بلغة عنفية وبطريقة حتريضية أدخلت "القتل" إذ صاغ مقاالته لذلك يف قلوب مجيع من وردت أسامؤهم يف القوائم التي راح يعرضها بطريقة مشوقة

وفضائحية. األدباء أشباه خيتلف بم هذه:" مثل بعبارات مقاالته ينهي ما غالبا وكان القتل عصابة رئيس سيدهم خدموا الذين البعثيني أولئك عن والكتاب واالغتصاب واحلروب واإلبادات؟هل يتفضل أحد من الذين كتبوا ومدحوا

بإعطاء تربير عن أسباب شذوذه وتورطه بمدح الطاغوت املجرم؟".)1)ويف بعض املقاالت ذهب الرجل إىل حد املطالبة باالقتصاص منهم متوجها إىل "هيئة القضاء األعىل والربملان املنتخب ورئاسة اجلمهورية ورئاسة الوزراء وكتبوا وأعوانه لصدام غنوا الذين واملغنني وامللحنني الكتاب بمحاسبة خاصة ملحاكمة وتقديمهم خيباته، ومتجيد الطاغية بحب الصاعقة الكلامت بتهمة خدش الذوق العام وختريب الذائقة العراقية عن أعامهلم املسيئة واملنافية

لألخالق والشعور والذوق".)2)مل تكن تلك العبارات سوى بداية الغيث فبعد فرتة فوجئ املثقفون العراقيون بقائمة أسامء تصدر عن فصيل ينتمي إىل" قوات بدر" أطلق عىل نفسه تسمية

"فصيل االنتقام من العراقيني الرشفاء". وقال البيان الصادر عن ذلك الفصيل أنه سينفذ حكم اإلعدام بمئات األدباء والفنانني واملفكرين واألساتذة ممن مدحوا نظام صدام وتغنوا بمآيس الشعب ساهر نرشها التي القوائم عىل اعتمد البيان أن الواضح من وكان العراقي.

)1) ينظر مدونة ساهر اهلاشمي عىل الشبكة الدولية للمعلومات وكذلك موقع »مؤسسة الذاكرة العراقية« والعديد من املواقع األخرى.

)2) املصدر نفسه

211 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

اهلاشمي يف مدوناته.العديد من الثقايف وراح الوسط الذعر يف نوع من هسترييا بعد ذلك، ساد ونصيف قاسم محيد مثل لصدام مدحهم نافني أنفسهم عن يدافعون األدباء النارصي وجهاد جميد. ويف األخري، اضطر احتاد األدباء إىل االتصال باملجلس

األعىل للثورة اإلسالمية بغية احلصول عىل نفي رسمي للبيان. وبالفعل رسعان ما طمأن االحتاد املئات من أعضائه إىل أن" قوات بدر حترص عىل املثقفني العراقيني وحترتم حياهتم وهي غري مسؤولة عن البيانات التي تزور

باسمها".)1)املتهمني ملعاقبة التي سيقت املربرات تلك النظر عن األمر، وبغض حقيقة بمدح صدام، فإن أحدا مل يكن مستعدا يف تلك األيام إلبداء أي نوع من أنواع التسامح مع أولئك املداحني الذين سودوا آالف الصفحات يف إطراء الطغيان.

عىل العكس متاما، كانت إسرتاتيجية القتل الرمزي متارس دورها املرعب يف الذين والصحفيني األدباء من التحريض عىل عدد بينها االجتاهات ومن كل

سارعوا إىل االنقالب عىل مواقفهم السابقة واالندراج يف املشهد اجلديد. املثقفني والساسة بكتابات فليح وداي هذا هو ساهر اهلاشمي، مثال، يذكر الرجل نفسه يعمل أثناء حقبة صدام منوها إىل أن البعثي، جمذاب، الصحفي

اليوم يف صحيفة "الصباح"، ال غريها. اشتغلوا وبصالفة أهنم بل األسود بتأرخيم يكتفوا مل أهنم واملصيبة يقول" وداي فليح أمثال كالصباح املعروفة الصحف بعض يف معروفني حمررين املسمى البائسة الثورة جريدة عمود بكتابة دائميا متعهدا كان الذي جمذاب

)1) أصدر احتاد األدباء البيان بتاريخ 11 مايس 2006 ونرش عىل موقع احتاد األدباء يف الشبكة الدولية للمعلومات ثم يف العديد من الصحف العراقية ومما قاله ابراهيم اخلياط الناطق باسم االحتاد هبذا اخلصوص: ان منظمة بدر أكدت لنا دعمها الالحمدود للثقافة العراقية ورفضها إحلاق أية إساءة باملثقفني العراقيني، وبدورنا إذ نشجب وندين هذه األساليب الرخيصة نؤكد حمرري من واألصدقاء الزمالء عىل نعتب ذاته الوقت ففي مجيعا، العراق ملبدعي تقديرنا املوضوعات والترصحيات بدأوا ينرشون ولألسف بعض الذين املواقع اإللكرتونية بعض املعادية للثقافة اجلديدة والتي تنطوي عىل حتريض عىل العنف واإلرهاب وهدر دماء املثقفني

العراقيني.

خريف المثقف في العراق 212

نصه: ما 2002/3/20 بتاريخ وحتديدا أحدها يف جاء وقد الثورة يوميات للعراق إن حتام يدري ال وهو املأزوم األمريكي الرئيس هذا يدري ال لعله ميثاقا يف عهودنا ال تفصمها هتديدات أو طبول أو قرقعات حرب مهام كانت أدواهتا شديدة قاسية. فالعهد صنو الشهادة، والشهادة حق للدفاع عن األرض والعرض واملال وهو ال يدري أن بني أي مواطن يف العراق وبني الوطن والقائد

املؤمن صدام حسني ميثاق أرض اسمها العراق")1)هل كانت تلك اإلشارة مسؤولة عن اغتيال فليح وداي بعد بضعة أشهر من

نرشها! ربام.. فقد قتل الرجل، يف منطقة احلبيبية، بعد اختطاقه من جهة جمهولة، دون املثقفون، مهسا، أن أية أسباب لتلك العقوبة الرهيبة. جل ما تداوله أن تعلن

فليح وداي بعثي "قديم" ولعله قتل عىل خلفية هذه املعلومةـ التهمة.تداولتها عرشات أن فكان اهلشيم كالنار يف اهلاشمي رست قائمة ان املهم السياسية املنظامت بعض راحت بل األسامء. من كثري إليها وأضيف املواقع للمطالبة او أسامؤهم الواردة عىل للتحريض إما للمزايدة احلدث تستثمر

بحاميتهم. موقفه وتعديل الرتاجع إىل اهلاشمي معها أضطر لدرجة األمر تطور لقد من نوعني بني التفريق عىل تقوم أخرية قائمة "فكر" موقع يف نرش أن فكان األدباء: األول هم رجال السلطة املداحني. وهم الذين يعتمد عليهم الطاغية يف نرش أفكاره والتهريج له والرد عىل معارضيه. وهم أصحاب اجلاه واألموال

واألطيان والبذخ وفقدان الضمري. خيشون الذين اجلامعات، وأساتذة واملفكرون واملثقفون األدباء هم الثاين: عىل أنفسهم من مطاردة رجال األمن واملخابرات. فيلجأون أحيانا للكتابة هنا أو هناك إلبعاد هتمة املعارضة واحلفاظ عىل حياهتم وحياة أرسهم. وهؤالء ال

يمكن اختاذ موقف منهم وال جتريمهم". "عبد الرزاق عبد الواحد، ستار املاز يف األخري تقلصت القائمة إىل كل من نارص، أديب محندي، املنعم عبد مهدي، سامي مصطفى، عيل خالد ذهب،

)1) ينظر مدونة ساهر اهلاشمي

213 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

ساجدة املوسوي، عبد الودود زكي القييس، عيل اليارسي، عبد املطلب حممود، رعد بندر، لؤي حقي، محيد سعيد، خرض حسني اجلابري، لطيف حسني عبد اله، نواف ابو اهليجا، ناصيف عواد، حيدر نارص خلف، حسن الكاشف، د. رعد توفيق، عبد اجلبار حمسن، أمري احللو، داود الفرحان، سلامن زيدان، نرص حمسن صابر الفخري، صباح هشام التكريتي، ابراهيم ناجي الداودي، اهلل األمري، عبد خضري ياسني، نجامن جيجان، عباس الليثي، فاطمة الدوري، حممد رايض جعفر، هاين وهيب، فالح عسكر طاهر جليل احلبوش، فؤاد مطر،

امري اسكندر، حامد يوسف محادي، هادي العكاييش، ارشد توفيق."

قتل »الخونة« دورة الفظيعة، الدورة تلك يف أبرياء العقائديون البعثيون كان هل ولكن

القتل والقتل املضاد! كال، مل يكن البعثيون أبرياء أبدا، ولئن تبادرت إىل األذهان فكرة أن هؤالء انتقال السلطة باتوا، بعد سقوط نظامهم، الطرف األضعف يف الرصاع بفعل إىل معارضيهم من كافة العقائد املقابلة. فان أحدا ال يمكنه غض الطرف عن األمريكان مع جاءوا الذين قتل"اخلونة" عىل املحرضة الكتابات تلك تأثري عىل تقوم بعقيدة يؤمنون بعثيون مثقفون الكتابات تلك خلف يقف وكان أنتجت عقود لثالثة العقيدة تلك مارسوا وكانوا وفكرا. جسدا اآلخر إلغاء لنا، يف األخري، سياقا سمته نفي اآلخر وإلغائه حيث اجلميع ضحايا واجلميع

جالدون، البعثيون، الشيوعيون، اإلسالميون.. وألخ. األحرى أن الكتاب العراقيني البعثيني رشعوا، ومعهم بعض حلفاء األمس املثقفني"الناقمني" آخر من املنفى وعدد املقيمني يف املتشددين الشيوعيني من للتغيري األيام األوىل العرب، رشعوا منذ الكتاب الالمنتمني وبرفقتهم مئات الغيطاين مجال أسامهم من عىل والتحريض الرمزي" "القتل ثقافة إذكاء يف

بـ"مثقفي املارينز" بغية تصفيتهم واخلالص من "عارهم".)1)تكتبها التي هذه مثل القتل عىل حمرضة عبارات مطالعة للمرء يمكن كان

)1) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 23/10/2003

خريف المثقف في العراق 214

هيفاء زنكنة "مل يعد مثقف االحتالل مربرا لغزو بلده بحجة التحرير فحسب املواطن بحق وانتهاكاته االحتالل جرائم ارتكاب يف فعليا مشاركا صار بل اجلرائم هلذه الديمقراطي التعليب أمام صامتا الوقوف اختار عندما العراقي وتالوة آيات احلرب عيل اإلرهاب عيل جثث العراقيني وأشالئهم املمزقة." )1) للجريمة عقابا املثقف هذا لقتل استعدائه يمكن من استعداء هنا املقصود التي"شارك فعليا يف ارتكاهبا" وهي، حسب فهم زنكنة وزمالئها، جتميل قتل

العراقيني والسكوت عليه. وكان انزال تلك العقوبة منوطا بـ"رجال" يتغنى هبم سامي مهدي يف إحدى أرغفةم "ملح بوصفهم سيعرضون الـ"مقاومة" الذين رجال نقصد القصائد. من الدمويةم الفتنةم حائطم عيل / السفهاء يرصف ما وحماريث / هات األم

كلامت".)2)واملعني، هنا، أيضا التحريض عىل إلغاء املخالفني وحموهم وتصفيتهم حتى

عن طريق املجاز والكناية. بيانات أو ما شابه، فهؤالء الذين جاءوا عىل ظهور إن السبب ال حيتاج إىل الدبابات مل يكونوا سوى "خنازير" و"ذئاب" و"دمى"، حسب تعبريات سامي مهدي. وهم أيضا أشبه بـ"احلمري" الذين جاء هبم نابليون"، حسب تشبيه قاس "دورات دخلوا الذين اخلارج" بـ"مثقفي يسمى ملا يوسف سعدي يطرحه

تدريبية عىل التجسس أداها هؤالء يف واشنطن وأثينا وبراغ ولندن".)3)ما غري متوقعة التالية: يف حلظة مليا هي التوقف عندها ينبغي التي املفارقة "اخلونة" عىل فاحلكم غريب. وآيديولوجي فكري مأزق أمام أنفسنا سنجد صدام نظام سقوط حتى كانتا إيديولوجيتني جهتني من انطلق كان بالقتل

متثالن خندقني متقابلني يف حرب مستعرة. بزمالئهم املتشددون البعثيون جيتمع أن متاما املدهش من كان أجل، نظام أنه صنيعة الكثريون يعتقد أيضا يف مكان مشرتك املتشددين الشيوعيني الباري عبد الفلسطيني يديرها التي "القدس" صحيفة نقصد نفسه. صدام

)1) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 6/11/2006)2) ينظر صحيفة »القدس« العريب اللندنية بتاريخ 2/04/2008

)3) ينظر »احلوار املتمدن »العدد 865 بتاريخ 15 6 2004

215 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

عطوان حيث سيطلق اجلميع، سعدي يوسف وهيفاء زنكنة وفاضل الربيعي ومحيد سعيد وسامي مهدي وفيصل لعيبي وغريهم، حكم اإلعدام ذاته بحق

مجيع من عادوا إىل العراق وعملوا يف مؤسساته. اجلميع عليها التي وقف املشرتكة األرضية الرمزي" هو "القتل منطق كان أهنام عىل فهمتا طاملا اللتني اإليديولوجيتني صنيعة األرضية تلك وكانت

متناقضتان ومتصارعتان. الذي األشهر واملثال واحدة. لعملة وجهني دائام، كانتا، أهنام احلقيقة لكن بالشاعرين، جتسد الذي "القاتل" املزدوج هو مطوال عنده الوقوف يتوجب

سامي مهدي - سعدي يوسف. إسقاط بعد واحد خندق يف فجأة، نفسيهام، وجدا اللذان الشاعران هذان

نظام صدام أو"احتالل العراق". كانت لغتهام واحدة، وعباراهتام متشاهبة وكانا معا يتفننان يف التحريض حتى

عىل زمالئهام القدامى. فهل كانا حقا وجهني لعملة واحدة!

سامي مهدي: حكمة الشاعر في أيام العقاب اإللهي ال أحد يعرف حقيقة كيف تلقى سامي مهدي حدث سقوط بغداد ودخول جنود املارينز إليها. أين كان! كيف رآهم! وما هو نوع االنفعاالت التي أظهرها! هل بكى مثال! هل أطلق آهة أطول من األيام التي سرياها! أم تراه قهقه مثل

أبطال قصائده الساخرين! هل جلأ إىل ذكرياته يستمد منها العون أم تراه جلأ إىل الشعر ليرسب غضبه فيه! أو او شهادة، اللحظات، مذكرات تلك نثريا عن يكتب شيئا مل الرجل إن يرسب ما غالبا كالعادة، إذ ضري، ال لكن شبيه. شئ عىل أطلع مل أنني لنقل

الرجل بعض انفعاالته شعرا. كام جرى يف العديد من القصائد. احلدث من سنوات ست بعد مهدي سامي يكتب اآلتية: املالحظة اليكم

املزلزل: "دائام / كان ثمة من يفتح الباب للغرباء / دائام / كان ثمة يف احلرسم املوكلني هبا خاملون ينامون أو بلهاء... / دائام / كان يف القرصم من يتملق أو يفرتي / أو ه أبناءها احلكامء / ة / حني تسف خيون من األمراء / دائام / تسقط املدن املطمئن

خريف المثقف في العراق 216

، امللوك /: هلم اقرتفوا خطأ عاقبتهم عليه السامء؟ دائام / يتساءل، بعد السقوطم(1("

عىل"الغزو"أو سنوات ست بعد هذه قصيدته كتب مهدي سامي كان بعض هدأ الرجل أن ويبدو تعبرياته. "اخلنازير" و"الضفادع" حسب دخول الغابرة بمزيد من العقالنية متيقنا، دون أن أيام السلطة الشئ وبات يسرتجع يقول ذلك رصاحة، أن"احلكامء"، وهو أحدهم بالتأكيد، كانوا سفهوا وركنت آراءهم السديدة جانبا، وأن أخطاء كبرية ارتكبت بحق التاريخ ما أدى من ثم

إىل جمئ الطوفان بوصفه عقابا إهليا متوقعا. سبات الرجل، إليه ركن طويل سبات نتاج كانت اهلادئة اللغة هذه لعل

حمارب ينسحب إىل ذاته لريثيها هبدوء. التي البالد أن وأيقن شئ كل املحارب راجع ربام السبات ذلك أثناء ويف ما غالبا التي تلك القديمة، العراقية احلضارات به مرت بام مرت أحبها

يستعيدها سامي مهدي يف قصائده حتى وهو يف أكثر حلظاته كآبة وخيبة. حاالهتا أفضل إىل تعود مهدي سامي لغة أن القصيدة هذه يف واملالحظ، حيث التكرار الذي حييل مبارشة إىل األدب الرافديني القديم شعرا ونثرا يوحي بوجود ظل قوي لروح حكيمة تتجرد من نرجسيتها وتنظر إىل التاريخ بوصفه

درسا. عن وبعيدة مقتصدة صافية، لغة يتطلب الكتابة ال اإلنشاد يف املنطق هذا التوصيفات ذات الطابع االنفعايل كام هو األمر، مثال، يف القصائد والكتابات

التي نرشها سامي مهدي بعد التغيري مبارشة. لنقرا هذه القصيدة التي كتبها بعد شهر تقريبا من سقوط بغداد:

"احلدود احلدود / احلدود السدود / احلدود النياشني والقبعات / احلدود فيها / وتعربها ف تتوق أن الريح تأنف التي احلدود والثكنات... / املراصد احلدود احلدود احلدود / هلا حدود ال التي احلدود / قيود أو تأشرية دون

احلدود".)2)

)1) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 13/2/2009)2) ينظر صحيفة القدس العريب اللندنية بتاريخ 17/11/2006

217 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

لكأن سامي مهدي وهو يكتب هذه القصيدة يكاد يرصخ، بل تكاد عبارته إىل صدى صيحة تتحول مرات أربع احلدود مفردة فيها تتكرر التي األخرية سور أو عظيم سياج اهندام أو ما حدود انفتاح أرعبه رجل يطلقها عظيمة

أسطوري حيمى البالد والعباد من ريح صفراء. بمعنى أن الرجل احلكيم يف قصيدة عام 2009 يبدو منفعال، خائفا، مرعوبا

يف القصيدة األخرى. شهر يف آخرها عن مفتوحة رآها التي واحلدود هناك غريه هو هنا الرجل مايس 2003 ليست بالتأكيد حدود تلك اململكة الواقعية التي أحدث احلرس "البلهاء"و"اخلاملون" رشوخا يف أسوارها فدخل الغرباء كام جرى عند سقوط

بابل. عام مهدي سامي احلكيم عنهم يتحدث الذين "الغرباء" أولئك حتى بل 2009 بتوصيف حيادي بعيد عن االنفعال كانوا ظهروا يف قصائده عام 2003 هم كان يفتح بوصفهم "خنازير" و"ذئاب" جائعة تقتتل عىل هرب "وليمة": "كل / النفري! النفري.. وهويصيح: النارم يف ينفخ كان هم كل / السعري هذا أبواب كان هم كل / املصري طريق لآلخرين ويقرر / بذرته للموتم يبذر كان هم كلهم كان يبحث عن حصة يف الوليمةم / أو مقعد ينتف ريش اجلناحم الكسري / كل

هم كان هيرب هربته مثل ذئب رضير." )1) يف مكان أثري/ كلبـ"خنازيرالغابة" أشبه مهدي لسامي بالنسبة "اخلونة" أولئك كان هم وأظافرمهم / حيملون الكثري / يف حماجرمهم الذين"حيملون الكثري/ حتت آباطم

زرم ما حيملون".)2) / ويكادون هيوون من وموكان مهدي املصدوم من كمية الرش التي تراءت له يف مالحمهم يتساءل "كم ترى كم ينفثون؟ كم / ! ؟ السم من يذخرون ترى كم /! يكرهون؟ ترى ابتلعوا من صالل / وكم أكلوا من ثعاىل / فكانت هلم مثل هذي البطون!" )3) تبدو ال نشاء، حيث إىل اللغة استكشاف فوائد مع ولنذهب أيضا، نقديا استعارة أوصاف احليوانات للغزاة، بل لألعداء عموما، شيئا جديدا، ليس عند

)1) املصدر نفسه )2) املصدر نفسه)3) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 218

مهدي فقط بل يف ذاكرة اللغة كلها. لدى املرء أدلة تتواتر كلام نبش قي تراث الشاعر، ففي ديوانه "الزوال"´مثال،

يتحول اإليرانيون إىل" خنازير" أيضا: "زارا؟ / هل قلتم زارا؟ اعرف هذا االسم / صاحبه يرتصدين يف بستاين /

يتبدى يف هيأة خنزير / وحياول ان يفزعني ")1). املتحدثة يف القصيدة فتاة من قرية تدعى "سيحان" كان خدم فيها سامي مهدي بوصفه مقاتال و"رأى ما رأى" حيث" اخلنزير يف الدغل / والكامة يف الكامئن...

خرج اخلنزير/ أضالفه ختدش وجه االرض / وقباعه جيرح السكون")2) . التقليدي املخيال هذا مهدي سامي يستعيد ،2003 بعد ما قصائد يف أنه يربع يف "و"ضفادع" حد الغزاة خنازير نجسة وأتباعهم" ذئابا له فيرتاءى رسم بورتريه ألحد "ضفادع" ما بعد االضطراب العظيم: "خطمه / واختالجة ه / كان كالضفدعه / وكان ينق وحيكي عن الناسم خديهم/ جلسته / بطنه / كل/ لكنه كان خييش من الناسم أن تسمعه / فهو ما كان للناسم يوما / وما كان

.(3(" عه إم عة ورثت /Made in England /كأبيهم فإم يوما من الناسمسلب عىل املجبول مهدي سامي خليال بالنسبة ليست، هذه الضفدعة إن إذ بتناغم تتحرك حيوانية أوركسرتا من عنرصا سوى أعدائه، من اإلنسانية م، كل هذا "الذباب" يتبع تلك الوحوش املفرتسة واخلسيسة: "يتطاير من حوهلمب ينق اخلراب / حتت أعطافمهم/ وقطيع الثعالبم يتبعهم / وقطيع الضباع /

روا من متاع ".)4) موا من بيوت / وما دم عن جيف تركوها له / بني ما هدليس هذا فقط، فقدر تعلق األمر بالعامل واألشياء، يبدو سامي مهدي منذهال من ذلك "العفن" الذي غزا بالده وترسب إىل كل شئ فيها:" عفن يف احلروب

/ عفن يف القلوب / عفن يف اجلراح / عفن يف الشجر/ عفن يف احلجر ")5).

)1) ينظر مهدي، سامي، ديوان« الزوال« دار الشؤون الثقافية العامة بغداد الطبعة األوىل 1981 ص105

)2) املصدر نفسه ص 123)3) ينظر صحيفة »القدس العريب »اللندنية بتاريخ 02/04/2008

)4) نفس املصدر)5) املصدر نفسه

219 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

بل مثلام هي عادته مذ عرفناه يف الستينيات والسبعينيات والثامنينيات، يضفي سامي مهدي نكهة انفعاالته ولوهنا ومزاجها عىل اهلواء والناس والبيوت. ويف أثناء هبوط الطائرة إىل أرض بغداد املوبوءة بـ"العفن" خييل للشاعر أن اهلواء يبدو"برائحة غريبة / هواء لكنه أسود / أسود ")1) ثم جيد الشاعر، يف األخري،

نفسه وسط ظلمة متكاثفة وأشياء مسودة. إن أحدا لن يشكك يف عشق الشاعر لبالده لكن ما جرى، بالنسبة له، هو أن

تلك البالد لوثت بـ"قرود" و"أفاع" و"خنازير" استوطنتها. ليس املقصود، هنا، هم أولئك اجلنود األجانب الذين احتلوا البلد فقط إنام املقصود هم هؤالء الذين جاءوا معهم من أمثال ذلك" الوكيل" الذي"حياول / أوداجه يعذب أن سوي يستطيع ال وهو / بحنكتمه الكامرياتم يقنمع أن وحيض عري شفتيه عيل االبتسام ")2) او من امثال تلك الـ" دمى "التي "تتحرك

يف الواجهات"، الدمى التي "ألبستها اليهود ثياب املجالسم واملؤمترات ")3). إن سامي مهدي االنفعايل، يف هذه الصور، املختزن أقىص مشاعر احلقد عىل هذه الكائنات املنحطة، خيتلف اإلختالف كله عن ذلك الشاعر الذي رأيناه يف

قصيدة 2009، املتأمل يف أسباب خراب اململكة الطيبة. ولئن طفح اجلانب اإليديولوجي واضحا يف تلك القصائد التي تذكر بأناشيد مراثي املدن السومرية فإن جانبا فرديا خمتلفا االختالف كله كان يشع يف قصائد

أخرى حيث احلكمة الوقورة تستبطن حرية عرف هبا سامي مهدي دائام. يمكن للمرء أن يراه حينئذ وكأنه قد استعار شخصية أخرى متسائلة حائرة، / اثنانم أنا / ذايت؟ ظل أنا أم / أنا؟ أذايت بشئ:" تؤمن ال عدمية، وأحيانا م يف اثننيم / كي ترتوي رغبايت؟ / ومن حتت جلدي؟ / ومن يتقس أم واحد بني ما تتطوح دم غامض / ونشيد عجيب /وأرجوحة س يف كلاميت؟ / يتنف

ماض وآيت")4).التي الزوال بقيم والعدمي ودوراهنا أيامه بتاليش الغريب العامل هذا أما

)1) ينظر صحيفة القدس العريب« اللندنية بتاريخ 10 1 2003)2) ينظر صحيفة »القدس العريب« بتاريخ 2 4 2008

)3) ينظر جريدة »القدس العريب« بتاريخ 29 2 2008)4) ينظر جريدة »القدس »العريب »بتاريخ 29 2 2008

خريف المثقف في العراق 220

تتامهى به فهو رس من العبث البحث عن إجابة هنائية له. "وحني هتلهل ظلت التي سكنت، مصادفة، يف اجلسد الروح تلك إنه مثل

تالزمه /وتسنده بالعمد")1). واحلكمة النهائية متوقعة متاما بالنسبة لشاعر مهجوس بزوال األشياء وتقلبها بالده يف معدودة من سقوط أشهر بعد يكتبها رائعة قي قصيدة وهي ختترص

قبضة الطوفان: بعد لكننا ونأسف، نلني قد / السنني ونعد وتصاويرنا أوراقنا ب نقل "قد نا: إن ما فات فات / ومن مات مات /، وتلك بقايا قذي حني / سنقول ألنفسممان حلظة العيون / فالذي كان كان / وما مل يكن مل يكن / والز عالق بزوايا تستعاد وتقطع / أو تتاليش رويدا رويدا كام يتاليش الدخان / يضحك البيت

ثانية حتت شمسم الصباح / والعصافري تصدح يف جنباتم احلديقة ")2)ولكن دعونا من سحر هذا الشاعر املوهوب، وقصائده اآلرسة، ولنقف عند مسالة مثرية لالنتباه تبدو واضحة يف القصائد التي كتبها سامي مهدي يف أيام "اجلحيم" وهي بروز هذه اللغة الدموية، واملزدوجة أيضا، امليالة تارة إىل احلط

من العدو واحتقاره بشكل غري إنساين، والوقورة تارة بحمكتها! مل يبدو الشاعر دمويا حينا، وحكيام ومساملا ومطواعا حينا آخر، مل يبدو مرة نرجسيا كآله ومرة ضعيفا كإنسان كسري، مل يبدو مرة متمردا رشيرا وخبيثا إىل

آخر حدود اخلبث بينام يبدو حينا آخر طيبا كأنه مالك!

سامي مهدي: مخيال الموت لغة اعتملت الرمزي" التي "القتل إسرتاتيجية هو الصدد، هبذا خيصنا، ما متطرف مثال من أكثر ليس هنا وهو كلها. رؤيته واحتوت مهدي سامي وأثاره، فكرته بـ"قتل اآلخر" وحمو صورته املهجوس اإليديولوجي للمثقف

ورؤاه. كل ذلك عائد برأينا إىل ذوبان سامي مهدي بعاملني متناقضني وتوزعه بينهام:

)1) املصدر نفسه)2) ينظر صحيفة "القدس العريب" بتاريخ 7ـ 12 2006

221 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

فهو الثاين العامل وأما نرجسيته بكل الفردية الذات عامل فهو األول العامل أما اجلامعة التي آمن سامي مهدي باالنتامء هلا.

ولكي ال نبدو وكأننا نرتبص بسامي مهدي نستطيع القول إن ما يصح عىل هذا الشاعر يصح عىل أغلب الرفاق اآلخرين، شيوعيني وبعثيني. لكن الفرق الزمالء اآلخرين يف اإلهنامكني أكثر من يبدو متطرفا هنا أن شاعرنا املوهوب

معا. وبغض النظر عن أي شئ يتعلق باالزدواجية "العراقية" املأثورة فإن سامي مهدي يبدو عينة مثالية لتجسيد هذه اخلصيصة وهو يف قصيدة اسمها "املمثل" حني كل معكم ويل / اآلخرين ويف فيكم/ املأزق:" أتقلب هلذا واعيا يبدو مصري/ رائع هذا التقلب ما بني دور وآخر/ يمنحني فرصة للتوافق والنقض /

واملوت والبعث / ال! فهو أكثر مما أطيق")1) النرجسية واإلحساس املمض بني التوزع يتعلق حرصا هبذا املذكور املأزق

بالتفرد، من جهة، والذوبان يف اجلامعة، من جهة أخرى. إله وكأنه فيها يبدو بطريقة الفردية تلك عن يعرب القصائد، بعض يف إنه متكرب: "مكتف بوجودي / ومعناي مكتمل يب / وال يشء ينقصه / من معان ت وراء حدودي / وأنا واضح / وشفيف كامء العيونم / فذايت حتيل إيل تشظ

ا دون لبس")2). ذاهتماملالحظ، هنا، أن نرجسية الرجل ال تبدو، يف بعض األحيان، ذوبانا يف الذات مهدي سامي يوجه أشعاره من الكثري ويف لآلخر. قاس احتقار هي ما قدر رسائل آلخرين "حيتقرهم" ويعرب عن امتعاضه من مالحقتهم إياه وتطفلهم

عىل "فرديته". لنقرأ هذه القصيدة املوجهة إىل "ي. ن": أتريد اعرتافا؟ / إذن فانتحل ما تشاء / ولكنني حني يدمهني احلزن أبحث عن هبجة يف كتاب / وعن ألفة يف طريق / وقد أصطفي رجال عابرا / أو رجاال / وقد أختيل حني ال ألتقي أحدا بحجر / أتريد اعرتافا / إذن فلتقل: أنه جن / يف الشعر / أو غريه / واصطنع مشهدا يل، إذا شئت / منكرسا مثال / أو قتيال

)1) ينظر مهدي، سامي، ديوان« الزوال« دار الشؤون الثقافية العامة بغداد الطبعة األوىل 1981 ص12

)2) ينظر جريدة »القدس العريب« بتاريخ 29 2 2008

خريف المثقف في العراق 222

/ وذرين وما أنا يف شأنه من خطر")1). ويف نص آخر أكثر حدة و"رشاسة"، يتحدث سامي مهدي عن ذلك الرجل "الذي مات يف حينه" ال نعرف من هو! قائال له: مت قبل األوان وبعد األوان/ وافتقدناك حني مهمنا مجيعا بشتمك.. / ال.. / ليس يف األمر إال مفارقة أنت لنثأر من وانقلبنا لقتلناك من حنق/ / مل متت فلو اإلعرتاف، سيدها / وهو

بعضنا لك/ فاخلوف متصل بيننا.." )2)... أهو السياب! ربام.األحرى أن سامي مهدي، خالفا ملا يعلن، يستبطن انشغاال ممضا بـ"اآلخر" فهذا اآلخر يطارده يف كل حلظة وينغص عليه انفراده بذاته وهذا االنشغال حييل واهنامكه بالسياسة الشاعر اهنامك بني شعريا، العاقبة، حممود غري متاه إىل ربام

بالقصيدة. بـ" أعدائه يلتبسون كانوا امللغزة رسائله هلم يوجه الذين أولئك أغلب إن "أبر هبم / وكنا، حني الذين كان سامي مهدي ورفاقه األعداء "الشيوعيني، صامتني/ ونبقى / األخبار نتبني وال / ننفي ال / بالصمت نكتفي نخرج، ما بأنا رغم منا فليقبلوا إذن، ننهار/ أن فينا / دون الروح تفيض بام معبئني

فعلوا / بقينا قادرين عىل اختالس الوقت حني نريد / لنكتب األشعار")3). يف بام له بالنسبة شئ كل شكل ربام السيايس باجلانب مهدي سامي اهنامك ذلك لغته وطريقة تعامله مع الصورة واالستعارة ، وكيفية رؤيته لظواهر العامل. للرتاث الشاعر قراءة طريقة يف فاعل بشكل أثر ذاته االهنامك أن عن فضال

واملعارصة وجدل األشكال ورصاع األجيال. ازدحام إىل أدى بالسياسة البعثي الشاعر هذا اهنامك أن الزعم نستطيع بل شعره بام نستطيع تسميته بـ"القتل الرمزي"حيث تشيع صور الزوال واالندثار وتقطر القصائد بمفردات مثل: املوت، القتل، القبور، اخلوف، التآكل،الفزع،

التقتيل، الدم، الخ: "مظهر للحياة هو املوت")4)

)1) ينظر مهدي )سامي( الزوال ص 39)2) املصدر نفسه ص 21)3) املصدر نفسه ص 30)4) املصدر نفسه ص 16

223 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

"العناوين فضفاضة / والذي يتصدع منها كثري/ وأكثر منه الذي يتآكل")1)بيننا / فلو مل متت لقتلناك من حنق")2) "فاخلوف متصل

"وأنثر ما يتبقى عىل العابرين وأفزعهم: وسأضحك أضحك حتى أموت")3)النار عليك")4) "وحتشو مسدسه بالرصاص / وتغريه أن يطلق

"فاصطنع يل مشهدا إذا شئت / منكرسا مثال / أو قتيال")5)"هاهم يف املحطات يدافعون / وما بني أبواهبا / وسالملها / يقتلون")6)

"بينام تترشب أجسادهم بنقيع من اخلوف واملوت/ ال يأهبون له")7)"ويتخذ احلب شكل السالالت / واإلرث شكل القوانني / والبيت شكل

القبور")8)أحيا وما / الكون يف أوجد وما / أضحك وما أبكي ما أرسع ما "آه

وأموت")9) هذه الرؤية لألنا واآلخر، املتمركزة عىل منطق "القتل الرمزي" ربام استبطنت، 2003 بعد ما عراق يف جرى الذي اجلوهري املتغري من موقفه وعي، دون التي عادت بشكل "الشعرية" الدموية لغته ومقاالته وصوره وانسحبت عىل

أرشس بكثري مما كانت عليه. نقرأ له يف رسالة يوجهها إىل مسيو شارل بودلري عبارات حتتفي باملوت وتتلذذ بصوره: يعثر يف عاصمةم بالدنا يوميا عىل عرشاتم اجلثث لرجال يوصفون عادة بأهنم جمهولو اهلوية، حتى وإن بقيت رؤوسهم تتدىل عىل صدورهم، وأفصحت وجوههم عن هوياهتم. جثث ختشى االقرتاب منها حتى األمهات.عليها آثار

)1) املصدر نفسه ص 14)2) املصدر نفسه ص 10)3) املصدر نفسه ص 23)4) املصدر نفسه ص 24)5) املصدر نفسه ص 29)6) املصدر نفسه ص 30)7) املصدر نفسه ص 35)8) املصدر نفسه ص 27

)9) املصدر نفسه ص ص44

خريف المثقف في العراق 224

ما يسمى التعذيب: أطراف حمطمة، عيون مسملة، أظفار مقتلعة، ظهور مقلمة بسياط معدنية، ثقوب سود مدورة أو مسننة يف الظهور، وأشياء أخرى غريبة خذ الفنون. من فن التاريخ، علمنا كام فالتعذيب، ابتكارها. دور يف للخيالم ع يف جوفمه رأس ابنمه الصغري. فهذه صورة ال تولد مثال جثة رجل شق بطنه وزرمإال من خيال غريم تقليدي، خيال فوق _ سوريايل، ألن السورياليني التقليديني )وهذا ليس ذما( ليعجزون، بكل صورهم االعتباطية ورسومهم املركبة، عن

خلقم شبيه هلا ")1) مهدي سامي انشغال من اقرتاهبا يف مثالية تبدو الذكر سالفة العبارات إن عرض يف والتفنن املوت بصور واإللتذاذ االحتفاء نعني اجلديد، القديم او هجاء منه "أكثر "و"تغنيا "مدحيا كان لو كام هنا، األمر، ويبدو تفاصيلها.

رفضا. عن شياع كامل كتبها أخرى عبارات عن بالتأكيد ختتلف مهدي عبارات زاوية كل يف ومصادفتها وابتذاهلا املوت مشاهد شيوع حيث ذاته املوضوع

وركن وشارع. يقول شياع "املوت يف مدينة كبغداد يسعى إىل الناس مع كل خطوة خيطوهنا، فيام تتواصل احلياة مذعورة منه أحيانا، وال مبالية إزاءه يف أغلب األحيان. ما أكثر الفتات املوت السود يف املدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت جمالس التأبني معزيا؟ كم مرة وجدت نفيس عاجزا عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا الربيئة املجهولة يل؟ كم بكيت يف رسي حزنا عىل مشاهد الدماء املسفوكة يف كل مكان؟ بعد هذا االنغامر املكثف

يف وقائع املوت ")2). وتركيز عىل املوت "تغن" بصور أسود وشبه يف رسالة سامي مهدي هتكم تفاصيل سرييالية "تشعرن" القتل وجتعله مجيال يف حني تتكشف عبارات كامل

شياع التي ال تقل تأثريا عن روح متحرية وجادة. هناك مديح وهنا هجاء. هناك سامي مهدي وهنا كامل شياع. وهذا األخري

)1) ينظر صحيفة »القدس العريب« بتاريخ 26ـ 2ـ 2009)2) ينظر صحيفة »املدى« العدد 2391 يف 9/1 / 2009

225 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

قبل ولكن العراق. يف شاع "الذي الرمزي "القتل عامل مع حكاية له كانت التوقف عنده لنتأمل طرف املزدوج آنف الذكر. نقصد الشاعر سعدي يوسف.

مرآة أخرى: مخيال الكراهية صورة ثمة مالحمها، بعض تبينا التي البعثي، مهدي، سامي صورة مقابل أخرى ترد إىل الذهن فورا بوصفها الوجه اآلخر من العملة. إهنا تعود للشاعر مع واحد خندق يف نفسه وجد ما رسعان الذي الشيوعي يوسف، سعدي

أعدائه القدامى بمواجهة عدو مشرتك حتمه سياق ما بعد صدام. "خونة" و"عمالء" ممن القدامى فهم األمريكان و"أذناهبم" من أما األعداء

يستحقون االحتقار واملوت. القتل منطق" إشاعة يف سيرتكز ببساطة املوقف هذا عن التعبري أسلوب

الرمزي" بأرشس العبارات وأشدها تنكيال. لقد بدا سعدي يوسف من أشد الكتاب رضاوة إن مل يكن أشدهم هبذا االجتاه. فهو مل يتورع عن الركون إىل عبارات "سوقية "مل يعتدها املثقفون من قبيل وصفه "العجيب يف األمر أن بـ"املنيك": الفساء" وبيان جرب بـ"قربة الطالباين جالل األمريكيني املتباهني برجولة رعاة البقر، نصــبوا عىل أرض السواد هذا اجلمع املستخنـثني. ـم لمـ والز املسرتجالت، النسوة هؤالء واحلمقى، النوكى من لكن لألمر تفسريا ما: يقال … ليس أظلم من مـنـيـك إذا حكم. أمل تبلغكم

هتديدات مـنـيـك الداخلية، واآلخر الذي يف الدفاع؟")1)إيراد أمثلة من كتابات سعدي يوسف التي دأب عىل نرشها منذ عام 2002 ربام ستزعج القراء جلهة أن بعضها جارح للذوق وبعيد عن أي رأفة وبدال من التوجه إىل"األعداء" املفرتضني بعبارات التخويف والرتهيب الشبيهة بعبارات مستمتعا والكراهية الشتيمة لغة إىل سعدي سريكن وزمالئه، مهدي سامي

بإيذاء اآلخرين بوقعها املزعج.واملالحظ أنه كلام توغلنا يف ترسم طرائق الكتابة "اهلجائية" هذه سنكتشف أن الشاعرين، ومعهام آخرون، يمتحان من خميال واحد لدرجة أن الفروق بني

)1) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 918 بتاريخ 7 8 2004

خريف المثقف في العراق 226

اخلطابني تكاد تتالشى أحيانا. يف الوقت الذي يصف سامي مهدي أعداءه باخلنازير والذئاب والقرود، مثال، أخرى. وبـ"القراد" تارة آوى" تارة بـ" بنات أنفسهم األناس يصف سعدي األنموذجني مشرتكات أن اكتشاف للمرء يمكن وذاك، الوصف هذا وبني تتزايد طرديا حتى أهنا تتحول إىل خصيصة من خصائص كتابات ما بعد التاسع

من نيسان. سواء انطلقت من شيوعيني أم بعثيني أو حتى مستقلني. يف ما يتعلق باملوقف من"اآلخر"، وبغض النظر أيضا عن شكل هذا اآلخر وأفكاره، يبدو التطابق مربرا بام ال يقبل جماال للشك طاملا وجدنا أنفسنا يف نطاق منظومة فكر تتخذ العنف سبيال للتعاطي معه. وهو احلاصل يف اإليديولوجيتني

املتصارعتني املتصاحلتني، القومية واليسارية. فيه يصنف شموليا منطقا لـ"اآلخر" تعتمد اجليل هذا أبناء فهم طريقة إن هذه يف "يسجن" ثم ومن خارجي، تصنيف أو مسبقة لفكرة تبعا األخري

املنظومة ويتعامل معه عىل أساس آيديولوجي ال يمكن اخلالص منه. للمصنف بالنسبة إنام حسب باآلخر تتعلق ال هذه اخلالص إمكانية عدم نفسه. فاملصنف سجني قدر ما هو سجان ومصريه يظل مرهتنا بـ"اآلخر" مهام

حاول االدعاء أنه مكتف بنفسه. ال خيتلف ذلك بالنسبة للشيوعني عنهم بالنسبة للبعثيني فاملنطق واحد وطريقة النظر متطابقة: ما يقوله سامي مهدي ستنصت لصداه يف كلامت سعدي وما يتفوه به سعدي ستعثر عليه يف أشعار سامي مهدي ومقاالته. السجن واحد

والعذاب يف داخلة متشابه. املثايل، مهدي سعدي، ومتاثل منطقهام املزدوج لغة بتطابق األمر تعلق قدر القائم عىل "القتل الرمزي" لآلخر. نستطيع اإلشارة، هبذا الصدد، إىل استعارة

سعدي مفردات "بعثية" قديمة وطرائق نظر كان حيتقرها أشد االحتقار. أنظر له، مثال، كيف يتحدث عن بعض الساسة العراقيني اجلدد فهم "اخلونة، اجلعفري حفصة وأيب الـفساء(، )قربةم آشان بشت جالل أمثال من العبيد، )اخلروف(، الذين انقضــوا هم وعصاباهتم، مع الـغـزاة األمريكيني، يقاتلون ويـقتلون،ويستبيحون األعراض واألغراض واألموال،وجيعلون من عاصمـة

227 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

عريقـة، مقبـرة ألهلها وتارخيها".)1) يف اإلعالم بلغة فورا عريقة" تذكر "أعراض" و"عاصمة مثل مفردات إن

حقبة صدام حسني. دائام بدت وعبارات مفردات عىل سعدي عند تعثرـ أن يمكن انك بل ال يشرتون بدأوا وعمالءهم األمريكيني أن األمر "واقع بعثي: امتياز وكأهنا املثقفني العراقيني منذ زمن طويل سبق احتالل البلد. لكن ما أن استتب األمر للمحتلني، مؤقتا، حتى ركلوا من اشرتوهم، بعد أن أحلقوا هبم، وبأبنائهم، عار

العاملة واخليانة".)2)من حيزر أين سمعت عبارات شبيهة هبذه.. !!

دأب "التي "و"اجلمهورية" و"القادسية "الثورة جرائد مقاالت يف بالتأكيد ومحيد جعفر آل ومنذر املختار وصالح مهدي كسامي مثقفون كتابتها عىل احلرب هي "ها اجلبوري: ألمل نقرأ اجلبوري. كأمل شعراء حتى بل سعيد تدور دورهتا الرابعة يف الوقت الذي يعود الكثري من املثقفني واملنشقني واملرتفني نزعة واىل مرة العلامين املرشوع اهنيار عن وتعبريا اإلقليمية أهدافهم و...اىل هؤالء إىل االحتامء بالطائفية يف عراء اخليبة التي المسوها مرة أخرى فلامذا هذا السباق إىل ارتداء األقنعة يف طريق اخلراب وهل حيتاج اخلراب إىل دولة ليكون

الشامل وجها لديمقراطية موعودة ")3). الشيوعيني، ال تقف عند البعثيني ومتطريف املشرتكات بني هؤالء وأولئك، هذا فمنطق "القتل الرمزي" واسع بام يكفي ليشمل مواقف أخرى تبدو أحيانا

بعيدة عن السياسة بمفهومها الضيق. وإذ نقول ذلك فألننا نود اإلشارة إىل ظواهر حتيل إىل"النرجسية "الطاغية التي الذات دائام حيث خيتفي اآلخرون، يف هذه العريب والشاعر املثقف عرف هبا "العظيمة" املكتفية بنفسها، بل يبدون كـ"القراد" حسب توصيف سعدي هلم. بعضهم، مسميا واحدا، واحدا أعدائه يبيد يني ال مثالـ مهدي سامي

)1) ينظر »احلوار املتمدن« العدد1173 بتاريخ 20 4 2005)2) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 1692 بتاريخ 3 10 2006

)3) ينظر صحيفة »اجلمهورية« العدد 8650 االثنني 17 كانون الثاين 1994

خريف المثقف في العراق 228

وضمنهم سعدي يوسف نفسه. "االلتصاق اللقيطة لـ" بنو السامح فيأبى املنطق، سعدي، هذا زميله يف اما أتيح هلم االستيالء عىل وقتي وانتباهي، "لن بقميصه مثل احلرشات احلقرية: البلد، ختنق الدكتاتورية ظلت وأمواهلا..لقد الناس أمالك عىل استولوا كام ثالثني عاما أو نحوها، لكنها أخفقت يف خنق أنفاســي، ألنني وضعت تلك

الدكتاتورية عىل رف االحتقار، ومل أعتربها مهي األول. ــه أشعتي".)1) اآلن أفعل األمر نفســـه. الفن مرتاســـي. منه أوج

النرجيس حييل، دون شك، إىل تراث عريب حمض يقوم عىل إن هذا املوقف "أمة وحده"، حيث يبدو وكأنه أله، شاعر لشاعر نصف فولكلوري أنموذج االنشغال بالذات ومطاردة اجلامل ال تسمح له حتى باالنتباه اىل وجود "آخر". فاروق به يواجهنا الذي الزعم لذلك مماثال يبدو ومهدي سعدي موقف يوسف "حني يسألني أحدهم كيف احتملت العيش يف ظل الدكتاتورية أقول

كنت أرعى اجلامل وأكتب الشعر". يوسف لسعدي بالنسبة ظل فاآلخر حال، أية عىل ادعاء يبقى ذلك لكن بظله ينفك خييم منغصا ال العزاوي وغريهم هاجسا وسامي مهدي وفاضل

عىل األشعار والكتابات النثرية التي ينرشوهنا هنا وهناك. لذلك، ورغم ادعاء سعدي، أنه "لن يسمح لبني اللقيطة بإشغاله عن مرشوعه الشعري" إال أنه ال يكاد يفوت مناسبة مهام كانت تافهة دون أن يدون انطباعه عنها حتى ليبدو األمر وكان كل نأمة جتري، يف السياسة والثقافة العراقيتني، إنام

موجهة إليه حرصا. إنه يتوقف، طورا، عند تنظيم مؤمتر للمثقفني، وطورا، عند "رشاء" املثقفني يف املنايف وااللتفاف عليهم، مفرتضا أن ثمة محلة منظمة يقوم هبا "العمالء" داخل العراق من أجل انجاز هذه املهمة:" وهكذا وجدنا احتادات ومجعيات"ثقافية" تتشكل يف بلدان عدة كالسويد وأملانيا وهولندا واململكة املتحدة مثال من أوربا، إىل القارة األسرتالية البعيدة. بدعم وإرشاف ومتويل من املمثليات الدبلوماسية

)1) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 2044 بتاريخ 9 6 2007

229 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

لإلدارة العميلـة".)1) التي نشهد النتائج أما ببساطة وأسف، عملية شــراء. "إهنا، قائال ويستمر الوطنية، الثقافة تغييب واألسف: البساطة وبكل فهي، زمن، منذ بوادرها

خدمة لالستعامر!" )2). لكن ملاذا.. !!

مل يبدو سعدي يوسف مهجوسا بـ"اآلخر" إىل هذه الدرجة..!! مل خيتزن كل هذه الكراهية لآلخرين.. !! من أين يستقي هذه اللغة اهلجائية القاسية..!!

احتقار اآلخر: غوص في مخيال »الشيوعي األخير« البعثي، املهجوس بقتل اآلخر مثلام يبدو سامي مهدي عينة مثالية للمثقف رمزيا وأحيانا فعليا يبدو سعدي يوسف عينة مثالية مقابلة للمثقف الشيوعي

املهجوس أيضا بتحقري خمالفيه واعتبارهم "منحرفني" و"ساقطني" أخالقيا. إن تراث احلزب الشيوعي العراقي، ودعونا من حماوالت جتميله املستمرة، زاخر بمثل هذه اللغة خصوصا حني يصل األمر إىل مرحلة"كرس العظم" مع اآلخر، سواء كان هذا "اآلخر" متناقضا مع هذا احلزب إيديولوجيا كالقوميني أو كان "منحرفا "عنه كالطوباويني من أفندية األربعينات الذين وصفهم فهد،

ذات مرة، بـ"الفراشات العاهرة". يقول فهد عن "األفندية" الذين طالبوه بعقد مؤمتر ديمقراطي" أما تعشقهم الفراشة تلك تعشق يشبه فإنه والترصف والتفكري العمل وحرية للديقراطية العاهرة. فالنظام والضبط احلديدي والتقيد بمقررات ال تتفق وآرائهم اخلاصة املنبثقة عن رغباهتم اخلاصة فهذه أمور ال تتفق وديمقراطيتهم التي تضطرهم

عىل الدوام أن يتنقلوا كتلك الفراشة من مستنقع إىل آخر")3). طريقة التعامل التي أرساها فهد يف كتاباته القليلة ورسخها بقوة من خالل

)1) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 1692 بتاريخ 3 10 2005)2) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 1692 بتاريخ 3 10 2005

)3) ينظر د. حبيب )كاظم( ود. الداوودي )زهدي( »فهد واحلركة الوطنية يف العراق، التفاتة املئوية مليالد يوسف الذكرى الوراء من أجل مستقبل أفضل« والكتاب صدر يف نقدية اىل

سلامن يوسف )فهد( دار الكنوز األدبية الطبعة األوىل 2003 ص 313

خريف المثقف في العراق 230

ستالينية لينينية تقاليد من خيفى، ال كام مستقاة، للحزب "احلديدية" قيادته عتيدة. والطريف أهنا ربام وجدت، يف العراق، أرضا خصبة ال تتوفر يف الكثري من البلدان. فالثقافة االجتامعية هنا ترتكز عىل قيم حتتفي احتفاء خاصا بالعنف

وتتخذ منه آلية تنظم عالقتها باآلخر. ويف أكثر من مناسبة استعرض فهد مهارات بالغية الفتة يف ترسيب مالمح

"قتل رمزي" لآلخرين بدت مرعبة أحيانا. عقب أحد التمردات االنشقاقية يف احلزب، مثال، مل يتورع ذلك الزعيم عن "الرشارة"، بعث هبا عدد من النجارين نرش رسالة، يف صحيفة حزبه املركزية

للقيادة: املحبوب فهد.. لقد أستانا كثريا مما حصل مؤخرا.. إننا ننتظر أوامر "زعيمنا حزبنا بفارغ الصرب... إننا جاهزون وبكلمة منكم لقطع أعناق اخلونة بأسنان

مناشرينا".)1) لقد كان فهد مثاليا يف ممارسة طقوس "القتل الرمزي" ضد خمالفيه.

يقول زهدي الداودي وكاظم حبيب ومها بصدد التذكري بطريقة تعامل فهد مع أولئك املخالفني، وبعضهم كانوا زمالء محيمني له. إنه كان غالبا ما يفرض سياسة العزل عىل "االنتهازيني والتحريفيني"، وكان الرشط يف رفع العزل عنهم هو اعرتافهم بأخطائهم وختليهم عن أفكارهم االنتهازية وعودهتم إىل صفوف

احلزب". )2) داود قاطع أن"فهد من مناسبة من أكثر يف ترد إشارات الصدد، هبذا ثمة،

الصائغ متاما ومل يتحدث معه طيلة وجوده معه يف سجن الكوت".)3) إزاء خمالفيه حتى أن زكي يبدو شديد الرصامة والقسوة الرجل كان ان بل خريي يقول أنه مل يكن حيتمل النقد من خارج حزبه. ويربهن عىل هذا بحادثة شخصية، فقد نقل له، ذات يوم، يف سجن الكوت بعض انتقادات األحزاب اليسارية األخرى للحزب الشيوعي فام كان من فهد إال أن هنض "من جانبي

)1) ينظر بطاطو )حنا( العراق ص 26)2) ينظر حبيب )كاظم( ود. الداوودي )زهدي( مصدر سابق ص

)3) املصدر نفسه ص

231 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

(1(." وكنا جالسني القرفصاء عىل األرض وتركني وحيدا وكأنني اقرتفت إثام ص 130.

ولئن اكتفى فهد بإشاحة البرص عن رفيقه الطيب، هنا، فإنه غالبا ما كان يميل إىل إظهار الرشاسة مع "االنتهازيني" و"التحريفيني". ويروى، هبذا الصدد، أن كلام الصائغ إىل يسئ كان اهلادي عبد العزيز عبد ومنهم الكوادر من "عددا يصادفه يف دربه سواء بتصغري لقبه "صويغ" أو "حلوس" أي إتان وهي كلمة تقال ملن ذل بعد عز كام تعني املفلس وغريها من الكلامت النابية. وأشار البعض إىل أن فهدا هو الذي أطلق هذا اللقب "حلوس" عىل الصائغ لتحقريه")2) ص

479كان الذاكرة. لتلك الرشعي الوريث كان ربام يوسف سعدي الشاعر املنظومة إىل اإلشارة نريد فألننا كذلك أنه نقول وإذ العظم. "شيوعيا"حد "حتريفيني" إىل ملخالفون معها يتحول منظومة وهي كونته التي الثقافية

و"انتهازيني"، حيقرون ويسبون ويرمون بأشنع الصفات. انطالقا من هذا الفهم شن سعدي هجوما غري مسبوق عىل رفاقه القدامى ممن

ساروا يف ركب األمريكان وأصبحوا ذيوال هلم.لقد حتولوا بنظره، كام رأينا قبل حني، إىل"محري" و"قراد" و"خرفان" و"قرب فساء" و"منايك" يف وقت حتول األناس أنفسهم عند سامي مهدي إىل "ذئاب" والقاموس العريب اهلجاء خيال يتيحه ما آخر وإىل و"قرود"، و"ضباع"

االجتامعي لآليديولوجيا من أوصاف بشعة.

إصغاء أخير: كامل شياع يشرح للقتلة الرمزيين هويته مقتله فبعد يوسف، سعدي لشتائم تعرضوا الذين أحد شياع كامل كان كتب سعدي مقالة قصرية، مواربة ترثي شياع مرة وهتينه مرة. تشري إىل اختالفه "العمالء" و"اخلونة" حسب مع واحد اآلخرين طورا وتضعه يف حندق عن

تعبريات كالسيكية طورا اخر.

أي عليها تثبت مل طبعة خمرضم« شيوعي قائد ذكريات السنني، »صدى )زكي( خريي (1(معلومات عن دار الطبع او سنة الطبع ص 130

)2) كاظم حبيب وزهدي الداوودي مصدر سابق ص 479

خريف المثقف في العراق 232

وإذ يصف سعدي ذلك املثقف الشيوعي ينوه، بام يشبه التعريض، إىل أنه "مل يطبع كتابا. هو نفسه، كان كتابا متنقال".

اإلشارة املتلبسة، هنا، تلمح ربام إىل أن شياع كان مثقفا عمليا من نوع خيتلف وطبع بالتدوين املهجوس يوسف، سعدي املقال، كاتب عن كله االختالف

الكتب، شعرية أو غري شعرية، ومن ثم، مراكمتها. هبذا اهلاجس، هاجس ترك األثر املطبوع الذي يمض املثقف التقليدي، ربام يعلن سعدي، "يف وقت كتابا يطبع "مل كامل شياع فهو األنموذجان، خيتلف ذات مرة، دون أن يسأل عن ذلك، أنه قرر أن يصدر كل عام ديوانا يف األقل: ــي يف درب ـم ال؟ أنا حمرتمف كتابة. وليس لدي من وقت أضيـعه. والـمضم "لمـ

الفن الطويل حيتاج إىل أكثر من حياة!". )1) ثم بكثري من الفخر خيربنا أن أثره اجلديد سيجعل"عديد دواويني، من ألفاظم

العقود: سيكون يل أربعون..."لنؤجل هذه النقطة التي تبدو عارضة رغم أمهيتها إىل حني ولنقف أوال عند

كامل شياع نفسه من هو ومل أثار مقتله كل هذا الضجيج يف الثقافة العراقية. مل يكن شياع معروفا عىل نطاق واسع قبل عودته إىل العراق. بل كانت شهرته حمصورة يف دائرة ضيقة تتكون من املثقفني املرتبطني باملاكنة اإلعالمية اليسارية

الناشطة يف أوربا. كان الرجل قد هاجر من العراق ضمن املوجة التي هربت هناية السبعينيات. يف الكثريين، شأن شأنه وتنقل، ودؤوب متحمس شيوعي كمثقف وعرف بلدان عديدة قبل أن يستقر يف بلجيكا حيث أقام سنوات طويلة وأكمل دراسة

الفلسفة هناك. بالفلسفة ويكتب بضعة تفاصيل سريته ال تعدو ذلك: مثقف شيوعي هيتم دراسات نقدية يف "الثقافة اجلديدة" حيث سيعمل حمررا ومن ثم مديرا للتحرير.

." "مل يطبع كتابا. كان هو نفسه كتابا متنقال احلزب كوادر ضمن العراق إىل شياع كامل عاد البعث نظام سقوط بعد الشيوعي العراقي ورسعان ما عمل مستشارا يف وزارة الثقافة التي شكلها مفيد

)1) ينظر »احلوار املتمدن« العدد 2044 بتاريخ 2 9 2006

233 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

اجلزائري ليستمر يف وظيفته حتى مقتله عام 2008. وطوال عمله يف العراق حظي الرجل باحرتام من رشحية كبرية من املثقفني العراقيني عىل رأسهم جيل من األدباء والباحثني الشبان الذين عرفوا بنقمتهم

عىل سلطة صدام وابتعادهم عنها. لقد مثل شياع بالنسبة ألغلبية املثقفني الذين يسمون جتوزا بـ"مثقفي الداخل" املفتقدة عرب مد جسور من الثقة التأقلم حماوال إعادة فائقة يف أبدا رسعة فقد إبداء أقىص درجات املثقفني. وكان سالحه التفاهم والتفهم هلواجس أولئك

األلفة والتواضع واالستامع إىل مجيع اآلراء بغض النظر عن قناعته هبا. وخالل السنوات اخلمس التي عمل هبا يف العراق، أظهر شياع صربا منقطع النظري وهو يتعاطى مع وزراء ووكالء وزارة من مشارب خمتلفة بدءا من مفيد اجلزائري، زميله الشيوعي، ثم نوري الراوي، التاجر، مرورا بأسعد اهلاشمي، الوهايب املتهم بالضلوع يف عمليات قتل وتفجري، وانتهاء بابراهيم ديل احلديثي،

األكاديمي الذي فرضته املحاصصة السياسية. كامل شياع يف يوسف عن وجود يتساءل سعدي السرية، تعريضه هبذه يف

العراق:"ماذا كان يفعل يف" بغداد اجلديدة"؟ ها؟ أكان يكتب أكان يكتب افتتاحياتم صحيفة، مرجتــعــها أكثر من مطبوعمخطابات ال معنى هلا، ألناس ال معنى هلم؟ أكان حياول أن يرمم صورة شائنة

عصية عىل الرتميم، صورة العراقم املستعبد املحتل؟ ". إن أسئلة سعدي كانت مربرة وهي ربام راودت كثريين من أصدقاء شياع. بلدا بدا قرن ربع أكثر من املغرتب ملثقفني عاشوا يف بالنسبة العراق أن ذلك إليه ال خترج عن فكرة إهنم العائدين النظرة السائدة عن ميئوسا منه. وكانت ربام تعاملوا معه بوصفه جمرد "وظيفة إستشارية" تتنتهي بانتهاء العقد املربم مع

األمريكان أو احلكومة املشكوك هبا يف بغداد. يف الرجل يمتدح أنه خصوصا وواقعية مربرة سعدي أسئلة كانت هلذا عبارات قصرية لكنها دالة: "كان الرجل، يف منتهى الدماثة والذوق، قدمني يف األمسية الشعرية، وغادر املكان بعد التقديم مبارشة، ليلحق بالقطار املتجه إىل

بلجيكا، مقامه حتى عودته املشؤومة إىل العراق املحتل ".من الكثري مواقف يف تكرر شياع، إزاء املربك املزدوج، سعدي موقف

خريف المثقف في العراق 234

أصدقاء األخري ومربر استغراب هؤالء يكمن ربام يف الفكرة اآلتية: إن سعدي يوسف وزمالءه ربام اعتادوا عىل أنموذج واحد من صور املثقف التي حتدث

عنها غراميش وإدوارد سعيد وجوليان بندا ورايموند ويليامز وآخرون. وهي الصورة التي ينطبق عليها انموذج املثقف"الرسويل" الذي يتحدث عنه جوليان بندا. ذلك املثقف الذي يتقدم احلشود دائام حامال عىل كتفيه املحنيتني

عذاب جمتمعه وأحالمه وآالمه. يف خاص باحتفاء حظي كان هذا الطوباوي بندا جوليان أنموذج لعل وحتى واإلسالموية واليسارية القومية السائدة، اآليديولوجية الثقافات "برسانيتهم وقيم يكونون إىل" الكهنة ما أقرب املثقفون يبدو الليربالية حيث

اخلري والعدالة التي يكافحون من أجلها. باملوهبة يتحلون حكامء ملوك من صغرية مجاعة املثقفون بندا" يقول اإلنسانية". ضمري لبناء أنفسهم وقفوا العايل اإلخالقي واحلس اإلستثنائية وهم، قبل ذلك "ال يكونون أبدا يف أفضل حاالهتم إال عندما حتركهم عواطف عن ويدافعون الفساد واحلقيقة..يشجبون للعدالة نزهية ومبادئ ميتفايزيقية أن دائام هبم يفرتض بل اجلائرة. أو الرشعية غري السلطة ويتحدون الضعفاء

جيازفوا بخطر احلرق أو النبذ أو الصلب من أجل الدفاع عن املجموع")1). مثل هذه اخلصائص ربام تنطبق عىل كثري من املثقفني العراقيني كوهنم مجيعا يتحركون وفق عواطف ميتافيزيقية ومبادئ نزهية للعدالة واحلقيقة. وهم مجيعا

يدعون أهنم جازفوا بخطر احلرق من أجل الدفاع عن املجموع. لكن الفرق بينهم وبني تلك القلة النادرة التي ينتمي هلا شياع هو أن األخري، فضال عن حتليه هبذه اخلصائص وهي خصائص تبدو كام لو كانت "جوهرية" لتمييز املثقف "الرسويل" عن سواه كان حييل إىل أنموذج آخر يناقض أو هيدم

بعض أسس األنموذج "البندوي" آنف الذكر. املقصود، هنا، ذلك التحديد الشهري الذي يضعه غراميش لتمييز نمطني من املثقفني: فثمة، يف عرص احلداثة، مثقفون تقليديون هم الذين يواصلون عملهم

)1) سعيد، )ادوارد(،« االهلة التي تفشل دائام »ترمجة حسام الدين خضور، دار التكوين دمشق الطبعة االوىل ص20

235 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

من جيل إىل آخر مثل رجال الدين واملعلمني واألطباء واملهندسني. وهناك نوع ثان هم العضويون، أي أولئك املستخدمون من قبل فئات أو مؤسسات جتارية

وسياسية لتنظيم املصالح واكتساب املزيد من القوة وزيادة السيطرة. غراميش، رأي حسب الراساميل، العرص نتاج هم الواقع، يف واألخريون، خلق مهمتهم االختصاصات كل يف مهنيني أفراد إىل العرص هذا حيتاج إذ ثقافة جديدة ونظام قانوين جديد." فخبري اإلعالن أو العالقات العامة مثقف عضوي. إنه انسان حياول، يف جمتمع ديمقراطي، كسب موافقة الزبائن املحتملني

ونيل االستحسان وتوجيه رأي املستهلك او الناخب")1). بعض نوهنا، كام هيدم، احلداثة عرص يف املثقف لدور الفهم من النوع هذا أسس الفهم البندوي لدور املثقف نفسه. فاملثقف "البندوي" يبدو، يف واحدة من أبرز صفاته، متناقضا من الداخل. اذ يف الوقت الذي يتقدم اجلموع متحدثا باسمها، يظل، مع هذا، حمافظا عىل نزعته اإلنعزالية املتأتية، أساسا، من شعوره

"املمض" باختالفه اجلوهري عن املجموع. يقول جوليان بندا إن املثقفني يبدون دائام بوصفهم "شخصيات بارزة رمزية مرسومة بنأهيا الثابت عن االهتاممات العملية لذلك ال يمكن ان يكونوا كثريي القائم")2). الواقع مع تضاد يف أبدا أن"يكونوا وجيب قلة، دائام هم العدد".

ص19 بالطبع دون أن ليسود مل يكن الطوباوية النزعة التوصيف ذي إن مثل هذا تكون هناك قواعد فكرية رصينة سابقة. ولدى املرء دائام مصادر وجذور يمكنه النزعات يف حتى أو عرش التاسع القرن آيديولوجيات يف سواء هلا اإلصغاء القريبة من نظريات األدب حيث تتعاضد فكرة عزلة املثقف وتفرده مع فكرة

اإلندماج يف الذات اجلامعية وتصديه للتفكري نيابة عنها. إن هذا االزدواج كان انتهى تقريبا مع رؤية غراميش املستقاة من مالمح عرص احلداثة حيث املثقفون"متورطون بصورة فاعلة ىف املجتمع، أي اهنم يكافحون

بصورة ثابتة لتغيري العقول واالفكار وتوسيع حدود السوق".

)1) املصدر نفسه ص 18)2) املصدر نفسه ص 20

خريف المثقف في العراق 236

هبذا املعنى يبدو كامل شياع أقرب اىل األنموذجني معا فهو "بندوي" صميم، ربام أكثر حتى من سعدي يوسف، فهو مؤمن عىل الدوام بفكرة املثقف الرسويل وكان، شأنه شأن سعدي وغريه، عرض نفسه للنفي واحلرق والقتل من أجل فكرة العدالة واملساواة. وكان أرص عىل التمسك بـ"شيوعيته"، يف وقت سارع

إىل ممارسة دور املثقف العضوي بمجرد توفر ظروف تسمح بذلك. الرحلة يف امليض ليستطيع كان ما سعدي كأنموذج أنموذجا فإن باملقابل األنموذج يكون أن اختار بل ألنه إيامنه هبا لعدم ليس حتى شوطها األخري.

"البندوي" أيضا ولكن يف نسخنها االنعزالية املحضة. آخر. شئ أي وليس حسب، الكاتب دور"الكاتب"، بمامرسة اكتفى لقد ترك بعدم أخرى، مناسبة ملمحا يف ديوانا، أربعني بإنجازه يفخر تراه لذلك كامل شياع أي أثر خلفه:"ما كنت قرأت لكامل شياع شيئا حتى ذلك الوقت، لكني تتبعت حمارضته عن" اإلمرباطورية "بإعجاب. ومل أقرأ له شيئا بعد ذلك.

كامل شياع مل يطبع كتابا. هو نفسه، كان كتابا متنقال".

مسرب خروج غير آمن: العودة من المنفى اخلروج من "املركب السكران" الذي مثله العراق لن يكون آمنا أبدا، هذا ما

كان كامل شياع متيقنا منه. نقرأ له يف "العودة من املنفى" وهي مقالة من أروع املقاالت كان كتبها عام 2005: "للعودة من املنفى، يف حالتي، سبب عاطفي أكيد. إذ وجدت نفيس يف عالقة ال أقوى عىل إستبداهلا أو تعويضها.إهنا العالقة مع الوطن كمجموعة من البرش، والتقاليد، األمكنة، كفضاء من ضوء وهواء، من فوىض وخراب وأمل. بعد أن جربت هذه العالقة رصت متيقنا من جدواها ومعناها بوصفها حقال صنف من الوطن حب بأن أشك أزل مل لكنني والفكرية، اليومية للمامرسة

الفضائل!" )1). ان األمر ال حيتاج الكثري من احلصافة لفهم ما حياول شياع إفهامنا أياه: كي

العدد )املدى( صحيفة ومنها ألكرتوين وموقع وجملة صحيفة من أكثر يف املقالة نرشت (1(2391 يف 9/1 / 2009

237 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

تكون حرا، فمعنى ذلك أن تكون يف صلب احلقيقة، وليس عىل ختومها.، أن تتبع نداء "هويتك" التي ربام هيزأ منه اآلخرون.

أن ذلك فمعنى نفسه، الوقت يف وعضويا رسوليا مثقفا تكون لكي ثم، تلقي بنفسك اىل املامرسة اليوميةـ سيسميها اآلخرون هتلكة أو انتحارا يف حالة

العراق وسيتحفظ الكثريون حوهلا. أخريا، فلكي تكون أنت، فمعنى ذلك أن تكون أنت، أن تسلم قيادك إليامنك

بأنك أنت وليس شيئا آخر. أربكهم الذين اآلخرين أسئلة عن وأجاب عمليا ذلك ترجم شياع كامل بموته "يسألني البعض أحيانا، أال ختاف من املوت؟ فأجيب، أنا الوافد أخريا إىل دوامة العنف املسترشي، أعلم أنني قد أكون هدفا لقتلة ال أعرفهم وال أظنهم املوت حلظة اإلنسانية بغريزيت أخشى أنني وأعلم مني، شخصيا ثأرا يبغون حني تأيت بالطريقة الشنيعة التي تأيت هبا، وأعلم أنني قبل ذلك كله كثري القلق جيازفون وحركتي سكوين يف يل بمالزمتهم الذين ومرافقي أخي مصري عىل بمصريي األمر يتعلق ما وبمقدار كله، ذلك برغم عوائلهم. وحياة بحياهتم الشخيص، أجد نفيس مطمئنا عادة ألنني حني وطأت هذا البلد احلزين سلمت

نفيس حلكم القدر بقناعة ورىض")1). هل كان الرجل انتحاريا.. !!

هل جن ليأيت إىل عراق امليليشيات والقتلة برجليه تاركا مخرة أوربا ونسائها وندف ثلج ليايل رأس السنة.. هل جن..؟

أي يفعل كام ذلك فعلت "ما الكهنة يقني يشبه بيقني أجاب شياع كامل إنتحاري يسعى إىل حتفه يف هذا العامل وثوابه املوعود يف العامل اآلخر، فالقضية بالنسبة يل تعني احلياة وليس املوت. وهذه احلياة ينبغي أال تكون بالرضورة آمنة الوجود والفعل واالنغامر. منذ سنوات وأنا أعتقد، الرغبة يف رشط أن تشبع ربام بعد قراءة جان بودريار، بأن النهاية حاصلة يف احلارض. إهنا تالزمنا يف كل أن غري االنتظار. يستحق ما هناك يعد ال ذلك، ندرك وحني نعيشها. حلظة

تسلم النفس للنهاية")2).

)1) املصدر نفسه)2) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 238

التجارب والقراءات. التي اختزهنا طوال سنني من املثقف ماذا عن ذخرية أين هي من هذا العامل البدائي الذي ألقى بنفسه يف أتونه..؟

يقول شياع جميبا وكأنه أمل بكل ما حرينا من أسئلة بعد مقتله البشع "إذا كانت هناك عودة بالنسبة يل فهي مغادرة جتربة استنفدت نفسها تدرجييا، كرس رشط اهلجرة هذه مضمون. أو مألوف غري هو ما إكتشاف بغية عاديا غدا حيايت قبيل من ثابتة ثنائيات عىل ترتكز وال حمددة، مسارات تفرتض ال املعاكسة اآلخر...... اهلوية/ الغرب، الرشق/ اخلارج، / الداخل املنفى، الوطن/

فلرحلة النفس يف الزمن مستويات عدة وتفرعات شتى.وألهنا مقبلة دائام عىل أفق مفتوح يمكن أن يميض هبا العد إىل أكثر من ثالث مراحل")1).

إن فهام كهذا للهوية والنفس واملكان والتاريخ قد ال يكون مسبوقا باملرة، عىل األقل يف الثقافة العراقية. لذلك بدا من الصعب عىل الكثريين فهم عودة شياع

وموته شبه املجاين. يمكن تصحيحه عرب نصيحة كان أو"خطأ" تكتيكي أنه هتور فهم عىل لقد

يقدمها هذا أو ذاك. مثل هذا الفهم وارد ومنطقي يف منظومة ذات بعد واحد كالتي يعيش فيها املثقف "البندوي" املزدوج، املعنزل عن املجموع واملتحدث باسمه، يف الوقت

نفسه. الغارق يف املثاليات واملنغمس أشد اإلنغامس يف الغرائز احليوانية. بالرجوع عن لشياع التي وجهت النصائح الفكرة ونربر نتفهم هذه ولكي خياره، علينا العودة إىل سرية أغلب املثقفني العراقيني املتشاهبة، أولئك الذين تراهم اليومية.لذلك املامرسة وعامل الكتابة عامل بني التام بالفصل يؤمنون

مزدوجني دائام ومتناقضني إىل أبعد حدود التناقض. هبم. ونعجب نقرأهم "هم" الذين يكونوا أن يمكن وال "هم"، ليسوا هم ثمة صورتان هلم: واحدة تعجبنا واألخرى تعجبهم. وبني ما يعجبنا ويعجبهم

تكمن اهلوة التي حاول شياع ردمها. كامل شياع جرب بحامس اخلروج من مركبهم بسالم، لكنه فشل يف ذلك.

القتلة الرمزيون مل يسمحوا له، ومل يساحموه. هزموه وهزموا مجيع زمالئه، عىل

)1) املصدر نفسه

239 الفصل الخامس / العراق ما بعد الزلزال

األقل حتى تاريخ مقتله. يقول يف "العودة من املنفى"، وعذرا من طول الشهادة:

"قد هييم املرء حبا بوطنه، املصنوع من صور وخياالت، وهو بعيد عنه، وقد ال يقيم لنفسه عالقة إخالقية معه وهو يعيش يف داخله، وقد خيدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إال من الوازع اإلنساين، وقد يدمره آخر يتشدق بإسمه ليل هنار. ما هو ثابت يف الوطن كأرض وتاريخ ال يلزم اجلميع بالتامهي التام معه أو التساوق مع حركته وحتوالته.... العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة احلاجة يبدو يل اآلن، حالة مثالية لفهم ما جيري القاسية عىل ناسه. وهو، كام اآلرسة يف العامل بأرسه. فألنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع احلروب املتعمد والنسيان والعنف والفساد الكذب األنانية، واملصالح واهلمجية للحقيقة أو السهو عنها. كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه: أمريكا الشعبويون من املرتبكة، الغربية الديمقراطيات والسطحية، املتجربة العظيمة العروبيون، واملحافظون، اليمينيون اليساري، الشعار حاملو األنواع، كل

األصوليون، جتار املوت، رجال األعامل،حاملو ألوية العصبيات اخلادعة.....سوء "مستعمرة" اىل حييلني وتعاسته العامل هذا بؤس عن يأتيني خرب كل أو املكان خرائط عىل هلا موقع ال التي الصفر درجة هي العراق.. إسمها مقاييس التجربة، لكنها تتيح، يف الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف يف عامرة زمننا

املايض يف مسارات جمهولة. يف خاص. مرشوع دون شخص أنني اكتشفت بعدما العراق إىل عدت دون حضور وال فعل فال باجلامعة، مرتبط مرشوعي الثقافة يف كام السياسة

مشاركة وتضامن. عدت من املنفى وأنا مدرك أن ال عودة يل منه ألنه جيدد نفسه يف كل متاس مع ما هو مألوف أو غري مألوف. وسوف تالزمني أشباحه كام الزمتني أشباح

الوطن.كل إنسحاب من املنفى تعميق جلذوره ومتويه خلفاياه. أي أوجاع رسية يورث

املنفى، أي شفاء حيمل الوطن؟")1)

)1) املصدر نفسه

خريف المثقف في العراق 240

المحتويات

5 توطئة 9 مدخل ومالحظات

17 الفصل األول: ...وأخريا هبت العاصفة 61 الفصل الثاين: لعبة النرد 97 الفصل الثالث: عىل أعتاب الزلزال: الثقافة ضد نفسها

137 الفصل الرابع: يف قلب الزلزال 191 الفصل اخلامس: العراق ما بعد الزلزال