554
رة ك ا ذ سد ج ل ا لام ح ا ي م ن ا غ ت س م هداء ا... ى ل ا# مالك حداذ.. ( ن ب ا ة ن ي ط ن س ق ي الد م س ق ا غد بال ل ق ت س ا ر ئ ا ز ج ل اَ ّ لا ا ب ت ك ي ة غ لG ي ب س لي ة ن غ ل.. ة ن ل ا ت غ ا ف حة ف ص ل ا اء ض نG لب ا.. ومات راW ئ ا ت م( طان سل ب ة ن م ص ح ب ص ن ل د ت هW ش ة غ ل ل ا ول , وا ة نG ب ز لع ا ب ت كار ر ق( ن ا وت م نً ا ت م صً را ه ق وً ا قW ش غ و ها ل. ى ل وا ى ب ا... ساة غ د ج ي( ن م# اك ت ه" " ( ن ق ت ب ة نG ب ز لع ا زا ق ت ق, لة را ي خ ا ا هد ات ت ك ل ا ة اب ت ك... . لام ح ا

ذاكرة الجسد

Embed Size (px)

DESCRIPTION

... : ‫مازلتأذكرقولكذاتيوم‬ ." . " ‫والدبهوكلمالميحدث‬ ‫الحبهوماحدثبيننا‬ : , ‫بعدماانتهىكلشيءأنأقول‬ ‫يمكننياليوم‬ . ‫إنهاتصلح‬ ‫هنيئاللدبعلىفجيعتناإذنفمااكبرمساحةمالميحدث‬ ‫الفصلالول‬ , ‫كنتاعتقدأنناليمكنأننكتبعنحياتناإلعندمانشفىمنها‬ ‫قبلاليوم‬ . . , ‫دونأننتألممرةأخرى‬ ‫عندمايمكنأننلمسجراحناالقديمةبقلم‬ ­ ‫أتريدقهوه؟‬ . , ‫وكأنهيطرحالسؤالعلىشخصغيري‬ ‫يأتيصوتعتيقةغائبا‬ . , ‫علىوجهللحزنلمأخلعهمنذأيام‬ ‫معتذرادوناعتذار‬

Citation preview

Page 1: ذاكرة الجسد

الجسد ذاكرةمستغانمي أحالم

... إهداء

.. حداد مالك إلى بلغة يكتب أال الجزائر استقالل بعد أقسم الذي قسنطينة ابن

.. لغته ليست ليصبح صمته بسلطان متأثرا ومات.. البيضاء الصفحة فاغتالته

وقهرا صمتا يموت أن قرر كاتب العربية, وأول اللغة شهيد. لها وعشقا

... أبي وإلى هذا أخيرا له , فيقرأ العربية يتقن "هناك" من يجد عساه

. ... كتابه الكتاب

أحالم

األول الفصل

:ما زلت أذكر قولك ذات يوم". كل ما لم يحدث الحب هو ما حدث بيننا. واألدب هو"

:يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح هنيئا لألدب

.اليوم ألكثر من كتاب ...وهنيئا للحب أيضا

Page 2: ذاكرة الجسد

يحدث... ما أجمل الذي فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم .لن يحدث

عن حياتنا إال عندما نشفى قبل اليوم, كنت اعتقد أننا ال يمكن أن نكتب .منها

.أن نتألم مرة أخرى عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون

.حقد أيضا عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون

أيمكن هذا حقا ؟ .نحن ال نشفى من ذاكرتنا

.نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا ولهذا نحن

أتريد قهوه ؟- .عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري يأتي صوت

.للحزن لم أخلعه منذ أيام معتذرا دون اعتذار, على وجه

...يخذلني صوتي فجأة .أجيب بإشارة من رأسي فقط

فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، .وسكريه, ومرش لماء الزهر, وصحن للحلويات, وفناجين

في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقا .معلقه وقطعة سكر

.كل شيء ولكن قسنطينة مدينه تكره اإليجاز في إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما

.تعرف .ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة

المبعثرة أمامي , ألترك مكانا لفنجان القهوة وكأنني أفسح أجمع األوراق ..مكانا لك

مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات بعضها .الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام فقط... كي تدب فيها

..والذاكرة إلى النسيان, ولكن, كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكالم .حبك تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني

فكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرة . ولحظتها فقط, شعرت قادر على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبية, ورحت أطارد دخان أنني

منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق الكلمات التي أحرقتني .صفحه

Page 3: ذاكرة الجسد

للذاكرة؟ هل الورق مطفأة. .نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين األخيرة , وبقايا الخيبة األخيرة

من منا يطفئ أو يشعل اآلخر ؟.الذكر... معك فقط سأبدأ الكتابة ال ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق

سأنكتب بها, فمن حقي أن أختار وال بد أن أعثر أخيرا على الكلمات التي .اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أختر تلك القصة

قصه كان يمكن أن ال تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, .منعطفات فصولها عند

من أين جاء هذا االرتباك؟

البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة وكيف تطابقت مساحة األوراق مسنده جدار مرسم الشاسعة البياض للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت

كان مرسمي ؟

األلوان. وتحول العالم إلى جهاز وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها؟ تلفزيون عتيق, يبث الصور باألسود واألبيض فقط

.ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفالم السينما الصامتة

أحسدهم دائما, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم كنت وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم, والكتابة دون جهد

..ينتقلون بين امرأتين دون كلفة

!كان ال بد أال أكون رجال المرأة واحدة

.األكثر بوحا واألكثر جرحا .. ها هوذا القلم إذن

توضع الظالل على ها هو ذا الذي ال يتقن المراوغة , وال يعرف كيف .األشياء . وال كيف ترش األلوان على الجرح المعروض للفرحة

,وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه كما أردتهافلم رعشة الخوف تشل يدي , وتمنعني من الكتابة؟

، أنني استبدلت بفرشاتي سكينا. وأن تراني أعي في هذه اللحظة فقط .الكتابة إليك قاتله.. كحبك

قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرة. شعرت أنني على ارتشفت .ابدأ بها هذا الكتاب, وشك أن اعثر على جمله أولى

.جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة

Page 4: ذاكرة الجسد

: مثال كأن أقول أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور"

.هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقا هنا تعبر

..".اليوم ال تحبي الجسور بعد :أو شيئا آخر مثل

..أمام فنجان قهوة ذكرتك"

بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه كان ال".مرة..؟ الصينية.. من أجل قهوة

...كان يمكن أن أقول أي شيء رسائل وبطاقات, نكتبها خارج ففي النهاية, ليست الروايات سوى

. أمرنا المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم

وطقوسنا. ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا .وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية

.كل تلك التي لم تتوقعيها . تتزاحم الجمل في ذهني ..وتمطر الذاكرة فجأة

وأشرع نافذتي ألهرب منك إلى السماء. فأبتلع قهوتي على عجل.والمارة الخريفية.. إلى الشجر والجسور

إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي موعدا معها .آخر هذه المرة لسبب

.ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت إلي, من النافذة نفسها التي سبق أن دخلت منها منذ وها أنت تدخلين

الباعة, وخطى النساء الملتحفات سنوات. مع صوت المآذن نفسه, وصوت ...بالسواد, واألغاني القادمة من مذياع ال يتعب

..".يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعالش الناس والعة بيك" .تستوقفني هذه األغنية بسذاجتها

تذكرني دون مجال للشك بأنني في مدينه . تضعني وجها لوجه مع الوطن عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس .حلما خرافيا

زال يحمل هل التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما .نكهة خطيئتنا األولى, شهي لحد التغني به، في أكثر من بلد عربي

وماذا لو كنت تفاحه؟ .ال لم تكوني تفاحه

Page 5: ذاكرة الجسد

كنت المرأة التي أغرتني بأكل التفاح ال أكثر. كنت تمارسين معي فطريا أن أتنكر ألكثر من رجل يسكنني, ألكون لعبة حواء . ولم يكن بإمكاني

!معك أنت بالذات في حماقة آدم

سي خالد..واش راك اليوم ..؟ أهال-

وفاجأه وقوفي الصباحي,. يسلم علي الجار, تسلقت نظراته طوابق حزني .خلف شرفة للذهول

المتجهة نحو المسجد المجاور . وما يليها أتابع في نظرة غائبة, خطواته عجلى, متجهة جميعها من خطوات, لمارة آخرين, بعضها كسلى, وأخرى

.نحو المكان نفسه

.الوطن كله ذاهب للصالة

.والمذياع يمجد أكل التفاحة

مقابال المآذن يرصد القنوات وأكثر من جهاز هوائي على السطوح, يقف أكثر من طريقه, األجنبية، التي تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك

!_عصريه_ ألكل التفاح

.أكتفي بابتالع ريقي فقط .لم أكن أحب الفواكه. وال كان أمر التفاح يعنيني بالتحديد في الواقع

وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل خطيئة؟. كنت أحبك أنت

.كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصالة . فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك

كيف أنا؟فعلته بي سيدتي.. فكيف أنت ؟ أنا ما

تدريجيا , مالمح مدينه وتضاريس يا امرأة كساها حنيني جنونا، وإذا بها تأخذ .وطن

وكأنني اسكن غرف ذاكرتي المغلقة, وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن .من سنين

كيف حالك؟ .وراثيا كل موسم يا شجرة توت تلبس الحداد

....يا قسنطينية األثواب واألحزان واألحباب .. أجيبي أين تكونين يا قسنطينية الحب ... واألفراح

.اآلن؟

Page 6: ذاكرة الجسد

...ها هي ذي قسنطينه .باردة األطراف واألقدام. محمومة الشفاه, مجنونة األطوار

!تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين ها هي ذي .. كم!.دعيني أغلق النافذة:يقول كان مارسيل بانيول

" " .تعود على اعتبار األشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضا

,أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميالد, والحب, والزاجوالمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, وأشياء أخرى ؟

العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى تحدث. فما أطول قائمة األشياء وأن الحياة لسبب أو آلخر ستوفر, والتي نعتقد أنها ال تحدث سوى لآلخرين

.علينا كثيرا منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها

عندما ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة حقا. الشيء الوحيد الذي لم أكن ألتنبأ به، أو أتوقع عواقبه علي.

ني كنت اجهل وقتها أن األشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا كثيرا من ألن .األشياء العادية

....ورغم ذلك؟ ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك اليوم

أفي خانة األشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأية وعكه صحية أو زلةأو نوبة جنون؟.. قدم

أم .. أضعه حيث بدأ يوما؟

كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون. أو كشيء خارق للعادة, كهدية من .زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة للهزات األرضية

.أكنت زلة قدم .. أم زلة قدر ؟

مقنعه لحدث "عادي" غير مسار حياتي أقلب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة .وجاء بي إلى هنا

.هذه األعوام , فيعلق الوطن حبرا أسود بيدي أتصفح تعاستنا بعد كل

تصفحتها وإن كان ليس للسبب هناك صحف يجب أن تغسل يديك إن أكثر تألقا نفسه في كل مرة. فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. وأخرى

.تنقل عفونتها إليك

جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم أألن الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي ونزلت به إلى مثلنا, بمالمح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل،

الشارع. هكذا دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة .مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة عنق

Page 7: ذاكرة الجسد

.1988أكتوبر 25 .الحياء عناوين كبرى.. كثير من الحبر األسود. كثير من الدم. وقليل من

.هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة األولى.. ببدلة جديدة كل مره ....هنالك جرائد.. تبيعك نفس األكاذيب بطريقة أقل ذكاء كل مرة

.أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. ال غير وهنالك .الجريدة إذن.. وألذهب لغسل يدي وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فألغلق

ذلك منذ شهرين تقريبا. آخر مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان نصف عندما كنت أتصفح عن طريق المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على .صفحه بأكملها, مرفقه بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك

تسمر نظري أمام ذلك اإلطار الذي كان يحتويك. وعبثا رحت أفك يومها أقرأك مرتبكا، متلعثما, على عجل. وكأنني أنا الذي رموز كالمك . كنت

التي كنت تتحدثين لآلخرين, عن قصة كنت أتحدث إليك عني, ولست أنت .ربما لم تكن قصتنا

ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك السنوات أي موعد عجيب كان موعدنا .مجلة ال اقرأها عادة أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في

مجلة لم أتعود إنه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفةشراءها، فقط ألقلب حياتي رأسا على عقب

وأين العجب؟ تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. ألم

.قلم وتقتل وتحيي بجرة فكيف ال أرتبك وأنا أقرأك. وكيف ال تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري

جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام في.صورة لك

كثيرا بعدها، وأنا أعود بين الحين واآلخر لتلك الصورة، كيف عدت تساءلتأنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟ هكذا لتتربصي بي،

يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك أن كيف عدت.. بعدما كاد الجرح أن الحب، وتمضين فجأة لتسكني يفرغ منك شيئا فشيئا وأنت تجمعين حقائب

.قلبا آخر

..غادرت قلبي إذن مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كل شيء موقوت كما يغادر سائح

ومحجوز فيها مسبقا، حتى المعالم فيها مسبقا، حتى ساعة الرحيل، سيشاهدها، وعنوان السياحية التي سيزورها، واسم المسرحية التي

.المحالت التي سيشتري منها هدايا للذكرىإلى هذا الحد؟ فهل كانت رحلتك مضجرة

Page 8: ذاكرة الجسد

.ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شاال يلف وحشة تفاجئني

به؟ ليلي.. ماذا تراك فعلت

.أمامك أتوقف طويال عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي األولى

ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما!بهما أسعدني

هل تغيرت عيناك أيضا.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل البحث في عن بصمات جنوني السابق. أكاد ال أعرف شفاهك وال ابتسامتك وجهك

.الجديدة وحمرتك

كيف حدث يوما.. أن وجدت فيك شبها بأمي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي، وتعجنين بهذه األيدي ذات األظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة

مذاقها منذ سنين؟ التي افتقدت

!أي جنون كان لك.. وأية حماقة مالمحك وضحكتك الطفولية، هل غير ذاكرتك أيضا، هل غير الزواج حقا

الغجرية؟ ومذاق شفاهك وسمرتك

وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو.طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط في

الردة. لقد اخترت طريقا آخر. ولبست ها أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب نصادفه في المجالت وجها آخر لم أعد أعرفه. وجها كذلك الذي

قد يكون واإلعالنات، لتلك النساء الواجهة، المعدات مسبقا لبيع شيء ما،.معجون أسنان، أو مرهما ضد التجاعيد

لتروجي لبضاعة في شكل كتاب، أسميتها أم تراك لبست هذا القناع، فقطوذاكرة جرحي؟.. "منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك

وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي .بصماتك على عنقي

اخترت الرواية يومها تذكرت حديثا قديما لنا . عندما سألتك مرة لماذا .بالذات. وإذا بجوابك يدهشني

:الصدق فيها من نسبة التحايل قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة

وأتخلص من بعض األثاث.. كان ال بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي" وال يمكن أن القديم . إن أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأي بيت نسكنه

..أبقي نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة لنقتل األبطال ال غير, وننتهي من األشخاص الذين أصبح إننا نكتب الروايات

Page 9: ذاكرة الجسد

فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتألنا بهواء. وجودهم عبئا على حياتنا ..." .نظيف

:من الصمت وأضفت بعد شيء

.في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما" وربما تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري

الرصاصة كانت موجهة إليه أن تلك الكلمة...

بد أن تسحب من والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, ال أصحابها رخصة حمل القلم, بحجة أنهم ال يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ بها أي احد .. بمن في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا

... القراء !".ضجرا

جرائمك كيف لم تثر نزعتك السادية شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كلالتي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك األخرى؟

.يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي لم أكن أتوقع

انبهاري اآلخر بك. فنحن ال نقاوم, ولذا ضحكت لكالمك, وربما بدأ يومها !في هذه الحاالت , جنون اإلعجاب بقاتلنا

:ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت

الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه قصه كنت اعتقد أن الرواية طريقه_ .أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب

: وكأن كالمي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا

وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية ال نقتل سوى من أحببنا.- !ذلك خلودا أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟ ونمنحهم تعويضا عن

عادله ؟

الطغاة في عدلهم أو ظلمهم؟ ومن يناقش نيرون يوم احرق من يناقش اللهب . وأنت, أما كنت مثله امرأة تحترف روما حبا لها, وعشقا لشهوةالعشق والحرائق بالتساوي؟

...لحظتها تتنبأين بنهايتي القريبة، وتواسينني مسبقا على فجيعتي أكنت

تتالعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على وقعها علي, أم كنت الدائم أمامك, وانبهاري بقدرتك المذهلة, في وتسعدين سرا باندهاشي

.خلق لغة على قياس تناقضك

Page 10: ذاكرة الجسد

...االحتماالت كانت ممكنه كل

عليها بالخلود, فربما كنت أنا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت.وقررت أن تحنطيها بالكلمات... كالعادة

فقط, ومراوغتك التي تشبه الصدق. فوحدك و ربما كنت ضحية وهمي التي ظلت تطاردني, تعرفين في النهاية الجواب على كل تلك األسئلة

.بعناد الذي يبحث عن الحقيقة دون جدوى

الكتاب؟ متى كتبت ذلك

كتبته أقبل زواجك أم بعده؟ أقبل رحيل زياد .. أم بعده؟ أكتبته عني .. أم عنه؟ أكتبته لتقتليني به.. أم لتحييه هو ؟

معا بكتاب واحد... كما تركتنا معا من أجل رجل لم لتنتهي منا معا، وتقتليناواحد ؟

منذ شهرين,. لم أتوقع إطالقا أن تعودي فجأة عندما قرأت ذلك الخبر, ليصبح كتابك محور تفكيري, ودائرة مغلقه أدور فيها بذلك الحضور الملح

.وحدي

الذي حدث, أن اذهب للبحث عنه في فال كان ممكنا يومها بعد كل وال كان ممكنا أيضا. المكتبات , ألشتري قصتي من بائع مقابل ورقه نقدية

يعنيني تماما أن أتجاهله وأواصل حياتي وكأنني لم اسمع به , وكأن أمره ال.

الم أكن متحرقا إلى قراءة بقية القصة؟

انتهت في غفلة مني , دون أن أعرف فصولها األخيرة. تلك قصتك التي بعدما كنت شاهدها األول. أنا الذي كنت,., التي كنت شاهدها الغائب

دائما في قصة لم يكن حسب قانون الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد .فيها من مكان سوى لبطل واحد

يعد بإمكاني اليوم أن أقرأه. فتركته هنا على ها هوذا كتابك أمامي.. لم موقوتة, أستعين بحضوره الصامت طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي كقنبلة

.لتفجير منجم الكلمات داخلي ... واستفزاز الذاكرة

..كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته بمراوغه واضحة وابتسامتك التي تتجاهل حزني . ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكأنني

.الكثير عنك قارىء, ال يعرف

.كل شيء.. حتى اسمك

Page 11: ذاكرة الجسد

فهو مازال يقفز إلى الذاكرة قبل, وربما كان اسمك األكثر استفزازا لي .أن تقفز حروفه المميزة إلى العين

الذي .. ال يقرأ وإنما يسمع كموسيقى تعزف على آلة واحدة من اسمك.واحد أجل مستمع

كيف لي أن أقرأه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشه كتبتها الصدفة,الذي تقاطع يوما؟ وكتبها قدرنا

.يقول تعليق على ظهر كتابك إنه حدث أدبي..أضع عليه حزمة من األوراق التي سودتها في لحظة هذيان وأقول وأنا

تصمت إلى األبد أيها الرجل . فما أعجب ما يحدث حان لك أن تكتب.. أو" !"هذه األيام

البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة وفجأة.. يحسم .بدوري تحت غطاء الوحدة غطاءه, وانزلق للوحشة. فأعيد للقلم

الذي يشبهها والذي مذ أدركت أن لكل مدينة الليل الذي تستحق, الليل أتحاشى وحده يفضحها, ويعري في العتمة ما تخفيه في النهار, قررت أن

. النظر ليال من هذه النافذة

وتفضح للغرباء أسرارها , حتى, كل المدن تمارس التعري ليال دون علمها .عندما ال تقول شيئا.أبوابها وحتى عندما توصد

وألن المدن كالنساء, يحدث لبعضهن أن يجعلننا نستعجل قدوم الصباح. ...ولكن

"soirs, soirs.que de soirs pour un seul matin"..

هذا البيت للشاعر "هنري ميشو" ورحت اردده على نفسي كيف تذكرت ..بأكثر من لغة

"أمسيات كم من مساء لصباح واحد .. أمسيات"

كنت أتوقع منذ سنين أمسيات كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. ترانيبائسة كهذه, لن يكون لها سوى صباح واحد ؟

بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ منها هذا البيت, وإذا أنقب" ..بعنوانها "الشيخوخة

فيخيفني اكتشافي فجأة وكأنني أكتشف معه مالمح وجهي الجديدة. فهل الشيخوخة هكذا نحونا حقا بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا تزحف

ونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟, نتمهل في كل شيء

Page 12: ذاكرة الجسد

الشيخوخة أم من أيكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفاتمواصفات هذه المدينة ؟

الوطن بأكمله هو الذي يدخل تراني أنا الذي ادخل الشخوخة.. أم ترى اليوم سن اليأس الجماعي؟

القدرة الخارقة, على جعلنا نكبر ونهرم في أليس هو الذي يملك هذه؟ بضعة اشهر, وأحيانا في بضعة أسابيع فقط

قبل اليوم لم أكن اشعر بثقل السنين, كان حبك شبابي, وكان مرسمي التي ال تنضب, وكانت باريس مدينه أنيقة, يخجل الواحد طاقتي الشمسية

ولكنهم طاردوني حتى مربع غربتي, . أن يهمل مظهره في حضرتها .وأطفأوا شعلة جنوني ... وجاؤوا بي حتى هنا

اآلن نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , ولم يعد في أن نتوحد مع الجمر المتطاير من فوهته, وننسى نارنا وسعنا , إال

كل تلك األناقة واللياقة. الوطن نفسه الصغيرة... اليوم ال شيء يستحق !أصبح ال يخجل أن يبدو أمامنا في وضع غير الئق

ال أصعب من أن تبدأ الكتابة, في العمر الذي يكون فيه اآلخرون قد انتهوا.قول كل شيء من

الكتابة ما بعد الخمسين ألول مرة ... شيء شهواني وجنوني شبيه بعودة.المراهقة

شيء مثير وأحمق , شبيه بعالقة حب بين رجل في سن اليأس, وريشة .حبر بكر

!األول مرتبك وعلى عجل... والثانية عذراء ال يرويها حبر العالم ما كتبته حتى اآلن, مجرد استعداد للكتابة فقط, وفائض شهوة سأعتبر إذن

.حملت منذ سنين بملئها ... لهذه األوراق التي

.ربما غدا ابدأ الكتابة حقا األشياء الهامة في حياتي بتاريخ ما .... يكون غمزة أحب دائما أن ترتبط

.لذاكره أخرى

الفكرة من جديد, وأنا استمع إلى األخبار هذا المساء أغرتني هذه بالزمن, أن غدا سيكون أول نوفمبر ... واكتشف، أنا الذي فقدت عالقتي

هذا الكتاب ؟ فهل يمكن لي أال أختار تاريخا كهذا, ألبدأ به

سنه على انطالق الرصاصة األولى لحرب34غدا ستكون قد مرت التحرير, ويكون قد مر على وجودي هنا ثالثة أسابيع, ومثل ذلك من الزمن

...دفعه من الشهداء على سقوط آخر. كان احدهم ذلك الذي حضرت ألشيعه بنفسي وادفنه هنا

Page 13: ذاكرة الجسد

بين أول رصاصه , وآخر رصاصه, تغيرت الصدور, تغيرت األهداف .. وتغير .الوطن

.ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع األجر مسبقا عسكري, وال من استقباالت, وال من تبادل لن يكون هناك من استعراض

....تهاني رسميه .ونكتفي بزيارة المقابر ... سيكتفون بتبادل التهم

.الوطن غدا لن ازور ذلك القبر . ال أريد أن أتقاسم حزني مع .أفضل تواطؤ الورق, وكبرياء صمته

أنني قد اكتب أخيرا شيئا مدهشا, لن كل شيء يستفزني الليلة.. واشعر.. أمزقه كالعادة

التي تعود بي , بعد كل هذه السنوات إلى هنا, فما أوجع هذه الصدفة .انتظاري, بتوقيت الذاكرة األولى للمكان نفسه , ألجد جثة من أحبهم في

.يستدرجني إلى دهاليز الذاكرة. يستيقظ الماضي الليلة داخلي ... مربكاذاكرتي هذا المساء ؟ فأحاول أن أقاومه, ولكن, هل يمكن لي أن أقاوم

..أغلق باب غرفتي واشرع النافذة...غير نفسي. وإذا النافذة تطل علي أحاول أن أرى شيئا آخر

قسنطينه ملتحفه مالءتها تمتد أمامي غابات الغاز والبلوط, وتزحف نحوي يوما القديمة, وكل تلك األدغال والجروف والممرات السرية التي كنت

اعرفها والتي كانت تحيط بهذه المدينة كحزام أمان, فتوصلك مسالكها وغاباتها الكثيفة, إلى القواعد السرية للمجاهدين, وكأنها تشرح, المتشعبة

.ومغارة بعد أخرى, لك شجرة بعد شجره.الصمود إن كل الطرق في هذه المدينة العربية العريقة, تؤدي إلى

وإن كل الغابات والصخور هنا قد سبقتك في االنخراط في صفوف .الثورة

...هنالك مدن ال تختار قدرها ...الجغرافيا, أال تستسلم فقد حكم عليها التاريخ, كما حكمت عليها

.ولذا ال يملك أبناؤها الخيار دائما

أن أشبه هذه المدينة حد التطرف ؟ فهل عجب

الطرق, واخترت أن تكون ذات يوم منذ أكثر من ثالثين سنه سلكت هذه الوحيدة تلك الجبال بيتي ومدرستي السرية التي أتعلم فيها المادة

الممنوعة من التدريس. وكنت ادري انه ليس من بين خريجيها من دفة قدري سيكون مختصرا بين المساحة الفاصلة بين الحرية .. ثالثه, وان

.والموت

الذي اخترنا له اسما آخر أكثر إغراء، لنذهب دون خوف وربما ذلك الموت .لشيء آخر غير حتفنا بشهوة سريه, وكأننا نذهب

Page 14: ذاكرة الجسد

اسم؟ وكيف لماذا نسينا يومها أن نطلق على الحرية أيضا أكثر مناختصرنا منذ البدء حريتنا.... في مفهومها األول ؟

يمشي إلى جوارنا, وينام ويأخذ كسرته معنا على عجل. كان الموت يومها .والسعادة المبهمة التي ال تفارقنا .. تماما مثل الشوق والصبر واإليمان

األيام تعود قاسيه دائما, ال كان الموت يمشي ويتنفس معنا.. وكانت يتوقع احد موتهم تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها, الذين لم يكن

على الغالب.. أو لم يكن يتصور لسبب أو آلخر, أن تكون نهايتهم, هم بالذات, قريبه إلى ذلك الحد .. ومفجعه إلى ذلك الحد. وكان ذلك منطق

.أكن قد أدركته بعد الموت الذي لم

عنهم بالجملة. ما زلت اذكرهم أولئك الذين تعودنا بعد ذلك أن نتحدث لحقهم وكأن الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارا للذاكرة , وإنما

.علينا لم يكونوا شهداء.. كان كل واحد منهم شهيدا على حده. كان هناك من

.استشهد في أول معركة, وكأنه جاء خصيصا للشهادة المسروقة إلى أهله بيوم واحد, بعدما قضى وهناك من سقط قبل زيارته

.لها عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها, واإلعداد .وهناك من تزوج وعاد .. ليموت متزوجا

.لكي يتزوج ... ولم يعد وهناك من كان يحلم أن يعود يوما األتعس هم أولئك في الحروب, ليس الذين يموتون هم التعساء دائما, إن .الذين يتركونهم خلفهم ثكالى, يتامى, ومعطوبي أحالم

..هذه الحقيقة باكرا، شهيدا بعد آخر، وقصة بعد أخرى اكتشفت نفسها، أنني ربما كنت الوحيد الذي لم يترك خلفه واكتشفت في المناسبة

وقهرا، وأخ فريد يصغرني بسنوات، وأب سوى قبر طري ألم ماتت مرضا.مشغول بمطالب عروسه الصغيرة

م.. وحده لقد كان ذلك المثل الشعبي على حق "إن الذي مات أبوه لم يتيت".يتيم الذي ماتت أمه

وكنت يتيما، وكنت أعي ذلك بعمق في كل لحظة. فالجوع إلى الحنان، مخيف وموجع، يظل ينخر فيك من الداخل ويالزمك حتى يأتي عليك شعور

.بأخرى بطريقة وبطريقة أو

أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير معلنة للبحث عن موت أجمل تلك األحاسيس المرضية التي كانت تمألني تدريجيا حقدا على كل خارج

شيء؟

الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره الثالث، ولم أعد أذكر كانت أية لحظة بالذات أخذ الوطن مالمح األمومة، وأعطاني اآلن بالتحديد، في

Page 15: ذاكرة الجسد

.واالنتماء المتطرف له ما لم أتوقعه من الحنان الغامض،

المبروك منذ بضعة وربما كان الختفاء "سي الطاهر" من حينا بسيدي .أشهر، دور في حسم القضية، واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ

فلم يكن يخفى على أحد أنه انتقل إلى مكان سري في الجبال المحيطة هناك مع آخرين إحدى الخاليا األولى للكفاح بقسنطينة ليؤسس من

.المسلح

الليلة ليزيد من ارتباكي، ومن منكما" من أين عاد اسم "سي طاهر.استدرجني لآلخر؟

حقا، وعلى بعد شارعين مني شارع مازال يحمل من أين عاد.. وهل غاباسمه؟

".االسم هناك شيء اسمه "سلطة وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تصلح من جلستك، وتطفئ سيجارتك.

.تتحدث عنها وكأنك تتحدث إليها بنفس تلك الهيبة وذلك االنبهار األول تكاد

ظل السم )سي طاهر( هيبته عندي. لم تقتله العادة وال المعاشرة، .. ولذا السجن المشترك، وال سنوات النضال، إلى اسم عادي ولم تحوله تجربة

دائما كيف تحيط نفسها بذلك الحاجز لصديق أو لجار. فالرموز تعرف والممكن والمستحيل، في الالمرئي، الذي يفصل بين العادي واالستثنائي،

.كل شيء..له ها أنذا أذكره في ليلة لم أحجزها

وبينما أسحب نفسا من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلنا صالة..الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت

وأحسد األطفال الرضع، ألنهم يملكون وحدهم حق الصراخ فأحسد المآذن،مهم الصمت والقدرة عليه، قبل أن تروض .الحياة حبالهم الصوتية، وتعل

سنواته األولى في تعلم النطق، وتقضي ال أذكر من قال "يقضي اإلنسان!".الصمت األنظمة العربية بقية عمره في تعليمه

.وكان يمكن للصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة بالذات، تماما كالنسيان فالذاكرة في مناسبات كهذه ال تأتي بالتقسيط، وإنما تهجم عليك شالال

.ال تدري من المنحدرات يجرفك إلى حيث في زلة وكيف لك لحظتها أن توقفها دون أن تصطدم بالصخور، وتتحطم

ذكرى؟ وها أنت ذا، تلهث خلفها لتلحق بماض لم تغادره في الواقع، وبذاكرة

.تسكنها ألنها جسدك.جسدك المشوه ال غير

من منبر إلى آخر، بحجة أو بأخرى، ليدينوا وتدري أن هناك من يلهثون اآلن بالموجة الجديدة، قبل أن يجرفهم تاريخا كانوا طرفا فيه. عساهم يلحقون

Page 16: ذاكرة الجسد

.الطوفان. فال تملك إال أن تشفق عليهم

أتعس أن يعيش اإلنسان بثياب مبللة.. خارجا لتوه من مستنقع.. وأال ما!انتظار أن تجف يصمت قليال في

.صامتا يأتي )سي طاهر( الليلة.الشهداء صامتا كما يأتي.صامتا.. كعادته

.وها أنت ذا مرتبك أمامه كعادتك

كانت دائما الخمس عشرة سنة التي تفصلكما، أكبر من عمر لقد ذاتها، ورمزا بحد ذاتها، لرجل كان يجمع إلى السنوات. كانت عمرا بحد

اختلط بجمعية العلماء، ودرس جانب الفصاحة التي كان يتميز بها كل من.في قسنطينة، فصاحة أخرى.. هي فصاحة الحضور

سي طاهر( يعرف متى يبتسم، ومتى يغضب. ويعرف كيف يتكلم، )كان وكانت الهيبة ال تفارق وجهه وال تلك االبتسامة. ويعرف أيضا كيف يصمت

.مختلفا لمالمحه كل مرة الغامضة التي كانت تعطي تفسيرا

الناس إن االبتسامات فواصل ونقاط انقطاع.. وقليل من" أولئك الذين ما زالوا يتقنون وضع الفواصل والنقط في

".*كالمهم

سجن ) الكديا( كان موعدي النضالي األول مع )سي طاهر(. كان في المتطرفة، وبدهشة االعتقال األول، بعنفوانه.. موعدا مشحونا باألحاسيس

.وبخوفه

استدرجني إلى الثورة يوما بعد آخر، يدري أنه وكان )سي طاهر( الذي يشفق سرا على سنواتي مسؤول عن وجودي يومها هناك. وربما كان

يعرفها جيدا، الست عشرة، على طفولتي المبتورة، وعلى ) أما( التي كان.ويعرف ما يمكن أن تفعله بها تجربة اعتقالي األول

عني كل شفقته تلك، مرددا لمن يريد سماعه: "لقد ولكنه كان يخفي".خلقت السجون للرجال

سجن )الكديا( وقتها، ككل سجون الشرق الجزائري يعاني فجأة من وكان التي قدمت فيها قسنطينة1945 ماي 8مظاهرات فائض رجولة، إثر

متمثال في دفعة أولى من عدة وسطيف وضواحيها أول عربون للثورة، اآلالف من آالف من الشهداء سقطوا في مظاهرة واحدة، وعشرات

المساجين الذين ضاقت بهم الزنزانات، مما جعل الفرنسيين يرتكبون أكبر حماقاتهم، وهو يجمعون لعدة أشهر بين السجناء السياسيين، وسجناء

الحق العام، في .زنزانات يجاوز أحيانا عدد نزالئها العشرين معتقال

Page 17: ذاكرة الجسد

الثورة تنتقل إلى مساجين الحق العام الذين وجدوا وهكذا، جعلوا عدوى باالنضمام إلى الثورة التي فرصة للوعي السياسي، ولغسل شرفهم

اآلن على استشهد بعد ذلك من أجلها الكثير منهم. ومازال بعضهم حتى قيد الحياة، يعيش بتكريم ووجاهة القادة التاريخيين لحرب التحرير، بعدما

تكفل التاريخ بإعادة سجل سوابقهم العدلية.. لعذريته األولى. بينما وجد السجناء السياسيين _ في تلك الحماقة االستعمارية _ فرصة للتعرف بعض

كافيا للتشاور والتفكير في أمور الوطن.. والتخطيط على بعض، ووقتا.للمرحلة القادمة

عندما أذكر تلك التجربة، تبدو لي لكثافتها ودهشتها، وكأنها أطول.. اليوم لم تدم بالنسبة لي سوى ستة أشهر فقط. قضيتها مما كانت. رغم أنها

آخرين لصغر سننا وألنه كان هناك هناك قبل أن يطلق سراحي أنا واثنينا .من يهمهم أمرهم، أكثر من

ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هاما دراسيا، ألجد البرنامج وهكذا عدت إلى..واألدب الفرنسي في انتظاري نفسه وكتب الفلسفة نفسها

المتغيبين، بين مساجين وحدهم بعض رفاق الدارسة كانوا ما يزالون ضمن.وشهداء

أن تتخرج منها أول دفعة أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقررا.من المثقفين والموظفين الجزائريين المفرنسين

ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على خيانتهم، فقط ألنهم وكان والثقافة الفرنسية، في مدينة ال يمكن ألحد فيها أن اختاروا الثانويات

.وهيبتها في القلوب والذاكرة يتجاهل سلطة اللغة العربية،

بعد تلك المظاهرات، فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذبوا سياسي الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي

.مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحالم

تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء، أن فرنسا والذين أدركوا، والحرب العالمية حربهم، وأنهم دفعوا آالف استعملت الجزائريين، ليخوضوا حربا لم تكن

.عبوديتهم الموتى في معارك ال تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى

كان في مصادفة وجودي مع )سي الطاهر( في الزنزانة نفسها شيء بحد ذاته، وتجربة نضالية ظلت تالحقني لسنوات بكل تفاصيلها، أسطوري

أثر في تغير قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم وربما كان لها بعد لك.تكون قد التقيت بقدرك

سي الطاهر( استثنائيا في كل شيء، وكأنه كان يعد نفسه منذ البدء، )كان.رجل ليكون أكثر من

Page 18: ذاكرة الجسد

لقد خلق ليكون قائدا. كان فيه شيء من ساللة طارق بن زياد، واألمير.الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة عبد

الذين عذبوه وسجنوه لمدة ثالث سنوات يعرفون ذلك وكان الفرنسيون سي الطاهر( سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك )جيدا. ولكنهم كانوا يجهلون أن

يقوم بها المجاهدون في بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية.الشرق الجزائري

سنوات تماما، ليضعني مع )سي أي صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر!طاهر( في تجربة كفاحية مسلحة هذه المرة

.وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.. 1955 سنة ستكون الحاسمة، وكنت في عامي كان رفاقي يبدأون سنة دراسية

.الخامس والعشرين أبدأ حياتي األخرى استقبال )سي طاهر( لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن أية أذكر أن

دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار تفاصيل خاصة عن حياتي أو إليه. ظل يتأملني قبل أ، التحاقي بالجبهة، وال أي طريق سلكت ألصل

ه كان ينتظرني هناك منذ سنة .يحتضنني بشوق وكأن:قال ثم..!جئت-

:وأجبته بفرح وبحزن غامض معا!جئت-

ى في فرحته؛ فكنت كان ) سي الطاهر( هكذا أحيانا، يكون موجزا حت موجزا معه في حزني .أيضا

توفيت سألني بعدها عن أخبار األهل، وأخبار ) أما( بالتحديد، فأجبته أنها منذ ثالثة أشهر. وأعتقد أنه فهم كل شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي،

:شبيه بالدمع يلمع في عينيه وشيء - .رحمها الله، لقد تعذبت كثيرا

..تفكيره بعيدا إلى حيث ال أدري ثم ذهب في والتي رفع بها أمي إلى بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه،

مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن رأيت )سي الطاهر( يبكي سوى الشهداء من رجاله. وتمنيت طويال بعد ذلك أن أمدد جثمانا بين يديه، ألتمتع

.موتي بدمعة مكابرة في عينيه ولو بعد

أتفانى في إثبات ألكل هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت بطولتي له، وكأنني أريد أن أجعله شاهدا على رجولتي أ, على موتي؛

شاهدا على أنني لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك المرأة كانت أمي، وأخ يصغرني اختار له أبي مسبقا امرأة خلفي سوى قبر

.ستصبح أمه

Page 19: ذاكرة الجسد

ألقي بنفسي على الموت في كل مرة، وكأنني أتحداه أو كأنني أريد كنت رفاقي الذين تركوا خلفهم أوالدهم وأهلهم ينتظرون بذلك أن يأخذني بدل

.عودتهم..ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن يرفضني وكنت كل مرة أعود أنا

ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ وكان )سي طاهر( بعد أكثر من معركة بالمهمات األكثر تدريجيا يعتمد علي في المهمات الصعبة، ويكلفني

خطورة، تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة مالزم ألتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ القرارات

.يقتضيها كل ظرف العسكرية التي

التي كنت بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة.أحملها قد منحتني شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي

سعيدا وقد بلغت أخيرا تلك الطمأنينة النفسية التي ال تمنحنا وكنت آنذاك.الضمير إياها سوى راحة

لم أكن أعي أن طموحاتي ال عالقة لها بالمكتوب وأن القدر كان يتربص في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن ال شيء بعد اليوم يمكن أن بي

.السابق يعيدني إلى حزني وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب يوما

..كل شيء فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعدما

اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على وجه السرعة أجد نفسي من ضمن

العالج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي إلى الحدود التونسية للعالج. ولم يكن هناك من مجال اليسرى، الستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن

للنقاش أو التردد. كان النقاش فقط، حول الطرق اآلمنة التي يمكن أن.نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد الخلفية للمجاهدين

..آخر وها أنذا أمام واقع

ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك الليلية، ويخرجني من السرية إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست

ساحة لأللم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما. للموت وليست للحياة كالم )سي طاهر( يومها، يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحا من

.أنني قد ال أعود إلى الجبهة مرة ثانية

األخير، حاول )سي طاهر( أن يحافظ على نبرته الطبيعية، في ذلك اليوم قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان وراح كما كان يودعني كل مرة

.القدر يدري أنه يعدني لتحمل معركتي مع

غير أنه كان موجزا على غير عادته، ربما.. ألنه ليس هناك من تعليمات خاصة تعطى في هذه الحاالت.. وربما ألنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة

Page 20: ذاكرة الجسد

معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. بشرية ويفقد في جانب، قيمة كل مجاهد وحاجة الثورة وكان يدري، والثورة مطوقة من كل

.إلى كل رجل على حدة ..ذلك اليوم ولم أقل له شيئا

.كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيما مرة أخرى دمعتان قد تجمدتا في عيني. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي ينتقل كانت

ويستقر في حلقي غصة. غصة الخيبة واأللم.. تدريجيا إلى جسدي كله،.والخوف من المجهول

تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحى جديدا بين ساعة كانت األحداث وهو يعطي تعليماته األخيرة، كان يصل( وأخرى، ووحده صوت )سي طاهر

.العالم إلي حيث كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع

وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماما حضوره األخير، عندما جاء يتفقدني قبل سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض األوراق النقدية، وقال

وهو ينحني علي :وكأنه يودعني سرا تشفى لقد قدر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين"

وتسلم هذا المبلغ إلى )أما( لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضا أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ،

..".زيارتهم أتمكن من وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئا ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك

..ألول مرة االسم

عني.. لقد اخترت لها هذا السم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبلها".. (.."وسلم كثيرا على )أما

وأنا في لحظة نزيف بين كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته في الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم

..لحظة هذيان بكلمة..كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه

.غريق بحبال الحلم كما يتعلق.بين ألف األلم وميم المتعة كان اسمك

والم التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط.. تشطره حاء الحرقة الحرب. كيف لم أحذر اسما يحل الحرائق األولى، شعلة صغيرة في تلك

هذا االسم المفرد _ ضده ويبدأ بـ "أح" األلم واللذة معا. كيف لم أحذر !ليقتسم الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائما

:الوصية بين االبتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك

قبلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة"

Page 21: ذاكرة الجسد

.المصادفات

غلفت ثم أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائما، رجال مهيبا ال هموم له

..سوى هموم الوطن، وال أهل له غير رجاله

ه رجل ضعيف؛ يحن ويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود لقد اعترف لي أن الحياء، وسرا دائما. فليس من حق الرموز أن تبكي .شوقا

بها إنه لم يذكر أمك مثال.. تراه لم يحن إليها، هي العروس التي لم يتمتع .غير أشهر مسروقة من العمر وتركها حامال

ب قضية ولماذا هذا االستعجال المفاجئ؟ لماذا ال ينتظر بعض الوقت ليرتبتسجيلك؟ غيابه أليام، ويقوم هو نفسه

..بالذات لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا ال ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنا

أي قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟

. هذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب كلما طرحت على نفسي أن يهرب ليوم أو ليومين فقد كان بإمكان )سي طاهر( برغم مسؤولياته

ودورياتها إلى تونس. ولم تكن قضية عبور الحدود بحراستها المشددة وكمائنها لتخيفه، وال حتى اجتياز )خط موريس( المكهرب والمفروش

والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى الصحراء، باأللغام، بعد ثالث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات والذي اجتازه فيما

.امتداده المجاهدين الذين تركوا جثثهم على

أكان حب )سي طاهر( لالنضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عنده ذلك الشعور بالقلق بعد ميالدك، وهو يكتشف عاجزا أنه أب منذ شهور

اسما، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟ لطفلة لم يمنحها منه إن هو لم يرسخ أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويال، أن تضيعي

وجودك وانتسابك له على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟

يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحالمه في دار أكان تحولت إلى حقيقة.. وأن القدر لن يعود ليأخذها البلدية، ليتأكد من أنها

أن يصبح أبا كاآلخرين بعد محاولة زواج منه، هو الذي كان حلمه في النهايةفاشلة لم يرزق منها ذرية؟

إذا كان )سي الطاهر( في أعماقه يفضل لو كان مولوده صبيا.. وال أدري فيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك أدري فقط، كما علمت

لصبي،متجاهال احتمال مجيء أنثى. وربما فعل قبل سفره اسما احتياطيا دون أن يدري.. فقد كانت ذلك أيضا بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني

كثيرا ما سمعته أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالبا بتلك الجملة التي.."يرددها "الزمنا رجال يا جماعة

Page 22: ذاكرة الجسد

يبدو سعيدا ومتفائال في كل شيء في تلك( إذن، لهذا كان )سي طاهر..الفترة

.أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه. فجأة تغير الرجل الصلب شيء ما كان يتغير تدريجيا داخله، ويجعله أقرب إلى اآلخرين، وأكثر تفهما

.ألوضاعهم الخاصة بسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها فقد أصبح يمنح البعض

نفسه. لقد غيرته األبوة المتأخرة، إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها على..أجمل التي جاءت رمزا جاهزا لمستقبل

.معجزة صغيرة لألمل.. كانت أنت

مالك روايتي من شعري تواطؤ عن مأخوذة مميز بخط المكتوبة الجمل* .يجيب يعد لم األزهار رصيف" غزالة" و "سأهبك حداد

..طلع صباح آخر الذي يدخل وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه االعتيادي، وبضوئه المباغت

.النور إلى أعماقي غصبا عني، فأشعر أنه يختلس شيئا مني.اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج للشمس في هذه

قصتي معك شريط مصور أخاف أن يحرقه. أريد أن أكتب عنك في العتمة..السرية الضوء ويلغيه، ألنك امرأة نبتت في دهاليزي

..ألنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية.كل الستائر، وأغلق نوافذ غرفتي ال بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل

األوراق المكدسة أمامي، ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر لك مغلفة والتي مألتها البارحة، في ليلة نذرتها للجنون. فقد أهديتها

..بصورة مهذبة في كتاب

..وأدريك تكرهين األشياء ك أنانية جدا.. وأن ال شيء أدري أن المهذبة جدا.. وأن

.أنت.. وجسدك أنت يعنيك في النهاية، خارج حدودك.ولكن قليال من الصبر سيدتي

ي أمامك ذاكرتي األخرى. صفحات أخرى ال صفحات أخرى فقط.. ثم أعر وندما وجنونا. فالكتب كوجبات.. بد منها، قبل أن أمألك غرورا.. وشهوة

Page 23: ذاكرة الجسد

أعترف أن "المقدمات" الحب.. ال بد لها من مقدمات أيضا.. وإن كنت.القصة ليست مشكلتي اآلن بقدر ما يربكني البحث عن منطلق لهذه

من أين أبدأ قصتي معك؟ غير المتوقعة ومع مقالب ولقصتك معي عدة بدايات، تبدأ مع النهايات

.القدر كانت تحبو يوما عند وعندما أتحدث عنك.. عمن تراني أتحدث؟ أعن طفلة

امرأة قدمي.. أم عن صبية قلبت بعد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن تكاد تشبهك، أتأملها على غالف كتاب أنيق عنوانه "منعطف النسيان" ..

أتراها حقا.. أنت؟: وأتساءل

وعندما أسميك فبأي اسم؟ أراده والدك، وذهبت بنفسي ألسجله نيابة ترى أدعوك بذلك االسم الذي

الذي حملته خالل ستة عنه في سجالت البلدية، أم باسمك األول، ذلكأشهر في انتظار اسم شرعي آخر؟

"..حياة"

هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد أسمائك فقط.. سأدعوكك به إذن مادام هذا االسم الذي عرفتك به، واالسم الذي أنفرد فألسمين

وغير المسجل على صفحات بمعرفته. اسمك غير المتداول على األلسنة،.الكتب والمجالت، وال في أي سجالت رسمية

منحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي قتلته أنا ذات يوم، االسم الذي رسميا آخر، ومن حقي أن أحييه اليوم، ألنه لي ولم ينادك وأنا أمنحك اسما

.يه رجل قبلي

اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت منذ خمس وعشرين لفظته، عدت طفلة تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول سنة. وكلما

..لي كالما ال أفهمه.لك لحظتها كل خطاياك فأغفر

وإذا.. كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في حجم دمية.بك ابنتي

هل أقرأ كتابك ألعرف كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة إلى امرأة؟ني أعرف مسبقا أنك لن تكتبي عن طفولتك.. وال عن سنواتك األولى .ولكن

تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، وتتجاوزين الجراح أنت سر تعلقك بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة بالكذب، وربما كان هذا

ات قليلة في حياتك، من عمرك، وأعرف ذلك األب الذي لم تريه سوى مر أزقتها دون عشق، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها وال تسكنك، وتعاملين

.وتمشين وتجيئين على ذاكرتها دون انتباه

Page 24: ذاكرة الجسد

تعلقت بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي تعلقت بك ألنسى ما أنت التيممكنا لحبنا أن يدوم؟ كنت أعرفه.. أكان

عندما ال نتحدث كان )سي طاهر( طرفا ثالثا في قصتنا من البدء حتىد بك؟ عنه، كان بيننا حاضرا بغيابه، فهل أقتله مرة ثانية ألتفر

ى بعد ربع قرن، وما أوجع آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حت الشهوة التي يواجهها أكثر من مستحيل وأكثر من مبدأ فال يزيدها في

!اشتهاء ... النهاية إال

..كان السؤال منذ البداية ذاكرتي، وألغي عمره من عمري، ألمنح كيف لي أن ألغي )سي طاهر( م

حبنا فرصة والدة طبيعية؟ سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا المشتركة وحولتك ولكن.. ما الذيإلى فتاة عادية؟

.رفيقا فوق العادة .. وقائدا فوق العادة كان والدكفهل أنسى ذلك؟. كان استثنائيا في حياته وفي موته

مستقبلهم، لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة األخيرة، لضمنوا ( وأبطال المعارك األخيرة. وال كان من شهداء المصادفة،62مجاهدي )

.فاجأهم الموت في قصف عشوائي، أو في رصاصة خاطئة الذين

ومن عجينة العربي بن مهيدي، ومصطفى بن كان من طينة ديدوش مراد،.ينتظرون أن يأتيهم بولعيد، الذين كانوا يذهبون إلى الموت وال

حيا وشهيدا؟ فهل أنسى أنه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد السمه هيبته حدثني... "فيرتبك القلب الذي أحبك حد الجنون. ويبقى صدى سؤالك مائال

.."عنه

جاهز سأحدثك عنه حبيبتي.. فال أسهل من الحديث عن الشهداء. تاريخهم ومعروف مسبقا كخاتمتهم. ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد

.أخطاء ارتكبوا من(..سأحدثك عن )سي طاهر

تاله تاريخ آخر يصادر األحياء. فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما تلقائيا.. فهناك عالمات وسيكتبه جيل لم يعرف الحقيقة ولكنه سيستنتجها

.ال تخطئ شيء في يده غير مات )سي طاهر( طاهرا على عتبات االستقالل. ال

سالحه. ال شيء في جيوبه غير أوراق ال قيمة لها.. ال شيء على أكتافه.سوى وسام الشهادة

..الرموز تحمل قيمتها في موتها يحملون قيمتهم في رتبهم وأوسمتهم ووحدهم الذين ينوبون عنهم،

.سرية الشرفية، وما مألوا به جيوبهم على عجل من حسابات

Page 25: ذاكرة الجسد

ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف المركز لدشرة بأكملها ليتمكن قتلته من نشر صورته على صفحات جرائد الغد كدليل على

قة" الذين أقسمت فرنسا انتصاراتهم الساحقة على أحد المخربين و "الفال..أن تأتي عليهم

موت ذلك الرجل البسيط انتصارا لقوة عظمى، كانت ستخسر أكان حقا!بأكملها؟ بعد بضعة أشهر الجزائر

.ثماره ، دون أن يتمتع بالنصر وال بقطف1960استشهد هكذا في صيف ها هو رجل أعطى الجزائر كل شيء، ولم تعطه حتى فرصة أن يرى ابنه

..جواره يمشي إلى.أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم

!الرجل كم أحبك ذلك

بجنون أبوة األربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف صرامته الكثير من الحنان، بأحالم الذي صودرت منه األحالم، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو

.األول، أنه لن يموت تماما بعد اليوم يرى مولده

يحضر فيها إلى تونس لزيارتكم مازلت أذكر المرات القليلة التي كان.خلسة ليوم واحد أو ليومين

متلهفا لسماع آخر األخبار، وتطورات األحداث على وكنت وقتها أسرع إليه نفسه حتى ال أسرق منه تلك الجبهة. وأنا أجهد نفسي في الوقت

برفقة عائلته الساعات القليلة النادرة، التي كان يغامر بحياته ليقضيها.الصغيرة

.أعرفه كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رجال آخر ال رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة يسهل له فيها

.ركبته طوال الوقت لمالعبتك إجالسك على

الشحيح كل قطرات كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن السعادة؛ وكأنه يسرق من العمر مسبقا، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك

.مسبقا من الحنان زادك لعمر كامل وكان حضر ليشهد أهم. 1960كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة

أمنيته حدث في حياته؛ ليتعرف على مولوده الثاني "ناصر"، فقد كانت السرية أن يرزق يوما بكر. يومها لسبب غامض تأملته كثيرا.. وحدثته

قليال.. وفضلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة. وعندما عدت في الغد، قيل لي إنه عاد إلى الجبهة على عجل مؤكدا أنه سيعود قريبا

.لمدة أطول..يعد ولم

انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد )سي طاهر( بعد بضعة.أن يتمكن من رؤية ابنه مرة ثانية أشهر دون

Page 26: ذاكرة الجسد

.تدخلين عامك الخامس كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت

وتتقاطع مع. بركانا يموت ويولد كل يوم1960وكان الوطن في صيف ..موته وميالده، أكثر من قصة، بعضها مؤلم وبعضها مدهش

.متأخرا كما جاءت قصتي التي تقاطعت يومها معك وبعضها يأتي مسار حياتي بعد عمر بأكمله، بحكم قصة فرعية، كتبت مسبقا وحولت

.. شيء قد يكون اسمه القدر، وقد يكون العشق الجنوني.السابقة ذاك الذي يفاجئنا من حيث ال نتوقع، متجاهال كل مبادئنا وقيمنا

وإذا به والذي يأتي متأخرا.. في تلك اللحظة التي ال نعود ننتظر فيها شيئا؛.يقلب فينا كل شيء

الكالم، أن أقاوم هذه فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا األيام جسور ودونك، بعد الرغبة الجنونية لكتابة هاتين القصتين معا، كما عشتهما معك

..ذلك بسنوات

.وخيبة.. وفجائع حد الموت.. رغبة.. وعشقا.. وحلما.. وحقدا.. وغيرة

..إلي أنت التي كنت تحبين االستماع.وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة

سعا من كان ال بد أن أكتب من أجلك هذا الكتاب، ألقول لك ما لم أجد مت.العمر ألقوله

.أحبوك ألسباب مختلفة، وخنتهم ألسباب مختلفة أخرى سأحدثك عن الذين

ين الحديث عنه وتراوغين؟ سأحدثك حتى عن زياد، أما كنت تحب

.اختار كل منا قدره لم يعد من ضرورة اآلن للمراوغة.. لقد

أصبحت بعد سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفا في حبنا، والتي.ذلك سببا في فراقنا، وانتهي فيها مشهد خرابنا الجميل

ستتحدثين؟ فعم تراكا أحببت؟ ا تراك كتبت؟ من من عن أي رجل من

ستقتلين؟ ومن.. منا ولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حبا بحب، وذاكرة بأخرى،

ومستحيال بمستحيل؟وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟

األولى، ألنني أقرب إلى النسخة األولى؟ تراني أشغل المكانة التي لم يحولها االستشهاد إلى تراني النسخة المزورة لـ )سي طاهر( تلك

نسخة طبق األصل؟المزور؟ تراني األبوة المزورة.. أم الحب

.جهد أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير األوراق وقلبها.. دون

Page 27: ذاكرة الجسد

:كان "مونتيرالن" يقولك تكرهه: أنت تعهر إذا كنت عاجزا عن قتل من تدعي كراهيته،" فال تقل إن

!".هذه الكلمة

اللحظة أكرهك، وأنه كان ال بد أن أكتب دعيني أعترف لك أنني في هذه..أسلحتك هذا الكتاب ألقتلك به أيضا. دعيني أجرب

فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدسات محشوة بالكلمات.القاتلة ال غير؟

ولو كانت الكلمات رصاصا أيضا؟ني لن أستعمل معك .مسدسا بكاتم صوت، على طريقتك ولكن

.كل هذه االحتياطات ال يمكن لرجل يحمل السالح بعد هذا العمر، أن يأخذ..أريد لموتك وقعا مدويا قدر اإلمكان

أكثر من شخص، كان ال بد أن يجرؤ أحد على إطالق النار فأنا أقتل معك .عليهم يوما الكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكفين عن كتابة الروايات فاقرأي هذا

.الوهمية..من جديد وطالعي قصتنا

دهشة بعد أخرى، وجرحا بعد آخر، فلم يحدث ألدبنا التعيس هذا، أن عرف..قصة أروع منها

.وال شهد خرابا أجمل

الثاني الفصل

..كان يوم لقائنا يوما للدهشة القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف األول. أليس لم يكن

مدن أخرى، من زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في هو الذي أتى بنا منللرسم؟ قاعة بباريس، في حفل افتتاح معرض

.صعيد يومها كنت أنا الرسام، وكنت أنت زائرة فضولية على أكثر من

لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه التحديد. وال كنت أنا رجال يشعر بضعف تجاه الفتيات الالئي يصغرنه عمرا. فما الذي قاد خطاك هناك ذلك

الذي أوقف نظري طويال أمام وجهك؟ اليوم؟.. وما

وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا، كنت رجال تستوقفه الوجوه، ألن وجوهنا.وجه ولذا كنت قادرا على أن أحب أو أكره بسبب

Page 28: ذاكرة الجسد

وبرغم ذلك، لست من الحماقة ألقول إنني أحبتك من النظرة األولى..أقول إنني أحبتك، ما قبل النظرة األولى يمكنني أن

إلى مالمحك المحببة إلي كان فيك شيء ما أعرفه، شيء ما يشدني مستعدا منذ األزل مسبقا، وكأنني أحببت يوما امرأة تشبهك. أو كأنني كنت

.ألحب امرأة تشبهك تماما وثوبك األبيض المتنقل من لوحة إلى كان وجهك يطاردني بين كل الوجوه،

..أخرى، يصبح لون دهشتي وفضولي

الذي يؤثث وحده تلك القاعة المألى.. بأكثر من زائر وأكثر من واللون.لون

!_الحب أيضا من لون لم نكن نحبه بالضرورة هل يولد- وراح يتحدث بالفرنسية مع فتاة أخرى وفجأة اقترب اللون األبيض مني،

..لم أالحظها من قبل

ما ألن األبيض عندما يلبس شعرا طويال حالكا، يكون قد غطى على كل رب..األلوان

:وهو يتأمل لوحة قال األبيض

-Je prefere l'abstrait!..

:له وأجاب اللون الذي ال لون

-moi je prefere comprendre ce que je vois.

اللون الذي ال لون له، عندما يفضل أن يفهم كل ما ولم تدهشني حماقة..يرى

!األبيض فقط.. فليس من طبعه أن يفضل الغموض أدهشني اللون

.انحزت للون األبيض قبل ذلك اليوم، لم يحدث أن.الحاسمة لم يكن يوما لوني المفضل.. فأنا أكره األلوان

.ولكنني آنذاك انحزت إليك دون تفكير:وكأنني أواصل جملة بدأتها أنت ووجدتني أقول لتلك الفتاة،

!ما نفهمه الفن هو كل ما يهزنا.. وليس بالضرورة كل-

عيناك نظرتما إلي معا بشيء من الدهشة، وقبل أن تقولي شيئا، كانت تكتشفان في نظرة خاطفة، ذراع جاكيتي الفارغة والمختبئ كمه بحياء في

.سترتي جيب

Page 29: ذاكرة الجسد

.كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية

:مصافحة وقلت بحرارة فاجأتني مددت نحوي يدك

..المعرض كنت أريد أن أهنئك على هذا-

وقبل أن تصلني كلماتك.. كان نظري قد توقف عند ذلك السوار الذي.يزين معصمك العاري الممدود نحوي

ذهبها األصفر المضفور، ومن كان إحدى الحلي القسنطينية التي تعرف من الماضي، جهاز نقشتها المميزة. تلك "الخالخل" التي لم يكن يخلو منها في

.عروس وال معصم امرأة من الشرق الجزائري

أرفع عيني تماما عنه. وفي عمر لحظة، عادت مددت يدي إليك دون أن أما( الذي لم يفارقه هذا السوار )ذاكرتي عمرا إلى الوراء. إلى معصم

.قط

نظري سوار كهذا؟ وداهمني شعور غامض، منذ متى لم يستوقفما منذ أكثر من ثالثين سنة !لم أعد أذكر.. رب

ما دون أن أدري، بكثير من اللباقة سحبت يدك التي كنت أشد عليها رب.استعدته فجأة وكأنني أمسك بشيء ما،

..وابتسمت لي

.رفعت عيني نحوك ألول مرة.في نصف نظرة تقاطعت نظراتنا

.كنت تتأملين ذراعي الناقصة، وأتأمل سوارا بيدك..ذاكرته فوقه كان كالنا يحمل

وكان يمكن لنا أن نتعرف على بعضنا بهذه الطريقة فقط. ولكن كنت لغزا ال تزيده التفاصيل إال غموضا. فرحت أراهن على اكتشافك. أتفحصك

.مرتبكا.. كأنني أعرفك وأتعرف عليك في آن واحد مأخوذا

.الذي يبهر، ذلك الجمال الذي يخيف ويربك لم تكوني جميلة ذلك الجمال

عادية، بسر ما يكمن في مكان ما من كنت فتاة عادية، ولكن بتفاصيل غيرما في جبهتك العالية وحاجبيك السميكين والمتروكين على وجهك.. رب

المرسومتين استدارتهما الطبيعية. وربما في ابتسامتك الغامضة وشفتيك.بأحمر شفاه فاتح كدعوة سرية لقبلة

.ولونهما العسلي المتقلب أو ربما في عينيك الواسعتين..وكنت أعرف هذه التفاصيل

:وجاء صوتك بالفرنسية يخرجني من تفكيري قلت أعرفها.. ولكن كيف؟

Page 30: ذاكرة الجسد

..هذه القمة من اإلبداع يسعدني أن يصل فنان جزائري إلى- :ثم أضفت بمسحة خجل

كثيرا في الرسم، ولم أزر إال نادرا معارض فنية، في الحقيقة.. أنا ال أفهم- الجميلة، ولوحاتك شي مميز.. كنا في ولكن يمكنني أن أحكم على األشياء

كهذه... لقد كنت أقول هذا حاجة إلى شيء جديد بنكهة جزائرية معاصرة.البنة عمي عندما فاجأتنا

مني لتصافحني، وتقدم لي نفسها، وكأنها بذلك وعندما تقدمت تلك الفتاة الذي وجدت نفسها خارجه بعدما ستصبح طرفا في وقفتنا، وذلك الحوار

..تجاهلتها منذ البدء دون أن أدري

:تعرفني بنفسها قالت وهي

..اآلنسة عبد المولى. إني سعيدة بلقائك-

.لسماع ذلك االسم انتفضت شيء ونظرت مدهوشا إلى تلك الفتاة التي صافحتني بحرارة ال تخلو من

..من الغرور تفحصتها وكأنني أكتشف وجودها، ثم عدت ألتأملك عساني أجد في

.مالمحك جوابا لدهشتي..عبد المولى.... عبد المولى..جواب لتلك المصادفة وراحت الذاكرة تبحث عن

.كنت أعرف عائلة عبد المولى جيدا أحدهما )سي طاهر( استشهد منذ اكثر من عشرين. إنهما أخوان ال أكثر

.سنة، وترك صبيا وبنتا فقط سي الشريف( تزوج قبل االستقالل، و قد يكون له اليوم عدة أوالد )واآلخر..وبنات منكما ابنة )سي الطاهر(... تلك التي حملت اسمها وصية من الجبهة فمن

أبيها في دار البلدية، لتسجيلها رسميا في سجل حتى تونس.. ونبت عنالوالدات؟

التي قبلتها نيابة عن أبيها، وال عبتها ودللتها نيابة من منكما تلك الصغيرةعنه؟

أنت؟... من منكما

ك أنت.. ال .تلك وبرغم بعض الخطوط المشتركة لمالمحكما، كنت أشعر أن.بك أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل األوان بقرابة ما تكون جمعتني

وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريرا لوجهك المحبب إلي مسبقا..كنت نسخة عن )سي طاهر(، نسخة أكثر جاذبية لقد

.كنت أنثى

Page 31: ذاكرة الجسد

تكوني أنت الطفلة التي رأيتها آلخر مرة في تونس سنة ولكن.. أيعقل أن رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع ( غداة االستقالل، عندما1962)

سي الشريف( من )بنفسي تفاصيل عودتكم إلى الجزائر؟ بعدما اتصل بي قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد هناك ضرورة لوجوده،

والذي اشتراه )سي الطاهر( منذ عدة سنوات ليهرب إليه أسرته الصغيرة، فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أشهر من عندما أبعدته

.السياسي السجن قضاها بتهمة التحريض

كم كان عمرك وقتها؟ إلى هذا الحد.. خالل أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحد.. وكبرت

!عشرين سنة؟

بعمرك، وربما أرفض رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف أن أعترف بعمري وبالرجل الذي أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي

.اليوم غابرا

الزمن وهذا ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعة في هذااليوم بالذات؟

..يوم انتظرته طويال لسبب ال عالقة له بك..ألف حساب لم تكوني ضمنه وحسبت له

.مفاجأتي وتوقعت فيه كل المفاجآت إال أن تكوني أنت

فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك اللتين كانتا تتابعان بشيء من الدهشة ارتباكي. فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا

األخرى التي قدمت لي نفسها. كنت أعرف أنني أواصل حديثي مع الفتاة .من منكما.. أنت إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائيا

فقد كان إلحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين سنة، وعلي فقط أن.أتعرف على صاحبته

:سألتها

المولى؟ هل لديك قرابة بسي الشريف عبد- :أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني

عليه الحضور اليوم بسبب وصول وفد من الجزائر إنه أبي.. لقد تعذر- أثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قررنا أن البارحة.. لقد حدثنا عنك كثيرا. وقد

!نأتي مكانه اليوم لحضور االفتتاح

كالم تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. األول أنها لم تكن كان(.تخلف )سي الشريف أنت، والثاني سبب

أم كنت الحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع شخصيا،

Page 32: ذاكرة الجسد

سياسيا.. أم تراه كان لسبب ما يتحاشى الظهور معي؟

تقاطعت منذ سنين عندما دخل دهاليز اللعبة كنت أدري أن طرقنا الصفوف األمامية. ورغم ذلك السياسية، وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى

. لم يكن بإمكاني أن أتجاهل وجوده معي في المدينة نفسها فقد كان جزءا.من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي

محض، كان الشخصية الجزائرية الوحيدة التي ولذا، وألسباب عاطفية.دعوتها

ن، لم ألتق به منذ عدة سنوات، ولكن أخباره كانت تصلني دائما منذ عي الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب قبل سنتين، ملحقا في السفارة

.العريضة "الخارجية"، يتطلب كثيرا من الوساطة واألكتاف

وكان بإمكان )سي الشريف( أن يشق طريقه إلى هذا المنصب وألهم منه بماضيه فقط، وباسمه الذي خلده سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن

كافيا بمفرده لضمان الحاضر، وكان عليه أن يتأقلم مع الماضي لم يكن..للوصول كل الرياح

خطر ببالي كل ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع كل المفاجآت واالنفعاالت التي هزتني في بضع لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت

فتاة جميلة تزور معرضي ال غير.. فإذا بي أسلم على أن أسلم على!ذاكرتي

..األولى معك وعدت إلى دهشتي اللوحة إلى كل التفاصيل األولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك

بالذات التي توقفت طويال أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من.مكتوب.. أكثر من مصادفة

..أنت لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على

بيدك لتتعرفي على عند بعضها اآلخر، وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيهأسماء اللوحات التي تلفت نظرك األكثر؟

..أنت أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو األضواء الموجهة تراك

.موجهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة األصلية نحو اللوحات، وكأنها

..أنت إذن صغيرة لم تستوقف أحدا. تتأملينها بإمعان أكبر، تتوقفين أمام لوحة

.اسمها في قائمة اللوحات تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن

Page 33: ذاكرة الجسد

الرسام ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول..المجنون داخلي

لي..؟ من تكونين، أنت الواقفة أمام أحب لوحاتي رحت أتأملك مرتبكا وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كالما ال يصلني

.شيء منهما الذي أوقفك أمامها؟

لوحتي األولى وتمريني لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت..األول في الرسم فقط

حاضرة في معرضي األهم هذا، ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون.ألنني اعتبرتها برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة

منذ خمس وعشرين سنة، وكان مر على بتر ذراعي اليسرى أقل رسمتها.من شهر

لإلبداع وال لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، لم تكن محاولة والخروج من اليأس. رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظرا

:ليجيب على ورقة األستاذ

".إلى نفسك ارسم أقرب منظر"

بعض إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسالفي الذي قدم مع األطباء من الدول االشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين،

على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية والذي أشرف.والنفسية فيما بعد

يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يالحظ كان.المستمر إحباطي النفسي

لم أكن مريضا ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، وال كنت معافى بمعنى.ألبدأ حياتي الجديدة الكلمة

كنت أعيش في تونس، ابنا لذلك الوطن وغريبا في الوقت نفسه؛ حرا.ومقيدا في الوقت نفسه؛ سعيدا وتعيسا في الوقت نفسه

الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. كنت الرجل يجد رأس الخيط الذي يحل به كل فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن

عقدي؟

ثقافتي، هل كنت أحب الكتابة أو وعندما سألني ذات مرة، وهو يكتشف من الغرق، الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني أتمسك بقشه قد تنقذني

.وأدركت فورا الوصفة الطبية التي كان يعدها لي

:قال العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرات على إن-

Page 34: ذاكرة الجسد

الحرب ساقا أو ذراعا، وإذا كانت العملية ال جرحى كثيرين فقدوا في شخص إلى آخر، حسب عمر تختلف، فإن تأثيرها النفسي يختلف من

الثقافي، المريض ووظيفته وحياته االجتماعية.. وخاصة حسب مستواه فوحده المثقف يعيد النظر في نفسه كل يوم، ويعيد النظر في عالقته مع

..العالم ومع األشياء كلما تغير شيء في حياته

هذا الميدان. لقد مرت بي أكثر من حالة لقد أدركت هذا من تجربتي في قد أخل بعالقتك بما هو من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك ذراعك

الكتابة أو حولك. وعليكم أن تعيد بناء عالقة جديدة مع العالم من خالل..الرسم

قيود كل ما عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون يدور في ذهنك. وال تهم نوعية تلك الكتابات وال مستواها األدبي.. المهم

..الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي

الرسم فارسم.. الرسم أيضا قادر على أن يصالحك مع وإذا كنت تفضل نظرك، ألنك أنت تغيرت وأصبحت األشياء ومع العالم الذي تغير في..تشاهده وتلمسه بيد واحدة فقط

أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحب الكتابة، وأنها األقرب وكان يمكن أن أفعل شيئا طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي إلى نفسي، مادمت لم

.تلقائيا إلى الكتابة أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائما بمستقبل ناجح.. في كان يمكن

!الفرنسي األدب ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزا

:في أعماقي..أفضل الرسم-

..قبل اليوم لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت..".قلت: "ال

..".شي إليك قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحب

: "وعندما ودعني قال بسخرية األطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة!".ارسم.. فقد ال تكون في حاجة إلي بعد اليوم

أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران عدت يومها إلى غرفتي مسرعا الحبيب ثامر" الذي كان "البيضاء، التي كانت استمرارا لجدران مستشفى.تونس حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه األكثر في

رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما أن أعلق عليها من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحب.. كل يمكن

.تركته خلفي هناك األزقة التي أحب.. كل ما

Page 35: ذاكرة الجسد

الطبيب يحضرني نمت في تلك الليلة قلقا، وربما لم أنم. كان صوت ذلك بفرنسيته المكسرة ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشد على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة جسدي وأنا

سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه السالم على أتذكر في غفوتي أول النبي مرتعدا من الرهبة.. "ماذا محمد ألول مرة فقال له "اقرأ" فسأله

يقرأ عليه أول أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وراح سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي إلى زوجته وجسده يرتعد من هول

...".ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني

برجفة الحمى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها كنت ذلك المساء أشعر اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر توتري النفسي يومها، وقلقي بعد ذلك

الخفيف الذي كان لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضا بسبب ذلك الغطاء غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري

.البخيل غيره

التي وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية كانت غطائي في مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي..

قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئا ليلتها، ال لقسنطينة وال "دثريني البائس. احتفظت بحماي وبرودتي لنفسي. صعب على لصاحب الغرفة

..حتى لنفسه بالبرد رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف

أوراق نقدية انتظرت فقط طلوع الصباح ألشتري بما تبقى في جيبي من ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو ثالث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم

..الحبال" في قسنطينة "قنطرة

ألرسمه وكأنني أكان ذلك الجسر أحب شيء إلي حقا، ألقف بتلقائيةوقفت ألجتازه كالعادة؟ أم تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟

..أدري ال أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة ألول

.وكأنه أحب شيء لدي كل مرة. مرة

كثير من التفكير خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون "حنين". لوحة لشاب في السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته

.وبحزنه وبقهره

قرن وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من

.االستثنائية االنتصارات

على ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم اإلطالق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم

Page 36: ذاكرة الجسد

.على بطاقات دعوة االفتتاح بحروف بارزة

خريف في غرفة صغيرة ها أنا اليوم... نبي صغير نزل عليه الوحي ذات.بائسة، في شارع "باب سويقة" بتونس

كالعادة.. وكيف ال وال كرامة لنبي في وطنه؟ ها أنا نبي خارج وطنه العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف ال وقدر ذي

يكون جبارا ولو بفنه؟..ها أنا ذا

ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت فأين هو اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك

فيها لوحاته قبلي. أين هو الشاسعة التي لم يسبق ألي عربي أن عرض..الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيد واحدة

!الذي لم أسأله يوما ماذا فعل بيدي األخرى ذلك

( توقيعي57وجوار تاريخ رسمها )تونس وها هي "حنين" لوحتي األولى، وضعته أسفل اسمك، الذي وضعته ألول مرة أسفل لوحة. تماما كما

، وأنا أسجلك في دار1957وتاريخ ميالدك الجديد، ذات خريف من سنة ..البلدية ألول مرة

بالي ذلك من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على..اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة ألول مرة

تكبرينها _ رسميا _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع.. لوحة في عمرك.ببضعة أشهر ال غير

كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة ألبدأ معها مغامرة لوحة أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع الرسم.. ومرة يوم وقفت

...القدر

على مفكرة مألى بمواعيد وعناوين ال أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية األيام. قبل ذلك1981اليوم: نيسان ذلك

.سنواتي الماضية ما يستحق التميز اليوم، لم أجد في ال تستحق الذكر. فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي مألى بمسودات

وكنت امألها غالبا كي ال أتركها بيضاء، فقد كان اللون األبيض يخيفني دائما.عندما يكون على مساحة ورق

فيها ما يستحق الدهشة. جميعها ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن غربة كنت أحاول. صفحة واحدة لمفكرة واحدة ال تاريخ لها سوى الغربة

أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني

Page 37: ذاكرة الجسد

مفكرات ال غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق األخرى... تواريخها الميالدية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات مسجلة ال حسب

.االختيارية هجرتي

الدائرة. أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك.كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى األبد

كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفا يديك. وكنت أعي وقتها تماما أن للذاكرة؛ كأنه سيكون ميالدي اآلخر على

الوالدة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون .سهال

يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب تكن

لقائنا األول أو صدفتنا األولى تلك.. وبأي مبرر وبأية منك رقم هاتفك في تبدو ملفقة عندما يطلب رجل من فتاة حجة سأفعل ذلك، وكل األسباب

جميلة رقم هاتفها؟

الجلوس إليك.. في التحدث واالستماع إليك.. كنت أشعر برغية في ولكن كيف أقنعك بذلك؟. عساني أتعرف على النسخة األخرى لذاكرتي

كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه ألول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير

..فال أملك إال أن أجيبك بنفس كالم الغرباء بالجمع.. الجمع

على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة ال أعرفها.. كانت الكلمات تتعثر يومها عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة بلغة ال تعرف شيئا عنا. أيعقل بعد

..فرنسية محايدة

-Mais comment allez-vous mademoiselle?

:فتردين علي بنفس المسافة اللغوية

-Bien.. je vous remercie..

.وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة الحتضانك، وسؤالك تكاد

..افتقدتها بلهجة قسنطينيةواشك..؟-

ي كيف أنت أيتها.. آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة من الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في

معصمها سوارا كان ألمي؟

Page 38: ذاكرة الجسد

مالمح )سي الطاهر( دعيني أضم كل من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد طلتك. في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في

ما أجمل أن تعود أمي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في!أن تكوني أنت.. هي أنت مقدمك. وما أجمل

..أتدرين الجمال.. رغب في إذا صادف اإلنسان شيء جميل مفرط في)

..(البكاء.ومصادفتك أجمل ما حل بي منذ عمر

كل هذا مرة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا األعين كيف أشرح لكواألسماع؟

مشتاقا إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك كيف أشرح لك أنني كنتدون أن أصدق ذلك؟

.نلتقي وأنه ال بد أن..أجمع حصيلة ذلك اللقاء األول

فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت أستبقيك حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن

.بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث

شغفك بالفن.. كنت على استعداد لمناقشتي كنت سعيدا وأنا أكتشف للجدل. وأما أنا فكنت طويال في كل لوحة، كان كل شيء معك قابال

شهيتي لحظتها ال أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير.للكالم

مع وألنه لم يكن في الوقت متسع ألسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثالث عن عالقاتي القديمة بأبيك.. وعن

!وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك.. طفولتك األولى

االقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات اخترت جملي بكثير من.بثقل الصمت الذي لم تمأله الكلمات كثيرا من نقط االنقطاع.. إلشعارك

.في يوم واحد على عجل لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك ثانية. كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي

وعندما سألتني "هل ستكون موجودا هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة أنني نجحت في

:عالقة له بزالزلي الداخلية ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي ال

أضفت وأنا أكتشف أن سأكون هنا بعد الظهر في أغلب األحيان.." ثم":جوابي قد ال يشجعك على زيارة قد أكون غائبا عنها

األرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع ومن"..".واألصدقاء الصحافيين

كان في ذلك الكالم شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطرا

Page 39: ذاكرة الجسد

للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول أال أجعلك تعودين عن.ما قرارك لسبب

:قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة األصدقاء القدامى المعرض يوم االثنين القادم.. إنه اليوم الذي ال دروس لي قد أعود لزيارة"

اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث فيه. في الحقيقة أنا حضرت..".إليك أكثر

تعتذر، وربما تتحسر ألنها لن تكون طرفا في ذلك تدخلت ابنة عمك، وكأنها:اللقاء

األكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، خسارة.. إنه اليوم":آخر." ثم التفت نحوي سائلة ولكن قد أعود أنا أيضا في يوم

"متى ينتهي المعرض؟":قلت

..".أي بعد عشرة أيام.. نيسان25في ":صاحت

.."عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى".الصعداء تنفست

.أسهل المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كل شيء

.تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي..دعوة لشيء ما كان في عينيك

..كان فيهما وعد غامض بقصة ما المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ

.بسببهما عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بشال وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون األبيض يوليني ظهره ملتفا

شعره األسود.. ويبتعد عني تدريجيا ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء.لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى األمر رأيتك أم

جئت.. ضوءا يشق الطريق انبهارا عند مروره.. غادرت القاعة إذن مثلما.قدومه متألقا في انسحابه كما في

.يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيال من مشاريع األحالم

الذي أعرفه عنك؟ ما نفسي أنك شيئان أو ثالثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، ألقنع

لم تكوني "نجما مذنبا" عابرا كذاك الذي يضيء في األمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه

"!النجم الهارب.. "في قواميس الفلك

بهذه ال.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة

Page 40: ذاكرة الجسد

السهولة. أعرف على األقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا في السنة األخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع للدراسات، وأنك

في باريس أي منذ سنتين. معلومات سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عين.طريقة قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية

ال كانت األيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم االثنين تبدو طويلة وكأنها تنتهي. وكنت بدأت في العد العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها

أعد األيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم االثنين. تارة أعدها القاعة، رحت أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن فتبدو لي أربعة

فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على ينتهي، واالثنين الذي سأراك فيه،.واألحد التحمل، إنها يومان فقط هما السبت

والسبت ثم أعود فأعد الليالي.. فتبدو لي ثالث ليال كاملة، هي الجمعة واألحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقا طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك

:الشعري القديم الذي لم أصدقه من قبل البيت

عشت دهرا ال أعد اللياليا أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد

استبدال مقاييسنا الخاصة، ترى أهكذا يبدأ الحب دائما، عندما نبدأ في عالقة لها بالمقاييس المتفق عليها، وإذا بالزمن فترة من العمر، ال

بالوقت؟

متأخرة كما في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل القاعة. جاءت كنت أتوقع. أنيقة كما كنت أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله

:كفراشه. قالت وهي تضع قبلة على خدي

الطريق كالعادة في مثل هذا لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في- .الوقت

لباريس. وكانت المواصالت تتضاعف كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية باريس وضواحيها، والتي في نهاية األسبوع، في تلك الطرقات الرابطة بين

اللقاءات لم يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في األماكن العامة. ربما

يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، تخجل أن!وينقصها بذراع

تحب أن تلتقي بي، ولكن دائما في بيتي أو بيتها، بعيدا عن األضواء، كانت العيون، هنالك فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفها وبعيدا عن

لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو معي. ويكفي أن ننزل معا.همها الوحيد أن نعود إلى البيت عليها شي من االرتباك والتصنع، ويصبح

يكفينا من األكل لقضاء وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقا ما

Page 41: ذاكرة الجسد

كان ذلك أوفر. يوم أو يومين معا. لم أعد أناقشها وال أقترح عليها شيئاوأكثر راحة لي، فلماذا كل هذا الجدل؟

من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة قالت كاترين بصوت أعلى على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها :جميعا

.برافو خالد، أهنئك.. رائع كل هذا.. أيها العزيز-

شيئا ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف اآلخرون تعجبت.حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل أنها صديقتي أو

الحشد من الشخصيات الفنية ما الذي غير سلوكها فجأة، هل منظر ذلك المكان، أنها والصحافيين الذين حضروا االفتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا

كانت منذ سنتين تضاجع عبقريا دون أن تدري، وأن ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعدا فنيا فريدا ال عالقة له

الجمالية؟ بالمقاييس

اكتشفت لحظتها، أنني خالل الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع.واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إال في قاعات العرض

كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن في تلك اللحظات التي األولى لالستقالل.. وقتها كان تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات

الناس. كانوا للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين يوحون باالحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالبا بتقديم أي

.شرح وال أي سرد لقصتك

.تفسير كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أي

بحياء اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل

.لهم من ال ماضي

.يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب ليس هذا

المنتفخة. ولذا كثيرا ما للبدالت األنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المقهى تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي

وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كل.تسرد عليهم قصتك مرة أن

الشفاه من كل العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤاال واحدا تخجل".طرحه: "كيف حدث هذا؟

Page 42: ذاكرة الجسد

بيدك الفريدة الذراع المعلقة ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك:العبارة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك

..".أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل" لك. شي من العزة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضل ال ليست هذه األماكن.واحدة البقاء واقفا معلقا بيد

إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما.كانت على يدك

.أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا..عجيبة ها أنت أمام جدلية

تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جروحك. وتنتمي لوطن، يحترم ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. جراحك

التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟ وأنت الذاكرة المعطوبة

السابق. كنت أهرب منها بالعمل أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في.الدائم فقط، والخلق المتواصل، وذلك األرق الداخلي

كان داخلي شيء ال ينام، شيء يواصل الرسم دائما وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش أليام رجال عاديا بذراعين، أو

..رجال فوق العادة باألحرى األشياء بيد رجال يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس

.واحدة

للفرجة على ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلق الجدران. تتفحصه العيون وتفسره األفواه كيفما شاءت.. وال أملك إال أن

أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قوال ساخرا":كونكور "لـ

!".متحف ال شي يسمع الحماقات األكثر في العالم.. مثل لوحة في"

:جاء صوت كاترين خافتا وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة..إنني أرى هذه اللوحات وكأنني ال أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة.. عجيب-

:وأنا أواصل فكرة سابقة كدت أجيبها

األشخاص. إنهم إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضا.. إنها تماما مثل"!"يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت األضواء

.هذا ولكنني لم أقل لها:قلت لها فقط

Page 43: ذاكرة الجسد

ندللها ونمسح اللوحة أنثى كذلك.. تحب األضواء وتتجمل لها، تحب أن- به... الغبار عنها، أن نرفعها عن األرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطيها

..بها تحب أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها األعين حتى ولو لم تكن معجبة

..إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل ال غير:قالت وهي تفكر

صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه األفكار؟ أتدري أنني أحب االستماع- .كيف ال نجد أبدا وقتا للحديث عندما نلتقي إليك؟ ال أفهم

مقنع جدا.. أضافت بنوايا أعرفها وهي وقبل أن أعلق على سؤالها بجواب..تضحك

- كلوحة؟ متى ستعاملني أخيرا

:قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي ال تشبع

..المساء إذا شئت هذا-

فستانها وعندما أخذت كاترين مني مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل.األصفر نحو الباب

المعلقة بعناية على قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات:الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها

.متعبة بعض الشيء.. سأسبقك أنا-

تغار علي أو تغار مني.. أكانت حقا متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة.فهمها أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في

أو كنت أريد فقط أن أستعين بها ألنسى. كنت سعيدا أن أختصر معها يوما يومين من االنتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حب بعد

.والركض إلعداد كل تفاصيل هذا المعرض شهر من الوحدة،

.لحقت بكاترين بعد ساعة ألسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكل ما عشته من كنت متعبا

.اليوم هزات نفسية ذلك:قالت وهي تفتح لي الباب

- ..إنك لم تتأخر كثيرا:أداعبها قلت وأنا

كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعا إلى البيت.. الوحي ال- !كثيرا كما تعلمين ينتظر

..ضحكنا

Page 44: ذاكرة الجسد

البهجة الثنائية، تلك السعادة كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك!الجنون السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية

ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في األريكة المقابلة لي تشاهد األخبار، وتلتهم )سندويتشا( أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائما على وشك أن

!وأنها هذه المرة _ كذلك _ لن تكونها تكون حبيبتي،

امرأة تعاني من عجز عاطفي، إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي.يلزمه من أمان ومن فائض في األنانية.. ولذا ال يمكنها أن تهب رجال ما

.ليلتها، ادعيت أنني لست جائعا".عاجزا عن االنتماء لزمن "السندويتشات في الحقيقة كنت رافضا وربما

..وبرغم ذلك التفاصيل التي كانت تستفز بداوتي في أول حاولت أال أتوقف عند تلك

.األمر

كاترين أال أبحث كثيرا عن أوجه االختالف بيننا. أن تعودت منذ تعرفت على أحاول أن أصنع منها نسخة مني. بل إنني أحترم طريقتها في الحياة، وال

ربما كنت أحبها ألنها تختلف عني حد التناقض .أحيانا

فال أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فال شيء كان

المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك يجمعني بهذه.للفن

وكان كافيا .لنكون سعيدين معا بالتساؤالت. في البدء تعودنا مع مرور الزمن أال نزعج بعضنا باألسئلة وال

وال تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي ال مكان فيه للغيرة.لالمتالك

بشيء تجاه ثم وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرية.. وعدم االلتزام..أحد

أسابيع قبل كان يحدث أن نلتقي مرة في األسبوع، كما يحدث أن تمر عدة.أن نلتقي.. ولكن كنا نلتقي دائما بشوق وبرغبة مشتركة

كاترين تقول "ينبغي أال نقتل عالقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي كانت عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيدا عندما تأتي، وأن أنسى حتى ال أتعود

.ترحل أنها مرت من هنا عندما

في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كل نهاية األسبوع معي، وسعدت.أن تقبل عرضي بحماس

Page 45: ذاكرة الجسد

انتظار يوم كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيدا مع ساعتي الجدارية في.االثنين

الوقت بدا لي ورغم أن كاترين ظلت معي حتى عشية يوم األحد، فإن ذهابها طويال، وربما بدا لي أكثر ألنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل

.وكأنني سأخلو بك عند ذلك..كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد

لك لو انفردت بك يوم االثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. ماذا أقولالعجيبة، قصتنا؟ وكيف أقص عليك تلك القصة

كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيتها؟

االثنين، لبست بدلتي األجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة صباح المفضل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة عنقي. وضعت عطري

.العاشرة

سع من الوقت ألشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. كان أمامي مت وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة،

.أبوابها قبل العاشرة

أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو عندما دخلت القاعة، كنت أضواء موجهة نحو اللوحات، شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من

.وال أي ضوء كهربائي يضيء السقف.الجدران ألقيت نظرة خاطفة على

ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة".وال مساحيق وال "رتوش

.صاخبة هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية.اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك

قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلق صباح الخير"".منذ ربع قرن؟

.اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرة ردت علي.بتواطؤ فابتسمت لها

!"إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!لوحة بلدية مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة وكانت

أتلهى ببعض المشاغل التي كانت مؤجلة منذ البارحة. طريقة رحت بعدها والتفرغ لك فيما بعد. وكان صوت داخلي مثل أخرى لكسب الوقت،

ويمنعني من التركيز على أي يالحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين،.شيء

Page 46: ذاكرة الجسد

..ستأتي وأكثر.. ومر صبح ومر مساء ولم ستأتي.. ردد الصوت ساعة وساعتين

.تأت

كثيرة، حاولت أن أنسى أنني حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية..هنا النتظارك

تفارق عيناي الباب. كنت أترقبك في قابلت صحافيا وتحدثت آلخر دون أن..كل خطوة

.يأسي وكلما تقدم الوقت زاد

!وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف رت أغنية فرنسية يقول نهضت إليه مسلما وأنا أخفي عنه دهشتي. تذك

..".أمك كالعادة مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت

!ع السالمة يا سيدي.. عاش من شافك-

يحتضنني ويسلم علي بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم قالها وهو.أسلم عليه مثل تلك المرة يحدث أن شعرت بسعادة وأنا

المشترك الذي وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدم لي ذلك الصديق:كان يرافقه

شفت شكون جبتلك معاي؟-

:دهشة إلى أخرى صحت وأنا أنتقل من

..أهال سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة-

:بمودة وهو يحتضنني بدوره قال

كيفاش؟ واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإال-

رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أن في مرافقة الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليال على أنه مرشح لمنصب سي

.اإلشاعات وزاري ما كما تقول :عاتبني سي الشريف بود أحسسته صادقا

نسكن هذه المدينة معا دون أن تفكر في زيارتي مرة يا أخي.. أيعقل أن- .وعنواني معروف عندك واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين

:والجد تدخل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح

Page 47: ذاكرة الجسد

واش راك مقاطعنا.. وإال كيفاش هاذا الغيبة..؟-

:بصدق أجبته

ال أبدا.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع- هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيئة يتخذها اإلنسان" أشياءه

..عادة سيئة هنا وقد أصبحت لي أكثر من

ضحكنا.. وتشعب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبورا..ومجاملة فقط

يقومان بجولة وكان ال بد أن يتوقفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما لمشاهدة المعرض. ألفهم سر زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود

:يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين مني. قال لكونه

ك بدأت الرسم يوم كنا.. أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى- أال تذكر أنى لوحاتك األولى.. لقد كنت أول من أريته معا في تونس؟ مازلت أذكر حت

لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟

كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من ال لم أنس.. وكم..الفترة اإلحراج وهو يستدرجني لتلك

كان سي مصطفى صديقا مشتركا لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، فقد

الذين نقلوا معي للعالج إلى تونس، حيث قضى وكان واحدا من الجرحى الجبهة، ليبقى حتى االستقالل ثالثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى

.في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد

يومها بشهامة وأخالق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكن له كان كبيرين. ثم تالشى تدريجيا رصيده عندي.. كلما امتأل رصيده احتراما وودا

وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك اآلخر بأكثر من طريقة..بتقسيم مدروس للوليمة المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض

رفيق سالحي ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي وال يمكن

.للذاكرة رغم كل شيء أن تتجاهلها

المصادفة التي جعلت الممرضة في لعل أكثر تلك التفاصيل تأثيرا، تلك بها، والتي جف عليها تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل

.دمه منذ عدة أيام

تعريفه التي تكاد ال تقرأ، من آثار بقع كان في جيب سترته يومها بطاقة

Page 48: ذاكرة الجسد

فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك الدم عليها. والتي احتفظت بها ألعيدها إليه وربما دون أن يسأل إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي،

.تعريف عنها. فقد كان ذاهبا إلى مكان ال يحتاج فيه إلى بطاقة

عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة.1973سنة ..آنذاك أجمع أشيائي استعدادا للرحيل وكنت

إليه، فقد كنت أدري أن تلك الهوية لم ترددت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها أواجهه بالذاكرة.. دون أي تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن

.تعليق

المنفى أن أنهي عالقاتي بتلك وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب أنهي عالقاتي من بلد إلى آخر، وكأنني1975البطاقة التي رافقتني منذ

..بالوطن، وأضعه أخيرا هو وأشياءه خارج الذاكرة

مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة يومها دهش سي.وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة

الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟ أهو شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئا كان ملتصقا بصدري؛ شيئا

..مني، ربما ذراعي األخرى، أو أي شيء كان لي!أنا كان

ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الذي جمعنا يوما، مكافأة للذاكرة ووهما ما بإمكانية إيقاظ ذلك األول

.داخله الرجل اآلخر

ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيهاآلخر".. فكيف راهنت يوما عليه؟ "الرجل

في هذه اللحظة، ال شيء يعنيه سوى امتالك لوحة لي؛ وربما كان مستعدا كثيرا في هذه أن يدفع أي ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه ال يحسب

الحاالت، مثله مثل بعض السياسيين واألثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، ألسباب ال عالقة لها غالبا

.بعقلية جديدة للنهب الفني أيضا.. وبهاجس االنتساب للنخبة بالفن، وإنما

سخاء معي أنا بالذات، لألسباب نفسها التي تجعلني اليوم وربما كان أكثر.أكثر رفضا له

أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة )أكواريل( يفاخر بها.. لقد قرر!باأللوان المائية.. ولو بعد ربع قرن فهل يتساوى الدم

الشريف دون أن يأخذا على سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي بسببه. فال خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت

يمكن لي أن آكل من الخبز الملوث. هناك من يولدون هكذا بهذه

Page 49: ذاكرة الجسد

!التي ال شفاء منها تجاه كل ما هو قذر الحساسية

أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي كنت في الواقع على عجل. أريد أن.في تلك اللحظة ويكونا هناك

ومبعثرا بين األحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى وكنت قلقا هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ بعد كل تلك السنوات.. وبين

.بعده أيام.. ولكنك لم تأتي.. ال أثناء ذلك وال

من أين هجمت علي كل تلك الكآبة بعد ذلك؟ بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد وإذا بقدمي تقودانني

.الجارف حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق

.تعودي؟ ماذا لو لم أرك مرة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ

الجد؟

كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنب الهارب؟

البطاقة التي أعطاني إياها سي الشريف وهو يودعني كانت وحدها تلك نفسي. فقد كنت أعرف أخيرا األرقام السرية تبعث شيئا من األمل في

هاتفي قد يجمعني بك. ولكن التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر موعدا.. ولذا ما كدت الحب عندما يأتي ال يبحث له عن مبرر، وال يأخذ له

حتى في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون ألطالع جريدتي،.رأيتك تدخلين

.كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهارا بك الحب الذي تجاهلني كثيرا قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيرا أن يهبني وكان

أكثر قصصه ..جنونا

الثالث الفصل

..إذن التقينا

Page 50: ذاكرة الجسد

:قالت

..يوم مرحبا.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا-

:قلت

.بعمر ال تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر-

:قالت

كم يلزمني إذن لتغفر لي؟-

:قلت

!يعادل ذلك العمر من عمر ما-

.وجلس الياسمين مقابال لي

!على عجل.. عطرا أقل حبيبتي.. عطرا أقل يا ياسمينة تفتحت .أيضا.. هو عطر الوطن لم أكن أعرف أن للذاكرة عطرا

:مرتبكا جلس الوطن وقال بخجل

ماء.. يعيشك؟ عندك كأس-

.وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي

فكل هذا الحنين لك.. ودعي لي مكانا هنا.. ارتوي من ذاكرتي سيدتي..مقابال لك

.مهل، قهوة قسنطينية أحتسيك كما تحتسى، على

نفسه.. ولكن أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ.كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث

:قلت معتذرة

أحضر البارحة، ألنني سمعت عمي يتحدث لشخص على الهاتف أنا لم- أن أؤجل زيارتي لك إلى اليوم حتى ال ويتفق معه على زيارتك، ففضلت

..ألتقي بهما

Page 51: ذاكرة الجسد

:من يرى نجمه الهارب أخيرا أمامه أجبتك وأنا أتأملك بسعادة

- ..خفت أال تأتي أبدا

:أضفت ثم

تأتي أما اآلن فيسعدني أنني انتظرتك يوما آخر، إن األشياء التي نريدها- !متأخرة دائما

تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟

الصمت بيننا وارتباك االعتراف األول.. عندما قلت وكأنك ساد شي من:فضولي تريدين كسر الصمت، أو إثارة

أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟- :قلت سعيدا ومتعجبا

وماذا تعرفين مثال؟-

:أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه

..كثيرة قد تكون نسيتها أنت أشياء-

:قلت لك بمسحة حزن

!نسيت شيئا. مشكلتي في الواقع أنني ال أنسى ال أعتقد أن أكون-

:أع ساعتها كل عواقبه القادمة علي أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم

أما أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى- كل شيء.. تصور.. البارحة مثال أسبوع نسيت مفتاح نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي األخرى. ومنذ

الباب.. البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي.إنها كارثة

:قلت ساخرا

!هذا شكرا إذن ألنك تذكرت موعدنا-

:أجبت باللهجة الساخرة نفسها

موعد فقط.. ال بد أن تعلم أنني أكره لم يكون موعدا.. كان احتمال-

Page 52: ذاكرة الجسد

ألتزم به.. األشياء األجمل، اليقين في كل شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو.كذلك تولد احتماال.. وربما تبقى

:سألتك

لماذا جئت إذن.؟-

تتسكعان في مالمح وجهي، وكأنهما تبحثان عن تأملتني.. وراحت عيناك..مثقلة بالوعود واإلغراء جواب لسؤال مفاجئ.. ثم قلت في نظرة

!ألنك قد تكون يقيني المحتمل-

الجملة التي تحمل تناقضا أنثويا صارخا_ لم أكن أعرف بعد ضحكت لهذه أنه سمتك_ وقلت وقد :مألتني عيناك غرورا وزهوا رجاليا

.أجزم أنني سأكون يقينك أما أنا فأكره االحتماالت.. ولذا-

:قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة األخيرة

!إنه افتراض.. محتمل كذلك- .وضحكنا كثيرا

ألول مرة منذ سنوات. كنت أتوقع لنا بدايات كنت سعيدا وكأنني أضحك لمبادرتك في هذا اللقاء أخرى، وكنت قد أعددت جمال ومواقف كثيرة

.كهذه األول. ولكن اعترف أنني لم أكن أتوقع لنا بداية فقد تالشى كل ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت لغتي أمام لغتك التي

.أدري من أين تأتين بها لم أكن

تلقائية كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معا. كان هناك وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن تلغي ذلك الحضور األنثوي الدائم..

تملكين تلك القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة وكنت وحيويتك قد انتقلتا إلي عن طريق العدوى. كنت ما واحدة. وكأن فتوتك

:فاجأني كالمك أزال تحت وقع تصريحاتك تلك، عندما

أريد أن في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأن أكثر، لم أكن- أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد من الناس.. عندما أحب شيئا..

!أنفرد به أفضل أن

ما كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرة لرسام.. وأجمل يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. وقبل أن أذهب بعيدا في فرحتي أو

:أضفت أشكرك

Page 53: ذاكرة الجسد

ف عليك منذ زمن بعيد. لقد كانت جدتي- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعر ..تحدثني أحيانا عنك عندما تذكر أبي. يبدو أنها كانت تحبك كثيرا

:بلهفة سألتك

.وكيف هي )أما الزهرة(؟ إنني لم أرها منذ زمان-

:حزن قلت بمسحة

لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت أمي لتعيش مع أخي- في العاصمة. وجئت أنا إلى باريس لمتابعة دراستي. لقد غير موتها ناصر

تنا في الواقع.. حياتنا بعض الشيء ..فهي التي رب

انغرست في قلبي حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى يومها. فقد كان فيها شيء من )أما(، من عطرها السري، من طريقتها في تعصيب رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة "النفة" الفضية

الممتلئ. وكانت لها تلك الحرارة التلقائية التي تفيض بها في صدرها الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من األمهات عندنا، تلك.الحنان لعمر بأكمله

الوقت لم يكن للحزن. كنت معي أخيرا، وكان على الزمن أن يكون ولكن.للفرح فقط

:لك قلت

- ..رحمها الله.. لقد كنت أنا أيضا أحبها كثيرا

عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي فاجأتني. خشية أن تراك أردت.نكن مهيأين بعد لتصفحها تجرفنا معا نحو ذاكرة لم

:فجأة وقلت أم فقط كنت تريدين أن تطبقي برنامج زيارتك عندما نهضت

أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟-

.لمرافقتك وقفت

رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها عندما قلت وأنت:تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إلي

ال أقول لك هذا مجاملة، أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا- نحن ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا

االثنين نرى األشياء بإحساس واحد.. وقل ما أحسست بهذا تجاه إنتاج.جزائري

Page 54: ذاكرة الجسد

لون ما الذي أربكني األكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان أصبح لهما فجأة آخر تحت الضوء، واللتان كانتا تتأمالن فجأة مالمحي وكأنهما تتأمالن لوحة

لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح عاطفي وليس أخرىيت أو خيل لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن انطباعا فنيا؛ أو هكذا تمن

موسيقيا عاطفيا فريدا.. حتى إنها عنوان االثنين". إنها بالفرنسية تأخذ بعدا Nous ) رومنطيقيين في فرنسا لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من

deux. )

:أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج

ترسمين؟ وهل-

:قلت

.ال أنا أكتب-

وماذا تكتبين؟-

!قصصا وروايات؟ أكتب-

...!قصصا وروايات-

أسمع.. فقلت وكأنك شعرت بإهانة من مسحة رددتها وكأنني ال أصدق ما:العجب أو الشك في صوتي

..لي أول رواية منذ سنتين لقد صدرت-

:سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى

لغة تكتبين؟ وبأي-

:قلت

..بالعربية-

!بالعربية؟-

:دهشتي، وربما أسأت فهمها حين قلت استفزتك

العربية هي لغة قلبي.. وال يمكن كان يمكن أن أكتب بالفرنسية، ولكن- .األشياء أن أكتب إال بها.. نحن نكتب باللغة التي نحس بها

Page 55: ذاكرة الجسد

..ولكنك ال تتحدثين بغير الفرنسية-

..العادة إنها-

:قلتها ثم واصلت تأمل اللوحات قبل أن تضيفي

التي نتحدث بها ألنفسنا وليست تلك التي نتحدث بها المهم.. اللغة- !لآلخرين

..مدهوشا، وأنا أحاول أن أضع شيئا من الترتيب في أفكاري رحت أتأملك

كل هذه المصادفات، في مصادفة واحدة؟ وكل هذه أيمكن أن تجتمع وأحالمي الوطنية األولى، في امرأة.. األشياء التي كانت قناعاتي الثابتة

الطاهر ال غير؟ لو واحدة.. وأن تكون هذه المرأة هي أنت.. ابنة سي إنها. تصورت لقاء مدهشا في حياتي، لما تصورت أكثر إدهاشا من هذا

أكثر من مصادفة، إنه قدر عجيب، أن تتقاطع طرقنا على هذا النحو، بعد.قرن ربع

: أعادني صوتك إلى الواقع وأنت تتوقفين عند إحدى اللوحات

قل ما ترسم وجوها، أليس كذلك؟ أنت-

:وقبل أن أجيبك قلت

..نتحدث إلى بعض إال بالعربية.. سأغير عاداتك بعد اليوم اسمعي.. لن-

:بالعربية سألتني

هل ستقدر؟-

:أجبتك

- ..عاداتي معك سأقدر... ألنني سأغير أيضا

:األوامر أجبتني عندئذ بفرح سري المرأة اكتشفت فبما بعد أنها تحب

رني فقط لو حدث- سأطيعك.. فأنا أحب هذه اللغة.. وأحب إصرارك. ذك.ونسيت

:قلت

Page 56: ذاكرة الجسد

!لن أذكرك.. ألنك لن تنسي ذلك-

لحظتها أجمل الحماقات. وأنا أجعل تلك اللغة التي كان لي وكنت أرتكب..طرفا آخر في قصتنا المعقدة معها أكثر من صلة عشقية،

:عدت ألسألك بالعربية

منذ قليل؟ عم كنت تتحدثين-

:قلت

كنت أعجب أال يوجد في معرضك سوى هذه اللوحة التي- ل وجها تمثنسائيا.. أال ترسم وجوها؟

:قلت

وجوها ثم انتقلت إلى موضوعات أخرى. في كنت في فترة أرسم- به المساحات الصغيرة الرسم، كلما تقدم عمر الفنان وتجربته، ضاقت

.وبحث عن طرق أخرى للتعبير

الوجوه التي أحبها حقا.. أرسم فقط شيئا يوحي في الحقيقة أنا ال أرسم من ثوب امرأة.. أو قطعة من حليها. بها.. طلتها.. تماوج شعرها.. طرفا

نفارقها. تلك التي تؤدي إليها تلك التفاصيل التي تعلق في الذاكرة بعدما فوتوغرافيا يطارد الواقع.. دون أن تفضحها تماما.. فالرسام ليس مصورا

نفسه، ولهذا هو ال إن آلة تصويره توجد داخله، مخفية في مكان يجهله هو.يرسم بعينيه، وإنما بذاكرته وخياله.. وبأشياء أخرى

وعيناك تنظران المرأة يطغى شقار شعرها على اللوحة وال يترك قلت:حمرة شفتيها غير البريئتين مجاال للون آخر سوى

إلى هذا الحد؟ وهذه المرأة إذن.. لماذا رسمت لها لوحة واقعية-

:ضحكت وقلت

..بواقعية هذه امرأة ال ترسم إال-

ولماذا أسميت لوحتها "اعتذار"؟-

- ..لصاحبتها ألنني رسمتها اعتذارا

اتفاقنا قلت فجأة بلهجة فرنسية وكأن غضبك أو غيرتك السرية قد ألغت:السابق

Page 57: ذاكرة الجسد

أتمنى أن يكون قد أقنعها هذا االعتذار.. فاللوحة جميلة- .حقا

:ثم أضفت بشيء من الفضول النسائي

!الذنب الذي اقترفته في حقها ولكن هذا يعود إلى نوع-

تلك اللوحة، في لقائنا لم أكن أشعر بأية رغبة في أن أقص عليك قصة أو على األول. كنت أخاف أن يكون لتلك القصة تأثير سلبي على عالقتنا،

نظرتك لي. فحاولت أن أتهرب من تعليقك الذي يستدرجني بحيلة إلى التوضيح، وأتجاهل عنادك في الوقوف طويال أمام تلك اللوحة مزيد من

.بالذات

يمكن أن تقاوم فضول أنثى تصر على معرفة شيء؟ ولكن.. هل

:أجبتك

قصة طريفة شيئا ما، تكشف عن جانب من عقدي لهذه اللوحة- .السبب ورواسبي القديمة، وهي هنا ربما لهذا

ورحت أقص ألول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها ذات يوم، بعدما مرة، كما أفعل بين الحين واآلخر، إحدى جلسات الرسم في حضرت

يدعوني هناك بعض أصدقائي األساتذة، كما مدرسة الفنون الجميلة، حيثامين، أللتقي .بالطلبة والرسامين الهواة يفعلون عادة مع بعض الرس

وبينما كان جميع. كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عارر الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلفة، كنت أنا أفك مدهوشا في قدرة هؤالء على رسم جسد امرأة بحياد جنسي، وبنظرة

وكأنهم يرسمون منظرا طبيعيا أو مزهرية على طاولة، أو جمالية ال غير،.تمثاال في ساحة

الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك الجلسة. فقد كنت أرى، من عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها ألول مرة، امرأة

العيون؛ وربما في محاولة إلخفاء بتلقائية، ودون حرج أمام عشرات رواسب عقد رجل من ارتباكي رحت أرسم أيضا. ولكن ريشتي التي تحمل

جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد، خجال أو كبرياء ال أدري.. بل راحت ترسم شيا آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما يبدو من

انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة التي لم تكن زاويتي.. وعندما بجولة كما هي العادة لترى كيف سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت

أرسم سوى رسمها كل واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة

ألنوثتها: "أهذا كل ما ألهمتك إياه؟" فقلت مجامال: "ال، لقد ألهمتني كثيرا الدهشة، ولكني أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى دهاليز من

Page 58: ذاكرة الجسد

امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل نفسه. أنت أول فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضا أن يحترف الرسم.. فاعذريني. إن

!".رسم تتقاسم مع اآلخرين امرأة عارية.. حتى في جلسة

كنت تستمعين إلي مدهوشة، وكأنك تكتشفين في فجأة رجال آخر لم عنه جدتك. كان في عينيك فجأة شي جديد، نظرة غامضة ما، تحدثك

ربما سببه غيرة نسائية من امرأة مجهولة، شيء من اإلغراء المتعمد،.مهما بالنسبة إليك سرقت في يوم ما اهتمام رجل لم يكن حتى اآلن

سعيدا أن تثير رحت أتلذذ بذلك الموقف العجيب الذي لم أتعمده. كنت فيك الغيرة هذا الصمت المفاجئ، وهذه الحمرة الخفيفة التي علت

وجنتيك، وجعلت عينيك تتسعان بغضب مكبوت. فاحتفظت لنفسي ببقية هذه الحادثة تعود لسنتين، وأن صاحبتها ليست القصة.. لم أخبرك أن

أن أقدم لجسدها اعتذارا آخر.. يبدو سوى كاترين، وأنه كان علي فيما بعد!الحين أنه كان مقنعا لدرجة أنها لم تفارقني منذ ذلك

أذكر اليوم بشيء من السخرية، ذلك المنعطف الذي أخذته عالقتنا فجأة بعدما حدثتك عن تلك اللوحة.. عجيب هو عالم النساء حقا! كنت أتوقع أن

وأنت تكتشفي تلك العالقة السرية التي تربطك بلوحتي تقعي في حبي، هويتك. وإذا بك تتعلقين بي بسبب األولى "حنين". لوحة في عمرك وفي

!خطأ لوحة أخرى المرأة أخرى، تعبر الذاكرة

.انتهى موعدنا األول عند الظهر

مرة أخرى.. ربما غدا. كنت أشعر أننا كان عندي إحساس ما إنني سأراك هناك كثير من األشياء التي في بداية شيء ما، وأننا كلينا على عجل. كان

أغرينا بعضنا فقط لم نقلها بعد، بل إننا لم نقل شيا في النهاية. نحن معا، بحديث محتمل. كنا، عن سذاجة أو عن ذكاء، نمارس اللعبة نفسها

:ولذا لم أتعجب كثيرا عندما سألتني وأنت تودعينني

غدا صباحا؟ هل ستكون هنا-

:قلت لك بسعادة من ربح الرهان

- .طبعا

:قلت

سع أكثر للحديث. سأعود إذن غدا في الوقت نفسه تقريبا، سيكون لنا- مت..لقد مر الوقت بسرعة اليوم دون أن ننتبه لذلك

أعلق على كالمك. كنت أدري أن ال مقياس للوقت سوى قلبينا. ولذا لم

Page 59: ذاكرة الجسد

إال عندما يركض بنا القلب الهثا أيضا من فرحة إلى فالوقت ال يركض بنا وجدت في كالمك اعترافا بفرح أخرى، ومن دهشة إلى أخرى.. ولذا

ر .مشترك سري.. توقعت أن يتكر

:لك يومها وأنا أودعك عند باب القاعة أذكر أنني قلت

.أقرأك ال تنسي كتابك غدا.. أريد أن-

:قلت متعجبة

أتتقن العربية؟-

:قلت

- .سترين ذلك بنفسك.. طبعا

:قلت

..سأحضره إذن-

:تخلو من كيد نسائي محبب ثم أضفت بابتسامة ال

!المتعة مادمت تصر على معرفتي.. لن أحرمك من هذه-

.بالتحديد وانغلق الباب خلف ابتسامتك تلك، دون أن أفهم ما كنت تعنيه

ذهبت بالغموض الضبابي الذي جئت به.. نفسه. وبقيت عند عتبة ذلك الباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى المارة وتختفين مرة أخرى كنجم

!أتسال بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقا؟ هارب.. و أنا

***

..التقينا إذن.الذين قالوا "الجبال وحدها ال تلتقي".. أخطأوا

بنوا بينها جسورا، لتتصافح دون أن تنحني أو تتنازل عن شموخها.. والذين.قوانين الطبيعة ال يفهمون شيئا في

وعندما ال الجبال ال تلتقي إال في الزالزل و الهزات األرضية الكبرى،.تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب واحد

..التقينا إذن

Page 60: ذاكرة الجسد

األرضية التي لم تك متوقعة، فقد كان أحدنا بركانا، وكنت أنا وحدثت الهزة.الضحية

امرأة تحترف الحرائق. ويا جبال بركانيا جرف كل شيء في طريقه، يا.تمسكت به وأحرق آخر ما

تربتك من أين أتيت بكل تلك األمواج المحرقة من النار؟ وكيف لم أحذر.المحمومة، كشفتي عاشقة غجرية

وأتذكر درسا قديما في كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، تواضع هضبة.." الجغرافية: "الجبال البركانية ال قمم لها؛ إنها جبال في

فهل يمكن للهضاب أن تفعل كل هذا؟

تحذرنا من ذلك النهر المسالم الذي يخدعنا هدوؤه كل األمثلة الشعبية العود الصغير الذي ال نحتاط له.. وإذا به فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك

.يعمينا

من لهجة "يؤخذ الحذر من مأمنه". ولكن كل أكثر من مثل يقول لن بأكثر الحماقات، فال منطق للعشق تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب المزيد من

.حماقاتنا خارج الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقا كبرت

ألم يقل )برنارد شو( "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في التصرف ضد!"مصلحتك الشخصية

صقلية ألول وكانت حماقاتي األولى، أنني تصرفت معك مثل سائح يزور مرة، فيركض نحو بركان )إتنا(، ويصلي ليستيقظ البركان النائم بعين

واحدة من نومه، ويغرق الجزيرة نارا، على مرأى من السواح المحملين.الفوتوغرافية.. والدهشة باآلالت

أجمل من بركان وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه ال يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من نيران وأحجار، ويبتلع المساحات

.في بضع لحظات الشاسعة

شبيه وأن المتفرج عليه يصاب دائما بجاذبية مغناطيسية ما.. بشيء بشهوة اللهب، يشده لتلك السيول النارية، فيظل منبهرا أمامها. يحاول أن يتذكر في ذهول كل ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة عاشق، أنه

!قيام ساعته.. يشهد ساعتها

يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهالك؛ وأشتهيك.. حتى االحتراق األخير. وصدقت جاك بريل عندما قال "هناك أراض محروقة

ال يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع تمنحك من القمح ما

Page 61: ذاكرة الجسد

.السنوات العجاف هذا العمر القاحل. ونيسان هذه

على جنون يا بركانا جرف من حولي كل شيء.. ألم يكن جنونا أن أزايد السواح والعشاق، وكل من أحبوك قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع

.عند أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق.. ألرسمك ذاكرتي

أرفض االستعانة بنشرات األرصاد الجوية، والكوارث ألم يكن جنونا.. أن عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف

عنك ال عالقة له بالمنطق المنطق ينتهي حيث يبدأ الحب، وأن ما أعرفه.وال بالمعرفة

.التقت الجبال إذن.. والتقينا.قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك ربع

.التي أنفقتها في انتظارك ربع قرن من األيام المتشابهة على ركبتي كانت ربع قرن على أول لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب

.أنت.يرك ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسية ذراعه، وفي المجن..المغلقة قلبه

والمدينة التي لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثتي، سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي،

.لتبقى عذراء.. وجبارة مثلك. تحمل في لونها كل األضداد

.لم أعد أدري كيف حدث كل هذا؟

إلى كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحب ينقلنا من شهقة.أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل

تقف في وجه القدر؟ كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة

القاعة نفسها في كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريبا، كنا نلتقي في تلك ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي

الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كل عطلة.دوام جامعي يوم. فلم يكن لك أي

كان عليك فقط أن تتحايلي على اآلخرين بعض الشيء، وربما على ابنة.عمك أكثر، حتى ال ترافقك لسبب أو آلخر تلقائيا، "إلى الغد": ترانا نرتكب كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مرددا

وربما ألنني كنت أكبرك سنا،. أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض كل يوم الشاذ كنت أشعر أنني تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي

Page 62: ذاكرة الجسد

.وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب

طريق ذلك الشالل الذي كان يجرفني ولكن عبثا كنت أحاول الوقوف في بشهية رجل لم إليك بقوة حب في الخمسين، بجنون حب في الخمسين،

.يعرف الحب قبل ذلك اليوم

وينحدر بي إلى أبعد نقطة في كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، المطاف، الجنون الالمنطق.. تلك التي يكاد يالمس فيها العشق، في آخر

..أو الموت

العميقة داخلي، إلى تلك وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات األغوار التي الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى تلك المساحة البعيدة

ر دون لم تطأها امرأة قبلك، أنني أنزل أيضا سلم القيم تدريجيا، وأنني أتنك أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطرف، ورفضت عمرا بأكمله أن

.عليها أساوم

لقد كانت القيم بالنسبة لي شيا ال يتجزأ، ولم يكن هناك في قاموسي من فرق بين األخالق السياسية، وبقية األخالق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت

ر .لواحدة ألقنعك بأخرى أتنك..تساءلت كثيرا آنذاك

أنفرد بك في جلسة شبه بريئة، في قاعة تراني كنت أخون الماضي، وأناتؤثثها اللوحات والذاكرة؟

من عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة ومروءة، وأكثرهم تراني أخون أعزشجاعة ووفاء؟

سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق عمر بأكمله. فأدنس تراني سأخونالوحيدة.. ووصيته األخيرة؟ ذكراه وأسرق منه زهرة عمره

!أحدثك عن الماضي أيمكن أن أفعل كل ذلك باسم الماضي، وأنا

كنت أحدثك ولكن.. أكنت حقا أسرق منك شيئا، في تلك الجلسات التي.فيها طويال عنه؟

حاضرة في ذهني دائما. كانت ال.. لم يحدث هذا أبدا، كانت هيبة اسمه وحاجزا في تربطني بك وتفصلني عنك في الوقت نفسه. كانت جسرا

..الوقت نفسه

ذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيح أكتشفها معك الماضي المصفرة، ألقرأها أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني

.وأنا أستمع لنفسي، أقصها ألول مرة

Page 63: ذاكرة الجسد

بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل والذي أحاول أن أودعه تجهلينه، وكنت أنت الحاضر الذي ال ذاكرة له،

.بعض ما حملتني السنوات من ثقل

.وكنت أنا عميقا ومثقال كبحر كنت فارغة كإسفنجة،

..رحت تمتلئين بي كل يوم أكثر ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتألت بك أيضا، وأنني كلما كنت أجهل

حولتك إلى نسخة مني. وإذا بنا نحمل ذاكرة وهبتك شيا من الماضي، ا مشتركة، طرقا وأزقة مشتركة، وأفراحا وأحزانا مشتركة كذلك. فقد كن

ترحم، فخرجنا كل معا معطوبي حرب، وضعتنا األقدار في رحاها التي ال.بجرحه

بتروا ذراعي، وبتروا كان جرحي واضحا و جرحك خفيا في األعماق. لقدا أشالء طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضوا.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كن

.حرب.. وتمثالين محطمين داخل أثواب أنيقة ال غير

طلبت فيه مني ألول مرة، أن أحدثك عن أبيك. أذكر ذلك اليوم الذيك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية واعترفت بشيء من االرتباك، أن

المرارة التي فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من.اكتشفتها فيك ألول مرة

:قلت

أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي ما فائدة أن يمنح اسم- اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في

شخص واحد قادر ال أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان ال يوجد بينهمعلى أن يحدثني عنه حقا؟

:قلت لك متعجبا

عنه عمك مثال؟ ألم يحدثك-

:قلت

أمامي، يأتي كالمه وكأنه عمي ال وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره- أخيه، وال أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر

..يتوجه فيها إلي ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كل شي

أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد األبطال الذي أريد أن مناسبة عن الجميع؛ وكأن الموت سوى والشهداء، والتي تقال في كل

.طبق األصل فجأة بين كل الشهداء، فأصبحوا جميعا نسخة

Page 64: ذاكرة الجسد

يهمني أن أعرف شيئا عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. ال أريد أن أكون ابنة

بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوته ألسطورة، األساطير ففي حياة كل رجل خيبة ما وهزيمة ما،. وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه

.ربما كانت سببا في انتصار آخر

..شيء من الصمت بيننا حل بين كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحد الفاصل

هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيا، وال كنت أنت آلهة كنا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمي األطراف، يحاوالن.. إغريقية

فرحت أستمع إليك وأنت ترممين ما في. ترميم أجزائهما بالكلمات.أعماقك من دمار

:قلت

أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم يحدث أن- أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو آخر. ربما كان بعضها أكبر

.لمأساة ما أصغر من خط آخر، ولكنها جميعا أرقام

:وأضفت

شيئا. لقد أورثني مأساة أن يكون أبي أورثني اسما كبيرا، هذا ال يعني- في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكونا

بهاجس الفشل، وهو االبن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه في الدراسة وال في الحياة، ألنه ليس من حق الرموز أن أن يفشل

دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن الماليين. ربما كان على تكديس الشهادات، في زمن يكدس فيه اآلخرون

.محترمة حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة

إلى لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو موظفين برواتب وأحالم محدودة، فقرر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني

رأيه، إال أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عز شبابه، إلى تاجر أشاطره تجاريا وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. صغير يدير محال

!يتوقع له مستقبال كهذا ال أعتقد أن أبي كان

:قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك

يتوقع أيضا لك مستقبال كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحالمه؛ إنك إنه لم- ومبادئه. كان رجال يقدس العلم والمعرفة، ويعشق الوريثة لكل طموحاته

لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت العربية، ويحلم بجزائر ال عالقة اليوم هذا الحظ االستثنائي، جيله وقضت عليه. إنك ال تعين أن يكون لك

Page 65: ذاكرة الجسد

الدراسة والعمل في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقفة، يمكنها..وحتى الكتابة

:أجبت بشيء من السخرية

مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمن قد أكون- نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منا.. كنت به أحد علي. نحن

وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة أفضل أن تكون لي طفولة عادية الدفاتر. ولكن أبي أصبح كاآلخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من

ي أحد ملكا لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها !من

إلى أذهلني كالمك. مألني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني حد الشفقة عليك. إن امرأة ذكية ال تثير الشفقة. إنها دائما تثير اإلعجاب

في حزنها. وكنت معجبا بك، بجرحك المكابر، بطريقتك االستفزازية حتى كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد ألستعيد يدي. في تحدي هذا الوطن

عاديا بذراعين اثنتين، ألقوم بأشياء األخرى. كنت أفضل لو بقيت رجال ال تتأبط غير الرسوم عادية يومية، وال أتحول إلى عبقري بذراع واحدة،

.واللوحات

فنانا رافضا ومرفوضا. لم أجاهد لم يكن حلمي أن أكون عبقريا وال نبيا وال ولكن القدر أراد لي من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأوالد،

بتروا حياة أخرى، فإذا بي أب ألطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد.أيضا أحالمي

:قلت لك

.أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في-

:قلت

سوى الفراغات المحشوة بقصاصات ولكن ليس في أعماقي شيء- .وبينها من قرابة الجرائد.. بنشرات األخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني

:ثم أضفت وكأنك تودعينني سرا

أحب جدتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أتدري لماذا كنت- متسعا من الوقت لتحدثني عن كل أمي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد

ترفض الخروج منه. كانت شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائيا، وكأنها.أغانيه تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. وال تطرب سوى لسماع

كانت تحلم بالماضي في زمن كان اآلخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيرا ما تحدثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في

Page 66: ذاكرة الجسد

العابر. وكانت ال تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده ماضيها األنثوي ذلك بحسرة األم التي ترفض أن تنسى بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل

لي عنه أكثر مما تقوله أنها فقدت بكرها إلى األبد.. ولكنها لم تكن تقول البار الذي لم أم عن ابنها. كان الطاهر هو األجمل.. هو األروع.. هو االبن

.يجرحها يوما بكلمة

يوما. سألتها "أما.. لماذا تبكين وقد يوم االستقالل بكت جدتي كما لم تبك أنتظر االستقالل ليعود لي استقلت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي

الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر ".شيئا

قرأتها يوم مات أبي لم تزغرد جدتي كما في قصص الثورة الخيالية التي فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس

بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحناني لمن مرددة".أطراف خليتني.. نروح عليك

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهماات.. رجال كان وأبكي دون أن أفهم تماما أنني أبكي رجال لم أره سوى مر

.أبي

الغامضة، لماذا كان ذكرك لـ ) أما الزهرة( يثير دائما في تلك العواطف التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حد

البكاء؟

والتي مازلت أذكر مالمح تلك العجوز الطيبة التي أحبتني بقدر ما أحببتها قضيت طفولتي وصباي متنقال بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة

الحب، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكل األمهات عندنا. واحدة في فتعد من أجلك طبقك المفضل وتالحقك باألطعمة، إنها تحبك باألكل،

.الذي انتهت لتوها من إعداده وتحملك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس

للمطبخ، ولذا كن يعشن لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهن فائض األعياد واألعراس كوليمة حب، يهبن فيها من جملة ما يهبن

.. وحنانهن وجوع سري لم يجد له من تعبير آخر خارج .األكل أنوثتهن

"..لقد كن في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "تراس وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهن المتوارث من

ما وفاء عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخرا فقط، يوم وجدت نفسي رب الجاهز، وال وليمة لها غير لهن_ عاجزا عن حب امرأة تعيش على األكل

!جسدها

:خدوش طفولتي البعيدة سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من

وفاة سي الطاهر؟ وأمك.. إنك لم تحدثيني عنها أبدا كيف عاشت بعد-

Page 67: ذاكرة الجسد

:قلت

أعماقها تعتب على الذين لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربما كانت في- ..لرجل زوجوها منه، فقد كانوا يزفونها لشهيد وليس

كانت تعرف مسبقا نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرية، ولن يزورها إال خلسة بين الحين

يعود إليها إال جثمانا، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان ال بد واآلخر، وقد ال يتم؛ كان في الجو رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها لذلك الزواج أن

المولى، صاحب االسم والثروة الكبيرة. وال فخورين بمصاهرة الطاهر عبد القادمة. وربما كانت جدتي بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته

عة باكية تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور األولياء والصالحين متضر به طالبة البنها أخيرا ذرية.. تماما كما كانت تزور سابقا يوم كانت حبلى

..آنذاك أن يكون مولودها صبيا

:سألتك

هذه القصص؟ من أين تعرفين كل-

:قلت

بأبي لم تفارق منها هي.. ومن أمي أيضا. تصور أنها يوم كانت حبلى- مزار )سيدي محمد الغراب( بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا

سمته ) محمد الطاهر( تباركا به.. ثم سمت عمي ) محمد الشريف( تباركا بعدها عرفت أن نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأن.. به أيضا

اهتماما كبيرا لألسماء، وأن معظمهم يحمل أسماء أهل تلك المدينة يولون. األنبياء أو األولياء الصالحين وهكذا كادت تسميني "السيدة" تباركا

كل مرة محملة بالشمع بالسيدة المنوبية التي كانت تزورها في تونس الفاياش(. والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار )سيدي عمر

ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عاريا تماما من كل شيء.. جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي وهو ما

كما تعود أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيدا، حتى ال يغادر البيت عاريا النساء الالتي يتسابقن لزيارته، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إال من

المعروضة للفرجة.. بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته ولفضول النساء الملتحفات بـ )السفساري( والمتظاهرات بالحشمة

!.الكاذبة ..سألتك ضاحكا

.وهل زرته أنت؟-

Page 68: ذاكرة الجسد

:قلت

- طبعا.. لقد زرته بعد ذلك مع كل واحدة منهن على انفراد؛ وزرت أيضا المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لوال أن أمي أنقذتني "السيدة

وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي من تلك الكارثة،.اختيار اسمي يعود إليه القرار األخير في

اللسان توقف القلب عند هذا االسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثر:وهو يلفظ هذا االسم بعد ربع قرن تماما وفاجأك سؤالي

أناديك "حياة"؟ هل يسعدك أن-

..قلت متعجبة

!أليس أجمل؟.. لماذا.. أال يعجبك اسمي الحقيقي-

:قلت

اسم كهذا في بال إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجبت وقتها كيف خطر- والدك. كنت أسمعه ألول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي

باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحب أن أسميك "حياة" ألنني قد أكون الذي يعرف اليوم هذا االسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة الوحيد مع والدتك

.االستثنائية، وبأنك أيضا.. طفلتي بطريقة ما سر، ليذكرك بعالقتنا

:ضحكت.. قلت

أنك لم تخرج أبدا من فترة الثورة، ولذا أنت تشعر برغبة في أن أتدري- حتى قبل أن تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل تعطيني اسما حركيا

لي؟ السري.. أية مهمة تراك تعد

ضحكت بدوري لمالحظتك التي فاجأتني بواقعيتها. تراك بدأت تعرفيننيهذا الحد؟ إلى

:قلت

اعلمي أيتها الثورية المبتدئة أنه ال بد من أكثر- من اختبار. لنكلف أحدا استعدادتك بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في مرحلة أولى بدراستك، ومعرفة

!الخاصة

***

Page 69: ذاكرة الجسد

أحسست لحظتها، أن الوقت قد أصبح مناسبا، ألقص عليك أخيرا قصة األخير في الجبهة، ذلك اليوم الذي لفظ فيه سي الطاهر اسمك يومي

فني إذا ما وصلت إلى تونس على قيد أمامي ألول مرة، وهو يودعني ويكل.عنه الحياة أن أقوم بتسجيلك نيابة

وتلك الليلة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية التونسية، بجسد محموم وذراع تنزف، وأنا أردد لنفسي بهذيان الحمى، اسمك الذي أصبح وسط

وكأنه اسم لعملية أخيرة كلفني بها سي الطاهر، كنت إجهادي ونزيفي، أريد أن أحقق طلبه األخير، وأطارد حلمه الهارب، فأمنحك اسما شرعيا

..واألولياء رسميا.. ال عالقة له بالخرافات

أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه ألول مرة أدق باب بيتكم في شارع التوفيق بتونس. أذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها وكأن ذاكرتي كانت تقرأ

.سيكتب لي معك، فأفرغت مساحة كافية لها مسبقا ما

انتظرت أمام بابكم الحديدي في ذلك اليوم الخريفي من شهر أيلول،..لي طويلة األخضر، قبل أن تفتح )أما الزهرة( الباب بعد لحظات بدت

.غيري مازلت أذكر تلك الشهقة في نظرتها، كأنها كانت تنتظر شخصا آخر

توقفت مدهوشة أمامي، تفحصت معطفي الرمادي الحزين ووجهي النحيل الشاحب. توقفت عند ذراعي الوحيدة التي تمسك علبة الحلوى، وذراع

.الفارغة التي تختبئ ألول مرة بحياء داخل جيب معطفي معطفي األخرى اغرورقت عيناها بالدموع، وراحت تبكي دون أن وقبل أن أنطق بأية كلمة

ر حتى في دعوتي إلى دخول .البيت تفك

حملني انحنيت أقبلها.. بشوق السنوات التي لم أرها فيها.. بالشوق الذي..فجيعتها إياه ابنها.. وبشوق )أما( التي لم أتعود بعد سنتين ونصف على

واشك أما الزهرة؟-

..بدورها زاد بكاؤها وهي تحتضنني وتسألني

واش راك يا ولدي..؟- على حالتي، وعلى ذراعي التي تراها أكان بكاؤها فرحا بلقائي، أم حزنا

ابنها ورأتني.. أم فقط مبتورة ألول مرة.. أكانت تبكي ألنها توقعت أن ترى وشيئا من األخبار، ألن أحدا قد دق هذا الباب، ودخل حامال في يده البهجة،

Page 70: ذاكرة الجسد

ما لم يدخله رجل منذ شهور؟ لبيت رب

..يا ولدي جوز ع السالمة.. جوز-

قالتها وهي تشرع باب الدار أخيرا وتمسح دموعها. ثم أعادت وهي تسبقني "جوز..جوز.." بصوت عال كإشارة موجهة ألمك التي ركضت عند

ولم أر غير ذيل ثوبها يسبقني، ويختفي خلف باب سماع هذه الكلمات،.مغلق على عجل

البيت.. بدوالي العنب التي تتسلق جدران حديقته الصغيرة، أحببت ذلك.سوداء على وسط الدار وتمتد لتتدلى عناقيد ثريات

كامرأة فضولية شجرة الياسمين التي ترتمي وتطل من السور الخارجي، ضاقت ذرعا بجدران بيتها، وراحت تتفرج على ما يحدث في الخارج،

المارة بقطف زهرها.. أو جمع ما تبعثر من الياسمين أرضا.. ورائحة لتغري منه، فتبعث معها الطمأنينة، ودفء غامض يستبقيك الطعام التي تنبعث

.هناك:غرفة تطل على وسط الدار مرددة سبقتني )أما الزهرة( إلى

..اقعد يا ولدي.. اقعد-

تأخذ مني علبة الحلوى وتضعها على الصينية النحاسية قالتها وهي.خشبية المستديرة والموضوعة على مائدة

وما كدت أجلس أرضا على ذلك المطرح الصوفي حتى ظهرت أنت في الغرفة صغيرة كدمية، وحبوت مسرعة نحو العلبة البيضاء تحاولين طرف

وفتحها. وقبل أن أتدخل أنا كانت )أما الزهرة( قد أخت سحبها إلى األرض مكان آخر وهي تقول: "يعطيك الصحة يا منك العلبة وذهبت بها إلى

..".يكفينا وليدي.. وعالش عييت روحك يا خالد يا بني.. وجهك

ثم عادت ونهرتك، وأنت تتجهين نحو الشياحة الخشبية، الموضوعة على شكل قبة صغيرة فوق كانون، والتي كانت ثيابك الصغيرة البيضاء منثورة

تجف.. وعندها حبوت تحوي في خطوتين مترددتين، ويداك فوقها كي.بي الصغيرتان أمامك تستنجدان

لحظتها شعرت بهول ما حل بي، وأنا أمد نحوك يدي الفريدة في محاولة لإلمساك بك. لقد كنت عاجزا عن التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة،

.لمالعبتك دون أن تفلتي مني ووضعك في حجري

األول وعقدتي األولى، أليس عجيبا أن يكون لقائي األول بك هو امتحاني الذراع وأن أنهزم على يدك في أصعب تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل

..!الواحدة.. من عشرة أيام ال أكثر

Page 71: ذاكرة الجسد

":وبصحن "الطمينة عادت )أما الزهرة( بصينية القهوة

الطاهر؟ قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه-

قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان في سؤالها مذاق الدمع. حلقها غصة السؤال الذي يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها وفي

وأنه اآلن في منطقة الحدود وأن صحته جيدة ولكنه أنني كنت تحت قيادته.لصعوبة األوضاع ولمسؤولياته الكثيرة ال يستطيع الحضور هذه األيام،

العدو قرر أن يطرق المناطق لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن تحركاتنا.. الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى تتمكن طائراته من مراقبة

وأنه تم إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من كبار والمجاهدين، وأن ثالثين منهم قد صدر في حقهم الحكم باإلعدام، القادة

مجموعة من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان وأنني أتيت للعالج مع..منهم قبل أن يصال

منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، فرحت أغير مجرى لقد قال لها األوراق النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، الحديث.. أمددتها بتلك

وطلبت منها حسب وصيته أن تشتري لك بها هدية، ووعدتها أن أعود قريبا أما الزهرة بصعوبة، لتسجيلك، بذلك االسم الذي اختاره لك، والذي رددته

وبشي من الدهشة، ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر.بالنسبة لها صفة القداسة

وجئت فجأة وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلقت ركبتي لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم أتمالك لحظتها احتضانك بيدي الوحيدة.. ضممتك إلي، وكأنني أضم الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي

أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحالم ذلك الرجل الذي لم الثانية؛ كأنني.يسعد بعد باحتضانك

أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكل تناقضي، نيابة عن سي رحت أوالدهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، طاهر وعن رفاق لم يروا

يحتضنون فيها بدل البنادق، ماتوا وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه،.أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم

لك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نيابة عني. نيابة عن نسيت يومها أن أقب سأتحول إليه على يدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسجل جوار الرجل الذي

ذاكرتك مسبقا.. وأعوامك القادمة اسمك اسمي مسبقا.. وأن أطلب كان يركض بي نحو مسبقا.. أن أحجز عمرك، وأوقف عداد السنوات الذي

!السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين شهرك السابع

أستبقيك هكذا على حجري إلى األبد، تلعبين وتعبثين وبأشيائي، نسيت أن

Page 72: ذاكرة الجسد

.أفهمه.. وال تفهمينه وتقولين لي كالما ال

بإيجاز متعمد، وأترك لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقص عليك تلك القصة.تفاصيلها المتشعبة لي

الذي وقفت فيه ألكتب على 1957 أيلول15توقفت فقط عند ذلك اليوم .سجل رسمي اسمك النهائي

توضيحي، وال علقت يومها بكلمة واحدة، على قصة لم تسأليني أي سؤال ال أحد وجد في تلك القصة ما يستحق لم يقصها عليك أحد قبلي. ربما ألن

.التوقف

وراحت غيوم مكابرة تحجب نظرتك. استمعت إلي بذهول، وبصمت مخيف في ذلك عني.. كنت تبكين أمامي ألول مرة، أنت التي ضحكت معي

.المكان نفسه كثيرا الحقيقة الموجعة، على ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل على

نفسه؟ شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤجله في الوقت

بذراعي نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أود لحظتها، لو احتضنتك الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما لم أحضن حلما. ولكنني بقيت في

وبقيت في مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر مكاني،.والشوق.. وكثير من الغيوم التي لم تمطر سري من الحنين

اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل األهم استوقفتني كلمة جسر، وتذكرت تلك عساني أصدق من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضا،

:غرابتها. وقفت وقلت

- .تعالي سأريك شيئا

.سؤال تبعتني دون:وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله

أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم األول، سرت- جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. قشعريرة في

ولذا أتيت ألسلم عليك عساني أكتشف خطأ ولكنني كنت متأكدا منها،.حدسي.. أو صوابه

:متعجبة قلت

وهل كنت مصيبا في حدسك؟-

Page 73: ذاكرة الجسد

:قلت

المكتوب على هذه اللوحة؟ ألم تالحظي التاريخ-

..أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها

..ال-

:قلت

بأسبوعين إنه قريب من تاريخ ميالدك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة_ !فقط. إنها توأمك إذا شئت

:قلت مدهوشة

!هذا عجيب.. عجيب كل-

:نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت

قنطرة الحبال؟ أليست هذه-

:أجبتك

القرابة األخرى التي إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي- .تربطك بهذه اللوحة

..معك يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة- .دخلت في طلتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه- :فكرت قليال ثم قلت-

المناسبات.. آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحيانا أن ألبسه في بعض- - .ولكنه ثقيل يوجع معصمي

:قلت

دائما. لقد لبسته "أما" عدة سنوات متتالية،ولم تشك ألن الذاكرة ثقيلة- !إنها العادة فقط.. من ثقله. ماتت وهو في معصمها

كنت. لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئا تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر األثواب العربية

عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحلي القديمة بأثواب على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع

اسمين في الشعر كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسية، واسم أو..العربي

Page 74: ذاكرة الجسد

إال في المناسبات، لن أعتب عليك، نحن ننتمي ألوطان ال تلبس ذاكرتها بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ األضواء،

.وينسحب المصورون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها

:لم تتعمديه قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ

هذا؟ إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك-

فاجأني كالمك. كان الموقف جزينا شيئا ما، رغم تلقائيته، وربما كان.مضحكا بحزن

التي كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين علي أمومتك. أنت الفتاة!كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمي

أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات وكان يمكن أن أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما.وجامحة. ولكنني قلت شيئا آخر

:قلت

.يسعدني ذلك، ويسعدني أيضا أن تلبسيه من أجلك أنت-

تفهمي شيئا من الماضي الذي تبحثين عنه، وال من ال بد أن تعي أنك لن قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا ال ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي

.بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة.بها نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش

هذا السوار مثال، لقد أصبحت عالقتي به فجأة عالقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزا لألمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه،

تلبسيه. وتظل كل تلك األحاسيس التي فجرها داخلي نائمة وكان يمكن أال اآلن.. أن الذاكرة أيضا في حاجة إلى أن في دهاليز النسيان. هل تفهمين

نوقظها أحيانا؟

دون أن أدري، أوقظ داخلي ماردا كان نائما منذ كم كنت أحمق.. كنت فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين سنين. وكنت أحولك في حمى جنوني من

في جلسة تنويم لي بانبهار تلميذة، وتتلقين كلماتي كما يتلقى شخص.مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء

.يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة اكتشفت

رت في سري أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، وقر.القراصنة لن يطأها األقزام وال

Page 75: ذاكرة الجسد

..حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما.بالجنون وكنت أحكم على نفسي

***

بالهزات النفسية، قضينا معا وقتا أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين مشحونين باالنفعاالت المتطرفة، التي عشناها خالل أربع ساعات من

الحديث المستمر. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحيانا، ووسط صمتنا.أحيانا أخرى المخيف

الذين ال كنت سعيدا ربما ألنني رأيتك تبكين ألول مرة. كنت أحتقر الناس دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم ال يستحقون

.االحترام.كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها

.اكتشفته ذلك اليوم وكان هذا أروع ما الساخرة. يومها تذكرت لقاءنا األول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات

تضحكها"، تذكرت مثال فرنسيا يقوم: "أقصر طريق ألن تربح امرأة هو أن..وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد

يشجع على الربح السريع، وعلى اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي التي قد ضحكت في المغامرات العابرة التي ال يهم أن تبكي بعدها المرأة

.البداية

..لم أربحك بعد نوبة ضحك وأنت تستمعين إلى قصتك التي كانت قصتي ربحتك يوم بكيت أمامي

تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت أيضا. ثم في تلك اللحظة التي تأملت فيها لحظة حنان ربما على وشك أن تضعي قبلة على خدي، أو تحضنيني في

ك لم تفعلي .مفاجئ.. ولكن

وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح،.النائمة العابرة على الخد، إلى فتيلة تشعل البراكين

كنا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجردانني من سالحي

حتى عندما تمطران .حزنا

وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أي لغة كانت لغتك؟..أي موسيقى كانت موسيقاك

Page 76: ذاكرة الجسد

يمكن أن تكوني ابنتي، كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان بالنسبة أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئا آخر غير ذاك

.لي

في ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كل مرة، كما توضع حواجز ساحة سباق، ولكنك كنت فرسا خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين

.مرة واحدة، بنظرة واحدة عليها جميعا

وأحيانا هناك، لتنتهي عند.. كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحيانا هنا.عيني أو زر قميصي المفتوح كالعادة

:تتأملينني أكثر قلت مرة وأنت

الفوضوي فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره- .المنسق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه

:أجبتك

تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأن في يمكن أن- حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائما إلى أعماقي شيئا من وحدته.. من

.هزائم

:قلت متعجبة

أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟-

:أجبت

..ربما-

:قلت

أتدري أنه الرجل الذي أثر أكثر في حياتي؟-

رت إما أنك لم تعرفي كثيرا من الرجال.. أو لم أدهشني اعترافك. فك :واصلت بحماسة تقرئي كثيرا من الكتب. وقبل أن أقول شيئا

المرأة.. يعجبني جنونه وتصرفاته غير المتوقعة.. عالقته العجيبة بتلك- فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته

يصل بأحاسيسه إلى ضدها. أتذكر قصة الكرز، يوم كان يحب الكرز في أن يشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيرا.. كيرا حتى يتقيأه. كثيرا وقرر أن

كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من بعد ذلك أصبح يعامله

Page 77: ذاكرة الجسد

.تستعبده األشياء التي يشعر أنها

:قلت

..ال أذكر هذه القصة-

:قلت

رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء وهل تذكر- وفجائعه حد الرقص. إنه تميز في الهزائم مدهش أن يصل اإلنسان بخيبته

الجميع. فال بد أن تكون لك أحالم أيضا، فليست كل الهزائم في متناول بعواطفك تلك إلى فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل

..ضدها بهذه الطريقة

أن أجد في ذلك "الخراب الجميل" كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل من نزعة سادية، الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما يمكن أن يثير مخاوفي

أو مازوشية ما قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول دون:من التفكير كثير

زوربا صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري أنك تحبين- !إلى هذا الحد

:قلت ضاحكة

القصة كثيرا. يوم قرأتها شعرت سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه- كهذا.. أو أكتب بشيء من الغبطة والحزن معا. كنت أريد أن أحب رجال

رواية كهذه، ولم يكن ذلك ممكنا، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى.منها بطريقة أو بأخرى أشفى

:قلت ساخرا

الشبه بيني وبينه، فقد تحققين األمنيتين يسعدني إذن أن تجدي شيئا من- ..معا

:المحببة وقلت تأملتني بشيء من الشيطة

.معك أريد أن أحقق إحدى األمنيتين فقط-

:أسألك أيهما وأضفت قبل أن

- .لن أكتب عنك شيئا

Page 78: ذاكرة الجسد

آ.. لماذا..؟-

أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب الروايات لنقتل األشخاص ألني ال- ..عبئا علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم الذين أصبح وجودهم

اإلجرامية" لألدب وقلت لك ونحن "يومها ناقشتك طويال في نظرتك:نفترق

!روايتكم األولى.. أو "جريمتك األولى"؟ أيمكنني أخيرا أن أطلع على-

:ضحكت وأجبت

!أال تتحول إلى محقق جنائي أو طرف في تلك القصة طبعا.. شرط- تراك كنت تتنبئين بما- ينتظرني، وتدرين مسبقا أنني لن أكون معك قارا

.محايدا بعد اآلن

:التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت تمدين نحوي الكتاب في اليوم

..شيئا من المتعة في قراءتها أتمنى أن تجد- :قلت مازحا

!ضحاياك متعتي وأتمنى أال يفسد عدد-

:أجبت باللهجة نفسها

!الجماعية ال.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر-

..كيف نسيت هذه الجملة األخيرة قصتك الجديدة هذه، التي تروج لها المجالت عندما أتذكرها اآلن، أقتنع أن

ما كان زياد.. وربما والجرائد، لن تكون سوى ضريح فردي لبطل واحد ربا بميتة !كهذه؟ كان أنا.. فمن ترى المحظوظ من

وحده كتابك قد يحمل جوابا على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى.تطاردني

أنني ولكن.. لماذا يثير كل ما تكتبيه لدي أكثر من سؤال؟ ولماذا أشعرطرف في كل قصصك الواقعية والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟

ألنني أتوهم أن لي حقا تاريخيا عليك، أو ألنك يوم أهديتني كتابك ترى تضعي عليه أي إهداء، وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم األول ذاك، لم

:أنسه للغرباء فقط.. وأما الذين نحبهم فمكانهم ليس في إننا نخط إهداء"

Page 79: ذاكرة الجسد

..".صفحات الكتاب الصفحة البيضاء األولى، وإنما في

الهثا من يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. رحت أركض صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء

كتبته لي مسبقا مثال حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما قد يكون قد تكونين.تكن قصتنا يربطنا من خالل قصة لم

كتلك أدري أن ذلك كان جنونا، ولكن أليس في الحياة مصادفات مدهشة ، وبقيت تنتظرك ربع قرن1957اللوحة التي رسمتها ذات أيلول من سنة

كانت لك.. بل إنها كانت أنت؟ دون أن أنها

ذاك، سوى مرارة وألم وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبئي لي في كتابك قد وغيرة حمقاء، ذقت نارها ألول مرة. غيرة جنونية من رجل من ورق،ثت به فراغ أيامك يكون مر بحياتك حقا.. وقد يكون مخلوقا خياليا، أث

.الصفحات فقط وبياض

واحدة عن ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم تجيبيني مرة:ذلك السؤال.. رحت تعمقين حيرتي بأجوبة أكثر غموضا.. قلت

المهم في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه ال غير، فوحدها الكتابة هي إن- ستبقى، وأما الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس األدب.. وهي التي

أو آلخر.. ثم واصلنا الطريق معهم أو توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب.بدونهم

:قلت

تكون عالقة الكاتب بملهمه مبسطة إلى هذا الحد. إن ولكن ال يمكن أن- ..إنه مدين له بشيء.. الكاتب ال شيء دون من يلهمه

..قاطعتني

أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من "مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه- قباني عن ضفائر عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزار

"بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوما عليه أن يبيض ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ

ابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان قيمته ليس في متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن المذهلة على نقل أحاسيس

بالمجد إذن؟ والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين لآلخر

كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب من:الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة

Page 80: ذاكرة الجسد

أم ال؟.. هل مر هذا الرجل بحياتك-

:ضحكت.. وقلت

جريمة. وفي 60 عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من- من القتلى. ولم يرفع أي مرة روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد

. ويكفي قارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهن قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع االتهام نحوها، وليجد أكثر كاتبة أن تكتب

دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه ال بد للنقاد من من محقق جنائي أكثر من نهائيا، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خياال يفوق أن يحسموا يوما هذه القضية

خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا !جميعا

:ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت

يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤاال لم في انتظار أن- بحياتك حقا؟ تجيبيني عنه.. هل مر هذا الرجل

:قلت وأنت تعبثين بأعصابي

..الكتاب المهم أنه مات بعد هذا-

آ.. ألنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟-

:وأنت تواصلين مراوغتك قلت

..ألحالمنا ال غير أي ماض؟.. نحن قد نكتب أيضا لنصنع أضرحة-

الرجل كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلك .قد مر بحياتك.. وربما بجسدك أيضا

تبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين كنت أكاد أشم بين السطور رائحة من مذاق قبلته.... صفحات كتابك. في كل فقرة شيء منه.. من سمرته..من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له

في حبك حقا.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض تراه أبدع اختراع نسائي، كسته لغتك رجولة وأحالما، صنعت لها بعد ذلك ضريحا

أطالع ذلك الكتاب، في زي جميال.. على مقاسه. وأنا، بأي منطق رحت وأبحث بين عاشق متنكر ببدلة شرطي أخالق. وإذا بي أنقب بين الكلمات

الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف األحرف.اسمه هناك األولى من

ذهب تفكيري بعيدا.. تذكرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنك

Page 81: ذاكرة الجسد

تقطنين عند عمك منذ عين في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراككل الفترة التي كنت فيها بمفردك؟ فعلت قبل ذلك في

مثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعا ومتعبا أكون قادرا على عالقتي بك قد تغيرت منذ قرأتك وأنني أشك في أن.الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأ لسالح الكلمات

قلت :فقط وكأن األمر ال يعنيك تماما

!كان عليك أال تقرأني إذن-

:بحماقة أجبتك

..لفهمك ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا ال أملك طريقة أخرى-

:أجبت

على حافة مخطئ.. أنت لن تفهم شيئا هكذا.. الكاتب إنسان يعيش- الحقيقة، ولكنه ال يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرخين ال غير.. إنه

في الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعا من الكذب المهذب. والروائي.يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقية الناجح هو رجل

ثم أضفت بعد شيء من التفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألما في ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي كذلك. قررت يومها أال أنقب بعد ذلك

هناك من شي بشيء. ربما ألنك أنثى تحترف المراوغة. وربما ألنه ليس.يستحق االعتراف

الطفلة التي عرفتها. كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلك في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإال ما سر

تعلقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي باألسئلة، وتسدرجينها للحديث لماذا كل تلك الشراهة للمعرفة، كل تلك الرغبة في عن كل شيء؟

وما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة مقاسمتي ذاكرتي وكل ما أحببتعقدتك؟

***

من أسبوعين فقط، وليس ال بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا أيام؟ كيف منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة

منا في بضع ساعات قضيناها معا، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت تعلواحد؟

Page 82: ذاكرة الجسد

كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءا من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود

والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع الزمانوالجنون؟ قرن من المعاناة

.كنا لوجة وسط عدة لوحات أخرى متعددة األلوان، رسمتها المصادفة يوما ثم كنا لوحة متقلبة األطوار،

بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من واصلت رسمها يد األقدار. وكنت أتلذذ.أكثر صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته ال

لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق ألترك المعلقة

ام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى القاعة فارغة لرس.ال تشبه قصتي

.أيامي معك كنت أشعر أنني أجمع.لآلخر فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها

تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلق نحو األعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة

.حزن األرجوحة الحديدية هوة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها وتحت

.لسماء استفزازية الهدوء والزرقة الصارخ مع المزاج الصافي

حاجة إلى تفاصيل جديدة لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في.بها تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان

في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقالم ومشاريع أحالم تجاوزتها األحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط

.الزمن بربع قرن من

.حملتها تحت إبطي، وكأنني أميزها عن األخريات. كنت فجأة على عجل أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محمال بفرشاة وألوان أخرى،

والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيرا حجارة "قنطرة الحبال" ألنفخ الحياة ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على حجرا.. حجرا. ولكن كان في

وأين؟... كل شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد اآلن

انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريبا. وها نحن محاصران بكل مستحيالت الزمان والمكان. مالحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا.

ال نعرفهم.. ويعرفوننا. أي جنون.. وأي قدر كان قدري بكل أولئك الذين عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت معك! ولماذا وحدي تفضحني

ذات يوم وأنا بصحبتك، بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف

Page 83: ذاكرة الجسد

يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك.االرتباك الذي سيفضحني ال محالة

.على برنامج جديد اتفقنا على أن تطلبيني هاتفيا، وأن نتفق

الجامعي. كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكنا أ، أزورك في حيك.فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها معك في الجامعة نفسها

.لنا أن نجد ظروفا أكثر تعقيدا من هذه؟ أكان يمكن

***

أطول نهاية أسبوع على اإلطالق، كانت تلك التي قضيتها في انتظار هاتفك.االثنين صباح

.يوم األحد دق الهاتف

فربما نجحت في سرقة لحظات. أسرعت إليه وأنا أراهن أنك أنت أخفيت عنها خيبتي.. تحدثينني فيها.. ولو قليال. كانت كاترين على الخط

ورحت أستمع لها وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرها القادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض وقالت وهي تنتقل من

:آخر موضوع إلى

لقد قرأت مقاال جيدا عن معرضك في مجلة أسبوعية.. من المؤكد أنك- اطلعت عليه.. إنه بقلم روجيه نقاش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتك

.جيدا

:لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب

..صديق قديم نعم، إنه-

.تخلصت منها بلباقة

ذلك اليوم. ربما كانت حاجتي للرسم لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائها.فقط ممتلئا بك يومها، تفوق حاجاتي الجسدية األخرى.. وربما كنت

.عدت إلى مرسمي مثقل الخطى

تشكيلة من األلوان، ألبدأ في وضع لمسات على كنت شرعت في إعداد.تلك اللوحة

أمامها إلى ذلك الرسام المبتدئ الذي كنته منذ ولكنني ارتبكت. تحولت

Page 84: ذاكرة الجسد

.خمس وعشرين سنةالجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه الصبغة المربكة؟ ترى قرابتها

ألنني كنت أجلس أمام الماضي ال غير.. ألضفي على أم تراني كنت مرتبكاالرتوشات"؟ "الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض

كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة. وأدري_رغم رغبتي المضادة للمنطق_ أنه ال ينبغي أبدا العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله،

.محاولة لتشويهه ليست سوى

كان كل.. كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقني فجأة هكذا شيء فيها مبسطا حد السذاجة، فلماذا ال أواصل رسمها اليوم، ولماذا ال

أعاملها بمنطق فني ال أكثر؟

لوحاته؟ كان يعود ألم يقض ) شاغال( خمس عشرة سنة في رسم إحدى بعدما أصر إليها دائما بين لوحة وأخرى ليضيف شيئا أو وجها جديدا عليها،

طفولته؟ على أن يجمع فيها كل الوجوه واألشياء التي أحبها منذ

أليس من حقي أيضا أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع على هذا الجسر بعض خطى العابرين، وأرش على جانبيه بعض البيوت المعلقة فوق

من ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيال أحيانا، الصخور، وأسفله شيئا ألم يعد ضروريا أن أضع عليها بصمات ذاكرتي.. ورقراقا زبديا أحيانا أخرى

األولى، التي كنت عاجزا عن نقلها في السابق، يوم كنت رساما مبتدئاوهاويا ال غير؟

روجيه نقاش، صديق طفولتي.. وصديق ال أدري كيف تذكرت لحظتها.غربتي

بذكراها، هو الذي لم يعد إليها أبدا منذ ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقه الجالية اليهودية التي كانت تريد مع أهله، ومع فوج من1959غادرها سنة

.أن تبني لها مستقبال آمنا في بلد آخر

لك يحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصر على أن يسمعني شريطاحات جديدا للمطربة اليهودية "سيمون تمار" وهي تغني المالوف والموش

مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر، القسنطينية بأداء وبصوت مدهش،.يزين غالف شريطها الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك.. والذي

زوجها في منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يد.إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحب رجل عربي

حقا.. أجابني.. "ال أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " سألته إن كان ذلك".قسنطينة أدري أنها كانت تحب

واحدة، وروجيه أيضا كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة

Page 85: ذاكرة الجسد

أو يأتيه أحد على األقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال..غرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال نافذة

واإلحراج معا وأنا أستمع إليه، يقص علي وكنت أشعر بمزيج من السعادة ربع قرن من البعد أي نبرة بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمس

!فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة

إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وكان يزيد فقد كان له من الصداقات والوساطات،. وصلت إلى باريس ألستقر فيها

من المعامالت ما يمكن أن يسهل علي_دون أن أطلب منه_ كثيرا.والمشكالت التي تواجه رجال في وضعي

تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا ال أفهم ذات مرة سألته "لماذا لم في ذلك الحي ويذكرونها بالخير.." خوفك، إن الناس مازالوا يعرفون أهلك

الناس هناك، بل أال أذكر وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس أال يعرفني بيتي منذ أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك األزقة.. وذلك البيت الذي لم يعد

..".عشرات السنين

ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالت هناك.. وأنها تعطي تينا وذلك.. كل سنة، وأن ذلك الشباك مازال يطل على ناس كنت أحبهم

الزقاق الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب.."اإلطالق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها شيء على

مكابرة، فأضاف بشيء من المزاح "لو كان في عينيه يومها لمعة دموع أن أواجه ذاكرتي حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخاف

..".وحدي

لم يطرح معي ذلك اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كالمه فجأة_ هو الذي _الموضوع بعد ذلك أبدا

ذاكرته؟ تراه نجح حقا في التحايل على وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها األول

األولى وال نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم وصورتها كواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحاالت إنقاذ بعدها كل شيء داخلنا

.الذاكرة

وشعرت أن هاتف كاترين أنقذني بطريقة غير أقنعني ذلك المنطق،.ارتكابها مباشرة من حماقة كنت على وشك

شيئا هنا، لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا أضفت إليها أو طمست فيها شيئا هناك.. ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزورة.. وهل

عندئذ أن نكون أجمل؟ يهم

Page 86: ذاكرة الجسد

ذلك ال بد أن نظرت إلى خشبة األلوان التي كانت بيدي. فكرت أنه رغم مثلي أفعل شيئا بهذه األلوان.. وبهذه الفرشاة العصبية التي كانت تترقب

.لحظة الخلق الحاسمة

.ببالي وفجأة وجدت الحل في فكرة بسيطة ومنطقية لم تخطر

رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها لوحة بيضاء ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة أخرى، بسماء أخرى، بواد آخر جديدة،

.وبيوت وعابرين

هذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ بها، وكأن أمر الجسر رحت النهاية، بقدر ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف لم يعد يعنيني في

تبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة )أو عفونة( عليها. وتلك النباتات التي حفرتها خطى اإلنسان وسط األعماق. وتلك الممرات السرية التي

من الجسر المسالك الصخرية. منذ أيام )ماسينيسا( وحتى اليوم، في غفلة العجوز الذي ال يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما يحدث على علو

!من أقدامه متر700

يولد بين أليس التحايل على الجسور هو الهدف األزلي األول لإلنسان الذيالمنحدرات.. والقمم؟

وأدهشني أكثر، كون أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛ ربع هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذ

.قرن، يوم رسمت هذا الجسر نفسه ألول مرة

األولى، محكوما بالخطوط العريضة لألشياء ترى ألنني كنت في بدايتي يتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك كأي مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم يكن

واحدة؟ الدكتور_ أو إدهاش نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيد

فقط وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت شيئا ألحد. أريد أن أعيش أحالمي السرية، وأن أنفق ما بقي لي من وقت في طرح

عليها في الماضي ترفا.. ليس في متناول الشباب. أسئلة.. كان الجواب..المجاهد المعطوب الذي كنته وال في متناول.. ذلك المناضل أو

كانت وقتا جماعيا نعيشه ربما ألن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بل.بالجملة، وننفقه بالجملة

الكبرى.. والشعارات الكبرى.. والتضحيات الكبرى. ولم كان وقتا للقضايا.الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة يكن ألحد الرغبة في مناقشة

!الثورات تراها حماقة الشباب.. أم حماقة

ولكنني. أخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية األحد، وقسما كبيرا من الليل

Page 87: ذاكرة الجسد

كنت سعيدا وأنا أرسم، وكأنني كنت أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي"".لي بعد ذلك العمر "ارسم أحب شيء إلى نفسك يعود ليقول

.باالرتباك نفسه وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها،

تمرينا في ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمرينا في الرسم. كان.الحب

نسخة أخرى كنت أشعر أنني أرسمك أنت ال غير. أنت بكل تناقضك. أرسم.عنك أكثر نضجا.. أكثر تعاريج. نسخة أخرى من لوحة كبرت معك

ما بشهوة ورغبة كنت أرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل ورب..سرية ما

!شهوتك تتسلل يومها إلى فرشاتي، دون أن أدري؟ فهل بدأت

***

في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعة .تماما

.جاء شالل فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها على وسادتي أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد ليلة مرهقة من كنت

.نوافذ غرفتي، ويقبلني قبلة صباحية العمل. شعرت أنه يشرع

هل أيقظتك.؟-

!توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم ال أكثر ال أنت لم-

:المزاح والجد قلت بلهجة جزائرية بين

..عالش.. إن شاء الله خير-

:قلت

..حتى ساعة متأخرة من الليل ألنني رسمت-

وما ذنبي أنا؟-

!الملهم.. يا ملهمتي ال ذنب لك سوى ذنب-

:أعصابك صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين السيطرة على

-ah.. non!

Page 88: ذاكرة الجسد

:ثم أضفت

!لها من كارثة معك أتمنى أنك لم ترسمني.. يا-

وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟-

:عصبي واصلت بصوت

أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها القاعات من مدينة إلى- !أخرى، يتفرج عليها كل من يعرفني؟

من فرط سعادتي، وربما كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما.اآلخرين ألنني مجنون حقا، وال أعرف كيف أكون سعيدا مثل

:قلت لك

توقفنا أمامهم ذات أما قلت مرة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس- يوم لسبب أو آلخر، وأنهم ليسوا سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك ال

!يعني شيا، سوى أنني صادفتك يوما في طريقي ال غير

:صحت

أحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع اآلخرين أنك رسمتني بعدما أأنت- واقفة مثال أمام ضوء أحمر.. إننا ال نرسم صادفتني مرة على رصيف،

!معروف سوى ما يثيرنا.. أو ما نحبه.. هذا

تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك االعتراف، وتدورين حوله، أم كنت من الحماقة لتصدقي زعمي بأنني ال أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة

ذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقربني منك في الصباحية، وفي.لمصارحتك آن واحد.. مناسبة

:قلت

.!لنفترض إذن أنني أحبك-

الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة لكالمي. ولكنك قلت كنت أنتظر وقع:بعد لحظة صمت

!إذن.. أنني لم أسمع ولنفترض-

..أدهشتني

Page 89: ذاكرة الجسد

التصريح" أقل أو أكثر مما توقعت، أم "لم أفهم تماما إذا كنت تجيدين ذلك وأنت تدرين أنك تلعبين أنك كعادتك تتالعبين بالكلمات بمتعة مدهشة،

.آخر بأعصابي ال غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل

أين نلتقي؟-

.بجدية كان هذا هو السؤال األهم الذي قررنا أن نجيب عليه

تناقشنا طويال في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب فيه قهوة، أو نتناول .فيه وجبة الغداء معا

.ولكن باريس ضاقت بنا

األماكن التي يرتادها الطلبة. وكنت ال أرتاد غير كنت ال تعرفين غير نلتقي في أحد المقاهي المجاورة المقاهي القريبة من حيي. قررنا أن

.لبيتي والتي تقدم وجبات غداء

.إحدى حماقاتي الكبرى وكنت أقترف تماما لعنوان بيتي، لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنوانا لذاكرتي مجاورا

.وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي

اآلن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا. وكيف لم أعد أذكر بعدما تعود أن يختار لنا زاوية جديدة كل مرة، تتالءم أصبح تدريجيا يشبهنا،

..شهرين من السعادة المسروقة مع مزاجنا المتقلب، خالل

وحسب ساعات دراستك كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار،.وبرنامج أعمالي

الساعة التاسعة، وأنت في تعودت أن تطلبيني هاتفيا كل صباح في الذي لم بعد طريقك إلى الجامعة. ونتفق كل صباح على برنامج لك اليوم

.لنا فيه في النهاية من برنامج سوانا

نحو هاوية حبك، أصطدم بالحجارة والصخور، كنت أتدحرج يوما بعد آخر أحبك. وال أنتبه إلى آثار وكل ما في طرقي من مستحيالت. ولكنني كنت

قبلك الجراح على قدمي، وال إلى آثار الخدوش على ضميري الذي كان إناء بلور ال يقبل الخدش. وكنت أواصل نزولي معك بسرعة مذهلة نحو

.العشق الجنوني أبعد نقطة في وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبك. على األقل حتى تلك الفترة التي كنت مكتفيا فيها بحبك، بعدما أقنعت نفسي أنني ال أسيء إلى أحد بهذا

.الحب

Page 90: ذاكرة الجسد

وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت تكفيني تلك العاطفة الجارفة التي تعبرني ألول مرة، بسعادتها المتطرفة أحيانا, وحزناه

..أخرى المتطرف أحيانا

.كان يكفيني الحبمتى بدأ جنوني بك؟

التاريخ وأتساءل.. ترى أفي ذلك اليوم الذي يحدث أن أبحث عن ذلك الذي انفردت بك فيه ألول مرة؟ رأيتك فيه ألول مرة؟ أم في ذلك اليوم.مرة؟ أم في ذلك اليوم الذي قرأتك فيه ألول

أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، ألرسم فيه قسنطينة.. كأول!مرة

.ترى يوم ضحكت أم يوم بكيت.صمت أعندما تحدثت.. أم عندما

!أعندما أصبحت ابنتي.. أم لحظة توهمت أنك أمي؟.التي أوقعتني؟ أي امرأة فيك هي

كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الدمية الروسية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا

!واحدة تكون سبع دمى داخل

كنت كل مرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بك تأخذين في بضعة أيام مالمح كل النساء. وإذا بي محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن علي في

حضورك وفي غيابك، .فأقع في حبهن جميعاأكان يمكن لي إذن أن أحبك بطريقة واحدة؟

.امرأة.. كنت مدينة لم تكوني

مالمحهن؛ في ثيابهن مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهن وفي؛ نساء من قبل جيل أمي ؛ في خجلهن وفي جرأتهن إلى وفي عطرهن

.أيامك أنت

.نساء كلهن أنت

ابتلعتني كما تبتلع المدن المغلقة عرفت ذلك بعد فوات األوان. بعدما.أوالدها

..مدينة تسكنني منذ األزل كنت أشهد تحولك التدريجي إلى

يوم مالمح قسنطينة، كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوما بعد تزورين تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها وذاكرتها ومغاراتها السرية،

Page 91: ذاكرة الجسد

أولياءها، تتعطرين ببخورها، ترتدين قندورة عنابي من القطيفة، في لون أما"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد أسمع وقع خلخالك "ثياب

.الذاكرة الذهبي يرن في كهوف

.لألعياد أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين

وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا "تساء" على.الطريقة القسنطينية

.النساء في قسنطينة كنت أناديك مدلال "ياال" كما لم يعد الرجال ينادون

قسنطينة دون غيرها، كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته.عن أهل قريش من عصور

وكنت، كنت عندما يجردني عشقك من سالحي األخير، أعترف لك مهزوما!".زينك على طريقة عشاقنا "نشتيك.. يعن بو

تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي اختصروها منذ زمان لتخفي.معناها األصلي، وتتحول إلى كلمة ود ال غير

تعترف بالشهوة وال تجيز الشوق؛ إنما تأخذ فقسنطينة مدينة منافقة، ال.المدن العريقة خلسة كل شيء، حرصا على صيتها، كما تفعل

!والسراق.. ولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضا

لتباركني ولم أكن سارقا، وال كنت وليا، وال شيخا يدعي البركات،.قسنطينة

رسام، كنت فقط، رجال عاشقا، أحبك بجنون رسام؛ بتطرف وحماقة خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها،

.القرابين لها وتقديم

!وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبينه في حبي

:قلت لي ذات يوم

كنت أحلم أن يحبني رسام. قرأت عن الرسامين قصصا مدهشة. إنهم األكثر جنونا بين كل المبدعين. إن جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. ال

ما يقال عن الشعراء مثال أو عن الموسيقيين. لقد قرأت يشبه في شيء غوغان... دالي.. سيزان.. بيكاسو وآخرين.. حياة فان غوغ.. دوالكروا

.من قراءة سيرة الرسامين كثيرين لم يبلغوا هذه الشهرة. أنا ال أتعب

تقلبهم وتطرفهم. تهمني تلك في الواقع شهرتهم ال تعنيني بقدر ما يعنيني فجأة خروجهم عن اللحظة الفاصلة بين اإلبداع والجنون. عندما يعلنون

Page 92: ذاكرة الجسد

أحيانا، المنطق واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحق التأمل واالنبهار.حياتهم فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدينا وتعجيزنا بلوحة ليست سوى

تهم في إنتاجهم. وهنالك آخرون، هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقري يصرون على توقيع حياتهم أيضا، بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة

..للتكرار أو التزوير فريدة، غير قابلة

أن شاعرا يمكن أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. وال أظن أن يصل إلى ما وصل إليه فان غوغ مثال في لحظة يأس واحتقار للعالم،

..عندما قطع أذنه ليهديها إلى غانية أذكر اسمه، والي شنق أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد

قضى نفسه، بعدما علق في سقف غرفته، لوحة المرأة التي أحبها والتي أياما في رسمها. وهكذا توحد معها على طريقته.. ووقع لوحته وحياته معا

.واحدة مرة

:قلت

على تعذيب إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة- .أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس كذلك؟

:أجبت

ولكن هنالك لعنة ما تالحق الرسامين دون غيرهم؛ وهنالك جدلية ال.. ال- فكلما زاد عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم.. تنطبق إال عليهم

خيالية، وكأن عليهم أن ينسحبوا لتحل حتى إن موتهم يوصلها إلى أسعار.هي مكانهم

.رأيك لم أناقشك في

.منك رحت أستمع إليك وأنت ترددين كالما أعرفه، ولكن فاجأني

لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني الحتمال جنوني، أو لشيء آخر. وال أن.تكون نيتك الالشعورية تحويلي إلى لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي

عذابي حقا، من قيمة أية لوحة سأرسمها كيفما كان، تحت تأثير هل سيزيدجنوني؟ جوعي أو نوبة

عند اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفن ترى؟.. وأين تبدأ النزعة الساديةاآلخرين؟

وإنما بطبع كنت أعتقد أن هذه الجدلية ال عالقة لها باإلبداع وال بالفن،.اإلنسان ال أكثر

Page 93: ذاكرة الجسد

اآلخرين، ونعتقد، عن نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات.أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء ليصلب مكاننا

يحزننا و يسعدنا في آن واحد. قصته قد تبكينا، ولكنها لن تمنعنا من عذابه تدفعنا إلى إطعام فنان آخر، يموت جوعا أو قهرا أمامنا. بل إننا النوم، ولن

تتحول جراح اآلخرين إلى قصيدة نغنيها، أو لوحة نجد من الطبيعي أن.نفسه نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسبب

فهل الجنون قصر حقا على الرسامين دون غيرهم؟ مشتركا بين كل المبدعين، وكل المسكونين بهذه الرغبة أليس هو قاسما

المرضية في الخلق؟ ال يمكن بحكم منطق اإلبداع نفسه، أن يكون إنسانا عاديا، بأطوار فالذي

عادي. بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة عادية وبحزن وفرح.والتعاسة

.مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد مبررا لسلوكه إنه إنسان متقلب،.زياد كان ذلك أول يوم حدثتك فيه عن

:قلت

- بحزنه لقد عرفت شاعرا فلسطينيا كان يدرس في الجزائر. كان سعيدا وبوحدته؛ مكتفيا بدخله البسيط كأستاذ لألدب العربي، وبغرفته الجامعية

الصغيرة، وبديوانين شعريين. حتى ذلك اليوم الذي تحسنت أحواله المادية، شقة وكان على وشك الزواج من إحدى طالباته التي أحبها وحصل على

.أخيرا تزويجها منه بجنون، والتي قبل أهلها

ليلتحق بالعمل عندما قرر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى بيروت..الفدائي

تلك، وإصراره على عبثا حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته الرحيل عندما أوشك أخيرا أن يحقق أحالمه. وكان يجيب ساخرا "أي

أحالم.. أنا ال أريد أن أقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشرد.. فعندها لن..".شيء أمتلكه من قيمة يكون ألي

: ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي خلفه كي يبوح لي بسر أخاف.. "ثم.. ال أريد أن أنتمي المرأة.. أو إذا شئت ال أريد أن أقيم فيها

..".السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق للشعراء

الفتاة التي أحبته تزورني راجية أن أقنعه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب وكانت حتفه المؤكد. ولكن عبثا، لم تكن هناك حجة واحدة إلى الموت وإلى

المفاجئ، أصبح يجد في حججي ما إلغرائه بالبقاء.. بل إنه في تطرفه.يزيده إغراء بالرحيل

Page 94: ذاكرة الجسد

بشيء من السخرية، وكأنه يعطيني درسا في أذكر أنه قال لي يومها:الحياة

المكان ونحن في قمة نجاحنا. إنه الفرق هناك عظمة ما، في أن نغادر"!".االستثنائيين بين عامة الناس.. والرجال

رسام قطع سألتك إن كنت تعتقدين أن شاعرا كهذا، هو أقل جنونا منأذنه؟

موتا، دون لقد استبدل براحته شقاء لم يكن مرغما عليه. واستبدل بحياته.أن يكون مجبرا عليه

مهزوما ومكرها. إنها طريقته لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابرا وليس.الموت في أن يهزم مسبقا شيئا ال يهزم، وهو

:سألتني بلهفة

هل مات؟-

:قلت لك

يمت.. أو على األقل مازال على قيد الحياة حتى تاريخ بطاقته ال.. إنه لم- األخيرة التي بعث إلي .بها في رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريبا

..أفكارنا معا ذهبت إليه ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن

:قلت لك

في مغادرتي الجزائر؟ معه تعلمت أنه ال أتدرين أنه كان سببا غير مباشر- يسكنوننا، وأنه ال بد أن نضحي يمكن أن نتصالح مع كل األشخاص الذين

طينتنا األولى، ألننا بأحدهم ليعيش اآلخر. وأمام هذا االختبار فقط نكتشف.غير ننحاز تلقائيا إلى ما نعتقد أنه األهم.. وأنه نحن ال

:قلت وأنت تقاطعينني

فرنسا؟ صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى-

:الخيبات أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر أوصدته

قد ال تقنعك أسبابي.. ولكنني مثل ذلك الصديق، أكره الجلوس على- القمم التي يسهل السقوط منها. وأكره خاصة أن يحولني مجرد كرسي

.آخر ال يشبهني أجلس عليه إلى شخص

Page 95: ذاكرة الجسد

علي، لقد كنت بعد االستقالل أهرب من المناصب السياسية التي عرضت.والتي كان الجميع يلهثون للوصول إليها

أن أقوم فيه بشيء من التغيرات دون كنت أحلم بمنصب في الظل يمكن عينت كمسؤول عن كثير من الضجيج ودون كثير من المتاعب. ولذا عندما

النشر والمطبوعات في الجزائر، شعرت أنني خلقت لذلك المنصب. فقد قضيت كل سنوات إقامتي في تونس في تعلم العربية والتعمق فيها،

القديمة كجزائري ال يتقن بالدرجة األولى سوى الفرنسية. وتجاوز عقدتي الثقافة، ال أنام قبل أن أبتلع وجبتي وأصبحت، في بضع سنوات، مزدوج

.من القراءة بإحدى اللغتين

بالكتب ومع الكتب. حتى إنني كدت في فترة ما أنتقل من كنت أعيش الرسم إلى الكتابة، خاصة أن الرسم، كان في نظر البعض آنذاك، شبيها

الفني، التي ال عالقة لها بالشذوذ الثقافي، وعالمة من عالمات الترف.بظروف التحرير

.ممتلئا بالكلمات عندما عدت إلى الجزائر بعدها، كنت والقيم، ورغبة وألن الكلمات ليست محايدة، فقد كنت ممتلئا كذلك بالمثل

فيه في تغير العقليات والقيام بثورة داخل العقل الجزائري الذي لم تغير .الهزات التاريخية شيئا

أريد أن أسميه "الثورة ولم يكن الوقت مناسبا لحلمي الكبير الذي ال الثقافية". بعدها لم تعد هاتان الكلمتان مجتمعتين أو متفرقتين تعنيان شيئا

.عندنا

بدأت التغيرات كانت هناك أخطاء كبرى ترتكب عن حسن نية. فلقد بالمصانع، والقرى الفالحية والمباني والمنشآت الضخمة، وترك اإلنسان

.إلى األخير

فكيف يمكن إلنسان بائس فارغ، وغارق في مشكالت يومية تافهة، ذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين، أن يبني وطنا، أو يقوم بأية

زراعية، أو أية ثورة أخرى؟ ثورة صناعية أو

اإلنسان نفسه، ولذا أصبح لقد بدأت كل الثورات الصناعية في العالم من.اليوم اليابان )يابانا( وأصبحت أوربا ما هي عليه

وحدهم العرب راحوا يبنون المباني ويسمون الجدران ثورة. ويأخذون.األرض من هذا ويعطونها لذاك، ويسمون هذا ثورة

إلى أن نستورد حتى أكلنا من الخارج.. الثورة عندما ال نكون في حاجة.التي يسيرها الثورة عندما يصل المواطن إلى مستوى اآللة

Page 96: ذاكرة الجسد

التي كان صوتي يأخذ فجأة نبرة جديدة، فيها كثير من المرارة والخيبة تراكمت منذ سنين. وكنت تنظرين إلي بشيء من الدهشة وربما من

.وأنا أحدثك ألول مرة عن شجوني السياسية اإلعجاب الصامت،

:سألتني

فرنسا إذن؟ ألهذا جئت إلى-

:قلت

كهذه، ألنني ذات ال.. ولكنني جئت ربما بسبب أوضاع هي نتيجة أخطاء- يوم قررت أن أخرج من الرداءة، من تلك الكتب الساذجة التي كنت

مضطرا إلى قراءتها ونشرها باسم األدب والثقافة، ليلتهمها شعب جائع.العلم إلى

كنت أشعر أنني أبيعه معلبات فاسدة مر وقت استهالكها. كنت أشعر أنني مسؤول بطريقة أو بأخرى عن تدهور صحته الفكرية، وأنا ألقنه األكاذيب

من مثقف إلى شرطي حقير، يتجسس على الحروف بعدما تحولت فقد كنت أتحمل وحدي مسؤولية.. والنقاط، ليحذف كلمة هنا وأخرى هناك

.ما يكتبه اآلخرون إلى مكتبي إلقناعه بحذف فكرة أو كنت أشعر بالخجل وأنا أدعو أحدهم

.رأي كنت أشاركه فيه

ذلك الشاعر الفلسطيني الذي حدثتك عنه، والذي.. ذات يوم، زارني زياد.لم أكن التقيت به من قبل

اتصلت به ألطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في وكنت لي قاسية تجاه بعض األنظمة.. وبعض الحكام ديوانه، والتي كانت تبدو

بتلميح واضح، ناعتا إياهم بكل العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم.األلقاب

.اليوم لم أنس أبدا نظرته ذلك توقفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة

:وقال مهينة

".بيروت ال تبتر قصائدي سيدي.. رد لي ديواني، سأنشره في"

شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني على وشك أن مكاني ألصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته أنهض من

.االستفزازية وكلماته

ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟

Page 97: ذاكرة الجسد

أو تلك الشجاعة التي لم يواجهني بها كاتب قبله، ترى هويته الفلسطينية، ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في أم ترى عبقريته الشعرية؟ فقد كان

كاألنبياء هم ذلك الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء.دائما على حق

وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك تلقيت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، سنوات الشاعر على حق، كيف لم أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئا من

سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوهة مثلي؟

له متحديا، وأنا ألقي نظرة غائبة على غالف تلك المخطوطة: قلت "سأنشره لك ".حرفيا

كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو الشجاعة التي كان ال يمكن لموظف مهما كان منصبه أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته،

ألن الموظف في !النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيا

المتاعب. شعرت أن هناك شيئا من سبب لي ديوانه عند صدوره بعض.الزيف الذي لم أتحمله

فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا باسم الصمود ووحدة ما الذي يمنعني من من حقنا أن ننتقد أنظمة دون أخرى الصف، نصمت على جرائمها؟ ولماذا

بواخرنا؟ حسب النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان

ألستبدل بدأ شيء من اليأس والمرارة يمألني تدريجيا. هل أغير وظيفتيبمشكالتي مشاكل أخرى، وأصبح هذه المرة طرفا في لعبة أخرى؟

أفعل بكل ما كدست وجمعت من أحالم طوال سنوات غربتي ماذا األربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي

األخرى؟

العنيد الذي يسكنني، ويرفض أن يساوم ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر يعيش ويتعلم الجلوس على على حريته، وبذلك الرجل اآلخر الذي ال بد أن

.المبادئ.. ويتأقلم مع كل كرسي

.أحدهما ليحيا اآلخر... وقد اخترت كان ال بد أن أقتل

.حياتي كان لقائي بزياد منعطفا في

اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيرا ما.تبدأ بالمواجهة واالستفزاز واختبار القوى قوية وبذكاء وحساسية مفرطة، فال يمكن لرجلين يتمتع كالهما بشخصية

لغة العنف رجلين حمال السالح في فترات من حياتهما.. وتعودا على

Page 98: ذاكرة الجسد

.والمواجهة، أن يلتقيا دون تصادم األول.. وذلك التحدي المتبادل لنفهم أننا وكان ال بد لنا من ذلك االصطدام

.من طينة واحدة

بعدها أصبح زياد .تدريجيا صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقا نسهر ونسكر معا، نتحدث طويال عن كان نلتقي عدة مرات في األسبوع،

.سعيدين بجنوننا السياسة، وكثيرا عن الفن، نشتم الجميع ونفترق

ين . كان عمره ثالثين سنة، وديوانين، ما يقارب1973كنا في سنة الست.قصيدة، وما يعادلها من األحالم المبعثرة

قليال من الفرح وكثيرا من الخيبات، وكرسيين وكان عمري بعض اللوحات، االستقالل، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة.. أو ثالثا، تنقلت بينها منذ.وبمذاق غامض للمرارة

رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثالثة. عاد إلى بيروت ذات يوم،.التي كان منخرطا فيها قبل قدومه إلى الجزائر لينضم إلى الجبهة الشعبية

والتي كان ينقلها من بلد إلى آخر. ترك لي ترك لي كل كتبه المفضلة وتلك الصديقة التي كانت تزورني فلسفته في الحياة، وشيئا من الذكريات،

لها، وكانت ترفض أحيانا لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب.أن تنساه

:قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل

لم يكتب لها؟ ولماذا-

:قلت

يريد أن تنساه وتتزوج ربما ألنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان- .قدره بسرعة، كان يريد لها قدرا آخر غير

:سألتني

وهل تزوجت؟-

:قلت

أخبارها منذ عدة سنوات، ومن األرجح أن تكون ال أدري.. لقد فقدت- الجمال. ولكن ال أعتقد أن تكون قد تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من

..أن تنساه نسيته، من الصعب على امرأة عرفت رجال مثل زياد

Page 99: ذاكرة الجسد

.شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيدا في أفكاركبدأت تحلمين به؟ تراك كنت قد

وأنا أرد بعد تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو األخرى، في ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، بأجوبة تثير فيك فضول األنثى والكاتبة

آن واحد؟

كما حدثتك عن قصائده كثيرا، وعن ديوانه األخير، الذي كتب قصائده .يطلق بعضهم الرصاص في األعراس والمآتم ليشيعوا حبيبا أو قريبا

هو يشيع صديقا قديما اسمه الشعر، ويقسم أنه لن يكتب بعد اليوم كان.بسالحه سوى

في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغ رشاشه المحشو .وثورة في وجه الكلمات غضبا

!في شيء كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق !آخ.. كم كان زياد مدهشا

مدهشا حقا، وأنني كنت أحمق. كان ال بد أن ال بد أن أعترف اليوم أنه كان..تلتقي أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال ال

لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟

أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خالله أن لي قرابة سابقة بالكتاب أكنتبذلك في عينيك؟ والشعراء، فأكبر

اليوم أم كنت أصفه لك في صورته األجمل، ألنني كنت أعتقد حتى ذلك..أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي ال غير

..ولكن.. ربما كان كل هذا حقا كنت أريد أيضا، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب

.األمة هذه

رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعا لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته،

..وعروبته بكبريائه

.جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه األمة تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقبة كنت ال أريد أن

.مدينة واحدة لآلثار والذكريات، في مساحة

Page 100: ذاكرة الجسد

فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب..ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر

.به وكان يمكن أن تكون لك قرابة كنت أريد أن تمألي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين

.مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية معهم من

عرفت رجاال مثل زياد.. لما أحببت ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو أبطال وهميين. هنالك في بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق

..".الكتاب هذه األمة أبطال جاهزون بفوقون خيال

لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحول إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منا ذات يوم

..ضريحك األخير، وروايتك األخيرة أحببت أكثر، ولمن بنيتألي.. أم له؟

قبلة على خدي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن في ذلك اليوم، وضعت فجأة:على وشك أن ننهض للذهاب

.."انحبك.. خالد"

توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن.أن أحتضنك، أو أقبلك.. أو أرد عليك بألف.. ألف أحبك أخرى وقتها

دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك ولكنني جلست من:أول جملة خطرت آنذاك في ذهني

"لماذا اليوم بالذات؟"

:أجبتني بصوت خافت

إنها أول مرة منذ ثالثة أشهر تحدثني فيها عن. ألنني اليوم أحترمك أكثر- أكن أتصور أنك حضرت إلى نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم

الشهرة أو الكسب باريس لهذه األسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثا عن الصفر ال أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من

..هنا

:قاطعتك مصححا لكالمك

لم أبدأ من الصفر.. نحن ال- نبدأ من الصفر أبدا عندما نسلك طريقا.من قناعاتي جديدا. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت

Page 101: ذاكرة الجسد

فجأة شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من عالقتنا، وأنك عجينة تأخذ.كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحالمي القادمة

:في كتاب عن الرسم ألحد النقاد تقول تذكرت جملة قرأتها يوما

صورة شخصية عن نفسه. إنه إن الرسام ال يقدم لنا من خالل لوحته" لمالمحه يقدم لنا فقط مشروعا عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة

".القادمة

.وكنت أنت مشروعي القادم ومدينتي القادمة. كنت أريدك األجمل، أريدك كنت مالمحي القادمة،

.األروع وجهي تماما، وقلبا آخر، ليس قلبي، كنت أريد لك وجها آخر، ليس

جسدي وروحي من وبصمات أخرى، ال عالقة لها بما تركه الزمن على.بصمات زرقاء

ذات يوم مرسمي، يومها عرضت عليك بعد شيء من التردد، أن تزوري.ألريك ما رسمته في األيام األخيرة

دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على وكنت سعيدا أن تقبلي عرضي العرض نهائيا إذا ما أال تسيئي الظن بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك

.ضايقك

عليها زيارة مدينة ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عرض:لأللعاب

!أو... رائع يسعدني حقا أن أزوره-

اليوم التالي، طلبتني هاتفيا لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، في.خاللهما يمكنك أن تزوريني

.وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن

في بيتي.. أحقا سيحدث هذا؟ أنت

األريكة، ستمشين هنا أحقا ستدقين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه.أمامي

أنت.. أخيرا أنت؟

جوارك، وليس مقابال لك. أخيرا لن يالحقنا نادل أخيرا سأجلس إلى رواد المقهى، وال عيون الغرباء من بطلباته وخدماته. لن تالحقنا عيون

.المارة

Page 102: ذاكرة الجسد

ونفرح، دون أن يكون من شاهد على أخيرا يمكننا أن نتحدث، أن نحزن.تقلباتنا النفسية

لك مسبقا، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي رحت من فرحي أشرع الباب.للعواطف والزوابع

بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السري اآلخر، أن أي جنون كان.. أن آتي.البيت أحولك إلى جزء من هذا

.بعدك هذا البيت الذي أصبح جنتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي أكنت عندئذ أعي كل هذا؟ أم كنت سعيدا وأحمق كأي عاشق ال يرى أبعد

موعده القادم؟ من

األخيرة.. تساءلت بعدها.. إن كنت حقا ال أريد غير إطالعك على لوحتي.وعلى حديقتي السرية للجنون

رسمتها لها اعتذارا ألنني ذات يوم، كنت تذكرت كاترين، وتلك اللوحة التي بينما كان اآلخرون يتسابقون في عاجزا عن أن أرسم شيئا آخر غير وجهها،

.الجميلة رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون

..تذكرت يوم عرضت عليها أن تزورني ألريها تلك اللوحة

أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سببا بعد ذلك في عالقة غير بريئة لم.سنين دامت

أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلة التعقل، ورغبة سريةالستدراج الظروف ألشياء أخرى؟

وهي تستسلم لي في تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء

:المتكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة

..بالحب هذا مكان يغري-

:فأجبتها بشيء من الواقعية

..اليوم لم أكن أعرف هذا قبل-

فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية مابالجنون؟ تغري

فبيننا من. ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها

Page 103: ذاكرة الجسد

..الحواجز ما لن يحطمه أي جنون

الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني اليوم، بعد ست سنوات على تلك.المتقلبة أعيشه مرة أخرى، بكل هزاته النفسية

ها أنت تدخلين في فستان أبيض )لماذا أبيض؟(، يسبقك عطرك إلى.الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك

(.على خدك.. وإذا بي أصافحك )لماذا أصافحك؟ ها أنا أكاد أضع قبلة

أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية )لماذا أيضا جرأة أكثر، داخل تلك اللغة بالفرنسية؟( تراني كنت أبحث عن حرية أو

الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟

.األريكة جلست على تلك:قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس

!أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق لم أكن-

:سألتك

تتصورينه إذن؟ كيف كنت-

:أجبتني

.بفوضى.. وبأشياء أكثر-

قلت لك :ضاحكا

لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبرة، بأشياء كثيرة مبعثرة ألكون- فنانا. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسامين. أنا مسكون بالفوضى،

بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من ولكنني ال أسكنها.الترتيب داخلي

الشقة الشاهقة، ألن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم لقد اخترت هذه بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل للرسام، فاللوحة مساحة ال تؤثث

.واأللوان

.ودعوتك للخروج إلى الشرفة فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة،

:قلت

Page 104: ذاكرة الجسد

الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من انظري هذه النافذة، إنها الجسر- .المتقلبة شرفتي أتعامل مع سماء باريس

كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة.ألتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر

النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج يحدث كثيرا أن أرسم أمام هذه بدموع مدينة تحترف ألتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح

.البكاء ومحميا منه في آن واحد. يحلو لي الجلوس هنا على حافة المطر قريبا.منظر المطر يستدرجني ألحاسيس متطرفة

"ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر إن اإلنسان"

: تصلين لتمطر، وقلت بالعربية عندئذ، نظرت إلى السماء وكأنك

وأنت؟.. إن المطر يغريني بالكتابة-

".وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب

.السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران نظرت طويال إلى

.ألنني تعودت أن أراها رمادية كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما

لو تواطأت معي ورمتك وربما ألنني تمنيت في سري، لو أمطرت لحظتها؛.إلى صدري عصفورة مبللة

.هذا ولم أقل لك شيئا من كل

.نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.شعرت أنني أتعرف عليهما. كنت أراهما ألول مرة في الضوء

.أجمل من العادة ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما

البراءة، كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من..والمؤامرة العشقية

تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف :الجواب مسبقا

لماذا تنظر إلي هكذا؟-

.كموسيقى عزف منفرد كان صوتك بالعربية يأتي

Page 105: ذاكرة الجسد

:وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرالقمر أو شرفتان راح ينأى عنهما

:سألتني مدهوشة

!أتعرف شعر السياب أيضا؟. عجيب-

:في جواب مزدوج قلت

".أعرف "أنشودة المطر-

تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في عرت أنك ربما أحببتني أكثر .نظرك السياب أيضا

:فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني وككل مرة أفاجئك

هذا؟ متى قرأت-

:أجبتك هذه المرة

اآلخرين تعد باألوراق أنا لم أفعل شيئا عزيزتي سوى القراءة. ثروة- كل ما النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت

!.وقعت عليه يدي.. تماما كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم

وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري بعدها قلت:استثنائية تحته نهر السين بزرقة صيفية

أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطل شرفتك على نهر السين، ما- اسم هذا الجسر؟

:قلت

قد خلد هذا الجسر في" إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيرا أن " أبولينير- مولعا به. قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان

إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة ال تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه عبروه بحب. بعضهم خلد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوما، أو

.مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى األبد وثالث مدينة عبرها

:سألتني

Page 106: ذاكرة الجسد

الجسر؟ وهل رسمت أنت هذا- - :أجبتك متنهدا

ما رأيناه يوما ونخاف أال نراه ال.. ألننا ال نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما- مدن مغربية لم بعد ذلك أبدا. وهكذا قضى )دوالكروا( عمره في رسم

يسكنها سوى أيام، وقضى )أطالن( عمره في رسم مدينة واحدة.. هي.قسنطينة

لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابال.لهذه النافذة، ألرسم بشيء من التوتر االستثنائي لوحتي األخيرة

كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسرا آخر وواديا.أخرى آخر لمدينة

.وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. ال غير.وأدركت أننا في النهاية ال نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا

:بلهفة سألتنيهل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟-

:قلت وأنا أقودك إلى مرسمي

- .طبعا

وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة المألى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضا بدهشة طفل في مدينة سحرية.

:باالنبهار نفسه ثم قلت

..اليوم كم هو رائع كل هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسما قبل-

".اليوم كنت أود أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل

ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكرتني بمرور امرأة أخرى من:هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلت فجأة

حدثتني عنها؟ وأين هي اللوحة التي-

على أخذتك إلى الطرف اآلخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات األخرى

.حولها المبعثرة

هنالك عالقة عشقية ما بين أي رسام ولوحته األخيرة. هنالك تواطؤ

Page 107: ذاكرة الجسد

عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة.الضوء

الكاتب ال يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للون األبيض، فالرسام مثل.اإلبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء واستدراجه إياه للجنون

اللون األبيض وإغراء كل كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدياللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟

أرسم شيئا بعد لوحتي هذه، وفضلت أن أبقيها هكذا ولماذا، رفضت أن أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي على الخشبات نفسها، ألشهد لها

جدار كما تحال عشيقة من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو.عابرة

تعطنيه حتى النساء؟ أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم

!الوطن ربما.. ألنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسما.. مع

:قلت وأنت تتأملينها

ولكنها تختلف عنها، في الكثير من" إنها مشابهة للوحتك األولى "حنين- استعملتها، إنها تعطيها التفاصيل.. وخاصة في األلوان الترابية الخام التي

.نضجا.. وحياة أكثر

:إليك قلت وأنا أنقل نظري منها

.لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنت-

أنا؟-

يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة أتذكرين- اتهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد. متأخرة من الليل ألرسمك

يعرف أحد أنك عبرت فضحت مالمحك. ال تخافي، لن أرسمك أبدا ولن حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة .أيضا

:وأضفت

أنت، ووحدك أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك..ستعرفين هذا

:كاترين قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة

Page 108: ذاكرة الجسد

وهي؟-

عناد النساء كان في سؤالك شيء من عناد األطفال وأنانيتهم، وشيء من.وغيرتهن

:قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من األرض

.هذه اللوحة حقا؟ هل تزعجك-

:أجبت بشيء من الكذب الواضح

..ال-

:وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون واصلت

..أمامك إذا شئت سأتلفها-

:صحت

!ال، أأنت مجنون-

:قلت بهدوء

مجنونا.. وهذه اللوحة ال تعني شيئا بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، لست- .عابرة في مدينة

:قلت بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها

أليس كذلك؟.. إنها مدينتك األخرى-

اللوحة؟ من أين جئت بتلك الرصاصة األخيرة، لتطلقيها على تلك

:اعترفت لك بتلميح واضح

األخرى.. أو إذا شئت سريري اآلخر ال.. ليست مدينتي، إنها وسادتي- !فقط

وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس شعرت أن شيئا من الحمرة قد عال.في لحظات متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على مالمحك التي تغيرت

:ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك

!يهم ال-...

Page 109: ذاكرة الجسد

:قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك

امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في ال تغاري من هذه اللوحة. هنالك- ..هذا البيت، هي هذه

الذي أشرت إليه. كان ثمة تمثال ينتصب على األرض نظرت نحو المكان.في حجم امرأة

:بتعجب قلت

هذه.. لماذا هذه؟-

:قلت

ارتحت لها حتى اآلن، والتي قاسمتني معظم ألنها المرأة الوحيدة التي- مصغرة. وقررت منذ سنوات غربتي. كنت في السابق أملك منها نسخة

.سنتين أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه األكبر

نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على اقتنائها، إنها تشبهني كانت تلك إحدى وهي بال ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة كثيرا. أنا بذراع واحدة

.معا، لن تمنعنا عاهتنا من الخلود مختلفة، ألسباب مختلفة. ولكننا صامدان

.لم تعلقي على كالمي

تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال المرأة، ضرب من يبدو أنك لم الرجل رساما، وكانت المرأة فينوس ال الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان

!غير

بالعبقرية التي تالمس الجنون. ولكنك المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة أعطيك دليال على جنوني، كنت أعقل من أن تكشفيها. ولذا كلما أردت أن

.لم تكوني تصدقيني تماما تسترقين النظر إلى لوحة كاترين، وكأنها وحدها رحت فقط بحماقة أنثى،.فهمك تعنيك. ورحت أنا أحاول

ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في تلك اللحظة بيننا بحضورها الصامت الذي يذكرك بمرور امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة

واإلغراء االستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف تلك المرأة،خصالت شعر فوضوي؟

تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون من حقك أن أكنت رسمتها المرأة، دون أن يكون لي الحق في أن تعاتبيني على لوحة واحدة

Page 110: ذاكرة الجسد

أحاسبك على كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك الرجل الذي عذبتني به صدقاأم كذبا؟

:تأملتها قليال ثم قلت. عادت عيناك إلى اللوحة األخيرة

!إذن هذه.. أنا-

:قلت

تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه ربما لم- شموخها، من مخاطرها، من مغارات المدينة؛ من استدارة جسورها، من

أنوثتها وإغرائها وديانها، من هذا النهر الزبدي الذي يشطر جسدها، من.السري ودوارها

:قاطعتني مبتسمة

يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين هذا الجسر؟ أنت تحلم.. كيف- أنني ال أحب سوى الجسور كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري

مرشوشة الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في بطاقات نهاية السنة، بالثلج والفضة، تعبرها العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة

المعلقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. ال أكر أنني عبرتها مرة أو حاولت مرة واحدة النظر منها إلى أسفل.. إال شعرت واحدة راجلة،

.والدوار بالفزع

:قلت ال يقاوم؛ ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة السقوط الذي-

هو التفرج على العالم من نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من االنفعاالت واألحاسيس المتناقضة، التي تجذبك لألسفل واألعلى في وقت واحد، ألن

أسهل من الوقوف على قدمين خائفتين! أن أرسم لك السقوط دائما أنك دواري. إنه ما لم يقله لك جسرا شامخا كهذا، يعني أن أعترف لك

.رجل قبلي

وتكرهي الجسور؛ وتبحثي عن اإلبداع، وأنت أنا ال أفهم أن تحبي قسنطينة المدينة. ولوال شهقة الدوار، لما تخافين الداور. لوال الجسور لما كانت هذه

.أحب أحد.. أو أبدع

وكأنك تكتشفين شيئا لم تنتبهي له من قبل برغم كنت تستمعين إلي،.بساطته

:قلت غير أنك

ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل لو رسمتني أنا وليس-

Page 111: ذاكرة الجسد

الجسر. إن أي امرأة تتعرف على رسام، تحلم في سرها أن يخلدها، هذا أن يرسم مدينتها؛ تماما كما أن أي رجل يتعرف على أن يرسمها هي.. ال

شيئا، وليس عن شيء آخر له عالقة به. إنها كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه.تفسير لها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى ال

.فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة

مزورة عنك إذن؟ أحق أنه ليس بينك وبين هذا الجسر هل رسمت نسخة طبق األصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة

أن تتحولي إلى في النهاية، أن تصبحي نسخة أخرى عن كاترين ال غير،وجهه؟ لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من المساحيق، يشبه

ترانا لم نشف من هذه العقدة؟

:اليأس قلت لك بشيء من

.إذا كان هذا ما تريدين.. سأرسمك-

:ما أجبتني بصوت فيه خجل

أعترف أنني منذ البداية، كنت أحلم أن ترسمني أنا.. وأن أحتفظ بهذه- ..اللوحة عندي كذكرى، شرط أال تضع عليها توقيك إذا أمكن

الضحك، أو على األرجح برغبة في الحزن، وأنا أكتشف شعرت برغبة في.لألشياء ذلك المنطق العجيب

كان من حقي إذن أن أوقع الرموز واللوحات التي ليس بينها وبينك من شبه. وأما أنت فليس في وسعي أن أضع أسفل رسمك توقيعي. أنت

أحببتها، لن يقترن اسمي بك ولو مرة واحدة، حتى المرأة الوحيدة التيفي أسفل لوحة؟

يشترون توقيعي فقط، وليس لوحاتي. وهناك أنت التي هناك إذن الذين.توقيع تريدين لوحتي دون

وهنالك أنا.. المجنون العنيد الذي يرفض هذا المنطق الجديد لألشياء، ويرفض باسم الحب أن يحولك إلى لوحة لقيطة، ال نسب لها وال صاحب.

.أية ريشة وأي رسام يمكن أن تتبناها

:حيرك صمتي.. قلت شبه معتذرة

ترسمني؟ هل يزعجك أن-

Page 112: ذاكرة الجسد

:قلت ساخرا

األصل عن وطن ما، ال.. كنت أكتشف فقط مرة أخرى، أنك نسخة طبق- وطن رسمت مالمحه ذات يوم. ولكن آخرين وضعوا إمضائهم أسفل

انتصاراتي. هنالك إمضاءات جاهزة دائما لمثل هذه المناسبات. فمن األزل، دائما من يكتب التاريخ، وهنالك من يوقعه، ولذا أنا أكره كان هنالك

.للتزوير اللوحات الجاهزة

تراك فهمت كل ما قلته لك لحظتها؟

السياسي. لقد كان كل ما يهمك في النهاية، بدأت أشك فجأة في وعيك.هو موضوع لوحتك ال غير

:تغادرين المرسم قلت وأنت

إلى أتدري أننا لن نلتقي لمدة شهرين؟ سأسافر األسبوع القادم- ..الجزائر

:صحت وأنا أستوقفك في الممر

تقولين؟ أحق ما-

:قلت

الجزائر. وال بد أن طبعا أنا أقضي دائما عطلتي الصيفية مع والدتي في- .باريس أعود األسبوع القادم مع عمي وعائلته.. لن يبقى أحد هنا في

وقفت مذهوال وسط الممشى. أمسكت بذراعك وكأنني أمنعك من:وسألتك بحزن الرحيل،

وأنا..؟-

سنتعذب بعض الشيء.. إنه فراقنا أنت.. سأشتاق إليك كثيرا. أعتقد أننا- .بسرعة األول. ولكن سنحتال على الوقت ليمر

:ثم أضفت بلهجة من يريد أن يحل مشكلة، أو ينتهي منها بسرعة

.ال تحزن.. يمكنك أن تكتب لي أو تطلبني هاتفيا.. سنبقى على اتصال-

.حافة البكاء كنت على كطفل أخبرته أمه أنها ستسافر دونه. وكنت أنت تزفين لي ذلك الخبر،

.بشي من السادية التي أدهشتني. وكأن عذابي يغريك بشيء ما

Page 113: ذاكرة الجسد

ثوبك كطفل وأجهش بالبكاء؟ هل أمسك بأطراف على العيش هل أتحدث إليك ساعات، ألقنعك أنني لن أقدر بعد اليوم

أدمنتك؟ بدونك، وأن الزمن بعدك ال يقاس بالساعات وال باأليام، وأنني كيف أقنعك أنني أصبحت عبدا لصوتك عندما يأتي على الهاتف؟ عبدا

لضحكتك، لطلتك، لحضورك األنثوي الشهي، لتناقضك التلقائي في كل عبد لمدينة أصبحت أنت، لذاكرة أصبحت أنت، لكل. شي وفي كل لحظة

.شي لمسته أو عبرته يوما

الحزن يهجم علي فجأة، وأنا واقف هكذا في ذلك الممر أتأملك كان.يصدق بذهول من ال

وكنت قريبة مني حد االلتصاق، كما لم يحدث أن كنته يوما. بحثت في مالمحك عن شيء يفضح لي في تلك اللحظة عواطفك؛ لكنني لم أفهم

.شيئا

عطرك الذي كان يخترق حواسي ويشل عقلي، هو الذي جعلني أتراه كنت أعي فقط أنك بعد لحظات ستكونين عندئذ ال أتعمق في البحث؟

.بعيدة، بقدر ما كنت ساعتها قريبة

.وجهك نحوي رفعت كلمة، كنت أريد أن أقول لك شيئا لم أعد أذكره. ولكن قبل أن أقول أية

كانت شفتاي قد سبقتاني وراحتا تلتهمان شفتيك في قبلة محمومة ذراعي الوحيدة تحيط بك كحزام، وتحولك في ضمة واحدة مفاجئة. وكانت.إلى قطعة مني

قليال بين يدي كسمكة خرجت لتوها من البحر، ثم استسلمت انتفضت.إلي

الحالك، ينفرط فجأة على كتفيك شاال غجريا أسود، كان شعرك الطويل بشراسة العشق الممنوع. بينما راحت ويوقظ رغبة قديمة إلمساكك منه،

شفتيك المرسومتين شفتاي تبحثان عن طريقة تتركان بها توقيعي على.مسبقا للحب

..كان ال بد أن يحدث هذا

الظالل على عينيك، والحمى على شفتيك بدل أحمر أنت التي تضعين وجه أنوثتك؟ ها هي سنواتي الشفاه، أكان يمكن أن أصمد طويال في

الخمسون تلتهم شفتيك، وها هي الحمى تنتقل إلي، وها أنا أذوب أخيرا.في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية االرتباك

حرائقك.. باردة قبل الغربة لو تدرين. باردة تلك الشفاه ال أجمل من.الدفء. بارد ذلك السرير الذي ال ذاكرة له الكثيرة الحمرة والقليلة

Page 114: ذاكرة الجسد

دعيني أخبئ رأسي في عنقك. أختبئ. دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع.طفال حزينا في حضنك

الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه دعيني أسرق من العمر.المساحات المحرقة.. لي

!قسنطينة فاحرقيني عشقا، شهيتين شفتاك كانتا، كحبات توت نضجت على مهل. عبقا جسدك كان،

.ياسمين تفتحت على عجل كشجرة والحواجز جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ واالنتظار. عمر من العقد

والتناقضات. عمر من الرغبة ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن.المكبوتة. عمر من االرتباك والنفاق الرغبات

.على شفتيك رحت ألملم شتات عمري قبلة منك اجتمعت كل أضدادي وتناقضاتي. واستيقظ الرجل الذي في

.لرجل آخر، كان يوما رفيق أبيك قتلته طويال مراعاة.رجل كاد يكون أباك

.في وقت واحد. قتلت رجال وأحييت آخر على شفتيك ولدت ومت

هل توقف الزمن لحظتها؟أخيرا بين عمرينا، هل ألغى ذاكرتنا بعض الوقت؟ هل سوى

..ال أدري أدريه، أنك كنت لي، وأنني كنت أريد أن أصرخ لحظتها كما كل الذي كنت

لسان فاوست "قف أيها الزمن.. ما في إحدى صرخات "غوته" على!".أجملك

كالعادة. يتآمر علي كالعادة. وكنت ولكن الزمن لم يتوقف. كان يتربص بي ارتباكك، وتذكيري بضرورة بعد لحظات تتأملين ساعتك في محاولة إلخفاء

.عودتك إلى الجامعة

.أخيرة الستبقاك عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة قلت وأنت أمام المرآة تضعين شيئا من الترتيب في مظهرك، وتصففين

:شعرك وتعيدين جمعه

..أفضل شيئا باردا إذا أمكن-

الصالون وذهبت إلى المطبخ. تعمدت أال أستعجل في العودة، تركتك في.قبلي على شفتيك وكأنني فجأة أخجل من آثار

الكتب، وعندما عدت بعدها، كنت أمام المكتبة تلقين نظرة على عناوين وتقلبين بعضها. ثم سحبت من أحد الرفوف كتابا صغيرا، سألتني وأنت

:إلى غالفه تنظرين

Page 115: ذاكرة الجسد

عنه؟ أليس هذا الديوان لصديقك الشاعر الذي حدثتني- :الرتباكي أجبتك بسعادة وأنا أجد أخيرا في ذلك الموضوع مخرجا

.نفسه نعم.. هناك ديوان آخر له أيضا تجدينه على الرف-

:قلت

.اليوم هل اسمه زياد الخليل؟ لقد سمعت هذا االسم قبل-

بعض قلبت الكتاب. رأيتك تتأملين طويال صورته على ظهر الكتاب. تقرئين:السطور.. ثم قلت

أقرأهما على مهل أيمكن لي أن أستعير منك هذين الديوانين؟. أفضل أن- .هذا الصيف، فليس لي ما أطالعه

:بحماقة أجبتك بحماسة، أو

تأثيرهما طبعا، إنها فكرة جيدة.. أنا واثق أن هذين الديوانين سيتركان- على كتاباتك. ستجدين أشياء رائعة خاصة في الديوان األخير "مشاريع

.القادم". إنه أجمل ما كتب زياد للحب

كنت وقتها في سعادة طفلة. رحت بسعادة تخفين الكتابين في حقيبة يدك.تعود إلى بيتها بلعب أحبتها

في ذلك الحين، أنني سأكون بعد ذلك لعبتك األخرى، طبعا، لم أكن أعي.تأثيرهما أيضا على مجرى قصتنا وأن هذين الكتابين سيتركان

.الطبيعية كنت تستعيدين تدريجيا وجهك العادي ومالمحكحقيقة؟ وكأن زوبعة حبي لم تمر بك. فهل كان ذلك تمثيال أم

حاولت أن أنسى خيبتي معك، أمام تلك اللوحة التي كانت السبب األول. زيارتك. حاولت أيضا أن أخفف من خيبتك في

:قلت

..تسليتي في هذا الصيف سأرسمك، ستكون لوحتك-

:ثم أضفت دون أية نية خاصة

مرة أخرى لتجلسي أمامي، حتى أتمكن من رسمك. أو يجب أن تزوريني- .مالمحك تعطيني صورة لك أنقل عنها

Page 116: ذاكرة الجسد

:قلت وكأن الجواب كان جاهزا لديك

الوقت ألعود إليك هذه األيام، وليس في لم يبق أمامي متسع من- الموجودة على ظهر كتابي، حوزتي أية صورة. يمكنك أن تستعين بصورتي

.في انتظار أن أعود

الحين أيضا، إذا كان في جوابك شيء من أعترف أنني لم أفهم في ذلك أنك كنت تجيبيني بتلقائية التلميح لي بأنك لن تعودي إلى هذا البيت، أم

بريئة ال أكثر؟

أرسمك؟ ألست أنت التي كنت تلحين علي أنفلماذا حولت هذه اللوحة إلى قضية شخصية أنا وحدي معني بها؟

أناقشك كثيرا. كنت أدري أنني في جميع الحاالت سأرسمك. ربما ألنني لم لك طلبا، وربما ألنني ال أعرف كيف سأقضي الصيف ال أعرف كيف أرفض دون استحضارك ولو .رسما

ذهبت ذلك اليوم بعدما وضعت قبلتين على خدي، ووعدتني بلقاء قريب...يعد ممكنا بعد قبلتنا أن نتصافح لم

عالقتنا، ولم يعد ممكنا بعد اليوم لذلك كنت أعي أن شيئا ما قد تغير في يعود إلى قلب الزجاجة التي المارد الذي انطلق فجأة من أعماقنا، أن

.أغلقناها عليه ألسابيع كاملة

معك في بضع لحظات من الحب إلى العشق. من كنت أعي أنني أنتقل الصعب، بعد اليوم، أن العاطفة البريئة إلى الشهوة، وأنه سيكون من

.أنسى مذاق قبلتك، وحرارة جسدك الملتصق بي للحظات

دامت قبلتنا تلك.. دقيقتين؟ ثالثا؟ أم خمس دقائق للجنون ال غير؟ كم

تفعل تلك الدقائق القليلة كل الذي حل بي بعد ذلك؟ أيمكن أن

خمسين سنة من عمري؟ أيمكن أن تلغي خمس دقائق،

ذكرى سي وكيف لم أشعر بعدها بأي إحساس بالندم، بأي خجل تجاه.للخيانة الطاهر؟ أنا الذي كنت أقترف يومها أول خيانة بالمفهوم األخالقي

.ال.. لم يكن في قلبي سوى الحب

بالشهوة، بالجنون. كنت أخيرا سعيدا. فلماذا أفسد كنت ممتلئا بالعشق،ستوصلني إلى التعاسة؟ سعادتي بالندم، بالتساؤالت التي

Page 117: ذاكرة الجسد

نقترفه.." ولم يكن في ال أذكر من قال " الندم هو الخطأ الثاني الذي القلب مساحة أخرى ولو صغيرة، يمكن أن يتسلل منها شيء آخر غير؟

.الحب .ألم يكن كل ذلك جنونا

الحد، وأنا أدري أنني لم كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيدا إلى ذلك المسروق، وأن أمتلك منك شيئا في النهاية، سوى بضع دقائق للفرح

أمامي متسعا من العمر.. للعذاب؟

الفصل الرابع

كان لرحيلك مذاق الفجيعة األولى. والوحدة التي أحالتني في أيام إلى مرتبة ..لوحة يتيمة على جدار، تحضرني جملة تبدأ بها رواية أحببتها يوما

الله! فهو عظيم بقدر ما أنا وحيد. إني ألرى المؤلف فيبدو لي ما أعظم".."كلوحة

أنا في عزلتي ووحدتي، ذلك المؤلف وتلك اللوحة معا. فما أكبر وكنت!كنت معلقا على جداره، في انتظارك وأبرد ذلك الكون الذي

والعاطفية في الوقت نفسه. كنت أدخل بعدك منحدرات الخيبات النفسية لي. وكنت وأعيش ذلك القلق الغامض، الذي يسبق ويلي دائما كل معرض

.أقوم تلقائيا بجردة ألفراحي وخيباتي غير صحافة فرنسية مختصة كالعادة. وبعض انتهى معرضي إذا. لم تهتم به

.المجالت العربية المهاجرة

أن أقول إنه حصل على تغطية إعالمية كافية، وأن الذين كتبوا ولكن يمكن.فني عربي في باريس عنه أجمعوا على أنه حدث

جريدة. وحدها الصحافة الجزائرية تجاهلته، عن إهمال ال غير، كالعادة ومجلة أسبوعية واحدة، كتبتا عنه بطريقة مقتضبة. وكأنهما تعانيان فعال

.الصفحات، وليس من قلة المواد الصحافية من قلة

الذي وعدني بالحضور إلى باريس بينما لم يحضر ذلك الصديق الصحافي، نفسها. ورغم أنني لقضايا شخصية، وإلجراء مقابلة مطولة معي بالمناسبة

رجل غير مولع باألضواء، والجلوس لعدة ساعات إلى صحافي للحديث عن نفسي، فإنني كنت أتمنى أن تتم تلك المقابلة، ألتمكن أخيرا من الحديث

.الشخص الوحيد الذي كان يعنيني حقا.. القارئ الجزائري مطوال إلى

ليخبرني أنه اضطر للبقاء في الجزائر، لتغطية مهرجان عبد القادر طلبني ازدهرت هذه األيام، ألسباب غامضة يعلمها ما من أحد المهرجانات التي

Page 118: ذاكرة الجسد

.الله.. وآخرون

هناك من مقارنة بين مهرجان أو ملتقى رسمي، ولم أعتب عليه.. ليس وبين أي معرض مهما كان اسم يتم إعداده واإلنفاق عليه بالعملة الصعبة

.صاحبه، والسنوات التي أخذتها منه تلك اللوحات

.النهاية ال يمكن حتى أن أعتب على الصحافة الجزائرية في

للوحات الفنية من متعة أو ترفيه للمواطن ماذا يمكن أن يقدم معرض االنتحار، وال وقت له للتأمل الجزائري الذي يعيش على وشك االنفجار، بل

الراي(. يمكن أن )أو التذوق، والذي يفضل على ذلك مهرجانا ألغنية الشعبية يرقص.. ويصرخ.. ويغني فيها حتى الفجر، منفقا على تلك األغاني

المشبوهة، ما تجمع في جيبه من دينارات، وما تراكم في جسده منليبيدو"؟"

يدري أين تلك "الثروة" الوحيدة التي يملكها شبابنا حقا، والتي كعملتنا.ينفقها خارج األسواق السوداء.. للبؤس

.غيره بعضهم أدرك هذا قبل

، وفي عز الفراغ والبؤس الثقافي الذي كان يعيشه الوطن،1969سنة أحدهم في بضعة أيام، أكبر مهرجان عرفته الجزائر وإفريقيا، كان اخترع

اإلفريقي األول"، دعيت إليه قارة وقبائل إفريقية بأكملها اسمه "المهرجان أحيانا_ في شوارع الجزائر لمدة أسبوع كامل على لتغني وترقص _عارية

!شرف الثورة

أنفقت وقتها، على مهرجان للفرح ظل األول واألخير. كم من ماليين محاكمة قائد تاريخي كان أثناء ذلك، وكانت أهم إنجازاته التعتيم على

.الثورة نفسها يستجوب ويعذب رجاله في الجلسات المغلقة.. باسم

أيضا، ودون أن تكون لي صداقة ما بذلك القائد، الذي كان اسمه الطاهر وال أي عداء خاص لذلك الحاكم الذي كان يوما مجاهدا وقائدا أيضا، بدأت

أعي لعبة السلطة، وشراهة الحكم. وأصبحت أحذر األنظمة التي تكثر من!.والمؤتمرات.. إنها دائما تخفي شيئا ما المهرجانات

ذلك الحين، ويولد أول مذاق فهل هي مصادفة أن تبدأ مشكالتي منللمرارة في حلقي يومها؟

بعد أشهر، اعتذر لي بأسف صادق، ووعدني عندما التقيت بذلك الصديق.أال يفوت معرضي القادم

:كتفه ضاحكا وقلت ربت على

Page 119: ذاكرة الجسد

التاريخ سيذكر ال يهم.. بعد أيام لن يذكر أحد اسم ذلك المهرجان. ولكن- !اسمي ال محالة ولو بعد قرن

:الجد قال لي بمزاح ال يخلو من

أتدري أنك مغرور؟-

:أجبته

محقورا" فنحن ال نملك الخيار يا صاحبي. إننا "أنا مغرور لكي ال أكون- فقدنا غرورنا وكبريائنا، ستدوسنا ننتمي إلى أمة ال تحترم مبدعيها وإذا

!أقدام األميين والجهلة

مغرورا حقا؟ تساءلت بعدها أأكون

أقف أمام اكتشفت بعد شيء من التفكير، أنني ال أكون مغرورا إال لحظة لوحة بيضاء وأنا ممسك بفرشاة. كم بلزمني من الغرور لحظتها ألهزم

وأفض بكارتها، وأتحايل على ارتباكي بفائض رجولتي، وعنفوان بياضهافرشاتي؟

..ولكن حتى أرتمي ما أكاد أنتهي منها، وأمسح يدي من كل ما علق بها من ألوان

على األريكة المجاورة، وأتأملها مدهوشا، وأنا أكتشف أنني الوحيد الذي..كان يعرق وينزف أمامها

!مخيف وأنها أنثى عربية تتلقى ثورتي ببرود وراثي

ولذا، حدث في لحظات انهياراتي وخيباتي الكبرى أن مزقت إحداهن.. .وألقيت بها في سلة المهمالت، بعدما أصبح وجودها يضايقني

السذاجة والبرودة بحيث تخلق عندك عقدة رجولة.. هنالك لوحات هي من!وليس فقط عقدة إبداع

ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي وهزائمي السرية ورغم.أحد

لن يروا غير انتصاراتي، معلقة على الجدران في إطار جميل. فاآلخرون فستبقى دائما في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة وأما سالل المهمالت،

.عن األضواء

مساحة بيضاء للخلق، ال بد أن يكون إلها أو عليه أن فالذي يجلس أمام

Page 120: ذاكرة الجسد

.يغير مهنته

إلها؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، لم يبق منها قائما غير أأكونالشاهقة المتآكلة األطراف؟ األعمدة

كل يوم؟ شهران.. هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من الداخل وال شي سوى رقم هاتفي مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجف لها

.الفرشاة

.وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل

.والكتابة كما أردتها أنت كنت أدرى جدلية الرسم

تقتلينها بالكلمات. وكنت كنت تفرغين من األشياء كلما كتبت عنها، وكأنك تفاصيلها المنسية. كلما رسمت امتألت بها أكثر، وكأنني أبعث الحياة في

.الذاكرة وإذا بي أزداد تعلقا بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران

قلبي؟ أن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضا، بعدما أسكنتك

حماقة قررت في البدء أال أرتكبها. ولكنني اكتشفت ليال بعد آخر عبثية.قراري

لماذا كان الليل هزيمتي؟

ألن للفن طقوس الشهوة السرية أألنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم..الزمن التي تولد غالبا ليال في ذلك الزمان الخارج عن

والخارج عن القانون؟

تلغيه العتمة والفاصل بين على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي..الممكن والمستحيل

..كنت أقترفك

.بشفتي حدود جسدك كنت أرسم.أرسم برجولتي حدود أنوثتك

..الفرشاة أرسم بأصابعي كل ما ال تصله

بيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعريك وألبسك وأغير.تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي

..يا امرأة على شاكلة وطن

بطولة أخرى. دعيني بيد واحدة أغير مقاييسك للرجولة امنحيني فرصة للذة! كم من األيدي احتضنتك دون دفء! ومقاييسك للحب.. ومقاييسك

Page 121: ذاكرة الجسد

عنقك، وإمضاءها أسفل كم من األيدي تتالت عليك.. وتركت أظافرها على.جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ

.والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم تقطع أيديهم أحبك السراق

.أصبحوا ذوي عاهات ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل،

.لهم كل شيء، وال شيء غيرك لي

ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك أنت لي الليلة ككل سيمنعني من من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن

استعادتك بيدي الثانية؟ السرية لالنقالب على أنت لذتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي

.المنطق

وتأتين في ثياب كل ليلة تسقط قالعك في يدي، ويستسلم حراسك لي، نومك لتتمددي إلى جواري، فأمرر يدي على شعرك األسود الطويل

على وسادتي، فترتعشين كطائر بلله القطر. ثم يستجيب جسدك المبعثر.النائم لي

هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟ كيف حدث

اإلدمان، صوتك الذي كان يأتي شالل ترى صوتك الذي تعودت عليه حدحب وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة علي؟

"هاتف يسأل "واشك؟ حبك

شوق، عندما يدثرني ليال بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه قنديل.تنطفئ األضواء

شيخوختي. فيعيدني يخاف علي من العتمة، يخاف علي من وحدتي ومن يغني. إلى الطفولة دون استشارتي. يقص علي قصصا يصدقها األطفال

.لي أغنيات ينام لسماعها األطفال

أيضا؟ ترى أكان يكذب؟ هل تكذب األمهات

!هذا ما ال يصدقه األطفال

جنوني؟ ما الذي أوصلني إلى

.هذا؟ ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعل القبل كل

Page 122: ذاكرة الجسد

..أذكر أنني قرأت عن قبل غيرت عمرا ولم أصدق

لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر طويال للجبروت كيف يمكن واحدة، سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى والتفوق أن يقع صريع قبلة

من كاتب وشاعر في عصرها. المرأة التي أحبها أكثر" Lou " معبد، صحبة هذا الجسر كان أحدهم " أبولينير" الذي تغزل فيها طويال وبكاها أمام

"Loup " نفسه، واجدا في اسمها المطابق بالفرنسية تماما السم الذئبدليال قاطعا على قدره معها؟

أن تصحب معك العصا" فقد أما )نيتشه( القائل "عندما تزور امرأة ال تنس قالت يوما "لم كان أمامها رجال محطما، ضعيفا، وبدون إرادة. حتى إن أمه

يتزوجها.. أو تترك هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثالثة: إما أن !".ينتحر.. أو يصبح مجنونا

أخجل من ضعفي معك، وأنا لست كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل األسطورية فيلسوفا للقوة، ولست شمشون الذي فقد شعره وقوته

بسبب قبلة؟

على شفتيك؟ هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأ عمري

ال أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هل انتحر أم أصبحمجنونا؟

أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلبات نفسية متناقضة، كدت فيها شيئا يشبه الجنون، ذلك الجنون الذي كان يغريك، وكنت أالمس

.وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية تتغزلين لي به كثيرا،

فليكن.. سأعترف لك اليوم، بعد كل تلك السنوات، أنني وصلت معك يوما.الالعقل إلى ذلك الحد المخيف من

أكان عشقا فقط، أم ألهديك ال شعوريا اللعبة التي لم تكوني قد حصلت.عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به

.قصتي معك فصال فصال حدث كثيرا وقتها، أن استعدت

قصة كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو لي حبك أسطورية أكبر منك ومني. شيئا ربما كان مقدرا مسبقا منذ قرون، منذ..

(.قسنطينة مدينة تدعى )سيرتا كانت

ذاكرته وأغراك جنونه بقصة ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجال استوقفتكما؟

تحلمين بارتكابها في كتاب ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما،

Page 123: ذاكرة الجسد

قادم؟

فيك، فأذكر أنني كنت" ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "اإلجرامي ذاك أيضا نسخة عن والدك. وأنني بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى األبد

.الجسر السري الذي كان يجمعنا

نومي وأتجه إلى مرسمي. آنذاك، كنت أقرر االعتذار منك. وأستيقظ منأبدأك؟ أجلس طويال أمام لوحتك البيضاء وأتساءل: من أين

أتأمل طويال صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها دون إهداء. أكتشف أن وجهك ال عالقة له بالصورة. فكيف أضع عمرا لوجهك الجديد والقديم

عنك نسخة دون أن أخونك؟ معا. كيف أنقل

العجيب الذي كان أتذكر وسط ارتباكي ) ليوناردو دافنشي(، ذلك الرسام تراه قادرا على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى باإلتقان نفسه. بأي يدأنا؟ رسم )الجوكندا( ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن أرسمك

يدي؟ ماذا لو كنت المرأة التي ال ترسم إال باليد اليسرى، تلك التي لم تعد

خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس ألتفرج عليك عساني.أخيرا سرك. فربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهمك أكتشف

تلك للوحة مقلوبة في معرض. سيكون فكرت حتى في إمكانية عرض".اسمها "أنت

يعجبون بها، دون أن يتعرف أحدهم تماما سيتوقف أمامها الكثيرون. وقد.عليك

!النهاية؟ أليس هذا ما تريدين في

***

يأتي صوتك ذات صباح مر أكثر من أسبوع، وأكثر من نشرة جوية قبل أن:دون مقدمات

كيف أنت؟-

:يتوقع هدية صباحية كتلك. وارتبك الكالم اندهش القلب الذي لم

وينك؟-

Page 124: ذاكرة الجسد

قريبا أو هكذا خيل لي. ولكنك أجبتني بضحكة أعرف كان صوتك يبدو:مراوغتها

!تحزر حاول أن-

:أجبتك كمن يحلم

هل عدت إلى باريس؟-

:وقلت ضحكت

أي باريس.. أنا في قسنطينة. جئت هنا منذ أسبوع ألحضر زواج إحدى- القريبات.. وقلت ال بد أن أطلبك من هنا. طمني عنك ماذا تفعل في هذا

تسافر إلى أي مكان؟ الصيف.. ألم

:اختصرت عذابي في بضع كلمات قلت

جد متعب.. كيف لم تتصلي بي حتى اآلن؟.. إنني متعب-

شيخ يطلب منه كتابة فقلت وكأنك طبيب سيكتب وصفة لمريض، أو:حجاب أو تعاويذ سحرية

قريبا.. يجب أن تعذرني. أنت ال تدري كم سأكتب لك.. والله سأكتب لك- لنفسه في هذه المدينة ولو الحياة هنا مزعجة وصعبة. إن الواحد ال يخلو

..لحظة. حتى الكالم على الهاتف مغامرة بوليسية

وماذا تفعلين؟-

المدينة ال شيء.. أنتقل من بيت إلى آخر، ومن دعوة إلى أخرى. حتى- ..لم أتجول فيها على قدمي، لقد عبرتها بالسيارة فقط

ثم أضفت وكأنك :تذكرت فجأة شيئا هاما

جسورها ال غير. لقد أتدري.. أنت على حق. إن أجمل ما في قسنطينة،- ..ذكرتك وأنا أعبرها

:تحبينني؟" ولكنني سألتك بحمافة كنت أود تلك اللحظة لو سألتك "هل

.هل تحبينها؟-

الصمت، وكأنني طرحت عليك سؤاال يستدعي أجبتني بعد شيء من:التفكير

Page 125: ذاكرة الجسد

..أحبها ربما بدأت-

:قلت

- ..شكرا

:المكالمة ضحكت.. قلت وأنت تنهين

!أيها األحمق.. لن تتغير-

***

عينيه لينظر إلى الباطن.. وما المرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج.. ويفتح..".الحرية النظر سوى تسلقك الجدار الفاصل بينك وبين

في ذلك الصباح، أشعلت سيجارة صباحية على غير عادتي. وجلست على شرفتي أمام فنجان قهوة، أتأمل نهر السين، وهو يتحرك ببطء تحت جسر

.ميرابو

كانت زرقته الصيفية الجميلة، تستفزني ذلك الصباح دون مبرر. تذكرني.فجأة بالعيون الزرق التي ال أحبها

العداء على هذا النهر؟ أترى ألنه ال نهر في قسنطينة.. أعلنت

.عجل نهضت دون أن أكمل سيجارتي. كنت فجأة على

فليكن.. عفوك أيها النهر الحضاري. عفوك أيها الجسر التاريخي. عفوك.صديقي )أبولينير(. هذه المرة أيضا سأرسم جسرا آخر غير هذا

ممتلئا بك، بصوتك القادم من هناك، ليوقظ من جديد تلك كنت هذه المرة.المدينة داخلي

أكن قد لمست الفرشاة من ثالثة أشهر. وكان داخلي شيء ما على ألم بأخرى. كل تلك األحاسيس والعواطف وشك أن ينفجر بطريقة أو

تراكمت داخلي كقنبلة المتضاربة، التي عشتها قبل رحيلك وبعده، والتي.موقوتة

.وكان ال بد أن أرسم ألرتاح أخيرا

ملء يدي.. ملء أصابعي. أرسم بيدي الموجودة وبتلك المفقودة. أرسم

Page 126: ذاكرة الجسد

بتناقضي وجنوني وعقلي، بذاكرتي ونسياني. حتى ال أرسم بكل تقلباتي،.إال من السواح والحمام أموت قهرا ذات صيف، في مدينة فارغة

.سيدي راشد وهكذا بدأت ذلك الصباح لوحة لقنطرة جديدة، قنطرة

حياتي، لم أكن أتوقع يومها وأنا أبدأها، أنني أبدأ أغرب تجربة رسم في وأنها ستكون البداية لعشر لوحات أخرى، سأرسمها في شهر ونصف دون

توقف، إال لسرقة ساعات قليلة من النوم، أنهض منها غالبا مخطوفا.بشهية جنونية للرسم

.األلوان تأخذ فجأة لون ذاكرتي، وتصبح نزيفا يصعب إيقافه كانت

لوحة حتى تولد أخرى، وما أنتهي من حي حتى يستيقظ ما كنت أنتهي من..حتى تصعد من داخلي أخرى آخر، وما أكاد أنتهي من قنطرة،

جسرا.. حيا.. حيا،.. كنت أريد أن أرضي قسنطينة حجرا.. حجرا، جسرا.كما يرضي عاشق جسد امرأة لم تعد له

وإيابا بفرشاتي، وكأنني أعبرها بشفاهي. أقبل ترابها.. كنت أعبرها ذهابا ووديانها. أوزع عشقي على مساحتها قبال ملونة. وأحجارها وأشجارها

.حتى العرق أرشها بها شوقا.. وجنونا.. وحبا

.بها وكنت أسعد وذلك القميص يلتصق بي، بعد ساعات من االلتحام

العرق دموع الجسد. ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، ال جسدنا من أجل أية امرأة. وال من أجل أية لوحة. الجسد يختار لمن نبكي.يعرق.سعيدا أن تكون قسنطينة، هي اللوحة التي بكى لها جسدي وكنت

من الصيف، كنت ما أزال أتوقع رسالة منك، في ذلك الشهر األخير افتقدتهما خالل الشهرين تعطيني شيئا من القوة والحماسة اللتين

.الماضيين لغيابك. عندما فاجأتني رسالة من زياد.رسائله القادمة من بيروت تدهشني دائما حتى قبل أن أفتحها كانت

مرة، كيف وصلت هذه الرسالة إلى هنا؟ من أي مخيم أو كنت أتساءل كل يكون قد كتبها؟ أي صندوق أودعها، من أية جبهة، تحت أي سقف مدمر

صندوق بريدي.. وكم من ساعي بريد تناوب عليها حتى تصل هنا، داخلبالحي السادس عشر بباريس؟

تذكرني بزمن حرب التحرير، يوم كنا كنت أعاملها دائما بحب خاص. كانت.نبعث الرسائل ألهلنا مهربة تحت الثياب

من الرسائل لم تصل، وماتت مع أصحابها! وكم من الرسائل وصلت كم

Page 127: ذاكرة الجسد

.قصص تصلح ألكثر من رواية بعد فوات األوان. هنالك

.السنة آخر رسالة لزياد كانت تعود لما يقارب

كان يحدث أن يكتب لي هكذا دون مناسبة، رسائل مطولة أحيانا، وموجزة".أحيانا أخرى، كان يسميها "إشعار بالحياة

التي يريد أن يخبرني بها فقط أنه مازال في البدء ضحكت لهذه التسمية.على قيد الحياة

صمته الطويل، وانقطاع رسائله. فقد كان يحمل لي بعدها أصبحت أخاف.احتمال إشعار بشيء آخر

المرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في بداية أيلول. هذه جوابا سريعا مني ليتأكد من وجودي في باريس في هذه وأنه ينتظر

.الفترة

.رسالته.. وأسعدتني وأدهشتني فاجأتني

كدت أذكره معك ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ما حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا

فعلك إذا قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن سيكون رداهتماما بقصته؟ يكون قد مات، وأبديت

.كذلك كان الصيف ينسحب تدريجيا. وكنت أستعيد توازني تدريجيا

تلك لقد أنقذتني تلك اللوحات من االنهيار. كان ال بد أن أرسمها ألخرج من.المطبات الجنونية التي وضعت عليها قدمي معك

وزني. ولكن لم يكن ذلك يعنيني. أو ربما لم أكن فقدت كثيرا من كنت قد إلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى وقتها ألنتبه له، بعدما أصبحت أنظر

.نفسي في مرآة

وزن في أيام، هو الذي ربحته من مجد كنت أعتقد أن الذي خسرته من وجنوني معلقا أمامي: إحدى إلى األبد. ولذا كان يحلو لي أن أتأمل نزيفي

.عشرة لوحة لم تعد تكفيها جدران البيت

تعلقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا أضع فرشاتي آلخر مرة وربما جاء قد تمر عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في وأنا أنتهي منها، أنه

.الرسم

.من ذاكرتي.. وارتحت فقد كنت فرغت مرة واحدة

Page 128: ذاكرة الجسد

.للسعادة كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة ترقب

الثياب ستعودين أخيرا.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره من قبل. كانت الشتوية المعروضة في الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي

.المحالت، تعلن عودتك تمأل رفوف

.كانت تحمل حقائبك والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلها

..ستعودين

.مع المحافظ المدرسية مع النوء الخريفي، مع األشجار المحمرة،

..ستعودين

زحمة السيارات، مع مواسم مع األطفال العائدين إلى المدارس، مع.اإلضرابات، مع عودة باريس إلى ضوضائها

.الغامض.. مع المطر مع الحزن

.مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون

لي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب ستعودين.الثلجية الليالي

أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة ألندريه جيد "ال تهيئأفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟

األعاصير والدمار. كنت كنت في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسط.معطفا لغيري وبردا لي

.بدل أن تدفئني كنت األحطاب التي أحرقتني

.كنت أنت

..وكنت أنتظر أيلول إذن

لنتحدث أخيرا بصدق مطلق. ماذا تريدين مني بالتحديد. ومن أنتظر عودتكوما اسم قصتنا هذه؟.. أكون أنا بالنسبة إليك

.أخطأت مرة أخرى

.كان وقتا لجنون آخر. لم يكن الوقت للسؤال وال للجواب

Page 129: ذاكرة الجسد

..زياد كنت أنتظر األمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى، اسمها

.وكانت األعاصير

خمس سنوات بباريس. ربما لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ الذي زارني أصبح فقط أكثر امتالء، أكثر رجولة مع العمر، من ذلك الوقت

1972فيه ألول مرة في الجزائر سنة في مكتبي. يوم كان شابا فارعا بوزن .أقل، وربما بهموم أقل أيضا

مازال شعره مرتبا بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوما المميز دفئا وحزنا، على ربطة عنق، مفتوحا دائما بزر أو زرين. وصوته

وكأنه شاعر يوهمك أنه يقرأ شعرا، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو.أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو

أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه في كل مدينة قابلته فيها، شعرت.يعيش على أهبة سفر

كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالسا على حقائبه. لم يكن يوما التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطارا ال مرتاحا حيث كان، وكأن المدن

.يدري متى يأتي

ها هوذا.. كما تركته، محاطا بأشيائه الصغيرة ومحمال بالذاكرة، ومرتديا.هويته األخرى سروال الجينز نفسه، كأنه

ومن.. كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزة، من عمان.بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا

بوشكين، من السياب.. من الحالج، كان يشبه كل من أحب. فيه شيء من.وتيودوراكيس من ميشيما.. من غسان كنفاني.. ومن لوركا

ومن وألنني كثيرا ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت كل ما أحب.أحب، دون أن أدري

.كنت في حاجة إليه في تلك األيام

أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه السنوات دون أن أدري، شعرت وأنا

Page 130: ذاكرة الجسد

وأنني بعده لم ألتق بشخص .يمكن أن أدعوه صديقا

قناعاتنا القديمة ظلت ها هو زياد. باعدتنا األيام وباعدتنا القارات. ووحدها.تجمعنا

يحدث لزياد أن فقد احترامي ولذلك لم تزل في القلب مكانته األولى. فلم.لسبب أو آلخر خالل كل هذه السنوات

أمرا نادرا هذه األيام؟ أليس هذا

..جاء زياد لشهرين في وجه اآلخرين،حتى في وجه واستيقظ البيت الذي ظل مغلقا

.كاترين نفسها

بأشيائه وفوضاه، بضحكته العالية أحيانا، وبحضوره راح زياد يمأله بحضوره، فقط، ألنه أشرع نوافذ هذا البيت، السري الغامض دائما. فأكاد أشكره.كله واحتل غرفة من غرفه.. وربما احتله

زارني عدنا تلقائيا إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس سنوات، عندما.ألول مرة في باريس

وتحدثنا في الموضوعات رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريبا. جلسنا عربي واحد نفسها تقريبا، فال شي تغير منذ ذلك الحين. لم يسقط نظام

من تلك األنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ عرفته. لم يحدث.زلزال سياسي هنا أو هناك، ليغير خريطة هذه األمة أي

للزالزل والرمال المتحركة. ولكن من تراه سيبتلع وحده لبنان أصبح وطنافي النهاية؟

السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش كان هذا هو في القضية الفلسطينية، وفي خالفات فصائلها، يصب في النهاية دائما

لبنان، والتصفيات الجسدية التي والمعارك التي حدثت بين عناصرها في.الخارج راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في

كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك األنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة.

غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا فينعتها في فورة.مرة أكتشف بعضها ألول

وأكتشف أيضا أن لكل ثوار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمن آخر وثورة ومعايشتهم

Page 131: ذاكرة الجسد

.أخرى

األسبوع هو أجمل األيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت ربما كان هذا أذكر غيرها، حتى ال أشعر بالمرارة وال بالحسرة بعد ذلك ولعدة سنوات أال

.صواب على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عن

كل ما مر بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم..وجها لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة هكذا

..".صديقة كاتبة.. ال بد أن أعرفك عليها له قلت: "سنتغدى غدا مع

على طريقته الخاصة وهو يعود لم يبد عليه اهتمام خاص بكالمي. قال األدب تعويضا عن لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسة

ممارسات أخرى.. أتمنى أال تكون صديقتك هذه عانسا، أو امرأة في سن!"اليأس.. فأنا ال صبر لي على هذا النوع من النساء

!فكرته.. وأبتسم لم أجبه. رحت أتعمق في

نفسه.. فأنا على الهاتف قلت لك: "تعالي غدا للغداء في ذلك المطعم.."أحمل لك مفاجأة ال تتوقعينها

:قلت

"أليس كذلك؟.. إنها لوحتي"

!"أجبتك بعد شيء من التردد: "ال.. إنها شاعر

***

..التقيتما إذن ويمكن أن أقول هذه المرة :أيضا

الذين قالوا وحدها الجبال ال تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها" جسورا.لتتصافح دون أن تنحني، ال يفهمون شيئا في قوانين الطبيعة

تلتقي إال في الزالزل والهزات األرضية الكبرى. وعندها ال الجبال ال".واحد تتصافح، بل تتحول إلى تراب

التقيتما إذن.. وكان كالكما بركانا.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضا!أنا الضحية

..مازلت أذكر ذلك اليوم

Page 132: ذاكرة الجسد

وكنت مع زياد قد طلبنا مشروبا في وصلت متأخرة بعض الشيء،..انتظارك

..ودخلت

يحدثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك كان زياد.المطعم وهو يراك تجتازين باب

..فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدمين نحونا في ثوب أخضر .أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوما

وبقيت أنا من دهشتي جالسا.. وقف زياد ليسلم عليك وأنت تقتربين منا.كان من الواضح أنه لم يتوقعك هكذا

ها أنت ذي ..أخيرا

أحسست أن شيئا ما يسمرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كل األسابيع.الماضية، وكل عذابي بعدك قد نزل علي فجأة، ومنع رجلي من الوقوف

ذي أخيرا.. أهذه أنت حقا!؟ ها أنت

نفسك لزياد، وكان هو وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنت قد قدمت:بدوره على وشك أن يعرفك بنفسه عندما قاطعته قائلة

دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟-

:ووقف زياد مدهوشا قبل أن يسألك

عرفت؟ كيف-

استدرت نحوي عندئذ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على:خدي وقلت وأنت توجهين الحديث إليه

..الرجل أنت تملك شبكة إعالن قوية في شخص هذا-

:ثم سألتني وأنت تتفحصين مالمحي

الذي حدث لك في هذه العطلة؟ لقد تغيرت بعض الشيء.. ما- :تدخل زياد ليقول ساخرا

عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئا غير لقد رسم إحدى-

Page 133: ذاكرة الجسد

ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن وسط لوحاته.. كما لم باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعا وإعياء

!يعد الرسامون يموتون اليوم

بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن وبدل أن تسأليني سألت زياد:صورتك أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من

ماذا رسم؟-

:أجابك زياد بابتسامة وجهها إلي

..رسم قسنطينة.. ال شيء سوى قسنطينة.. وكثيرا من الجسور لقد-

:كرسيا وتجلسين صحت وأنت تسحبين

توا منها. ال.. أرجوكم ال تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة- إنها مدينة ال تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح

!مجنونا

:ثم وجهت كالمك إلي

المدينة؟ متى تشفى أنت من هذه-

!"منك كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى

:ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني

آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نحن ال نشفى من ذاكرتنا يا- ..نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضا

.زياد.. كان مدهشا وشاعرا في كل شيء رائع

.دون جهد. ويغري دون جهد كان يقول شعرا دون جهد. ويحب ويكره

.أستمع لما تقولينه له كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنت جزائرية إذن؟". وال

وأنني لم أقل بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط،.كلمة واحدة منذ قدومك

.للقدر كنت طرفا فقط في تلك الجلسة الغريبة

.كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حل بي

Page 134: ذاكرة الجسد

"يوما: "ما هو أجمل شيء فيك؟ سألتك

.ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي

!تكوني األجمل، كنت األشهى. فهل هناك من تفسير للرغبة لم

ربما كان زياد يشبهك ..أيضا

كل اكتشفت ذلك مع مرور األيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي.مرة

كان أيضا شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي ال عالقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني

األولى. عندما نبهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، ربما من اللحظة.وتألق مثير للغيرة بينما كنت أراكما أمامي في صحة

سوى شبح ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لستبينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟

أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، لم تتنبهي يومها.قليال إلي.. وكثيرا إليه بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين

:قلت له

مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئا ما "لقد أحببت ديوانك األخير- مقاطع منه حفظتها لفرط ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك

..أعدت قراءتها

:زياد ورحت تقرأين أمام دهشة

تربص بي الحزن ال تتركيني لحزن المساء"سأرحل سيدتي

اليوم بابك قبل البكاء أشرعيفهذي المنافي تغرر بي للبقاء

انتظار وهذي المطارات عاهرة في..."تراودني للرحيل األخير

.مرة كنت أستمع إليك تقرئين شعرا ألول

كان في صوتك موسيقى آللة لم تخلق بعد أتعرف عليها ألول مرة في.نبرتك التي خلقت في البدء للفرح.. فإذا بها عزف لشيء آخر حزن

Page 135: ذاكرة الجسد

إليك بشيء من الذهول، وكأنه فجأة يجلس خارج الزمن وكان زياد يستمع.وخارج الذاكرة

.أخيرا قرر أن يجلس على شيء آخر غير حقائبه ليستمع إليك كأنه.. راح :يقرأ بقية تلك القصيدة وكأنه يقرأ لك طالعه ال غير وعندما سكت

وطن ومالي سواك"وتذكرة للتراب.. رصاصة عشق بلون كفن

وال شيء غيرك عندي!"لعمر قصير.. مشاريع حب

في تلك اللحظة.. شعرت أن شحنة من الحزن المكهرب وربما الحب.المكهرب أيضا قد سرت بيننا، واخترقتنا نحن الثالثة

مبهورا به. كنت أشعر أنه يسرق مني كلمات كنت أحب زياد.. كنت الحزن، وكلمات الوطن، وكلمات الحب ..أيضا

.كان زياد لساني، وكنت أنا يده كما كان يحلو له أن يقول

وكنت !أشعر في تلك اللحظة.. أنك أصبحت قلبنا.. معا

***

.كان يجب أن أتوقع كل الذي حدث

يمكن أن أوقف انجرافكما بعد ذلك؟ فهل كان

يخترع وحشا، ثم يصبح عاجزا عن كنت شبيها بذلك العالم الفيزيائي الذي.السيطرة عليه

كنت أكتشف بحماقة أنني صنعت قصتكما بيدي. بل وكتبتها فصال فصال.أبطالي بغباء مثالي، وأنني عاجز عن التحكم في

كيف يمكن أن أضع أمامك رجال يصغرني باثنتي عشرة سنة، ويفوقنيحضورا وإغراء، وأحاول أن أقيس نفسي به أمامك؟

التي كانت تجمعكما بتواطؤ، وأمنع كاتبة كيف يمكن أن أفك صلة الكلمةقلب؟ أن تحب شاعرا تحفظ أشعاره عن ظهر

وكيف أقنعه هو الذي ربما لم يشف بعد من حبه الجزائري السابق، أال

Page 136: ذاكرة الجسد

أنت التي جئت لتوقظي الذاكرة، وتشرعي نوافذ النسيان؟ يحبك

كيف حدث هذا.. وكيف أتيت بكما ألضعكما أمام قدركما.. الذي كان أيضا!قدري

:المساء قال لي ذلك

الكتابة إنها رائعة هذه الفتاة.. ال أذكر أنني قرأت لها شيئا، فربما بدأت- بعدما غادرت الجزائر حسب ما فهمت. ولكنني أعرف هذا االسم.. لقد

.قرأته في مكان ما.. إنه ليس غريبا علي سبق أن

:قلت له وقتها

تقرأ هذا االسم وإنما سمعته فقط. إنه اسم لشارع في الجزائر أنت لم- .عبد المولى( الذي استشهد أثناء الثورة يحمل اسم أبيها )الطاهر

وضع زياد جريدته ونظر إلي دون أن .يقول شيئا

.أحسسته ذهب بعيدا في تفكيره

الهوامش المثيرة للقائكما في تلك الظروف.. تراه بدأ أيضا يكشف كليبقى محايدا أمامها؟ وكل التفاصيل العجيبة التي ال يمكن أن

.شعرت برغبة في الكالم عنك أكثر

أحدثه عن سي الطاهر. كدت أخبره أنك ابنة قائدي كنت على وشك أن العجيبة معك. أنت التي كان يمكن وصديقي. كدت أقص عليه حتى قصتي

!حبيبتي أن تكوني ابنتي، قبل أن تصبحي فجأة بعد ربع قرن

كدت أحكي له قصة لوحتي األولى )حنين( وتصادفها مع ميالدك. وقصة..لوحاتي األخيرة وعالقتها بك.. وسبب تدهور صحتي وجنوني األخير

.سر قسنطينة كدت أشرح له

وحدنا؟ أكان أصمت ألحتفظ بسرك لي كما نحتفظ بسر كبير نتلذذ بحمله.لحبك نكهة العمل السري ومتعته القاتلة؟

أعترف له دون أن أدري أنك حبيبتي، هو الذي لم أنم تراني كنت أخجل أنشيء؟ أخجل منه يوما والذي تقاسمت معه كل

فقط؟.. أألنك حب لم يخلق ليقتسم، قررت منذ البدء أن تكوني ألحدنا

Page 137: ذاكرة الجسد

أعن صداقة أو حماقة، كنت أريد أن أمنحه فرصة حبك الذي قد يكون حبه األخير، وأياما من السعادة المسروقة من الموت المحتمل الذي كان

حين.. وفي كل مدينة؟ يتربص به في كل

زيارة سياحية. ماذا جاء زياد يفعل في باريس؟ من الواضح أنه لم يأت في ربما جاء ليقوم ببعض االتصاالت السرية، يلتقي ببعض الجهات.. يتلقى أو

..يعطي تعليمات ال أدري

على الهاتف، وكان ال ولكنه كان قلقا شيئا ما. كان يتحاشى أخذ مواعيده .يغادر البيت بمفرده إال نادرا

سؤال حول سبب زيارته لباريس. كان هناك شيء ولم أطرح عليه يوما أي أحترم أسرار اآلخرين عندما من بقايا فترة كفاحية في حياتي، تجعلني

.يتعلق ذلك بقضايا نضالية

يحترم صمتي. ولهذا نقلنا سرنا وصمتنا حتى كنت أحترم سره، وكان.قصتنا المشتركة معك

المفرط يتوقع شيئا ما بيني وبينك؟ أكان بحدسه وجود حب ملتهب كهذا في أم تراه أمام تظاهري بالالمباالة، لم يتوقع

.أحشائي

تدريجيا على رؤوس األصابع، وكيف يمكن أن يتوقع ذلك، وأنا أنسحبألترك له المجال تدريجيا لمزيد من التوسع؟

أدعه يجيب على الهاتف نيابة عني. يتحدث إليك ويدعوك إلى البيت كنت.نيابة عني

تأتين، وأحاول أال أسأل نفسي لمن جئت.. ولمن تراك تجملت؟ وكنت

.األيام وجعا يوم زرت البيت بعد ذلك ألول مرة ربما كان أكثر

للوحاتي لتنتبهي إليها. رحت تنتقلين من غرفة إلى كان ال بد أن ينبهك زياد يستوقفك ذلك الممر، وال ذكرى قبلة أخرى وكأنك تعبرين غرف بيتك. لم

.قلبت حياتي رأسا على عقب

اللحظة هي األكثر ألما، أم عندما فتحت )خطأ؟( بابا، فقلت لك أكانت تلك زياد". فوقفت أمام ذلك الباب نصف المفتوح، لحظات موضحا "هذه غرفة

.كل لوحاتي مجتمعة بدت لي أطول مما قضيته من وقت أمام

:نفسها قلت وأنت تعودين إلى الصالون وتجلسين على تلك األريكة

ال أفهم أن تكون رسمت كل هذه الجسور.. جنون هذا.. كان يكفي لوحة- ..اثنتان أو

Page 138: ذاكرة الجسد

أعن قناعة أم عن لياقة تطوع زياد ليجيبك نيابة عني، بعدما الحظ وقع:كلماتك علي، والحظ تلك الخيبة التي أفقدتني صوتي

اللوحات.. لقد حكمت عليها من النظرة األولى.. أنت لم تتأملي هذه- تشابهت. هنالك أرقام سرية تفتح لغز وفي الرسم، اللوحات ال تتطابق وإن

عنه للوصول إلى ذلك كل لوحة.. شيء شبيه بـ )الكود( ال بد من البحث..اإلشعار بشيء ما يريد أن يوصله إلينا صاحبها

بنفس هذه السرعة أمام لوحة )العبي الورق( الشهيرة، لما لو مررت أمام طاولة، ولما انتبهت إلى كونهما الحظت سوى العبين جالسين

أراد أن ينقله لنا يمسكان بأوراق بيضاء يخفيانها على بعض. إن ما عليه.. "سيزان" ليس مشهدا للعبة الورق بل مشهد من التزوير المتفق

.وربما المتوارث مادام أحد الالعبين أكبر من الثاني سنا

:يواصل زياد كالمه قاطعته قائلة وقبل أن

- في الرسم.. أم أن عدوى من أين تعرف كل هذا.. هل أنت خبير أيضاخالد انتقلت إليك؟

:وقال ضحك زياد واقترب منك بعض الشيء

ليس هذا ميدان خبرتي على اإلطالق.. إنه ترف ليس في متناول رجل- مثلي.. بل إن جهلي في الفن سبفاجئك. أنا ال أعرف غير قلة قليلة من

أعمالهم عن طريق المصادفة.. وفي الكتب المختصة الرسامين اكتشفت الحديثة التي تطرح أسئلة من خالل غالبا.. ولكنني أحب بعض المدارس

..أعمالها

المحترمة ال تهزني. أحب الفن الذي الفن للفن ال يقنعني، والجوكندة بلوحات خالد يضعني في مواجهة وجودية مع نفسي، ولهذا أعجبت

.األخيرة.. إنها أول مرة يدهشني فيها حقا

الجسر لوحة بعد أخرى في فرح ثم في حزن متدرج لقد توحد مع هذا حتى العتمة، وكأنه عاش يتوقيته يوما ..أو عمرا كامال

البعيد تحت خيط في اللوحة األخيرة ال يظل باديا من الجسر سوى شبحه من الضوء. كل شيء حوله يختفي تحت الباب فيبدو الجسر مضيئا، عالمة

استفهام معلقة إلى السماء. ال ركائز تشد أعمدته إلى أسفل، ال شيء! وال على يساره، وكأنه فقد فجأة وظيفته األولى كجسر يحده على يمينه

أم بداية الليل؟ أتراه يحتضر أم يولد مع خيط أترى بداية الصبح عندئذ الفجر؟ إنه السؤال الذي يبقى معلقا كالجسر لوحة بعد أخرى، مطاردا

Page 139: ذاكرة الجسد

ألن أي شيء بلعبة الظل والضوء المستمر، بالموت والبعث المستمر،.معلق بين السماء واألرض هو شيء يحمل موته معه

زياد مدهوشا، وربما اكتشفت شيئا لم يخطر ببالي لحظة كنت أسمتع إلى.اللوحات رسم كل هذه

أحق ما قاله؟

خيرا مني. مثل كل النقاد من المؤكد أن زياد كان يتحدث عن لوحاتي بساطة، الذين يعطونك شروحا مدهشة ألعمال فنية قمت بها أنت بكل

دون أية تساؤالت فلسفية، فيضحكونك إذا كنت فنانا صادقا وبسيطا ال الرموز والنظريات المعقدة في الفن. وقد يمألونك غرورا وجنونا، إذا تهمك

الكثيرين الذين يأخذون أنفسهم مأخذ الجد، ويبدأون عندئذ كنت مثل!جديدة بالتنظير بمدرسة فنية

.قبل كان في تحليل زياد حقيقة هامة أدهشتني ولم أنتبه لها من

لقد كنت أعتقد وأنا أرسم تلك الجسور أنني أرسمك، ولم أكن في الواقع أرسم سوى نفسي. كان الجسر تعبيرا عن وضعي المعلق دائما ومنذ

.عليه قلقي ومخاوفي ودواري دون أن أدري األزل. كنت أعكس

.يوم فقدت ذراعي ولهذا ربما كان الجسر هو أول ما رسمت

الحين؟ فهل تعني كل هذه الجسور، أن ال شيء تغير في حياتي منذ ذلك

ربما كان هذا هو األصح.. ولكن ليس هذا كل شيء. وقد كان يمكن لزياد يفلسف أيضا رمز الجسر بأكثر من طريقة.. ولكن من المؤكد أنه لن أن

المعروفة، ألن رموزنا تأخذ بعدها من حياتنا فقط، يذهب أبعد من الرموز.ثنايا ذاكرتي وزياد في النهاية لم يكن يعرف كل

!الجسور ولم يكن زار تلك المدينة التي تعرف وحدها سر

تذكرت حين ذاك رساما يابانيا معاصرا، قرأت عنه أنه قضى عدة سنوات وهو ال يرسم سوى األعشاب. وعندما سئل مرة لماذا األعشاب دائما..

العشب فهمت الحقل.. ويوم فهمت الحقل أدركت سر قال: "يوم رسمت..".العالم

.مفتاحه الذي يفتح به لغز العالم.. عالمه وكان على حق. لكل

وألبرتو مورافيا يوم فهم الرغبة،. همنغواي فهم العالم يوم فهم البحر وبودلير يوم فهم والحالج يوم فهم الله، وهنري ميلر يوم فهم الجنس،

.اللعنة والخطيئة

Page 140: ذاكرة الجسد

وفان غوغ.. تراه فهم حقارة العالم وساديته، عندما كان يجلس محموما منها.. غير حقول عباد معصوب الرأس أمام تلك النافذة التي لم يكن يرى

لوحة الشمس الشاسعة فال يملك أمام إرهاقه إال أن يرسم أكثر منللمنظر نفسه؟

البسيطة ألن يده المحمومة لم تكن تقدر على رسم أكثر من تلك الزهور.الساذجة

وإنما لينتقم ولكنه.. كان يواصل الرسم برغم ذلك، ال ليعيش من لوحاته.لها ولو بعد قرن

األرقام القياسية في ألم يقل ألخيه تلك النبوءة التي حطمت بعدها كل ثمن لوحة )عباد الشمس(: "سيأتي يوم يفوق فيه ثمن لوحاتي.. ثمن

".حياتي.تساءلت وأنا أصل إلى هذه الفكرة: هل الرسامون أنبياء أيضا؟

أربط هذه الفكرة بتعليق زياد "كل شيء معلق يحمل موته ثم رحت.."معه

نفسي، أية نبوءة تحمل كل اللوحات التي رسمتها في درجة وإذا بي أسأل أموت أم ميالد تلك المدينة؟ أصمود متقدمة من الالوعي والجنون؟

جوية وأكثر من ريح جسورها المعلقة منذ قرون في وجه أكثر من نشرة التي ال مضادة؟ أم سقوطها جميعا في دمار هائل مفاجئ، في تلك اللحظة

!التاريخ يفصل فيها بين الليل والنهار سوى خيط باهت للغفلة.. غفلة

كنت تحت تأثير تلك الرؤية المذهلة، عندما جاء صوتك لينتزعني من.هواجسي

:قلت وأنت توجهين حديثك إلي

أنك لم تزر قسنطينة منذ عدة أتدري خالد.. إن من حسن حظك- تريد أن تشفى سنوات.. وإال لما رسمت من وحيها أشياء جميلة كهذه. يوم

!منها عليك أن تزورها فقط.. ستكف عن الحلم

آنذاك، أنك ذات يوم ستتكلفين شخصيا بقتل ذلك طبعا، لم أكن أدري الحلم، وتوصليني في ما بعد حتى أعتاب .قسنطينة مكرها

.لوقته.. كالنبوءة تدخل زياد ليقول كالما جاء هذه المرة أيضا سابقا

:قال بشيء من العتاب المهذب

قتل حلم هذا الرجل؟. هنالك أحالم نموت على يدها، لماذا تصرين على- ..دعيه سعيدا ولو بوهمه

Page 141: ذاكرة الجسد

تعلقي على كالمه، وكأن أحالمي لم تعد تهمك بالدرجة األولى. سألته لم:فقط

وأنت.. ما هو حلمك؟-

:قال

- ..ربما مدينة ما أيضا

الخليل؟ هل اسمها- :قال مبتسما

ننتسب لها ال.. نحن ال نحمل دائما أسماء أحالمنا.. وال- .اسمي الخليل ومدينتي اسمها غزة

ومنذ متى لم تزرها؟-

- ..منذ حرب حزيران.. أي منذ خمس عشرة سنة تماما

:ثم أضاف

الذي يحدث لخالد اليوم، كان يقنعني في الماضي يوم كنا في يضحكني- هناك نهائيا. لم يكن يفهم أن تطاردني تلك الجزائر بالزواج والعيش

وها هو اآلن يصل إلى كالمي. المدينة إلى درجة إخراجي من كل المدن .بها من تلقاء نفسه، ويصبح بدوره مسكونا بمدينة، مطاردا

العجيب أنه لم يحدثني عنها أي مرة.. وكأنه لم يكن يوليها اهتماما من!قبل. هنالك أشياء شبيهة بالسعادة ال ننتبه لوجودها إال بعدما نفتقدها

كان ذلك ما حدث لي.. فقد كنت أعي تدريجيا أنني كنت سعيدا معك ربما الصيفية.. وقبل مجيء زياد.. وقبل أن يتحول حبنا من قبل تلك العطلة

األطراف كل زواياه متساوية، ومن لعبة عشق ثنائي عنيف إلى حب مثلث فيها كل المربعات السوداء شطرنج يحكمها العبان متقابالن، ويمأل الحب

نجلس حولها والبيضاء، بقانون المد والجزر العشقي، إلى لعبة طاولة، المشتركة، نحن الثالثة، بأوراقنا المقلوبة، وأحزاننا المقلوبة، بنبضات قلبنا

بذاكرتنا المشتركة، نتربص ببعضنا ونخلق قوانين جديدة للحب.. نزور األوراق التي نملك النسخ نفسها منها، نحتال على منطق األشياء ال ليربح

الجولة، وإنما لكي ال يكون بيننا من خاسر، وحتى تكون نهايتنا أقل أحدنا.البداية وجعا من

Page 142: ذاكرة الجسد

يكن كان واضحا أن زياد كان يشعر أنني أحبك بطريقة أو بأخرى. ولكنه لم يعي جذور ذلك الحب ومداه. ولذا كان ينساق إلى حبك دون تفكير ودون

.بالذنب شعور

لم يكن ألحدنا وعي كامل لينتبه إلى أن العشق اسم ثنائي ال مكان فيه لطرف ثالث. ولذا عندما حولناه إلى مثلث، ابتلعنا كما يبتلع مثلث

البواخر التي تعبره خطأ؟ "برمودا" كل

.كيف وصلنا إلى هنا

الديار الغريبة عن طقوسنا؟ أي قدر بعثرنا ثم أعاد أي ريح حملتنا إلى هذه وأعمارنا وتواريخنا المتفاوتة، ومعاركنا جمع أقدارنا المتناقضة المبعثرة،

في معركة نخوضها مع بعضنا ضد وأحالمنا المتباعدة، وأوقفنا هنا، أطرافابعضنا دون وعي؟

خاطرة، أدهشتني بتطابقها مع أحاسيسي بعد أشهر قرأت بين أوراق زياد:هذه، كتب فيها

خسرناها في زمن المعارك الفاشلة، فأي الهزائم عشقنا جولة أخرى"أكثر إيالما إذن؟.الذي حصل مقدرا كان كل

.شعبين كنا ألرض واحدة.ونبيين لمدينة واحدة

.المرأة واحدة وها نحن قلبان(.كل شيء كان معدا لأللم. )هل يسعنا العالم معا؟

نتقاسم كبرياءنا رغيفا عربيا مستديرا كجرحنا. رصاصة مستديرة ها نحن مربع أحمر، يتدرب فيه القدر على إطالق الرصاص الرأس.. أطلقوها على

..كالدوار.. حتى تصل مركز الموت على دوائر سوداء تصغر تدريجيا.حيث الرصاصة ال تخطئ

.ترحم حيث الرصاصة ال.."وحيث سيكون قلب أحدنا

أحيانا في غرفته ليكتب. وكنت كان زياد في تلك األمسيات الشتائية، يسهر..أرى في ذلك عالمة ال تخطئ

عاشقا ليعود إلى الكتابة بهذه الشراهة، هو الذي لم يكتب ال بد أن يكون.سنوات شيئا منذ عدة

كنت أبتسم أحيانا، وصوت موسيقى خافتة ينبعث من غرفته حتى ساعة.متأخرة من الليل

يثق بها تماما. كأن زياد كان يريد أن يمأل رئتيه بالحياة، أو كأنه لم يكن

Page 143: ذاكرة الجسد

.ويخاف إن هو نام أن تسرق منه شيا

األشرطة نفسها التي ال أدري من أين أحضرها، كان يستمع دائما إلى التحديد، كالموسيقى الكالسيكية.. والتي لم أكن مولعا بها أنا على وجه

.وشريط لفيفالدي وآخر لتيودوراكيس

أقول لنفسي وأنا أقضي أحيانا سهرة كاملة بمفردي أمام وكنت:التلفزيون

جنونه أيضا. هنالك جنون الصيف.. وهنالك جنون الشتاء. انتهى إنه يعيش" !".جنونه جنوني وبدأ

ولكن.. كيف يمكن لي أن أعرف درجات جنونه هذا؟ من أين آتي بمقياسللزلزال، أعرف منه ما يحدث في أعماقه بالتحديد؟

كتابات سرية ال يدري بها غير الورق. بينما يعلق كيف يمكن ذلك، ونوباته.تشهد ضدي.. وتفضحني جنوني على الجدران إحدى عشرة لوحة

فهل انتهى جنوني حقا؟ داخليا ال عالقة له باإلبداع. أصبح أحاسيس مرضية ال.. أصبح فقط جنونا

.واليأس أبذرها هباء في الغيرة

كان إذا غير زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهو..يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك

األسباب التي جاء من أجلها زياد إلى نسيت في زحمة غيرتي، حتى.باريس، ولقاءاته.. وهواجسه األخرى

.ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه..

اإلطالق. فقد كان علي أن أترككما ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألما على غالبا في بيت واحد هو عشرة أيام كاملة معا في مدينة واحدة. وربما

.بيتي.. نظرا لصعوبة لقائكما خارج البيت

سافرت يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعا، لنضع شيئا عالقتنا، وأنه كان البد ألحدنا أن يتغيب لتحسم هذه األمور من الترتيب في

الغامضة بيننا .نهائيا

القدر طبعا، لم أكن مقتنعا في أعماقي بهذا المنطق، أو على األقل بهذا.العنيد الذي جعل القرعة تقع علي

Page 144: ذاكرة الجسد

لكما. وكان ذلك يؤلمني كثيرا. ولكن ما فمن الواضح أن القدر كان منحازا:الذي كان أشد إيالما لي

أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد ال سواه، أم أن أدريفي غرف لم أتمتع بك فيها؟ أن تتم خيانتي في بيتي

معك؟ وهل ستوقفه إلى أي حد ستذهبين معه.. وإلى أي حد سيذهب هوذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوما من قيم؟

.الكثير عن زياد.. ولم أقل لك األهم قلت لك

.انتمائي السرية كان زياد يوما خليتي السرية، أوراق لعمر آخر. كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمرا سريا

فهل سيخونني زياد؟

كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه .مسبقا

نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئا غير ذلك معك، أنا الذي تنكرت أيضا لسي الطاهر، لرجل كان يوما قائدي، وكان يوما صديقي..

لرجل أودعك .عندي وصية ذات يوم ومات شهيدا

من منا األكثر خيانة إذن؟

قد يضع أحالمه ورغباته حيز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفذها ألنني هو الذيلذلك؟ لم أجد فرصة

أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتى في غفوتي.. أم هوستكونين له بإرادتك؟ الذي

وتربكك، تمألك هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقا. تغريك.برنامجك وتفرغك، وتجردك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل

وتتناول.. هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها .فطور الصباح وحيدا

..كحسرة هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة

Page 145: ذاكرة الجسد

!هنالك مدن.. كم تشبهك

غرناطة؟.. فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها

الحمراء.. كان حبك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر

.غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب

واألصوات والوجوه، مع سمرة األندلسيات كان حبك يأتي مع العطور.وشعرهن الحالك

قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي مع فساتين الفرح.. مع.أحبه تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي

..كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضا.. فهل كل المدن العربية أنتوكل ذاكرة عربية أنت؟

.. مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين تحملين طعما.مميزا ال عالقة له بالمياه القادمة من األنابيب والحنفيات

الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السحر، في مر المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ ذاكرة القصور العربية

..لتوه غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها

!كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبلها

كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟ ترانيالله، وسأبكيك يوما مثله؟ تراني أضعتك بحماقة أبي عبد

ابك مثل: "كانت أمه قد قالت له يوما وغرناظة تسقط في غفلة منه.."النساء ملكا مضاعا، لم تحافظ عليه مثل الرجال

أحافظ عليك؟. وعلى من أعلن الحرب.. أسألك؟ فهل حقا لم

.وأحبتي على من.. وأنتما ذاكرتي.على من.. وأنت مدينتي وقلعتي

فلم الخجل؟

ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبك منذ أبي عبد الله هل هناكمدينة ما؟

!قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع فاسقطي

Page 146: ذاكرة الجسد

هل سقطت حقا يومها.. هذا ما لن أعرفه .أبدا

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك األخير، سقوطك النهائي الذي كنت .عليه بعد ذلك شاهدا

فأي جنون كان أن تزيد المسافات من حبك، وأن تأخذي مالمح تلك المدينة أيضا. وإذا بي كمجنون أجلس كل ليلة ألكتب لك رسائل كانت تولد

وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقص لك فيها تفاصيل يومي من دهشتي.الدهشة وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد

:كتبت لك مرة

.طراز أندلسي أريد أن أحبك هنا. في بيت كجسدك، مرسوم على" تعاريج أريد أن أهرب بك من المدن المعلبة، وأسكن حبك بيتا يشبهك في

.أنوثتك العربية

األولى. تظلل حديقة بيتا تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم

.باألندلس

فيها أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح .سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشا

البلدي األخضر قبل أن أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون.ينضج

.."بها، أشتهيك أيتها الفاكهة المحرمة.. أمام كل شجرة أمر

كنت أريد كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات

وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم المغلقة في في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من تكتب قبلك المرأة. رسائل انفجرت

. الصمت

أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون قبلك كتبت لنساء. إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل ألول مرة

.عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة

.في البحث عن الكلمات لم أكن أجهد نفسي آنذاك عقد.. وال كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائيا بحريتها للقول دون

.خجل

Page 147: ذاكرة الجسد

أستسلم معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها،.إلغرائها السري، إليحاءاتها

األنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء..خال أسمر النشوة.. أللف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها

والضحك.. هل اللغة أنثى أيضا؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاءوالحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم تراكالصقيع؟

تراها جاءت في غير وقتها؟ أأدهشتك أم

كل المسام، ويصبح كان ال بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من.لغتك

الحب؟ فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع األشعار.. ليستعيدها وعبثا راح منه. ولكنها فضلت جنون دالي المجهول آنذاك.. من دالي الذي خطفها

موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي على قوافي بول إيلوار. وظلت حتى غيرها طوال تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة

.حياته

يهزمون الشعراء الواقع أن الحب ال يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين ال.دائما.. حتى عندما يحاولون التنكر في ثياب الكلمات

***

غصة الزمتني طوال تلك عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق الجميلة أو األيام، وأفسدت علي متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات

.المفيدة التي تمت لي أثناءه

توقف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد كان هناك شيء داخلي ينزف دون.شيئا ما يحدث هناك الغامض الذي ال يفارقني ويذكرني كل لحظة أن

بالبريد الذي استقبلني زياد بشوق. )أكان حقا سعيدا بعودتي؟(. أمدني وصل أثناء غيابي وبورقة سجل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفيا خالل

Page 148: ذاكرة الجسد

.تلك األيام

.فيها أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسرته بارتباكه لحظتها آخر

.آلخر أمامي لسبب أو

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمم األجواء بحثا عن إنسان قد يكون تسلل

..مغارته أثناء غيابه إلى

ذلك، دون كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي.أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي

يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين ولكن هل تهم الحجة؟.. هلالتقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟ يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا !مجوسيا يعبد اللهب كنت منجما للكبريت.. وكان زياد عاشقا

المرأة التي يحلم فهل كان يمكن أن يصمد طويال في وجه نيرانك.. أنتالرجال أن يحترقوا بها ولو وهما؟

عن فرح ما، عن سعادة ما أجد فيها الحجة رحت أبحث في مالمح زياد.القاطعة على أنك كنت له

.على وجهه أي شعور خاص، غير القلق ولكن لم يبد

:فجأة حدثني عنك قال

..منها أن تأتي غدا لنتناول معا غداءنا األخير لقد طلبت-

:الدهشة صحت بشيء من

لماذا األخير؟-

:قال

..األحد ألنني سأسافر-

ولماذا األحد؟-

قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح .معا

Page 149: ذاكرة الجسد

:أجاب زياد

لم يكن مقررا أن. ألنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك ألسافر- ..أعود أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهرا كامال وال بد أن

:ثم أضاف بشيء من السخرية

.الباريسية قبل أن أتعود على الحياة-

كان تراك أنت الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه يهرب مرة أخرى من حب آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيرا فلم يعد أمامه

الرحيل؟ غير

مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل.سفره

حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم األحد يتربص.بنا ويضعنا أخيرا وجها لوجه نحن الثالثة في ذلك الغداء الحاسم

قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسرتها على طريقتي بأنها شعور يومها باالمتنان(. ألم أقدم لك حبا على طبق من شعر على بالذنب، )أو ربما

!طاولة هي.. بيتي؟

شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم ثم لها تلميذ نصا .إنشائيا

أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدثت زياد عنها وربما أريته إياها .أيضا

:كنت على وشك أن أقول شيئا عندما واصلت

هناك.. هل غرناطة جميلة حقا إلى هذا الحد؟ وهل تمنيت لو كنت معك- خوانتا فاكيروس(.. أليس هذا اسم )زرت حقا بيت غارسيا لوركا في

..ضيعته كما قلت؟ حدثني عنه

وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئا مثيرا للدهشة، وربما للتفكير .أيضا

أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرت بنا، وبعد عشرة أياممن الجحيم الذي عشته وحدي؟

Page 150: ذاكرة الجسد

يوما عن حياة ال أدري كيف خطر عندئذ في ذهني شهد لفيلم شاهدته..لوركا

:قلت لك

لوركا؟ أتدرين كيف مات-

:قلت

..باإلعدام-

:قلت

شاسع وقالوا له امش.. وكان يمشي عندما ال.. وضعوه أمام سهل- .تماما ما الذي حدث له أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتا دون أن يفهم

يتوقعه، ويذهب إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان فقط إليه مشيا على األقدام كما نذهب لموعد مع صديق.. ولكن كان يكره

!أن تأتيه الرصاصة من الظهر

الصدر. رفع عينيه نحوي، شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في.أحسسته على وشك أن يقول شيئا ولكنه صمت

.بعضنا دون كثير من الكالم كنا نفهم

إيالمه يعز علي أكثر من ندمت بعدها على إيالمي المتعمد له. فقد كان عشته من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما

.عذاب بسببه .وربما كان أكثره أيضا

وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، تحول غداؤنا فجأة إلى لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن كنت تخترعينها أنت بفطرة نسائية

.عبثا

.انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه كان هناك شيء من البلور قد

:سألتك بعدها

ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟ هل-

:أجبت

Page 151: ذاكرة الجسد

إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث ال.. ال يمكن أن أذهب- الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. أن يمر بمكتب الخطوط الجوية

ألننا في الحقيقة ال وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم ال نودعهم،.نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس لألحبة

تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثال "نحن ال كانت للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا نكتب إهداء سوى

.."األولى في حاجة إلى توقيع في الصفحة

ولماذا الوداع؟

هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟

.أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك وال تأكلين شيا سواه كنت

تودعان جسده قطعة قطعة. تتوقفان طويال عند كل شيء كانت عيناك .عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور فيه، وكأنك تختزنين منه صورا

لي، أو ألن كلماتي الموجعة وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة نظراته الحزينة إلى أفقدته رغبة الحب.. ورغبة األكل كذلك. وجعلته يحول

.أعماقه وإلى ما بعد السفر

ولكن حزني كان فريدا وفرديا كخيبتي. وكنت أنا ال أقل حزنا عنكما،.العجيبة متشعب األسباب غامضا كموقفي من قصتكما

وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توترا. فقد كنت أطمع في عودتك على انفراد ألخلو أخيرا بك. ألفهم منك دون كثير من األسئلة، إلى معي

على محو تلك األيام من ذاكرتك، والعودة إلي دون أي مدى كنت قادرة..جروح أو خدوش

قلبك قد أصبح منحازا إليه. وربما جسدك أيضا. ولكنني كنت كنت أدري أن أنك في النهاية ستعودين إلي، ألنه لن يكون أثق بمنطق األيام. وأعتقد

وحنينك األول ألبوة كنت أنا نسخة.. هناك سواي.. وألنني ذاكرتك األولى.أخرى عنها

.وأنتظرك فرحت أراهن على المنطق

Page 152: ذاكرة الجسد

..رحل زياد .بيتي وعاداتي األولى قبله ورحت أستعيد تدريجيا

على وجوده معي، كنت سعيدا ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعودت وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم

.لتلك األيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة الشتاء؛

.فجأة كما امتأل به رحل زياد.. وفرغ البيت منه

والتي تركها لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها

.عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها

سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر ولكن البد أن أعترف أن.منه أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ

كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيرا بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني.سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي

تحبينه.. تحبين طريقة سأعيدك إليه تدريجيا. ألم تعترفي مرارا أنكعليه؟ ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطل

أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء..!األشياء أحلى ويجعل

صوتك في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن.كان ينسحب أيضا تدريجيا أمام دهشتي

كل أسبوعين، ثم نادرا، قبل أن ينقطع كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم .نهائيا

الدواء. وكنت أشعر أحيانا أنك تطلبينني مجاملة كان يأتي شحيحا كقطرات.معلنة لمعرفة أخبار زياد فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير

مباشرة بعنوان البيت، وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليكأخباره؟ ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن

تتعلمي أم أنه كعادته أخبرك مسبقا أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن !.النسيان. فرحت تطبقين تلك العقوبة علي أيضا

Page 153: ذاكرة الجسد

.الحلول في كل شيء كان زياد يكره أنصاف

كان يسميه كان متطرفا كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضا ما"!سابقا "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات

الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذ عن كل شيء كان رجل االختيارات ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون ليبقى مع من يحب، أو يرحل ألن الذي

.والذكرى من مبرر لتعذيب النفس باألشواق

تساءلت طويال بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟

المرة أيضا كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك تراه تصرف هذه..منها الفتاة التي كان على وشك الزواج

أم أنه تغير هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط ألنك أنت، وألن.الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين

استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة كنت أحاول أحيانا.للعبة.. والتأقلم معها تساعدني على تحديد القواعد الجديدة

أحدثك عنه، ولكن وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبين أن.دون أن تبوحي لي بشيء

بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين..والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما

كالمك كذبا أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألون جمله بألوان أكثر كان.أعرفه عنك تناسبا مع كل ما

بالقلق تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، باألزرق.. والرمادي،.الذي يخيم على كل ما تقولينه

منها حوارا لرسوم متتالية على تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع.وكالم لم نقله ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر

بدأت تربطك لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجيا تلك العالقة الغامضة التي.في ذاكرتي بذلك اللون األبيض

.أبيض لم يكن كالمك وحده كذبا

كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضا بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج

من ألوان لوحاتي، وأحاول االستغناء عنه، في محاولة هذا اللون نهائيا

Page 154: ذاكرة الجسد

.مجنونة إللغائك

لونا متواطئا معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما كان الطفولية البيضاء تجف فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة أثوابها

.يهيأ لي معك على نار باردة، أكثر من ثوب أبيض مسبقة للقدر الذي كان

يدخل في تركيب كل األلوان وكل األشياء. فكم من كان األبيض لونا مثلك منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا األشياء يجب أن أدمر قبل أن أنتهي

!قاطعته

واأللوان.. ( أن أنتهي منك. ولكني كنت في )كنت أحاول بكل األشكال.حبك الحقيقة أزداد تورطا في

:اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس

..الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها أتدرين.. حبك صحراء من

:الموجعة أجبتني بسخريتك

قف حيث أنت.. المهم أال تتحرك. فكل محاولة للخالص في هذه- الحاالت، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي

لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف ال يوجهها أهل الصحراء!تعرف هذا؟

أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما ألنني أحب سخريتك يومها كان ال بد.قلما نلتقي بامرأة تعذبنا بذكاء الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن

أراه جميال بقدر ما هو وربما ألنك كنت تزفين لي احتمال موت كنت..حتمي

تنبهت له من قبل" "الطير الحر ما تذكرت مثال شعبيا رائعا، لم أكن قد!".ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبطش

أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى ساللة وكنت يسهل اصطيادها، والتي عندما تصطاد، تصبح الصقور والنسور التي ال

تقاوم أو تتخبط كما يفعل طائر شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن.صغير وقع في فخ

:المثل الشعبي، صحت دهشة عندما أجبتك يومها بذلك

!ما أجمله.. لم أكن أعرفه-

Page 155: ذاكرة الجسد

:تنهيدة أجبتك وسط

زمن ألنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمنا للصقور وال للنسور.. إنه- !للطيور المدجنة التي تنتظر في الحدائق العمومية

الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، ست سنوات مرت على ذلك:وأستعيد نصيحتك األخيرة

!".المهم أال تتحرك.. قف حيث أنت"

والزوابع.. والرمال كيف صدقت يومها أنك كنت تخافين علي من العواصف المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت

تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدمي.. وتحرضين.علي القدر

..لم أتحرك أنا

.عدة ظللت واقفا بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات

كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين األرض من تحت قدمي.أنزلق نحو العمق وأنني

.لتغتالني كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنوات

واليوم.. وسط األعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة من .األحاسيس المتطرفة والمتناقضة معا

..منعطف النسيان" قلت"

يأتي النسيان..أسألك؟ من أين

***

مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على.ليدعوني إلى العشاء في منزله الهاتف،

Page 156: ذاكرة الجسد

فهمت منه فقط أنه دعا. فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها.آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا

.سعيدا ومرتبكا بفرحي أعترف أنني كنت

مرة واحدة خجلت من نفسي ألنني منذ لقائنا األخير لم أطلبه سوى بمناسبة العيد، برغم إلحاحه علي أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ

قهوة .معا

.فجأة، أخذت قرارا ربما كان أحمق

.ألهديها إياه قررت أن آخذ إحدى لوحاتي

أتوقعها؟ ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد

بالعمالت سأثبت له دون كالم، أن لوحاتي ال تتداول إال بعملة القلب وليس.المشبوهة

.بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى

.حاضرا في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلقا على جدار سأكون

.حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء في اليوم التالي،

الراقي بحثا عن تلك البناية. كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي .عيناي.. أم قلبي: حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أوال

عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي.المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط

الباب. رحب بي بعناق حار، زادت حرارته استقبلني سي الشريف عند.بصعوبة رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها

أن بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماما أن تكون هدية له. تردد قبل.."لك يأخذها مني، لكنني استوقفته ألقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية

رأيت فجأة على وجهه فرحا وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغالف على.عجل، بفضول من ربح شيئا في اليانصيب

:معلقة وسط الضباب إلى السماء ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة

!هذي قنطرة الجبال-

Page 157: ذاكرة الجسد

:شيئا عانقني وقال وهو يربت على كتفي وقبل أن أقول

!تعيش.. يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي-

لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، ألنه أهداني شيئا ربما لم.ينتبه لثمنه عندي

لوحتي رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك باليد األخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدمني إلى ضيوفه، كأنه يريد

يشهد الجميع على امتنانه لي. أو ربما على عالقتنا وصداقتنا الوطيدة، أن شائعا عني أنني ال أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إال على التي كان

.القلة

أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من لفظ.يكون معظمهم

أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسميه لم أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة.. النبتات الطفيلية

حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها التي تنمو من الالشيء، في أي ذات يوم على كل فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها

.التربة

تجعلني أتعرف على هذا ال أدري لماذا كنت دائما أملك الحاسة القوية التي وهيآتهم النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختالف أشكالهم

ومناصبهم يمتلكون مظهرا مشتركا يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك

.الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع القاموس المشترك في

المتبادلة فقط، كانت كافية ألستنتج نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل وجهاء المهجر، الذين نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من

.يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية

..أنني كنت في كوكب ليس كوكبي من الواضح

من الفخر والمودة راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء ..معا

:والتفت إلي ليقول لي

حققت لي اليوم أمنية عزيزة علي. كنت للذكرى أريد أتدري خالد.. لقد_ أنك صديق طفولتي وابن حيي أن يكون في بيتي شيء لك. ال تنس

Page 158: ذاكرة الجسد

"كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحي؟

الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، كنت أحب سي من سي الطاهر، من صوته شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء

..وطلته

كل شيء. ولكن حتى وكان في أعماقه شيء نقي لم يلوث بعد برغم..متى

أخاف أن يتسلل كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت.إليه العفن حتى العمق ذات يوم

االسم الكبير الذي يحمله إرثا من سي أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك.الطاهر من التدنيس

حدسا، أم استنتاجا منطقيا لذلك الواقع الموجع ترى أكان شعوري ذلك به؟ الذي كنت أراه محاطا

فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. وال حياة لألسماك الصغيرة أية بحيرة

العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟ المعزولة في هذه المياه

أن سي الشريف قد اختار كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة،.بحيرته العكرة وانتهى األمر

:سيجاره الكوبي قال جاري األنيق خلف

في بعض لقد كنت دائما معجبا برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم- .مشاريعنا.. ولكنني ال أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا

أدري آنذاك من هو محدثي.. وال عن أية مشاريع كان يحدثني. لم أكن نفسه بصيغة الجمع، ألفهم أنه شخصية ولكن كان يكفي أن يتحدث عن

.فوق العادة

وكأن سي الشريف تنبه إلى :أنني أجهل هوية محدثي فتدخل موضحا

مشاريع كبرى ستغير الوجه إن )سي..( مولع بالفن، وهو مشرف على- .الثقافي للجزائر

:شيء ثم أضاف وكأنه تنبه إلى

ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم تر بعد تلك- ..

Page 159: ذاكرة الجسد

..المركبات الثقافية والتجارية الجديدة.. ال بد أن تتعرف عليها

..أجبه ولم

.كنت أراه يتدحرج أمامي من سلم القيم، غباء أو تواطؤا ال أدري فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من

حجرا حجرا على العموالت والصفقات، وتناوب عليها معالم وطنية بنيت مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن السراق كبارا وصغارا.. على.الخيانة يكون مقامهم مقابال.. لتلك

األنيقة جدا.. ها هو إذن )سي...( يبدو طيبا و رجال شبه بسيط، لوال بدلته وحديثه الذي ال يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها

.بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق

تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية.. ها هو إذن..في عالم الثقافة

أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزا طبيعيا مذ شاع وباؤه أم!قيادة أركان عربية "رسميا" في أكثر من

ذلك العسل كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون شيئا من الذي كان يتدفق بين يديه نهرا من العملة الصعبة، في زمن القحط

..والجفاف

وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعل وسط ذلك المجلسالعجيب؟

الوطن، كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على األقل موعدا نادرا لي مع.أستعيد فيه مع سي الشريف ذكرياتنا البعيدة

السهرة. ناب عنه جرحه، ووجهه الجديد ولكن الوطن كان غائبا من تلك.المشوه

فيها بالفرنسية.. عن مشاريع سيتم كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث فهل حصلنا على.. معظمها عن طريق جهات أجنبية.. بتمويل من الجزائر

!استقاللنا حقا؟

كان )سي...( متعبا وله انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط .ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما ليلية أيضا

.المال السريع الكسب، يعجل في فتح شهيتنا ألكثر من ملذات إن

أكون سعيدا ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محط وكان يمكن أن

Page 160: ذاكرة الجسد

..التعمق فيها اهتمام الجميع ألسباب لم أشأ

أن بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع )سي...( الذي فهمت الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، ألنه كان يحب أن يكون محاطا

!بالفنانين دليال على ولعه باإلبداع.. وذوقه غير العسكري في سهراته

لطيفا ومجامال.. وأنه حدثني يومها عن آرائه الفنية في والواقع أنه كان الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مجاالت مختلفة، وحبه لبعض

وأنني إذا كنت آخذ معي مازحا، إنه يحسد سي الشريف على تلك اللوحة،..للجزائر لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند زيارتي

.ضحكت من مزاحه

ألكون على حافة البكاء، وأنا ولكنني كنت حزينا بما فيه الكفاية بعد ذلك أوصلتني إلى أنفرد بنفسي ذلك المساء في سريري، وأتساءل أي حماقة

ذلك البيت؟

ألمح حتى طرف بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن.ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان يفصلني.. عن عالمك

:اليوم التالي، دق الهاتف. توقعتك أنت، وكانت كاترين.. قالت في صباح

..صباحية.. وأجمل األماني لك قبالت-

:وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت

.اليوم عيد )السان فالنتان( القديس الذي يبارك العشاق- .. أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد أن أتمنى لك في فكرت أن أطلبك بدل أن

عيد الحب؟

:ترددي أضافت بلهجة ساخرة أحبها دهشتي.. أو وأمام

!اليوم اطلب أيها األحمق.. فالدعوات تستجاب-

..ضحكت

كدت أقول لها أطلب شيئا من النسيان فقط. ولكنني قلت شيئا مشابها:لذلك

قديسك طلبي أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن تبلغي- !هذا

Page 161: ذاكرة الجسد

:قالت

بركاته إلى األبد.. هل با لك من مجنون.. أتمنى أال يسمعك فيحرمك من- أتعبك موعدنا األخير إلى هذا الحد؟

.كاترين. ثم وضعت تلك السماعة ألبكي معك يومها ضحكت مع

.الذي لم أكن سمعت به من قبل كنت أكتشف ألول مرة ألم ذلك العيد

حتى على تلك الزيارة، لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أو.وذلك الموعد المتعمد الذي حضرته وتغيبت عنه

..الحب إذن جاء عيد

كل فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كل عيد وأنت..هذا

البطاقات للحب عيد إذن.. يحتفل به المحبون والعشاق، ويتبادلون فيهواألشواق، فأين عيد النسيان سيدتي؟

تقويما بأعياد السنة، في بلد يحتفل كل يوم هم الذين أعدوا لنا مسبقا قديسيهم الثالثمائة والخمسة بقديس جديد على مدار السنة.. أليس بين

والستين.. قديس واحد يصلح للنسيان؟

الفراق هو الوجه اآلخر للحب، والخيبة هي الوجه اآلخر للعشق، مادام للنسيان يضرب فيه سعاة البريد عن العمل، لماذا ال يكون هناك عيد

اإلذاعات من بث األغاني وتتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتمنع فيه!العاطفية.. ونكف فيه عن كتابة شعر الحب

كتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي يقول: "كم هو منذ قرنين تكرار كلمة واحدة "أحبك" وكم هو خصب ال الحب عقيم، إنه ال يكف عن

"..الكلمة نفسها ينضب: هنالك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها

الكلمة دعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجرب معك ألف طريقة لقول..الواحدة نفسها في الحب

وأعشقك بالعواطف المتناقضة دعيني أسلك إليك الطرق المتشعبة األلف،.والذاكرة األلف، وأنساك وأذكرك، بتطرف النسيان

وأخضع لك وأتبرأ منك، بتطرف الحرية والعبودية.. بتناقض العشق.والكراهية

Page 162: ذاكرة الجسد

.دعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحب

أكرهك يومها؟ تراني بدأت

مدهشة، ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمو بسرعةوأصبحت تجاور الحب بعنفه؟

ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلك األعياد التي أخلفتها مرورا يسكنني، ذلك الجوع بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر الغامض الذي كان.الدائم إليك، الذي كان يجعلني ال أشتهي امرأة سواك

أريدك أنت ال غير، وعبثا كنت أتحايل على جسدي. عبثا كنت أقدم له كنت.غيرك. كنت شهوته الفريدة.. ومطلبه الوحيد امرأة أخرى

في لحظة حب أمرر يدي على شعر كاترين. األكثر إيالما ربما، عندما كنت فأفقد فجأة شهية حبي وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء،

يفرش وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن.بمفرده سريري

المسطحة كان نحولها يذكرني بامتالئك، وخطوط جسدها المستقيمة.تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك

عطرها، ويذكرني كطفل وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغي!ألمي يتصرف بحواسه األولى، أن ذلك العطر لم يكن العطر السري

.كنت تتسللين إلى جسدي كل صباح وتطردينها من سريري

ألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد قنبلة موقوتة، يوقظني.آخر ورغبة ليلية مؤجلة يوما بعد

ينام؟ هل تستيقظ الرجولة باكرا حقا، أم الشوق هو الذي ال

..أجيبيني أيتها األنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة

الرجال ال ينامون؟ أوحدهم

أكاد أعترف ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك بالبكاء، لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني عاجز أمامها ألن رجولتي لم تعد

!وإنما تتلقى أوامرها منك فقط ملكي،

!متى بدأت أكرهك

لبست فيه كاترين ثيابها، مدعية بمجاملة كاذبة ترى في ذلك اليوم الذي

Page 163: ذاكرة الجسد

.السرير الذي لم يعد يشبع نهمها موعدا ما لتتركني وحدي في ذلك

أنه يحدث للرجولة أيضا أن: يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة الكبرياء الرجالي.. تنكس أعالمها، وترفض حتى لعبة المجاملة.. أو منطق

.وأننا في النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد

تساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك القديس )السان يومها بهذه السرعة.. وحولني حقا إلى عاشق فالنتان( قد استجاب لدعوتي

!متقاعد

آنذاك، وشعرت بشيء من المرارة أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليك ذراعي، كان يمكن أن المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم بترت

.أبكي يومها وأنت تسرقين مني آخر ما أملك!رجولتي تسرقين

..".ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟

:قلت

!أدري.. حبك يزيد وينقص كاإليمان ال-

..وينقص أيضا كإيمانك يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيد

:يومها أضفت بسذاجة عاشق

مؤمنة؟ وهل أنت-

:صحت

وفرائضه.. طبعا.. أنا أمارس كل شعائر اإلسالم-

وهل تصومين؟-

المدينة.. في التواصل مع طبعا أصوم.. إنها طريقتي في تحدي هذه- .الوطن.. ومع الذاكرة

لم أكن أتوقعك هكذا. كان في مظهرك تعجبت لكالمك. ال أدري لماذا.شيء ما يوهم بتحررك من كل الرواسب

:أبديت لك دهشتي قلت عندما

Page 164: ذاكرة الجسد

قضية ال تخص كيف تسمي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل قناعاتنا- ..سوانا

عاطفة سرية ال تصدق المظاهر أبدا في هذه القضايا. اإليمان كالحب درعنا نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية،

.السرية.. وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة

الذين يبدو عليهم فائض من اإليمان، فهم غالبا ما يكونون قد أفرغوا أما الداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة، ألسباب ال عالقة لها أنفسهم من

!بالله

!أجمل كالمك يومها ما كان

صباحات كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت المآذن في.قسنطينة

كتاتيب كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت )المؤدب( في قسنطينة القديمة. فأعود إلى الحصير نفسه أجلس عليه باالرتباك

أردد مع أوالد آخرين تلك اآليات التي لم نكن نفهمها بعد، الطفولي نفسه، ذلك اللوح ونحفظها كيف ما كان، خوفا من ولكننا كنا ننسخها على

تتربص بأقدامنا لتدميها عند "الفاالقة". وتلك العصا الطويلة التي كانت.أول غلطة

.لم أصم من سنين كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذي

مني كل كان يصالحني مع الوطن، ويحرضني ضد هذه المدينة التي تسرق.يوم مساحة صغيرة من اإليمان.. ومن الذاكرة

.أيقظت مالئكتي وشياطيني في الوقت نفسه كنت يومها المرأة التي ساحة يتصارع الخير والشر فيها.. ثم راحت تتفرج علي بعدما حولتني إلى

!دون رحمة

***

.للمالئكة في ذلك العام.. كان النصر

قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كالمك، وربما أيضا للهروب منك إلى".الله. أما قلت "العبادة درعنا السرية

..إذن قلت سأحتمي من سهامك باإليمان

Page 165: ذاكرة الجسد

رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في.نفسها المدينة

أحاول.. كم من األيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول .بترويض جسدي على الجوع أن أروضه على الحرمان منك أيضا

أستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت كنت أريد أن.وحدك تتلقي أوامرها منك

.كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوما أنا، مكانته األولى قبلك.هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب

ذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أعترف أنني نجحت في .أبدا

وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش. كنت أقع في فخ آخر لحبك.بتوقيتك ال غير

.اإلفطار معك. وأصوم وأفطر معك كنت أجلس إلى طاولة الرمضانية، وأتسحر أتسحر وأمسك عن األكل معك، أتناول نفس أطباقك

.بك.. ال غير

.شي دون علمي لم أكن أفعل شيئا سوى التوحد معك في كل

..إذن كنت في النهاية كالوطن. كان كل شيء يؤدي إليك

.مثله كان حبك متواصال حتى بصده وبصمته .بإيمانه وبفكره مثله كان حبك حاضرا

فهل العبادة تواصل أيضا؟

***

انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموي العابر، وأتدحرج فجأة نحو.ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه. حزيران

، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت67عدا حزيران فقد كان في ذاكرتي ما بعضه في سجن للتحقيق الذي قضيت71بهذا الشهر، آخرها حزيران

..بعد والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهم

Page 166: ذاكرة الجسد

(أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن )الكدية الذي دخلته يوما في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي

.محاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية حيث تمت1945

وأية تجربة كانت األكثر ألما؟ أي حزيران كان األكثر ظلما،

الذي أوصلتني أجوبتي إلى أصبحت أتحاشى طرح هذه األسئلة، منذ اليوم.جمع حقائبي ومغادرة الوطن

ال عنوان معروفا لزنزانته؛ ال اسم رسميا لسجنه؛ الوطن الذي أصبح سجنا أصبحت أقاد إليه فجرا، معصوب وال تهمة واضحة لمساجينه، والذي

أيضا. شرف ليس العينين محاطا بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولة.في متناول حتى كبار المجرمين عندنا

بحماسه وعنفوانه وتطرف أحالمه أنه سيأتي هل توقعت يوم كنت شابا جزائري مثلي من ثيابي.. بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجردني فيه

المرة( زنزانة وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزج بي في زنزانة )فردية هذه..أدخلها باسم الثورة هذه المرة

!من ذراعي الثورة التي سبق أن جردتني

أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطير من ذلك الشهر الذي.قضم الكثير من سعادتي على مر السنوات

أكثر، ليرد على تشاؤمي بكل تلك تراني في ذلك العام تحرشت بالقدرواحد؟ الفجائع المذهلة التي حلت بي في شهر

أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي ال تأتي سوى دفعة".واحدة "كي تجي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطع السالسل

الحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك كانت تلك عبثية.تتوقعه بالسعادة والحب والحظ الذي لم تكن

ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كل السالسل!التي كنت مشدودا إليها، معتقدا أنها أقوى من أن تكسرها شعرة

أنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك قبلها لم كشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم المصادفة الرفيعة

األحالم، وسحبت من تحتي بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سالسل.سجاد األمان

سنوات، تعود اليوم لتكسر آخر تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ست

Page 167: ذاكرة الجسد

82حزيران أعمدة بيتي، وتهد السقف علي، بعدما اعتقدت أنني في دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق

..قائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط شيء واحد

:األولى في قانون الحياة كنت أجهل حين ذاك المادة

".غير إن مصير اإلنسان إنما هو خالصة تسلسالت حمقاء.. ال"

***

اليأس القاتل، عندما طعم المرارة الغامضة، ومذاق82كان لبداية صيف .يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرة واحدة

.أعيش بين خبرين: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية وكنت

بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل كان قدري يتربص وإقامتها في عاصمة عربية لعدة المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف،

عربي.. جاء أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون.ينزل بي عدة طوابق في سلم اليأس

بي وقتها وغطى على بقية األخبار. فقد مات أذكر أن خبرا صغيرا انفرد بطلقات نارية، احتجاجا على اجتياح الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحرا

أن يتقاسم هواءه إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض..مع إسرائيل

قبل، ألم مميز كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من.فريد المرارة

وال يجد ورقا يكتب عليه.. فعندما ال يجد شاعر شيئا يحتج به سوى موته .علينا سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضا

..ذهب قلبي طوال تلك األيام عند زياد

: "كان قديما يقول الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعا بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحرا أيضا بطريقة أخرى احتجاجا

..على خيبة أخرى

من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم تراه قالها يومها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها

اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟

Page 168: ذاكرة الجسد

إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء كنت أستمع عدواه إلي. فأقول له مازحا: "يمكنني أن من السخرية، خشية أن ينقل

!".يموتوا في الصيف أسرد عليك أيضا عشرات األسماء لشعراء لم

فال أملك إال! " فيضحك ويرد: "طبعا.. هناك أيضا من يموتون بين صيفين!".أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم

الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه عاد زياد إلىاأليام؟

في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل.. في أية مدينةللموت؟ المدن مقابر جاهزة

منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك

الحين؟

لم أكن قلقا عليه حتى اآلن. فقد عاش دائما وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجال يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه

.بالجملة

وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. ورحت أتشاءم وأنا .أتذكر كالمه عن الصيف.. وموت ذلك الشاعر منتحرا

يقلدون بعضهم في الموت أيضا؟ ماذا لو لم يكونوا ماذا لو كان الشعراء فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتان البالين الضخمة يحبون الموت جماعياذاتها؟ في المواسم نفسها.. على الشطآن

األخيرة تاركا خلفه مسودة روايته1961لقد انتحر )همنغواي( أيضا صيف "."الصيف الخطر

والشعراء الذين لم فأية عالقة بين الصيف وبين كل هؤالء الروائيينيتالقوا؟

وكأنني أستدرج بها القدر أو كان ال بد أال أتعمق كثيرا في تلك الفكرة، منها بعد، أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف تلك الصفعة التي لم أنهض

.برغم مرور السنوات

***

..مات زياد

Page 169: ذاكرة الجسد

من مربع صغير في جريدة إلى العين.. ثم وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة غصة في حلقي، فال أصرخ.. وال إلى القلب.. فيتوقف الزمن. يتكور النبأ

.أبكي

.الفجيعة أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة

كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراته األخيرة لي كانت تحملأكثر من وداع؟

وأنا مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة مرات في اليوم.أبحث عن أشيائي

كثير من الزاد لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى لرحلته األخيرة، أم كان يفكر في العودة ليستقر هنا ويعيش إلى جوارك

كما كنت أتوهم تحت تأثير غيرتي؟

الصمت بيننا في األيام لم أسأله يومها عن قراره األخير. لقد سكن لي بأمر األخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس إليه. وكأنني أخاف أن يعترف

.أخشاه أو بقرار أتوقعه

صغيرة. قال لي معتذرا فقط: لم يقل شيئا وهو يسافر محمال بحقيبة يد أن مضايقات "أال يزعجك أن أترك هذه األيام الحقيبة عندك.. أنت تدري

المطارات كثيرة هذه األيام، وال أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى من مطار.."إلى آخر

ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن ال شيء ينتظرني في المطار!".األخير

.الموت لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى رصاصة

..مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على يد الجميع متنا.."باسم كل الثورات وباسم كل الكتب

!هويته فقط ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته

.نخب ضحكته سكرت ذلك المساء

.الذي ال يعادله حزن نخب حزنه المكابر أيضا.. ذلك

.نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله األخير

Page 170: ذاكرة الجسد

..المساء بكيته ذلك

.ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سرا من رجولتنا.أي رجل فيه كنت أبكي األكثر وتساءلت

ولم البكاء؟

أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتال في معركة ما كما لقد مات شاعرا كما .أراد أيضا

.حتى بموته لقد هزمني

الذي" تذكرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو كتب يوما سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقا، فتوجه إلى بيكاسو وإلى

القالئل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة أصدقائه:يتقنها التي كان

ال تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء ال يموتون. إنهم"!".يتظاهرون بالموت فقط

عناد.. ليقنعني وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عنالفصول؟ أن الشعراء يموتون حقا في الصيف ويبعثون في كل

..وأنت

وسط قصة أخرى تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوموأبطال آخرين؟

لتبني له ضريحا من وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين كل الكلمات، وتدفنيه بين دفتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل

من أحببت وقررت قتلهم يوما؟

العنق والبدالت الفاخرة، بأية هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطاتلغة سترثينه؟

.هزمني في الواقع.. لقد هزمك زياد كما وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل األبطال

.للموت على الورق قابلين

.رواية هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. وال يمكننا قتلهم لمجرد

.وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية

Page 171: ذاكرة الجسد

وحدها أمه. ويعترف أحيانا فقط بعد أكثر كان يكابر ويدعي أن فلسطين مقابر جماعية لمذبحة أولى من كأس، أن ال قبر ألمه، تلك التي دفنت في

(.كان اسمها )تل الزعتر تذكارية، ورفعوا عالمات النصر ووقفوا بأحذيتهم على وإنهم أخذوا صورا

.جثتها جثث.. قد تكون بينها

.ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي

زياد؟ فلم البكاء

في كل معركة كانت لك جثة. في كل مذبحة تركت قبرا مجهوال. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق األشياء. فال شي كان في انتظارك غير قطار

.الموت

( أو82من أخذ قطار تل الزعتر، وهنالك من أخذ قطار )بيروت هنالك..وشاتيال قطار صبرا

بقايا وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته األخيرة، في مخيم أو في..بيت، أو في بلد عربي ما

.وبين كل قطار وقطار.. قطار

.موت وموت.. موت بين كل

أمام كل فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا!نشرة أخبار

أصبحت ظاهرة". بعدهم كثرت "وكاالت السفريات" و "الرحالت الجماعية..عربية يحترفها كل نظام على طريقته

محطة. وأصبحت في أعماق كل منا سكة بعدهم أصبح الوطن مجرد.ويحزننا أن يسافر دوننا.. حديدية تنتظر قطارا ما.. يحزننا أن نأخذه

..رحل زياد إذن

المنسية في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطي وإذا بحقيبته السوداء.الوحيد، حتى أنني ال أرى غيرها فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي

وأنني على موعد معه. عندما عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني على صدري، أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة

Page 172: ذاكرة الجسد

.دون أن أدري

أطفئ جهاز ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما..العذاب التلفزيون، وأجلس وحيدا ألدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ

بها؟ وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل

أحاول أن أتذكر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثال وحاجاتهم الخاصة. فتعود )أمأ( إلى الذاكرة ومعها تلك األيام المؤلمة التي

.وتلت وفاتها سبقت

أجمل أثوابها، أتذكر ثيابها وأشياءها، أتذكر )كندورتها( العنابي التي لم تكن ولكنها كانت أحب أثوابها إلي. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل

.المناسبات

شيء كانت الثوب الذي يحمل األكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتق. مزيج من

.بدائية، كنت أستنشق معها األمومة عطور طبيعية

أما( فقيل لي بشيء من )سألت عن تلك )الكندورة( بعد أيام من وفاة الالتي حضرن االستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات،

.إلعداد الطعام في ذلك اليوم

ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء.." صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها عدا بعض األشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما

".الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة

ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوما وكأنها ولدت به،(.. ومقياس )أمابه؟ ماذا تراهم فعلوا

.لم أجرؤ على السؤال

العشر، ال يعي شيئا مما كان أخي حسان الذي لم يكن يتجاوز السنوات.يحدث حوله سوى وفاة )أما( وغيابها النهائي

محاطا بحشد من النساء الالتي كن يقررن كل شيء. كأن ذلك وكنت:لهن البيت أصبح فجأة

أين )مقياس( أما؟ من األرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدمها هدية لعروسه الخاالت، أو

.الجديدة

Page 173: ذاكرة الجسد

عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت عالقتي بهذه الحقيبة كلما .تعقيدا

لبعض األشياء على بساطتها، قيمة ال عالقة لها بمقاييس اآلخرين فقد كان فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون. للتركة والمخلفات

ومات؟.. أية وصية أو توضيح خاص

هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أمأحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا ال نحتفظ إال باألشياء الثمينة؟

أم أمانة؟.. أهي عبء

بحملها وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعهمعه، بحجة أنني قد أترك باريس مثال؟

بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدق بوصايا وإذا كانت أمانة.. ألم تتحولعابر سبيل؟ الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية ألول

أنني وكنت أدري خالل تلك األيام التي عشتها مسكونا بهاجس تلك الحقيبة أرهق نفسي هباء، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها،

ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم ويحدد بالتالي.قبل أكن أعيرها اهتماما من

ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن

أعرفه؟

***

.الشك كان ال بد أن أفتح تلك الحقيبة.. ألغلق أبواب أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر

.زياد استشهاد

كان هناك احتمال آخر فقط، ال يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلمها ألحدهم هناك، ليتكفل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان

..مكان آخر أو في

من ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكر أنه لم يعد لزياد أهل في لبنان. فلمن سيسلمها هؤالء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي

مصيرها؟

بأبوة من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده

Page 174: ذاكرة الجسد

القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن اآلخرينخونة؟

ومن أدراني على يد من مات زياد؟

على يد المجرمين األعداء؟ أما كان على يد المجرمين "اإلخوة".. أم يمكنهم قتلنا تحت تسمية يقول: "لقد حولوا "القضية" إلى قضايا.. حتى

.."أخرى غير الجريمة

الشباب الفلسطيني قتل برصاص فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرةفلسطيني.. أو عربي ال غير؟

.ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.. في ذلك المساء .واحدة شيء ما جعلني أتذكر أنني أملك يدا

يتركها لي لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح وال بأقفال جانبية. وكأنه تعمد أن.للدخول شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب مواربا، في دعوة صامتة

المتأخر شعرت بشيء من االرتياح لهذه "االلتفاتة"، ولهذا اإلذن السابق أو..عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج

فعل ذلك ألنه كان يكره األقفال المخلوعة، واألبواب المفتوحة عنوة تراهوألقدام العسكر؟ كراهيته للمخبرين

أم ألنه كان يتوقع يوما كهذا؟

لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة كل هذه االفتراضات..أخرى تعبرني

مسبقا أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدة لي لقد كان يعرف أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة منذ البداية. وكان بإمكاني

.البيت بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا

.إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة

الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. رفعت النصف.فيها وألقيت نظرة أولى على ما

كنزته وإذا بالموت والحياة يهجمان علي معا، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس..الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي األسود الذي تعودت أن أراه به

أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة ها

Page 175: ذاكرة الجسد

.معا وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة والموت تنبعثان

.بقاياه ها أنا معه ودونه.. أمام

.ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشري

.من زجاج واجهة قماشية لمسكن انكسر المسكن وظلت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي

.الواجهة؟

بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غالفه الالمع.الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك

موسيقية، أحدها لتيودوركيس، واألخرى مقطوعات ثم ثالثة أشرطة زياد كلما سافر ترك لي أشرطة كالسيكية أضعها جانبا وأنا أتذكر أن

.وكتبا.. وثيابا.. وحبا معلقا أيضا

هذه هي المرة األولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة ولكن لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعدادا لسفر ما. كأنه بعناية وكأنه أعدها

وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته األسود أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب!تيودوركيس المفضل.. ويستمع إلى موسيقى

وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير

قبل أن أفتحه. وكأنني .سأفتح طردا ملغوما

.أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني ال أعرفه

أتذكر شيئا.. وأركض إلى الصفحة األولى بحثا عن اإلهداء، فتقابلني ثم دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن.. ورقة بيضاء

.للبكاء تشل يدي، وبرغبة غامضة

توقيع؟ لمن منا أهديت نسختك المزورة؟ وكالنا يملك نسخة دون

_من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبكوأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟

أنه قرر أن يأخذ معه هذه وهل صدقك زياد.. هل صدقك _هو أيضا_ لدرجة!الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك

تلك الصفحة البيضاء كافية إلدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم كانت يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهما بعد ذلك أال أجد أية كان تكتب، أكثر مما

Page 176: ذاكرة الجسد

الحقيبة؟ رسالة لك في تلك

.ذلك لقد كنت امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف

ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة.الحقيبة_أيضا_ كسر عميق أسفل

البرتقالية" التي كان يستعملها ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة أكتوبر( الشهر األخير الذي )زياد للتنقل بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ

.رحل فيه

أفكر إال في اإلطالع على تلك أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا ال..المفكرة. ولكن صورته تستوقفني

..الموتى مربكة صور وأكثر ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائما. فجأة يصبحون أكثر حزنا

.غموضا من صورتهم

.منهم فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع.فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم

!نتأملهم فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن.كم كان وسيما ذاك الرجل

ال تفسير لها. ها هو حتى في صورة تلك الوسامة الغامضة المخفية التي.يمكنه أن يكون مميزا سريعة تلتقط له في ثالث دقائق، بخمسة فرنكات،

الساخر. وكأنه يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغريا، بذلك الحزن الغامض.يسخر من لحظة كهذه

أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد فنكثر من الجلوس. نحب شخصا نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو آلخر

الجمال إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى

.إلينا عن طريق المعاشرة واالنتقال

كارثتي إال مؤخرا. أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب عن عندما قرأت قوال رائعا لكاتب فرنسي )رسام أيضا..( "ال تبحث

!"الجمال..ألنك عندما تجده، تكون قد شوهت نفسك

.هذه الحماقة ولم أكن فعلت شيئا غير

Page 177: ذاكرة الجسد

..المفكرة أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلب تلك

كنت أشعر أنها تحمل شيئا قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع البابللعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟

الحقيقة تولد صغيرة دائما. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كنت أدري أن..فخفت المفكرة. كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب

بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير ألتصفح جرحي..على مهل

وآخر. كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحيانا صفحتين أو

ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون. ثالثا.أن يميزها عن بقية ما كتب أحمر دائما.. وكأنه كان يريد

.الشعر ربما ألنها لم تكن شعرا وربما ألنها كانت أهم من

من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السريةلزياد، التي حلمت دائما بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟

تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز كانت العناوين الرموز تارة، ووسط التفاصيل الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط

.األكثر اعترافا أحيانا أخرى

أتركها وألهث مسرعا إلى صفحة أخرى، بحثا عن حجج ثم ال ألبث أن تقول لي باألسود واألبيض.. ما الذي أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات

.حدث

االنفعال واألحاسيس المتطرفة ولكنني كنت في الواقع على درجة من عن التمييز بين المتناقضة التي كانت تكاد تشل تفكيري، وتجعلني عاجزا

.ما أقرأ وما أتوهم قراءته

أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أخجل من نفسي في تلك األسود الصغير الذي كنت ممسكا به تجعلني

المبعثرة اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئا غير تشريح جثة زياد بأشيائها وأشالئها على سريري، ألخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه ال

.غير

قلب زياد الذي نبض يوما لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل بين يدي على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفا.. حزنا.. نبضه

..وشهوة

Page 178: ذاكرة الجسد

مرري شفتيك على جسدي"فما مرروا غير تلك السيوف علي

لهب أشعليني أيا امرأة من يقربنا الحب يوما

يباعدنا الموت يوما..تراب ويحكمنا حفنة من

تقربنا شهوة للجسد ثم يوما

جسد يباعدنا الجرح لما يصير بحجمتوحدت فيك

أيا امرأة من تراب ومرمر..سقيتك ثم بكيت وقلت

..عشقي أميرةأميرة موتي

تعالي!؟

كل مرة، بشك جديد كل كم من مرة قرأت هذا المقطع. بأحاسيس جديدة وأين يبدأ.. مرة، وتساءلت بعجز من ال يحترف الشعر.. أين ينتهي الخيال

الواقع؟

أين يقع الحد الفاصل بين الرمز والحقيقة؟

جملة تلغي التي سبقتها. وكانت المرأة هنا جسدا ملتحما باألرض كانت كل إلى حد لم يعد فيه .الفصل أو التمييز بينهما ممكنا

:وبشهوتها المفضوحة ولكن كانت هناك كلمات ال تخطئ بواقعيتها

"مرري على جسدي شفتيك""لهب أشعليني أيا امرأة من""تقربنا شهوة للجسد""توحدت فيك"

الكلمات ال أكثر برأ بها زياد نفسه؟ أكانت الثورة إذن حشوا من

امرأة. قضية كبرياء.. مراوغة كان يفضل أن يهزمه الموت وال تهزمه..".شخصية.. "أميرة موتي.. تعالي

جاء أخيرا. وأنت تراك جئت في ذلك اليوم؟ ها هو الموت

جسده شفتيك.. أأشعلته.. أتوحد فيك.. هل انفرد بك حقا.. أمررت علىوهل..؟

Page 179: ذاكرة الجسد

فتاريخ هذه القصيدة يصادف تاريخ. من األرجح أن يكون ذلك قد حصل.سفري إلى إسبانيا

.بعاطفة غريبة ال عالقة لها بالغيرة كان القلب قد بدأ يطفح

ال يمكن أن نغير طعم المرارة نحن ال نشعر بالغيرة من الموات.. ولكننا.في هذه الحاالت

يستوقفهما اللون األحمر، من أن تقرأ هذه فهل أمنع عيني اللتين.الخاطرة.. دون دموع

العمر الكثير لم يبق من"أيتها الواقفة في مفترق األضداد

..أدرياألخيرة ستكونين خطيئتي

.أسألكحتى متى سأبقى خطيئتك األولى

بداية لك متسع ألكثر من.وقصيرة كل النهاياتإني أنتهي اآلن فيك

!"ألكثر من نهاية فمن يعطي للعمر عمرا يصلح

..تستوقفني بعض الكلمات، وتستدرجني إلى الذهول الحبر األحمر فجأة لونا شبيها بدم وردي خجول يتدحرج على ورق.. ويأخذ

..".األولى ليصبح لون "خطيئتك فأسرع بإغالق تلك المفكرة وكأنني أخاف إن أنا واصلت قلب الصفحات،

!أفاجئكما في وضع لم أتوقعه أن

.بعيد.. يحضرني كالم قاله زياد مرة في زمن بعيد

يكتف قال: "أنا أكن احترما كبيرا آلدم، ألنه يوم قرر أن يذوق التفاحة لم بقضمها، وإنما أكلها كلها. ربما كان يدري أنه ليس هناك من أنصاف خطايا

أنصاف ملذات.. ولذلك ال يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار. وعلينا وال !"للحسابات الخاطئة_ أن ندخل إحداهما بجدارة _تفاديا

في الحياة. فما الذي يؤلمني اليوم في كنت آنذاك معجبا بفلسفة زيادأفكار شاطرته إياها؟

تفاحته هذه المرة من حديقتي السرية؟ أم كونه راح ترى كونه سرقاختياره وارتاح؟ يقضمها أمامي.. بشهية من حسم

Page 180: ذاكرة الجسد

ال تملك األشجار إال" أن تمارس الحب واقفة أيضا

نخلة عشقي.. قفي يا وحدي حملت حداد الغابات التي

أحرقوهاالركوع ليرغموا الشجر على

"واقفة تموت األشجار"تعالي للوقوف معي

رجولتي أريد أن أشيع فيك.."إلى مثواها األخير

.المفكرة فجأة بدأت أشعر بحماقة فتح تلك

.أتعبتني تأويالتي الشخصية لكل كلمة أصادفها

بالندم. فأنا برغم كل شيء ال أريد أن أكره زياد اليوم. ال وبدأت أشعر.أستطيع ذلك

منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وها أنا صغير أمامه وأمام لقد.موته

ال أملك شيئا إلدانته، سوى كلماته القابلة ألكثر من تأويل. فلماذا ها أناتأويلها األسوأ؟ أصر على

االغتصاب لماذا أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر يحترف اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يخلق على قياسه، بل ربما خلق على

فهل أطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟. حسابه األشجار. فهل أحاسبه حتى لقد ولد هكذا واقفا.. وال قدر له سوى قدر

على طريقة موته.. وعلى طريقة حبه؟

وأذكر اآلن أنني .عرفته واقفا

أبديت له أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي ألول مرة، عندما.بعض مالحظاتي عن ديوانه، وطلبت منه أن يحذف بعض القصائد

صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الوقت عند ذراعي المبتورة، قبل أذكر التي كانت بعد ذلك سببا في تغيير مجرى حياتي. قال أن يقول تلك الجملة

.."لي ديواني. سأطبعه في بيروت لي: "ال تبتر قصائدي..سيدي، رد

أصفعه بيدي الثانية غير لماذا قبلت إهانته يومها، دون رد؟ لماذا لمالمبتورة وأرمي له بمخطوطه؟

Page 181: ذاكرة الجسد

األشجار ووحدتها، في زمن كانت فيه األقالم أألنني احترمت فيه شجاعةسنابل تنحني أمام أول ريح؟

.عرفت زياد.. وواقفا غادرني واقفا

.هذه المرة أما مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أي تعليق.صمتها لقد أصبح بيننا _منذ ذلك الحين_ تواطؤ الغابات... واليوم

فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحت أقلب ذلك الدفتر وأعد صفحاته وأتصفحها بعيني ناشر. وإذ بحماس مفاجئ يدب في قلبي ويغطي

.األحاسيس. وقرار جنوني يسكنني على بقية

أسميها "األشجار" أو سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية، قد.ذلك "مسودات رجل أحبك".. أو عنوانا آخر قد أعثر عليه أثناء

المهم.. أن تصدر هذه الخواطر األخيرة لزياد. أن أمنحه عمرا آخر ال صيف فيه.. فهكذا ينتقم الشعراء دائما من القدر الذي يطاردهم كما يطارد

..الفراشات الصيف

إنهم يتحولون إلى دواوين شعر. فمن يقتل الكلمات؟

***

..أدري أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أن

مشروع. فقد حدث في تلك منحني مشاريع أليام كانت فارغة من أي أن قضيت ساعات بأكملها وأنا أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان األيام

تلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، لوضعها ألخرى، وأحاول ترتيب فوضى.في سياق صالح للنشر

كنت أشعر بلذة ..ومرارة معا

وأدها لذة االنحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلمات وحدي أملك حق.في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب

..ومرارة أخرى

التنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في دورته الدموية، في مرارة عالمه المغلق السري دون تصريح وال رخصة نبضه وحزنه ونشوته، ودخول

.اإلضافة والحذف منه، والتصرف نيابة عنه في االختيار وفي

Page 182: ذاكرة الجسد

أو آلخر أحقا كنت أملك صالحية كهذه..؟ ومن يمكن أن يدعي أنه لسببموكل بمهمة كهذه؟

اآلخرين، ويقرر ولكن من يجرؤ أيضا على الحكم بالموت على كلماتاالستحواذ عليها وحده؟

الشعراء والكتاب نكهة حزن كنت أدري في أعماقي، أنه إذا كان لموت وحدهم عندما إضافية، تميزهم عن موت اآلخرين، فربما تعزى لكونهم

يموتون يتركون على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقالم.. رؤوس.ومسودات أشياء لم تكتمل أحالم،

.يحزننا ولذا فإن موتهم يحرجنا.. بقدر ما

.أما الناس العاديون، فهم يحملون أحالمهم وهمومهم ومشاعرهم فوقهم إنهم يلبسونها كل يوم مع ابتسامتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم،

.معهم فتموت أسرارهم

في البدء، كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني إلى البوح، وإذا.بكتاباته تخلق عندي رغبة ال تقاوم للكتابة

التي كنت أشعر أن كلماته ال تطال رغبة كانت تزداد في تلك المرات النصف اآلخر للقصة، أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما ألنه كان يجهل

.تلك التي كنت أعرفها وحدي

الكتاب؟ متى ولدت فكرة هذا

ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصرا بإرث زياد الشعري، في ذلك اللقاء غير المتوقع لي مع األدب والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ

وظيفتي.. منذ عدة سنوات في الجزائر؟ انفصالي عن

أم في لقائي غير المتوقع اآلخر، مع مدينة حجز لي القدر نفسه موعدامتأخرا معها؟

وجها لوجه مع قسنطينة، دون سابق إنذار، أكان يمكن لي أن أجد نفسي..وجنون وخيبة دون أن تنفجر داخلي الدهشة، شالالت شوق

!فتجرفني الكلمات.. إلى حيث أنا

الفصل الخامس

Page 183: ذاكرة الجسد

مازلت أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة

.األخبار

كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية،.من رتابة صمتي الليلي ووحدته وأخرجاني

التي ظلت تربطني بك، كان صوته عندي عيدا بحد ذاته والصلة الوحيدة.بعدما سدت كل الطرق الموصلة إليك

.به. إنه يحمل دائما احتمال لقاء بك بطريقة أو بأخرى وكنت أستبشر خيرا..لي أكثر من هذا ولكنه هذه المرة كان يحمل

األخيرة، بسبب راح سي الشريف يعتذر أوال عن انقطاعه عني منذ سهرتنا مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي ال تتوقف إلى باريس.. قبل أن

:يضيف

إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علقت لوحتك في الصالون" وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثرا كبيرا

أكثر من حاسد.. وكل مرة ال بد أن أشرح لآلخرين في نفسي، وخلقت لي".الشباب صداقتنا وعالقتنا التي تعود إلى أيام

..كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك

كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيت أنت فيه، ألعود عاشقا.انفعاالت العشاق وحماقاتهم مبتدئا بكل

:سألني ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما

..أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة- ..لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها

صحت :متعجبا

قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟-

:بشرى قال وكأنه يزف لي

Page 184: ذاكرة الجسد

..لحضور عرس ابنة أخي الطاهر-

.التفكير ثم أضاف بعد شيء من

..ناديا ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي- ..

شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب.واحدة بكلمة

أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟

للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزا عن اإلمساك بسماعة؟ أيمكن..أتذكر فجأة أنني أملك يدا واحدة يحدث في لحظات كهذه، أن

.عليه سحبت بقدمي كرسيا مجاورا وحلست

وربما الحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي :قائال

يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفر كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في- جلسة مع بعض األصدقاء في األمن، وأكدوا لي أنه ال توجد أية تعليمات

بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت األمور في شأنك، وأن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني كثيرا منذ مجيئك، وال بد أن

حسابي.. فما الذي يقلقك أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلىإلى هذا الحد؟

:لتوتري أجبته وأنا أبحث عن مخرج

تكون الحقيقة أنني لست مستعدا نفسيا بعد لزيارة كهذه.. وأفضل أن- ..في ظروف أخرى

:قال

أنا واثق من أنني إذا لم.. أنت لن تجد ظروفا أحسن من هذه للعودة- أن أجرك هكذا من يدك هذه المرة، فقد تمضي عدة سنوات أخرى قبل

تعود إليها. هل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم أال يسعدك حضور الطاهر؟ إنها ابنتك أيضا، لقد عرفتها طفلة ويجب أن تحضر زواج ابنة سي

لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم عرسها للبركة.. افعل هذا..مكان سي الطاهر

يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة سي الطاهر عندي. كان سي الشريف.لماضينا وذاكرتنا المشتركة فراح يحرك ما تبقى داخلي من وفاء

.والالمعقول كان في ذلك الموقف شيء من السريالية

Page 185: ذاكرة الجسد

..والبكاء كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين الضحك

المشكلة. لقد عرفتها طفلة.." ال يا صديقي! عرفتها أنثى أيضا وهذه هي" "إنها ابنتك أيضا.." ال لم تكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي..

.يمكن أن تكون لي كان

:سألته

لمن ستكون؟-

:قال

لـ )سي....( لقد سهرت معه المرة الماضية.. ال أدري ما رأيك أعطيتها- .رجل طيب برغم ما يقال عنه فيه، ولكنني أعتقد أنه

.يتوقعه كان في جملته األخيرة جواب مسبق على رد كان

!سي....( إذن وال أحد غيره)

" صفته المميزة األولى؟ أعرف أنا أكثر رجل طيب.." هل الطيبة هي حقا.زوجها من رجل طيب كان يمكن إذن أن يصبح

ولكن )سي....( كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات السرية والواجهات األمامية. كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر..

فهل مهم بعد هذا أن يكون طيبا أو ال يكون؟. ورجل المستقبل

منعتني من أن أبدي رأيي فعال في ذلك تجمعت في الحلق أكثر من غصة، تراه يعتقد حقا أن: الشخص، وأسأل سي الشريف سؤاال واحدا فقط

بإمكان رجل ال أخالق له.. أن يكون طيبا؟

ألنني كنت بدأت ال أفرق كثيرا بينه وبين "صهره" وأنا أم تراني صمت يمكن لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن أسأل نفسي سؤاال آخر.. هل

يكون نظيفا حقا؟

أخرستني الصدمات المتتالية في مكالمة واحدة.. فقدت فجأة شهية الكالم:ألكثر من تفسير فاختصرت كل الكالم في جملة واحدة قابلة

..كل شيء مبروك-

:التقاليد رد سي الشريف حسب

..الله يهنيك.. ويبارك فيك-

Page 186: ذاكرة الجسد

:امتحان ثم أضاف بسعادة من نجح في

- فالزواج إذن سنراك..راني نعول عليك.. سنسافر بعد عشرة أيام تقريبا.سفرك يوليو.. أطلبني هاتفيا كي نتفق على تفاصيل15سيكون في

.انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي أعلنت يومها رسميا خروجك منه. ولكن.. هل بدأ عمري اآلخر الذي

خرجت حقا؟

أصبحت فارغة إال مني. كانت كل المربعات أحسست أن رقعة الشطرنج واحدة أمسكها وحدي.. بيد بلون واحد ال غير.. وكل القطع أصبحت قطعة

!واحدة

أن أعرف ذلك؟ لقد تقلصت فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي الرقعة، ومعها مساحة األمل والترقب، حسمها طرف آخر، كنا نلعب جميعا

!منذ البدء نيابة عنه: إنه القدر

أحيانا، ولكن كنت كثيرا ما أستسلم له دون كنت أحقد على ذلك القدر يعرف كل مرة، إلى أي حد مقاومة. بلذة غامضة وبفضول رجل يريد أن

عادلة، وأن يمكن لها القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير تكون عاهرة ال تهب نفسها سوى لذوي الثروات السريعة، وألصحاب

..المشبوه الذين يغتصبونها على عجل السلوك

نفسي بتفاهة اآلخرين. وأجد وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة.متناول الجميع في هزائمي الذاتية، دليال على انتصارات أخرى ليست في

تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداعلى مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟

المبدعين، كنت مازوشيا بتفوق، وأصر في غياب السعادة أم تراني ككل المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في المطلقة، أن أعيش حزني

ليشفى منك؟ تعذيب النفس، فأمارس كي هذا القلب بنفسي

.كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل

عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة انقلبت والغيرة والحقد.. وربما .االحتقار أيضا

ما الذي أوصلك هنا؟

يشعرن دائما بإغراء.. وبضعف ما تجاه وهل النساء حقا مثل الشعوب،

Page 187: ذاكرة الجسد

!منه؟ البدالت العسكرية.. حتى الباهتة

ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينةعرسك؟ لحضور

كنت أعرف مسبقا أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود.لرجل تجمعني به أكثر من قرابة وصداقة

واستعماال سيئا السم من ولكن كانت قبل كل شيء، استغالال للذاكرة.القذارة األسماء القليلة التي ظلت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء

كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم..أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى

وأنه يتصرف باسمه، بطريقة .لم يكن ليقبلها لو كان حيا

أنا صديق سي الطاهر وكان يلزمه أنا.. وال أحد غيري ألبارك اغتصابك،.الوحيد ورفيق سالحه

.الذي بقي من ذلك الزمن الغابر أنا الهيكل المفتت األطراف األخير،

ويعتقد أن سي الطاهر كانت تلزمه مباركتي، ليسكت بحضوري ضميره .سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويال

الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك فلماذا قبلتألظافرهم؟

أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه أألنني أدري لكنت من نصيب )سي....( آخر من السادة....( لو لم يزوجك من )سي

.الجدد

!من أسماء األربعين لصا ستحملين فماذا يهم في النهاية، أي اسم

استسلمت إلغراء قسنطينة، لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم ألنني يطارد نداء ولندائها السري الذي كان يالحقني ويطاردني من األزل، كما

الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم..اآللهة لعنة

مناسبة أم تراني كنت عاجزا عن أن أخلف موعدا معك، حتى ولو كان ذلكزواجك؟

أخذته هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسر قرارا

Page 188: ذاكرة الجسد

خارج المنطق؟

متفجرتين في كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق

وجنون، قست قدرتهما التدميرية كال على انفراد، وأردت أن وعشق.قنبلة ذرية في صحراء أجربهما معا كما تجرب

وحدي.. يدمرني أردت أن أعيشهما معا في انفجار داخلي واحد.. يهزني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجال آخر.. وأشالء

.رجل

اللهب"؟ ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعا اسمها "شهوة

.اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة

فيكما معا، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على كان..الحرائق إشعال

ولكنكما معا، كنتما تتظاهران بإعالن الحرب على المجوس. إنه زيفالمدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائالت.. أليس كذلك؟

***

نبرة حزن أو فرح جاء صوتك يوم االثنين هكذا دون مقدمات. دون أية.مميزة.. دون ارتباك وال أي خجل واضح

وكأنك تواصلين حديثا بدأناه البارحة، كأن صوتك لم ورحت تتحدثين إلي،.من ستة أشهر يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر

!ما أغرب عالقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك

- خالد.. هل أيقظتك؟ أهال

قلت بصوت كان يمكن أن أقول ال، وكان من األصح أن أقول نعم. ولكنني:من يخرج من غيبوبة عشق

!أنت..؟-

:الطفولية التي أسرتني يوما وقلت ضحكت.. تلك الضحكة

!صورتي؟ أعتقد أنني أنا.. هل نسيت-

Page 189: ذاكرة الجسد

:ثم أضفت أمام صمتي

كيف أنت؟-

..أصمد أحاول أن-

تصمد في وجه من.؟-

..في وجه األيام-

:الصمت.. وكأنك شعرت بذنب ما قلت بعد شيء من

..كلنا نحاول ذلك-

:ثم أضفت

هل أخباري هي التي أزعجتك؟-

!تحبين عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعالقتك بمن

:قلت

.أخبارك ليست سوى جزء من تقلبات األيام-

:ببراءة كاذبة أجبت

كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي- يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى

تردد. لقد أسعدني ذلك كثيرا، وقررت أن قسنطينة دون مناقشة أو فأنا أريد أن تحضر إلى هذا.. أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتبا علي

..العرس.. من الضروري أن تحضر

أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، ال أدري لماذا.كان يقنعني أنك ابنتي وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما

والالعقل، بين شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل..البكاء والضحك

:سألتك بشيء من المرارة الساخرة

..أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعا على حضوري-

Page 190: ذاكرة الجسد

:قلت

على حضورك ال يهمني إطالقا. ولكنني أدري أنني سبب إصرار عمي- ..المجيء سأكون تعيسة لو تغيبت عن

:أجبتك بتهكم

هل السادية .. آخر هواياتك؟-

:بنبرة فاجأتني قلت

.لقد أحببت هذه المدينة من أجلك-

نفسها التي أجبتني بها يوما، وأنا أعترف لك "لقد أجبتك بتلك الطريقة..".ينبغي أال تقرأني أحببتك يوم قرأتك" فقلت "كان

:قلت

..إذن كان ينبغي أال تحبيها-

..جسدي وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبث شحنة كهربائية في

!ولكنني أحببتك- ...

جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم ها هي الكلمة التي انتظرتها عاما دونالعذاب إذن؟ أسألك لماذا اليوم.. لماذا اآلن.. ولماذا كل هذا

:سألتك فقط

وهو؟-

أجبتني وكأنك تتحدثين عن شيء :ال يعنيك تماما

.إنه قدر جاهز-

:قاطعتك

الذي يستحقه. كنت أتوقع قدرا غير هذا.. كيف قبلت لكل شخص القدر- به؟ أن ترتبطي

:قلت

Page 191: ذاكرة الجسد

تصلح للسكن، أنا ال أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد- ..بعدما أثثتها باألحالم المستحيلة والخيبات المتتالية

لماذا هو.. كيف يمكن أن تمرغي اسم والدك في مزبلة كهذه.. ولكن- وطن، أفال يهمك ما سيكتبه التاريخ يوما؟ أنت لست امرأة فقط، أنت

:المرة أجبت بشيء من السخرية

وحدك تعتقد أن التاريخ جالس مثل مالئكة الشر والخير على جانبينا،- ليسجل انتصاراتنا الصغيرة المجهولة.. أو كبواتنا وسقوطنا المفاجئ نحو

!التاريخ لم يعد يكتب شيئا. إنه يمحو فقط. األسفل

بالضبط. ولم أناقشك في نظرتك لم أسألك ما الذي تريدين محوه..الخاطئة للقيم

:سألتك

تريدينه مني على التحديد؟ ما الذي-

:تريد قلت كأنك طفلة يسألونها عن أي حلوى

..أريدك-

رجل واحد، وأنه خطر بذهني لحظتها أنك ربما كنت امرأة عاجزة عن حب.واآلخر.. يلزمك دائما رجالن. كانا في الماضي زياد وأنا. وأصبحا اليوم أنا

:عاد صوتك يقول

أردتك واشتهيتك حد الجنون.. خالد.. أتدري أنني أحببتك.. إنه حدث أن- منك.. كانت شيء فيك جردني من عقلي يوما.. ولكنني قررت أن أشفى

..عالقة حبنا عالقة مرضية، أنت نفسك قلت هذا

:سألتك

لماذا عدت اليوم إذن؟-

:قلت

أن تباركنا تلك المدينة ولو عدت ألقنعك بالمجيء إلى قسنطينة. أريد- وأوصلتنا إلى جنوننا هذا.. مرة واحدة.. تباركنا ولو كذبا، لقد تواطأت معنا

ولكن سأكون لك. أدري أننا لن نلتقي فيها.. قد ال نتحدث.. وقد ال نتصافح

Page 192: ذاكرة الجسد

ما دمنا فيها. سنتحداهم على مرأى منها.. ووحدها ستعرف أنني أمنحكليلتي األولى.. أيسعدك هذا؟

أولى كنت قادرة على كم من ليلة أولى كنت تملكين؟ كم من ليلة وهمية لي أن تهبي على بياض، كما وهبت روايتك األولى.. نسختين مزورتين

.ولزياد.. موقعتين على بياض

كذبتك األولى؟ لمن لمن ستكونين بعد كل ليلة وهمية؟ ومع من بدأتأهديت هديتك الملغومة األولى؟

أضحك وأنا أشبه نفسي آنذاك بأثيوبي جائع عندما أذكر كالمك اليوم، لن يذوقها، ويسألونه بعدها يسردون عليه قائمة من األطباق الشهية التي

..كيف وجدها.. وإذا كان ذلك يسعده

أضحك، بل ربما بكيت وأنا أجيبك بحماقة عاشق.. ولكن وقتها لم.."."يسعدني

كنت تمنحينني ليلة وهمية، علي أن أتنازل عنها مباشرة لم أنتبه إلى أنك لرجل آخر، سيستفيد منها !فعليا

لي؟ ولكن هل يهم ذلك.. مادمت أتنازل عن شيء ليس في جميع الحاالت

هكذا التاريخ دائما عزيزتي وهكذا الماضي.. ندعوه في المناسبات ليتكفل.بفتات الموائد

الموائد نتحايل على الذاكرة، نرمي لها عظمة تتلهى بها، بينما تنصب.لآلخرين

األحالم المعلبة، وهكذا الشعوب أيضا، نهبها كثيرا من األوهام.. كثيرا من..إليها من السعادة المؤجلة، فتغض النظر عن الوالئم التي لن تدعى

وانسحب ولكن لم أع كل هذا إال بعد فوات األوان. بعدما رفعت الموائد،.الجميع ألبقى وحدي.. أمام فتات الذاكرة

:قلت

..أراك أريد أن-

:صحت

أفضل. يجب أن نبحث عن ال.. لم يعد لقاؤنا ممكنا اآلن.. وربما كان هذا- فال داعي.. نهاية أقل وجعا لقصتنا. لتكن قسنطينة لقاءنا وفراقنا معا

Page 193: ذاكرة الجسد

.لمزيد من العذاب

واحدة، ذهابا وإيابا.. هكذا إذن.. قررت قتلي حسب األصول، بجرة سكين!أغباني في لقاء وفراق واحد. فما أرأفك بي.. وما

.يومها أكثر من سؤال ظل معلقا في الحلق، لم أطرحه عليك

..أكثر من لوم.. أكثر من عتاب.. أكثر من رغبة

انتهى كما جاء خارج الزمان، وأنا بين الصحوة واليقظة ممدد ولكن هاتفك.فراشي بذهول في

حتى أنني تساءلت بعدها: هل طلبتني حقا في ذلك الصباح أم أننيفقط؟.. حلمت

..ها نحن مثل أطفال إذن.على األرض لنرسم قوانين لعبة جديدة نمحو كل مرة آثار الطباشير

ثيابنا ونصاب بخدوش ونحن نتحايل على كل شيء لنربح كل شيء. فتتسخ.نقفز على رجل واحدة من مربع مستحيل إلى آخر

.فخ نصب لنا، وفي كل مربع وقفنا وتركنا أرضا شيئا من األحالم كل مربع

أن نعترف أننا تجاوزنا عمر النط على رجل واحدة، والقفز على كان ال بد.مربعات الطباشير الوهيمة الحبال، واإلقامة في

..أخطأنا حبيبتي

.والحب ال يكتب بطالء األظافر الوطن ال يرسم بالطباشير، طباشير وأخرى تمسك أخطأنا.. التاريخ ال يكتب على سبورة، بيد تمسك

..ممحاة

.والمستحيل والعشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن

نسينا. دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. لحظة عن الجري في كل االتجاهات.من في هذه اللعبة من منا القط، ومن الفأر.. ومن منا سيلتهم

.نسينا أنهم سيلتهموننا معا

Page 194: ذاكرة الجسد

شيء أمامنا سوى هذا المنعطف األخير. ال لم يعد أمامنا متسع للكذب. ال.شيء تحتنا غير هاوية الدمار

فلنعترف .أننا تحطمنا معا

..لست حبيبتي

مشروع قصتي القادمة وفرحي أنت مشروع حبي للزمن القادم. أنت.القادم.. أنت مشروع عمري اآلخر

أحبي من شئت من الرجال، واكتبي ما شئت من.. في انتظار ذلك..القصص

لن تصدر يوما في كتاب. وحدي أعرف أبطالك وحدي أعرف قصتك التي.ورق المنسيين وآخرين صنعتهم من

وحدي أعرف طريقتك الشاذة في الحب، طريقتك الفريدة في قتل من.لتؤثثي كتبك فقط.. تحبين

.أخرى أنا الذي قتلتني لعدة أسباب غامضة، وأحببتك ألسباب غامضة

أنا الرجل الذي حولك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى.حصى

.ال تتطاولي على حطامي كثيرا

عمق هذا الوطن حجارة لم تقذفها لم ينته زمن الزالزل، وما زال في.البراكين بعد

..كفاك كل ما قلته من كذب. دعينا نتوقف لحظة عن اللعب

.أعرف اليوم أنك لن تكوني لي

.أنحشر معك يوم الحشر حيث تكونين، ألكون نصفك اآلخر دعيني إذن، مكانا لي إلى جوارك، ما دامت كل األماكن محجوزة دعيني أحجز مسبقا

..بالمواعيد حتى آخر أيامك حولك هنا، وما دامت مفكرتك مألى

..يا امرأة على شاكلة وطن

أن نبقى معا؟ أيهم بعد اليوم

Page 195: ذاكرة الجسد

.حقيبة صغيرة فقط لمالقاة الوطن

شي سوى بدلة سوداء لحضور حفل زفافك. زجاجتي وسكي.. وال.قمصان.. وشفرات حالقة

!أوطان تنتج كل مبررات الموت، وتنسى أن تنتج شفرات حالقة هنالك

.أعود إلى الوطن على أصابع الجرح.حساب دون أمتعة شخصية، دون زيادة في الوزن وال زيادة في

وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حمال، ولكن من سيحاسبنا على ذاكرة نحملهابمفردنا؟

.مشيا على جرحي األخير أعود إليه على عجل

الغياب، وها هوذا الرجوع المفاجئ. كنت أتوقع لقاء غير عشر سنوات من..هذا

مكانا في الدرجة األولى مثال. فيحدث للذاكرة في مثل كنت سأحجز لي.الجلوس في الكراسي الخلفية هذه المناسبات، أن ترفض

محجوزة مسبقا، ولكن، ال يهم سيدتي.. كانت كل الكراسي األمامية..ألولئك الذين حجزوا كراسي الوطن أيضا بأمر

.منه إذن، على كرسي جانبي للحزن فألعد إليه كما جئت

في خزائننا من عمر. ما في نغادر الوطن، محملين بحقائب نحشر فيها ما.أدراجنا من أوراق

..أحببناها، وهدايا لها ذكرى نحشر أبوم صورنا، كتبا

كتبت لنا.. وأخرى كنا نحشر وجوه من أحببنا.. عيون من أحبونا.. رسائل.كتبناها

صغير سيكبر بعدنا، دمعة آخر نظرة لجارة عجوز قد ال نراها، قبلة على خد.على وطن قد ال نعود إليه

لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يغلق نحمل الوطن أثاثا نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. قلبه في وجهنا، دون أن يلقي

.بعدنا ننسى أن نسأله من سيؤثثه

.فقط وعندما نعود إليه.. نعود بحقائب الحنين.. وحفنة أحالم

Page 196: ذاكرة الجسد

نعود بأحالم وردية.. ال "بأكياس وردية"، فالحلم ال يستودر من محالت.تاتي" الرخيصة الثمن"

هنالك إهانات. عار أن نشتري الوطن ونبيعه حلما في السوق السوداء!أصعب على الشهداء من ألف عملة صعبة

.صغيرة، هنا في الالمكان ها أنذا.. بحقيبة يد

بي من ذاكرة إلى في هذه النقطة المعلقة بين األرض والسماء. والهاربة.أخرى. أجلس على مقعد في الدرجة الثانية للنسيان

تضاريس حبك. على ارتفاع تصعب معه الرؤية، ويصعب معه أحلق على األوان: تراني أرتكب آخر حماقات عمري، النسيان. وأتساءل رغم فوات

أنا الذي لم أشف بك. وأهرب منك إلى الوطن؟ أحاول أن أشفى منك بهمنه؟

الفارغ إلى ها هي اللوحة التي أحضرتها هدية لعرسك تشغل مكانك.جواري

..ها نحن نسافر _ أخيرا معا _ أنا وأنت

طائرة واحدة ألول مرة. ولكن ليس للرحلة نفسها.. وال لالتجاه نأخذ.نفسه

..قسنطينة ها هي

.ساعتان فقط ليعود القلب عمرا إلى الوراء

الطائرة، وال تتنبه إلى أنها تشرع معه القلب على تشرع مضيفة باباآلن؟ مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرة

من سيقدر على إغالق شباك الحنين، من سيقف في وجه الرياح المضادة،.ليرفع الخمار عن وجه هذه المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء

..قسنطينة إذن ها هي األخير، وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر معي سفرها

.بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة

الناقصة عن قسنطينة، في لقاء ليلي مع اللوحة ها هي "حنين"، النسخة..األصل

Page 197: ذاكرة الجسد

تكاد مثلي تقع من على .سلم الطائرة تعبا.. ودهشة.. وارتباكا

تتقاذفنا العبارات التي تنهى وتأمر. وكل تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة،..الرمادية الباهتة هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه الجدران

فهل هذا هو الوطن؟

..قسنطينة

اميمة.. واشك؟ كيف أنت يا

..العودة أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة هذه

.يذكرني بارد مطارك الذي لم أعد أذكره. بارد ليلك الجبلي الذي لم يعد .دثريني يا سيدة الدفء والبرد معا

.. أجلي بردك قليال .أجلي خيبتي قليال

.والوحدة قادم إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن الثلج

.فال تتركيني واقفا في مهب الجرح

بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك كانت اإلشارات المكتوبة أخيرا أقف وجها لوجه مع الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني

.العربية الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات

وحده وجه حسان مألني دفئا مفاجئا عندما أطل، وأذاب جليد اللقاء.األول.. مع ذلك المطار

جزائرية مازحة وهو وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة:يحمل عني تلك اللوحة

الطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار واش.. مازلت تنقل في"..!".هنا مبروك من هو اللي قال نشوفك

.بي شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة مالمحه، وأنها أخيرا جات ترحب

وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها..ومدارسها.. وأزقتها وذاكرتها؟ وجسورها

Page 198: ذاكرة الجسد

لم يغادرها إال نادرا في. هنا ولد، وهنا تربى ودرس، وهنا أصبح مدرسا.زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس

لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئن علي وليشتري كان يحضر ما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي

العائلة، بعدما يئس من قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسم و ال تزويجي وأدرك بعد محاوالت إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بنات

.بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي

الرجل الفارع القامة، المهذب المظهر، والذي أكتشف اليوم، أن هذا وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه يتحدث دائما بحماسة األساتذة وعنادهم

.لتالميذه وليس لآلخرين، هو أخي.. ال غير

!أجهل هذا؟ ال أكنت

أن قرابته ولكن في هذا اليوم االستثنائي األلم والخيبة.. والفرحة! أشعر بي تصبح األرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زالزلي

الداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لوال الكبرياء، بكيت عليه في تلك.اللحظة

عشر سنوات.. حدث خاللها في بعض المرات أن انتظرته أنا في مطار(.أورلي الدولي)

أشعر آنذاك كانت األدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنت أنني أقوم بواجب عائلي لست ملزما به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد

تلك إحدى فرصي القليلة أللعب دور "األخ الكبير" بكل مسؤولياته كانت الذي لم أوفق دائما في أدائه. فقد عشت في الواقع وواجباته. ذلك الدور

الذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه دائما بعيدا عن حسان، حسان.المبكر.. وتعلقه العاطفي بي

أيضا تزوج باكرا على عجل، وراح يكثر من األوالد ليحيط نفسه تراه لهذا التي حرم منها دائما في طفولته، والتي كنت عاجزا عن أخيرا بتلك العائلة

.وغيابي المتنقل من منفى إلى آخر.. أن أعوضها له بحضوري العابر

مقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل وأنه في هذه اللحظة فارق العمر، وبرغم أوالده الستة، أنني األخ األصغر

..يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر

حقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل ترى ألنه هو الذي يحمل وكبريائي يجردني من سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفز رجولتي

Page 199: ذاكرة الجسد

هذه وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته مع..المدينة ومعايشته لطباعها المتقلبة، جعلته اليوم يبدو أكبر

قسنطينة.. تلك األم المتطرفة العواطف، حبا وكراهية.. حنانا أم تراها بوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب وقسوة، هي التي حولتني

سنة؟ المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثالثين

نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت،أتراها تعرفني؟: وتساءلت

العريضة هذه المدينة الوطن، التي تدخل المخبرين وأصحاب األكتاف واأليدي القذرة من أبوابها الشرفية.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجار

.الشنطة.. والبؤساء

تتأملني؟ أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أن

يعود.. سئلت أعرابية يوما: "من أحب أوالدك إليك؟" قالت: "غائبهم حتى".ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر

يعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم وكنت أنا غائبها الذي لم..يكبر

سمعت بقول تلك األعرابية. فلم أعتب عليها. ولكن قسنطينة لم تكن قد!العربي عتبت على ما قرأت من كتب التراث

..لم أنم تلك الليلة حسان، وكأنها تعد وليمة، والذي أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجة

سبب قلقي، بعدما استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كانتناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟

السبب هو صدمة لقائي العاطفي اآلخر مع ذلك البيت، الذي ولدت أم أن جدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير فيه وتربيت، والذي على

وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها.. من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد تلغي كل شيء في أعماقي لتطفو اآلن فجأة.. كذكريات فوق العادة

عداها؟

يتوسد ذاكرته؟ ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام من

كندورة مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيل )أما( العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري لألمومة.

يطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. وصوت أبي البيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن الطريق" لينبه النساء في

Page 200: ذاكرة الجسد

.البعيدة أن يفسحن الطريق ويذهبن لالختباء في الغرف

أبي أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليه يوما شهادتي االبتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادة

..أخرى

..وبعدها ال شيء

ومشاريع أخرى، انتهت اهتمامه بأشياء أخرى، توقف اهتمامه بي ليبدأ.منذ مدة بموت )أما( وزواجه الذي كان جاهزا لالستهالك، ومعدا في ذهنه

أكاد أرى جثمان )أما( يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد من.قراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم

أسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء أكاد أرى موكبا آخر يعود بعد.يحترفن الزغاريد والمواويل

.الليلة التي قبلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة ثم تلك

إلى أين كنت ذاهبا. كان حسان وهو في عامه الخامس لم يسألني ليلتها.بسنوات عشر، قد سبق عمره

كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلمه ذله أن يصمت ويحتفظ.لنفسه باألسئلة

:سألني

وأنا؟- ..

:نفسه وأجبته بالذهول

..مازلت صغيرا يا حسان.. انتظرني-

:صوت )أما( وخوفها المرضي علي فقال وكأنه يتقمص فجأة

..عندك على روحك.. آ خالد-

.بالبكاء وأجهش .ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوما

على شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن كنت أعتقد أنه وحده قادر.ذلي

Page 201: ذاكرة الجسد

بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن اليوم.. بعد كل هذا العمر، األوطان، ظلمها قسوتها، هنالك هناك يتم األوطان أيضا. هنالك مذلة

.جبروتها وأنانيتها

.لها.. أوطان شبيهة باآلباء هنالك أوطان ال أمومة

***

.الصباح لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من

أغفو كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدت حتى أيقظني من غفوتي أصغر أوالد حسان، الذي استيقظ باكرا وراح

.يطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية يبكي بكاء رضيع

.قول ما يريد دون كالم حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته على

.لغتي في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدت شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا،

!بذلك ال غير لتقنعني

.ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري

.قبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة لقد هزمت من مروا

..المجانين وأنا آخر عشاقه

قسنطينة أنا ذا العاهة اآلخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" اآلخر، وأحمق اآلخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها

عمرا؟

..وكانت تشبهك لتوها من التاريخ، تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميالد. خارجة

.باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار .سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى "كان اسمها يوما

!العسكر وكانوا رجاال.. في غرور

Page 202: ذاكرة الجسد

.آخرون من هنا مر صيفاكس.. ماسينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم

.تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبهم وخوفهم وآلهتهم

تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسورا..رومانية

.رحلوا و..

لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم".الذي منحه لها من ستة عشرة قرنا "قسطنطن" "قسنطينة

المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن أحسد ذلك اإلمبراطور الروماني.ألسباب تاريخية محض حبيبته بالدرجة األولى.. وإنما اقترن بها

.وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي

أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة وربما لذلك، يحدث.األولى "سيرتا" ألعيدها إلى شرعيتها

".تماما.. كما أناديك "حياة

.قسطنطين ككل الغزاة.. أخطأ

.اسمنا المدن كالنساء.. نحن ال نمتلكها لمجرد أننا منحناها

لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ،.وتتربص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوما من علو صخرتها

..بالفتوحات الوهمية كنسائها كانت تغري

!ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد

الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. هنا أضرحة وأربعين بايا تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد والعثمانيين.. وواحد

.الفرنسيين

.فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة هنا وقفت جيوش

، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على1830 فرنسا التي دخلت الجزائر سنة فيه نصف جيشها، وتركت ، سالكة ممرا جبليا تركت1837صخرة، إال سنة

.فيه قسنطينة خيرة رجالها

Page 203: ذاكرة الجسد

جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من.المؤدية إليها

دائما أكبر من الجسور، ألنها تدري أن ال شيء تحت ولكن، كانت الصخرة!الجسور سوى الهاوية

مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بمالءتها السوداء وتخفي سرها ها هي.سائح عن كل

تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من.ولي صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور

أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها،.. هنا القنطرة الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز مشيا على األقدام، بين

.العمر من طرف إلى آخر

شيء كان يبدو مسرعا على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى كل.كان ينتظرهم على الطرف اآلخر الطيور، وكأن شيئا ما

قد يكون تركه خلفه، ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، وأنه في الحقيقة، ال فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في

.فوقه.. وما تحته

والتي ال تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي ال أكثر، ..يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما ألن اإلنسان بطبعه ال يحب أن يتأمل الموت

.كثيرا

.وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق

أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، ترى ألننيجسر؟ ألنفرد بهذه المدينة على

***

موعدا مع ذاكرتك على هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ.جسر

..منذ سنين خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماما قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوما من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض

Page 204: ذاكرة الجسد

قسنطينة لإلطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل وجهاء.ثقته

يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه ذلك األمر القاطع كان جدي بالقتل. وكان أيضا أكبر من ..أن يقاد ليقف بين يدي ذلك الباي ذليال

إليه.. كان جدي جثة في هوة سحيقة ولذا عندما أرسل الباي من يحضره.شرف قتله كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد رفض أن يمنح الباي

سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته عن سر هذا االسم.الذي نحمله

يبدو أنه كان ال يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان االنتحار في حد ذاته عارا وكفرا في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى

غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها األول. ولم تعد إلى قسنطينة إال.وأكثر، باسم لمدينة أخرى بعد جيل

.أعيد نظري إلى أسفل في هذا الجسر المعلق على ارتفاع مئة ماذا تراني جئت أبحث هنا،

الغربان على عجل؟ وسبعين مترا من جوف األرض، والذي تعبره أسراب

وسيما وذا تراني أبحث عن بقايا جد ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان مال وعلم كبير، وأنه رمى يوما كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثا

.لتلك العائلة

..هذه هي قسنطينة

لها، تحرص على صيتها خوفا من القيل مدينة ال يهمها غير نظرة اآلخرين تارة.. والبعد والهجرة والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم

.تارة أخرى

تراها تغيرت؟

وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أذكر أنني سمعت التي ما يزال يغنيها "الفرقاني" اليوم، أخرى، بعدما شاع أن إحدى األغاني

!بناتها قد نظمها أحدهم تغزال في إحدىويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟

مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟ تراني على موعد وال ألوان، وبال قلق أو خوف من مربع ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة

.القماش األبيض

اللحظة. لست رسامها وال مبدعها. أنا جزء منها. أنا لست خالقها في هذه.تفاصيلها وتضاريسها ويمكنني أن أصبح حتى جزءا من

Page 205: ذاكرة الجسد

وكأنني أجتاز يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها،.إطار لوحة.. كأنني أخترقها ألسكنها إلى األبد

الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للون ما.. أتدحرج نحو هذا.أرسمه.. فرسمني على لوحة أبدية، لمنظر أردت أن

واحد؟ أليست هذه أجمل نهاية لرسام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد

كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك األنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبدي، أن "الهاوية

تستدرجني إلى العمق، في موت شبقي أخير، ربما كان األنثى" كانت قسنطينة، ومع ذاكرة جد بدأت أشعر فرصتي األخيرة للتوحد الجسدي مع

.بتواطؤ غامض معه

هي التي أشعرتني عندئذ بالدوار، وأنا معلق ترى شهوة السقوط والتحطمعلى ذلك الجسر وحدي؟

أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم وإذا بي بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في الغرباء هنا يشعرون

خانتهم؟

.أكن يومها مستعدا للموت ورغم ذلك أعترف، أنني لم

الحزن الجارف العميق ليس تمسكا مني بالحياة. ولكن ألنني وصلت بذلك.أخرى الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة

.لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة

تعلمت أن أسخر من استفزاز األشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع فلقد.التهكم المر الذاكرة بشيء من

تكاد تحترفه! ألم آت هنا إثر قرار جنوني، ربما بحثا عن الجنون في مدينة ولذا بدأت أتلذذ سرا بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش

بمازوشية متعمدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي صدماتي.القادمة منجم جنوني وعبقريتي

وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني .يوما

فجأة تطيرت منه، أن الذي أولعت به طويال وحولته إلى ديكور لحياتي،.بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه

كنت تلك السفوح الجبلية أيكون ذلك اإلحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث المنثور بين التي كانت يوما مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس

الستقبال الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة الربيع.. محملين بما أعدته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات

Page 206: ذاكرة الجسد

تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟ وقهوة.. والتي

محمد الغراب( الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. أم تراه منظر مزار )سيدي كتاب تاريخي عن قسنطينة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخرا في

.فتعبرني قشعريرة غامضة

أدري اللعنة التي الحقت صالح باي أكبر بايات ماذا لو الحقتني دون أن هو الذي كان يريد أن يختم قسنطينة على اإلطالق بسبب هذا الجسر؟

وهبها لتلك المدينة، إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصالحاته المختلفة التي المدينة بإصالح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط

.بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية

أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هالك )صالح باي( تقول..المفجعة ونهايته

بشعبية فقد قتل فوقه )سيدي محمد(، أحد األولياء الذين كانوا يتمتعون كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على األرض، تحول جسمه إلى

متوجها نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك غراب، وطار بنهاية ال تقل قسوة وال ظلما عن نهاية الولي السفوح. ولعنه واعدا إياه

.الذي قتله

باي إال أن غادر بيته وأراضيه إلى األبد، تطيرا من ذلك فما كان من صالح.المدينة الغراب، واكتفى بداره في

هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات بعد

لقضاء أسبوع كامل يرتدون خالله ثيابا وردية، األسبوع وفي المواسم، جيل، فيقدمون له ذبائح الحمام، يؤدون بها طقوسا متوارثة جيال عن

كانت تستحم ويستحمون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث السالحف، ويعيشون على شرب "العروق" ال غير، واالستسالم لنوبات

بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع رقص".الفقيرات "بندير

ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة.والرفاهية

.سوت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل

محمد الغراب( أشهر مزار ولي قسنطيني على صنعت من )سيدي.ولي اإلطالق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم

وخلدت من بين واحد وأربعين بايا حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت أجمل أشعارها، وغنت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت فيه

!مع مالءات نسائها السوداء.. دون أن تدري تلبس حداده حتى اليوم

Page 207: ذاكرة الجسد

..هذه هي قسنطينة لعنتها ورحمتها، ال حاجز بين حبها وكراهيتها، ال مقاييس ال فرق بين

.معروفة لمنطقها.الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء تمنح

يحسم موقفه منها، حبا أو فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه كل الحاالت كراهية.. إجراما أو براءة.. دون أن يعترف أنها تحمل في

ضدها؟

***

أكثر في ذاكرتها، في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط تمتد فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي

.بنا أحيانا حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان

ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويال عن طمأنينة أخرى خارج أبحث في.فضائها

في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على كان لوجودي كان سندي السري الذي لم أتوقعه. لقد نفسيتي في تلك األيام. وربما

دهاليز طفولتي البعيدة، ألصبح كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو..جنينا من جديد

.مازال مكانها هنا فارغا منذ ثالثين سنة أختبئ في جوف أم وهمية،

يوم أقام عندي لبضعة أشهر في يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد،.البيت الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدد له عقد إيجار

تعودت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على.في غرفة أخرى األرض

مجاملة وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من اإلحراج، معتقدا أنني أفعل ذلك.له

على وكنت أوكد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم األرض. فقد كان ذلك الفراش األرضي يذكرني بطفولتي وبنومي إلى جوار

سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه أمي لعدة كانت تخصصها )أما( كل خريف، لغسل األزرق. بل وتلك األيام التي

األثاث األساسي لغرفة الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت.نومي

فراشا على األرض، تمنيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراش تماما كما تفعل مع أوالدها الذين ينامون في الغرف األخرى، على

أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة باالنزالق تحت أغطيته الصوفية

Page 208: ذاكرة الجسد

تثير غيرتي وحنيني لزمن لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته الجميلة التي.تخيلته حقا.. أم

ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل بيتها، غرفة نومها العصرية المعدة الستقبال الضيوف، أكثر منها غرف

للحب؟.. لقضاء ليال زوجية لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيرا لجنوني هذا. فقد كانت

عتيقة تشارك أحيانا في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجال من باريس، ألقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي متحضرا قادما

في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل القديم، وهذه الطريقة المتخلفة.ونادرة.. األشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة

معاكسة وألنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، وال الجرأة على رأيها، كنت أكتفي باالستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد

أحيانا إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلق حسان شبه يتحول:معتذر

يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل )داالس( على التلفزيون، أن ال" الله.. ال بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا تسكن بيتا كهذا وتحمد

..".وحياة أفضل.. عاجزين عن منح الناس سكنا محترما

.كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة

يقول: "لكي تكون سعيدا عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في كان ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. يدك قطعة رغيف،

في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن وأما إذا رفعت رأسك كثيرا ونظرت لمن!".باكتشافك تشبع، بل ستموت قهرا فقط.. وتتعس

وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحيانا مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل

مما يعانيه آالف الناس. بل وعشرات اآلالف الذين لم يجدوا بيتا واسعا أوالدهم وزوجتهم. بل كثيرا ما يتقاسمون مع كهذا يسكنونه بمفردهم مع

.بيتا لعائلتين لعدة سنوات أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون

..هكذا كان حسان نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في لقد كانت نظرته إلى األشياء"

..".صباه على سبورة بالحائط بتلك النظرة التي قد تعود أيضا إلى عقليته كموظف محدود وكان سعيدا

!األحالم الدخل.. ومحدود فبم يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص األدبية، وسرد سيرة الكتاب والشعراء القدامى على تالميذه.. وتصحيح أخطائهم

واإلنشائية، وال يجد متسعا من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان النحوية

Page 209: ذاكرة الجسد

أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات يحدث أمامه، وتصحيح.الشعارات والمزايدات؟ خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس

ولكنه. كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته.كان يحتفظ بها لنفسه

أوالده الستة وزوجته من الواضح أنه كان متعبا وغارقا في مشكالت هو فلم الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما

يكن يجرؤ على الحلم، أو باألحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص!ليحصل على ثالجة جديدة.. ال غير يتوسط له

وأنا أكتشف أننا لم نكن عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت األمر.. وبدا متخلفين عن أوربا وفرنسا فقط، كما كنت اعتقد، وإال لهان

تحت منطقيا. لقد كنا متخلفين عما كنا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنا.االستعمار

.يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحالمنا أكبر

تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع أحاديثهم وأن تلقي نظرة يكفي أن.ذلك على واجهات المكتبات لتفهم

.العالم يومها كنا وطنا يصدر األحالم.. مع كل نشرة أخبار إلى كل شعوب

وكانت هذه المدينة بمفردها تصدر من الجرائد والمجالت والكتب ما ال .تصدره اليوم المؤسسات الوطنية ال نوعا.. وال عدا

المفكرين والعلماء.. والشعراء والظرفاء والكتاب، ما يومها كان لنا من .بعروبتنا يمألنا زهوا وغرورا

في اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في خزانة، إذ لم يعد.الجرائد ما يستحق الحفظ

لقد أصبح البؤس الثقافي. ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعلم منه شيئا لقد كانت. " ظاهرة جماعية، وعدوى قد تنتقل إليك وأنت تتصفح كتابا

الكتب دائما على صواب في ذلك العهد، وكان الواحد منا فصيحا يتكلم كما..".تتكلم الكتب

تقلص صدقنا.. واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضا.. مثلها مثل الجرائد. ولذا وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا يدور فقط حول المواد االستهالكية

!المفقودة

عندما قلت يومها هذا الكالم لحسان، ظل يتأملني بذهول وكأنه اكتشف:شيئا لم ينتبه له من قبل.. ثم قال بشيء من الحسرة

Page 210: ذاكرة الجسد

أهدافا صغيرة ال عالقة لها بقضايا العصر. صحيح.. لقد خلقوا لنا- للبعض الحصول على شقة وانتصارات فردية وهمية، قد تكون بالنسبة

أو صغيرة بعد سنوات من االنتظار.. أو قد تكون الحصول على ثالجة، التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! وال أحد عنده متسع من

..واألعصاب ليذهب أكثر من هذا، ويطالب بأكثر من هذا الوقت

هموم الحياة اليومية المعقدة التي تحتاج دائما إلى نحن متعبون.. أهلكتنا فكيف تريد أن نفكر في أشياء أخرى، عن. وساطة لحل تفاصيلها العادية

غير.. وما عدا هذا ترف.. لقد أي حياة ثقافية تتحدث؟ نحن همنا الحياة ال ال فيه مع أوالدها تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها وجحر تختبئ

..أكثر

:سألته بسذاجة

الناس؟ وماذا يفعل- :قال مازحا

والبعض اآلخر ينتحر،.. الناس..؟ ال شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق- !والحجة نفسها.. هذه مدينة تقدم لك االختيارات الثالثة بالمبررات نفسها

يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني فجأة قشعريرة.مبهمة

:سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثالثة أختار

وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟-

يسعد الهتمامي المفاجئ بكل تفاصيل أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو:حياته

الثانوية.. ما عدا هذا ليس لي لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في- القديمة التي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها، ورحلت كل العائالت

.عرفناها

تستقر في وراح يسرد علي أسماء عائالت كبيرة هاجرت أو راحت العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة آلخرين.. جاء معظمهم من

.المدن الصغيرة المجاورة القرى و

والتي أخذت بعد قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني ساعتها،:ست سنوات كل أبعاد القدر األحمق، قال

Page 211: ذاكرة الجسد

المدينة األصليون، ال يزورونها سوى في األعراس.. لقد أصبح سكان هذه- !أو في المآتم

وقبل أن :أعلق على كالمه، أضاف وكأنه تذكر شيئا

الطاهر.. من المؤكد أنه سيأتي بعد غد سأعرفك على ناصر ابن سي- بطولك وبضخامتك، وهو يتردد لحضور زواج أخته. سترى.. لقد أصبح رجال

الوحيد الذي علي منذ بضعة أشهر، منذ قرر أن يستقر في قسنطينة. إنه قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة إلى الخارج.. تصور! ال أحد

هذا.. عندما سألته لماذا لم يسافر مثل اآلخرين ويهرب من هذا يصدق إن سافرت أال أعود أبدا.. كل أصحابي الذين البلد، قال لي: "أخاف

..".سافروا لم يعودوا

أكتشف هذا التطرف الذي يذكرني بك، وكأنه سمة عائلية. ضحكت وأنا الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو وشعرت برغبة في إطالة ذلك

..بأخرى

:سألته

اآلن؟ وماذا يفعل-

لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محال تجاريا وشاحنة يعودان عليه بدخل- كبير. ولكنه مازال ضائعا مترددا، يفكر أحيانا في مواصلة دراسته، ثم أحيانا

في التفرغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن المؤسف أخرى دراسته العليا، ألنه سيظل يشعر بذلك النقص طوال أن ينقطع إنسان عن

تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب حياته.. ومن ناحية أخرى، لم تعد العمل، وآخرين جهلة قوله، وهو يرى شبابا بشهادات عليا عاطلين عن

يتنقلون في سيارات مرسيدس ويسكنون فيالت فخمة.. ليس هذا زمنا للعلم.. إنه زمن الشطارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو حتى

تلميذك بالتفاني ..في المعرفة؟. لقد اختلت المقاييس نهائيا

:قلت لحسان

اإلنسان ما هو هدفه الحقيقي في الحياة.. هل المال هو المهم أن يعرفوتوازنه الداخلي؟ مشكلته األولى.. أم المعرفة

:رد حسان مازحا

نحن شعب نصف مختل. ال أحد فينا.. توازن..؟ عن أي توازن تتحدث- إن المشكل الحقيقي هو.. يدري ما يريد بالضبط.. وال ماذا ينتظر بالتحديد

إنه. هذا الجو الذي يعيشه الناس، وهذا اإلحباط العام لشعب بأكمله يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط ألي مشروع. فال المثقفون

Page 212: ذاكرة الجسد

الجاهلون وال البسطاء وال األغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا سعداء.. وال إذا كنت ستنتهي موظفا يعمل تحت إشراف مدير يمكن أن تفعل بعلمك

معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه جاهل، وجد في منصبه مصادفة ليس لسعة مثال.. سوى وعرض أكتافه.! وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة

أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة للسكن في معظم تقيم عرسا بها يغني فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه األحيان.. أو

ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب قهوة" ال يتجاوز العشرين آخر، ليبيع جوازات سفر إلى لمسؤول محلي يختبئ خلف أي موظف

في الحج. وهكذا يمكنك أن تؤدي فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة!اآلخرة.. بعدما ضاقت بك الدنيا

:صحت عجبا

هل يبيعون جوازات سفر إلى الحج بمليونين!؟.. واش.. أحقا تقول-

الحجاج كل عام بسبب تكاليفهم الباهظة طبعا.. ألن الحكومة حددت عدد- عدة مرات ألسباب ال بالعملة الصعبة، بعدما اكتشفت أن معظمهم يسافر

يكون عالقة لها بالحج، وإنما ألغراض تجارية محض. وإال كيف تفسر أن بعضهم قد حج ست مرات أو سبعا دون أن يكون ذلك واضحا على سلوكه

أعرف حاجا "سوكارجي" ال تفارق الخمرة بيته، وأعرف آخر وأخالقه؟ أنا و"البزنيس".. وتغيير العملة الصعبة في األسواق متفرغا للترافيك

عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على السوداء.. هؤالء مازالوا يسافرون كل المبلغ ألقوم بتأدية عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا

الشهر؟ فريضتي، ودخلي ال يتجاوز األربعة آالف دينار في

:قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى

الحج؟ عالش.. هل تنوي-

طبعا.. ولم ال.. ألست مسلما؟ لقد عدت إلى الصالة منذ سنتين ولوال- إيماني ألصبحت مجنونا. كيف يمكن أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا

وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر الظلم دون إيمان؟ النتيجة وربما الشباب أكثر من حولك: لقد توصل جميع الناس إلى هذه

نفسه أصبح غيرهم ألنهم الضحية األولى في هذا الوطن.. وحتى ناصر ..يصلي منذ عاد إلى قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما ألن الدين كالكفر عدوى أيضا! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة يتجهون إلى المساجد

تضيق بهم جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم باآلالف حتى!لماذا تصلي دون أن تتساءل

لم أجد شيئا أعلق به على كالم حسان في تلك السهرة العجيبة، التي طالت بنا حتى الثانية صباحا. فقد كان حسان سعيدا بوجودي، وسعيدا ببدء

الصيفية التي تسمح له بالسهر والتحدث إلي طويال بعد كل هذه العطلة

Page 213: ذاكرة الجسد

.باعدتنا السنوات التي فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنت كسوته حنينا وعشقا

.وجنونا هذا أكان يخاف علي من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة عودتي إليه وإلى

الوطن مرة أخرى، عندما كان يتوقف أحيانا عن الحديث لينتقل بي إلى كأن يستدرجني مثال بطريقة غير مباشرة إلى الدين وإلى موضوع آخر؟

بالتوبة، وكأن وجودي في فرنسا بحد ذاته قد التقوى واإليمان. ويغريني .أصبح ذنبا وكفرا

.حسان؟ أهذا هو

لم أمنع نفسي ساعتها من االبتسام وأنا أتذكر أنني أحضرت له معي..زجاجتي ويسكي كالعادة

ألخصها، أن تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري، بل وربما وجدتها أقل

..بدرجات

لم أكن مجرما.. وال مقامرا.. وال كافرا.. وال كاذبا.. وال ..سكيرا.. وال خائنا.آخر لم تكن لي زوجة وال سرير شرعي استبدلت به

خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماما ما يمكن أن أسميه "السنوات.المعطوبة" تلك التي قضيتها بذراع واحدة، مشوه الجسد واألحالم

النساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبي األول لتلك الجارة اليهودية كم أحببت من الممرضة التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. التي أغريتها. إلى تلك

تناوبن على سريري ألسباب جسدية لم أعد أذكر أسماءهن وال مالمحهن، ..منهن محض، وذهبن محمالت بي ألبقى فارغا

..وجئت أنت الوحيدة التي لم أمتلكها، أكبر ذنوبي على اإلطالق كنت أنت. المرأة

.والذنب الوحيد الذي لم أقترفه حقا معك، هي ما يمكن أن أسميه "ذنوب اليد اليمنى".. اليد لقد كانت ذنوبي

!واستحضرتك بها.. واغتصبتك بها.. وهما.. الوحيدة التي رسمتك بها

يترك لي سواها!؟ فهل سيعاقبني الله على ذنوب يد لم!تشتهيها ال أذكر من قال: "ليس الفضيلة تجنب الرذيلة، الفضيلة في أال

.وأعتقد أنني بهذا المفهوم فقط.. لم أكن رجال فاضال ال بد أال أشتهيك أنت.. وأال أبدأ رذيلتي معك. كان لحبك طعم فقد كان

التي يجب تجنبها، والتي كنت أنزلق نحوها دون المحرمات والمقدسات

Page 214: ذاكرة الجسد

.تفكير

حقا في قصتي معك، أن تكون المبررات التي لقد كان األمر المدهش أعدل عن حبك. ولهذا ربما جعلتني أحبك، هي التي كان يجب أن تجعلني

نفسه كنت أحبك وأعدل عن حبك.. أكثر من مرة في اليوم. وبالتطرف.كل مرة

المد والجزر وأنا ال أفعل شيئا في النهاية هنا، سوى البحث عن حد لهذا.العاطفي الذي أعيشه معك كل لحظة

ال يمكن أن يقرر بمفرده الشفاء من كنت أدري أن العاشق مثل المدمن، أكثر نحو الهاوية. ولكنه ال دائه، وأنه مثله يشعر أنه ينزل تدريجيا كل يوم

نقطة في يمكن أن يقف على رجليه ويهرب، مادام لم يصل إلى أبعد.الجحيم، ويالمس بنفسه قعر الخيبة والمرارة القصوى

..تلك الليلة وكنت سعيدا في تلك السعادة الغامضة المرة، ألنني كنت أدري أن كل شي سوف يحسم

.اليومين القادمين، وأنني بطريقة أو بأخرى سأنتهي منك في

السهرة منهمكة في إعداد نفسها للحدث كانت زوجة حسان في تلك.الحمام، ثم إلى ليلة الحنة الهام، ولمرافقة الموكب النسائي في الغد إلى

بهمومها النسائية، وبما وكانت كثيرة الحركة ومشغولة عنا وعن أوالدها العادة ستأخذه في حقيبتها من ثياب للحمام، حيث ستستعرض النساء مثل

كل شيء حتى ثيابهن الداخلية.. ليتظاهرن بغناهن الكاذب في معظم ليقنعن أنفسهن فقط، أنهن مازلن برغم كل شيء قادرات األحيان.. أو

العروس التي يرافقنها.. والتي يتأملنها على إغراء رجل، تماما مثل تلك.بحسد سري

أفراحك.. وينتهي ذلك الزمن الذي سرقناه من فليكن.. غدا تبدأ طقوس.الزمن

.انتظار غدك أجمل األحالم إذن سيدتي في

!ولتصبح على خير.. أيها الحزن

***

.بي في الشوارع يوقظني الحب المضاد في هذا الصباح الصيفي.. ويرمي

Page 215: ذاكرة الجسد

قررت حال استيقاظي أن أهرب من البيت، ومن حديث عتيقة الذي ال ينقطع عن مراسيم الحفل، وعن أسماء الشخصيات والعائالت الكبيرة

لتحضر ذلك الحدث الذي لم تشهد قسنطينة مثله منذ التي جاءت خصيصا.سنوات

:لتواصل حديثها ولكنها لحقت بي حتى الباب

والطائرة على بالك.. يقال إنهم حضروا كل شيء من فرنسا.. منذ شهر- تنقل لوازم العرس.. لو رأيت جهاز العروس وما لبسته البارحة.. يا

..!"قال لك "واحد عايش في الدنيا.. وواحد يوانس فيه.. حسرة

:الباب، وكأنني أغلق بعنف أبواب قلبي أجبتها وأنا أغلق خلفي

أيضا. ويمكنهم أن يجلبوا إليه كما ما عليهش.. البلد لهم والطائرات- !أخذوا منه ما شاؤوا

أين أهرب؟

.أنا أوصدت الباب خلفي، وإذا ال شي أمامي.. سواي ها

أفواج المارة الذين يجوبون الشوارع هكذا رميت بخطاي دون تفكير وسط.كل يوم دون جهة محددة

تملك الخيار بين أن تمشي، أو تتكئ على جدار، أو تجلس في هنا.. أنت يتكئون أمامك.. على حائط الرصيف مقهى لتتأمل الذين يمشون أو

..المقابل

..رحت أمشي

ما، أننا نطوف جميعا حول هذه المدينة الصخرة، دون شعرت في لحظة نفعل بغضبنا، ماذا يجب أن نفعل ببؤسنا.. أن ندري تماما.. ماذا يجب أن

.جيوبنا الفارغة وعلى من نرمي هذا الحصى الذي امتألت به

الجميع.. أم من األولى بالرجم في هذا الوطن؟ من؟ ذلك الجالس فوقأولئك الجالسون فوقنا؟

".األصفار تدور حول نفسها.. "حضرني لحظتها عنوان رواية لمالك حداد

الدوائر التي تحولنا تمنيت لو أنني قرأتها، عساني أجد تفسيرا لكل هذه.إليها

لجمل مغمض ثم قادتني أفكاري إلى مشهد شاهدته يوما في تونس العينين، يدور دون توقف في ساحة )سيدي بوسعيد(، ليستخرج الماء من

Page 216: ذاكرة الجسد

.أمام متعة السواح ودهشتهم بئر

ليتوهم أنه يمشي إلى استوقفني يومها عيناه اللتان وضعوا عليهما غمامة مفرغة.. وأنه األمام دائما، ويموت دون أن يكتشف أنه كان يدور في حلقة

!قضى عمره دائرا حول نفسه

يكاد ينتهي من دورة حتى يبدأ أخرى تدور ترانا أصبحنا ذلك الجمل الذي الاليومية؟ به بطريقة أو بأخرى حول همومه الصغيرة

ترى هذه الجرائد التي تحمل لنا أكياسا من الوعود بغد أفضل، ليست سوى رباط عينين، يخفي عنا صدمة الواقع وفجيعة الفقر والبؤس الحتمي

مرة يتربص بنصف هذا الشعب؟ الذي أصبح ألول

مستقيم ال يعود بي وأنا.. تراني لم أعد أعرف المشي إلى األمام في خطتلقائيا إلى الوراء.. إلى هذا الوطن الذاكرة؟

الوطن.. من أين له هذه القدرة الخارقة على لي المستقيمات، وهذا!وأصفار.. وتحويلها إلى دائرة

.ها هي الذاكرة سياج دائري يحيط بي من كل جانب أضع قدمي خارج البيت. وفي كل اتجاه أسلكه تمشي إلى تطوقني أول ما

..البعيدة جواري الذكريات

فأمشي نحو الماضي مغمض العينين.. أبحث عن المقاهي القديمة تلك التي كان لكل عالم أو وجيه مجلسه الخاص فيها، حيث كانت تعد القهوة

الحجري وتقدم بالجزوة.. ويخجل نادل أن يالحقك بطلباته. على الوجاق.عنده كان يكفيه شرف وجودك

في ذلك الزمن كان البن باديس المقهى الذي كان يتوقف عنده، وهو في(.طريقه إلى المدرسة. كان اسمه )مقهى بن بامينة

حيث كان مجلس بلعطار وباشتارزي وحيث( وكان هنالك )مقهى بو عرعور.الطريق كنت ألمح أبي أحيانا وأنا أمر بهذا

ذكراه؟ أين ذلك المقهى ألحتسي فيه هذا الصباح فنجان قهوة نخب

كيف أعثر على مقهى لم يكن كبيرا سوى بأسماء رواده؟ كيف أجده.. في هذا الزمن الذي كبرت فيه المقاهي وكثرت، لتسع بؤس المدينة. وإذا بها

كوجوه الناس؟ متشابهة وحزينة

لم يعد يميزها شيء. حتى تلك الهيبة التي كانت سمة أهل قسنطينة،.وذلك الشاش والبرنس المتألق بياضا، أصبح نادرا وباهتا اليوم

Page 217: ذاكرة الجسد

أول ما لفت نظري ذلك الصباح، ذلك الزي الموحد لتلك المدينة ربما كان بحزن غامض. ذلك اللون القاتم المتدرج والمشترك التي تستيقظ كما تنام

.بين الجنسين.بمالءاتهن السوداء التي ال يبدو منها شيء سوى عيونهن النساء ملفوفات

الرمادية أو البنية التي ال تختلف عن لون بشرتهم.. والرجال في بدالتهم.وكأنهم اشتروها جميعا عند خياط واحد وال لون شعرهم. والتي يبدون

ضوء، أو لون زاه لفستان أو لبدلة وقلما كان يبدو من بين الحشود نقطة.صيفية

تلك المدينة، بعيون رسام ال تلفت نظره تراني كنت أنظر ذلك الصباح إلى أم تراني كنت أراها. سوى األلوان، ويكاد ال يرى سواها في كل شيء

فقط بعيون الماضي وخيبة الحاضر؟

الرجال الضائعين مثلي في تلك المدينة. رميت بنفسي وسط أمواج.أشبههم شعرت ألول مرة أنني بدأت

أمشي مثلهم أملك وقتا ورجولة ال أدري ماذا أفعل بها. فال أملك إال أن ساعات في الشوارع كما يمشون.. محمال ببؤسي الحضاري.. وبؤسي

.اآلخر الجنسي

ها نحن نتشابه فجأة في كل شيء. في لون شعرنا ولون بدلتنا وجر.أحذيتنا وخطانا الضائعة على األرصفة

ولكن هل يغير ذلك شيئا؟. نتشابه في كل شيء، وأنفرد وحدي بك

تخلفي دون علمي. حبك الذي استدرجني حتى هذه المدينة، أعادني إلى رمى بي وسط هذه الجموع الرجالية، التي تسير ببطء تحت الشمس

الصيفية، دون وجهة محددة، ودون أن تدري ماذا تفعل بتلك األشعة التي المحمومة في النهار، وتنفقها األيدي البائسة سرا في تختزنها األجساد

.الفردية الليل.. في الملذات

.تتوقف فجأة خطواتي أمام جدران بيت ال يشبه بيوتا أخرى

كانت أكبر "دار مغلقة" يرتادها الرجال. وكان لها ثالثة أبواب تؤدي إلى هنا.مختلفة شوارع وأسواق

لقد كانت في الواقع دارا مغلقة مشرعة، مدروسة ليتسلل إليها الرجال.من أية جهة، ويخرجوا منها من أية جهة أخرى

هربا من المدن والقرى المجاورة، كان الرجال يؤمونها من كل صوب،

Page 218: ذاكرة الجسد

.التي ال ملذات فيها وال نساء الجميالت والبائسات، يأتين أيضا من كل المدن المجاورة وكانت النساء

المصفرة، التي ال يخرجن منها إال عجائز ليختفين خلف هذه الجدران األيتام في موسم توبتهن لينفقن ثروتهن في الصدقات والحسنات، وتطهير

.األخيرة

..!ورجولته هنا أنفق أبي ثروته

سبب أحاول أال أتوقف عند ذلك البيت االستثنائي، الذي كان لعدة سنوات .حزن أمي السري، وربما موتها قهرا

السرية، وأحالمي المكبوتة أيام وكان لعدة سنوات أيضا سر نشوتي خوفا من أن ألتقي صباي، يوم كنت أحلم به وال أجرؤ على دخوله، ربما

المسروقة بأبي هناك، وربما أيضا ألنني كنت مكتفيا بمغامراتي العابرة..فوق السطح تارة، أو في غرف المؤونة التي قلما يفتحها أحد

لم يعد أبي هناك ليمنعني احتمال وجوده في هذا "البيت" من اليوم.الدخول

بعدما ترك تاريخه بامتياز خلف هذه الجدران، تماما كما يفعل أي لقد رحل.على أيامه فلسطيني ثري ومحترم

ألم تكن جدتي تقول وقتها لتعلم أمي الصبر، وتعودها على تقبل تلك!".الخيانة بفخر: "إن ما يفعله الرجال.. طرز على أكتافهم

.مغامراته جرحا ووشما على جسد )أما( دون أن يدري وكان أبي يطرز

..لست أدري" ماذا أصبح هذا "البيت يقال إنهم أغلقوه وربما ظل له باب واحد فقط.. بعدما أغلقت أبوابه

األخرى، في إطار سياسة تقليص الملذات في هذه المدينة، أو احتراما التي نبتت على صدر هذه الصخرة، والتي يرتفع صوتها لعشرات المساجد

..الناس بمزايا اإليمان والتوبة مجتمعة مرات في اليوم، ليذكر

المدينة، أقف في الحد الفاصل وكنت في تلك اللحظة، كمعظم رجال هذه السري لتلك بين شهوة الجسد وعفة الروح. يتجاذبني إلى أسفل النداء

الغرف المظلمة الشبقية.. حيث تحلو الخطايا.. ويسمو بي إلى أعلى ذلك النداء اآلخر، لتلك المآذن التي افتقدت طويال تكبيرها، ورهبة آذانها الذي

إلى الصالة، فيخترق بقوته دهاليز نفسي، ويهزني ألول مرة منذ كان يدعو.سنوات

بضعة أيام رجال مزدوجا كهذه المدينة، وبدأت أعي أن لقد أصبحت في.باألضداد من مدن بريئة. ومدن فاجرة ليس في هذا العالم المسكون

Page 219: ذاكرة الجسد

..فقط هنالك مدن منافقة.. وأخرى أقل نفاقا

وليس هناك من مدن بوجه واحد.. وحرفة واحدة. وقسنطينة أكثر المدن .وجوها.. وتناقضا

التي ها هي مدينة تستدرجك إلى الخطيئة. ثم تردعك بالقوة نفسها.تستدرجك بها

يغري كل شيء هنا دعوة مكشوفة للجنس.. شيء ما في هذه المدينة بالحب المسروق: قيلوالتها التي ال تنتهي.. صباحاتها الدافئة الكسلى..

الموحش المفاجئ. طرقاتها المعلقة بين الصخور.. أنفاقها السرية وليليها منظر جبل الوحش وما حوله من ممرات متشعبة.... الموبوءة الرطوبة

.المغارات واألنفاق المختبئة غابات الغار والبلوط.. وكل تلك

المتوارثة هنا من ولكن.. عليك أن تكتفي بالتفرج على عادات النفاق ..أجيال، وتتحاشى النظر إلى هذه المدينة في عينيها حتى ال تربكها

!وترتبك

فالجميع هنا يعرفون أن خلف شوارعها الواسعة تختبئ األزقة الضيقة الملتوية، وقصص الحب غير الشرعية، واللذة التي تسرق على عجل خلف

السوداء الوقور، تنام الرغبة المكبوتة من قرون. باب.. وتحت مالءتها القسنطينية المنفردة، وتمنح الرغبة التي تعطي نساءها تلك المشية

.عيونهن تحت )العجار(، ذلك البريق النادر النساء هنا منذ قرون، على حمل رغبتهن كقنبلة موقوتة، مدفونة تعودت

من كبتها إال في األعراس، عندما تستسلم النساء في الالوعي. ال تنطلق يستسلمن للحب، بخجل ودالل في لوقع البندير، فيبدأن الرقص وكأنهن

الزندالي".. فتستيقظ "البداية. يحركن المحارم يمنة ويسرة على وقع.أنوثتهن المخنوقة تحت ثقل ثيابهن وصيغتهن

.إغرائهن المتوارث يصبحن أجمل في.الحب تهتز الصدور وتتمايل األرداف، ويدفأ فجأة الجسد الفارغ من

تشب فيه فجأة الحمى التي لم يطفئها رجل. ويتواطأ البندير الذي تسخنه النساء مسبقا مع الجسد المحموم، فتزيد الضربات فجأة قوة وسرعة.

النساء، وتتطاير خصالت شعرهن، وينطلقن في حلبات وتنفك ضفائر ولذة في حفلة جذب وتهويل، يفقدن الرقص كمخلوقات بدائية تتلوى وجعا

أجسادهن، من خاللها كل عالقة بما حولهن، وكأنهن خرجن فجأة من.السابق ذاكرتهن وأعمارهن، ولم يعد يمكن أحدا أن يعيدهن إلى هدوئهن

وكما في طقوس اللذة.. وطقوس العذاب، يدري الجميع أنه ال يجب وقف ضربات البندير، وال قطع وقعها المتزايد، قبل أن تصل النساء إلى ذروة ال

ولذتهن، ويقعن على األرض مغمى عليهن، تمسكهن نساء من شعورهن والعطر الجاهز لهذه المناسبات.. خصورهن، وترشهن أخريات بالريحة

Page 220: ذاكرة الجسد

.حتى يعدن تدريجيا إلى وعيهن

!النساء الحب.. وهما في قسنطينة هكذا تمارس

وقبلت صفقتها السرية، مقابل قسنطينة التي أغرتني.. بليلة حب وهمية،.شيء من النسيان

منعطف يتربص بي جرح؟ فأين النسيان قسنطينة.. وفي كل

هل الحنين وعكة صحية؟.مريض أنا بك قسنطينة

.موعدنا وصفة جربتها للشفاء، فقتلتني الوصفة كانالمسموح بها في هذه الحاالت؟ تراني تجاوزت معك جرعة الشوق

بائع األقدار لم أشترك في صيدلية جاهزة في طريق، ألرفع دعوى على.الذي وضعك في طريقي

..مقاييسي لقد صنعتك أنا بنفسي، وقست كل تفاصيلك على..أنت مزيج من تناقضي، من اتزاني وجنوني، من عبادتي وكفري

.طهارتي وخطيئتي. وكل عقد عمري أنت.الفرق بينك وبين مدينة أخرى.. ال شيء

كنت فقط المدينة التي قتلتني أكثر من مرة لسبب مناقض لألول.. لعلك.كل مرة

الفاصل بين جرعة الشفاء وجرعة الموت هذه المرة؟ وفي فأين الحد مشروبا مرا يبتلع دفعة واحدة، بعدما كان مواسم الخيبة، تصبح الذاكرة

مهل؟ حلما مشتركا يحتسى على

.بها هنا تبدأ الذاكرة المشتركة، وشوارع يسكنها التاريخ وينفرد.بعضها مشيتها مع سي الطاهر وأخرى مع آخرين

تذكر عبوره. وها أنذا أتوحد بخطاه هنا شارع يحمل اسمه.. وشوارع .وأواصل طريقا لم نكمله معا

العروبة معي من حي إلى آخر. ويملؤني فجأة شعور غامض تمشي.بالغرور

.تنتمي لهذه المدينة، دون أن تحمل عروبتها ال يمكن أن

.من التحدي والعنفوان العروبة هنا.. زهو ووجاهة وقرون.موته مازالت لحية )ابن باديس( وكلمته تحكم هذه المدينة حتى بعد

يفكر مازال يتأملنا في صورته الشهيرة تلك. ملتحيا وقاره، متكئا على يده،.في ما ألنا إليه بعده

النشيد غير الرسمي. ومازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرن

Page 221: ذاكرة الجسد

.الوحيد.. الذي نحفظه جميعا

العروبة ينتسب شعب الجزائر مسلم *** وإلىمن قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب

له *** رام المحال من الطلب أو رام إدماجا

.نمت صدقت نبوءتك لنا يا ابن باديس.. لم

فقط ماتت شهيتنا للحياة. فماذا نفعل أيها العالم الفاضل؟

أحد توقع لنا الموت يأسا. كيف يموت شعب يتضاعف كل عام؟ ال

وبك الصباح قد اقترب *** يا نشء أنت رجاؤنا

مذ حجز الجالسون ذلك النشء الذي تغنيت به.. لم يعد يترقب الصباح، فوقنا.. الشمس أيضا. إنه يترقب البواخر والطائرات.. وال يفكر سوى

.بالهرب أمام كل القنصليات األجنبية تقف طوابير موتانا، تطالب بتأشيرة حياة

.الوطن خارج دار التاريخ وانقلبت األدوار. أصبحت فرنسا هي التي ترفضنا، وأصبح

"!على "فيزا" إليها ولو أليام.. هو "المحال من الطلب الحصول

.قهرا. فوحدها اإلهانات تقتل الشعوب لم نمت ظلما.. متنا

قسنطينة. كان يكفي أن ينطلق في زمن ما كنا نردد هذا النشيد في سجن.سياسيين من زنزانة واحدة، لتردده زنزانات أخرى، لم يكن مساجينها

كان لكلماته قدرة خارقة على توحيدنا. اكتشفنا مصادفة هناك صوتنا.الواحد

كنا شعبا واحدا ترتعد الجدران لصوته. قبل أن ترتعد أجسادنا تحت.التعذيب

هذا هل بح صوتنا اليوم.. أم أصبح هناك صوت يعلو على الجميع. مذ أصبحالوطن لبعضنا فقط؟

***

37الشارع، وألتقي بعد ولدت كل هذه األفكار في ذهني وأنا أعبر ذلك.سنة مع جدران سجن كنت يوما أراها من الداخل

Page 222: ذاكرة الجسد

يصبح السجن شيئا آخر لمجرد أننا ننظر إليه من الخارج، وهل ولكن هلالذاكرة اليوم، وهل يمكن لذاكرة أن تلغي أخرى؟ يمكن للعين أن تلغي

.ذاكرتي األولى التي لن تمحوها األيام كان سجن "الكديا" جزءا من

قدمي على الوقوف، فأدخله من وها هي الذاكرة تتوقف أمامه وترغم ألقي مع خمسين ألف سجين1945جديد كما دخلته ذات يوم من سنة

. ماي الحزينة الذكر8عليهم القبض بعد مظاهرات .إلى الذين لم يدخلوه يومها وكنت أكثر حظا، قياسا

الشرق الجزائري خمسة وأربعون ألف شهيد سقطوا في مظاهرة هزت.كله بين قسنطينة وسطيف وقالمة وخراطة

لشهداء الجزائر. جاء استشهادهم سابقا لحرب وكانوا أول دفعة رسمية.التحرير بسنوات

أنساهم؟ هل

أأنسى أولئك الذين دخلوه ولم يخرجوا منه، وظلت جثثهم في غرف التعذيب؟ وأولئك الذين ماتوا بأكثر من طريقة للموت، رفاقنا الذين

وحدهم؟ اختاروا موتهم

هنالك إسماعيل شعالل. كان مجرد عامل في البناء. وكانت له مهمة حفظ وثائق "حزب الشعب" وأرشيفه السري. وكان أول من تلقى زيارة

الذين دقوا باب غرفته الصغيرة الشاهقة صارخين االستخبارات العامة"."البوليس..افتح

يفتح إسماعيل شعالل الباب.. فتح نافذته الوحيدة. ورمى بنفسه وبدل أن.هو وسره في وديان قسنطينة العميقة على وادي الرمال، ليموت

إسماعيل دون دموع، هو أيمكن اليوم، وحتى بعد نصف قرن، أن أذكرالذي مات حتى ال يبوح بأسمائنا تحت التعذيب؟

صوت )عبد الكريم بن وطاف( الذي كانت صرخات تعذيبه تصل وهنالك جسدنا أيضا ويبعث فيه الشحنات الكهربائية حتى زنزانتنا، خنجرا يخترق

ويصفهم بالكالب والنازييين نفسها. وصوته يشتم بالفرنسية معذبيه.وأخرى والقتلة.. فيأتي متقطعا بين صرخة

"criminels.. assassins.. salauds.. nazis"

.باألناشيد الحماسية والهتاف فيرد عليه صوتنا

Page 223: ذاكرة الجسد

.ويصمت صوت بن وطاف

أقرب صديق إلى سي الطاهر، أحد رجال التاريخ( وهنالك )بالل حسين.المجهولين، وأحد ضحاياه

بالل نجارا. لم يكن رجل علم ولكن على يده تعلم جيل بأكمل كان القائم تحت جسر )سيجي راشد( مقر االجتماعات الوطنية. فقد كان محله

.السرية

وأنا أمر بمحله متجها إلى ثانوية قسنطينة، أذكر أنه كان يستوقفني فيعرض علي قراءة جريدة "األمة" أو .منشورا سريا

ويضعني". وكان خالل سنتين يهيؤني سياسيا لالنخراط في "حزب الشعب أمام أكثر من امتحان ميداني، كان ال بد لكل عضو أن يمر به قبل أن يؤدي

االنخراط في الحزب. ويبدأ نشاطه في إحدى الخاليا التي كان قسم.يحددها بالل

ذلك المحل الذي ال أثر له اليوم، كان يلتقي القادة السياسيون. في تعليماته األخيرة. وفيه نوقشت الشعارات التي( ويعطي )مصالح الحاج

.الالفتات لتكون مفاجأة فرنسا رفعها المتظاهرون، وكتبت ليال على

راشد( كما خطط وعندما انطلقت تلك المظاهرة من فوق جسر )سيدي لها بالل ألسباب تكتيكية، يسهل معها تجمع المتظاهرين ثم تبعثرهم من

كل الطرقات المؤدية للجسر. أدهشت القوات الفرنسية بدقتها ونظامها بالل أول من ألقي القبض عليه يومها.. ومن عذب غير المتوقع. وكان

.للعبرة

كغيره. قضى سنتين في السجن والتعذيب. ترك ولم يمت بالل حسين.فيهما جلده على آالت التعذيب

أنه ظل لعدة أيام عاري الصدر، عاجزا حتى أن يضع قميصا على أذكر بجراحه المفتوحة، بعدما رفض طبيب المستشفى جلده، حتى ال يلتصق

.تحمل مسؤولية عالجه

محكوما عليه بالنفي والرقابة المشددة. وعاش بالل حسين ثم خرج المجهولة، مالحقا مطاردا حتى االستقالل. ولم يمت مناضال في المعارك

، في الشهر نفسه1988 ماي 27والثمانين في إال مؤخرا في عامه الواحد.الذي مات فيه ألول مرة

.بائسا، وأعمى، ومحروما من المال والبنين مات

لصديقه الوحيد، أنهم عندما عذبوه تعمدوا اعترف قبل موته ببضعة أشهر

Page 224: ذاكرة الجسد

.األبد تشويه رجولته، وقضوا عليها إلى

..وأنه في الواقع مات منذ أربعين سنة

أنصاف المسؤولين لمرافقته إلى مثواه األخير. يوم وفاته، جاء حفنة من.يعيش، وال لماذا ال أهل له أولئك الذين لم يسألوه يوما بماذا كان

الرسمية، دون أدنى شعور مشوا خلفه خطوات.. ثم عادوا إلى سياراتهم.بالذنب

سنة كاملة، بحياء رجل من لم يكن أحد يعرف سره الذي احتفظ به أربعين.جيله ومن طينته

الكتمان؟ فهل كان يستحق ذلك السر، كل ذلك

..كان بالل حسين آخر الرجال في زمن الخصيان

..زمن عميت فيه البصائر وكان المبصر في

فهل أنسى بالل حسين؟

***

(..ها هوذا سجن )الكديا

نتأمل جدران سجن أول، دخلناه كما ندخل حلما مزعجا لم نكن أتأمله كما.مهيأين له

سنوات كثيرة، قبل أن أدخل سجنا آخر، كان جالدوه هذه المرة مرت يكن له من عنوان معروف، ليعرف طيف )أما( جزائريين ال غير. ولم

هنا في الماضي، باكية طريقه إلي فيأتيني كما كانت تأتي لزيارتي..متضرعة لكل حارس

مؤلمة، وأخرى مدهشة عرفها هذا ها هوذا سجن )الكديا(.. كم من قصص.ثورة السجن، الذي تناوب عليه أكثر من ثائر، ألكثر من

. عاد هذا1945 ماي 8.. أي عشر سنوات بالضبط بعد أحداث 1955سنة للصدارة، بدفعة جديدة لسجناء استثنائيين كانت فرنسا تعد لهم السجن

عقابا .استثنائيا

الثورة .. المعدة النتظار الموت. كان ثالثون من قادة8في الزنزانة رقم

Page 225: ذاكرة الجسد

ورجالها األوائل، ينتظرون موثقين، تنفيذ الحكم باإلعدام عليهم، بينهم بن بولعيد والطاهر الزبيري ومحمد اليفا وإبراهيم الطيب رفيق مصطفى

.وآخرون ديدوش مراد وباجي مختار كان كل شيء معدا للموت يومها، حتى أن حالق مساجين الحق العام،

الشهيد القائد مصطفى بولعيد في الصباح، أنهم غسلوا المقصلة أخبر".نفذوا "باألمس، وأنه حلم أنهم

وكانت هذه الكلمة تحمل معنيين بالنسبة لمصطفى بن بولعيد، الذي كان يعد منذ أيام خطة للهرب من )الكديا(.. وكان شرع مع رفاقه منذ عدة

سري تحت األرض، أوصلهم في المرة األولى إلى أيام، في حفر ممر من جديد، ليصلوا بعد ذلك إلى ساحة مغلقة داخل السجن. فأعادوا الحفر

.خارج السجن

المغرب، وبين الساعة السابعة والثامنة ، بعد صالة1955 نوفمبر 10يوم آخرون من رفاقه، قد مساء بالتحديد، كان نصطفى بولعيد ومعه عشرة

يغادرها أحد هربوا من )الكديا(، وقاموا بأغرب عملية هروب من زنزانة لم.ذلك اليوم.. سوى إلى المقصلة

وبعض من فروا معه، شهداء في بعد ذلك سقط القائد مصطفى بولعيد برحيلهم كتب معارك أخرى ال تقل شجاعة عن عملية فرارهم، فتصدروا

.التاريخ الجزائري، وأهم الشوارع والمنشآت الجزائرية

نفذ حكم اإلعدام، في من ظلوا بالزنزانة، دون أن يتمكنوا من بينما.الهروب

يبق اليوم من السجناء األحد عشر الذين هربوا من الكديا، سوى اثنين ولم ومات الرجال الثمانية والعشرون الذين جمعتهم الزنزانة. على قيد الحياة

رقم ثمانية يوما، لقدر كان .مقررا أن يكون.. واحدا

ذاكرتي، وذهبت كلما وقفت أمام الجدران العالية لهذا السجن تبعثرت ألكثر من وجه، ألكثر من اسم، وألكثر من جالد. وشعرت برغبة في فتح

أبواب سجون أخرى مازالت مغلقة على أسرارها، دون أن تجد كاتبا واحدا.مروا بها يرد دين من

.أسابيع وقتها كنت أحسد ذلك الرفيق الذي جمعتني به زنزانة هنا لبضعة

يصغرني كنا آنذاك.. أنا وهو، أصغر معتقلين سياسيين. وربما كان ياسين.ببضعة أشهر

.كان عمره ستة عشر عاما فقط

سراحي لصغر سني، فقد رفضوا أن يطلقوا سراح ورغم أنهم أطلقوا

Page 226: ذاكرة الجسد

شهرا. يحلم بالحرية.. وبامرأة ياسين. وبقي في سجن )الكديا( أربعة عشر عمرها.. وكان تكبره بعشر سنوات، كانت في السادسة والعشرين من

"!اسمها "نجمة

الدراسة، راح ياسين يكتب وبينما عدت أنا بعد ستة أشهر من السجن إلى".بعد عدة سنوات رائعته "نجمة

التي ولدت فكرتها األولى هنا. في ذلك الليل تلك الرواية الفجيعة،.واألحالم الوطنية الكبرى الطويل، وفي مخاض المرارة والخيبة

وبرغبة في أذكر أن ياسين كان مدهشا دائما. كان مسكونا بالرفض.التحريض والمواجهة

نستمع إليه، ونجهل وقتها ولذا كان ينقل عدواه من سجين إلى آخر. وكنا يوما، اكبر ما أننا أمام )لوركا( الجزائر، وأننا نشهد ميالد شاعر سيكون

.أنجب هذا الوطن من مواهب ياسين في منفاي اإلجباري اآلخر مرت عدة سنوات، قبل أن ألتقي بكاتب

.بتونس.يتغير اكتشفت بفرح ال يخلو من الدهشة أنه لم

مازال يتحدث بذلك الحماس نفسه، وبلغته الهجومية نفسها، معلنا الحرب.كل من يشتم فيهم رائحة الخضوع لفرنسا أو لغيرها على

اإلهانات المهذبة، وضد قابلية البعض لالنحناء.. لقد كانت له حساسية ضد!الفطري

محاضرة في قاعة كبرى بتونس، عندما راح فجأة يهاجم كان يومها يلقي.التونسية بالتحديد السياسيين العرب، والسلطات

.ولم يستطع أحد يومها إسكات ياسين بعدما قطعوا عليه صوت الميكروفون، فقد ظل يخطب ويشتم حتى

.القاعة وأطفأوا األضواء ليرغموا الناس على مغادرة

يومها دفعت في جلسة تحقيق مع البوليس ثمن حضوري في الصف..".وهتافي على ياسين "تعيش.. آ ياسين األمامي

صفقوا. ولكن بعض من كان يعنيهم األمر لم ينتبه أحد وقتها إلى وجوه من .. انتبهوا إلى يدي الوحيدة المرفوعة تأييدا .وإعجابا

يومها اكتشفت البعد اآلخر لليد الواحدة. فقدر صاحبها أن يكون معارضا!ورافضا، ألنه في جميع الحاالت.. عاجز عن التصفيق

.."وقلت: "ياسين.. لو رزقت ولدا سأسميه ياسين احتضنته بعدها

والمتعة، كأنني أقول له أجمل ما يمكن أن وشعرت بشيء من العنفوان

Page 227: ذاكرة الجسد

.نقوله لصديق أو لكاتب

وهو يربت على كتفي بيد عصبية كعادته عندما يربكه فضحك ياسين.اعتراف ما

وقال !"بالفرنسية: "أنت أيضا لم تتغير.. مازلت مجنونا.أخرى وضحكنا لنفترق لعدة سنوات

أن تراني كنت أريد أن أكون وفيا لذاكرتنا المشتركة، أم فقط، كنت أريد أعوض بذلك عن عقدتي تجاه "نجمة"، الرواية التي لن أكتبها، والتي كنت

بطريقة أو بأخرى، كانت قصتي أيضا. بأحالمي وخيباتي، بمالمح أشعر أنها حافة اليأس والجنون، الراكضة بين السجن واألولياء )أما( الواقفة على

محمد الغراب، والعموالت لحارس السجن الصالحين، تقدم الذبائح لسيدي الحين واآلخر بقفة األكل الذي اليهودي، الذي كان جارنا.. حتى يأتيني بين

السجن بعد ستة أشهر، تعده لي. )أما( التي كدت ال أعرفها عندما غادرت تطلب والتي أمام انشغال أبي عني وعنها، بتجارته وعشيقاته، أصبحت ال

من الله إال عودتي لها. وكأنني الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر وجودها،.والشاهد الوحيد على أمومتها وأنوثتها المسلوبة

بقصة واحدة، بجنون األمهات المتطرفات في نعم كنا في النهاية جيال وبقصص حب وهمية، وخيبات الحب، بخيانة اآلباء المتطرفين في القسوة،

آخرون على عاطفية، يصنع منها البعض روائع عالمية في األدب، ويتحول.يدها إلى مرضى نفسانيين

سوى محاولة الهروب من صنف تراني ال أفعل شيئا بكتابة هذا الكتاب،المرضى إلى صنف المبدعين؟

..العالم منذ ذلك اللقاء.. منذ ذلك الوداع آه ياسين.. كم تغير:لسان ذلك البطل أنت الذي أنهيت روايتك قائال على

!."عشناه وداعا أيها الرفاق.. أي شباب عجيب ذاك الذي"

!بكثير لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من سنوات شبابنا

..غدا سيكون عرسك إذن ذلك، وأمشي في شوارع قسنطينة، يسلمني زقاق وعبثا أحاول أن أنسى

.إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى

قلت إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟ أما

Page 228: ذاكرة الجسد

أي زقاق من هذه المدينة أين تكونين اآلن إذن؟ في أي شارع.. في وغيابك الدائم، المتشعبة الطرقات واألزقة كقلبك، والتي تذكرني بحضورك

وتشبهك حد االرتباك؟

..لست لي

اآلن لليلة حبك القادمة. يعدون جسدك لرجل آخر ليس أدري أنهم يعدونك.ألنسى الذي يحدث هناك أنا. بينما أهيم أنا على جرحي

.موظف متقاعد مليئا كان يومك، كيوم عروس، وفارغا كان يومي، كيوم

نعيش بمفكرتين منذ زمان أخذ كل واحد منا طريقا مخالفا لآلخر. وها نحنمتناقضتين، إحداهما للفرح وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟

كل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت كانت.فيها تتربصين لي

كل".. كل المدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كل "البيوت المغلقة السجون.. كل المقاهي.. كل الحمامات التي كانت تخرج منها النساء

للحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب الجاهزة أمامي جاهزات التي ألقيت نفسي في سيارة أجرة، ورحت للعرائس. وحتى.. تلك المقبرة

حارسها ألتعرف على أرقام أبحث فيها عن قبر )أما(، وأستعين بسجالت.غير الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك ال

أما(.. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات، في ليلة عرسك) بالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت أدفن جوارها امرأة أخرى توهمتها

أمي؟ يوما

كقلبي، عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. والكثير الغبار تسمرت قدماي، وتجمدت تلك الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيع

.والخيبة

ها هي ذي )أما(.. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي كل ما كنت أملك من كنوز. صدر األمومة الممتلئ.. رائحتها.. خصالت شعرها المحناة..

..".ضحكتها.. حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني.. طلتها

.عوضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر( أمأ)

أرتو. عوضت حبها بأكثر من قصة عوضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولم.حب.. ولم أشف

.لوحة غير قابلة للتقليد وال للتزوير. كانت عطرا غير قابل للتكرار

Page 229: ذاكرة الجسد

األصل عنها؟ لماذا رحت فلماذا في لحظة جنون تصورت أنك امرأة طبقأطالبك بأشياء ال تفهمينها، وبدور لن تطاليه؟

.الحجر الرخامي الذي أقف عنده أرحم بي منك هذا.بالبكاء لو بكيت اآلن أمامه.. ألجهش بدوره

.لو توسدت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من الدفء لمواساتي".ناديته )يا أما..( ألجابني ترابه مفجوعا "واش بيك آ ميمة..؟ لو

أخاف حتى على تراب )أما( من العذاب، هي التي كانت حياتها ولكن كنت.غير مواسم للفجائع ال

كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من األلم، وأحاول كلما زرتها أن اخفي.عنها ذراعي المبتورة

ماذا لو كان للموتى عيون أيضا؟

المقابر ال تنام.. كم كان يلزمني من الكالم وقتها ألشرح لها ماذا لو كانتبعدها؟ كل ما حل بي

.لم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كل ذلك العمر.نبكي دائما فيما بعد نحن

عنه غبار مررت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن أنزع.السنين وأعتذر له عن كل ذلك اإلهمال

..فاتحة على ذلك القبر ثم رفعت يدي الوحيدة ألقرأ

يدي الوحيدة بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. وبدت..الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها

.وأخفيت يدي.. فتنهدت

.والرخام.. ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج مدينة التراب

***

الدائمة له، للقاء كل كان ترقب حسان وزوجته للعرس، واستعداداتهما الذين سيحضرونه من شخصيات وعائالت كبيرة، يجعلني أستمع لهما

أحيانا، وكأنني أستمع إلى أطفال يتحدثون عن "سيرك"، سيحل بمدينة لم.وال مهرجون من قبل يزرها سيرك

Page 230: ذاكرة الجسد

.وكنت لذلك أشفق عليهما.. وأعذرهما

قسنطينة في النهاية، مدينة ال يحدث فيها شيء ما عدا لقد كانت ينتظران "السيرك عمار"، واحتفظت لنفسي األعراس. فتركتهما لفرحتهما

.بخيبتي

ذلك اليوم. وكنت أعرف مسبقا برنامجه من كان كل شيء استثنائيا في.أحاديث السهرة

حاجاته في الصباح، ثم يصلي صالة الظهر في سيذهب حسان لقضاء لنذهب جميعا إلى حضور( المسجد، وبعدها سيمر بي صحبة )ناصر

.العرس

لترافق العروس إلى أما عتيقة فقد تأخذ األوالد وتذهب منذ الصباح الحالق. ثم تبقى هناك لتقوم مع نساء أخريات بخدمة الضيوف وإعداد

.الطاوالت

كنت أشعر برغبة في البقاء في سريري في ذلك الصباح، وعدم مغادرته قبل الظهر، ربما بسبب متاعب البارحة، وربما استعدادا للسهر والمتاعب

..تنتظرني في ذلك اليوم األخرى التي

وربما فقط ألنني لم أعد أدري أين يمكنني أن أذهب، بعدما قضيت أسبوعا كل وأنا أهيم على وجهي في تلك المدينة التي كانت تتربص بذاكرتي في

..شارع. وكنت تختبئين لي فيها خلف كل منعطف

السرير هو المكان الوحيد الذي يمكن أن وجدت بعد تفكير قصير، أن.بلذة وليس بألم أهرب منك إليه. أو على األقل ألتقي فيه معك

..ولكن

اللحظة التي كنت أدري هل سأجرؤ حقا على استحضارك اليوم.. في هذهأنك تتجملين فيها استعدادا لرجل آخر؟

استحضارك في هذا الصباح.. وهل سيغفر لك جسدي هل سأجرؤ على والالحقة؟ كان ذلك جنونا في حقا في لحظة نزوة كل خياناتك السابقة

!!جنون

النهاية، عندما قلت: "سأكون لك ولكن أليس هذا الذي كنت تريدينه في..".في تلك الليلة

.في ذلك الصباح كنت أشعر برغبة في امتالكك وكأنني أريد أن أسرق منك كل شيء، قبل أن أفتقدك إلى األبد. فبعد

Page 231: ذاكرة الجسد

اليوم لن تكوني لي، وستنتهي هذه اللعبة الموجعة الحمقاء التي لم تكن.قبلك هوايتي

.موجعا كان لقائي معك ذلك الصباح.الغامضة فيه كثير من الشراسة والمرارة

.فيه كثير من الحقد والشهوة الجنونية..لو كنت لي

ذلك الصباح.. في ذلك السرير الكبير الفارغ البارد دونك. آه لو كنت لي بذكريات الطفولة المبتورة.. وشهوة الشباب في ذلك البيت الشاسع

.المكبوت الذي مر على عجل

لي.. المتلكتك كما لم أمتلك امرأة هنا. العتصرتك بيدي الوحيدة لو كنت لحولتك إلى قطع.. إلى مواد أولية.. إلى بقايا امرأة... في لحظة جنون

إلى أي شيء غيرك أنت، أي شيء أقل.. إلى عجينة تصلح لصنع امرأة .منك غرورا وكبرياء.. أقل ظلما وجبروتا

أنا الذي لم أرفع يدي الوحيدة في وجه امرأة، ربما كنت ضربتك ذلك اليوم..حد األلم، ثم أحببتك حد األم، ثم جلست إلى جوار جسدك أعتذر له

شيء فيك، أمحو بشفتي حمرة أطرافك المخضبة بالحناء، أقبل كل ألوشمك بشراسة القبل، عساك عندما تستيقظين تكتشفينني مرسوما

ال يرسم إال على على جسدك كالوشم، بذلك اللون األخضر الوحيد الذي!الجسد

وأمتلكك قبله، أم من أين جاءني كل ذلك الجنون؟ أكنت أريد أن أنفرد بك كنت أدري يومها بحدس أو بقرار مسبق أنني أنفق معك آخر رعشات

اللذة، وأنني سأضعك خارج هذا السرير بعد اليوم إلى األبد؟

معك مجرد شهوة. لو كانت لحسمتها يومها بطريقة أو لم تكن مشكلتي.بأخرى

.يمكن أن يمتلكها رجل دون جهد هنالك أكثر من امرأة هنا

.رجل هنالك أكثر من باب نصف مفتوح ينتظر أن يفتحه

هناك جارات تتقاطع خطواتي بهن مرارا في هذه البيوت العربية.وأدري رغبتهن السرية في الحب المشتركة،

المحتشمات.. والمبالغات تعلمت مع الزمن، أن أفك رموز نظرات النساء.في اللياقة والمفردات المؤدبة

.نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى الخطيئة ولكنني كنت أتجاهل

Page 232: ذاكرة الجسد

عن مبدأ.. أم عن حماقة لم أعد أدري اليوم.. إن كنت أتصرف كذلكوشعور غامض بالغثيان؟

وأحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك.. كنت في الواقع أشفق عليهن..المغرورة دون مبرر

البيت دجاجة ممتلئة متشحمة لم يقربها أحد ربما سوى أنهم يمتلكون في!عن قرف

ومدجنة حسب التقاليد وال يتوقع صاحبها أن جناحيها أو أخرى شهية القصيرين.. مازاال يمارسان !القفز.. فطريا

!يا لحماقة الديوك

وشرف كل الرجال مصونا، فمع من إذا كانت كل النساء عفيفات هنا، المجالس الرجالية يزني هؤالء إذن؟ وكلهم دون استثناء يتبجح في

بمغامراته؟

أن هناك من يضحك أليس كل واحد منهم يضحك على اآلخر.. وال يدري!عليه؟

!المتوارثة.. بنزاهة كم أكره ذلك الجو الموبوء بالنفاق.. وتلك القذارة

عندما أبديت لك يحدث عندما تتقاطع نظراتي بهن، أن أستعيد قولك مرة، دهشتي مما جاء في روايتك األولى.. ورحت أستجوبك بحثا عن ذاكرة

.مشبوهة

:قلت

" تكتب هي امرأة ال يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة.. ال تبحث كثيرا منذ فوق كل الشبهات.. ألنها شفافة بطبعها. إن الكتابة تطهر مما يعلق بنا

!"لحظة الوالدة.. أبحث عن القذارة حيث ال يوجد األدب

المتوارثة أمامي في كل مكان، في عيون معظم النساء وكانت القذارة.الجائعات ألي رجل كان

عصبية الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكما قابال لالنفجار.. أمام أول في.أنثى

ولكن كان علي أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم. وأال أترك تلك.تستدرجني إلى الحضيض المدينة

أعاشر امرأة فهنالك مبادئ ال يمكنني التخلي عنها مهما حدث. كأن.متزوجة، تحت أي مبرر كان

Page 233: ذاكرة الجسد

أدري أن مستحيال آخر قد أضيف وربما كان هذا سر حزني اآلخر. فقد كنت.اليوم إلى مستحيالت أخرى يومها، وأنك لن تكوني لي أبدا بعد

.لم أكن خجوال من يدي اليمنى ذلك اليوم

االرتياح، وأنا أكتشف أنني برغم كل ما حل بي مازلت شعرت بشيء من.أحترم جسدي

هذه الحاالت، أال نفقد احترام جسدنا ونحن نمنحه ألول عابر المهم في.سبيل

أن نسكن بعد ذلك إن نحن أهناه.. وإن رفض أن ينسى ذلك؟ فأين يمكن

واتجهت نحو النافذة وأشرعتها وكأنني أفتحها ليخرج رميت فجأة بالغطاء،.النور إلى تلك الغرفة طيفك منها إلى األبد، ويدخل

جنية تتسلل إلي في هذه المدينة المسكونة بالجن والسحرة، ماذا لو كنت حل مع العتمة، تنام إلى جواري، تقص علي قصصا عجيبة، تعدني بألف

سحري لمأساتي.. ثم تختفي مع أول شعاع وتتركني لهواجسي وظني؟

طيفك حقا يومها من سريري.. من غرفتي وذاكرتي. وهرب من هل خرج!أدري تلك النافذة؟ ال

.فتحتها أدري فقط أن قسنطينة، دخلت من تلك النافذة نفسها، التي قلما

وإذا باألذان يفاجئني من أكثر من مئذنة في آن واحد، ويسمرني في.مكاني أمام األقدام المسرعة في كل االتجاهات

بدوره منهمكا في حركة دائمة كامرأة وكان جسر )سيدي راشد( يبدو.وبحماس نهايات األسبوع تستعد لحدث ما.. مأخوذا بهمومه اليومية،

بالخيانة.. وجدت في انشغاله عن حزني ذلك الصباح بالذات شيئا شبيها.وعدم العرفان بالجميل

..وجهي.. ورددت النافذة قررت بدوري أال أجامله.. فأغلقت في وجهه

األلوان.. تكاد توازي وفجأة.. انتابتني رغبة جارفة للرسم. زوبعة شهوة .رغبتي الجنسية السابقة وتساويها عنفا وتطرفا

أعد في حاجة إلى امرأة.. شفيت من جسدي وانتقل األلم إلى أطراف لم..أصابعي

النهاية لم يكن السرير مساحة للذتي وال لطقوس جنوني. وحدها تلك في المشدودة إلى الخشب كانت قادرة على إفراغي من المساحة البيضاء

Page 234: ذاكرة الجسد

.ذاتي

.لعنتي، أبصق مرارة عمر من الخيبات فيها أريد أن أصب اآلن لهذه المدينة الملتحفة أفرغ ذاكرة انحازت للون األسود.. مذ انحزت

مثلث _حماقة_ بالسواد منذ قرون، والتي تخفي وجهها _تناقضا_ تحت.أبيض لإلغراء

التي تعيش مغلقة وسط سالما أيها المثلث المستحيل.. سالما أيتها المدينة(.ثالوثها المحرم ) الدين – الجنس – السياسة

عباءتك السوداء.. ابتلعت من رجال. فلم يكن أحد يتوقع أن تكون كم تحت..برمودا( وشهيته لإلغراق )لك طقوس مثلث

الصباح. والغيظ يملؤني كانت األفكار الرمادية تتوالد في ذهني في ذلك لمرافقتي تدريجيا كلما تقدمت الساعة واقترب وقت قدوم حسان وناصر

.إلى ذلك البيت، ألحضر عرسك من أن أحلق ذقني أو وكان غيظي وخيبتي قد شال يدي ومنعاني حتى

.أستعد لذلك الفرح المأتم بعصبية مدمن تنقصه رشفة كنت أذهب وأجيء فجأة في تلك الغرفة

.أفيونه

اليوم إلمساك فرشاة، كيف لم أتوقع أن أشعر بهذه الحاجة المرضية وبهذه الرغبة الجارفة للرسم؟ تلك الرغبة التي ال تقاوم، والتي تصبح ألما

في أطراف األصابع، وتوترا جسديا ينتقل من عضو إلى آخر؟

أريد أن أرسم.. وأرسم.. حتى أفرغ من كل شيء. وأقع ميتا.. أو كنت .ونشوة مغمى علي إرهاقا

من األرجح أنني هذه المرة لن أرسم جسورا وال قناطر. ربما رسمت نساء بمالءات سوداء.. ومثلثات بيضاء.. وعيون كاذبات، واعدات بفرح ما.

.كاذب في معظم األحيان.. تماما مثل اللون األبيض فاللون األسود لون

.هكذا واقفا، عاجزا أمام لوحة بيضاء وقد ال أرسم شيئا، وأموت

ببياض، وننسحب على رؤوس فهل أروع من أن نوقع مساحة بيضاء توقع حياتنا، األصابع، مادمنا لم نوقع شيئا في النهاية، ووحدها األقدار

وتفعل بنا ما تشاء؟

المراوغة؟ لماذا التحايل على األشياء إذن.. لماذا

أما كنت لوحتي؟ ما فائدة أن أكون رسمتك ألف مرة، مادام آخر سيضع توقيعه عليك اليوم، سيضع بصماته على جسدك، واسمه جوار أوراقك

Page 235: ذاكرة الجسد

الثبوتية؟

وماذا تفيد عشرات المساحات التي غطيتها بك، أمام سرير سيحتويجسدك.. ويخلد أنوثتك األبدية؟

سيضع توقيعه نيابة عني أي جدوى لما أرسمه.. إذا كان هناك دائما منكالعادة؟

***

الهاتف، وأخرجني للحظة في تلك اللحظة المتقدمة من اليأس، دق فجأة ألرد من وحدتي وهواجسي. فرحت أسرع نحو الغرف البعيدة األخرى،

.عليه

:كان حسان على الخط. سألني دون مقدمات

تعمل..؟ واش راك-

:أجبته بشيء من الصدق

- ..ما كنت غافيا شيئا

:قال

أريد أن حسنا إذن.. توقعت أن تكون جاهزا وتنتظرني منذ مدة. كنت- .أحله أخبرك أنني قد أتأخر بعض الوقت. هنالك مشكل صغير يجب أن

:سألته متعجبا

أي مشكل؟-

:قال

..طلع لي ناصر اليوم؟ إنه ال يريد أن يحضر عرس أخته تصور بماذا-

قلت وأنا أزداد :فضوال

لماذا؟-

:قال

Page 236: ذاكرة الجسد

يلتقي بالضيوف وال بالعريس.. وال حتى إنه ضد هذا الزواج.. وال يريد أن- !بعمه

:سألته كدت أقاطعه "معه حق".. ولكنني

وأين هو اآلن؟-

:قال

إنه يفضل أن يقضي يومه هناك بدل أن لقد تركته في المسجد. قال لي- ..."!يقضيه مع هؤالء "القوا

ضحكت من قلبي. ولم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق وألول مرة:بصوت عال

".!والله "نستعرف بيه.. رائع ناصر-

:والعجب ولكن حسان قاطعني بصوت فيه شيء من العتاب

..واش بيك هبلت إنت تاني.. عيب.. شفت واحد ما يروحش لعرس أختو- ..واش يقولوا الناس

..يرحم والديك الناس.. الناس.. يقولوا واش يحبوا.. خلينا يا راجل-

:وقبل أن أقول له شيئا قال

عليم حال ما انتهي. سنتحدث في هذا ابق في البيت إذن.. سأمر- من الناس )... على الموضع فيما بعد، فأنا أحدثك من مقهى، وحولي كثير

..!(.بالك

:ثم أضاف

..لك عتيقة ستجد في المطبخ أكال أعدته-

.وضعت السماعة. وعدت إلى غرفتي

كنت فقط أشعر بشيء من الظمأ الصباحي،. لم أكن في حاجة إلى أكل الهاتف، مذاق السعادة وبشيء من المرارة التي صار لها فجأة بعد ذلك

.الغامضة

شخصا آخر يشاركني لقد مألني موقف ناصر غبطة. شعرت أن هناك..طريقته حزني دون علمه، ويقف معي ضد هذا الزواج، ولكن على

Page 237: ذاكرة الجسد

.فحل ناصر، جدير بأن يكون ابن سي الطاهر

ولكن أتوقع أن يكون )راسو خشين..( مثل أبيه. أن يكون. لم ألتق به بعد .مثله عنيدا ومباشرا

.وإذا كان فعال مثله فلن ينجح حسان أبدا في تغيير رأيه أذكر عناد سي الطاهر وقراراته النهائية دائما، التي ال يمكن ألحد مازلت

.عنها أن يزيحه

وقتها كنت أجد في تلك المواقف شيئا من الدكتاتورية، وغرور القائد. ثم مع الزمن، أدركت أنه كان ال بد للثورة في أيامها األولى من رجال مثل

بذلك العناد، وتلك الثقة المطلقة بالنفس، حتى يفرضوا سي الطاهر، ليس حبا بالجاه والسلطة، إنما للم شمل رأيهم وسلطتهم على اآلخرين،

الشخصية، وحتى ال تموت الثورة وعدم ترك مجال للخالفات واالعتبارات..تلك الشعلة األولى وتبعثرها الرياح

..الطاهر فجأة. في لحظة لم أحجزها له عادت ذكرى سي

أفرغوها في جسده يوما، وعادت طلته، موجعة كتلك الرصاصات التي.وأودت به قبل أن يشهد استقالل الجزائر بأشهر

ليحضر هذا اليوم االستثنائي الذي سيخلف موعده أيضا؟ أين هوفرحتين؟ أكان قدره أن يخلف

رحل كما جاء، سابقا لزمنه، وكأنه أدرك أنه لم يخلق للزمن اآلتي. كنت.أعي بشيء من المرارة، أن كل الذين أحبوك لن يحضروا عرسك هذا

فرحك كل الذين كنت فرحتهم. سي الطاهر وزياد.. وناصر سيتغيب عن .أيضا

علي تلك القرعة، وقادتني األقدار إليك؟ لماذا وحدي وقعت

الذاكرة والحنين.. وذلك الحب الجنوني ولماذا استدرجتني حتى هنا، باسم األحالم وهما.. "سأكون المستحيل، وقلت تلك الجملة التي مألت جيوب

..".لك مادمنا في قسنطينة

وجئت؟.. كيف صدقتك

..وكنت أدري انك تكذبين، وتهدينني الغيوم البيضاء.. لصيف طويل. ولكنمن يقاوم مطر الكذب الجميل؟

الجوية. لكن عندما هنالك أكاذيب نحاول أن نصدقها حتى نحرج النشراتتنهطل األمطار داخلنا.. من يجفف دمع السماء؟

Page 238: ذاكرة الجسد

.كنت امرأة سادية، وكنت أعرف ذلك في الواقع هتلر ابنة في هذا العالم.. أذكر ذلك اليوم الذي قلت لك فيه: "لو خلف

!".لكنت ابنته الشرعية

حاكم جبار واثق من قوته. وعلقت أنا ضحكت يومها. ضحكت.. ضحكة حبك، أنا الهارب من حكم بسذاجة الضحية: "ال أدري ما الذي أوصلني إلى

..!".طاغية الجبابرة.. أيمكن بعد هذا العمر أن أقع في حب امرأة

ابتسمت فجأة.. ثم قلت بعد شيء من الصمت: "مدهش أنت عندما..".تفجر في أكثر من موضوع للكتابة.. سأكتب يوما هذه الفكرة تتحدث،

!ذات يوم.. صحيح أنها تصلح لرواية اكتبيها إذن

.ملجئي الوحيد، ألنسى خيبتي معك في ذلك الصباح، كانت الخمرة

ونافذة تطل على المآذن في تلك الغرفة التي يؤثثها سرير فارغ، نجاة والجسور، وطاولة فارغة من لوازم الرسم، لم أجد لي من طوق

سوى بضع أوراق وأقالم فقط، وزجاجة ويسكي أحضرتها لحسان قبل أن في حقيبتي تنتظر. فأحضرتها ورحت أشرب ذلك الصباح يتوب، ومازالت

.قسنطينة نخب زياد وسي الطاهر.. ونخب

تذكرت مسرحية أعجبت بها يوما. فكتبت أعلى الصفحة، دون كثير من".التفكير "كأسك يا قسنطينة

المدينة التي تمنع عنك وضحكت لهذا الدور الذي كان جاهزا لي في هذه.الخمرة، وتوفر لك كل أسباب شربها

أنني كنت أخط خالصة خيبتي كلمتين قد تصلحان لم أكن أدري وقتها،.فكرته يومها عنوانا لهذا الكتاب، الذي ربما ولدت

.الكاذب كانت بي رغبة لتحديك وتحدي هذه المدينة.. وهذا الوطن

رفعت كأسي المآلى بك.. نخب ذاكرتك التي تحترف مثله النسيان. نخب.عينيك اللتين خلقتا لتكذبا

.الدموع نخب فرح الليلة الجاهز للبكاء.. نخب بكائي العاجز عن أنت التي صالحتني مع الله، وأعدتني يوما إلى العبادة. ها أنت تخونينني

..ليلة جمعة.. تحلين دمي، وتطلقين علي رصاص الغدر

!من أكثرنا كفرا يا ترى.. فلماذا ال أسكر اليوم

Page 239: ذاكرة الجسد

وحزني في الواقع، لم تكن الخمرة هوايتي. كانت مشروب فرحي التطرف. ولذا ارتبطت بك وبتقلباتك الجنونية. ففي كل مرة شربت فيها

.لحدث ما في قصتنا التي ال تنتهي كنت أؤرخ

وأرتكب جنوني األخير. فال.. وها أنا أفتح على شرفك زجاجتي األخيرة اليوم.. وأشيعك أعتقد أنني قد أسكر بعد اليوم. ألنني سأغسل يدي منك

.على طريقتي

هذه اللحظة في أحد وحده أمر ناصر يعنيني اآلن، أخيك الذي يصلي في الليلة.. مساجد هذه المدينة، لينسى مثلي، أنهم سيتناوبون على وليمتك

..وأن هناك من سيتمتع بك في غفلة منا

!ال غير.. في الواقع.. كنت أسكر نخبه

..إيه ناصر

.أنا.. وأنت.. وهذه المدينة

معنا في التطرف والجنون. مدينة "سادية" تتلذذ بتعذيب مدينة تواطأت ووضعتنا كما تضع سلحفاة بحرية أوالدها عند. أوالدها. حبلت بنا دون جهد

..األمواج والطيور البحرية شاطئ وتمضي دون اكتراث، لتسلمهم لرحمة

روا.." يقول" الفكرون" في ذلك المثل "إفكروا.. وإال الله ال يجعلكم تفك.الشعبي وهو يتخلى عن أوالده

.نبحث عن قدرنا بين الحانات والمساجد.. وها نحن بال أفكار

حتى ال تهرب، قلبوها في محاولة ها نحن سلحفاة تنام على ظهرها. قلبوها..انقالب على المنطق

في المدن العريقة، حيث نولد ونموت وسط فكم يشبه الميالد الموت!مجرى الهواء والرياح المضادة

!أكبر يتم السالحف في هذه المدينة وما أكتب أمام تلك الطاولة عندما جاء حسان بعد ذلك، وفاجأني جالسا

وأمامي زجاجة ويسكي نصف فارغة، كاد يشهق من العجب. وظل ينظر إلي مدهوشا وكأنني بفتح تلك الزجاجة أخرجت له ماردا، أو جنا أطلقته

.البيت في

:حاولت أن أمازحه فسألته بسخرية

Page 240: ذاكرة الجسد

تر زجاجة كهذه قبل اليوم؟ لماذا تنظر إلي هكذا.. ألم-

أمامي، وذهب بها إلى ولكنه دون أي رغبة في المزاح أخذ الزجاجة من.يصلني المطبخ، وهو يسب ويتحدث لنفسه كالما لم يكن

:ناصر وعندما عاد قال لي بنبرة فيها شيء من اليأس وبقايا من متاعب

التي يا أخي واش بيكم.. البالد متخذة وأنتما واحد التي يصلي.. وواحد- يسكر.. كيفاش نعمل معاكم؟

عدة سنوات "البالد توقف سمعي عند ذلك التعبير الذي لم أسمعه منذ استثنائيا، والذي متخذة" والذي يعني أن البالد قائمة قاعدة.. أو تشهد حدثا

.هو في الواقع تعبير جنسي محض

قدرة هذه المدينة على زج الصور ابتسمت وأن أكتشف مرة أخرى..مدهشة الجنسية في كل شيء. وذلك ببراءة

:رفعت عيني نحوه وقلت له بشيء من السخرية المرة

الجزائر يا حسان.. البعض يصلي.. والبعض يسكر.. واآلخرون هذه هي- .."!البالد أثناء ذلك "ياخذوا في

.النقاش ولكن حسان لم يبد على استعداد للتمادي معي في

ربما ألنه بعد ذلك الوقت الذي قضاه في إقناع ناصر لم يعد قادرا على:المزيد من المناقشة. فقال وهو يقاطعني

وتطير عنك هذه السكرة.. ثم سأذهب ألحضر لك القهوة، حتى تفيق- سنوات. يجب أال نتحدث. إن الناس ينتظروننا هناك وبعضهم لم يرك منذ

!تذهب إليهم في هذه الحالة

:سألته عندما عاد بعد لحظات بالقهوة

ماذا فعلت مع ناصر؟-

:قال

وقت العشاء إرضاء لخاطري فقط، ولكنه لن لقد وعدني أنه سيمر هناك- فعال. ال أفهم عناده هذا.. إنه يمكث طويال. وبرغم ذلك أشك في أن يحضر

يقف في عرسها أمام ال يملك سوى أخت واحدة في النهاية.. وال يمكن أال.الناس

Page 241: ذاكرة الجسد

!جنون

حسب تعبير حسان. ولكن كنت أحتسي تلك القهوة حتى يطير سكري،.إليه كنت أشعر في الواقع أنني أزداد سكرا أو جنونا، وأنا أستمع

كتلك اللحظة التي سألته فيها عن سبب مقاطعة ناصر لهذا العرس، وإذا.بالحديث يجرنا إلى أكثر من موضوع

:قال

يعتقد أنه استفاد كثيرا من اسم سي إنه على خالف مع عمه. فهو- وأوالده. وهذا العرس ال هدف له الطاهر، وأنه قلما اهتم بمصير زوجة أخيه

اختيار عمه لهذا غير أسباب وصولية ومطامع سياسية محض.. فهو ضد العريس السيئ الصيت سياسيا وأخالقيا. فالجميع يتحدث عن العموالت التي يتقاضاها في صفقاته المختلفة.. وعن حساباته في الخارج.. وعن

الجزائريات.. واألجنبيات. إضافة إلى كون هذا الزواج زواجه عشيقاته ..يقارب عمرهم عمر عروسه الجديدة الثاني، وأن له أوالدا

:سألته

طبيعيا؟ وهل تجد أنت هذا الزواج-

:قال

بمنطق األشياء ال أدري بأي منطق تريد أن أحكم عليه. من المؤكد أنه- ..عندنا زواج طبيعي. إنه ليس أول زواج من هذا النوع، ولن يكون األخير

إن لمعظم الرجال المهمين هنا أكثر من عشيقة. وكلهم تخلوا بطريقة أو بأخرى عن زوجاتهم وأوالدهم، ليتزوجوا من عروس جديدة أصغر عمرا

األولى.. إنك ال تستطيع أن تمنع رجال عندنا زادوا له وأكثر جماال وثقافة من امرأة في بيته، أو تمنع رجال حصل على نجمة على أكتافه، من أن يزيد

.عن فتاة أحالمه منصب جديد لم يحلم به، من أن يبدأ في البحث

:وأضاف

بالضرورة القضاء على أنا حاولت فقط أن أقنع ناصر أن عمه لم يقصد- مستقبل أخته بهذا الزواج. بل إن أي شخص سواه كان سيرحب بهذه المصاهرة.. ويسعى إليها الهثا.. إنها الطريقة الوحيدة ليحل مشكالته

..مرة واحدة، ويوفر عليها كثيرا من المتاعب ومشكالت ابنته

:سألته

Page 242: ذاكرة الجسد

وخطبها منك هذا الرجل، أكنت زوجته منها؟ لو كانت لك بنت-

:قال

الزواج حالل.. الحرام هو ما يمارسه بعضهم بطرق طبعا.. ولم ال؟ إن- زوجته.. أو أخته لتحضر له ورقة من عصرية. كأن يرسل أحدهم ابنته أو

عنه، وهو يعلم أن ال أحد إدارة، أو تطلب شقة أو رخصة لمحل تجاري نيابة أخرى هنا يعطيك شيئا بال مقابل. لقد خلق البسطاء بأنفسهم عملة

!للتداول ويقضون بها حاجاتهم.. هات امرأة.. وخذ ما تشاء

:بذهول تمتمت

أحق ما تقول؟-

:أجاب

مدينة.. وفي العاصمة بالذات.. حيث إنه ما يحدث اآلن في أكثر من- على شقة أو خدمة يمكن ألي فتاة تمر بمكتب ما في الحزب أن تحصل

أخرى.. والجميع يعرف العنوان طبعا، ويعرف اسم من يوزع الشقق والخدمات على النساء والشعارات على الشعب بالتساوي.. يكفي أن ترى

..الالتي يدخلن هناك لتفهم كل شيء منظر الفتيات

:سألته

بها؟ ومن أدراك- :قال متذمرا

هناك منذ بضعة أشهر من؟ لقد سمعته بأذني وشاهدته بعيني يوم ذهبت- سلك ألقابل صديقا موظفا في الحزب.. عساه يساعدني في الخروج من

التعليم. تصور.. حتى البواب لم يكلف نفسه مشقة الحديث إلي.. وعبثا له أنني قادم من قسنطينة لهذا الغرض. وحدهن النساء كن رحت أشرح

وعندما أبديت تذمري "لألخ الفراش" أجابني.. جديرات بالعناية هناك الزائرات موظفات في بشيء من العصبية، و"التشناف" أن معظم

تمر أمامي االتحادات الحزبية.. أو مناضالت. وكدت أسأله وأنا أرى إحداهن."بأي "عضو" ناضلن على التحديد..؟" ولكنني سكت

روح.. كل شي أصبح يمر بالنساء اليوم. بالسهرات.. إيه.. يا ولدي الخيار لزوجت ابنتي من واحد يمكنه المجالس الخاصة. ولذا لو كنت أملك

مثلي يعيش معها في بهاتف أن يأتيها بكل شيء. على أن أعطيها لواحد تدق على البؤس كما أعيش أنا.. أو يدخل في هذه الحلقة القذرة.. ويبعثها

مئة باب؟

Page 243: ذاكرة الجسد

المرارة التي ربما الحظ وقتها آثار الصدمة المدهشة على مالمحي.. وتلك:أسكتتني من الهول، عندما أضاف وكأنه يستدرك ليخفف من خيبتي

على كل حال.. لن يحدث هذا. حتى لو عرضت ابنتي على )سي....(- بها. إنهم ال يتزوجون إال من بعضهم. ففالن ال فمن المؤكد أنه لن يقبل

في دقيقنا.!" ويضمنوا ألنفسهم التنقل يريد إال بنت فالن، حتى "يبقى زيتنا أن يستطيع شاب من كرسي سلطة إلى آخر، فكيف تريد في هذا الجو

بسيط أن يبني حياته؟ كل البنات يبحثن عن المسؤولين والمديرين والرجال الجاهزين.. وهؤالء يعرفون ذلك فيزيدون من شروطهم كل مرة..

.العوانس يزيد كل يوم.. إنه قانون العرض والطلب بينما عدد

فإنك حتما تعذر سي الشريف. المهم أن يستر إذا رأيت األمور بهذه العين، .سعيدا قدر اإلمكان بنت أخيه، ويضمن لها ولنفسه مستقبال

تريد أن تفعل؟ كلهم أما كون العريس سارقا وناهبا ألمالك الدولة.. فماذا سراق ومحتالون. هنالك من انفضحت أموره، وهنالك من عرف كيف

!يحافظ على مظهر محترم.. فقط

.أصبت بذهول وأنا أستمع إليه

له إنه في النهاية على حق. وربما كان سي الشريف أيضا على كدت أقول.أدري حق.. ال

عقلي وأقتنع ولكن كان هناك شيء ما في هذا الزواج، يرفض أن يدخل.به

السادس الفصل

.لعرسك لبست بدلتي السوداء!يمكن أن يلبس لألفراح.. وللمآتم. مدهش هذا اللون

لماذا اخترت اللون األسود؟ أحببتك أصبحت صوفيا، وأصبحت أنت مذهبي وطريقتي. ربما ألنني يوم

.وربما ألنه لون صمتي.لغته. قرأت يوما أن األسود صدمة للصبر لكل لون

مرة مصمم أزياء شهيرا، قرأت أيضا أنه لون يحمل نقيضه. ثم سمعت: يجيب عن سر لبسه الدائم لألسود قال

".حاجزا بيني وبين اآلخرين إنه لون يضع"

Page 244: ذاكرة الجسد

ولكني سأكتفي بقول. ويمكن أن أقول لك اليوم الكثير عن ذلك اللون.مصمم األزياء هذا

بيني وبين كل الذين سألتقي فقد كنت في ذلك اليوم أريد أن أضع حاجزا.فرحك بهم، كل ذلك الذباب الذي جاء ليحط على مائدة .وربما كنت أريد أن أضع حاجزا بيني وبينك أيضا

ألواجه بصمت ثوبك األبيض، المرشوش بالآللئ لبست طقمي األسود، ..في دار أزياء فرنسية والزهور، والذي يقال إنه أعد لك خصيصا

هل يمكن لرسام أن يختار لونه بحياد؟ فللحزن أناقته أيضا. أكدت لي المرآة ذلك. ونظرة حسان،. وكنت أنيقا

وقال بلهجة جزائرية أحبها، وهو يتأملني: الذي استعاد فجأة ثقته بي،..!".إهلكهم.. "هكذا نحبك آ خالد

.نظرت إليه.. كدت أقول له شيا.. ولكني صمت

المشرع للسيارات، وأفواج القادمين، استقبلني سي الشريف عند الباب..باألحضان

- سي خالد.. أهال.. زارتنا البركة.. يعطيك الصحة اللي جيت.. راك أهال.اليوم فرحتني

:اختصرت ذلك الموقف العجيب مرة أخرى في كلمة. قلت

..مبروك كل شيء-

.السهرة وضعت قناع الفرح على وجهي. وحاولت أن أحتفظ به طوال تلك

يمتلئ البيت زغاريد. ويمتلئ صدري بدخان السجائر التي أحرقها وتحرقني. يمتلئ قلبي حزنا. ويتعلم وجهي تلقائيا االبتسامات الكاذبة.

اآلخرين. أجالس من أعرف ومن ال أعرف. أتحدث في الذي فأضحك مع أخلو بك لحظة واحدة.. حتى ال أفاجئك أدري والذي ال أدري. حتى ال

.داخلي.. فأنهار

:يقبلني بشوق صديق قديم لم يلتق به منذ مدة أسلم على العريس الذي

!موش هاذا العرس.. ما كناش شفناك هاك جيت للجزائر آ سيدي.. كان-

يتحدث إلي مجاملة على أحاول أن أنسى أنني أتحدث لزوجك، لرجل..الليل عجل، وهو يفكر ربما في اللحظة التي سينفرد فيها بك في آخر

التي أتأمل سيجاره الذي اختاره أطول للمناسبة.. بدلته الزرقاء الحريرية

Page 245: ذاكرة الجسد

يلبسها _أو تلبسه_ بأناقة من تعود على الحرير. أحاول أال أتوقف عند.أحاول أال أتذكر. أتلهى بالنظر إلى وجوه الحاضرين. جسده

..وتطلين

في موكب نسائي، يحترف البهجة والفرح، كما أحترف أنا الرسم تدخلين.والحزن

مرة، بعد كل أشهر الغيبة تلك، تمرين قريبة وبعيدة، كنجمة أراك ألول األثواب والخطى، وسط الزغاريد ودقات البندير. هاربة. تسيرين.. مثقلة

طفال أركض في بيوت قسنطينة القديمة. وأغنية تستفز ذاكرتي، وتعود بي في مواكب نسائية أخرى.. خلف عروس أخرى.. لم أكن أعرف عنها شيئا

.يومذاك

العرائس، والتي كانت آه كم كنت أحب تلك األغاني التي كانت تزف بها!تطربني دون أن أفهمها. وإذا بها اليوم تبكيني

الباب يا أم العروس.." يقال إن العرائس يبكين دائما عند سماع شرعي".األغنية هذه

تراك بكيت يومها؟

دمعي وحشد الحضور. فعدلت كانت عيناك بعيدتين.. يفصلني عنهما ضباب.عن السؤال

.األخير اكتفيت بتأملك، في دورك

ها أنت ذي تتقدمين كأميرة أسطورية، مغرية شهية، محاطة بنظرات.االنبهار واإلعجاب.. مرتبكة.. مربكة، بسيطة.. مكابرة

رجل في سره كالعادة.. تحسدك كل النساء ها أنت ذي، يشتهيك كل..حولك كالعادة

.أواصل ذهولي أمامك_ وها أنذا _ كالعادة

.والكراسي األمامية وها هوذا "الفرقاني".. كالعادة.. يغني ألصحاب النجوم

القرار يصبح صوته أجمل، وكمنجته أقوى عندما يزف الوجهاء وأصحاب.والنجوم الكثيرة

صوت واحد تعلو أصوات اآلالت الموسيقية.. ويرتفع غناء الجوقة في:لترحب بالعريس

..يا ديني ما أحاللي عرسو.. بالعوادة"

Page 246: ذاكرة الجسد

..يقطعلو عادة الله ال"وانخاف عليه.. خمسة. والخميس عليه

.وتتساقط األوراق النقدية.. تعلو الزغاريد

تدفع كما تقبض على ما أقوى الحناجر المشتراة. وما أكرم األيدي التي!عجل

..ها هم هنا

.كالعادة.. كانوا هنا جميعهم

على أصحاب البطون المنتفخة.. والسجائر الكوبية.. والبدالت التي تلبس.أكثر من وجه

أصحاب كل عهد وكل زمن.. أصحاب الحقائب الدبلوماسية، أصحاب المهمات المشبوهة، أصحاب السعادة وأصحاب التعاسة، وأصحاب

.الماضي المجهول

..هم هنا ها

.وزراء سابقون.. ومشاريع وزراء. سراق سابقون.. ومشاريع سراق مديرون وصوليون.. ووصوليون يبحثون عن إدارة. مخبرون سابقون..

.ثياب وزارية وعسكر متنكرون في

..ها هم هنا

أصحاب العقول الفارغة،. أصحاب النظريات الثورية، والكسب السريع.الجمع والفيالت الشاهقة، والمجالس التي يتحدث فيها المفرد بصيغة

ها هم هنا.. مجتمعون دائما كأسماك القرش. ملتفون دائما حول الوالئم..المشبوهة

!"الحارة أعرفهم وأتجاهل معظمهم "ما تقول أنا.. حتى يموت كبار

.أعرفهم وأشفق عليهم

علمهم وفي جهلهم. في صعودهم ما أتعسهم في غناهم وفي فقرهم. في!السريع.. وفي انحدارهم المفجع

.ذلك اليوم الذي لن يمد فيه أحد يده حتى لمصافحتهم ما أتعسهم، في

العرس عرسهم. فليأكلوا وليطربوا. وليرشقوا في انتظار ذلك.. هذا

Page 247: ذاكرة الجسد

كما في كل عرس قسنطيني الوراق النقدية. وليستمعوا للفرقاني يردد".أغنية "صالح باي

للعبرة، لتذكر أهل هذه المدينة بفجيعة تلك التي مازالت منذ قرنين تغنى..ألحد )صالح باي( وخدعة الحكم والجاه الذي ال يدوم

والتي أصبحت تغنى اليوم بحكم العادة للطرب دون أن تستوقف كلماتها ..أحدا

كانوا سالطين ووزراء *** ماتوا وقبلنا عزاهمكثرة *** ال عزهم.. ال غناهم نالوا من المال

.."مالو قالوا العرب قالوا *** ما نعطيو صالح وال

من أتذكر وأنا أستمع لهذه الكلمات، أغنية عصرية أخرى وصلتني كلماتها مذياع بموسيقى راقصة.. تتغزل بصالح آخر "صالح.. يا صالح.. وعينيك

..".عجبوني وليس.. إيه يا قسنطينة، لكل زمن "صالحه".. ولكن ليس كل "صالح" بايا

!كل حاكم صالحا

حقا؟ ها هوذا الوطن اآلخر أخيرا أمامي.. أهذا هو الوطن

في كل مجلس وجه أعرف عنه الكثير. فأجلس أتأملهم، وأستمع لهم.ويتذمرون يشكون

.ال أحد سعيد منهم حسب ما يبدو الذين يبادرونك بالشكوى، وبنقد األوضاع.. وشتم المدهش أنهم هم دائما

.الوطن

!الظاهرة عجيبة هذه

كأنهم لم يركضوا جميعا خلف مناصبهم زحفا على كل شيء. كأنهم ليسوا..جزءا من قذارة الوطن. كأنهم ليسوا سببا في ما حل به من كوارث

على )سي مصطفى(. لقد أصبح وزيرا منذ ذلك اليوم الذي زارني أسلم.ورفضت أن أبيعه إياها. فيه ليشتري مني لوحة

..رابح لقد نجحت تكهنات )سي الشريف( إذن، فقد راهن على حصان

:أسأله مجاملة

Page 248: ذاكرة الجسد

واش راك سي مصطفى؟-

:بالشكوى فيبدأ دون مقدمات

..!رانا غارقين في المشاكل.. على بالك-

مصادفة، مقولة لديغول: "ليس من حق وزير أن يشكو.. تحضرني وقتها، فال أحد أجبره على أن يكون !".وزيرا

..أحتفظ بها لنفسي وأقول له فقط

..بالي إيه.. على-

كعمولة نعم.. كنت )على بالي..( بتلك المبالغ الهائلة التي تقاضاها في كندا لتجديد معدات إحدى الشركات الوطنية الكبرى. ولكنني كنت أخجل أن

ذلك، ألنني أدري أن الذين سبقوه إلى ذلك المنصب.. لم يفعلوا أقول له.منه أحسن

اكتفيت فقط باالستماع إليه وهو يشكو، بطريقة تثير شفقة أي مواطن..مسكين

بينما كان حسان مشغوال عني بالحديث مع صديق قديم.. كان أستاذا!للعربية.. قبل أن يصبح فجأة.. سفيرا في دولة عربية

ذلك؟ كيف حدث

يقال إنه رد دين.. وقضية "تركة" وصداقة قديمة تجمع ذلك األستاذ بوالد!إحدى الشخصيات.. وأنها ليست "الحالة الدبلوماسية" الوحيدة

الذي أعرفه جيدا والذي كان مدير إحدى المؤسسات( مثل )سي حسين الثقافية، يوم كنت أنا مديرا للنشر. وإذا به بين ليلة وضحاها يعين سفيرا

الداخل. فتكفلوا بلفه بضعة أشهر في الخارج.. بعدما طلعت رائحته في!علم الجزائر وبعثه إلى الخارج مع كل التشريفات الدبلوماسية خلف

.ها هوذا اليوم هنا.. في جوه الطبيعي

قضية احتيال وتالعب بأموال الدولة في الخارج، ليعاد لقد استدعي إثر.ولكن على كرسي جانبي هذه المرة.. دون ضجيج إلى وظيفة حزبية

!شرفية هنالك دائما في هذه الحاالت.. سلة مهمالت

في مجلس آخر، مازال أحدهم ينظر ويتحدث وكأنه مفكر الثورة وكل ما

Page 249: ذاكرة الجسد

سيليها من ثورات. وإحدى ثورات هذا الشخص.. أنه وصل إلى الصفوف مشبوهة، بعدما تفرغ لتقديم طالباته إلى مسؤول األمامية في ظروف..الصغيرات عجوز مولع بالفتيات

..هذا هو الوطن

السيرك عمار".. سيرك ال مكان "وها هو عرسك الذي دعوتني إليه. إنه البهلوانية.. والقفز على فيه إال للمهرجين، ولمن يحترفون األلعاب

.القيم المراحل.. والقفز على الرقاب.. والقفز على

سيرك يضحك فيه حفنة على ذقون الناس، ويروض فيه شعب بأكمله على.الغباء

!فكم كان ناصر محقا عندما لم يحضر هذا الكرنفال

بحدس ما أنه لن يحضر.. ولكن أين هو اآلن.؟ كنت أدري

لكي ال يلتقي بهم. وهل تغير صالته.... تراه مازال يصلي في ذلك المسجدأو يغير سكري شيئا؟

عن الصالة يا ابني. لقد أصبحوا يصلون أيضا ويلبسون آه يا ناصر! كف وتعال نفكر قليال. فأثناء ذلك ها هوذا.. ثياب التقوى. كف عن الصالة

.الوليمة الذباب يحط على كل شيء، والجراد يلتهم هذه

كلما تقدم الليل، تقدم الحزن بي، وتقدم بهم الطرب. وانهطل مطر األوراق النقدية عند أقدام نساء الذوات، المستسلمات لنشوة الرق، على

..أشهر أغنية شعبية وقع موسيقى

.."ومخداتو إذا صاح الليل وين انباتو *** فوق فراش حرير"

..أمان.. أمان

..إيه آ الفرقاني غن

لهذه األغنية بأزمة السكن، كما قد يبدو من الوهلة األولى. إنها ال عالقة الحمراء واألسرة الحريرية التي ليست في متناول فقط تمجيد لليالي

.الجميع

.."عين ما تبكيش ع اللي ماتوا ع اللي ماتوا.. يا"

.أمان.. أمان

Page 250: ذاكرة الجسد

.لسي الطاهر.. وال لزياد لن أبكي.. ليست هذه ليلة

ليست للشهداء وال للعشاق. إنها ليلة الصفقات التي يحتفل بها علنا.بالموسيقى والزغاريد

.."لندراش للغير وإال لي خارجة من الحمام بالريحية *** يا"

.أمان.. أمان

السؤال. اآلن أعي أنك للغير ولست لي. تؤكد لن أطرح على نفسي هذا بك، ويرافقك بالزغاريد إلى ليلة ذلك األغنيات، وذلك الموكب الذي يهرب

.حبك الشرعية

تمرين.. وأنت تمشين مشية العرائس تلك، أشعر وعندما تمرين بي، عندما وإنما بقدميك المخضبتين" أنك تمشين على جسدي، ليس "بالريحية

..يوقظ الذاكرة بالحناء.. وأن خلخالك الذهبي يدق داخلي، ويعبرني جرسا

..قفي

!على عجل قسنطينة األثواب مهال! ما هكذا تمر القصائد

ثوبك المطرز بخيوط الذهب، والمرشوش بالصكوك الذهبية، معلقة شعر كتبتها قسنطينة جيال بعد آخر على القطيفة العنابي. وحزام الذهب الذي

.لتتدفقي أنوثة وإغراء، هو مطلع دهشتي يشد خصرك،.شعر عربي هو الصدر والعجز في كل ما قد قيل من

..فتمهلي أموت دون أن يكون دعيني أحلم أن الزمن توقف.. وأنك لي. أنا الذي قد.لي عرس، ودون أن تنطلق الزغاريد يوما من أجلي

!لو سرقت كل هذه الحناجر النسائية، لتبارك امتالكي لك كم أتمنى اليوم ذلك البطل الخرافي الذي يهرب بالعرائس" لو كنت "خطاف العرائس

وفرسا بيضاء.. وخطفتك الجميالت ليلة عرسهن، لجئتك أمتطي الريح..منهم

كل شارع عبرناه ولي يحرق لو كنت لي.. لباركتنا هذه المدينة، ولخرج من!قسنطينة.. البخور على طريقنا.. ولكن ما أحزن الليلة

ما أتعس أولياءها الصالحين.. وحدهم جلسوا إلى طاولتي دون سبب.. واضح ..وحجزوا لذاكرتي األخرى كرسيا أماميا

..عليهم واحدا واحدا وإذا بي أقضي سهرتي في السالم

..سالما يا سيدي راشد سيدي محمد الغراب.. يا سيدي سليمان.. يا سالما يا سيدي مبروك.. يا

Page 251: ذاكرة الجسد

سيدي مسيد.. يا سيدي سيدي بوعنابة.. يا سيدي عبد المؤمن.. يا..بومعزة.. يا سيدي جليس

.المدينة.. أزقتها وذاكرتها سالما يا من تحكمون شوارع هذه فال تتخلوا عني.. أما كان.. قفوا معي يا أولياء الله.. متعب أنا هذه الليلة

منكم أبي؟

أبي يا "عيساوي" أبا عن جد؟ الذي كنت في تلك الحلقات المغلقة، في تلك الطقوس الطرقية أنت

ذلك السفود األحمر الملتهب نارا.. فيتخرق العجيبة، تغرس في جسدكتكون عليه قطرة دم؟ جسدك من طرف إلى آخر، ثم تخرجه دون أن

فينطفئ أنت الذي كنت تمرر حديده الملتهب والمحمر كقطعة جمر،.جمره من لعابك، وال تحترق

.أنزف علمني الليلة كيف أتعذب دون أن.علمني كيف أذكر اسمها دون أن يحترق لساني

الذي كنت تردد مع جماعة "عيساوة" في علمني كيف أشفى منها، أنت :باللهب حلقات الجذب والتهويل، وأنت ترقص مأخوذا

.."أنا سيدي عيساوي.. يجرح ويداوي"

من؟.. من يداويني يا أبي

..وأحبها

.أحبها.. وأنها لي في هذه الساعة المتأخرة من األلم، أعترف أنني مازلت أتحدى أصحاب البطون المنتفخة.. وذلك صاحب اللحية.. وذلك صاحب

الصلعة.. وأولئك أصحاب النجوم التي ال تعد.. وكل الذين منحتهم الكثير...في حضرتي اليوم واغتصبوها

.أتحداهم بنقصي فقط التي سرقوها مني، بكل ما أخذوه بالذراع التي لم تعد ذراعي، بالذاكرة

.منا

.أحبها دون مقابل أتحداهم أن يحبوها مثلي. ألنني وحدي

عجل. وأدري أنه في هذه اللحظة، هناك من يرفع عنها ثوبها ذاك على يخلع عنها صيغتها دون كثير من االهتمام ويركض نحو جسدها بلهفة رجل

.يضاجع صبية في الخمسين

.حزني على ذلك الثوب.. حزني عليه

Page 252: ذاكرة الجسد

وكم من النساء تناوبن عليه، ليتمتع اليوم برفعه كم من األيدي طرزته، كيفما كان، وكأنه ليس ذاكرتنا، كأنه رجل واحد. رجل يلقي به على كرسي

.ليس الوطنبأكملها، لينعم بها رجل واحد؟ فهل قدر األوطان أن تعدها أجيال

التفاصيل. وكيف اكتشفت أتساءل الليلة.. لماذا وحدي تستوقفني كل هذهقبل؟ اآلن فقط، معنى كل األشياء التي لم يكن لها معنى من

أتراه عشق هذا الوطن.. أم البعد عنه، هو الذي أعطى األشياء العاديةقداسة ال يشعر بها غير الذي حرم منه؟

وتغتال قداسة األشياء كان أحد الصحابة أألن المعايشة اليومية تقتل الحلم من مراسيم الحج، حتى ينصح المسلمين بأن يغادروا مكة، حال انتهائهم

بحكم تبقى لتلك المدينة رهبتها وقداستها في قلوبهم، وحتى ال تتحول العادة إلى مدينة عادية يمكن ألي واحد أن يسرق ويزني ويجور فيها دون

رهبة؟

إنه ما يحدث لي منذ وطئت قدماي هذه المدينة. وحدي أعاملها كمدينة.العادة فوق

أعامل كل حجر فيها بعشق. أسلم على جسورها جسرا جسرا. أسأل عن ..أخبار أهلها، عن أوليائها وعن رجالها، واحدا.. واحدا

أتألها وهي تصلي، وتزني وتمارس جنونها وال أحد أتأملها وهي تمشي،.الجميع بالهرب منها يفهم جنوني وسر تعلقي بمدينة يحلم

هل أعتب عليهم؟

ويجيئون على ذاكرة التاريخ.. وعلى هل يشعر سكان أثينا أنهم يمشونأسطوري؟ تراب مشت عليه اآللهة، وأكثر من بطل

هل يشعر سكان الجيزة في بؤسهم وفقرهم، أنهم يعيشون عند أقدموأن الفراعنة مازالو بينهم، يحكمون مصر بحجرهم وقبورهم؟ معجزة،

قرأوا تاريخ اليونان والفراعنة، في كتب التاريخ، وحدهم الغرباء الذين ويأتون من أطراف العالم لمجرد االقتراب يعاملون تلك الحجارة بقداسة،

.منها

واقترفت حماقة االقتراب من األحالم حتى تراني أطلت المكوث هنا، أخرى، أشفى من سلطة اسمها االحتراق، وإذا بي يوما بعد آخر، وخيبة بعد

علي، وأفرغ من وهمي الجميل.. ولكن ليس دون الم؟.هذه اللحظة، ال أريد لهذه المدينة أن تكون أكثر من رصاصة رحمة في

Page 253: ذاكرة الجسد

تلك الزغاريد التي انطلقت في ساعة متقدمة من الفجر، ولذا أتقبل كآخر طلقة نارية تطلقها في وجهي هذه لتبارك قميصك الملطخ ببراءتك،

فأتلقاها جامدا.. مذهول. المدينة، ولكن دون كاتم صوت.. وال كاتم ضمير المعروض النظرات كجثة، بينما أرى حولي من يتسابق للمس قميصك

.للفرجة

ها هم يقدمونك لي، لوحة ملطخة بالدم، دليال على عجزي اآلخر. دليال.على جريمتهم األخرى

لمصارعة الثيران، أن ولكنني ال أتحرك وال أحتج. ليس من حق مشاهد بيته وال يغير منطق األشياء، وينحاز للثور. وإال كان عليه أن يبقى في

"!يحضر "كوريدا" خلقت أساسا لتمجيد "الموتادور المشحون بالزغاريد والزينة وموسيقى "الدخلة".. شيء ما في هذا الجو

يذكرني بطقوس الكوريدا. وذلك الثور والهتافات أمام ثوب موقع بالدم، راقصة يدخل بها الساحة، الذي يعدون له موتا جميال على وقع موسيقى

األحمر.. وبأناقة ويموت على نغمها بسيوف مزينة للقتل، مأخوذا باللون!قاتله

والذي ال يرى اآلن غير من منا الثور؟ أنت أم أنا المصاب بعمى األلوان،اللون األحمر.. لون دمك؟

بكبرياء حيوان ال يهزم إال خدعة، ويدري أنه ثور يدور في حلبة حبك،.المسبق محكوم عليه بالموت

.الواقع أن دمك هذا يربكني، يحرجني، ويمألني تناقضا

أتحرق دائما لمعرفة نهاية قصتك معه، هو الذي أخذك مني، تراه أما كنتشيء؟ أخذ منك كل

سؤال كان يشغلني ويسكنني حد الجنون، منذ ذاك اليوم الذي وضعت فيه.زياد( أمامك. ووضعتك أمام قدرك اآلخر)

أبراجك العالية، واستسلمت تراك فتحت له قالعك المحصنة، وأذللتإلغراء رجولته؟

له؟ تراك تركت طفولتك لي، وأنوثتك

..ها هو الجواب يأتيني بعد عام من العذاب. ها هو أخيرا لزج.. طري.أحمر.. وردي.. عمره لحظات

فلم الحزن؟ ها هو الجواب كما لم أتوقعه، مقحما، محرجا، بظني، وأنه ما الذي يؤلمني األكثر هذه الليلة.. أن أدري أنني ظلمت زيادا

Page 254: ذاكرة الجسد

مات دون أن يتمتع بك، وأنه في النهاية كان هو األجدر بك الليلة؟ أن تكوني فقط، مدينة فتحت اليوم عنوة بأقدام العسكر، ككل مدينة أم

عربية؟

الذي يزعجني أكثر الليلة؟ أن أكون قد عرفت لغزك أخيرا، أم كوني ما عنك شيئا بعد اليوم، ولو تحدثت إليك عمرا، ولو أدري أنني لن أعرف

قرأتك ألف مرة؟

عذراء إذن، وخطاياك حبر على ورق؟ أكنت

أهديتني كتابك وكأنك تهدينني فلماذا أوهمتني إذن بكل تلك األشياء؟ لماذاخنجرا للغيرة؟

سطر.. وكذبة بعد أخرى.. وأن أغتصبك لماذا علمتني أن أحبك سطرا بعد!على ورق

..فليكن

.أنك من بين كل الخيبات.. كنت خيبتي األجمل عزائي اليوم،

***

يسألني حسان: لماذا أنت حزين هذا الصباح؟

سعيد اليوم؟ أحاول أال أسأله: ولماذا هو

مزاجه. أدري أن غياب ناصر ومقاطعته البارحة للعرس، قد عكر نوعا ما ولكنه لم يمنعه من أن ينسجم مع أغاني "الفرقاني"، وأن يضحك..

.من الناس الذين لم يلتق بهم من قبل ويحادث كثيرا

.لسعادته الساذجة تلك كنت أالحظه. وكنت سعيدا شيئا ما،

قلما تفتح للعامة، كان حسان سعيدا أن تفتح له أخيرا تلك األبواب التي وأن يدعى لحضور ذلك العرس الذي يمكنه اآلن أن يتحدث عنه في

المجالس أليام؛ ويصفه لآلخرين الذين سيالحقونه باألسئلة، عن أسماء من..قدم من أطباقي.. وما لبست العروس حضروا وما

صيغتها والثياب التي حضرت ويمكن لزوجته أيضا أن تنسى أنها استعارت على الجميع بها العرس من الجيران واألقارب، وتبدأ بدورها في التفاخر

بما رأته من بذخ في ذلك العرس، وكأنها أصبحت فجأة طرفا فيه، فقط.دعيت للتفرج على خيرات اآلخرين ألنها

:قال فجأة

Page 255: ذاكرة الجسد

غدا للغداء عنده. ال تنس أن تكون في البيت إن سي الشريف يدعونا- ..وقت الظهر لنذهب معا

:بصوت غائب قلت له

.غدا سأعود إلى باريس-

:صاح

- ابق معنا أسبوعا آخر على األقل.. ما الذي ينتظرك.. كيف تعود غداهناك؟

لي بعض االلتزامات، وأنني بدأت أتعب من إقامتي حاولت أن أوهمه أن.في قسنطينة

:يلح ولكنه راح

..سافر يا أخي عيب.. على األقل احضر غداء سي الشريف غدا ثم-

:أجبته بلهجة قاطعة لم يفهم سببها

.نروح فرات.. غدوة-

كان يحلو لي أن أحدثه بلهجة قسنطينية. كنت أشعر مع كل كلمة ألفظها،.أنه قد يمر وقت طويل قبل أن ألفظها مرة أخرى

:عدم رفض تلك الدعوة قال حسان وكأنه يقنعني بضرورة

- لصداقتنا والله سي الشريف ناس مالح.. مازال برغم منصبه وفيا القديمة. أتدري أن البعض يقول هنا إنه قد يصبح وزيرا. ربما يفرجها الله

..علينا في ذلك اليوم على يده

..وكأنه يقولها لنفسه قال حسان هذه الجملة األخيرة بصوت شبه خافت،

!مسكين حسان

عليه بعد ذلك. أكان من السذاجة بحيث مسكين أخي الذي لم يفرجها الله الشريف ال بد أن يتلقى يجهل أن ذلك العرس هو صفقة ال غير، وأن سي

دون نوايا.. شيئا ما مقابله. نحن ال نصاهر ضباطا من الدرجة األولى.مسبقة

Page 256: ذاكرة الجسد

أما بالنسبة لما يمكن أن يربح حسان من وراء منصب سي الشريف.المحتمل.. فمجرد أوهام

حسان.. وينال المؤمن يبدأ بنفسه، وقد تمر سنوات قبل أن يصل دور.بعض ما يطمح إليه من فتات

:سألته مازحا

تحلم أن تصبح أنت أيضا سفيرا؟ هل بدأت-

:قال وكأن السؤال قد جرحه نوعا ما

يا حسرة يا رجل.. "اللي خطف.. خطف بكري.." أنا ال أريد أكثر من أن- وأن أستلم وظيفة محترمة في أية مؤسسة ثقافية أو أهرب من التعليم،

وعائلتي حياة شبه عادية.. كيف تريد أن إعالمية، أية وظيفة أعيش منها أنا عن أن أشتري سيارة. من نعيش نحن الثمانية بهذا الدخل؟. أنا عاجز حتى

الفخمة التي كانت أين آتي بالماليين ألشتريها؟. عندما أتذكر تلك السيارات مصطفة أمس في ذلك العرس، أمرض وأفقد شهية التعليم. لقد تعبت من هذه المهنة، أنت ال تشعر بأية مكافأة مادية أو معنوية فيها. لقد تغير الزمن

كاد فيه المعلم أن يكون رسوال".. اليوم حسب تعبير زميل لي "كاد "الذي.شيفونا( وخرقة ال أكثر )المعلم أن يكون

مع تالميذه. و "يدز" و لقد أصبحنا ممسحة للجميع. فاألستاذ يركب الحافلة هذا، ليعد "يطبع" مثلهم. ويشتمه الناس أمامهم. ثم يعود مثل زميلي

دروسه ويصحح االمتحانات في شقة بغرفتين، يسكنها ثمانية أشخاص.وأكثر

أن بينما هناك من يملك شقتين وثالثا بحكم وظيفته أو واسطاته.. يمكنه. يستقبل فيها عشقياته أو يعير مفاتيجها لمن سيفتح له أبوابا أخرى

عليك يا خالد.. أنت تعيش بعيدا عن هذه الهموم، في حيك الراقي صحة.!بالكش واش صاير في الدنيا بباريس.. ما على

المرارة غصة في الحلق، آه حسان.. عندما أذكر حديثنا ذلك اليوم، تصبح.تصبح جرحا، تصبح دمعا، تصبح ندما وحسرة

.أن أساعدك أكثر، صحيح كان يمكن

مجاهدا؟ ألم تفقد كنت تقول: "اطلب شيئا يا خالد مادمت هنا، ألست ذراعك في هذه الحرب؟ اطلب محال تجاريا.. اطلب قطعة أرض.. أو

شاحنة، إنهم لن يرفضوا لك شيئا. هذا حقك. وإذا شئت دعه لي ألستفيد أنا وأوالدي.. أنت يحترمونك ويعرفونك، وأما أنا فال منه وأعيش عليه

Page 257: ذاكرة الجسد

حقك من هذا الوطن. إنهم ال يتصدقون يعرفني أحد. إنه جنون أال تأخذ لم يقم بشيء في عليك بشيء. أكثر من واحد يحمل شهادة مجاهد وهو

.."الثورة. أنت تحمل شهادتك على جسدك

أن هذا هو الفرق الوحيد بيني وبينهم. لم تكن إيه حسان.. لم تكن تفهم هذه السنوات، وكل هذا العذاب، أن تفهم أنه لم يعد ممكنا اليوم، بعد كل

.وطنية أطأطئ رأسي ألحد.. ولو مقابل أية هبة

ربما كنت فعلت هذا بعد االستقالل. ولكن اليوم مع مرور الزمن، أصبح.ذلك مستحيال

لم يبق من العمر الكثير أخي. لم يبق من العمر الكثير، ألطأطئ رأسي.قبل الموت

يخجلوا أريد أن أبقى هكذا أمامهم، مغروسا كشوكة في ضميرهم. أريد أن عندما يلتقوا بي، أن يطأطئوا هم رؤوسهم ويسألوني عن أخباري، وهم

.أعرف كل أخبارهم، وأنني شاهد على حقارتهم يعرفون أنني

!آه لو تدري حسان

لذة أن تمشي في شارع مرفوع الرأس، أن تقابل أي شخص لو تدري.تشعر بالخجل بسيط أو هام جدا، دون أن

هناك من ال يستطيع اليوم أن يمشي خطوتين على قدميه في الشارع، بعدما كانت كل الشوارع محجوزة له. وكان يعبرها في موكب من

.الرسمية السيارات

لم أقل شيئا لحسان. وعدته فقط كمرحلة أولى أن أشتري له سيارة. له: "تعال معي، واختر سيارة تناسبك. تأخذها معك من فرنسا. ال قلت

..".هذه الحالة بعد اليوم أريد أن تعيش هكذا في

الذي كان فرح حسان يومها كطفل. شعرت أن ذلك كان حلمه الكبير عاجزا عن تحقيقه، وعاجزا عن طلبه مني. ولكن كيف لي أن أعرف ذلك

أزره منذ سنوات؟ وأنا لم

شيئا من عندما أذكر حسان اليوم، وحدها تلك االلتفاتة تبعث في قلبي.السعادة، ألنني أسعدته بعض الوقت، ومنحته راحة لبضع سنوات

.أكن أتوقع أن تكون األخيرة سنوات.. لم

:عاد حسان إلى موضوعه قال

حقا على السفر غدا؟ هل أنت مصر-

Page 258: ذاكرة الجسد

:قلت له

نعم.. من األرجح أن أسافر- ..غدا

:قال

يسيء تفسير إذن ال بد أن تطلب سي الشريف اليوم، لتعتذر منه. فقد- ..موقفك.. ويأخذ على خاطره

:لحسان فكرت قليال فوجدته على حق. قلت

..اطلب لي رقم سي الشريف ألعتذر إليه-

األمور هناك. ولكن سي الشريف راح يرحب بي.. كنت أتوقع أن تتوقف..ولو في ذلك الحين ويحرجني بلطفه، ويلح ألحضر لزيارته

:قال

نراك قبل أن تسافر.. ثم يمكنك أن تعال إذن وتغد معنا اليوم.. المهم أن- ..هذا المساء تقدم هديتك بنفسك للعروسين قبل أن يسافرا أيضا

لم يكن هناك من مخرج. وجدت نفسي مرة أخرى، أواجه قدري معك. أنا الذي قررت السفر على عجل، حتى أنتهي من العيش في هذه األجواء

.بطريقة أو بأخرى حولك التي كانت تدور كلها

توقفت أمامها ها أنا مرة أخرى ألبس بدلتي السوداء نفسها، أحمل لوحة..الغداء يوما وكانت سبب كل ما حل بي بعد ذلك. وأذهب مع حسان إلى

ها هما قدماي تقودانني مرة أخرى نحوك. كنت أدري أنني سألتقي بك هذه المرة. كان هناك حدس مسبق يشعرني أننا لن نخلف هذا الموعد

.اليوم

الذي قاله سي الشريف ذلك اليوم؟ ما الذي قلته ومن قابلت من ما.أطباق على تلك السفرة.. لم أعد أذكر الناس؟ وماذا قدم لنا من

يهمني شيء في تلك اللحظة، كنت أعيش لحظات حبك األخيرة. ولم يكن!نفسه سوى أن أراك.. وأن أنتهي منك في الوقت

ولكن.. كنت أخاف حبك. كنت أخاف أن يشتعل حبك من رماده مرة أخرى. فالحب الكبير، يظل مخيفا حتى في لحظات موته.. يظل خطرا

.يحتضر حتى وهو

Page 259: ذاكرة الجسد

..وجئت

اللحظات سخرية، كانت أكثر اللحظات وجعا، أكثر اللحظات جنونا، أكثر بريئتين، وأنا تلك التي وقفت فيها ألسلم عليك، وأضع على وجنتيك قبلتين.العجيب أهنئك بالزواج، مستعمال كل المفردات الالئقة بذلك الموقف

لم كم كان يلزمني من القوة، من الصبر ومن التمثيل، ألوهم اآلخرين أنني ألتق بك قبل اليوم، سوى مرة عابرة، وأنك لم تكوني المرأة التي قلبت

رأسا على عقب؟ حياتي المرأة التي تقاسمني سريري الفارغ منذ عدة أشهر، والتي كانت حتى

!البارحة.. لي

إضافي، كم كان يلزمني من التمثيل، ألهديك تلك اللوحة، دون أي تعليق قصتي معك دون أية إشارة توضيحية، وكأنها لم تكن اللوحة التي بدأت بها

.خمس وعشرين سنة منذ

معجبة وكم كنت مدهشة أنت في تمثيلك، وأنت تفتحينها وتلقين نظرة عليها، وكأنك ترينها ألول مرة! فال أستطيع إال أن أسألك يتواطؤ سري

جمعنا :يوما

هل تحبين الجسور؟

ويخيم بيننا فجأة صمت قصير، يبدو لي طويال كلحظة تسبق حكما.باإلعدام.. أو العفو

:علي قبل أن ترفعي عينيك نحوي وينزل حكمك

!نعم أحبها-

!كلمتين كم من السعادة منحتني لحظتها في

.شعرت أنك تبعثين لي آخر إشارة حب

مشروع لوحة قادمة. أكثر من ليلة وهمية.. شعرت أنك تهديني أكثر من المشتركة.. ولمدينة تواطأت وأنك رغم كل شيء ستظلين وفية لذاكرتنا

.معنا، ومدت كل هذه الجسور.. لتجمعنا

أكنت حبيبتي حقا؟ في تلك اللحظة التي كان رجل آخر فيها إلى.. ولكن لم تشبعهما ليلة حب كاملة، في تلك اللحظة التي جوارك. يلتهمك بعينين

ستزورينها في شهر العسل، كان فيها الحديث يدور حول المدن التي..قلبي وكنت أنا أشيعك بصمت، لسفرك األخير عن

Page 260: ذاكرة الجسد

قابلتك لقد كانت تلك هزيمتك األولى معي.. انتهى كل شيء إذن. ها أناأخيرا، أكان هذا اللقاء يستحق كل ذلك االنتظار، كل ذلك األلم؟

كان حلمي به جميال! وكم هو اليوم مدهش ومسطح في واقعه! كم كم!وكم هو فارغ.. موجع بحضورك كان مليئا بانتظارك،

تستحق كل ذلك الوجع، أكانت نصف النظرة التي تبادلناها بين نظرتين،كل ذلك الشوق والجنون؟

.وتتلعثم الكلمات.. تتلعثم النظرات تريدين أن تقولي لي شيا،

.أعرف فك رموزك الهيروغليفية لقد نسيت عيناك الحديث إلي.. ولم أعدندري؟ فهل عدنا يومها إلى مرتبة الغرباء، دون أن

..افترقنا التمثيل، وألم قبلتان أخيرتان على وجنتيك. نظرة.. نظرتان.. وكثير من

.سري صامت

.األخير تبادلنا جميعا كلمات المجاملة والتهاني والشكر

البيت تبادلنا عناويننا، بعدما أصر زوجك على أن يعطيني رقم هاتفه في.وفي المكتب في حالة ما احتجت إلى شيء

.المسبق وانصرفنا كل بوهمه.. وقراره

عندما عدت إلى البيت بعد ذلك، نظرت طويال إلى تلك البطاقة التي كنت أتحسسها طوال الطريق بشيء من الذهول.. ومذاق ساخر للمرارة.

.قلبي إلى جيبي تحت اسم ورقم هاتفي جديد وكأنك انتقلت معها من

في التفكير، قررت أن أمزقها فورا، ودون كثير من التردد.. أو التعمق أن ينتهي كل شيء مادمت أملك القدرة على ذلك، ومادمت مصمما على

.اليوم هنا في قسنطينة.. كما أردت يوما، وكما أصبحت أريد أنا

***

هاتفك فجأة ليخرجني من ما الذي كنت تريدينه ذلك المساء؟ عندما جاءدوامة أفكاري وأحاسيسي المتناقضة؟

الهاتف وقال: "هناك امرأة تريد أن تتحدث إليك.." حين مد حسان نحوي.أنت توقعت كل شيء إال أن تكوني

Page 261: ذاكرة الجسد

:سألتك بدهشة

ألم تسافري بعد؟-

:قلت

بعد ساعة.. أردت أن أشكرك على اللوحة.. لقد وهبتني سعادة سنسافر- ..لم أتوقعها

:لك قلت

أنا لم أهبك شيئا.. لقد أعدت لك لوحة كانت جاهزة لك منذ خمس- وعشرين سنة.. إنها هدية قدرنا الذي تقاطع يوما. وأما أنا فلي هدية أخرى

..تعجبك، سأقدمها لك ذات يوم فيما بعد أتوقع أن

أحد السمع إليك أو يسرق قلت بصوت خافت وكأنك تخافين أن يسترق:منك تلك الهدية

ستهديني؟ ماذا-

:قلت

.إنها مفاجأة.. لنفترض أنني سأهبك غزالة-

:مدهوشة قلت

!إنه عنوان كتاب-

:قلت

- عندما نحب فتاة نهبها اسمنا. عندما نحب. أدري.. ألنني سأهبك كتابا.نهبها كتابا. سأكتب من أجلك رواية.. امرأة نهبها طفال. وعندما نحب كاتبة

واالرتباك.. شيء من الدهشة أحسست في صوتك بشيء من الفرح:منك والحزن الغامض. ثم قلت فجأة بنبرة عشقية لم أعهدها

خالد.. أحبك.. أتدري هذا؟-

وحزني، ونبقى هكذا لحظات دون وانقطع صوتك فجأة، ليتوحد بصمتي:كالم. قبل أن تضيفي بشيء من الرجاء

قل شيئا.. لماذا ال تجيب؟.. خالد-

Page 262: ذاكرة الجسد

:قلت لك بشي من السخرية المرة

..األزهار لم يعد يجيب ألن رصيف-

هل تعني أنك لم تعد تحبني؟-

:غائب أجبتك بصوت

!نفسه أنا ال أعني شيئا بالتحديد.. إنه عنوان لرواية أخرى للكاتب-

قبل ماذا قلت لك بعدها، ال أذكر. من األرجح أن يكون هذا آخر ما قلته لك.أن أضع السماعة، ونفترق لعدة سنوات

***

".هنا ال تطرقي الباب كل هذا الطرق.. فم أعد"

وثنايا ال تحاولي أن تعودي إلي من األبواب الخلفية، ومن ثقوب الذاكرة،.األحالم المطوية، ومن الشبابيك التي أشرعتها العواصف

..تحاولي ال

فأنا غادرت ذاكرتي. يوم وقعت على اكتشاف مذهل: لم تكن تلك الذاكرة لي، وإنما كانت ذاكرة مشتركة أتقاسمها معك. ذاكرة يحمل كل منا نسخة

.نلتقي منها حتى قبل أن

.ال تطرقي الباب كل هذا الطرق سيدتي.. فلم يعد لي باب

تخلت عني الجدران يوم تخليت عنك، وانهار السقف علي وأنا أحاول لقد.المبعثرة بعدك أن أهرب أشيائي

.فال تدوري هكذا حول بيت كان بيتي

تدخلين منها كسارقة. لقد سرقت كل شيء مني، ولم ال تبحثي عن نافذة.المغامرة يعد هناك من شيء يستحق

..ال تطرقي الباب كل هذا الطرق الموجع

هاتفك يدق في كهوف الذاكرة الفارغة دونك، ويأتي الصدى موجعا .ومخيفا

Page 263: ذاكرة الجسد

الوادي بعدك، كما يسكن الحصى جوف "وادي أال تدرين أنني أسكن هذاالرمال"؟

..إذن تمهلي سيدتي

تمهلي وأنت تمرين على جسور قسنطينة. فأية زلة قدم سترميني بسيل.الحجارة. وأي سهو منك سيرميك هنا عندي لتتحطمي معي من

..ثياب أمي.. في عطر أمي وفي خوف أمي علي يا امرأة متنكرة في

.أنا مثلها بين صخرتين وبين رصيفين متعب أنا.. كجسور قسنطينة. معلق

األمهات أنت، وأحمق العشاق أنا؟ فلماذا كل هذا األلم..؟ ولماذا.. أكذب

أنا ال أسكن هذه المدينة.... ال تطرقي أبواب قسنطينة الواحد بعد اآلخر.إنها هي التي تسكنني

.هي لم تحملني مرة.. وحدي أنا حملتها ال تبحثي عني فوق جسورها،

بخبر قديم _جديد، وأغنية كانت تغنى ال تسألي أغانيها عني، وتأتني الهثة..للحزن فصارت تغنى لألفراح

العرب قالوا *** ما نعطيو صالح وال مالو قالوا".."باي البايات قالوا العرب هيهات *** ما نعطيو صالح

.قوله أعرف عن ظهر قلب ما قاله العرب، وما لم يجرؤوا اليوم على

وأدري.. كان "صالح" ثوب حدادك األول حتى قبل أن تولدي. كان آخر قسنطينة.. وكنت أنا وصيته األخيرة: "يا حمودة.. آخ يا وليدي تها بايات

..".الدار.. آه.. آه الله لي في

أي دار يا صالح.. أي دار توصيني بها؟

سوق العصر( وشاهدت دارك فارغة من ذاكرتها. سرقوا حتى )لقد زرت خربوا ممراتها وعبثوا بنقوشها.. وظلت. أحجارها، وشبابيكها الحديدية

.والسكارى على جدرانه واقفة، هيكال مصفرا يبول الصعاليك

أي وطن هذا الذي يبول على ذكرته يا صالح؟

وطن هذا؟ أي

Page 264: ذاكرة الجسد

ها هي ذي مدينة تلبس حداد رجل لم تعد تذكر اسمه. وها أنت ذي طفلة..ال أحد يعرف قرابتها بهذه الجسور

وجهك الخمار، وال تطرقي الباب فانزعي "ماليتك" بعد اليوم.. وارفعي عن..كل هذا الطرق

.أنا فلم يعد صالح هنا.. وال

..افترقنا إذن

..الذين قالوا الحب وحده ال يموت، أخطأوا كتبوا لنا قصص حب بنهايات جميلة، ليوهمونا أن مجنون ليلى والذين

.يفهمون شيئا في قوانين القلب محض استثناء عاطفي.. ال فقط إنهم لم يكتبوا حبا، كتبوا لنا أدبا

العشق ال يولد إال في وسط حقول األلغام، وفي المناطق المحظورة. ولذا..انتصاره دائما في النهايات الرصينة الجميلة ليس

!الخراب الجميل فقط إنه يموت كما يولد.. في

..افترقنا إذن

البراكين، ويا ياسمينة نبتت على حرائقي فيا خرابي الجميل سالما. يا وردة .سالما

األرضية! لقد كان خرابك األجمل سيدتي، لقد كان يا ابنة الزالزل والشروخ..خرابك األفظع

بأكمله داخلي، تسللت حتى دهاليز ذاكرتي، نسفت كل شيء قتلت وطنا..فقط بعود ثقاب واحد

!من علمك اللعب بشظايا الذاكرة؟ أجيبي

أيضا_ بكل هذه األمواج المحرقة من النار. من _من أين أتيت هذه المرةدمار؟ أين أتيت بكل ما تال ذلك اليوم من

..افترقنا إذن

Page 265: ذاكرة الجسد

كنت عاشقة.. وال كنت لم تكوني كاذبة معي.. وال كنت صادقة حقا. ال .خائنة حقا. ال كنت ابنتي.. وال كنت أمي حقا

.فقط كهذا الوطن.. يحمل مع كل شيء ضده كنت

أتذكرين؟

في ذلك الزمن األول، يوم كنت تحبينني وتبحثين في ذلك الزمن البعيد،.في عن نسخة أخرى ألبيك

:مرة قلت

ننتظر انتظرتك طويال.. انتظرتك كثيرا، كما ننتظر األولياء الصالحين.. كما- !األنبياء.. ال تكن نبيا مزيفا يا خالد.. أنا في حاجة إليك

"..وقتها أنك لم تقولي أنا أحبك. قلت فقط "أنا في حاجة إليك الحظت

بالضرورة األنبياء. نحن في حاجة إليهم فقط.. في كل نحن ال نحب.األزمنة

:أجبتك

- ..أنا لم أختر أن أكون نبيا

:قلت مازحة

!رسالتهم، إنهم يؤدونها فقط األنبياء ال يختارون-

:أجبتك

- ولذا لو حدث واكتشفت أنني نبي مزيف.. قد. وال يختارون رعيتهم أيضا!الردة يكون ذلك ألنني بعثت لرعية تحترف

:ضحكت.. وبعناد أنثى يغريها التحدي قلت

..لفشلك المحتمل معي، أليس كذلك؟ أنت تبحث عن مخرج- .أطبقها لن أمنحك مبررا كهذا. هات وصاياك العشر وأنا

نظرت إليك طويال يومها. كنت أجمل من أن تطبقي وصايا نبي، أضعف أن تحملي ثقل التعاليم السماوية. ولكن كان فيك نور داخلي لم من

..بذرة نقاء لم أكن أريد أن أتجاهلها.. أشهده في امرأة قبلك

Page 266: ذاكرة الجسد

فينا؟ أليس دور األنبياء البحث عن بذور الخير

:قلت

الحادية عشرة دعي الوصايا العشر جانبا واسمعيني.. لقد جئتك بالوصية- ..فقط

:ضحكت وقلت بشيء من الصدق

!النبي المفلس.. أقسم أنني سأتبعك هات ما عندك أيها-

وأقول لك: "كوني لي. لحظتها شعرت برغبة في أن أستغل قسمك أمثل فقط.." ولكن لم يكن ذلك كالم نبي. وكنت دون أن أدري قد بدأت

أمامك الدور الذي اخترته لي.. فرحت أبحث في ذهني عن شيء يمكن أن:يباشر وظيفته ألول مرة.. قلت يقوله نبي

بالضرورة بغرور، ولكن بوعي احملي هذا االسم بكبرياء أكبر.. ليس- ليس من حق عميق أنك أكثر من امرأة. أنت وطن بأكمله.. هل تعين هذا؟

الرموز أن تتهشم.. هذا زمن حقير، إذا لم ننحز فيه إلى القيم سنجد في خانة القاذورات والمزابل. ال تنحازي لشيء سوى المبادئ.. ال أنفسنا

!ضميرك.. ألنك في النهاية ال تعيشين مع سواه تجاملي أحدا سوى

:قلت

!فقط؟.. أهذه وصيتك لي-

:قلت

ستكتشفين ذلك.. ال تستهيني بها.. إن تطبيقها ليس سهال كما تتوهمين- ..بنفسك ذات يوم

المفلس.. وتستسهليها كان ال بد أال تسخري يومها من وصية ذلك النبي..!إلى هذا الحد

.السفر. على ذلك اللقاء، ذلك الوداع مرت ست سنوات على ذلك

. حاولت خاللها أن ألملم جرحي وأنسى حاولت منذ عودتي، أن أضع شيئا األول، دون ضجيج وال من الترتيب في قلبي. أن أعيد األشياء على مكانها

القيم تذمر، دون أن أكسر مزهرية، دون أن أغير مكان لوحة، وال مكان

Page 267: ذاكرة الجسد

.القديمة التي تكدس الغبار عليها داخلي منذ زمن

حاولت أن أعيد الزمان .إلى الوراء، دون حقد وال غفران أيضا

يجعلنا بسعادة عابرة، نكتشف كم كنا ال.. نحن ال نغفر بهذه السهولة لمن دون أدنى شعور تعساء قبله. ونغفر أقل، لمن يقتل أحالمنا أمامنا

.بالجريمة

.ولذا لم أغفر لك.. وال لهم

أتعامل معك ومع الوطن بعشق أقل. واخترت الالمباالة حاولت فقط أن.عاطفة واحدة نحوكما

يحدث ألخبارك أن تصلني عن طريق المصادفة، وأنا أستمع إلى من كان صعوده المستمر.. وعن صفقاته وشؤونه السرية يتحدث عن زوجك، عن

.المجالس والعلنية التي تشغل أحاديث

وكان يحدث ألخبار الوطن أن تأتيني أيضا تارة في جريدة، وتارة في مجالس أخرى. وتارة عندما زارني حسان بعد ذلك آلخر مرة ليشتري تلك

..وعدته بها السيارة التي

أن وكل مرة، كنت أواجه كل ما أسمعه بالالمباالة نفسها التي ال يمكن.يولدها سوى اليأس األخير

وجوده. أصبح أمره وحده بدأت أتعلق بحسان فقط، وكأنني اكتشفت فجأة اكتشفت يهمني بعدما وعيت أنه كل ما تبقى لي في هذا العالم، وبعدما

تلك الحياة البائسة التي كان يعيشها، والتي كنت أجهل كل شيء عنها قبل.إلى قسنطينة زيارتي

وعن البيت أصبحت أطلبه هاتفيا بانتظام. أسأله عن أخباره وعن األوالد، الذي كان ينوي أن يقوم فيه ببعض اإلصالحات، والذي وعدته أن أتكفل

.بمصاريف ترميمه وتجديده

يحدثني تارة عن كانت معنوياته تنخفض وترتفع من هاتف إلى آخر. كان بعض مشاريعه، وعن بعض االتصاالت التي يقوم بها ليتم نقله إلى

.العاصمة.. ثم يعود ويفقد فجأة حماسه

:مكالمته كنت أعرف ذلك عندما يسألني في آخر

متى ستأتي يا خالد؟-

.إشارة ضوئية تطلب النجدة مني أشعر عندئذ أنه باخرة تغرق، وتبعث

Page 268: ذاكرة الجسد

قد أزوره في الصيف وبرغم ذلك، كنت أسايره فقط، وأعده كل مرة أنني القادم. وكنت أعرف في أعماقي أنني أكذب، وأنني قطعت الجسور مع

.الوطن حتى إشعار آخر

القطار يسير في في الواقع، أصبحت عندي قناعة بانعدام األمل. كان شيء، االتجاه المعاكس، وبسرعة لم يكن ممكنا معها أن نفعل شيئا.. أي

.غير الذهول وانتظار كارثة االصطدام

أن أدري في اتجاه آخر أيضا، في وكنت أحزم حقائب القلب.. وأمضي دون.االتجاه المعاكس للوطن

بالنسيان. أصنع من المنفى وطنا آخر لي، وطنا ربما رحت أؤثث غربتي.فيه أبديا، علي أن أتعود العيش

بدأت أتصالح مع األشياء. أقمت عالقات طبيعية مع نهر السين.. مع جسر ميرابو.. مع كل المعالم التي كانت تقابلني من تلك النافذة، والتي كنت

.معاداة لها دون سبب أعيش في

الجنونية.. اخترت لي أكثر من عشيقة عابرة. أثثت سريري بالملذات بنساء كنت أدهشهن كل مرة أكثر، وأقتلك بهن كل مرة أكثر، حتى لم يبق

.منك في النهاية شيء

لذة نسي هذا الجسد شوقه لك، نسي تطرفه وحماقاته وإضرابه عن كل.ما عدا لذتك الوهمية

.األولى تعمدت أن أفرغ النساء من رموزهن

..من قال إن هناك امرأة منفى، وامرأة وطنا، فقد كذب

مساحة للنساء خارج الجسد. والذاكرة ليست الطريق الذي يؤدي إليهن. ال!طريق واحد ال أكثر.. يمكنني أن أجزم اليوم بهذا في الواقع هنالك

..أقوله لك اليوم اكتشفت شيئا ال بد أن

لحظة جنون الرغبة محض قضية ذهنية. ممارسة خيالية ال أكثر. وهم نخلقه نقع فيها عبيدا لشخص واحد، ونحكم عليه بالروعة المطلقة لسبب غامض

.عالقة له بالمنطق ال

لعطر.. رغبة تولد هكذا من شيء مجهول، قد يعيدنا إلى ذكرى أخرى..رائحة أخرى.. لكلمة، لوجه آخر

Page 269: ذاكرة الجسد

الجسد، من الذاكرة أو ربما من رغبة جنونية تولد في مكان آخر خارج وإذا بك األروع، الالشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنت ذات يوم،

.وإذا بك األشهى، وإذا كل النساء أنت

تلقائيا يوم قتلت قسنطينة في داخلي؟ أفهمت لماذا قتلتك

.سريري ولم أعجب يومها وأنا أرى جثتك ممدة في

.لم تكونا في النهاية سوى امرأة واحدة

هذا الكتاب إذن؟ وسأجيبك أنني أستعير ستقولين: لماذا كتبت لي.كتاب ال غير طقوسك في القتل فقط، وأنني قررت أن أدفنك في

كريهة فهناك جثث يجب أال نحتفظ بها في قلبنا. فللحب بعد الموت، رائحة.أيضا، خاصة عندما يأخذ بعد الجريمة

واحدة في هذا الكتاب. قررت هكذا أن الحظي أنني لم أذكر اسمك مرة.الذكر أتركك بال اسم. هنالك أسماء ال تستحق

لنفترض أنك امرأة كان اسمها "حياة"، وربما كان لها اسم آخر.. فهل مهماسمك حقا؟

نذكرهم وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير، ألن من حقهم علينا أن بأسمائهم كاملة. كما من حق هذا الوطن علينا أن نفضح من خانوه، وبنوا

على دماره، وثروتهم على بؤسه، مادام ال يوجد هناك من مجدهم.يحاسبهم

إشاعة ما إن هذا الكتاب لك. أؤكد لك سيدتي تلك وأدري.. ستقول.اإلشاعة

النقد تعويضا عن أشياء أخرى، إن هذا الكتاب ليس سيقول نقاد يمارسون.بمقاييس األدب رواية، وإنما هذيان رجل ال علم له

سوى أؤكد لهم مسبقا جهلي، واحتقاري لمقاييسهم. فال مقياس عندي مقياس األلم، وال طموح لي سوى أن أدهشك أنت، وأن أبكيك أنت، لحظة

..قراءة هذا الكتاب تنتهين من

.فهناك أشياء لم أقلها لك بعد

وأحرقي ما في خزانتك من كتب ألنصاف الكتاب،.. اقرئي هذا الكتاب.العشاق وأنصاف الرجال، وأنصاف

Page 270: ذاكرة الجسد

بتعقل، من الجرح وحده يولد األدب. فليذهب إلى الجحيم كل الذين أحبوك..دون أن ينزفوا.. دون أن يفقدوا وزنهم وال اتزانهم

من الخجل.. كما تتصفحين ألبوم صور مصفرة، لطفلة تصفحيني بشيء.كانت أنت

.قاموسا لمفردات قديمة معرضة لالنقراض والموت كما تطالعين

.عثرت عليه يوما في صندوق بريدك كما تقرأين منشورا سريا،

.افتحي قلبك.. واقرأيني أريد أن أحدثك عن سي الطاهر وعن زياد وعن آخرين.. عن كل كنت يوما

.ما كنت تجهلين

مات حسان.. ولم يعد اليوم وقت للحديث عن الشهداء.. أصبح كل ولكن.شهيد واحد منا مشروع

حية". ولم يحزنني أال أهبك غزالة. "الغزالن ال تكون غزالنا إال عندما تكون.يبق لي ما يمكن أن أهديك اليوم

الواحد بعد اآلخر، بطريقة أو بأخرى. لقد أخذت مني كل من أحببت، ترتيب كل من أحببت. وتحول القلب إلى مقبرة جماعية ينام فيها دون

.وكأن قبر )أما( قد اتسع ليضمهم جميعا

شاهد قبر لسي الطاهر.. لزياد ولحسان. شاهد قبر ولم أعد أنا سوى.للذاكرة

حماقة القدر، الكثير عن ظلمه وعن عناده، عندما كنت أدري الكثير عن.يصر على مالحقة أحد

أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئا كذلك يمكن أن يحدث؟ ولكن القدر األحمق ما فيه الكفاية، وأنه حان لي بعد كنت اعتقد أنني دفعت لهذا

فجيعة زياد، وفجيعة زواجك، أن أرتاح هذا العمر، وتلك السنوات التي تلت .أخيرا

أخي، أخي الذي لم يكن لموته من فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني ميتة سي منطق. ال كان في جبهة، وال كان في ساحة قتال ليموت

.الطاهر، وميتة زياد، رميا بالرصاص.. أيضا

***

Page 271: ذاكرة الجسد

يحملها خط هاتفي ، جاء خبر موته هكذا صاعقة88ذات يوم من أكتوبر .مشوش، وصوت عتيقة الذي تخفيه الدموع

ظلت تجهش بالبكاء :وتردد اسمي، وأنا أسألها مفجوعا

"واش صار..؟- "

األحداث التي هزت البالد، والتي كانت الجرائد كنت على علم بتلك بنقلها مصور، مفصلة، مطولة، باهتمام ونشرات األخبار الفرنسية تتسابق

.ال يخلو من الشماتة وأدري أنها مازالت وهي في يومها الثاني مقتصرة كنت أعرف تفاصيلها،

الذي حدث؟ على العاصمة. فمن أين لي أن أتوقع :كان صوت عتيقة يردد مقطعا

..قتلوه قتلوه.. آ خالد.. يا وخيدتي-

:وصوتي يردد مذهوال

كيفاش.. كيفاش قتلوه؟-

حسان؟ كيف مات

.هل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجا كأحالمه

كل الجرائد ألفهم كيف مات أخي، بين الحلم والحلم.. بين الوهم أقرأ.والوهم

الذي ذهب به إلى العاصمة ليقابل "جماعة" هناك، هو الذي لم يزر ما العاصمة إال .نادرا

.ذهب هكذا في نهاية أسبوع.. ليبحث عن نهايته

.قسنطينة، ولم توصله جسورها الكثيرة إلى شيء ضاقت به

خيوط". ستوصلك الطرق القصيرة "قالوا له: "في العاصمة ستكون لك!".هناك.. ولن توصلك الجسور هنا

..وذهب إلى العاصمة ليقابل "فالنا" من قبل "فالن" آخر صدق حسان،

Page 272: ذاكرة الجسد

قضيته أخيرا هذه المرة، بعد عدة سنوات من وكان مقررا أن تحل التعليم، لينتقل إلى العاصمة الوساطات والتدخالت، ويغادر نهائيا سلك

.ويعين موظفا في مؤسسة إعالمية

.الذي حسم "ملفه" هذه المرة ولكن القدر هو

خاطئة، على رصيف بين "فالن" و "فالن" مات حسان، خطأ برصاصة.الحلم

!تحلم فالحلم ليس في متناول الجميع أخي.. كان عليك أال

أحقا "إن الشقاء يعرف كيف يختار صفاته" ولهذا اختارني أنا، واختار لي.كل هذه الفجائع المذهلة، ألنفرد بها وحدي

..أهبك غزالة أنا الذي لم أكن أحلم سوى بأن

الخراب؟ كيف لي أن أفعل ذلك.. وأنت تهبينني كل هذا الدمار.. كل هذا

***

.البال ويعود فجأة، حديث قديم بيننا إلى

حديث مرت عليه اليوم ست سنوات. في ذلك الزمن الذي كنت تجدين شبها بيني وبين "زوربا". الرجل الذي أحببته األكثر حسب تعبيرك، فيه

.بكتابة رواية كروايته، أو حب رجل مثله والذي كنت تحلمين

كتلك، اكتفيت بتحويلي إلى نسخة ترى ألنك كنت عاجزة عن كتابة رواية أحبها بأكلها حتى منه، وجعلتني مثله أتعلم أن أشفى من األشياء التي

..التقيؤ

..أرقص من ألمي جعلتني أعشق الخراب الجميل، وأتعلم كطائر يذبح أن

لم يثر ها هوذا الخراب الجميل، الذي حدثتني عنه يوما بحماس مدهش:شكوكي، يوم قلت

في الخيبات مدهش أن يصل اإلنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز" والهزائم أيضا. فليست كل الهزائم في متناول الجميع. ال بد أن تكون لك أحالم فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك

..".الطريقة إلى ضدها بهذه

!آه سيدتي لو تدرين

Page 273: ذاكرة الجسد

الخراب الذي تتسابق قنوات كم كانت أحالمي كبيرة. وما أفظع هذا!التلفزيون على نقله اليوم

وما أحزن جثة أخي الملقاة على رصيف، يخترقها ما أفظع هذا الدمار،!رصاص طائش

تنتظرني اآلن في ثالجة الموتى ألتعرف عليه، وأرافقه ما أحزن جثته، وهي.جثمانا إلى قسنطينة

..هي ذي قسنطينة مرة أخرى ها تعيدنا إليها ولو تلك األم الطاغية التي تتربص بأوالدها، والتي أقسمت أن

.جثة

التي اعتقدنا فيها أننا ها هي قد هزمتنا، وأعادتنا إليها معا. في تلك اللحظة.شفينا منها، وقطعنا معها صلة الرحم

سيغادرها إلى العاصمة.. وال أنا سأقدر على الهرب منها بعد ال حسان..اليوم

ها نحن ..نعود إليها معا

.أحدنا في تابوت.. واآلخر أشالء رجل

..أيتها الصخرة.. أيتها األم الصخرة وقع حكمك علي

.. فأشرعي مقابرك، وانتظريني. سآتيك بأخي افسحي له مكانا صغيرا على جوار أوليائك الصالحين، وشهدائك، وباياتك.. كان حسان كل هذا

.طريقته

..كان غزاال

!كل هذا الخراب الجميل في انتظار ذلك.. تعالي سيدتي وتفرجي على

فبعد قليل سيحضر زوربا ليمسك بكتفي ولنبدأ الرقص .معا

..تعالي

عندما يفلسون ال بد أال تخلفي هذا المشهد، سترين كيف يرقص األنبياء .حقا

أرقص في تعالي.. سأرقص اليوم كما لم أرقص يوما، كما اشتهيت أن

Page 274: ذاكرة الجسد

..عرسك ولم أفعل

ذراعي المفقودة قد سأقفز وكأن جناحين قد التصقا بقدمي فجأة، وكأن.نبتت من جديد لتصبح ذراعي

".أشاركه يوما في طقوس "عيساوة تعالي.. وليعذرني أبي الذي لم جسده من في حفل جذبه ورقصه الجنوني، وغرسه ذلك السفود في

.طرف إلى آخر.. بنشوة األلم الذي يجاور اللذة

وليس لأللم وطن على التحديد. فليعذرني األنبياء للحزن أكثر من طقس،!الصالحون واألولياء

يحزنون، ماذا ليعذروني جميعا. ال أدري ماذا يفعل األنبياء بالتحديد عندمايفعلون في زمن الردة؟

هل يبكون أم يصلون؟

أنا قررت أن ..أرقص. الرقص تواصل أيضا. الرقص عبادة أيضا

.واحدة سأرقص لك فانظر أيها األعظم.. بذراع

واحدة يا ما أصعب الرقص بذراع واحدة يا ربي! ما أبشع الرقص بذراع..ربي! ولكن

.ستعذرني أنت الذي أخذت ذراعي األخرى

.. ستعذرني .أنت الذي أخذتهم جميعا !ستعذرني.. ألنك ستأخذني أيضا

مصاب حقا؟.. أن ترى تلك مقولة خلقت لتعلمنا الصبر فقط، هل المؤمنامتالك شهادة بالتقوى؟ لتبيعنا بدل مصائبنا فرح

..فليكن

.يحمد على مكروه سواه شكرا لك أيها األعظم، أنت الذي ال

.واألتقياء منهم.. أنت الذي ال تخص بمصابك سوى المؤمنين من عبادك

!اعترف أنني لم أكن احلم بشهادة حسن سلوك كهذه

أفرغ .منك سيدتي وأمتلئ لحنا يونانيا

Page 275: ذاكرة الجسد

.المتطرف تتقدم موسيقى "زوربا" نحوي، دعوة للجنون

تأتي على شريط تعودت االستماع إليه بمتعة غامضة. وإذا بذلك اللحن.القادم اليوم وسط الخراب والجثث، يأخذ فجأة بعده األول الحقيقي

فجأة من أريكتي وهو يفاجئني، وأصرخ كما في تلك القصة "هيا فأنتفض..".الرقص زوربا.. دربني على

يكون ها هوذا "الخراب الجميل" الذي جعلتنا نشتهيه. لم أكن أعتقد أن!بشعا إلى هذا الحد.. موجعا إلى هذا الجد

تزحف موسيقى تيودراكيس .نحوي. وتخترقني نغمة.. نغمة. جرحا.. جرحا

.بكاء بطيئة.. ثم سريعة كنوبة

.خجولة.. ثم جريئة كلحظة رجاء

.أمام كأس حزينة.. ثم نشوى كتقلبات شاعر

.مترددة.. ثم واثقة كأقدام عسكر

في غرفة شاسعة، تؤثثها اللوحات فأستسلم لها. أرقص كمجنون.والجسور

الصخرة الشاهقة، لرقص وسط وأقف أنا وسطها وكأنني أقف على تلك حجارة الخراب، بينما جسور قسنطينة الخمسة تتحطم وتتدحرج أمامي

.نحو الوديان

!إيه زوربا

وكانت تحبك أنت. وكنت أريد أن تزوجت تلك المرأة التي كنت أحبها،.أجعلها نسخة مني، فجعلتني نسخة منك

زياد.. ذلك الصديق الذي اشترى هذا الشريط ألنه ربما كان يحبك ومات ألنه كان يتوقع لي يوما كهذا، ويعد لي على طريقته أيضا من اجلها، وربما

.القادم كل تفاصيل حزني

.أحزان وربما يكون تلقاه هدية منها.. وورثته أنا في جملة ما أورثني من

.اليونانية ومات حسان.. أخي الذي لم يكن يهتم كثيرا باإلغريق، وباآللهة

Page 276: ذاكرة الجسد

.كان له إله واحد فقط، وبعض األسطورات القديمة سوى الفرقاني.. وأم كلثوم.. وصوت عبد الباسط عبد مات وال حب له

.الصمد

.الحصول على جواز سفر للحج.. وثالجة وال حلم له سوى

الوطن ثالجة ينتظرني فيها لقد تحققت نصف أحالمه أخيرا. لقد أهداه.األخير بهدوء كعادته، ألشيعه هذه المرة إلى مثواه

.لو عرفك، ربما لم يكن ليموت تلك الميتة الحمقاء

بتمعن، لما نظر إلى قاتليه بكل االنبهار، لما حلم بمنصب في لو قرأك..أجمل العاصمة، بسيارة وبيت

لبصق في وجه قاتليه مسبقا.. لشتمهم كما لم يشتم أحدا، لرفض أن:يصافحهم في ذلك العرس، لقال

تسرقوا دمنا أيضا. امألوا جيوبكم أيها القوادون.. السراقون.. القتلة. لن- " بأية عملة شئتم.. سيبقى لنا بما شئتم. أثثوا بيوتكم بما شئتم.. وحساباتكم

سنعمر هذا الدم والذاكرة. بهما سنحاسبكم.. بهما سنطاردكم.. بهما".الوطن.. من جديد

آه زوربا.. مات زياد وها هوذا حسان يموت .غدرا أيضا

.آه لو تدري يا صديقي، لم يكن أحدهما ليستحق الموت

حسان نقيا كزئبق، وطيبا حد السذاجة. كان يخاف حتى أن يحلم، كان.قتلوه وعندما بدأ يحلم

وكان زياد.. آه كان يشبهك بعض الشيء. لو رأيت ضحكته، لو سمعته يتحدث.. يكفر.. يلعن.. يبكي.. يسكر.. لو عرفتهما، لرقصت.. حزنا عليهما

.لم ترقص من قبل الليلة كما

ألنك مت، كما ولكن ال يهم.. أدري بأنك أنت أيضا لن تحضر الليلة. ربما في تلك الرواية، بعد أن لعنت الكاهن الذي جاء ليناولك القربان المقدس

..قبل الموت لزمن أو ربما ألنك لم توجد يوما أبدا على هذه األرض. ألنك بطل خرافي

كان الناس يبحثون فيه عن خرافة كهذه. عن آلهة إغريقية جديدة، تعلمهم.والتحدي.. وعبثية الحياة الجنون

جميعا؟ فهل مهم أن تتغيب الليلة، كما تغيبوا

Page 277: ذاكرة الجسد

لن أعتب عليك يا صديقي. أنت لست مسؤوال في النهاية عن كل ما يمكن!أن يرتكب من حماقات بسبب رواية

وقتلوا من رفاقك ولكن أجبني فقط.. أنت الذي قتلت من األتراك،الكثيرين. هل هناك من فرق بين القتلة؟

سي الطاهر.. وعلى يد اإلسرائيليين مات زياد.. على يد الفرنسيين مات.اليوم وها هو حسان يموت على يد الجزائريين

فهل هناك درجات في االستشهاد؟ وماذا لو كان الوطن هو القاتل والشهيدمعا؟

فكم من مدينة عربية دخلت التاريخ بمذابحها الجماعية، ومازالت مغلقة!على مقابرها السرية

!مواطنين كم من مدينة عربية أصبح سكانها شهداء.. قبل أن يصبحوا

الشهداء؟ فأين تضع كل هؤالء.. في خانة ضحايا التاريخ، أم في خانة

!وما اسم الموت عندما يكون بخنجر عربي

***

:صاحت ما كادت كاترين تراني في ذلك الصباح حتى

!إن لك وجه رجل يستيقظ من ليلة سكر-

:والتلميح الواضح ثم أضافت بشيء من السخرية

الحالة؟ ماذا فعلت أمس أيها الشقي، لتكون في هذه-

:قلت

!ال شيء.. ربما لم أنم فقط-

على الصالون، وتبحث بفضول امرأة عن آثار تدلها قالت وهي تلقي نظرة:السهرة على نوعية من قضيت معهم

هل استقبلت أصدقاء أمس؟-

Page 278: ذاكرة الجسد

.أجيبها: نعم ابتسمت لسؤالها، شعرت برغبة في أن

..نفسه يحدث للحزن عندما يجاور الجنون، أن يبدأ هكذا في السخرية من

:واصلت

وهل قضوا الليلة هنا؟-

:قلت

..رحلوا.. ال-

:أضفت بعد شيء من الصمت

أصدقائي يرحلون- !دائما

وربما لم يقنعها كالمي، أو زاد في فضولها فقط. فراحت تواصل بعينيها البحث وسط فوضى الغرفة، والحقيبتين المفتوحتين في الصالون عن

.شيء ما

هكذا دائما: ال يرين أبعد من أجسادهن، ولذا لم يكن في إمكان النساء.زياد وحسان وزوربا.. في ذلك البيت كاترين أن تكتشف آثار

.تعيش على هامش حزني في الحقيقة.. لقد كانت كاترين دائما.حب وال ربما اقتنعت دون كثير من الكالم أنني أستيقظ من ليلة

:سألتني وكأنها ال تجد فجأة مبررا لوجودها عندي في تلك اللحظة

لماذا طلبتني على عجل؟-

:قلت

..ألسباب كثيرة-

:فجأة ثم أضفت

كاترين.. هل تحبين الجسور؟-

:التعجب قالت بنبرة ال تخلو من

!السؤال ال تقل لي إنك أحضرتني في هذا الصباح لتطرح علي هذا-

Page 279: ذاكرة الجسد

:قلت

.ال.. ولكن أود لو أجبتني عليه-

:قالت

ال أدري.. أنا لم أسأل نفسي سؤاال كهذا قبل اليوم. لقد عشت دائما في- ..فيها. ما عدا باريس ربما مدن ال جسور

:قلت

..أال تحبيها. يكفي أن تحبي رسمي ال يهم.. فأنا أفضل في النهاية-

:أجابت

..راهنت دائما على انك رسام استثنائي طبعا أحب ما ترسمه.. لقد-

:قلت

.اللوحات لك فليكن إذن.. كل هذه-

:صاحت

مدينتك.. قد تحن إليها أأنت مجنون؟ كيف تهبني كل هذه اللوحات؟ إنها- .يوما

:قلت

بعد اليوم، أنا عائد إليها. أهبها لك، ألنني لم يعد هناك من ضرورة للحنين- ..تضيع أدري أنك تقدرين الفن، وأنها معك لن

:قالت كاترين وصوتها يأخذ نبرة جديدة لحزن وفرح غامض

..بها جميعا.. فلم يحدث لرجل أن أهداني يوما شيئا كهذا سأحتفظ-

نظرة أخيرة على جسدها المختبئ داما تحت األثواب قلت وأنا ألقي:الخفيفة الفضفاضة

..يحدث المرأة قبلك أن منحتني غربة أشهى ولم-

:قالت

Page 280: ذاكرة الجسد

- وتشتاق إلى إحدى هذه اللوحات.. اعلم أنك ستجدها أخاف أن تندم يوما.دائما عندي

:قلت

..ربما سيحدث ذلك.. فنحن في جميع الحاالت نندم على شيء ما-

:اكتشفت جدية الموقف تقاطعني وكأنها

-Mais ce n'est pas possible .. هكذا ال يمكن أن نفترق!

من أو كاترين.. دعينا نفترق على جوع. لقد حكم علينا التاريخ أال نشبع- بعض تماما.. وال نحب بعضنا تماما.. ألكثر من سبب. إنك تملكين اليوم

نسخة مني.. علقي على جدرانك ذاكرتي، حتى ولو كانت ذاكرة أكثر من !طرفا فيها مضادة.. لقد كنت أيضا

.ال تفهم كاترين لماذا كل هذه الرموز اليوم

الحديث الغامض الذي لم أعودها عليه؟ ولماذا هذا

يفهم. جسدها يخرج عن وربما فهمت، ولكن جسدها كان يرفض أن بالمزيد.. الموضوع دائما. جسدها موظف فرنسي يحتج دائما. يطالب دائما

.يفرط في حرية التعبير، في حرية اإلضراب

..ولكن

سآتي بالكلمات التي ستشرح لها حزني؟ من أين

أن أقول شيئا، إن حسان من أين سآتي بالصمت الذي سيقول لها دون يعد لهم هناك في مدينة أخرى، ينتظرني في ثالجة، وأن أوالده الستة لم

.غيري كيف أشرح لها سر قدمي الباردتين، والصقيع الذي يزحف نحوي كلما

تقدمت بي الساعات، وكلما راحت يداها تفتحان أزرار قميصي دون انتباه...العادة بحكم

..كاترين.. ليس لي شهية للحب، اعذريني- وماذا تريد إذن؟- .أريد أن تضحكي كالعادة- لماذا أضحك؟- .ألنك عاجزة عن الحزن- وأنت؟- ..وأنا سأنتظر أن تذهبي ألحزن. حزني مؤجل فقط كالعادة-

Page 281: ذاكرة الجسد

لي هذا اليوم.؟ ولماذا تقول- ..ألنني متعب.. وألنني سأرحل بعد ساعات- ..تسافر. لقد ألغوا كل الرحالت إلى الجزار ولكن ال يمكنك أن- تقلع. ال بد أن أسافر اليوم أو سأذهب، وأنتظر في المطار أول طائرة-

..غدا. هناك من ينتظرني

لها: "لقد مات أخي.. أخي الوحي يا كاترين.." وأجهش كان يمكن أن أقول.أبكي أمام أحد يومها بالبكاء. فقد كنت في حاجة إلى أن

فالحزن قضية.. ولكن لم أكن قادرا على ذلك معها. لعلها عقدة قديمة..شخصية، قضية أحيانا وطنية

أواصل حديثي كالعادة. لعلني ولذا احتفظت بجرحي داخلي. وقررت أن.أكبر في يوم آخر سأخبرها بذلك. ولكن ليس اليوم. الصمت اليوم

.شعرت فجأة أنني أسأت للفراشات

:قلت

كانت قصتنا جميلة، أليس كذلك؟ كانت معقدة بعض كاترين.. لقد- كنت المرأة التي كانت دائما، على الشيء.. ولكنها جميلة برغم ذلك. لقد

ما عجزت كل وشك أن تكون حبيبتي. وربما سينجح الفراق في تحقيق..سنوات القرب هذه من تحقيقه

هل ستحبني عندما نفترق؟-

ال أدري.. من المؤكد أنني سأفتقدك كثيرا. إنه منطق األشياء. لقد كان- ..من عادة. وال بد لي بعد اليوم أن أغير عاداتي لي معك أكثر

وهل ستعود؟-

قبل مدة طويلة.. ال بد أن أتعلم اآلن الوجه اآلخر للنسيان. الغربة ليس- ..سهال أن نجتاز الجسر الذي سيفصلنا عنها أم أيضا ليس

الجسور؟ خالد.. لماذا تحيط نفسك بكل هذه-

على أنا ال أحيط نفسي بها.. أنا أحملها داخلي. هناك أناس ولدوا هكذا- جسر معلق. جاؤوا إلى العالم بين وصيفين وطريقين وقارتين. ولدوا وسط

الرياح المضادة، وكبروا وهم يحاولون أن يصالحوا بين األضداد مجرى هؤالء.. في الحقيقة دعيني أبوح لك بسر. اكتشفت داخلهم. ربما كنت من

كراهيتي لكل شيء له طرفان، ووجهتان، أنني ال أحب الجسور. وأكرهها.اللوحات واحتماالن، وضدان. ولهذا تركت لك كل هذه

Page 282: ذاكرة الجسد

كنت أود إحراقها، راودتني هذه الفكرة. ولكن لست في شجاعة طارق بن زياد. ربما ألن إحراق بحار لباخرته في معركة حربية، يظل أسهل من

..للوحاته في لحظة جنون إحراق رسام العودة إلى وبرغم ذلك، أريد أن أحرقها حتى أقطع على قلبي طريق

.الخلف

.االتجاهين ال أريد أن أقضي حياتي، وأنا أسلك هذا الجسر في..أريد أن أختار لقلبي مسقطه األخير

الجالسة فوق صخرة، وكأنني أفتحها من أريد أن أعود إلى تلك المدينة..اسمه جديد. كما فتح طارق بن زياد ذلك الجيل، ومنحه

.منذ غادرتها أضعت بوصلتي. قطعت عالقتي بالتاريخ وبالجغرافية.. .ووقفت سنوات على نقطة استفهام، خارج خطوط الطول والعرض

يقف العدو؟ أيهما أمامي وأيهما ورائي؟ أين يقع البحر وأين أمامي سوى زورق الغربة.. وال شيء وراء البحر سوى الوطن.. وال شيء

..وال شي بينهما سوايسوى الحدود اإلقليمية للذاكرة؟ على من أعلن الحرب وال شيء حولي

نظرت إلي كاترين، ولم تفهم ..شيئا

التقينا لقد كانت عالقتنا دائما ضحية سوء فهم وقصر نظر. فافترقنا كما منذ أكثر من قرن، دون أن نعرف بعضنا حقا.. دون أن نحب بعضنا تماما..

.دائما بتلك الجاذبية الغامضة نفسها ولكن

***

:وقلت

".هو كل ما لم يحدث الحب هو ما حدث بيننا.. واألدب"

..نعم ولكن

أخرى، ال عالقة لها بالحب وال بين ما حدث وما لم يحدث، حدثت أشياء.باألدب

سوى الكلمات. ووحده الوطن فنحن في النتيجة، ال نصنع في الحالتين.حبره يصنع األحداث. ويكتبنا كيفما شاء.. مادمنا

غادرت الوطن في زمن لحظر التنفس.. وها أنا أعود إليه مذهوال في زمن

Page 283: ذاكرة الجسد

.آخر لحظر التجول بالحداد أتذكر وأنا أواجه وحدي هذه المرة مطار تلك المدينة الملتحفة

.واضح كالما قاله حسان منذ ست سنوات واستوقفتني كلماته دون سبب

قال: "إن قسنطينة فرغت من أهلها األصليين. لقد أصبحوا ال يأتونها سوى".في األعراس و في المآتم

لهذه المدينة التي يذهلني اكتشافي.. ها أنا أصبحت إذن االبن الشرعي.جاءت بي مكرها مرتين

فما الفرق بين االثنين؟ لقد مات. مرة ألحضر عرسك.. ومرة ألدفن أخي.العرس أخي في الواقع مثلما مت أنا منذ ذلك

..قتلتنا أحالمنا

.الكبيرة هو ألنه أصيب بعدوى األحالم الفارغة

.أحالمي وأنا ألنني غادرت وهمي.. ولبست نهائيا حداد

يسألني جمركي عصبي في عمر االستقالل لم يستوقفه حزني وال استوقفته ذراعي.. فراح يصرخ في وجهي، بلهجة من أقنعوه أننا نغترب

..نهرب دائما شيئا ما في حقائب غربتنا فقط لنغنى، وأننا

بماذا تصرح أنت؟-

.جسدي ينتصب ذاكرة أمامه.. ولكن لم يقرأني كان

يحدث للوطن أن يصبح .أميا كان آخرون لحظتها يدخلون من األبواب الشرفية بحقائب أنيقة

.دبلوماسية

وكانت يداه تنبشان في حقيبة زياد المتواضعة، وتقعان على حزمة من:األوراق.. فتكاد دمعة مكابرة بعيني تجيبه لحظتها

..ابني أصرح بالذاكرة.. يا-

ولكنني أصمت.. وأجمع مسودات هذا الكتاب المبعثرة في حقيبة، رؤوس.أقالم.. ورؤوس أحالم

1988 باريس _ تموز

Page 284: ذاكرة الجسد

: الكتاب غالف على

الجسد( ألحالم مستغانمي، وأنا جالس أمام بركة قرأت رواية )ذاكرة.بيروت السباحة في فندق سامرالند في

بعد أن فرغت من قراءة الرواية، خرجت لي أحالم من تحت الماء األزرق..كسمكة دولفين جميلة، وشربت معي فنجان قهوة وجسدها يقطر ماء

وأنا نادرا ما أدوخ أمام رواية من الروايات وسبب الدوخة. روايتها دوختني يشبهني إلى درجة التطابق، فهو مجنون، ومتوتر، أن النص الذي قرأته

وشهواني.. وخارج على القانون مثلي. واقتحامي، ومتوحش، وإنساني ، الرواية اإلستثنائية ولو أن أحدا طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه

..المغتسلة بأمطار الشعر.. لما ترددت لحظة واحدة

كانت أحالم مستغانمي في روايتها )تكتبني( دون أن تدري.. لقد كانت هل الورقة البيضاء، بجمالية ال حد لها.. وشراسة ال حد لها.. مثلي تهجم على

...له جنون ال حد

الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور.. بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر اإليديولوجية، وبحر الثورة الجزائرية بمناضليها ومرتزقيها، وأبطالها

..ومالئكتها وشياطينها، وأنبيائها وسارقيها وقاتليها،

الجسد فحسب، ولكنها تختصر تاريخ الوجع هذه الرواية ال تختصر ذاكرة..الجزائرية التي آن لها أن تنتهي الجزائري، والحزن الجزائري، والجاهلية

في رواية أحالم، قال لي: وعندما قلت لصديق العمر سهيل إدريس رأيي عنها، فسوف ال ترفع صوتك عاليا.. ألن أحالم إذا سمعت كالمك الجميل

...تجن

Page 285: ذاكرة الجسد

!!يكتبها إال مجانين أجبته: دعها تجن.. ألن األعمال اإلبداعية الكبرى ال

1995 / 8 / 20لندن نزار قباني

__________________