أصحاب المغيب

Embed Size (px)

DESCRIPTION

كتاب مجلة المستقل-العدد الرابع عشر

Citation preview

Page 1: أصحاب المغيب
Page 2: أصحاب المغيب
Page 3: أصحاب المغيب
Page 4: أصحاب المغيب
Page 5: أصحاب المغيب

أصحاب المغيبتأليف: سالم الهنداوي

© جميع الحقوق محفوظة

مجلة

أسبوعية سياسية شاملة

طبع في مايو 2015

مطابع األهرامجمهورية مصر العربية

المدير الفني وتصميم الغالف: سامح الكاشفاإلخراج الفني والتنفيذ: أحمد نجدي

Page 6: أصحاب المغيب

المحتويات

7 ........................................................................ ـ عودة الزورق الغريب..!

9 ............................................................................................. ـ البدايات..

ـ ضفاف الكاتب: روعة البيادر التي هناك بين قصة وقصيدة ولوحة

لم تكتمل..!.......................................................................................... 15

21 ...... ى من جيوش النار..؟! ـ طائر قاسيون في لحظته الحالمة: يرصد ما تبق

ـ ذاكرة المكان في الرواية العربية: لقاء في المغرب على ضفاف المشرق... 27

ـ عمر المختار ليس أنتوني كوين!............................................................. 31

35 ............................................................................ ـ ليلة في قصر اإلمام..!

41 .................................................................... ـ صباح الكمانجا.. يا نوري!

45 ....................................... ـ تكرار الحلم: ذاكرة رجل يظهر في الخريف..!

ـ توقيت بيروت........................................................................................ 49

53 ..... ـ في الهزيع األخير من الليل: ترحل األشباح وتبقى الرؤية في الدار..!

59 .......... ـ ليلة قادتنا الفئران إلى المعرفة؟!: دار الغرائب في وطن العجائب!

65 ... ـ كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟!: معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات

Page 7: أصحاب المغيب

65 ............................................................................... ـ حالة حب استثنائية!

ـ حالة الثقافة وراء الستار السياسي: أزمة حوار مع الجماهير..؟!............... 69

كون؟!.................................................................... 75 ـ ال أحد يبكي في الس

ـ كيف احترقت قبرص: عند الرحيل الثاني..؟!......................................... 81

ـ أميركا والرجل السوريالي: وجه مثل الحليب يسافر في الرحلة األخيرة!....... 87

93 ................................. ـ ليل القاهرة: كيف ينام القلم على سريره األبيض؟!

ـ بيروت المساء....................................................................................... 99

ـ حكاية رجل الفـرات: سافر كثيرا.. ومات كثيرا..!.................................. 105

109 .......................................................... ـ اجهاشة الذاكرة في رواية المدينة!

115 ................................................................................... ـ العودة المحزنة..

ـ رصيف بيروت: تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي!..................... 121

ـ غيمة سلفادور دالي................................................................................ 127

131 ....................................................................... ـ أغنية على جسر أبيض..!

ـ بيروت.. ضاحية الشمال والجنوب..!.................................................... 135

141 ................................................................................ ـ على ورق أبيض..!

145 .................................................................................... ـ ذاكرة الصورة..!

ـ محمود درويش: من منفى إلى منفى تعود..!........................................... 149

ـ بيروت آخر الليل.................................................................................... 153

Page 8: أصحاب المغيب

7

عودة الزورق الغريب..!

ليلة عيد البحر في إلى المدينة، ونزلت تركت األصدقاء في الميالد. أحسست أن صخب البحر في ديسمبر، ال بد أن يكون مثل ذلك الصخب الذي تركته خلفي منذ كذا عام، عندما كانت الزوارق ليلة عيد البعيد، حيث تسقط نجمة هناك، في بالغرباء إلى تبحر الميالد، ويسقط الضوء هناك، على طول الساحل البحري للمدينة عتنا بالقبل الحلوة، ودفعتنا إلى رصيف الميناء بذلك الطيش التي ودالجميل قبل منتصف الليل.. لنعبر الساللم الخشبية مندفعين بصخب للفوز بالصعود على متن ذلك الزورق الذي يدخل البحر لينتصف الليل على الغرباء، وليكون العام الجديد.. مزيد سفر وترحال، بين موانئ مجهولة لم تطأها قدما غريب، وبين أرصفة لمدن مشتهاة،

كانت ذات مساء في أحالم العاشقين..!

ني بتلك الرؤى الجميلة، فكانت أحسست أن البحر كان يمدلة تنتظر نجمتها العالية في سماء قرية »الحمامة« تلك الساعة المتمهعلى ساحل »الجبل األخضر« حيث كنت وحدي هناك، على شاطئ

Page 9: أصحاب المغيب

لت أمواجه إلى نساء صاخبات، يضحكن بصوت عال كأنهن تحومن رذاذ ذلك الطيش الجميل الذي ترك لنا مناديل الليل في صباح

العام الجديد..!

عندما عدت مصحوبا بالرؤى وحدي، كانت مدينة »البيضاء« رني بالعواصم التي أضاءت مصابيحها في في ضباب تلك الليلة تذكل هم من البحر. غير أن الليل الذي تبد انتظار الغرباء وقد عادوا لتوور إلى قمصان شفيفة برائحة تلك األسفار، جعلني بين ألبوم الصهاد من أطالع الذكريات بين وجوه بعيدة، ترحل في الليل إلى السشدة التعب. تعبرني في التعب بتلك الضحكات. تختارني من دون باح، حيث يعتريني البرد وقد األصدقاء للفوز بها على مشارف الص

ور.. وبتلك الذكريات..! خرجت مليئا بالحلم بتلك الص

2003/1/10

Page 10: أصحاب المغيب

9

البدايات..

ات .. كيف تلغي الفكرة؟ وكيف تلغي الدنيا؟.. وكيف تلغي الذط أكثر في عالقات ال طائل من ورائها..؟ وكيف تكون من التورجديدا، في ما بعد، بال فكرة، وبال دنيا.. إال من ذات مهيأة لعالم آخر، لم ينسجه لنا األصدقاء، وال األعداء.. أولئك الذين رأيناهم في طون دائرة النار الكبيرة، ويكبرون..! الحرب، والذين رأيناهم يتوس

من الصعب أن ننجو من ورطتنا باآلخرين، الذين نحبهم، والذين ال نحبهم، من األمريكان واإلسرائيليين. ومن الصعب أيضا أن ننجو لت رؤانا إلى شرر من هذه الحرب النفسية التي تخيم علينا.. فتحو

في ظالم دنيا ليست لنا..!

* * *

ي األشياء كما هي.. الطين كيف نصنع عالمنا المختلف إذا؟.. ونسمطين، والورد ورد، والنساء نساء. وكيف نطلق الضحكة المحبوسة منذ لين بالبنادق والجماجم وشهادات ة، محم مر الجنود من هنا ذات مر

Page 11: أصحاب المغيب

10

الدفن؟!.. فأطلقنا ضحكاتنا العالية في غفلة من شجرات البرتقال والصنوبر، والعشب المبلل بندى الذاكرة. تنتبه إلينا الواجهات، فتضاء مصابيح المدن المطفأة، ويضحك األطفال. تمضي األغنيات إلى مسرحها الصيفي، وتمضي العاشقات إلى نور الرجل الالمع.. وإلى

لة..! ب األحوال المتبد مقهاها تجلس الذاكرة، تتعج

* * *

.. طويت ورقة التلوين. وأحسست في غفلة مني، بأنني طويت قبري، قبل عمري. وبأنني كبرت حين بدأت أدرك معنى الرحيل إلى ية والروايات. تذكرت المدن المشبوهة بالنساء والعصابات السرع كأسها المسائي في »فيا فينتو« »روما« التي تركتها ورائي تتجر

تغتالها المصابيح وعيون الغرباء..!

لم يكن للوقت الفاصل بين الفكرة والفكرة، أي معنى. والقطار سيصل إلى »بوخارست« بعد ساعات قليلة. الليل طويل. والرحلة

طويلة.. والعمر طويل. والقلب خزانة صغيرة لوخزات الزمن..!

* * *

كل شيء تركته خلفي: العواصم، الذكريات، األصدقاء الذين باك، رحلوا، والذين يقبعون هناك في كوخهم البحري، يرمون بالشويكملون الحكايات التي مر عليها أكثر من شتاء. واألمهات الطيبات مك، أو الالئي يحفظن وجه شارعنا القديم، ينتظرن قدومهم بالس

بأخبار الطقس، أو بأخبار الغرقى..!

كل شيء كان خلفي. حتى روما صارت خلفي. ضاقت بي بعد

Page 12: أصحاب المغيب

11

امة »مارينا« التي أطلعتني شهرين من اإلقامة في بيت الصديقة الرسخام األسود في أحياء روما القديمة، والتي ألصق ذات يوم على الر

عليها في العام 1932 صور إعدام عمر المختار..!

كان موسوليني أسود بين خروم الذاكرة السوداء للفاشية. وكانت صديقتي ترسم وجهه بعود ثقاب على الجدار الفاحم..

روما سيدة الذكريات المبهمة، ضاقت بالقلب الذي أفرغ كل قصائده على أرصفتها..!

* * *

.. كان ال بد لي أن أكون في »بوخارست« قبل نهاية الشهر، حيث تبدأ إجازة صديقي »نجيب« لنمكث هناك بضعة أيام، ثم نعود إلى بنغازي التي غازلتني كثيرا في روما، وهاهي تغازلني اآلن، وستغازلنا

حتما، في أول ليلة نقضيها معا في بوخارست..!

كان القطار يبث سحرا عجيبا في قلبي. فالدوي كالم. كالم من أمي، تسألني إن كنت أكلت جيدا، ونمت جيدا. وتوصيني بالغطاء

الجيد، وبأال أتأخر كثيرا في الغربة.

قلت لها، سأعود بعد أسبوعين، أو بعد شهرين، أو بعد عامين. ها، وبكت. بكيت وحدي، والدنيا ظالم.. فأسكتتني برائحة حناء كف

ور.. وزجاج النافذة يعكس وجهي البعيد في الص

سقطت الدمعة الحارة، ونمت.

* * *

Page 13: أصحاب المغيب

12

أفقت من نومي على لسعات البرد، والدنيا فراغ دامس. الدنيا ذاكرة وصوت قطار يلج نفقا مضيئا، ثم يدخل في ظالم!

ثالث ساعات تقريبا وأصل إلى بوخارست. مازالت ثالث سنوات وأصل إلى بنغازي. مازالت ثالث سنوات وأصل إلى أمي..

فكيف لدنيا عجيبة مثل روما، تعجز عن أن تنسيني بنغازي؟!.. وكيف يعجز برج »بيزا« عن أن ينسيني منارة »سيدي خريبيش«؟!.. وكيف لشارع »فينتو« االحتفالي، يعجز عن أن ينسيني شارع عمر

المختار؟!!

* * *

تلك كانت حكاية القلب معي في أول السبعينيات، عندما زرت ، ة. اندهشت حين وجدت ة. وزرت رومانيا ألول مر إيطاليا ألول مرفي اآلونة األخيرة، بين أوراقي، قصاصات خواطر عن تلك الرحلة، التي كان من طبيعتها أن تحفظ لي شيئا من الوهج والتعلق بالبدايات، أي بدايات، مع السفر، مع الحب، مع الكتابة. كان ال بد أن تكون بداية الصحوات األولى بكل شيء في العالم. فأي عالقة بأي شيء، تأخذ طبيعتها في نمو، نحو تأسيس وعي شامل بها. لذلك كان ال بد لنا أن نحب. وكان ال بد لنا أن نسافر. وكان ال بد لنا أن نكتب.. وكان ة، ر تلك اللحظات التي دونت فيها حاالتي الخاص ال بد لي أن أتذك

وشعوري بمدى تأثير الغربة على التجربة األدبية.

* * *

Page 14: أصحاب المغيب

13

كان من الطبيعي أن يفتر ذلك الولع البدائي، وأن يأخذ مداه، في ما ة بعد أن صار السفر حالة دائمة، له بعد، في استراحات الذاكرة، بخاصة أيضا، في عملية الكتابة اإلبداعية. ة، وإضافاته المهم تالوينه المهمفالسفر متاهة.. وهو كتابة العين ألولى المشاهد واالحتماالت، وهو النص الذي ال ينتهي بأسئلته وغرائبه.. وهو أيضا رصيفنا ومقهانا في

التعب.

السفر، بعبارة أخرى، تصحيح للذاكرة.. ومحاولة مجدية ألن ني تلك اللحظات، فأحببتها نكون في العالم. لذلك، كانت تشد

اآلن، مثلما أحببت تلك األعوام!

ربيع 1991

Page 15: أصحاب المغيب
Page 16: أصحاب المغيب

15

�ضفاف الكاتبروعة البيادر التي هناك

بين قصة وقصيدة ولوحة لم تكتمل..!

ال أنا من اسكندنافيا، وال أنا من قوقازيا، وال أنا من أصل فينيقي عريق. يحكى أن األفارقة هم من أصل عربي. غير أنني من شمال ان الشمال أفريقيا، ال من جنوبها، فقد أكون فينيقيا دون أن أدري. فسكاألفريقي والجنوب األوروبي، قد يكونون في األصل من عائلة ض لها واحدة، وينتمون إلى حضارة واحدة نشأت في منطقة تعرض لها القراصنة في البحر. ومن بقى من ، كما تعر الطوفان في البر

»العائلة« تناثروا على سواحلها يصطادون الغوايات..!

فأنا الذي أقيم بجسدي في أفريقيا، لم أستطع كبح جماح الخيال المسافر أبدا بين أوطان البحر المتوسط. وكأنني أبحث بهذا الخيال عن حائط مفقود في غرناطة أو فينيسيا أو أثينا، ووجوه كنت أعرفها فت إليها مرارا على أو ال أعرفها كانت دائما معي أثناء الكتابة. تعر

صفحة بيضاء واصطدنا السمك معا، وشربنا معا نخب الشواء.

Page 17: أصحاب المغيب

سأعرفها. الحيطان، تلك إلى سافرت لو أنني أعرف كنت ولو التقيت تلك الوجوه على رصيف ذلك الميناء سأعانقها وأعاتبها

لماذا تترك البحر وتنام..؟!

والبحر الذي صار ينأى في خيالي منذ عدت من جزيرة قبرص، ترك لي التذكار القديم في »غاليري« الصديق »أحمد األتاسي« في نيقوسيا، وترك صخب األصدقاء، من العرب واألجانب، في اللوحة خام العتيق في ليلة االفتتاح..! التي فاضت بألوانها ومألت ساللم الر

* * *

من األحالم بإعادة صدور مجلة »فرح« لألطفال، صار الشاعر ة« يحاضر في جامعة تسقط الدكتور »عبد الرحمن بسيسو« في »غزفي قصف طغاة الليل والنهار. والشاعر والروائي »سليم بركات« بعد سنوات تاقت إلى »الكرمل« يطوي المخطوطات ويغادر »الشريط الجميل« يغمره إلى »السويد« حيث مقعد »الكردي الحدودي« ضباب »ستوكهولم« بذكريات المكان المهيب، مبعث الغواية األولى في االغتراب، الذي صار بعيدا في غبار يرسم شريط الفصل بين اح« القبارصة اليونانيين والقبارصة األتراك. والشاعر »نوري الجرمن تعلقه بقصيدة ضائعة في مياه المتوسط، ومن خسارته الفادحة ألحالم »الكاتبة« في لندن، يغادر األمكنة على عجل.. من لندن ينام بيننا في ليل نيقوسيا، ومن نيقوسيا التي داهمها الضجر، يتركنا إلى »أبوظبي« في خطوه الرشيق يزرع األمنيات في الحقل الجديد. غير ة، من افة الواثقة التي أخذت الشاعر »أمجد ناصر« ذات مر أن الطو

Page 18: أصحاب المغيب

17

معارك الجزيرة في بحر الكلمات، قصفت مقهى »ليدرا« في تلك الليلة بعناقيد الشوق حين كنا نجلس خمستنا في طقس قبرص الثمانين يات، وكان معنا ينتظر الشاعر »حسام الدين محمد« يقبل من عتمة الشارع الجانبي إلى ضوء المقهى على الناصية العالية. يشتعل المكان بالكالم

الذي أنشأ جزيرة الروح وطار بجناحيه إلى »بيروت«..!

* * *

كنا.. وأطفاال نلعب في »الجزيرة« بخيال يبني العواصم غرباء رصيف على افتقدناها رة مبك نشأة من كانت فوضانا رها. ويدم

بال مقهى في أوطان مالحة، صادر البوح في الطريق..!

عبرتنا النساء بالورد وتذاكر »المترو« األنيق، وهن يضئن النفق رني هذا المشهد بامرأة ويشتعلن في محطة الوصول وسط المدينة. ذكاشتعلت أمامي ذات مساء في »بودابست« وهي تخرج من النفق إلى

مقهى في »جادة أديب«.. أضاءته واختفت!

* * *

قرأت »إيميل« الصديق الجالس هناك وحيدا، في مقهى على رصيف الغرباء. فتحت النافذة على الرطوبة العالية التي تكتسح مشهد الظالم في الشارع. والذباب البالغ في الشراسة، استيقظ لوجهي في الغرفة القائضة. صار الطنين يصادر الروح المتوقدة. هجمت واحدة على وجهي الرطب والتصقت به بلهفة العاشق. ثم حطت على شاشة الكمبيوتر تقرأ »اإليميل« في صمت. بعد لحظات اجتاح الطنين

Page 19: أصحاب المغيب

18

الغرفة وحطت ذبابة أخرى على شاشة الكمبيوتر. لم أعرف الذكر دتين من األنثى. تهامست الذبابتان في مهجة الضوء وصارتا متوح

زة، طارت إلى وجهي..! مثل نحلة عسل متحف

رة على الفور، ألن وجهي ليس أرجوحة رفضت الفكرة المتهوبغاء. أنا وجهي محطة سفر لعيون النساء، ولقبالت في المساء. لذلك نفضت الذبابتين عن وجهي وأشعلت نصف السيجارة الباقية

احتجاجا على سلوك الليل..!

* * *

أسفل »اإليميل« كانت صورة تذكارية في نهار »أحد« جمعتنا بالشاعر »منذر عامر« الذي قدم من »فلسطين« في »أبريل« العام الماضي، يبحث عن كتب مركز الدراسات الفلسطينية كانت وديعة ة عجوز قبرصي منذ أكثر من عشر سنوات. وبالسالم الذي فتح في ذمباب المؤسسة في »رام الله« فقد حان وقت عودتها إلى دارها اآلمنة. لكن القصف الذي داهمها في »أبريل« هذا العام، أضاع األمانة من جديد إلى نار لم تبق على شيء. فكانت السنوات العشر تنتهي في

عشر ثواني..!

كان الشاعر »عامر« متفائال منذ سنوات بعودته إلى فلسطين، كما ان زقطان« وبقية األصدقاء الذين فتحوا أشرعة »أحمد دحبور« و«غساألسفار في األزمان العنيدة وعادوا إلى المهد بأحالم تستعيد الطفولة

في مجد القصيدة..!

Page 20: أصحاب المغيب

19

كان الشوق إلى »قبرص« من عمر تلك السنوات التي أمضيناها »الكرمل« ودفء صاحبها »محمود درويش« هناك تحت شعار والساكن في طقسها »سليم بركات«. لكن الشوق الذي فرح ببعض الباقية في جزيرة المالذ العربي، وفرح بالعثور األصوات الثقافية د على ذخيرة المعرفة الفلسطينية األسيرة منذ زمن، سرعان ما تبدبين شتاتنا من جديد، والحريق الذي اندلع بضراوة، في فلسطين..!

* * *

الصورة »اإلنترنت« كما بعيد عبر الصوت يصل من إذا كان والحكاية، فإن ولع الشوق يظل في العناق. وتلك هي المحنة التي أخذت منا اللقاء الحميم على ناصية قبرص، ونثرتنا »أوحادا« بين

ليبيا واإلمارات وفلسطين والسويد..!

* * *

أوصدت النافذة على الرطوبة العالية، وفتحت نافذة الشوق على تلك المقهى في مساء »نيقوسيا«. غير أن البعوض الذي حبسته معي في الغرفة، صار يتآمر ضدي مع الذباب. صرت اضرب بالمنديل التافهة التي أكلت كالمجنون في الهواء الحبيس، أطرد األجسام

وجهي وأطرافي وصادرت حقي في الكتابة..!

سالت بقع الدم على شاشة الكمبيوتر ولم ينقرض البعوض ولم يتوقف عن اللسعات الحارة. كان يشرب من دمي ألراه بعد وقت على الصفحة البيضاء غزيرا بأوجاعي. صار وجهي يحترق،

Page 21: أصحاب المغيب

20

والذباب صار سمجا وشرسا، كأنه لعنة أغسطس تضج في بؤس المكان..!

* * *

مللت المكان الذي ضاق بي في ليلة اشتهيت أن أكون هناك، بين أصدقاء حلمنا معا بروضة صغيرة تضئ سماء الكون!

مللت المكان الذي ابتعد عن ذاتي وأعطب المصابيح في شارع الظالم والرطوبة العالية، و«عبد الرحمن« كان في األثناء، هناك، بجوار

باح..! القصف الذي ضرب »غزة« الحالمة بزيتون الص

... لعن الله الجامعة يا »عبد الرحمن« على هذه المعرفة التي تموت. ولعن الله »اليهود« كم صاروا ذبابا وبعوضا.. ال يموت؟!!

2002/8/2

Page 22: أصحاب المغيب

21

طائر قا�ضيون في لحظته الحالمةار..؟! ى من جيو�ش الن ير�ضد ما تبق

شيئان في دمشق ال بد من رؤيتهما عن قرب، والرؤية منهما عن بعد.. ال أذكر أنني أغفلت زيارتهما كلما نزلت إلى الشام، من قبرص

جوا، أو من بيروت برا.. هما )جبل قاسيون( و)محمد الماغوط(.

تبدو لك دمشق من هذا الجبلـ صديق العاشقينـ مثل منازل البعيد، الكبير الباب التاريخ. ترى الصمت كأنه المتعبين في الموصد على أناس ال تعرفهم. غير أن طلعات الناس من أعماق الشام أهالي بين العالقة بقدم توحي المغيب، قبل المنازل وقاسيونهم. ومع المغيب ينفتح ذلك الباب األسطوري على ها من مرقدها في التاريخ الضوء، فترى دمشق كأنها خرجت لتوبأغنية مضيئة تسكن عيون الرائي. وعلى الجبل، حيث يكون الليل في صدارة المهجة، ويختفي الباب األسطوري عن مكانه البعيد، تكون دمشق باجلة في ضوئها، كأنها هي من حملت قاسيون إلى المهابة، وكأن قاسيون قد صار لغتها البصرية في المكان

Page 23: أصحاب المغيب

22

المختلف، وكأننا نحن، شهود تلك اللحظة اآلسرة، معنيون بألق الشام وتفاصيل المكان فيه.

* * *

من بعيد تبدو الرؤية تسبح في اختيارات ال متناهية، تصنع السؤال البديهي عن حاالت عاشقة من الزمن القديم تتقد في النفس كأنها مشاعل محاربين قدامى يجوبون الظالم بمحاذاة القلعة الحصينة، وفي الليل، منذ المساء الذي يسدل الستار على التعب، تبدو المدينة المنتشلة إلى العشق النادر، براح قصيدة لم يكتبها شاعر.. تمضي

القصيدة إلى عاشقها ويبقى الشاعر يبحث عن مكانه بيننا.

* * *

قد يبدو وجه الشبه بعيد بين طرازات خيال مسافر لم يمض سوى ساعات قالئل على جبل اسمه ) قاسيون( فارغ في المحيط وعتمته، ومليء بكل تفاصيل الوجود وسحره، وغابر كما الحكايات التي عبرت ذات مرات سطوعه األسطوري وسكنت فينا. وبين شاعر ال تغريه مرتفعات التخوم، وتغريه المغامرات الشاهقة. شاعر في المدينة، ليس باهتا كظله الذي يتبعه إلى مقهى الشام على الرصيف العريض كل مساء، وحين يقتعد جنب النافذة في إطاللة مباشرة على رصيف المشاة، يكون واثبا كالصقر الذي يلمح طرائده. ور تغمره الكلمات بحنين الذاكرة إلى وجدها، ما إن تشتعل فيه الصحتى ينطفيء في فنجان قهوة عبقة تأخذ معها الدخان الكثيف إلى رئتين عميقتين تحمالن رائحة الشمس والغبار، وتحمالن الماء

Page 24: أصحاب المغيب

23

البارد والعبارات، وخلود التبغ والفرح بميالد جملة ثائرة قد تخمد في صدمتها بروضة التبريد االصطناعي، وقد تشتعل في لحظتها العنيدة فتحيل المكان الهادي إلى زوبعة من أفكار.. تنتهي إلى

دفتره الصغير.

* * *

لو لم أعرف بحاجته الملحة إلى قلمه الصغير لكنت سحبته من بين أصابعه المكتنزة واحتفظت به وبحبره القليل الالذع، وألقنعته بأن لدفتره حق االحتفاظ بقليل من ورقات بيضاء، ليست للكتابة في زمن يأخذنا عنوة إلى المأساة، وإنما للتأمل في أسطرها الباهتة إلى النهاية، وتلك يجب أن تكون كتابة الماغوط في آخر ورقتين فارغتين، هما الحقيقة الواقية في عقل كل مثقف حاول كثيرا أن يكتب كل شيء في زمن يأخذ منا كل شيء، وإليه الصفحات البيضاء، لمراثي لم نكتبها لبقية الطالعين فينا، عن موتى يشبهوننا في البالد، في قاعنا األخير المتخم بالفواجع، بين جملتين حملتا نعش األمل إلى مثوى الشرق، وانطفأتا في الطريق المعبد إلى

الهزيمة.

* * *

في منتصف مقالته نصف الشهرية في المطبوعة األسبوعية، أقفل الماغوط دفتره الصغير وسألني متى جئت من قبرص، فقلت له منذ يومين ألراك اليوم وأعود غدا. طلب لي قهوة وعاد إلى السعال المكبوت حد االنفجار، فيما قلم الحبر األزرق يترك أثرا باهتا على

Page 25: أصحاب المغيب

24

إبهامه العريض، فأدركت معاناته مع طالعه في الكتابة التي أخرجته را. لم أعتذر له عن فشلي في دعوته إلى قبرص ألنه من البيت مبكال أحد اعتذر لي عن عودتي من قبرص، وظل مشروعنا الصحفي العربي األمثل، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على د لخسارته العراق، طريح مزاج عقل خاسر في صبواته الكاذبة، مهالمعرفية بقيمة خطوط الماغوط على الكريكاتور العربي السياسي، ووقع في الخسارة الفادحة أيضا، يوم أدرك متأخرا، أن ال شيء يمتلكه المبدع غير قلم مقارع على الرصيف، في المدينة، وسط الناس، وقد نهض الماغوط كالجبل المندفع إلى باب المقهى،

تنحني له المارة.

* * *

مررنا على بائع الصحف للسؤال عن عدد جديد لم يصل، وعن رسائل تأخرت. ترجلنا على الرصيف العريض في صمت حزين تخللته قرعات عكاز الكهل المخيف، وفيما لمح قاسيون، ذلك ج من بعيد، رفع العكاز نحو تلك الشبح العالي في فضاء الشام يتوهد: د: هل ذهبت إلى هناك؟.. فقلت بال ترد القمة وسألني دون تردبالتأكيد، وهذه المرة وحدي أيضا، فقاسيون هذا الشاهد الواثق يمنحك تداعيات األسطورة وينفرد بك في قراءة متأنية لعمالقة الشرق، كأنك بذلك تريد أن ترى كل شيء وتستدعي كل شيء إلى

راحتيك، وتمضي إلى الكتابة.

* * *

Page 26: أصحاب المغيب

25

لقد أصبح الماغوط الذي كانت أوراقه تترع بالكثير من الهوامش السياسية، هي ذخيرته الحية التي كان يطلقها في مسرحه السياسي ـ الذي كان وال يزال رائده بال منازع ـ حريصا في خطواته وحريصا على قلمه ونوتة أوراقة، ال يعيد كتابة مقالته وإنما يتأخر في كتابتها. ال يكتب سوى الكلمة التي تخرج من رؤيته وال تعود. تبوح العبارة عنده بأسرارها الواثقة كقصيدة، وكأنه ينهل من ينابيع خلت من الماء ومن الوافدين إليها، يحفر في أرض ال يراها أحد سواه، بعينين تلمعان في بريق الرؤية، كأنه صقر الكالم الذي ال يشيخ وإن كثرت مواسم

الصيد في الصحافة العربية.

يأخذ الماغوط مكانا بعيدا عن الضوضاء، ثم يندفع كما الصاعقة يكتسح البالدة التي تحيط بالعقل والمخيلة، فنقرأه عنيدا متألقا ضد سكون الموت واإلحباط، ماردا وقابضا على جمر اشتهيناه كثيرا فمشيناه قوافل ال تتعب، فكان مفجعنا بالعبارة وألق داللتها وسحر

نسيجها.

إنه القابع هناك وحيدا في الدار الخاوية، على أريكة العمر، الروح في لخلود الفواجع، بسكرات الموجوع القلب تهدهد الساهرة دوما كما النمر الشيخ المسترخي على أريكة الذاكرة، يلتهم التبغ وماء النار المدهش، يخلد في التعب العظيم ساهما في ل محيط الضوء في المصابيح الواهنة الخيال البعيد كل ليلة، يتأمعلى السقف، شفيف المشاعر إلى سحرها، يتأملها بدخان تبغه الكثيف، وقنينة الماء لم تعد باردة، والذاكرة الساهمة في تفاصيل

Page 27: أصحاب المغيب

26

ت ة، تشعل القناديل لميالد القصائد، ومر وجوه كانت هنا ذات مرة، بال معنى، تطفيء الذاكرة عن مشهد الهزيمة، من هنا، هذه المرلمن عبروا أشالء في غزة وبعقوبة، وتركونا نلتهم نهايات العمر

بالضوء الواهن في العتمة، نطفئه.. ونموت..؟!

2004 /10 /1

Page 28: أصحاب المغيب

27

ذاكرة المكان في الرواية العربيةلقاء في المغرب على ضفاف المشرق

منذ أعوام، التقيت بروائي مشرقي يزور المغرب إلعادة طباعة ة في أول الثمانينيات عن الرواية كتاب كان أصدره في طبعة خاصالعربية. وقد تناول في كتابه نماذج عديدة من الرواية القديمة والحديثة، الت التي طرأت على الرواية العربية بنماذج مستعرضا أهم التحو

مختارة من المشرق والمغرب.

دار الحوار بيننا في أحد مقاهي شارع »محمد الخامس« في الدار البيضاء. جلسنا إلى طاولة صغيرة، في طرف المقهى، وأخذنا نتجاذب ث ث عن كتابه بفصوله الثمانية، وأنا أتحد أطراف الحديث. هو يتحد

عن الرواية العربية بفصولها الكاملة..!

طبعا التقينا في بعض األشياء، واختلفنا في أشياء كثيرة. وقبل أن أسافر ل بكاميرته في أحد الشوارع العتيقة في بيومين، التقينا مصادفة وهو يتجوالدار البيضاء. لم استغرب لقيته في مثل ذلك المكان العتيق الذي يعج بالناس. دعوته في الطريق إلى ذات المقهى. وسألته عن أحوال المدينة

Page 29: أصحاب المغيب

28

رت فعال في إعادة النظر في كتابي القديمة. فقال لي على الفور: لقد فكقبل طباعته. أريد أن أدخل عليه فصال جديدا عن أهمية المدينة القديمة في ذاكرة الرواية العربية، وكان هذا ناتجا عن حوارنا الذي عقدناه منذ ا على وجهة نظرك، وأدركت ات. كنت مصر عشرة أيام في هذه المقهى بالذد أن زرت بعد عودتي إلى الفندق، أنها صائبة فعال. وزاد اهتمامي بمجرق أنني منذ ذلك اليوم، زرت خمس أماكن الرواية العربية بالفعل. هل تصدمدن على التوالي؟!.. لقد ذهبت إلى »طنجة« و«الخنيفرة« و«مراكش« رت كتابة الفصل الجديد. و«مكناس« و«فاس« بحثا عن أسبابك هناك، وقر

* * *

أي مدينة عصرية، هي مدينة مستوردة. وأي رواية تكتب تحت تأثير طقوس هذه المدينة العصرية، هي رواية مستوردة أيضا..!

قد ترى معي هذا الحكم المطلق، حين تصبح هذه المدينة العربية من زجاج وبالستيك وفورمايكا وجرافيك. فالرواية العربية األصيلة، تميزت ببساطة أدواتها، المتدادها بالحكائي الشعبي القديم. فنشأتها جاءت من اجة بمالمح الحياة الحية، األرياف والقرى والمدن الصغيرة األولى، الضوالتي شهدت أهم العالقات بالتراث العربي، وأعطت أهم النماذج للرواية نة من الشخوص واألدوات واألمكنة. تلك النماذج كانت تنمو في المتمك

داخلها، وال تنمو إلى السطح. كما فعلت بعض التغريبات..!

فالمدينة العصرية، ليست هي المدينة المشتهاة.. مدينة مزاجنا لين، وفقرائها وعجائزها لين والباعة المتجو العربي، بأحوال المتسو

المهجوسين باألحالم الهاربة..!

Page 30: أصحاب المغيب

29

والمدينة العصرية، برائحة مستورداتها. ليست هي أيضا مدينة المتآكلة ومبانيها يقة، الض جة المتعر بأزقتها القديمة حوارينا المتالصقة، التي شهدت نمو الشخصية العربية الشعبية بحاالت جوعها وفقرها وبؤسها وانتمائها إلى الطين. تلك المباني التي جاءت بالمبادئ الخالدة، وواجهت بقوة، االحتالل اإلنجليزي واإليطالي والفرنسي. وارتوت ساحاتها الشعبية بدماء الشهداء من أبناء الشعب العربي. فالمدينة العصرية، بأي حال، لن تكون مدينة الرائحة األولى المشتهاة، التي تشب فيها الذاكرة والفوضى األولى مع المحسوس.

* * *

.. إن طبيعة العمل الروائي، هو الزج بالعالقات االجتماعية في مواجهة فنية محكمة ترتقي إلى ذائقة جمالية بالمكان، وبمساحة ذاكرة شعبية تستدعي تلك المالمح الحية. وهناك تجارب روائية ال عالقة لها ل في ال بزمان وال بمكان، وال بإنسان. تجارب هي عبارة عن لعبة تتشكل العناصر، يختفي في اللغة، ويقيم في بناء معزول فضاء هالمي، متحوعن ذاكرة المكان وأهميته في صميم العالقة االجتماعية والتاريخية. ر لكن الرواية )الحكاية( ال بد أن تكون بتفاصيلها الممكنة، كنسيج يتطو

باستمرار من داخله ويرتقي إلى قيمة في الوجود.

مدننا العربية في هذا السياق، مازالت إلى حد كبير هي مدن الرواية القرن النصف األول من برزت مالمحها في التي المشتهاة، العربية الماضي، وأعطت التاريخ الثقافي ذلك المشهد الضروري في حياة الناس. فالقاهرة القديمة التي تربت عليها أدوات »نجيب محفوظ« مثال، مازالت تعطي تلك األجواء في تجربة العديد من الكتاب المصريين المعاصرين.

Page 31: أصحاب المغيب

30

المدينة القديمة قائمة دائما في مكان ما، وفي ذاكرة ما، ألي مدينة حديثة. دمشق مثال، ليست هي »أبورمانة«. إنها »الحميدية« ملتقى ت االستفادة يقة المتالطمة واألجواء الشعبية، والتي تم األزقة الضمنها كثيرا في األعمال الدرامية التلفزيونية. المدن اليمنية والمدن الليبية والعراقية والمدن التونسية والمغربية، مثل المدن المصرية والسورية بحاالت التقائها دائما بالغرائبي الشعبي. فإذا هدمنا تلك ا كان يحفظ المدن من ذاكرتنا كروائيين، فإننا نهدم شكال أدبيا مهم

لنا التواريخ واألسماء والتفاصيل الجميلة..!

ما واضحا. لكنها في بعض نماذجها تخرج قت الرواية العربية تقد لقد حقعن تلك التلقائية، وتحاول مجاراة الرواية األوروبية »العصرية جدا«..!

* * *

أنا لست ضد أن نكتب أدبا جديدا خالصا يالمس أسئلة الحداثة، سة وما بعد الحداثة، كعنوان تجريبي باألساس لتجربة جديدة غير مؤسعلى المعرفة بجماليات المكان.. ولست أيضا ضد المتخيل الخالص في سياق عملية التجريب المشروعة.. ولكني ضد أن نعمل على إلغاء اإلنسان ومدينته. وبالتالي نكون قد أسهمنا، دون أن ندري، في إلغاء

ذاكرة المكان.. التي هي ذاكرة اإلنسان..!

1991/5/13

Page 32: أصحاب المغيب

31

عمر المختار لي�ش اأنتوني كوين!

في منتصف السبعينيات، عايشت فكرة إنجاز شريط سينمائي كبير لشيخ الشهداء عمر المختار. ثم تابعت بعض جوانب تنفيذ هذا العمل

اد«. مع المخرج العالمي »مصطفى العق

1976 تحاورنا في الشكل النهائي للسيناريو، وكان ففي العام جل النقاش يدور حول الشخصية المركزية »عمر المختار« واختيار الممثل العالمي »أنتوني كوين« لهذه الشخصية من بين عشرات

الممثلين العالميين.

اد: إن أنتوني كوين هو الممثل الوحيد والوجه الوحيد قال العقلعمر المختار. فقلت: لكن أنتوني كوين يظل هو »زوربا اليوناني«..

فقال: أنا أعلن أنه سيكون »عمر المختار«.

اد وأنتوني كوين في مدينة العق التقيت النتيجة عندما وكانت ة!! ات«.. رأيت عمر المختار ألول مر »شح

* * *

Page 33: أصحاب المغيب

32

كان »زوربا« حينها يعود إلى صفحات »نيكوس كازنتزاكيس« ويخرج البطل من أوشاز هذا الجبل. رأيت الممثل البارع لدرجة أنني خفت على عمر المختار. وفعال صار أنتوني كوين هو عمر المختار

السينمائي الفذ الذي قاد حركة النضال الشعبي ضد الفاشيست.

احترمت في أنتوني كوين مالبس عمر المختار، وجلسته بين صغار »الكتاب« في المسجد. واحترمته أكثر عندما امتطى صهوة

الجواد وأمسك بالبندقية ووقف على قمة هذا الجبل.

* * *

د هذا الفنان البارع شخصية عمر المختار، أدركت أن عندما جسد الثقافة العربية البد لها أن تنتصر على تلك اآللة الهوليودية، بمجرأن ينسحب نجومها من األلبوم »المسموم« ويدركوا أن خارج هوليود

يوجد األبطال الحقيقيون.

فالنقلة من »كريت« إلى »الجبل األخضر« لممثل عالمي بارع مثل »كوين« تعني الكثير للثقافة اإلنسانية والتي تمثل الثقافة العربية نا ندرك هنا أن جزءا غنيا منها لما قدمته للبشرية عبر العصور. ولعلهذا الفنان المزاجي قد عشق عمر المختار وبكاه واستأذنه في مثواه ص شخصيته.. فكان أن نجح أنتوني كوين، وكان البد لهذا لتقمالنجاح أن يرجع لعمر المختار الحقيقي الذي أبدع بدون إرادة ـ مخرج ـ في قهر الجوع والظمأ والموت، وغامر في العراء تحت

البرد والمطر يطارد جحافل الغزاة.

Page 34: أصحاب المغيب

33

كان عمر المختار هو سيد الموت طيلة فترة نضاله البطولي.. ذلك عبة التي لم يكن فيها أي الموت الحقيقي الذي داهمه في األيام الص

معنى سوى طرد أو إبادة الغزاة.

* * *

اد وبعض فريق العمل التقيت في روما بالعق 1979 في العام الليبي أثناء استكمال بعض المشاهد النهائية هناك. كان ذلك في شهر أغسطس بالتحديد، وكان الفيلم قد تكامل تقريبا ودخل في

عملية »المونتاج«.

لم يكن العقاد مرهقا بأي حال رغم متابعته اللصيقة والدقيقة را بعمر المختار. لكل صغيرة وكبيرة. وحده كان أنتوني كوين متأثة لم يتخلص من سيطرة الشيخ الروحية. كان يبحث عن نفسه مر

أخرى كما بحث عن نفسه بعد »زوربا«.

اد العرب قال لي ذات مرة أثناء عرض الفيلم في دمشق، أحد النقة كي أن أنتوني كوين يحتاج إلى القيام بدور شخصية أخرى مهم

يخرج من سيطرة عمر المختار!

* * *

ماذا فعل عمر المختار بأنتوني كوين؟!

أو ماذا فعل هذا الفنان بنفسه ليعيش بعمق شخصية عميقة في أصلها مثل شخصية »عمر المختار«؟!

Page 35: أصحاب المغيب

34

* كانت روما في ذلك الشهر بالتحديد، تعيد إلى أذهانها زئير األسد. أدركت حينها فعال أن روما لم تفقد ذاكرتها عندما ظهر »موسوليني« من جديد على أغلفة المجالت األنيقة. كان رعب عباءة عمر المختار يحيط بأعمدة القصر الفاشي، وكان القصر د جلد أسود أحرقه ينهار أمام الجيل الذي أدرك أن الفاشية مجر

التاريخ، وأن إعدام عمر المختار هو اإلثم الشنيع للفاشية.

لقد أحلنا »المقهى األبيض« في »فيافينتو« تلك الليلة، إلى منتدى للشيخ الفذ الذي عاد للحياة وطاف بعباءته أنحاء العالم..!

1991/9/16

Page 36: أصحاب المغيب

35

ليلة في ق�ضر الإمام..!

رأيت صنعاء كثيرا في قصائد شعراء اليمن القدامى والمحدثين. فن العمارة وروح التراث والصحراء الحجرية وحكم اإلمامية، والقصيد فبلقيس اليمني. للشعر نة ومكو مهمة عناصر كلها والقات والمناخ والمجلس العجيب.. كلها تركن في الحاالت الشعرية المتواترة لدى العديد من األصوات الشعرية الممتدة. يمن التضاريس الصعبة والقصائد واألحالم الهاربة. يطالعك بطفلة البن وبأسرار صنعاء القديمة، ويمضي بك إلى عقود التاريخ بين اليماني واليماني.. إلى أن تجد نفسك أخيرا، في حوار مع المثقفين، يسارعون إلى معرفة واكتشاف ما يكتبه الليبيون شعرا وقصة ورواية. يسارعون إلى اكتشاف ما لم يكن في متناولهم من

إبداعات قديمة وحديثة.

ولعل الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالحـ رئيس جامعة نت لديه في اليمن »المكتبة الليبية الشاملة«، صنعاءـ هو أول من تكو

Page 37: أصحاب المغيب

36

بعد إهدائه جميع محتويات المعرض الليبي.. والتي تعد اآلن من أهم »آثار« األسبوع الثقافي الليبي األول، في اليمن.

* * *

»نحن أبناء الساحل الليبي ال نقوى على النوم في أعالي الجبال« قلت ذلك لصديق يمني، عندما أدرك أننا لم ننم ليلتها جيدا، نتيجة الضغط الذي أدى إلى الكوابيس والنزيف، حيث ترتفع صنعاء عن سطح البحر حوالي )2150( مترا تقريبا، لكن سرعان ما اعتدنا على

ذلك، وبمجرد أن صرنا يمانيين في اليوم التالي.

األمر الصعب لم يكن في »كوابيس« تلك الليلة في الفندق الكبير، هة بل في قصر »اإلمام«، في والية حجة، إذ انطلقت القافلة متوجبنا إلى أعالي الجبال السود، إلى حجة، حيث التضاريس الصعبة في أم القيلولة الصعبة، وحيث الصعود إلى أصعب حاالت الدوار.

كان اليمانيون عاديين جدا، وكنا نحن نقرأ باستمرار مرايا »بلقيس« جات الصخرية، تفتح بلقيس مخيلتنا على السفوح السوداء والمتعرالجديدة على تاريخ اليمن، فضاء للصقور تحوم على قطعان الماعز البري. وفضاء لشعالت الشمس القريبة جدا. وفضاء للدوار الصعب.

بالحب. مضيفنا رفع البيضاء. عانقونا بأيديهم لنا حجة فتحوا الكلفة، لكنه لم ينتبه كثيرا إلى أننا تعبنا في الرحلة، برغم األسطورة التي دخلناها، وعشنا تفاصيلها، ولم تخرج منها منذ بدأنا نصعد جبل الحلم.

* * *

Page 38: أصحاب المغيب

37

كان عدد الوفد الثقافي يزيد عن المائة عضو من األدباء والكتاب والفنانين والصحافيين واإلذاعيين. اللجنة المشرفة اختارت ثمانية أشخاص من دون غيرهم لإلقامة في »قصر اإلمام« الذي يعد اآلن الذهني الشخصيات، لكن اإلرهاق الشرفية لكبار الضيافة قصر ام بارد، يزيل والبدني غالب شعوري بالراحة، وحلمي الصغير بحمعني بعض الضغط والتعب والدوار. غيري أيضا لم يفرح بخلع حذائه واالستلقاء في دار اإلمام، فبعضنا نزف أنفه وبعضنا اكتفى بالنوم على مقعده إلى حين موعد األمسية الشعرية القصصية في قاعة المركز اني« نزف إصبعه، نتيجة الثقافي، لكن صديقنا الشاعر »علي الفزتعرضه لجرح صغير بسبب الدوار والحر.. فال الدوار كف، وال دمه ، ماذا تقترح أن أقرأ في األمسية، قلت له كف.. وعندها سألني بودمازحا وأنا أنظر إلى إصبعه األحمر المعصوب، اقرأ »دمي يقاتلني اني في األمسية يرفع اآلن« ـ عنوان أحد دواوينه ـ وفعال، كان الفز

إصبعه المجروحة ويتلو على المأل: »دمي يقاتلني اآلن«!!

* * *

بعد حفل العشاء الكبير، ذهبنا للنوم في »قصر اإلمام« كان القصر األبيض من بعيد، يدخل في معزوفة قديمة، تبث نوافذه الصغيرة المعلقة أنفاس تاريخ ينام في ردهاته. صعدنا الساللم الحلزونية، وانتشرنا ثمانيتنا في غرف القصر العتيق. دخلنا القصر لننام.. فوجدنا في انتظارنا عالمات تتأخر في الليل. كانت غرفتنا، اني، تشبه غرفة الشاعرين علي صدقي عبد القادر أنا وعلي الفز

Page 39: أصحاب المغيب

38

اري، وغرفة اإلذاعيين سعد نافو وأحمد أنور، تشبه ومفتاح العمغرفة الكاتبين عبد الرسول العريبي ومحمد المسالتي.. كل الغرف لها ندرتها من بين الغرف. وكل الغرف تسكن في سؤال. انتقلنا في لحظة إلى غرف بعضنا، وجلسنا في الردهة حول طاولة مستطيلة، اس نفاوض سحريات ذلك القصر العجيب. حكى لنا أحد حرالقصر، كان يعد لنا الشاي األخضر المنعنع، أن اإلمام كان يطل من هذه النافذة، ليفتح المذياع الوحيد للناس. يفتحه عدة ساعات، اده. وهنا ن أشياءه هنا. وهنا بر ثم يقفله ويقفل النافذة. وكان يخز

امه. مرآته. وهذا حم

* * *

لست أدري على أي أساس تم اختيارنا للنوم على وسادة اإلمام. رت، ربما لنلقى منه في ليلة ما لقيه شعب اليمن ردحا من الزمن، وفكوفعال لم ننم ليلتها. كان اإلمام يتراءى لي يدخل بصندله وجلبابه األبيض ثم ينزل الدرج، ثم يصعد ويشعل النار في شعلة الحائط السميك، يتمتم بكالم غريب. ثم أسمع الريح تدور في ردهات النوافذ، تحمل معها بعض الرسائل من القصر، وتعصف بستائر األصدقاء في الغرف المجاورة. لست أدري إن كانوا نياما، أم أنهم

يتابعون معي ما يحدث في القصر العجيب.

في وهلة أغمضت عيني في خيال قادم، يفتح باب الغرفة ويتخلل الضوء الخافت. دخلت في الوسادة.. ويد تلمسني وصوت: هل نمت؟!. كان صوت شريكي في الغرفة، يسألني إن كنت أنا من فتح

Page 40: أصحاب المغيب

39

النوافذ وأطفأ النور. عندها أدركت أنني لم أكن أتخيل. أدركت أنني كنت أرى اإلمام فعال، يجوب ردهات القصر آخر الليل.

باح، فقال لي، مازال. أشعلنا سيجارتين سألت صاحبي عن الصفي صمت، وسمعنا، على حين غرة، وقع خطوات تقترب من غرفتنا. سنا في الضوء الخافت.. رأيناه كانت هذه المرة تقترب بوضوح. تفريمر. رأيناه بوضوح، كان هو الشاعر علي صدقي عبد القادر يشرب من زير اإلمام ويعود: يسألنا عن »األسبرين« والصباح.. وصنعاء..!

1992/1/6

Page 41: أصحاب المغيب
Page 42: أصحاب المغيب

41

�ضباح الكمانجا.. يا نوري!

إلى أي مكان، تكون »قبرص« دائما كلما سافرت .. كنت محطتي األخيرة.. برغم أنني ال أذكر أنني أحببت فيها شيئا غير رؤية بعض األصدقاء من المثقفين العرب المقيمين هناك، خاصة أثناء الحرب األهلية اللبنانية، فقد صارت قبرص، أقرب الجزر إلى بيروت، هي المالذ الشرعي الذي حفظ لهم شكل العالم الذي

افتقدوه زمنا في لبنان..

في نهاية شتاء 1988 كنت أشارك في أعمال »دورة إعداد البرامج الثقافية« التي نظمها مركز اتحاد اإلذاعات العربية في دمشق.. ونظرا النشغالي بأعمال الدورة فلم ألتق في تلك الفترة بغير بعض األصدقاء، منهم الشاعر »محمد الماغوط« الذي كان وقتها ينتهي من كتابة مسرحيته »شقائق النعمان« والشاعر »نزيه أبو عفش« الذي أطللت عليه ببشرى استالمه مفتاح بيته الجديد.. واألستاذ »رياض نعسان آغا« مدير عام البرامج في التلفزيون السوري، والذي كان يعمل في تلك الفترة على إعداد »سيناريو« روايتي »الطاحونة« ـ لم يستكمله

Page 43: أصحاب المغيب

42

لعدم تكليفه رسميا من قبل المسئولين في شركة الخدمات اإلعالمية التي جازت العمل منذ ثماني سنوات ـ كما التقيت باألستاذ »عادل البازجي« رئيس قسم البرامج الثقافية والذي دعاني ضيفا على برنامجه التلفزيوني المعروف »المجلة الثقافية«، والذي بإذاعته قبل السهرة الخميسية علم بقية األصدقاء بوجودي في »الشام« فزعل بعضهم، وغفر لي بعضهم اآلخر.. لكني في النتيجة دفعت ثمن ذلك بعقد الثقيلة التي كادت تحرمني حتى من شراء بعض بعض اللقاءات الكتب القيمة من مكتبات »شارع المتنبي«، وكذلك شراء بعض

اللوازم الرمضانية..!

* * *

.. ثالثون يوما تقريبا أمضيتها في دمشق بين الكالم في الثقافة، والتجوال في سوق »البزورية« و«الحميدية« لشراء »التوابل« وبعض الضروريات للشهر الكريم الذي كان فعال يفصلني عنه عشرة أيام أيام كادت تنتهي في »الثقافة« فأدفع ثمن تقريبا.. وتلك العشرة ذلك عندما أعود إلى بيتي خالي اليدين إال من شهادة التقدير بدرجة

»ممتاز«!

.. اشتريت لشهر رمضان أهم ما يجعل زوجتي في انتظاري على باب البيت، ويقطع عنها المالمة.. ولكن فرحتي بتلك النتيجة أوحت لي بفكرة لم تكن أصال في البال.. فلست أدري كيف خطرت ببالي »عازفة الكمانجا« في ذلك المطعم الكالسيكي في المدينة القديمة

للعاصمة القبرصية..

Page 44: أصحاب المغيب

43

غادرت دمشق رأسا إلى »الرنكا« ومعي »بهاراتي« التي عبث بها »القبارصة« اليونانيين في المطار، فأزكمت أنوفهم وهم يعاينون تلك األكياس المريبة التي تشبه أكياس »الهيروين«.. ولقد تعب ق »القرفة« والقصب المطحون ودقيق رات في شم وتذو خبير المخد»المهلبية«... ورفض استكمال اإلجراءات عندما نفثت إلى أنفه الكبير رائحة »الحرارات« و »النشادر«.. وأمرني بازدراء أن ألملم

حاجاتي وأنصرف..!

القبارصة جيرانهم بمحاصيل معرفتهم لعدم سعيدا أكن لم ون رائحة طعامهم برغم اختراق صوت اآلذان األتراك، وال يشمللشريط الحدودي بين »القبرصتين«. وانتهيت إلى التفكير في رمضاننا الذي ينتظرني على باب البيت وقد صار يفصلني عنه أربعة أيام بالكاد أعود فيها من »ليماسول« إلى »نيقوسيا«، ومن ثم أقلع من »الرنكا« إلى »بنغازي« رأسا، ومنها في سيارة األجرة إلى »البيضاء«، وإلى

الصيام في اليوم التالي..!

* * *

.. في مطار »بنينا« فاحت رائحة »البهارات« الدمشقية بين رجال الجمارك، ففسحوا لي الطريق..!

كان سائق »التاكسي« من المطار إلى ميدان »الفندق البلدي« اسمه »نوري«. وكان سائق سيارة األجرة من بنغازي إلى البيضاء أيضا اسمه »نوري«. وكان الرجل الذي قطع التيار الكهربائي على ابتهاجا بحلول شهر رمضان المبارك أيضا اسمه بيتي منذ يومين

Page 45: أصحاب المغيب

44

»نوري«.. وكنت أحضرت شهادة التقدير بدرجة »ممتاز«، ونسيت البهارات في سيارة »نوري« الذي بحثت عنه في »الجنسية« صباح أول أيام الصيام، وانتظرت طويال حتى العصر وأنا أسأل السائقين...

هل رأيتم »نوري«..؟!!

1988/11/5

Page 46: أصحاب المغيب

45

تكرار الحلمذاكرة رجل يظهر في الخريف..!

.. أماسية الخيزران تعطف على المجانين. واألرض التي تدور، تفنى على مقاعد الحالقين. ال البنت نامت من شدة الحزن، وال المدينة

نامت من شدة الهرج!

را قبل قدوم السيد الخريف بمعطفه الالعبون في البحر عادوا مبكاإلنجليزي. والسيدة التي جاعت على الرصيف أقبلت بخف عروة،

وبكت جوعها وجوع المساكين الذين ترطبوا في الوحل!

أماسية سيئة عطفت بنا.

قلنا لهم األرض تدور، فنمنا كما كنا على البالط البارد حتى أعيانا الحلم بأجنحة خرافية، تقصف عمر الدار البالية، وتوقظ فينا اللحن

الحنون للحرية!

* * *

Page 47: أصحاب المغيب

46

منذ زمن لم يطأ الوجع هذا القلب الرخيم. ومنذ زمن لم ينم الزائر وا من العدالة بيننا. ومنذ زمن نشتاق إلى أمسياته عن طوابير الذين فر

واقتدوا بشمس أصيلة، لها حليب أمي ونجمة حبيبتي.

رة بطيب المساكين، وهذا الوجع منذ زمن، أيتها السيدة المعفيؤلمني ولم أركن إلى سؤال حميم.. هذا المساء لي وتلك النجمة

وهذه الغفوة..!

* * *

تبارزنا ذات ليلة بالكالم الشعائري. هو يأمرني أن أطبق فمي. ره وأنا استأذنه الحرية.. أن أغفو وأبحث له عن جواب قديم، قد أتذكل في ر لون تلك الطفولة المنفلتة. ولم يستأذن حين تدخ عندما أتذك

عقلي.. لطمته على وجهه وانصرفت.

كان المهووس بلون العشب الخريفي ينتظرني.. جنحنا.. صرنا نا في الغابة المملوكة رفع رايته نطير. حاولوا اصطيادنا. لكن عش

البيضاء، فدخلنا ولم ننبس بكلمة.

نمنا كرجلين ناعسين، ودارت بنا الشجرة دورتها العادية.

* * *

ب. يخلط اللون بيد فاترة، ويرسم »ريما« التي هذا جنون المتعقعلمت األطفال كيف يتمرجحون عاليا. وكيف يركضون عاليا. وكيف يرقصون بعنف. ثم يهمسون بأغاني الليل في ضواحي المدينة.. وعندما يدخلونها فإنهم يدخلونها بسالم، آمنين الوعارة والحرس

Page 48: أصحاب المغيب

47

الغفوان والنساء الهرمات في قلب المدينة. ينتظرهم العازفون وبائعو البالونات واألطفال المزخرفون بلونها ولوننا الذي عشناه طويال في الحلم، وتمنينا أن نراه قبل »ريما« التي انتصرت على الملل وعلى

النكتة البليدة..!

* * *

خت ساعاتنا بعقارب وقتها الذهبي. راح السكارى ينشدون تضمعلى البحر أغنياتهم القديمة. وراح البريديون يحملون سالل الورد

للذين باعتهم الذاكرة في المزاد الصيفي للفقراء!

الحلم، يوقف دوران األرض عن المسترسل في الوجه كان ي. المشهد التعبيري للسيدة الغلبانة، في المتاهة الليلية للمخرج السرر في العواصم الهرمة وتبقى في السؤال. تلك التي من تلك التي تتكرباح، تفتح الشمس لنوافذنا، وتغادر البيت العائلي مع عادتها في الص

العصافير!

ار اللوزات. كانت ألبسناها السيدة الجميلة من بعض ما عندنا من نوكلما انتبهنا إليها، تحضر بمسكها المعتق، وبأنوثة األشياء من حولها.

غمرتنا الحنون بوجه الفرح المديد.. وقبلتنا!

* * *

أين االختالف يا ترى، بين امرأة الزيتون، وامرأة الكاكاو.. وبين باح؟! االثنتين معا والبلح الطازج هذا الص

Page 49: أصحاب المغيب

48

االمتداد إلى أميركا الالتينية وتايوان وتونس، هو االمتداد نفسه إلى الدانمارك والصين الشعبية ولبنان. فكيف األرض تدور وأستراليا

وأفريقيا قريبتان من بعضهما كما األرض والشمس؟!

رنا بشيء. هذا االصطناعي ر هو الذي حين نراه ال يذك البشري المزوهو وحده الغريب!

ا الذي يشاركنا نخب هذا الحلم الجميل.. فهو المستظل بأحوال أمالماء والنار.. وهو ابن السيدة القلقة!

ور، إذا، أي متاهة سلكنا وفي المدينة الجدار القديم نفسه للصيت وقارورة الملح؟! وفي القرية قبعة الفالح األثرية نفسها، والز

ما سر المرآة التي تتصبح فيها النساء كل يوم؟!

ار بالنبيذ؟! وما سر عالقة هذا البح

ور التذكارية؟!.. والسيدة العجوز تحضر حك والص وما سر الضاكرة! الحربين الكونيتين وتستريح في الذ

ما سر كل ذلك إذا لم يكن بيننا فضاء حلم جميل..؟!!

1991/10/14

Page 50: أصحاب المغيب

49

توقيت بيروت

.. في أحد مساءات صيف 1992 وبينما كنت أجلس إلى الطاولة المستديرة مع بعض األصدقاء على رصيف مقهى »الويمبي« بشارع الحمرا في بيروت، ذلك المقهى الذي كان وما يزال ملتقى المثقفين اللبنانيين، استغربت حالة ذلك الفزع الذي يصيب اللبنانيين عند المساء. إذ تبدو خطى المارة من الجنسين أسرع من النهار، وكأن فتجعلهم الفزع أبدانهم في تعلن أسمعها إنذار ال ثمة صفارة يهرولون صاعدين ونازلين مع شارع الحمرا بحثا عن مخابئهم.. حتى العربات وخصوصا سيارات األجرة تبدأ تسرع على غير عادتها في النهار، والواقفون في انتظارها يتزاحمون عليها كأنها

تبيع سحر المشوار!

لقد اعتدت هذا المشهد كثيرا ولم أسأل أحدا، فالكثير من المشاهد بعد الحرب كنت أحاول تفسيرها بمفردي دون السؤال حولها أو عنها. لكن في هذا المشهد بالذات فالسؤال يتسع باتساع تلك المساءات الصعبة في بيروت، خاصة على زائر مثلي لم يعتد

Page 51: أصحاب المغيب

50

ذلك الغبار الذي يثب إلى أعلى المباني كأنه يستجيب في جنون لتلك القذائف.

* * *

مازالت بيروت على حالها لم تخرج من الحرب. فطقس الحرب األهلية مازال يجثم على صدرها برغم ألوان الملصقات اإلعالنية الكبيرة على الجدران، وعالمات الفرح البارزة التي تعلنها أصوات المهرجانات الغنائية والشعرية جنبا إلى جنب مع اإلصدارات اليومية رة. حتى العطر لم ينس أصحابه.. للصحف والمجالت والعملة المزوعاد إلى نسائه المتوهجات في ليل »إبرمانه« و«قصر فخر الدين« و«جبل لبنان« وفي صاالت ومقاهي ومطاعم »جونيا« و«الروشه«.

لكن قصيدة الشاعر الصديق مازالت هناك في شارع الحمرا، تسأل الغبار المجنون، وتسأل عيون المارة من حوله، ثم تشتري بعض اللوز والشراب وتصعد إلى غرفتها قبل حلول الظالم. وفي الصباح تشتري العطور وتقف بين صفوف الطالبات والموظفات المطمئنات على

نهار بيروت حتى المساء.

قد تأخذ المدينة في الليل شكل دار مشتركة لألحباب، يمارس فيها اللبنانيون طقوسهم الراقية في السهرات.. وفعال، بمجرد أن يتأكد اللبناني من عبور »المساء« وحلول الليل األكيد، يبدأ السهر

حتى الهزيع األخير من الليل.

* * *

Page 52: أصحاب المغيب

51

هذا هو مساء بيروت. صار منذ تلك الحرب الشرسة وقت لذاكرة مرتعبة، ذاكرة ترتجف لساعة المساء الرهيبة.. إنها ذاكرة الموت

الصعب على اإلسفلت واألرصفة.

لقد حاول أهل بيروت أن ينتصروا بالمساء أيام الحرب األهلية. ولكنهم فشلوا أمام إعالنات الموت األكيد الذي تكبده المسائيون الكبار ألكثر من عشر سنوات توالت على النار والبنزين.. وعندما انتهت الحرب واشتعلت قذائف الحب من جديد بين كل اللبنانيين،

بقي المساء وحيدا وغريبا في الغبار!

* * *

.. كان الوقت مساء حينها. وقد بدت تلك اإلضاءة العالية تسقط بهدوء إلى الظالم، ونادل المقهى يعلن لزبائنه من المثقفين وغير الحرب تلك تمام ساعة »الويمبي« على إغالق المثقفين موعد األهلية، ففي مثل هذا الوقت بالتحديد كانت النوافذ تسدل في وجه صفارات اإلنذار، وفي وجه خطوط القذائف الملتهبة الساقطة هنا وهناك.. وتبدأ حينها ساعات الموت في المدينة. الذاكرة تعمل في الفراغ، والخوف الكبير على األطفال خلف الشرفات يبدأ يتضاءل ويتساوى مع حاالت الموت االعتيادي.. يصبح البندول في ساعة الحائط القديمة هو القاتل، تجتاح التكتكات الصمت الرهيب بين صوت القذائف، وتتناغم إيقاعاتها الموقوتة مع االنفجارات البعيدة القاسمة في حي »الزيتون« ذلك الحي الذي كان قلب بيروت النابض، وبنهاية الحرب كان انهار تماما، ويعتبر اليوم من أهم المشاهد اليومية

Page 53: أصحاب المغيب

52

المؤلمة لكل اللبنانيين المتنقلين بين الغربية والشرقية.. صارت تلك األطالل الموحشة ليل نهار أشبه بنقطة التالقي بتلك المأساة الكبيرة التي أطاحت بأحالم الكبار واألطفال، ولم تترك سوى الجراح واألثر

الكبير في ملحمة دمار الناس والمدن..

ـ كيف تموت وأنت لم تقل شيئا؟!

.. فاجأت صاحبي بسؤال لم يكن في البال. سألته هكذا ربما بسبب انشغالي العميق بتلك التداعيات المرة التي جاءني بها مساء

بيروت، فقال وقد فاجأني هو اآلخر:

ـ قل لي أنت كل شيء ومت حاال أيها الصديق!

ضحكنا سويا وبعض تلك المشاهد تتراءى لي ناصعة في حقيقتها الثانية عن موعد ومعناها، خاصة عندما أعلن نادلنا الطيب للمرة إغالق الويمبي، وبدأ فعال بجمع كراسيه وطاوالته المستديرة من على رصيف المقهى.. وبدأ شارع الحمرا يقفر وقد علت ريح ساخنة أيقظت الغبار من سباته وذكرته بتلك القذائف.. وصوت شباك أعلى المبنى يسدل في أعقابنا بصدى صوت يعلن أن صفارة اإلنذار قد حان موعدها. ولكن القصف هذه المرة كان هناك، في الروضة، في تلك المقهى الفسيحة للمثقفين قرب صخرة الروشة، وبين األصدقاء..

حيث ضحكات عبد األمير العالية تندلع في كل اتجاه..!

1993/9/24

Page 54: أصحاب المغيب

53

في الهزيع الأخير من الليلترحل الأ�ضباح وتبقى الروؤية في الدار..!

لم أكن وحدي هناك بين أحجار تناثرت على القبر.

لم أكن وحدي هناك بين أشجار احترقت على الطريق.

لم أكن وحدي هناك بين وجوه تخرج من الظالم وتتكاثر، كأنها األشباح!

لم أكن فارسا في ذلك الظالم. كنت وحدي أبكي الذين سقطوا وح التي شهقت في الهزيع في الطريق. قبل الفجر كان البكاء يتلف الر

األخير من الليل ونامت على الحجر..!

أنا الوحيد إلى بالد خذلت أطفالها كثيرا قبل المغيب. عدت خسرت فيهم حكايات الخريف عن الفارس الذي أشعل الظالم بسيفه. وعاد إليهم وقد ناموا في الليل الطويل بال أحالم إال من خياله

يعبر المكان جريحا في القلب!

* * *

Page 55: أصحاب المغيب

54

غاب الفارس عن شارعنا القديم. كان مثل الطيف ومثل كذبة البالد. جمعتنا الحكاية قرب موقد النار الكاذبة. نمت قبلهم والنار رماد بارد، هنا في الدار، وهناك في فلسطين. وكان الليل الذي تركناه على الرصيف منذ خمسين عاما، يعود بعواء النشيد الذي أبكانا خمسين عاما. وحين أفقت من سنوات الحرب الطويلة، وجدت البالد مشنوقة في »ساحة ية، واألوالد من غضبهم العروبة« والكالب تنبح تحت الجثة المتدليضرمون النار في الدكاكين. والحارس الذي ينفض الدخان عن عينيه، أقفل كشك الحراسة ونام وهو يتمتم بكلمات قالها منذ خمسين عاما،

لعن الله البالد والوباء وضابط المخفر وشرطي الدورية!

كان الحارس يجهل أن أباه قد مر من هنا ذات حرب معصوب الجسد بالديناميت. ولم يعرف أن النار التي يكره، كانت في هشيم تلك المعركة التي انتهت وأسفرت عن موت البالد. وأن الحلم لم يكن ساعة نام وساعة أفاق. كان الحلم باحتنا العريقة منذ صنعنا من

الخشب سيوفا، ومنذ حرقناها بنار أوجاعنا!

نمنا على أوجاعنا في الزمن المديد. ال الحارس أفاق من نوبة الدخان في »ساحة العروبة« وال نحن أفقنا من ليل أهلك الجسد في الدار العطنة. وحين كبرنا، كنا كما كنا، ننام في الدار الموحشة، موع.. تأخذنا من نحتمي بلحافنا القديم خوفا من أشباح تحمل الش

أفئدتنا إلى الميدان، حيث مات أخي وابن أخي في الحريق!

* * *

.. ذات ليلة. لست أدري أي ليلة. اختلط الحر بالبرد. واختلطت

Page 56: أصحاب المغيب

55

، وبنجوم الفضائيات العربية، والسياسة نجوم السماء بنجوم عينيالعربية. أضعت نفسي بين نفسي.. فلست أدري بالضبط كيف حدث ذلك. ولست أدري كيف اختلت بي األشباح، وأطلعتني على العواصم التي أحبها.. بيروت.. باريس.. بودابست. المدن التي تبدأ بحرف الباء، والنساء الالئي يبدأن بحرف الباء. أي امرأة تبدأ بحرف الباء،

وأي نهاية تبدأ بحرف الباء.

* * *

هلكني هذا الباء!

عدت إلى بهلول. بهلول يقبل بهية. بهية تقبل بهلول. بهلول من األردن، وبهية من مصر.. مملكة تقبل جمهورية. جمهورية تقبل

مملكة.. شيء جميل!

بهاء الدين يخرج إلى الحديقة، ويفتح المذياع على ألـ »بي. بي. سي«. أهال بحرف السين. حرف دخيل. تجلس بقربه »سهى« فتقلب أخبار

الدنيا.

* * *

هلكتني هذه السين!

رأيت سناء تحضن سهى.. ويدخالن في برواز. تختفي خلفهما مفاتيحها وفقدت بها فقدت تعلقي موسيقى. موسيقى من شدة معانيها، عندما عاملتني األشباح بشيء من القهر. أغمضت عيني بخرقة سوداء، وقادتني كرهينة إلى مكان بعيد بضاحية المدينة. عرفت

Page 57: أصحاب المغيب

56

أنه بعيد وبضاحية المدينة عن طريق السمع.. إذ اختفت جميع منبهات الصوت من بيروت، ودخلنا حالة فزع رتيبة ورهيبة. بعدها ألقوا بي في سرداب عطن، وقالوا، يطلق سراحك متى أطلق سراح العصافير.

لم أفهم أي عصافير..

وح »فيروز« وأفقت من غشاوتهم على سيرة انشغلت قليال بسيدة الرالعصافير.. العصافير. فرأيت بناتي األربع يقتربن من أدويتي المهدئة لألعصاب. صرخت فيهن، فطارت الواحدة بعد األخرى في أرجاء الدار التي كانت تقبر األطفال في تلك الشتاءات منذ خمسين عاما، وقلت: ال تعبثن بما ال نملك وال تكتبن اسم أبيكن على الحائط. اكتبنه في الهواء. في طريق العصافير العابرة. أو احفظنه للرجل الذي لم يسأل عنا!

اهق في ذلي... رت قصيدة الشاعر »نصري الصائغ« أيها الش وتذكئاب ساهرة بقربي..«. »يا أباذر تعال/ أناديك من خلل في العتمة/ والذ

* * *

عادت األشباح منزعجة، فقطعت عنا الكهرباء. غابت عنا شاشة التلفزيون. غابت عنا نشرة األحوال الجوية. لم نعرف ما هي أحوال فلسطين. واألنباء تقول أن »رام الله« تشهد معارك عنيفة وطاحنة. وأن إسرائيل حسمت صراعها مع العرب وأعلنت قيام دولتها الكبرى، وقد بدأت فعال بعمليات جرف واسعة النطاق إلزالة الفلسطينيين والمدن الفلسطينية من الوجود، في حضور مراقبة سياسية عربية ودولية مكثفة.

* * *

Page 58: أصحاب المغيب

57

ر بمطر بعيد. قد تمطر في »رام غابت النجوم، وجاءت الغيوم تبشالله« وقد تمطر في »القدس«. لكن ما جدوى المطر المنقطع إذا كان

النور هاربا في قاعات المؤتمرات العربية..

غضبت األشباح مني، فقطعت لساني. صرت بال لسان. مواطن ة. أعوام عربي بال لسان. قبلها كنت بال أذنين وبال رئتين. مت غير مركثيرة مت فيها، ال أذكرها بالتحديد، لكني أذكر أن كل ميتة كانت يت صدمة، ولآلن إثر صدمة، و«شوف كم صدمة«. البارحة مثال تلقأحاول جاهدا أال أموت.. فبكيت في طوق أشباح ال أعرفها تسهر ل ليل األطفال المفزوعين في فلسطين، وأحزان بقربي، وأنا أتأمتعشوشب والقبور األطفال، جنازات في المفزوعات األمهات

بمرثيات الوطن الكسيح...

زعلت األشباح من شدة حبي. بكت معي إلى آخر الليل. صرت أجهش بأسماء الذين افتقدتهم في الحياة. وقبل أن يحين الفجر، أطلقت األشباح سراحي، ألنام.. فنمت على جمر ما جنيت تلك

الليلة..!

من ماتوا الذين بين هناك، إال تنام ال ومولعة، عصية ذاكرة أجلها..؟!!

1990/8/18

Page 59: أصحاب المغيب
Page 60: أصحاب المغيب

59

ليلة قادتنا الفئران اإلى المعرفة؟!دار الغرائب في وطن العجائب!

عندما حل الظالم على البالد العربية، وبتنا ال نعرف كيف جئنا إلى الظالم، وإلى أين نذهب في الظالم، قادتنا فوانيس الفئران إلى

مكتبة التاريخ العربي الكائنة بين ساحة الشهداء وساحة البرلمان.

أمهلتنا الفئران بعض الوقت لنجمع أنفاسنا من طول المشوار الذي قطعناه ألكثر من خمسين عاما بال زاد إال من تقوى ومعرفة صغيرة بعلوم التناسل.. ثم أطلعتنا على األغلفة السميكة لكتب األسالف التي بنت عليها أوروبا حضارتها، وخرجنا نحن من حضارتنا في بالد األندلس، بحمير خلفنا تجر الخيبات، وكالب تنبح في الطريق. وقالت الفئران بسخرية الواثق على توجيه اإلهانة: هنا حاجتكم أيها العرب، في هذه الرائحة القديمة التي سبقناكم إليها وفهمناها عن ظهر قلب، في الجوع والشبع. فهذه المكتبة ـ تقول الفئران ـ كانت خطرا عليكم قبل والدتكم، وستكون خطرا على أوالدكم الذين يرونكم فرسانا في مراياكم، ويرونكم حميرا

Page 61: أصحاب المغيب

60

في مراياهم. والحق نقول ـ قالت الفئران ـ إن أهم شيء كسبناه من راحتنا في بالدكم، هو قدرتنا على هضم كل تاريخكم القديم، ونجاتنا الطويلة من كل سمومه التي أصابت عقولكم وأطاحت تكم على قارعة الطريق، حتى حل الشتاء، وحل الظالم الطويل. بقوكنا نهضم تاريخكم عن طيب خاطر، بكل ما فيه من مواد ثقيلة ال يبتلعها حتى الفيل الجائع. فنحن كجنس خبير بالكتاب، نعتبر الكتاب خير جليس لنا، نظرا لما يحتويه من قيمة غذائية عالية، أشبعتنا وأنتم جياع، وفتحت عيوننا على الدنيا وأنتم عميان ومخذولين. فكنا بال منازع من أقرب مخلوقات الله إلى المعرفة بالكتاب، وإلى تواريخ تدوينه وطباعته ونشره. أما تاريخكم المعاصر أيها العرب ـ تقول الفئران ـ فإن الورق الناعم بات يفقدنا القدرة على الهضم، ق والمعرفة بحقيقة إن كنتم عربا كما بات يفقدنا القدرة على التذوأو إفرنجيا. حتى رائحته الزكية صارت مختلفة وغير مغرية لشهيتنا. فورق تاريخكم المعاصر، قد يكون صنع خصيصا لفئران اإلفرنج ر لة. أو أنه قد صار ينفد سريعا في العقل ويتبخ البالستيكية المدل

قبل أن يكون حتى وجبة إفطار قبل الغداء..!

فة دون أن تمنحنا الفرصة للكالم، وقالت: واستتلت الفئران المثقفين الشباب، وأدركنا بعد هزائمكم في لقد عاصرناكم معشر المثقبفرديناندو حروبكم األولى واألخيرة، من عصر هوالكو مرورا وإيزابيال، وبريمر، أنكم مصدر هالك أسالفكم.. وأننا إن شاء الله سنكون مصدر هالككم ولو كتبتم بعد ذلك على ورق السيلوفان..!

Page 62: أصحاب المغيب

61

ومنحتنا الفئران أرطاال من األغلفة القديمة السميكة الستعمالها في الصيف القادم كمراوح يدوية على جبهات القتال مع العدو.

نا؟!! وانصرفنا طابورا واحدا دون أن نسأل الفئران من هو عدو

* * *

ع منه .. في الشارع الطويل، الذي كان اسمه شارع الهوتيل، ويتفرشارع االستقالل وشارع النصر. وعلى باب المكتبة العربية الضخمة، الواقعة بين ساحتي الشهداء والبرلمان، وجدنا حمارا بانتظارنا. ق منه بسبب العتمة حمارا يحمل على جانبيه رقما فسفوريا لم نتحقالتي في القلوب، وبسبب العشا الليلي الذي ورثناه عن أجدادنا منذ

ليلة سقوط غرناطة.

أطفأت الفئران فوانيسها عندما انصرفنا، وهمست لبعضها في الظالم الجديد، ودخلت بين أمهات الكتب لتقرأ بنهم وتنام.

تركتنا الفئران خارج البناية بال قمر، ننتظر مجيء حمارين آخرين على األقل، لحمل األغلفة إلى جبهة القتال!

)ال نريد كالبا(.. هكذا زعقنا في صوت واحد عندما عرضت علينا أربعة كالب نقل التاريخ إلى حيث نريد. قلنا لها في استياء: نريد حميرا مطيعة، تكره الظالم وال تنظر إلى الخلف. حميرا كالتي حملت مكتبة األندلس إلى أوروبا ولم تركن إلى ظل من خشيتها للظالم، فأضاءت بما تحمل سماء أوروبا، ليمطر النور في العقل الذي أشعل بدوره الكرنفال. نريد حميرا أيتها الكالب، تحمل عنا

Page 63: أصحاب المغيب

62

هذه األثقال التاريخية، ليس إلى أوروبا التي اشتعلت، ولكن إلى ديارنا التي انطفأت. فال بصيص لنور نهتدي إليه في الغياب، وال صوت لمناد هناك، خلف أي جدار، يحمي الحقيقة في السؤال. نريد حميرا

تحمل أغلفة المراوح لجنود تثاءبوا كثيرا على الجبهة، وناموا!

هامت الكالب على وجوهها كما هام الجنود على وجوههم يوم خسرنا الحرب. وانصرفت تنبح في خالء المدينة!

* * *

ت بنا، كانت مشغولة وعلى عجلة من معظم الحمير التي مرأمرها. فالسياح في بالدنا شغلوا معظم الحمير، حتى الحمير التي كانت تحرث في األرض المالحة، جاءت تنقل السياح للفرجة علينا

في النهار، بالدوالر واليورو، وحتى الليرة التركية.

صاح فينا أحد الفئران من أعلى المكتبة: هل وجدتم تاكسي؟!. فقلنا له: كال، فالسياحة الرائجة هذه األيام أفسدت الحمير أيها الفأر

العزيز..!

زعل الحمار المتوقف بيننا منذ وقت ينتظر شحن األثقال. هز ذيله وأذنيه في استياء، وهم بالمغادرة لو لم يسمع نهيقا عاليا ومتصال قادما من بعيد.. وإذا بها ثالثة حمير شهباء كانت الفئران قد اتصلت بها بالتليفون. توقفت كسيارات اإلسعاف، وفسحت ظهورها الناتئة

لحمل التاريخ العربي إلى المجهول..!

* * *

Page 64: أصحاب المغيب

63

.. أثناء السير في الطريق إلى المجهول، استوقفتنا عاهرة عربية مغتربة تسأل عن بيت الطالبات. وعندما اعتذرنا لها بعدم معرفتنا العنوان، سألتنا عن بيت العاهرات. فقلنا لها، لقد وصلتي، وأشرنا جميعنا إلى المدينة قائلين بصوت واحد: هذا هو بيت العاهرات. ودون أن تشكرنا ابتسمت وتفلت اللبانة في وجوهنا، ودخلت المدينة

د من بعيد! مسرورة، وأخذت تتنه

طافت بنا الحمير طويال في الشوارع العربية المهجورة، وال أثر عت الحمير التعب ووز الليل، وقد أضنانا . وعند منتصف لعدومنشوراتها العلنية على الطرقات، وجدنا أنفسنا من جديد على باب المكتبة العربية، وذلك الفأر، في األعلى، يسألنا: أما زلتم هنا؟!!..

هزأ بنا الفأر الصغير، الماكر. ثم دخل وأقفل النافذة على قهقهات الفئران.

والحمير من شدة التعب والجوع والعطش والغضب، نفضت ر. حمولتها لتسقط األغلفة السميكة إلى األرض، وتتكس

ال أحد كان في مقدوره أن يحمل عنا وزر تلك الليلة من الظالم نا على جبهة القتال مع أي عدو..! الذي حل على األمة العربية، أو يدل

* * *

ثالث ساعات مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران، وعدنا من حيث بدأنا، إلى دار الفئران!

ثالثة قرون مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران، وعدنا

Page 65: أصحاب المغيب

64

ق من حيث بدأنا، إلى دار الفئران... وخالل الثالثة قرون، لم نحقسوى إرشاد العاهرة إلى مأواها في المدينة!

عادت الفئران إلينا بال فوانيس. سخرت منا واستعادت أغلفتها القديمة!

عادت الحمير إلى السياح!

.. وعدنا نحن للكتابة على ورق السيلوفان؟!!

* * *

... وأدركنا الصباح، قبل أن تسكت الفئران عن الكالم المباح..!

1996/4/5

Page 66: أصحاب المغيب

65

كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟!معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات

حالة حب استثنائية!

.. مهال، لم نشرب قهوتنا بعد.

كنا منشغلين منذ زمن وهذه الحديقة لم تشهد هذا اللقاء بيننا. بهموم الوطن. وكنا منشغلين أكثر بهمومنا.. بالخبز والماء والحليب.

كنت أراك من بعيد وال أستطيع االقتراب منك أو أن أناديك، ولهذا أريد أن أنهي، بهذه القهوة، كل سنوات النكد التي حرمتني

منك، ومن رؤيتك عن قرب..!

* * *

اشربي القهوة يا حلوتي واحكي لي كيف تكونين حلوة أكثر. وسأحكي لك كيف ننسى السنوات التي مضت علينا هكذا بال ضحك. علميني بلطف كيف أبتسم، وكيف أعتني بالورد، وقبليني كي أدوخ

وأطير إلى الشجر.

Page 67: أصحاب المغيب

66

هل هناك أجمل من هذا النهار كي نمارس الحب ونعلن قبلتنا األولى؟!.. هل هناك أجمل من هذا النهار نلتقي فيه بال أزمة اقتصادية

أو اجتماعية أو سياسية؟!..

لتكن أزمتنا أننا نتأخر قليال عن مواعيدنا. وأننا نتأخر قليال في التعبير. وأن المطر يهطل غزيرا هذا النهار.. وأننا نسينا المظلة في المقهى..!

ة بأمر هذه األمة ليكن بيننا هذا العشق لننسى أننا انشغلنا ذات مرقتنا الخوف التي أكلت أبناءها في ساعات الجوع والشبع.. وذو

بعساكرها ومخبريها، وليلها وكالبها..!

ة حرب هذه األمة الخؤون التي ضحكت علينا وقالت أن ثمستقتلنا، وأن الغد أسود علينا، وأن الحب بيننا مستحيل، وأننا لن نلتقي كي نناقش ونفتش عن حاجتنا في المقهى أو السينما، أو في الحدائق العامة.. مادامت إسرائيل تشغل الضفاف الفلسطينية.. وما دامت

أميركا تقيم بيننا وتلقي بحذائها صوب الجغرافيا البليدة!

* * *

أي مقهى يا ترى يمنح النشوة للسابل الغلبان؟.. وأي مكان يا ترى لت منذ يبعث في القلب ذلك الحنين القديم لألشياء العذبة الحنونة التي تبدفترت عالقتنا بالحب؟.. وأي شارع يا ترى مازال تعبره البنات الحلوات العائدات من المدرسة وهن يحضن الكتب واألشواق والحنين إلى الغد؟..

وأي رصيف يا ترى مازال يحمل خطى العاشقين في المساء؟!

* * *

يا حبيبتي.. يا تلك التي كانت منذ وقت طفلة ال تعرف غير الحب،

Page 68: أصحاب المغيب

67

التي يا هذه القهوة رشفة الفرح.. هل مازال في وال تنتشي بغير تشاركني اآلن هذا المقعد في الحديقة؟!

كيف يمكن أن نأخذ تلك الضحكة الجذلى من ذلك الطاعن في من، حتى أنا.. ال تذاكر لهم تأخذهم إلى ن؟!.. الطاعنون في الز الس

حيث تقيم الحرية في أبهى صورها.

تلك الحرية الجميلة التي كانت تجلس على المقعد الوثير قرب المدفأة وتبتهج لفرح األطفال وهم يلعبون حولها. وعندما يتثاءبون،

تهم كي يحلموا أكثر باللعب! تأخذهم واحدا واحدا إلى أسر

تلك الحرية التي زينت قلبي بحبيبة حلمت بها كثيرا، ولم أرها إال عندما احتجت إليها فعال، فعال احتجت إليها.. فال أحد يحتاج إلى شيء إال وتعب. وهذا التعب علمني كيف أعيد توقيت ساعة ر عن هذا اللقاء المصيري يدي وأضبطها على ساعة يدها كي ال أتأخحام وها هي أخيرا تجلس بحبيبتي التي ابتعدت عني كثيرا في الزمن، وكدنا قبالتي.. تشاركني ذلك اللحن القديم الذي افتقدناه في الز

نفتقده في الذاكرة..!

* * *

لم تسألني، حبيبتي، كم سافرت مرة. ولم تسألني كم عرفت من النساء. سألتني فقط عن حاالتي مع هذا الطقس الجديد. فأغمضت الفؤاد على صوتها وأعلنت بهجتي عاليا. فالحب الذي يعلم اإلنسان الطيران، يكون في مقدوره أن يعلم اإلنسان الكالم.. وأن يتخيل الغد،

الغد الذي يمنح هذه المقدرة على الطيران!

Page 69: أصحاب المغيب

68

ة مشكلة فلسطين، فأي شوق يبعثه في هذا اللقاء وقد انتهت بالمرل. فاإلنسان قعيد ومشكلة اإليدز، ومشكلة الضغط العربي المتأصهذه الجغرافيا البليدة، ال يملك غير الحلم.. الحلم بطقس جديد غير ث بنشرات األخبار المرئية والمسموعة. الحلم بطقس جديد، ملوفيه النشرات تستهل أخبارها بأسعار الورد، وبأسعار كتب األشعار اح. طقس جديد للورد والعصافير وإعالنات والروايات، وبأسعار التف

األطفال..!

* * *

مس: هل نمضي إلى المدينة؟ همست وهي تالمس غروب الش

فقلت: مهال.. ليس قبل أن يعود آخر سرب للعصافير. سنعود في ظالل العصافير إلى عش يكبر فيه الحلم بنهار جميل.. ومألت

الحديقة الشقشقات!

* * *

هناك في المدينة عند الغروب، عند السالم البديع، دخلنا اللحن. فتحنا نوتة الموسيقى العظيمة وغرقنا في الرقص. هي تغرق في

الرقص بهدوء.. وأنا أغرق معها..

حام..؟!! ورة.. والمشهد اليومي للز دخنا، فتركنا وراءنا الخبر والص

ربيع 1992

Page 70: أصحاب المغيب

69

حالة الثقافة وراء ال�ضتار ال�ضيا�ضيأزمة حوار مع الجماهير..؟!

تربطني عالقة قديمة بالشاعر والكاتب المتميز)محمد الماغوط( رائد المسرح السياسي الذي كاد يتوقف عن كشف حكايات »األمة« بعد خالفه مع أستاذ المسرح السياسي )دريد لحام(.. فيتوقف بذلك نبض جيل فني كان يتعطش دائما للوقوف على ركح المسرح السياسي مه الماغوط ولحام ويتجوالن به في محاولة الموسمي الذي كان يقد

د« أمام كل الجماهير العربية. لطرح السؤال العربي »المعق

وكما كان الشارع العربي لصيق االهتمام بسؤال المسرح السياسي الذي أثرى الوجدان العربي بالكثير من االنفعاالت الضرورية في ظل أنظمة »كرتونية« سائبة في سياساتها المضحكة والمقلقة والمحرجة ألمة لم تزل عظيمة في ضمير مثقفيها، فإن الفن الذي قاد إلى صحوة اإلنشاد بحياة األمة، لم يتوقف عند المسرح السياسي وحسب، بل اه إلى األغنية السياسية التي تميزت بمعاركها الثقافية مع تلك تعداألناشيد الحماسية التي »أفرختها« تلك المعارك العربية الخاسرة مع

Page 71: أصحاب المغيب

70

العدو، والتي كانت بالرغم من حماستها العارمة، تقود إلى الصدمة بالهزيمة. فكانت ذكراها مريرة في آذان السامعين الذين كانوا يرددون إيقاعاتها وكلماتها على صوت أحذية الجيش الذي ذهب إلى جبهة القتال ولم يعد. فكان وقع النشيد عنيفا على النفسية العربية التي امها وراهنت على كالم إذاعاتها، وعادت راهنت على كالم حكالهزيمة في عتمة المكان خائبة إلى مقهاها الشعبي تنتج اكتمال بالشاي وأنفاس »النرجيلة« وأغاني »أم كلثوم«، وثمن الهالك الطويل لوجوه تلوك الوجع وتنهار، كان دائما في دفتر حساب الوطن أو على حائط الهزيمة. لذلك كان ال بد أن تنهض المعركة الثقافية مع النظام المهزوم الذي قاد الناس إلى البكاء تحت »أطالل« أم كلثوم. وأن تنهض المعركة بأغنيات سياسية تفضح بؤس المكان، وتفضح خيال النكتة البليدة في المقهى. وتقهر الهزيمة التي تفوح في كذبة بة، في النشيد. ومن صميم األزمة، وقفت »األغنية السياسية« المهروجه األناشيد الحكومية التي ما فتأت تخسر إيقاعها الحماسي أمام

هدوء الكالم في ترنيمات »مارسيل خليفة« و »أميمة خليل«!

»مقهى مقاعد على 67 هزيمة ترك كامل« »فايدة فصوت 73 من »قبلة« تلك الحرب وتلك الفيشاوي« وعاد بحرب أكتوبر الهزيمة.. ليس لتكريم الشهداء الذين سقطوا في سيناء، وإنما تكريما لمحمد عبد الوهاب ونجوى فؤاد. وانتهت الحرب كما لم تبدأ.. وانتصرت »إسرائيل« بنقل العلم من ثكنتها العسكرية، في صحراء ق الجندي سيناء، إلى سفارتها السياسية في وسط القاهرة. ليصد

Page 72: أصحاب المغيب

71

المصري الذي عاد جريحا من حرب 67 وشاهد العلم اإلسرائيلي يرفرف وراءه فوق رمال أغضبتها الريح، أن إسرائيل لم تخسر حرب أكتوبر 73، وإنما انتصرت، في هذا التاريخ تحديدا، بنقل العلم من

سيناء إلى القاهرة..!

الوهاب« لم ينشد »لجيمي كارتر« نشيد فاللواء »محمد عبد االنتصار على إسرائيل، وإنما أنشد للسالم الذي قاد إسرائيل إلى قلب العروبة النابض، وليقتل وراءه الفلسطينيين في األزمة الراهنة. ورقصت »الجنرالة نجوى فؤاد« رقصة الشرق الساحر بين الهرم األكبر

والهرم األصغر ليشهد العالم سقوط الشرق األوسط..!

لقد ربط السادات عنق مصر بمعاهدة »خانقة« مع إسرائيل، ورحل ة خالف قسمت األرض ومن عليها، فا في األرض شق عن الدنيا مخلوأسفرت إلى الخسارة الفادحة في القضية، التي مثلما قادت العرب إلى الهزيمة في الحرب، قادت العرب إلى الهزيمة في السالم. وكأن إسرائيل تعيد إلى ذاكرة »اليهود« ذكرى انتصارها في العام 48 التي

انتكبت فيها فلسطين، وينتكب فيها العرب اليوم!

* * *

ا في رسم لوحات »ضيعة تشرين« كان »محمد الماغوط« محقا في مقاالته األسبوعية و »غربة« و »كأسك يا وطن«.. كما كان محقام »أليس في بالد العجائب«. فكتب تاريخ الهزيمة ليتعض الحكوينصتوا إلى »خانة الجماهير« التي افتتحها في مشروع المسرح ل من عمق الصدارة مع الجماهير، إلى السياسي. لكن المشروع تحو

Page 73: أصحاب المغيب

72

ام صفقوا كثيرا ثم عادوا إلى قصورهم في هدوء ماكر، تسلية لحكيدبرون الهالك للفن الذي أفزعهم في العرض الخاص، وناموا بال خيال على أصوات شخير زوجاتهم المتخمات بالسلطة والنفوذ. وعاد الماغوط إلى بيته في دمشق يتأسف على تصفيق الحاكم على خيبته في الحكم. فكان الخالف مع »دريد لحام« الذي عاصرت بداياته وكان بمثابة »مؤامرة حكومية« للفصل بين االثنين، مثار أحاديث طويلة شاركني الرأي فيها العديد من األصدقاء في دمشق وبيروت وبغداد. لكننا لم نفلح في عودة العمالقين إلى وعيهما، كما لم يعد المسرح السياسي إلى الواجهة. فراح »دريد« إلى التلفزيون »على مسؤوليته« في قناة القت منا كثير الترحيب في بدايتها. وراح »الماغوط« من ذاكرة اتسعت بحجم الوطن وخبت في أزمتها، يكتب السطر الحار في »مقهى الشام« ويتوقف لفنجان آخر من القهوة »السادة« وسيجارة مشتعلة في الفكرة، وكأنه يبرهن على ثقة المزاج في تحريك هدف

الكتابة..!

* * *

عطائه ة قم في الماغوط« »محمد الكبير الشاب هذا مازال خاصة صحيفة إصدار فكرة علي طرح ما فسرعان اإلبداعي، بالكاريكاتور العربي، يستهله الفنان »علي فرزات« برسومات ساخرة امي الكاريكاتور في بتعليقات »الماغوط« وتفتح المجال ألهم رسالوطن العربي. وكان الشيخ الشاب مستعدا ألن يسافر معي إلى قبرص لتحقيق هذا المشروع الصحفي الفني الجديد. لكن الصمت

Page 74: أصحاب المغيب

73

كان أكبرنا في لقائي به في دمشق وأنا في طريق عودتي النهائية من قبرص إلى ليبيا. فخسرنا الفكرة معا، لكننا لم نخسر رصيف مقهى ق مشروع أهم صحيفة سورية شعبية هي الشام. فعلي فرزات حقق الماغوط صوته في مقاالته في »الوسط«. ومن »الدومري« وحقرصيف شارع »العروبة« بمدينة البيضاء في ليبيا عدت أنا للكتابة في صحف ودوريات عربية ارتبطت بها منذ زمن. كما عدت إلى كتابة الحكايات عن »بنغازي القديمة«. وبهذا كأن شيئا لم يكن. كأن »الماغوط« لم يكتب للجماهير العربية مسرحه السياسي النقدي الالذع. وكأن »علي فرزات« لم يرسم في الكويت كريكاتورياته السياسية الجماهيرية. وكأنني لم أسقط من فوق جبل »ترودوس« في قبرص، وأتدحرج ككرة ثلج مهملة إلى قاع مدينة البيضاء ألجد الثقافة التي قادت إلى كسب نفسي أبيع البصل للجماهير. وكأن الرهان بالجماهير، سرعان ما سقطت تحت أقدام الجماهير في ف الذي سوق الخضار، مخلفة الصوت والصدى في ضمير المثقجا من بعيد على حطام العربة كان عليه أن يكون، منذ البداية، متفر

ق! في حلبة السباق... والجماهير تصف

* * *

كان حجم خسارة »شركة المتوسط الدولية للصحافة والنشر في قبرص« بمشروعات إصداراتها الصحفية الجديدة »المتوسط« ذات الشأن اإلقليمي المتوسطي بلغتيها العربية واإلنجليزية، و »البريد« رها الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط. كان حجم التي تحر

Page 75: أصحاب المغيب

74

خسارتها في الظرف العربي والدولي الراهن، بحجم خسارة فكرة مشروع »المسرح السياسي« الذي أضاء به »الماغوط« ركح ظالم المسرح العربي الذي سقط في محنة ثقافة الهزيمة العربية التي تبنتها المؤسسات الثقافية واإلعالمية الحكومية على يد النفعيين المنافقين ف« الحقيقي للخروج من هذه المحنة، المتملقين. لكن فكرة »المثقكانت دائما عرضة لشكوك »مؤسسة« مرتبكة في مشروعها وفي ف. فكان بإمكانها أن تستعيد ذاكرتها وتبرهن على عالقتها بالمثقمصداقية انتمائها لحركة الجماهير في الشارع العربي. هذه الحركة التي لن تتأسس »معرفيا« بدون مشروع إعالمي، من هذا النوع، يتبناها!

2002/6/28

Page 76: أصحاب المغيب

75

كون؟! ل اأحد يبكي في ال�ض

مت، حتى ذلك الذي قتلنا ونحن نعتذر له ال أحد يرانا في الصغير. عن خطأنا الص

مل، ونحب المسافات، كنا مثل فتيان اللعب. نحب الركض على الرة الفقد ألشياء ونعشق كما الفراشات.. وكنا نبكي قبل النوم من شدنراها وال ننالها. أشياء في »الفترينات« المضيئة كالبلور، تسحرنا ببريقها ونحتاج إلى مالمستها. أشياء كثيرة كنا نحتاج إلى مالمستها، حتى الحرية التي كنا نمارسها على البحر وفي الغابات، كنا نخاف منها ونخاف عليها. نحملها معنا دائما إلى مالذات آمنة بعيدا عن عيون المخبرين الذين إذا اجتاحوا المكان، حيث ننصب الحرية ور، يغتالونها ويغتالوننا، فتنشطر الشمس التي ترضعها في أبهى الصفي النهار وترضعنا.. وإلى غير سبيل، في المتاهة الحقيقية، تجرفنا ة.. كيف ضعنا هكذا بين الخطايا ويجرفنا السؤال إلى الحقيقة المرأحذية حملتنا أسرى في الظالم األكيد. كنا لهم األسرى ليعلو صوت النشيد خلفنا، تاركا صداه في أعقابنا، بين الناس وهم يدخلون مراكز

Page 77: أصحاب المغيب

76

االنتخاب، يتجمهرون على صناديق من أوراق سهلة االشتعال كما هي سهلة المنال. ولكي تمضي الدولة إلى النور، ال بد أن نمضي إلى الظالم، حيث الحرية هناك تنام، بين جدران رطبه تنهال كما األحالم.

* * *

لمن تركنا الشطآن إذن والغابات؟!.. ولمن تركنا المسافات وعشق مس الفراشات؟!. من يركض هناك بعدنا في النهار وقد غابت الشمس هنا فينا، في وغبنا في الظالم؟!. ال أحد سوانا يعرف أن الشالمعتقل، حيث الحرية مسجية بين جدران رطبة تنهال كما األحالم!

* * *

نام بجواري »ناجي العلي« وقد كان يتمتم بأسماء ال أعرفها. أسماء هداء الالئي سقطن في مخيمات الالجئين في لبنان. كان يرسم أمهات الشرة بشمس وجه بيروت بمالمح امرأة رسولة، تطعم »حنظلة« بحنطة معفالجنوب، اشتهيت مذاقها في المعتقل. وبين وجنتي بيروت ارتسمت شفتين كأنهما األمل الذي أعاد الروح إلى »حنظلة« المسكين. سألني هيد. فقلت له، منذ وقت مر من هنا، حمل أوراقه ان كنفاني« الش عن »غسإلى القبر. لم يطق أن يرانا في الوطن المعتقل، فاشتعل بضوئنا.. ورحل!

* * *

فين والفالحين. من لم نكن وحدنا هناك. كانت عشيرة من المثقالذين يفلحون األرض بالقصائد والمحاريث. الذين من شمسهم

تولد األشجار وتولد األحجار!

Page 78: أصحاب المغيب

77

لم نكن وحدنا هناك. كان معنا »الوقت« كله، الشمس والطين والطحين، والتين والزيتون والبرتقال. وكان معنا الزعتر واألغنية ة هيد يحكي قص هيد. كان معنا الش المشتهاة عند الفجر قبل صباح الشقوط العظيم على األرض العظيمة. كانت معنا الدماء الحمراء السالختيارة ودجاجات القديمة األزقة معنا كانت الدالية. وعصير وجروتها البيضاء. كانت معنا »نورا« طفلة الرابعة التي تحفظ القرآن الكريم وتحفظ النشيد وتعد إلى العشرة. وكنا كما نحن في المعتقل، نبني األحالم ونهدمها كما فتيان اللعب على رمل شواطئ »غزة«

وغابات »الجليل«.. ولم نكن أبدا بال شمس في فلسطين..؟!!

* * *

أفقت من النوم على صوت أطفال المدارس. كان صباح بيروت باردا ومنهكا، وكأنها ذات الوجه الذي كان معي في الحلم بين يدي وق في عينيه، كأنها ة والش ناجي العلي. فتذكرت متى تركها آخر مركانت طفلته التي ودعته وحيدا، وكان يخاف عليها من الليل وحيدة. وكان معظم األصدقاء الذين غادروا بيروت في تلك الليلة، وقعوا في أسر ذكرياتها. فكأن السفر أو التهجير في الليل، حالة استثنائية تصيب الفلسطينيين. وبقدر األلم الذي تتركه الذكرى األليمة في المكان، يكون الحنين إلى المكان هو منتج هذا الفن الذي استوعب الحالة واستوعب المكان. وكأنني أرى في رواية رشاد أبو شاور »بيروت.. يا بيروت« تلك الصرخة الفلسطينية وذلك االحتجاج على التهجير الفلسطيني عن األرض التي كادت تمتد إلى »القدس« عبر منافذ الروح التي علت جبال

Page 79: أصحاب المغيب

78

فين الفلسطينيين، ضحية لبنان. فكان رشاد مثل بقية األصدقاء من المثقضت له المقاومة الفلسطينية في العام 82. اإلبعاد القسري الذي تعروبالرغم من حالة االستقرار المعنوي الذي وجدتهم عليه في »تونس« بيروت في الجماعية« ظلت بعد ثماني سنوات عن تلك »الهجرة أحالمهم كأنها الشمس التي كانت تشرق لتغيب في تونس.. مالذ الليل الفلسطيني الغريب. حتى أننا من حاجتنا لتلك الجلسات الفلسطينية اللبنانية، أشعلنا روح ذلك الطقس في إحدى الليالي الجميالت في البيت التونسي الكبير. وبافتراقنا الجديد، المؤبد، عاد بعضهم إلى وهم الدولة بعد أوسلو ومدريد، ال ليجدوا فلسطين في أزقة الطفولة ان زقطان« ولكن ليجدوا المكان تبكيه الذكريات على كما اشتهى »غسق في الجدار بسقوط الوهم الباب العتيق، والبكاء على السنين يفتح الشان في مجلة الشعراء الذي داهم الحلم بال سبيل. فتناثرت أزهار غسالشباب كما تناثرت أزهار »محمود درويش« في »الكرمل« الجديدة أمام القصف اإلسرائيلي على قصائد السالم. فكم كانت قصائد العودة كثيرة، لكن الزمن الذي أخذ الوقت عن باحة المكان، كان يدبر الهالك األكيد للذاكرة الفلسطينية. فالهجرة الجديدة غير الممكنة، تعني موت الثقافة، يعني أن القصيدة األخيرة الذاكرة. والبقاء بين أطالل بيت باتت تكتمل. وهنا ربما كانت »رام الله« بيت الرئيس وبيت الشهيد، هي بيت القصيدة التي من عنادها تربض أمام المدفع كل صباح، في

انتظار القذيفة األخيرة..؟!

* * *

Page 80: أصحاب المغيب

79

عر الذي لم يقرأه عر الذي هناك. الش كيف يمكن إذن أن نجمع الشل إلى زهرات عر الذي يخنقه الدم ويتحو علينا أحد في المعتقل. الش

عر الذي يتنفس كدخان بركان..؟! أقحوان. الش

هل ينفجر فينا قريبا، لنخرج أحرارا من المعتقل؟!.. أم أن الحرية المسجية معنا بين الجدران الرطبة، في السجون العربية.. أصبحت

شمسها مطفأة، وصار ليل العرب طويال؟!

كيف لنا إذن بشمس يتفتح فيها األقحوان، وتغدو الحرية التي معنا ر في المعتقل، تشرق في فضاء الوطن بقصائد تهدم المعتقل، وتحر

جناء في يوم الثورة الكبرى؟!! الس

2003/1/24

Page 81: أصحاب المغيب
Page 82: أصحاب المغيب

81

كيف احترقت قبر�شعند الرحيل الثاني..؟!

الماضي، أيلول/ سبتمبر ليبيا في إلى الشريفة كانت عودتي انتصارا للذات على بالدة المكان. وهي أيضا انتصار على موضوعة د على تعميق البالدة. فالمكان »البديل« »المؤسسة« وإصرارها المتعمية بظرفه االستثنائي لمهام مؤسسة افترضنا وجودها في مسألة جدف وعالقته بالمكان، الحوار مع اآلخر، كان معنيا بأهمية دور المثقالتابعين القافزين على مسألة الحوار من األساس. دون غيره من وبتدهور أحوال »المؤسسة« بين طائع ومطيع في جغرافيات الحوار ف ـ صار المكان أشبه باألسر الذي تموت ـ الحق المكتسب للمثقف المدرك لخطورة المسألة. ومن هنا كانت فيه طموحات المثققبرص »الثانية« محطة باردة في حياتي المهنية، فأخذت من وقتي ما يجعلني أكتب في أي مكان آخر عشرات الروايات والكتب الثقافية والسياسية. بمعنى أنها كانت مضيعة لوقتي الثمين الذي كان ينتظر على باب »مؤسسة« خانت األمانة. وأدركت عند عودتي »الشريفة«

Page 83: أصحاب المغيب

82

ف، إنه على باب تلك المؤسسة العقيمة، كان ال بد أن ينتصر المثقوأن تنهار المؤسسة في محيط مبناها!

كمتن بالثقافي، ارتباطها فسخ »المؤسسة« اختارت فعندما للمشروع الحضاري الموكل إليها، زادت من تعميق أزمتها في عالقتها فـ باآلخر وبمشروع التنوير من أساسه، والذي كان ينتهجه هذا المثقطبيعياـ خارج أسوار المؤسسة. فكان من األجدى على هذه المؤسسة ف على أن تتخلص من عقدتها الدونية »الخاسرة« وتتحالف مع المثقمشروعه من داخل مشروعها، باعتبار أن ال خالف على المعنى في ف، خسرت المؤسسة معنى المكان. لكن بعداء المؤسسة لعقل المثقف إلى موقعه بهدوء، ليرى سقوط وجودها في المكان، وعاد المثققوط، ال يساوي دخان سيجارة المؤسسة في الغبار. وكان غبار السف بارتياح، وقد أدار ظهره لحجم الدمار، وحجم واحدة يأخذها المثقما الخسارة الفادحة في التاريخ. وعليه، اآلن، أن يرفع رأسه عاليا، ترح

على المزيد من الخسائر!

* * *

قبل إقامتي »الثانية« في قبرص، كنت أكتب من هنا، من مدينة البيضاء بالجبل األخضر، في كبريات الصحف والمجالت العربية التي تصدر في أوروبا. ولم تنقطع عني اتصاالت أهم الكتاب والصحفيين العاملين فيها. وكانت قبرص »األولى« التي أقمت فيها خالل الحرب اللبنانية، محطتنا األكيدة، وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية،

Page 84: أصحاب المغيب

83

خاطبت بوعيها التنويري عقل المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء صحافة مؤسسات النظام التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك المرحلة ة في تاريخ النضال العربي، وسقطت أمام األعداد األولى لصحف المهمومجالت السؤال العربي. فكان المكان »القبرصي« بمعناه االستثنائي الثقافية والصحافية. في ذلك الزمن، هو العالمة الفارقة في حياتنا المتوسطية، الجزيرة الحرب، تضاءلت ظاللنا في نهاية تلك ومع لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله، وعاد بعضنا إلى التعب من جديد في كساد األمكنة. تارة نعيب على تلك المرحلة التي منحتنا الكثير من الثقة في قدراتنا على تأكيد السؤال، وخسرنا ضمان وجودنا في المستقبل. وتارة نعيب على المحنة العربية الراهنة التي قادتنا إلى ذات السؤال، وكنا فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة.. والتارة األكيدة هي ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها معا، جة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي. نكتب ككتيبة حرب مدجتحت شعالت القصف الليلي الذي كاد يتراءى لنا من شرفتنا العالية في »ليماسول« وكأننا هناك، في بيروت، بين األصدقاء، نحتمي بجدار المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف الطويل. ونستقبل ب في البريد. وعلى رصيف الميناء، في صباح اليوم التالي، الفزع المهرنستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب إلى مالذ الوجع العربي، للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على إثبات الوجود الستعادة المكان. وكبرت قبرص في عيوننا حين كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في الوقت العصيب.. وقلعتنا الصحفية الكبيرة تطلق سهام القلم الحر، في

كبد الحقيقة الغائبة ـ المغيبة ـ في كل مكان من العالم!

Page 85: أصحاب المغيب

84

ات« في ذلك اللقاء اإلعالمي الذي جاء عفويا، لقد انتصرت »الذوكان سباقا إلى الفعل، في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف الحرب الخاسرة بين األشقاء، ودعم صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه المحترقة على ـ تنا بنهاية الحرب، وكأننا كنا هناكـ جنود ليـ وانتهت مهم جسر األوى األخبار االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية من الجزيرة. نتلقبالوسائل الصعبة، ونكتب عن محنتنا في الصور القادمة المغطاة بالدم، ونبكي استشهاد )كمال ناصر( الذي أفرغ »باراك« في فمه كل رصاص مسدسه، إسكاتا لصوت الشاعر المناضل. ونبكي خروج

المقاومة الفلسطينية وجراح »حنظلة« في يد ناجي العلي!

كنا على رصيف التعب في ليل »ليماسول« نرى مصابيح بيروت تقترب من افتتاحية الصباح المهداة للعقل العربي. وكأننا مع خيوط الفجر األولى، ننهض على صوت النوارس وهي تعبر سماء الجزيرة، تأخذ األحالم واألشواق.. تتهادى في البياض وتأخذ مداها إلى

بيروت!

* * *

يت اتصاال من أحد األصدقاء في لندن. كان منذ يومين فقط، تلقبيننا تجهش بتلك الحديث يعيد ذلك الفضاء المفقود، والذاكرة الصور واألصوات التي كانت هناك في نيقوسيا وليماسول، وكأنها ، في دقائق االشتياق، إلى ذات المكان اآلن هنا.. وكأننا عدنا للتوفي قبرص السبعينيات والثمانينيات. سألته عن لندن. فقال لي باردة

Page 86: أصحاب المغيب

85

بناسها وأحوالها. فسألني عن »الجبل األخضر« فقلت له دافئ بناسه والربيع هذا العام يأخذ العقل. ولم يسألني متى عدت من قبرص، وال عن مشاريعي الثقافية التي حلمت بتحقيقها هناك، وماتت هناك. وردت قبرص فقط حين سألني عن صحة ابني »زياد« الذي عدت به من قبرص مريضا بعد أن بخلت عليه المؤسسة بمهلة صغيرة الستكمال العالج.. وانتهى اللقاء بأن حياني على عودتي للكتابة رتني كتاباتك األخيرة والنشر في صحافة المهجر، وعلق قائال: ذكعن أحداث فلسطين، بتلك الكتابات عن أحداث لبنان. وسألني

بحرقة: ولكن يا صديقي، هل حان وقت الكالم..؟!

تلك الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة )صبرا وشاتيال(.. وخفت عليه من الموت بين ذراعي، هي ذاتها الحرقة التي كانت في صدري يوم افترقنا. سافر هو إلى لندن، وعدت أنا إلى ليبيا. وليفترق بقية األصدقاء عن مصدر اللهب الذي كان هناك وكنا نتوهج معه. وهاهي األحداث في فلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في قبرص، ليكون الفراغ الذي تركناه هناك، بمساحة الوجع الذي نناله هنا. وقد كان »وقت الكالم« رهين تلك الحالة الغائبة عن معتركها الطبيعي، الحتواء أزمة من هذا النوع، كادت قبرص أن تراهن عليها من جديد، بظهور صحافة حقيقية تجاور حقيقة المأساة، وتكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي

بصوت الجماهير.

لكن »الذات« التي بدأنا بها، والتي غادرت بالدة المحيط اآلسر

Page 87: أصحاب المغيب

86

في قبرص »الثانية« هي الذات المولعة بطقسها القديم، وقد تألقت أيام كانت قبرص هي المكان والضرورة. فاإلقامة الحرة على سبيل لة الطبيعية لقوة »الذات« على إثبات التجربة الحرة، هي المحصموهبتها ووجودها الثقافي. أما اإلقامة الجبرية على سبيل المهنة لة الخواء التي الصغيرة، في محيط المؤسسة الصغيرة، فإنها محصة االنتصار إلثبات الوجود. وتلك ف وتحرمه لذ ض حرية المثق تقوكانت إرادة »المؤسسة« الخائبةـ الغائبة عن الوعي في حضور الشروط ف الشاهد على ضحالة ـ األصلع واألبرص ـ في الموضوعية للمثق

مؤسسة االنتماء المزيف!

ر، أن يعمد األشباه على لذلك كانت المحنة تفوق حد التصواإلطاحة بنور األلق في البالد، ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح بين األمم. ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في اليائسة، وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في المحاولة ف المحاولة األكيدة. وكلما كان السؤال قويا وحرجا في صوت المثقاء، ال تسمع ـ كان الخطر كبيرا على ـ مؤسسة الثوري ـ واألذن صم

الوجود ـ من األساس؟!

2002 / 5 / 3

Page 88: أصحاب المغيب

87

اأميركا والرجل ال�ضورياليوجه مثل الحليب

يسافر في الرحلة األخيرة!

اعتقدناها باب السينما عندما كانت األدوار تمنح بالمجان لغير النجوم والنجمات الذين خرجوا من ملهى »هوليوود« بال شارة على الصدر. خرجوا يضحكون وقد انتهت أدوارهم العالمية بأوسكارات تراجعت نخبتها في قاعة »شراين أوديتوريوم« بلوس أنجلوس، اث إلى حلبة الضوء الباهر في »نيويورك« ليحملهم القطار الذهبي النفومشاهدة العالمة الليزرية العمالقة التي ستنطلق من عيني تمثال

ان العالم أينما كانوا. الحرية في سماء الكون، ويشاهدها سك

تلك العالمة التي لن تنطفئ في عيني حاملة مشعل الحرية، هي م الضوئي لشعار »النظام العالمي الجديد« الذي ستشهره المجسأميركا للعالم خالل الفترة القليلة القادمة، وتحديدا عندما تنتهي من خصومها، وتطيح بكل المدارات المانعة في العالم، من أنظمة عنيدة، وديانات عنيدة، وثقافات يائسة ومتفائلة. حينها تضيء تلك العينان

Page 89: أصحاب المغيب

88

الصامتتان أمام مشعل أطفأته األحداث األخيرة في سماء مدينة كابرت كثيرا في غرورها، وسقطت في الرحلة التاريخية لطائرات 11 سبتمبر!

* * *

بين مشهد سقوط البرج الشاهق الذي أطاح بفكرة الرأسمالية، ومشهد اجتياح الضوء لسماء الكون في ليلة »زفاف نيويورك« تكمن القدرة األميركية الفائقة على تغيير العالم. والعالم إذ يتغير بقوة )اإلعالم األميركي( الذي استوعب الحالة األميركية في األزمة، وكان سباقا قت حتى على أفكار صناع القرار في إلى احتوائها بقدرات سياسية تفوالواليات المتحدة، يستحق أن يكون تابعا مسالما لقوة اإلرادة األميركية التي صنعت »العولمة« وبثت بريقها في ليلة النجوم العالمية.. ليكون

األوسكار األوحد من استحقاق صانع هذا الحلم األميركي!

* * *

أمام هذا العنفوان للمشهد الساحر في ليل نيويورك، ماذا عسانا أن نفعل في »منطقة الحرب« التي أطفأت أنوارها على ساحة »الجندي المجهول« البائسة في الظالم بين فضالت الجيش وعواء الكالب. وأمهات طيبات حزينات مازلن يخطن الثياب في الديار المهجورة، لشهداء عبروا المكان على صوت نشيد المعارك، وسقطوا في رجفة ام الذين القلب األخيرة قبل الفوز بابتسامة تفاؤل بالمستقبل. فالحكيغادروننا إلى مزادات »نيويورك« العالمية الستيراد ثمار العولمة، قد يستضيفون قتلة الشهداء، واالحتفاء بهم في ساحة الشهداء، والمرور بهم على مقابر الشهداء. وقد تتزين »كلوديا شيفر« وترتدي وشاح

Page 90: أصحاب المغيب

89

الفلسطينيات أمهات الشهداء. وقد يصبح العلم الفلسطيني الذي كان ة االحتفال بطي صفحة الكفن والعهد في سنوات المقاومة، غطاء منصالماضي، والتذكير بالدرس المستفاد الذي خسرت فيه فلسطين

»نصف قرن« من نضال انتهى على مائدة عشاء؟!

* * *

ي عندما أمضينا نصف العمر في دائرة .. لم يكن بيننا هذا التعدالسؤال.

كم بكينا وكم كذبنا على حالنا عندما ضحكنا بال سبب. وعندما التفتنا رأينا الوجوه التي سبقتنا إلى الوراء.. وجوه كبرت في الذاكرة..

انتظرت كثيرا سؤالنا عنها، وتالشت؟!!

ة لم نستأذن وقارها في تاريخها الشعبي. ولم نستأذن حيطانها الهشالمترامية األطراف التي آوتنا قبيل المغيب، قبل اشتعال الحكايات

في الظالم العربي..

ألهذا الحد أهملناها تلك الوجوه، وتهنا عنها في سبيل اللعب في حضارة مخيفة استوردناها عن جهل منا بخباياها ومداخلها ومتاهات

صاالت قمارها السياسي والثقافي، والحضاري.

الخريف، أول في الليل أول الصاخبة الموسيقى فينا علت فلم نسمع بحمحمات الحصان المجروح أسفل الرخام!

ق ذلك إذا كانت كل الخيول قد قفزت من كيف كان لنا أن نصدالذاكرة ولحقت بأصحابها في التاريخ!

Page 91: أصحاب المغيب

90

كانت الحمحمات في المساء بعيدة عنا. وتلك الوجوه بعيدة عنا. ونحن هنا في مدينة الضوء، نجتاز الدرج العالي إلى النافورة العالية، ص شهرزاد حيث تجلس امرأة بالستيكية من صنع األمريكان، تتقمالذاكرة في ليلة مزدانة بنجوم الليزر. وعلى الطرف اآلخر من المدينة، فوق المنارة، يبكي شهريار تحت علم بارجة اإلمبراطور، الراسية في

مياه البحر المتوسط!

* * *

لم نكن على علم بمقتلنا ساعة أخذونا من غواياتنا البريئة وأشعلوا جة في سماء المدينة، كأنها الكرنفال في عيوننا تلك العناقيد المتوه

األخير الذي يمضي بنا إلى النوم األخير.

أبهرتنا لحظة الموت االصطناعي، حتى أننا من خوفنا ارتجلنا الضحك وهوينا إلى األرض نلملم ما تناثر من تلك السعادة البدائية. ومضينا.. بال قلب مضينا في الزمن اإللكتروني.. وأمضينا الوقت في مشهد جديد يأخذ نصف األرض إلى السماء، ليأتي الكمبيوتر بأشجار اللوز للنصف المشطور. ولتغني الغجريات االلكترونيات على شواطئ بال أمواج كانت لمراكب صيد بدائية هلكتها الطمأنينة،

تغني قبل كل فجر ألزمان غابت عنها الصباحات!

* * *

طال االنتظار على باب الحكمة، وشيخ الحكمة مات قبل أن يتلو علينا سيرة العطش الذي قادنا إلى الهالك. مات دون أن يبوح لنا بسر

Page 92: أصحاب المغيب

91

هذا الزمن الذي قفز ـ هكذا فجأة ـ على المدينة الرمادية الشاحبة، ليحرس األطفال بألعاب »البوكيمون« في الغابة السحرية، وليمضي إلى شرفة ارتفعت من دهشتنا عندما عبرنا نهر السمك األحمر بزوارق بال صوت إلى آخر النهر، لمشاهدة الحوت المضيء بين الزوارق

البيضاء وهو يسحب بارجة اإلمبراطور إلى البحر المتوسط!

* * *

جات من حلبة طال االنتظار على باب الحكمة، لتختفي النساء المتوهالرجال على الرمل، وليعلو ماء البحر على قوافل الغجر، ويدو صوت االنفجار في المنارة العالية قرب الميناء، وتسقط كل الطيور. ويسقط السالم في نار بال دخان. ال شاهد عليها غير هذا الذي أخذته الغيبوبة إلى آخر الزمن، ومات صامتا وطاعنا في الصمت. طاعنا في هدوء البحر وهدوء السماء.. وفي الجمال المزيف ألرض صغيرة توقفت عن ة الدوران ساعة دخنا، وساعة فتحنا النوافذ للهواء االصطناعي، ولكوالليزر الملتهبة كمنتصف شهر أغسطس، تسطع على المدينة بال ظالل ة في الضاحية الشرقية، على أشجار بال فيافي، كما سطعت هناك ذات مروعلى ماشية من إبل وماعز صارت بال مأوى تلوذ في الخالء.. كما هم من الكمبيوتر سطعت على رجال بيض بلون الحليب، خرجوا لتووركبوا الباص اإللكتروني الطائر في رحلة قصيرة حول األرض.. في رحلة طويلة إلى نهاية العالم، بدأت منذ وقت قصير، مع ظهور المالمح

الطاغية للبطل اإللكتروني الحالم بال قلب..!

* * *

Page 93: أصحاب المغيب

92

كان موعدنا مع الحصاد وشيكا. وكانت أمهاتنا في غفوة القيلولة، يف. الر برائحة رة المعف صدورهن إلى السنابل باحتواء يحلمن والرغيف الساخن في فرح الصبية عند بئر الماء، يفوح برائحة األرض. تلك األرض التي توقفت عن الدوران، ساعة حضرت النعال المهاجرة افات، تكنس الحلم في الطريق. تكنس كأنها القرود، تقود أزيز الجرالسنابل واألحالم.. تكنس الظل عن المكان.. وتكنس األرض التي

كانت تدور.. وتوقفت عن الدوران؟!!

2002/8/9

Page 94: أصحاب المغيب

93

ليل القاهرةكيف ينام القلم على سريره األبيض؟!

قلت لصديق صحافي في مصر، دعاني ذات ليلة إلى العشاء في بيته: أنا ال أفهم في أمور الطب بعمومه، ال البشري وال الحيواني. لكن عندما أقبل على الكتابة، أي كتابة، أحس وكأنني أقوم بعملية جراحية بالغة الخطورة.. إلى أن تكلل العملية بالنجاح. فهل يفرح األطباء دائما بنجاحات عملياتهم، أم هم مثلي يحاولون نسيانها من

أجل عمليات أخرى أكثر توفيقا ونجاحا؟!

قال: أنا اآلن عكسك تماما. الكتابة عندي صارت ممارسة عادية جدا. مثلها مثل المشاوير اليومية من البيت إلى الجريدة. بل أقل منها عناء. عمل الصحافة علمني أال أتعب كثيرا، وأال أبذل جهدا مضاعفا في عمل هو ليس باإلبداعي ـ اإلبداعي. القصة عندي انتهت منذ طت في مهنة الصحافة. الصحافة تأخذ لغتك كلها في البداية، وال تورتترك لك منها سوى »بضع شطحات«.. مدخل لقصيدة حديثة مثال، أو تعليق على حدث ثقافي. لقد نسيت من زمان تلك العمليات الصعبة.

Page 95: أصحاب المغيب

94

فقلت: لكن العالقة يا صديقي قائمة، وبذات األدوات. ال يمكن الفصل بين قيمة جهدين، الشغل اإلبداعي والشغل الصحافي. الكتابة عموما مجهود ذهني يتأثر دائما بما حولك، وبمزاجك في التقاط الموضوع وتناوله. أنا أعتبر أي كتابة هي »حرق أعصاب«. ال تقل

لي أن هناك كتابة سهلة وغير ذات جهد!

ضحك قليال ثم غادرني وعاد بعد لحظات قائال: حسنا، ما رأيك في هذا الكتاب؟.. وبرهن لي بكتاب سهل وبسيط ورائق، صدر مؤخرا عن إحدى دور النشر العربية الكبيرة. كتاب بغالف أنيق، وطباعة أنيقة، ومحتوى ال عالقة له بالعنوان، وال عالقة له بأي نوع من أنواع الكتابة، حتى الكتابة العمومية. كتاب هلوسات رديئة جدا.. لكن ميزته يا صاحبي أنه صدر عن دار نشر مشرقة، ولم يشرق في

عيني أحد!

* * *

د كثيرا بأن يكتب عن مثل هذه السخافات ن صديقي كثيرا، وتوع دخالمؤسسات وأماني بوعود رته فذك العربية. للثقافة أساءت التي فين في ملتقياتهم الثقافية والهيئات الثقافية العربية، وقرارات المثقهنا وهناك، وقرارات مؤتمرات األدباء والكتاب العرب على مدى أكثر من عشرين مؤتمرا.. وهكذا دواليك. إذن المشكلة ليست في فين كتاب صديقنا العزيز هذا، وال في دار النشر، وال في لقاءات المثقالعرب في أي مكان. المشكلة في أننا كعرب، كلما اجتمعنا حول قضية، خسرناها. وعليك أن تالحظ بدقة حجم الخسائر التي لحقت

Page 96: أصحاب المغيب

95

بنا وبأمتنا العربية من وراء سائر مؤتمراتنا واجتماعاتنا، الثقافية أو السياسية. لذلك ـ قلت لصديقي ـ أن تكتب قليال، وتستمتع كثيرا بليالي القاهرة. أنا لو كنت مثلك، لكان أهم كتبي على اإلطالق هو »ليالي القاهرة«.. أكتب في النهار، وأمضي الليل بين ضفاف الدنيا

واألحوال الرائعة!

ك بها »مدينتك«. أما المؤتمرات أجمل مادة للنشر هي التي تمدوالمهرجانات الثقافية وجوائز الدولة التقديرية واإلرتشائية.. فكلها

ى كونها حفالت تعارف في لقاءات فضائح! ال تتعد

رصيدنا الوحيد، أن نكون قريبين من الناس. وأن نكتب ما نراه الليلة الحوارية بأن نحن، وليس ما يراه اآلخرون. وانتهت تلك أوصلني إلى الفندق ونزل معي ليأخذ مادة صحافية، كان أصر أن

أكتبها له ووعدته بها قبل يومين.

* * *

باح، عند الساعة التاسعة، غادرت القاهرة، وكان في نيتي في الصأن أتصل به، وأعتذر منه عن »مادتي الصحافية« فلعله قرأها ولم يجد ره بأنني نسيت أن أكتب عليها هامشا صغيرا يتعلق فيها شيئا. وألذك

بتلك العمليات الصعبة التي نجريها أثناء الكتابة.

لقد كانت المادة المكتوبة ال تعني أحدا، بقدر ما كانت تعنيني ا من أنا شخصيا. لقد كانت تتعلق بذاكرتي التي افتقدتها في مكان مهذا العالم. فعندما قطعت كل برامجي تلك الليلة ألكتب. لم أجد

Page 97: أصحاب المغيب

96

في رأسي أي موضوع، غير خسارتي الكبيرة لليل القاهرة، الذي كان دة يدعوني مرارا من خالل شرفة الفندق. فتشت في حقيبتي عن مسومقال، فلم أجد غير بعض الرسائل وعناوين األصدقاء وعناوين بعض الكتب. وال شيء كان في رأسي غير تلك الفتاتات التي عدت بها من قبرص. وال شيء كان يدعوني إلى الكتابة. كنت في حاجة لرؤية الشلة في مقهى »ريش« أو »زهرة البستان« أو في »استيال« أو المرور على »اإلتيليه« لرؤية بعض األصدقاء هناك واالستمتاع بالحوار مع ال« أو النزوح في الشوارع الحية أختنا الطيبة الكاتبة »فتحية العسوالجلوس في أحد المقاهي الشعبية بين الناس والنكتة الطائرة، أو

اق ومواشير المراكب النيلية! على »الكورنيش« بين همسات العش

طني فيها كل شيء جائز وممتع، عدا فكرة الكتابة هذه، التي ورصديقي. لقد اعتدت أن تدعوني الكتابة إليها، فأجد نفسي رائعا أحيانا وأنا أنجز قبالتي عليها، ثم أشكرها على الدعوة الكريمة بتوقيعي. ا في جو ال يليق باغتصاب االحتماالت، فهذا لكن أن أطارد فكرة م

صعب، صعب جدا!

* * *

ب. ألغيت فكرة النزول إلى المدينة. طلبت كان علي أن أجرقهوة، وفتحت علبة سجائري، ووضعت الورق والقلم، ونظرت إلى الساعة. كانت العاشرة تقريبا. جاءت القهوة بكلمات حلوة. ثم بعد قليل توقفت الساعة في الرأس ودخلت العاصفة. عواصف في قعر بابيك، وفتحت شبابيك الرأس لم أعرف مصدرها. أقفلت جميع الش

Page 98: أصحاب المغيب

97

اكرة على أية مرايا قد تلمع من هنا أو هناك. لكن العواصف لم تهدأ، الذفطلبت قهوة أخرى وأشعلت عشرية من السجائر.. والوريقات هي الوريقات، بيضاء وناصعة البياض. والقلم بين أصابعي يرتعش، ثم ينقر الوريقة األولى، ويعتذر عن التسويد السيئ الذي مأل جنباتها

من دون إرادة!

م في العمر. كانت في العاشرة، ثم صارت في صارت الساعة تتقدالثانية ليال.. وكانت األربع ساعات تطل من شرفة الفندق على ليل القاهرة الضوئي. مواشير المراكب تعين األرصفة بذاكرتها، وزحام ة ينتهي إلى استراحات في قلب المدينة الكبير. ومن السيارات والماراألعلى، طائرة تغازل بهبوطها ليل القاهرة. ثم تندر الذاكرة قليال من النوم.. كل شيء، وتصير بمقدار أنملة. ال شيء يعوزني اآلن غير

وياليت الليل يطول في النوم..!

النوم. وتلك الوريقات سرير أحسست بأنني بكيت كثيرا في وت، ونام قلمي العاري أبيض للقلم. نمت أنا على منبهات الص

على سريره األبيض!

* * *

باح أيقظتني القاهرة من أسر ليلة نادرة في حياتي. ليلة في الصعاجزة عن فعل أيما شئ. ليلة خاسرة إال من تعبي وكساد ذاكرتي. ليلة، العقل فيها في مكان، والقلب في مكان.. والرأس يعصف باالضطرابات والرؤى البعيدة. وكأنها متاهة العقل على ضفاف النيل. النيل الذي أخذ الليل من أسراره العجيبة.. يكتب أغنيات عاشقيه،

Page 99: أصحاب المغيب

98

وأنا بعيد عن النيل بالتزام عسير أوقعني فيه صديقي القاهري، الذي ارتوى منذ زمن بالليل والنيل.. يكتب اآلن كيفما يشاء، في أي وقت،

وعن أي شيء!

* * *

إذن، كيف كنت سأسرق من ليل القاهرة وقتا للكتابة القسرية، باح. صديقي هو اآلخر كان في والدنيا تسهر في الدنيا حتى الصالدنيا. أنا الوحيد فقط كنت خارج الدنيا، في سجن له شرفة تطل اكرة أن تهرب مني.. ولذلك أيضا على النيل. لذلك كان من حق الذ

فشلت في تغيير ليل القاهرة!

1990/11/19

Page 100: أصحاب المغيب

99

بيروت الم�ضاء..

عندما كنا نخاف على بيروت ونكتب لها، كنا نخاف منها. فبقدر الخوف عليها والكتابة لها بلغة العاشق الجميل. كان الخوف منها، الخوف من

المرأة الجميلة ساعة تغضب، وساعة تتوحش وتفترس عاشقيها.

معظم المثقفين اللبنانيين الذين التقيتهم وعشت معهم في المهجر، قرأوا الفاتحة على السيدة الجميلة، وأخذوا منها وردتها وطفلتها ولعبتها، وأغرقوا حديقتها بذكريات الندى القديم على ليلها المضيء.

نة في قلب بيروت. ومقعده لقد كان لكل منهم صورته الملوالمفضل على »الويمبي« أو »الكافي دي ميري«.

في شارع الحمرا، وعندما أصابوا صاحبة الصور ومقاعدها، أرادوا أن يندلع الغبار في صباحها، وأن يخيم الظالم الدامس على الشوارع التي شهدت عبور القصيدة في الليل، وفراق أنثى الرواية على أرصفتها.. وغناء العائد إلى أبويه من الميناء، ومن فرن السعادة،

وملهى الفنانين الشباب.

Page 101: أصحاب المغيب

100

لم يبق سواهم، الذين حملوها معهم في الحلم الطويل، وطافوا بوسادتها في العواصم المتفائلة، ونصبوا صورتها في ضواحي لندن، برشلونة في العلنية الشمس حدائق وفي باريس، مقاهي ومرايا وميامي.. وعلى رمال الرنكا وليماسول البدويتين على راحتيها أيام صباها، وأيام كانت ترج القلب وتشرب من حبر مطابعها وعطورها.

* * *

مرارا كنت أقول، هل سأرى بيروت مرة أخرى؟!

وكان إن رأيتها في أغسطس 1992 بآخر ذرات الغبار، وقد كانت في طريقها إلى حمام الهنا.

وددت كثيرا لو أراهم جميعا هنا في بيروت وقد حققت أولى القبالت على صخرة الروشة.

الجبل من عدت وعندما »الويمبي«.. على طويال انتظرتهم وجدتهم بانتظاري. كل منهم ترك لي ورقة بالفندق، وكلهم الذين تركوا لي وريقاتهم المعاتبة والذين اتصلوا بالتليفون، ركضوا باتجاه

الغبار في شارع الحمرا.

كان »المقهى« هو رصيف تلك الذكريات التي فرقتنا وجمعتنا من جديد إلى قلب بيروت.

* * *

*.. آخرهم، ولم يصل، كان »بول شاوول« الذي ودعني في

Page 102: أصحاب المغيب

101

نيقوسيا بسيجارة قبل سفري بساعتين، وقال لي »دخن لي كثيرا في بيروت«. وتذكرته عندما قال »إن أول سيجارة تشعلها في الصباح هي التي تضيء بها هذا العالم«. وقد حاول »بول« مرة العودة إلى بيروت، وعندما نام فيها بضع ليالي بال حلم، قصفوا بيته فتركه ينهار أمام الذخيرة الحية، وعاد إلى قبرص،

إلى ذخيرته الحية، وقد فقد الجسد الذي لوعه ملمسه.

م بيته الذي لعبت فيه الحرب أكثر من *.. طالب العبد الله يرمأحالم آل العبد الله.. حسن ومحمد وعصام وعماد العبد الله.

* شاعران يصوغان في بيروت، الوجع المستبد في الجنوب، عباس بيضون وجودت فخر الدين، غادرا بيروت قبل مجيئي بيومين، وعادا من الجنوب بعد رحيلي بيومين. سألت عنهما تلك الطريق المتعرجة إلى صيدا، والتي تراءت لنا من أعلى جبل لبنان، وقد كان العجز يطفر أمامنا خالل دخان القذائف.

عدنا وقد تركنا الجنوب للشاعرين.

* استقبلته بيروت بطريقتها، القادم من باريس، إبراهيم العريس. أبي صعب بيار باريس مع السابع« في »اليوم أيام جمعتنا وآخرين. والتقينا في القاهرة وافترقنا. وها ألتقيه في بيروت يقص على غبار البيت الذي تركه منذ زمن، وقد عاد إلى باريس ومعه حلم جديد بالعودة ذات يوم ينقشع فيه الغبار عن بيته وعن

األماكن التي غيرت أبوابها قبل مجيئه.

* * *

Page 103: أصحاب المغيب

102

*... ما السر وراء كل ذلك. كيف ألتقي جميع األصدقاء هكذا بال مواعيد؟!! هل بسبب األبراج المولودة في بيروت؟! أم أن

بيروت دائما هكذا، محطة مواعيد!

د على كل شيء، حتى على نصه، يحيى جابر، ال يغالط *.. المتمرنفسه حين يراك وحين ال يراك.. األمور لديه تبدأ وتنتهي ساعة يرى ذلك من دواعي قصيدة هاربة يطاردها بمقاالته المتواترة في »الناقد«. أما »البيوتيان« عماد العبد الله ويوسف بزي فإنهما يفارقان »الناقد« قليال، و »الروضة« كثيرا.. من أجل قصة

وقصيدة أخرتين في بيتهما تم العثور عليهما مبكرا.

* منقذنا جميعا من السقوط في هاوية المشهد اليومي للغبار كان عبد األمير عبد الله، وهو عبد األمير المرح، الذي يشكل عالمة بارزة من بين المثقفين اللبنانيين المعروفين بالنكتة السريعة الطازجة والضحك المتواصل الذي يخفي قلق المدينة على أوالدها. حيرة عبد ألمير أنه يعيش دقائق ساعته اللبنانية كما ينبغي، ويحاول أن ينقذ نفسه وينقذنا جميعا من الوقوع بين عقارب ساعته. طبق النكتة لديه بالصلصة اللبنانية يجعلك أسير الضحك في األماكن الفسيحة التي ارتدناها، أو في كوخ »عمي

أبو محمد« ملك المشويات الشعبية.

*.. شاعران آخران، يربيان قصائد ذات أجنحة، إذ ال تنتهي واحدة حتى يطيران بها بعيدا. فمن »جرش« يدخل محمد علي شمس الدين قصائد أخرى في بيروت. ويستحم شوقي

Page 104: أصحاب المغيب

103

بزيع ثالث أو أربع مرات في اليوم ليطيران كليهما، واحد إلى القاهرة واآلخر إلى تونس، وإيقاعات جرش باقية ومسافرة. أما أنا فعلى موعد قريب في القاهرة ريثما ينتهي المهرجان

المشبوه.. ثم أعود إلى ليبيا.

* * *

*.. ثالثون يوما في بيروت استعدت فيها تلك الذاكرة المفقودة تعبي، نوافذها كل مساء على تفتح التي الروشة، لصخرة

وأغادرها بالحياة وبلقاء األصدقاء.

فيروز عطالن، وزياد منذ وقت كان هنا. السيدة تليفون ..*وماجدة الرومي نامت منذ وقت استعدادا ألول أيام »بعبدا«..

وموعد الطائرة إلى القاهرة يفصلني عنه إطاللة قصيرة على كوخ »عمي أبو محمد« وضحكته الموجوعة بصبر المثقفين في

لبنان.

1993/4/28

Page 105: أصحاب المغيب
Page 106: أصحاب المغيب

105

حكاية رجل الفـرات�ضافر كثيرا.. ومات كثيرا..!

.. دعا كل األصدقاء ليفارقهم.

أخرج ألبوم الصور، وقلبها واحدة واحدة. الصورة الكبيرة والصورة نة والصورة العادية. قبل فيها كل أفراد العائلة الصغيرة، والصورة الملووكل الحبيبات والصديقات والزميالت الالئى عاشرهن في نصف قرن. كل صورة أدخلته إلى مشهد. كل صورة نطقت.. رحل طويال معها وعاد إلى الصورة األخرى ليرحل. واحدة صوتها عال وواحدة هادئة تين وأغمض عينيه على ذكرى الفراق. وواحدة مريبة.. وواحدة قبلها مر

دعا كل من عرف في حياته، وفارقهم جميعا. بعضهم حضر، وبعضهم اعتذر، وبعضهم أخبروه تليفونيا أنهم قاطعوه من زمان. كبارا ماتوا. وبعضهم حضروا الدعوة ألنهم يقبلوا لم وبعضهم

ولم يفهموا شيئا من الذي يحدث أمامهم.

* * *

Page 107: أصحاب المغيب

106

رجل بكامل قواه العقلية بحسب شهادة المختار، يقيم حفلة عالمية لكل الناس الذين عرفهم في طفولته وصباه، وعرفهم في مراحل رهم، دعاهم التقاهم صدفة وتذك الدراسة والشباب. حتى الذين إلى الحفل الكبير. حتى األجانب الذين التقاهم أثناء رحالته حول هن العالم، دعاهم. عجائز كثيرات حضرن إلى بيته وقد وصلن لتومن الدينمارك والنرويج وهولنا، ومن أثينا وروما ونيقوسيا وبرشلونة،

كن يدرن حانات صغيرة في عواصمهن القديمة.

ة من وعجوز يوناني برجل خشبية دعاه ألنه ركب معه ذات مر»بيريوس« إلى »رودس« في مركب صيد وأكل معه قطع الجبن المملح

مع النبيذ اليوناني الفاخر.

لم يغب أحد عن بيت الرجل الفقير الذي جمع كل ما عنده من نقود ليدعو كل من له عالقة بذاكرته. كلهم جمعهم في بيته العالي

على النهر، وفارقهم.. ليبكيه الجميع!

* * *

.. قبل رفع الستار عن حكاية الرجل الغامض، حضر الجميع مصحوبين بحيرتهم للدعوة الملحة. وحين رأوه في المنظر األول يزيل الشيب عن شعر رأسه تارة، ويزيل التجاعيد عن وجهه تارة روا الصبي والرجل الذي كان روه. تذك أخرى.. ويعيدهما.. تذكيرعبهم بالضحك. أعادوا معه نفس الضحكة العالية. كلهم ضحكوا..

كلهم ضحكوا وخرجوا من ذاكرته.

* * *

Page 108: أصحاب المغيب

107

سألهم باستغراب : من أنتم؟!.. فقالوا له : نحن من دعوتنا إليك منذ أيام. فقال والصمت يكتسح المكان : عودوا من حيث أتيتم.. أنا ال أعرفكم. ال أعرف أحدا فيكم.. أنا أعرف واحدا فقط، هو أنا. أعرف نفسي، ونفسي هي أيضا ال تعرفكم. ال تعرف أحدا. نفسي

تعرفني أنا فقط. هيا عودوا من حيث جئتم.

ش، ولعنوا الدعوة القاتلة عندما تراجع الجميع عن القلب المشوانتزع من قلبه بقية ضحكة.. ومات!

* * *

كلها الغريب. الرجل العالم حكت قصة هذا .. كل صحافة رت أخباره بالرسوم المعبرة. صحيفة واحدة فقط هي التي نشرت تصدات، له صورة فوتوغرافية وهو يضحك، التقطتها له إحدى المدعوف إليها بأحد متاحف اليونان منذ ثماني وهي صحفية فرنسية كان تعرة أن أرسطو كان جاهال رته جيدا عندما قال لها ذات مر سنوات وتذك

ألنه مات!!

* * *

صحيفة أخرى علقت أن هذا الذي مات ـ لم تذكره باالسم ـ هو فيلسوف هذا القرن. عندما ينتهي هذا القرن ال بد له أن يذكر هذا الفيلسوف الذي جمع بقوة عقلية خارقة كل الذين التقاهم في حياته،

حتى الذين التقاهم صدفة.

ات األمراض النفسية في ويذكر أن اسمه أطلق على إحدى مصح

Page 109: أصحاب المغيب

108

بريطانيا العظمى بدعوة من هيئة األمم المتحدة، وهذا وحده يعني أن صاحبنا كان عاقال.. وعاقال جدا.

* * *

ين كان قد سخر من دعوته عندما لم يجد مقعدا له أحد المدعويجلس إليه بين الحضور، ولم يذق كوبا من الماء البارد أو ملعقة من الشاي األخضر المنعنع. وقف وسط الجموع وقال بلهجة احتجاج : ما هذا؟.. فقال أحد المارة يطلبه أن يأخذ يمينه أو يساره : هذا هو ك من مكاني، شئت أم أبيت.. وأضاف هذا. فرد عليه قائال : لن أتحرها خطابه للجميع : اعتقدت أن صديقي هذا بعصبية ظاهرة موج»الكاتب« قد صار مليونيرا، فحضرت من هناك، من أقصى الشمال، ألقص له شعره على طريقة سفراء القرن الثامن عشر. لكني وجدت

هنا، في هذه البالد، جرذا محنطا يضحك..

* * *

.. لم يبق أحد ولم يعرف بالحكاية. تلك الحكاية التي أوقعت الكثيرين في روايتها. كتبوا عنها كثيرا في الجاهلية. وكتبوا عنها كثيرا

في العصر الحديث. كلهم من بغداد.. وإلى بغداد عادوا؟!

2003/10/24

Page 110: أصحاب المغيب

109

اجها�ضة الذاكرة في رواية المدينة!

الحاالت كتلك ليست غريبة صداع حاالت أحيانا تنتابني أدبيا ا االعتيادية. وكانت عندما تجتاحني، أعرف أن وراءها نصسيظهر نتيجة ضغط ما، أحتمله ظاهريا دون أن أدرك وقتها مدى تأثيره في أعماقي، فأبدو شاحبا كأنني كبرت فجأة عشر سنوات أخرى.. وبمجرد أن أجد نفسي في عزلتي طواعية أمام ذلك النص ل أحوالي، وأبدو الخفي وانتهي منه بانفعاالت السرد العفوي، تتبد

فرحا بعد ذلك كأنني تخلصت للتو من حفر جبل!

* * *

رت هذه الحالة صارت تالزمني كثيرا في السنوات األخيرة. وتذكرأيا قاله ذات مرة »غابرييل غارسيا ماركيز« مفاده أن نضج الكاتب الحقيقي يبدأ بعد األربعين، وبما أنني قد شارفت على الخمسين دون أن أدري، فإن رأي ماركيز فيه خطأ ما، أو أن ذاتي كانت بطيئة را. أو أن هناك اإلدراك بهذه الخاصية اإلبداعية فلم تدركها إال متأخ

Page 111: أصحاب المغيب

110

رة من خطأ ما في عمري لم تفصح عنه العائلة بسبب هجرتها المبكقرية »عين مارة« بالجبل األخضر إلى »طبرق« ووالدتي في بنغازي بعد تلك الهجرة، ووفاة والدي وأنا في المهد بين ذراعي أمي التي كان يشغلها مصيري وهي غريبة في المدينة التي أوت جوعنا.. إلى جت من الرجل الذي فتحت عيني عليه ألعيش بعد ذلك مع أن تزوإخوتي من أمي، نتقاسم الضحكة وكسرة الخبز في بيتنا العتيق تحت

سماء تمطر.

ات التي ارتبطت بالمكان وباسم قد تكون هذه خصوصية للذ»زنقي الجنجان« الذي اقترن اسمه باسمي في بدايات حياتي األدبية والصحفية في مطلع السبعينيات حتى منتصفها تقريبا. فكان العطاء رد وفاء تلقائي للرجل الذي منحني ظله وكان ـ قبل أن يكف بصره

ـ من بين ألمع الشخصيات الشعبية المعروفة في بنغازي.

لذلك كان عمري الحقيقي من عمر أول خاطرة أدبية نشرتها باسم الرجل الذي كان يترجم صوت البحر الهادر جهة » توريللي » أعرق أحياء بنغازي القديمة، والتي تركت مدرستها في المرحلة االبتدائية وخرجت من أزقتها الضيقة إلى تلك الشوارع الكبيرة بحثا عن لقمة اجة قديمة، ثم أجد نفسي بين ل ببضاعة رديئة على در العيش، أتجو

صات أمام سينما »االستقالل«. الصبيان أبيع المحم

كانت تجارتي رديئة دائما في المدينة التي كانت تقتاتني في النهار وترمي بي في الليل طريحا بال أحالم. لذلك فشلت في تحقيق السعادة ألمي ورد الجميل للرجل الذي خارت قواه في البحث عن لقمة

Page 112: أصحاب المغيب

111

العيش. وإذا كنت قد فقدت دراستي لمواجهة الفقر، فإنني لم أفقد ثقة الرجل العتيد في مواجهة ظروف الحياة القاسية في ذلك الزمن.

* * *

ذلك الفشل الذي عشته في الستينيات كان السبب في نشوب أول صداع ينتهي إلى التعبير. حتى صار الصداع حالة مزمنة ومنتجة للكثير من الخواطر التي أهملتها في تلك الفترة، وصارت ممكنة

للبوح مع بداية السبعينيات.

بعد ثالثة عقود من الكتابة والنشر المستمر في الصحافة المحلية والعربية والدولية، ومن إنتاج أكثر من عشرة كتب في القصة والرواية والنقد والمقالة، وأكثر من خمسة مخطوطات مازالت تنتظر النشر، أجد نفسي مضطرا لمصاحبة هذا النوع من الصداع الذي عاد يالزمني كثيرا هذه األيام، فأمتنع عن البوح بذاتي الموجعة، وانشغل عنها بكتابات صحفية علها تكون وسيلة خالص من الصداع. لكنها لم تخفف عني بل زادت من أوجاعي وجعلت من الصداع حالة مالزمة ات التي انشطرت إلى ما هو أعنف خارج الوطن. والكتابة على هذا للذاتي اإلنساني، اتي الشخصي والذ النحو من االنشطار بين الوجع الذصارت تضاعف من شقائي وتجعلني أسير رؤية خالص من هذا

االضطهاد؟!

* * *

لقد خسرت الرهان على المستقبل بعد هذه التجربة الطويلة،

Page 113: أصحاب المغيب

112

وكسبت الرهان على معرفة الحاضر برصيد تلك التجربة، حتى إذا ما عجزت يوما عن توفير جرعات الحياة ألطفالي الثمانية، صار الرضا عن نفسي سدا منيعا لشبح ذلك الفشل وذلك الصداع من أرق الفقر، وحتى ال أكون في المقابل ضحية المفارقة العجيبة.. أن أخسر ثالثين سنة من الكتابة المضنية، كما خسرت تلك السنوات وأنا صغير دون تحقيق ذات الرغبة في كسر عنق الفقر الذي يلتهمنا

بال سبب؟!

لذلك أخطأ »ماركيز« في تعيير عمر النضج الفكري واإلبداعي عند الكاتب. وكان يجدر به تحديد موطن هذا الكاتب والمكان الذي يناسب هذه النظرية، إذ أن الكاتب في مجتمعاتنا قد يمتلك رة، حتى لو كانت غير هذه الخاصية الخصبة لإلبداع في سن مبكدقيقة بالنظر إلى تجربتي المتواضعة التي اكتسبت، في ما بعد، الكثير من المؤهالت اإلعالمية العربية والدولية دون أن تنال شيئا

من مجتمعها!

* * *

ات العصامية، وهو ف الموهوب هو نتاج تجربة الذ إن المثقف القريب من وجدان الناس. والضعف المادي بذلك، المثقالذي يبدو عليه في الحياة بسبب الفقر واإلهمال، يجعل منه في ف »الشريف« بال جائزة من أحد سوى تكريم الجوع النتيجة المثقله بالكتابة الصادقة. أفلم يكن الشاعر »الجيالني طريبشان« فقيرا عصاميا حين أمهله الموت الكثير من الوقت في سني عذاباته

Page 114: أصحاب المغيب

113

ليكتب العدم األكيد في شهقة الفجر وحيدا، ثم حين وقف للسفر ر إلى روضة جميلة في الحياة، داهمه الموت فجأة على المتأخأسوار المدينة القديمة، فهتف الشاعر فجأة ويده على قلبه »يا الله.. ارفق بهذا القلب« وسقط بين الناس ميتا وفي جيبه تذكرة سفر

لرحلة تغيرت جهتها!

وألم تكن ذاكرة الشاعر »علي الفزاني« واثبة حين أجهشت لي الطويلة، المكالمة تلك وبانتهاء الجميلة، بذكرياتنا الهاتف عبر اجتاحتني الغربة في ليل »نيقوسيا« البارد وأنا أهدر الوقت في رواية »ليلة الطوارئ« التي احترقت ألنها ال تليق بتجربتي. وأجهشت الذاكرة في بنغازي حين عدت من قبرص حزينا في ذكرى وفاة الشاعر العصامي الذي رحل فقيرا وعظيما كما رحل من بعده صانع »غربة النهر« الكاتب »خليفة الفاخري« وهو في أشد أزمة البحث را عن مأوى لعائلته. وكان االثنان ذاكرة بنغازي التي افتقدتهما مبك

ولم تزل هناك حكايات..!

لقد كان هؤالء األصدقاء جميعا يدركون أن الحياة من بعدهم لن تكون جميلة كما يظن البعض، وإنما أسيرة الموت الذي يجرف في

طريقه كل شيئ.. عدا الذكريات!

* * *

عندما توقفت قليال في المتاهة بين الناس، اعتمدت على فكرة النضج في طرح الكولومبي »ماركيز« بالرغم من قناعتي بأن فيها خطأ ما. ورحت بين الوجوه أبحث عن مالمح الحياة فيها، فلم أجد غير

Page 115: أصحاب المغيب

114

الموت ينتظر بين الجفون. حتى الضحكات كانت »مكهربة« بفعل التوتر العصبي الداخلي، وكأنها انفعاالت مكبوتة تخرج في شكل د مجاراة هذه العادة السيئة بين هستيريا نظنها قهقهة الضحك.لم أتعمالوجوه، ليس لغياب روح الطرافة عندي، ولكن لقناعتي بأن تلك المالمح كانت مطفأة وال تضحك، وال شيء كان يدعو للضحك

أصال غير الملل الذي يبعث على المزيد من االكتئاب!

2002/10/4

Page 116: أصحاب المغيب

115

العودة المحزنة..

ال أدري بالضبط كم مضى على تلك الحادثة. أذكر أنني دخلت المدينة ليال، وفي قلبي حنين مبهم ال أدري لمن!

اقط خفيفا حزينا على المدينة التي كان الطقس باردا، والمطر يسهربت من الليل وركنت للذكريات.

كانت بعض المصابيح المضاءة في أعمدة الكهرباء الخشبية تهتز في صرير حاد، كأنها ستسقط حاال. وسيارة » الندروفر » وحيدة، تراني من بعيد في الظالم أجوب الشارع الطويل في خطى واهنة،

تارة على الرصيف، وتارة على اإلسفلت القديم.

لم تكن الساعة متأخرة عندما دخلت المدينة. لكن كان الطقس ال يوحي بأن أحدا قد خرج من بيته في ذلك المساء. حتى فضالت

دكاكين اللحم تفر منها الكالب والقطط في سخط!

كل المدينة أغلقت أبوابها بإحكام، وبعض الفتات النيون المجنونة

Page 117: أصحاب المغيب

116

تغازل بعضها من بعيد كأنها أضيئت خصيصا لألشباح في ليلة كان ينتظرها الجميع!

* * *

وددت فعال لو أن أحدا يدعوني إلى الطعام. ماذا يحصل لو أن م لي كوبا من الشاي الدافئ ودثرني أحد أبناء المدينة أطل برأسه وقدما عندما يوما بمعطف قديم. سأشكره. كنت سأشكره وأتذكره تكون لدي نقود. من يدري، قد يمر من أمام بيتي ذات ليلة شاتئة كهذه الليلة، وأدعوه إلى الطعام، أو إلى كوب شاي دافئ. ولكن هل سيحدث وتكون لدي نقود تكفي حاجتي للعيش مثل بقية الناس.. ة في الحلم على أنني ابنها.. ثم علمتني متني ذات مر وفي مدينة قدل الطريق. قرأنا الخوف بسبب أناس ال أعرفهم إدعوا معرفتي في أومعا القصص والروايات واألشعار، ثم تخلوا عني ودخلوا الجامعة، ة أخرى يتخلون وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع. وهاهم مرعني، يقفلون األبواب في وجهي، وينامون على أرصدتهم من النساء

والنقود وتذاكر السفر!

* * *

ل قصة قصيرة أكتبها، ستغير كان إحساسي في البداية يقول، أن أووجه العالم. لكن لم يتغير شيء. حتى شكل الصحيفة التي كنت أكتب فيها لم تتغير، وال حتى شكل المدينة التي كنت أقطن فيها وكانت

مصدر أوهامي.

Page 118: أصحاب المغيب

117

أحببت أن أكون كاتبا، ولكني لم أحب مطلقا أن أكون فقيرا!

عندما عملت مساعد بالط في شركة للمقاوالت، وتركت الدراسة ل على ثمن الكتاب في المرحلة االبتدائية، كنت أعتقد أنني سأتحصوالرغيف والقهوة. وعندما عملت سفرجيا في مقهى شعبيا، غامرني إحساس بأنني سأكون بين الناس، أعيش همومهم وأكتب عنها. لكني لم أكتب شيئا. صرت خادمهم، وكانوا هم يلعبون الورق ويضحكون!

أحسست بضعفي من اقترابي من الناس، فهجرتهم إلى الجوعين. دوا تجويعي. كرهتهم. وعندما حاولت العودة أهانوني كثيرا، وتعمإلى المدرسة أللتحق باألصدقاء الذين سبقوني وانتقلوا إلى المدارس

ي وكتبوا عليه »مرفود«. الكبيرة، طردوني، وشطبوا على ملف

وجدت نفسي أمسح األحذية في محطات المدينة ومقاهيها.. ة على الكورنيش، احتقرت األحذية، وعندما كنت أجر خطاي ذات مرواحتقرت اليد التي تمسحها في النهار، وفي الليل تكتب عن المدافئ والمرافئ والحب، وتكتب عن الحدائق واألطفال واألحالم الشديدة، وتكتب عن حلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتدثرني

بحنانها.

أصبحت على الرصيف بال شيء، إال من الجوع والخوف!

* * *

هل أجد عندكم سريرا ألحالمي؟!.. هل أجد عندكم ماء للشرب، أو للغسيل؟!.. هل أجد عندكم ثيابا قديمة كانت البنكم الكبير الذي

Page 119: أصحاب المغيب

118

له في بيتكم غرفة، وفي أحالمكم دار، وفي قلبكم حديقة أمنيات؟!. هل أجد عندكم بنتا تقبلني زوجا بال نقود؟!.. تقبلني هكذا بأحالم مؤجلة، تختارني أنا وترفض أصدقائي.. أصدقائي الذين سيختارون بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات األعيان.. يقيمون لهن األعراس

ج على العز! في القصور العائمة، وأنا خلف السياج أتفر

* * *

ما بالكم تنظرون إلي هكذا؟!

ني هل قلت كالما غريبا معاذ الله؟!.. قلت أريد أن أنام. ال يهمالسندويتش اآلن، وال كوب الشاي، وال قرص األسبرين. أريد أن أنام فقط. ذاكرتي تتعبني، ومعدتي أكثر. وهذا الليل الذي أدكن المدينة ب أثري بالفراغ، يدكن وحدتي، وسيارة »الالندروفر« الوحيدة، تتعقمن شارع إلى شارع. لم أكن أحسب أنني مشيت كثيرا. السيارة أحيانا

د بالوجع في كل خطوة أخطوها.. د بالوقود. وأنا أتزو تتزو

ضت لها بقلب حزين. كانت باردة. غسلتني. علت الريح. تعرزفرت فيها كل أنفاسي، وبكيت!

كل األبواب مقفلة. ال أحد يجيب. ال أحد يسكن المدينة. كل ة إال مني، ومن بعض الكالب الفارة.. والالندروفر! الشوارع مقفر

ة أنني ذات مر تذكرت في لحظة وأنا أتوسط الطريق والبرد، جت. وتذكرت أنني قد كتبت قصة أحببت. كانت فتاة جميلة وتزولم أفهمها. وتذكرت أنني رأيت هذا المشهد من قبل. لست أدري

Page 120: أصحاب المغيب

119

إن كان ذلك في الحلم أم في »الحلم«. الريح تعصف بي وبمصباح عمود الكهرباء، وبأسمال الرجل البشع الذي وقف خلفي ينهرني

ويدفعني بقوة للصعود إلى.. الالندروفر!!

* * *

بيتا هناك.. نمت. وحلمت كثيرا بهم. حلمت بهم يمنحونني إلى معهم وأخذوني أحبوني، كتبي. كل لي ويطبعون وزوجة، االحتفال. في االحتفال، رأيت البنت التي أحببتها زمان.. كانت

جميلة ويافعة!

ورأيت األصدقاء الذين تركوني ودخلوا الجامعة. ورأيت صاحب الشركة الذي دفع لي نصف أجرتي وطردني. ورأيت مدير المدرسة ي ورماه في وجهي. ورأيت وجهي يعجز عن الكالم، ق ملف الذي مز

ويد تلطمني: تكلم؟..

* * *

ة.. في المدينة... وحدي. كنت هناك.. ذات مر

ة.. في المدينة... وحدي..!! وأنا هنا.. هذه المر

بنغازي ـ شتاء 1991

Page 121: أصحاب المغيب
Page 122: أصحاب المغيب

121

ر�ضيف بيروتتكريس الديمقراطية في المقهى السياسي!

تحضرني جلسات »الروضة« في بيروت، حين كنا نلتقي على الموعد بعد صباح ملئ بالنشاط الصحفي هنا وهناك. تأخذنا سحابات »النارجيلة« بين نسائم مياه المتوسط وصخرة »الروشة« وبنايات

بيروت المقبلة على المساء.

في المساء قبل حلول الليل نكون قد قضينا على ثالثة كراسي من »النارجيلة« ليبدأ هبوط األصدقاء االضطراري على موائد الحكايات خارج مهنة المتاعب التي نتركها مع نهايات قهوة الصباح حتى الثانية عشرة ظهرا، موعد الهواتف السريعة والرهان على السبق في تصنيف

ملوك المشويات في بيروت.

كنت أنا الضيف بعد ثالثة أيام، أنحاز لفريق عمي »أبو محمد« وكوخه الصغير بين الروشة وشارع الحمرا، فهو بدون منازع يمتلك مهارة عالية في الشواء، واألهم من ذلك إنه يلقي بي إلى الفندق

Page 123: أصحاب المغيب

122

تنتهي ما التي عادة الدسمة الغداء مباشرة لالسترخاء بعد وجبة الساعة الرابعة. وكان اليوم الذي ينتصر فيه أحدهم على تناول الغداء في أحد مطاعم الجبل بين خرير المياه الباردة والهواء النقي، أعود في المساء بمزاج عكر ال يحتمل حتى الموسيقى الهادئة، فما بالك بسهرة ال تنتهي. سهرة تحتاج فقط لقوة اللبناني على امتالك الليل بالضحك والحكايات، وال تحتاج مني، في المقابل، سوى تهنئتهم

على هذه القدرة العجيبة على مواجهة مختلف الظروف!

* * *

فأثناء الحرب انتصر اللبنانيون على جراحهم بالسعادة مع األمل في بيروت الظالم التي كانت تضئ مع القصف العشوائي. وبنهاية الحرب م اللبنانيون بيتهم بالكثير من األمل، فكان التفاؤل دائما يسبقهم إلى رمصورة لبنان النموذجية وسط اليأس العربي الضارب في األعماق. وكان األجمل في عالقة هذا اللبناني بمحيطه العربي، أنه يدرك حقيقة األزمة وظروفها وال يراهن على المستحيل. فتكفيه قضية واحدة هي تأكيد وجوده في المكان، وتأكيد حريته في محيطه، قبل أن تعنيه أي قضية أخرى قد ترهق كاهل المكان وتصادر الحرية الممكنة في محيطه.

ويكفيه أيضا أن وجوده اللبناني كان دائما مرتبطا بالوجود الفلسطيني.

لذلك فالعالقة الثقافية بين حال الوجود اللبناني وحال الوجود الفلسطيني، كان دائما موضوع السؤال الثقافي في الحياة السياسية المشرقية. وهو ذاته السؤال الذي جعل من بيروت عاصمة للصحافة العربية بال منازع، بل وجعل منها عاصمة للكتاب العربي بالنظر إلى

Page 124: أصحاب المغيب

123

كميات اإلنتاج الضخمة للكتاب الثقافي والسياسي وتجاوزها لعقدة المحذورات الفكرية التي تمارسها الكثير من األنظمة العربية ضد المثقفين والثقافة. لذلك فهي عاصمة للعقل العربي خارج حدود

الضغط العربي!

فبمقابل تجارة النفط ال تصنيعه في الكثير من الدول العربية، والتي للطعام والشراب السوق االستهالكية باالنفتاح على عادت عليها والكساء، كانت بيروت تزدهر ثقافيا بال نفط، وتعود بالفائدة المعرفية اللبنانيين مهما لتصير السوق االستهالكية المفتوحة في متناول كل بعض غالء من فيه نشتكي الذي الوقت ففي مداخيلهم. تفاوتت السلع في بيروت بالمقارنة مع األسعار في الدول المجاورة، األوروبية والعربية، يعيش اللبناني حياة ترف مميزة نتجت عن طبيعة تكوينه الثقافي وقدرته على تعيير السوق االستهالكية بما يكفي حاجاته الضرورية، نت مداخيلهم. وإن كان البذخ حالة تستهوي معظم اللبنانيين كلما تحسوأعرف أن بعض األصدقاء من الصحفيين، حين يفلسون ال يجوعون، خرون منه شيئا. حتى وحين يتوفر لديهم المال، فإنهم يسعدون به وال يدأن عامل البناء اللبناني الذي يعمل طوال النهار باألجر اليومي، تراه في الليل أميرا مستمتعا بوقته في أرقى محالت بيروت مع األثرياء من رجال األعمال والفنانين والسياسيين، يشرب أفخر المشروبات ويأكل أشهى المأكوالت، ويرقص مع السياسيين والفنانين والفنانات على أحدث

إيقاعات موسيقى الشباب، دون أن يهتم بما قد يحدث غدا!

* * *

Page 125: أصحاب المغيب

124

هذا التكوين االستثنائي في حياة اللبنانيين، جعل منهم نموذجا فريدا للحياة العربية في محاكاتها للغرب. فاألوروبي بذات الصفات، يدرك أن الحرية في منتهاها، تعني تحقيق كفاية العيش في مجتمع يعتمد على جهد الفرد، كما يعتمد في النتيجة على جهد الجماعة. فالفرد وإن عمل لحسابه ليس في مقدوره أن ينعزل عن فعل الجماعة األحزاب كانت وإن لذلك واالجتماع. واالقتصاد السياسة في السياسية اللبنانية بعد الطائفية، تعيد تشكيل الحياة السياسية على أساس اتفاق »الطائف« فإن اللبنانيين كانوا دائما يلتقون خارج اللعبة الحزبية، وخارج اللعبة االنتخابية.. وأيضا خارج جعجعة المعارضة في البرلمان. فحكومة الدولة ال تحكم الشعب الذي يحكم الدولة. بمعنى أن في لبنان حكومتين قائمتين، تختلفان وتلتقيان، واحدة داخل البرلمان وتهتم بالحياة الرسمية ألجهزة الدولة واألمن العام البرلمان وتهتم بمستويات والعالقات الدولية، واألخرى خارج

االقتصاد الحر وعائداته على الحياة العامة.

* * *

إن الثقافة التي أنتجت هذا النموذج العربي، هي ثقافة االنفتاح لبنان قلعة الدنيا، والتي مثلما جعلت من المعارف في على كل ثقافية منتجة للحرية الفكرية. جعلت من اللبناني نموذجا حضاريا منتجا للديمقراطية في أسوأ الظروف العربية. وعلى هذا كان له السبق التاريخي في التجربة الحزبية والتجربة الجمهورية والتجربة البرلمانية، وال تؤخذ عليه سوى مجاراته للتجربة الطائفية العائلية التي

Page 126: أصحاب المغيب

125

لت الطائفية في كانت منعطفا خطيرا في حياته السياسية عندما تدخالصراع على السلطة. وكانت النتيجة هي سقوط ذرائعها في الحرب الطويلة للميليشيات. وتلك التجربة التي بالرغم من قسوتها على كل اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، منحت لبنان المناعة السياسية ضد أي ق تيارات خارجية من شأنها أن تؤثر في أمنه وسالمه الوطني الذي تحق

باتفاق »الطائف« وكان وضع أساس لبنان الجديد لكل اللبنانيين.

* * *

كانت الحرية دائما هي هاجس الشعب اللبناني الذي يحكم الدولة وحياتها السياسية. وعلى هذا فهو ينتمي طواعية لفكرة ست مع الحرية في الحياة الديمقراطية، حكم األغلبية التي تكرفدفاعا عن وجوده هزم حكومات الطوائف. ودفاعا عن وجوده أيضا، هزم إسرائيل.. ودفاعا عن الحرية كان ينتصر باستمرار لهذا الوجود. ولذلك فهو يمتلك حق إسقاط الحكومة متى شاء، وإعادة البرلمان إلى الشارع الذي فيه يسقط المنتخبون.. ومنه يعود الجميع

إلى المقهى السياسي!

2002/10/11

Page 127: أصحاب المغيب
Page 128: أصحاب المغيب

127

غيمة �ضلفادور دالي

.. خبأ لي في الشتاء الفائت غيمة دسمة فوق جبل بعيد.

تراسلنا كثيرا. منذ حطت فوق ذلك الجبل ونحن نتراسل. بعثت لي باقة رذاذ من برشلونة، هي وجنات الصديقات الالمعات طيلة هبوب الرذاذ الناعم. ثم بعثت لي بمنديل أبيض، هو كل كفها البيضاء عندما فتحت نافذتها علي.. وتلت لنرجسيتي قصائدها القصار. ثم بعثت لي في منتصف الربيع الغائب بمشهد واحد للذاكرة، أغرقته في حنين وتوهجت.

ألم أحك لكم عن الليل، وكيف كانت تلك الغيمة تحضر إلى حلمي، أخلع ثوبها األبيض بهدوء، وألبسها الفستان األزرق بحنان. هكذا مزاجي، اللون األزرق له سحر خاص عندما تلبسه غيمتي

البيضاء في الليل، وترقص لي على إيقاعات زجاج الشرفة.

أنا والغيمة البيضاء والليل، أصدقاء »سلفادور دالي«. يرانا نسهر قرب مدينته األخيرة، ويرسمنا بنوار اللوز. يرسم صديقتي حبلى بمطر قديم، قد يكون ذكرا، أو أنثى. ويرسم ليلنا حديقة مطفأة تصخب

Page 129: أصحاب المغيب

128

بصيحات األطفال. ويرسمني أنا برباط عنق على اللحم، وحذاء سميك. قد نتعب أنا والليل وغيمتنا المزعجة، فنركب الحصان البني، ونتجول على محطات البنزين بحثا عن الممثلة الجميلة التي خرجت

لتوها من السينما، ونست حقيبة يدها على ركبتي.

كيف أناديها هذه الممثلة باسمها، والشارع أغضبه جمالها منذ أفالمها األولى عندما كانت صبية، وها هم يحتجون هذا المساء

على دورها الجنسي العنيف.

قد تعتقد عندما أالقيها أني أريدها في كلمة على انفراد، وأنسى حينها حقيبتها في يدي.

ر معي الحصان والليل والغيمة، فألقيت بحقيبتها رت وفك فكفي البحر. البحر الذي طفح فجأة بالبنات الممثالت الجميالت الصاخبات. هربنا منهن، والغيمة تمطر في أعقابنا، تنبئ من في الطريق

أن يحترسوا من البنات الحلوات الطالعات من البحر.

يدها وحقيبة الممثلة صورة نشرت بدورها المساء جريدة المفقودة. ونست »جريدة المساء » أن تعلق على العطر الذي فاح.

وضعنا الصحيفة على قبر »دالي«، الذي طوى الصحيفة وأعادها إلى أصحابها. قرأتها الممثلة الفاتنة، واعتذرت على اإلزعاج الذي

سببته لنا، في ليلة شاهدنا فيها أروع أفالمها.

هناك. رصدتنا. رصدت كل كانت أيضا التلفزيون كاميرات حركة.. منذ خرجنا من السينما.

Page 130: أصحاب المغيب

129

ظهرت غيمتي الزرقاء في التلفزيون. وظهر معها الحصان البني.. وظهر قبر السلفادور وعلى صدره جريدة المساء. وظهرت أنا بكامل قيافتي، أدعو كل النساء أن يرتدين الفساتين الزرقاء، ليصبحن حلوات مثل غيمتي، ويرقصن على إيقاع شرفاتهن، وأن يحلمن كثيرا بأسرة م تطير من وإلى، والعودة، ليقفن في الصباح على صوت غيمتي تقد

لهن الحليب الطازج، وابتسامة جريدة المساء.

ق أن كل ذلك حدث بالفعل، برغم أن معظم الناس ال أحد صدقون هذه الغيمة البيضاء، قون الكذب األبيض.. فلماذا ال يصد يصدحكاية الغيمة البيضاء. وحكاية البنت البيضاء، التي ظهرت على الشاشة الكبيرة بروب أبيض شفاف، تلعب بمياه نهر جديد، على

ضفتيه طوبر الرجال.

أكيد ال أحد معي، في أن الحلم هو حقيقة أخرى. بل هو الحقيقة األولى، ألنه من مخزون الرغبات. من األشياء التي نتمناها لنا، وليس من األشياء التي فرضت وجودها علينا. نحن نحب، ألننا إذا لم نحب نموت. ونحن سعداء بهذا الحلم. وحلمنا باألميرة الجميلة سببه ألنها موجودة بيننا.. ولو لم تكن موجودة بيننا لما حلمنا بها. لذلك فالحلم

هو الحقيقة األولى.. الحقيقة األهم..

ر. أكبر من أسمائنا ومواعيدنا. أظن أننا أكبر مما نتصو

ر كثيرا في مشهد الحياة بقدر ما نفكر في مشهد الحلم، قد نفكالذي يتكرر في اليقظة، ونراه من جديد بمستوى الرغبة، وبمستوى

اللحظة الجميلة التي تبزغ منها.

Page 131: أصحاب المغيب

130

ق كل هذا الكالم. ولكني ما أزال أراسل أنا أيضا معكم، ال أصدتلك الغيمة، وهي تراسلني. تلك الممثلة الجميلة هي حديث الناس

في المدينة/ الحلم.

ال يزال ثمة شيء لم أقله.. ألن الحلم يكبرني ولن يكتمل. وألن .. وأخافكم أن تتطاولوا عليها بإلغائكم رغباتي دائما تتطاول علي

الحلم.

وألنني ال أستطيع أن أعدكم بغير أن أحلم، فإن ذلك يعني أنني أحبكم.. ويعني كذلك أنني أدعوكم لمشاهدة الفيلم وبطلته الفاتنة.

ال تزال الغيمة هناك، وال يزال سلفادور دالي يرتب الفستان.. وأنا ج وأقرأ الرسائل!! أتفر

1988/7/18

Page 132: أصحاب المغيب

131

اأغنية على ج�ضر اأبي�ش..!

.. »إيزابيال« لم تكن يوما في كتاب. ولم تكن يوما في عقل ابنة لعجوز ديبلوماسي »مجري« كان دائما إنها قاص أو شاعر. يتركها وحيدة على جسر »اليزابيث« على »نهر الدانوب« الذي يشق مدينة »بودابست«.. هو يبحث عن عالقات السالم مع المجر. وابنته ة فتاة خطفت هناك تدندن باألغنية القديمة »جولين« التي تحكي قصصديقتها منها حبيبها وسافرت به بعيدا، وتركتها وحيدة في الخريف.. تلك األغنية التي كان لها قصة مع صديقي »نجيب« قبل أن نغادر »روما« إلى »وارسو« في خريف 1979.. حيث تركت له صديقته تلك األغنية واختفت عن روما التي انطفأت مصابيحها تلك الليلة..!

كانت جميلة وقلقة.. وعصبية أحبته بعنف.. وشاء إن رأيتها في »وارسو« القديمة. رأيت شبيهتها عندما دخلنا »مطعم البط«. كانت يها.. ثم تطلب كأسا وتلغيها.. ن وتدعك كف في حالة قلق دائم، تدخ

ثم وهي تلتقط حقيبتها في عصبية وتخرج مسرعة.

Page 133: أصحاب المغيب

132

رته بها وبتلك الليلة الحزينة في روما، عندما احتضنته وبكت، ذكومر علينا السكارى يغنون حتى ابتعدوا ناحية السكك الحديدية، وابتعدت هي بدموعها إلى الجانب اآلخر.. بال سبب تركته في تلك

الليلة..!

* * *

.. في ساحة »الرسم« الشعبية أمام »مطعم البط« رأيتها تصاحب تين.. وعندما رأتني يها البيضاوين البض الحمام الذي غنى على كفالذرة بعيدا ليهجرها الحمام وتهجر مقعدها أمامها ألقت بحفنة والساحة بعصبية فنانة تريد أن تختلي بروحها بعيدا عن وجوه البشر..

.. » ألم تيأس«.. قال صاحبي وخرجنا من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة »فكتوريا« حيث النصب التذكاري للجندي المجهول، وحيث تبدو تلك الساحة كأنها نهاية العالم. كانت فضاء للهواء الطلق، وباحة للنفس الطويل، وللصراخ.. وحتى البكاء. لكن ال شيء من ذلك قد اقط حدث. فقد كانت هناك على باب حديقة الخريف، واألوراق تس

وتالمسها بهدوء..

* * *

بعد ثمانية أعوام تقريبا، أجدها على »نهر الدانوب« تغني وحيدة في مساء خريفي تسكنه الذاكرة والحنين والحزن كذلك المساء. المست أناملها الندية. نظرت إلي بعينين حزينتين وكأنهما قد عادتا رتني، ودون أن تنبس بكلمة أخذتني هما من سفر بعيد.. وتذك لتو

Page 134: أصحاب المغيب

133

من يدي وفؤادي.. ومشينا وحيدين على الجسر األبيض، فيما كانت مراكب الصيادين تطلق صفارات عبورها الجسر الكبير باتجاه شاطئ

»مارغريت«..!

حتى مساء »بودابست« تغير بحلول الحب الذي كان هناك قلقا في »وارسو«.. ودخلنا صامتين إلى »جادة أديب« في »بشت« حيث المقهى التي يرتادها الكتاب والفنانون المجريون، ويتمتع بزجاجه

ورصيفه العريض في شارع المشاة حتى ساحة »الكاتدرائية«..

* * *

قهوتان مسائيتان من »كافي دي ميري« في صحة الحزن الجميل في »بودابست«.. ذلك الحزن الذي كان هناك مع صديقي »نجيب« في روما.. ورحل بتلك األغنية الحزينة ليصيبني في وارسو ومن ثم ألقاه هنا على الجسر األبيض فوق »نهر الدانوب« في بودابست.. وكأننا نحن فقط من يحب ويحزن في الغربة.. وكأن الدنيا كانت لنا في الحب والحزن.. »جولين« من »مدريد« تطير إلى حبيبها في روما، وتتركه بعد أيام بسبب الحب. وأنا أعشق شبيهتها في وارسو وألتقيها بعد ثمانية أعوام في بودابست. وكأن العالم قد صار لنا وحدنا، نلتقي فيه بالرغم من الزحام والمسافات واألوطان والنسيان، وبالرغم من كل المعارف العابرة والصداقات الحميمة هنا وهناك.. وكأن حنيني

هو الذي دعاها إلى الجسر في ذلك المساء الخريفي..

* * *

Page 135: أصحاب المغيب

134

قالت، كيف ألتقيك بعد ثمانية أعوام. من خريف وارسو 1979، »مطعم في بيننا لقاء أول أتذكر ..1987 بودابست خريف إلى البط«..؟!!.. فقلت، كيف ال أذكر وقد تذكرتك منذ أول الجسر..

وكأننا كنا على موعد هنا، اتفقنا عليه منذ ثمانية أعوام..!

* * *

ابنة الدبلوماسي القلقة تسافر مع أبيها إلى .. تركت »إيزابيال« »باريس«.. وعدت أنا إلى بنغازي بذلك المشهد الضبابي للجسر األبيض الذي جمعنا ذات مرة مثلما جمع بين مدينة بعشاقها، مدينة يشطرها نهر »الدانوب« إلى مدينتين.. ويجمعهما جسر المحبة..!!

1987/11/8

Page 136: أصحاب المغيب

135

بيروت.. �ضاحية ال�ضمال والجنوب..!

عدنا إلى بيروت بعد تلك الحرب لنجد المكان ساخنا، ونجد الغبار، وناصية الحمرا من عنادها المقهى في انتظارنا وقد كساها تأخذ العابرين وأشواقهم في مشاوير المساء. فبالرغم من ذكريات تلك الحرب األليمة التي عصفت بحياة اللبنانيين زهاء الخمسة عشر عاما، إال أن مستقبل اللبنانيين كان أكيدا، وأن االجتياح اإلسرائيلي الذي جعل من كل )الطوائف( تلتقي في خندق واحد للمواجهة، كان هو العامل األساس لالجتياح الجديد في ظل المؤامرة القديمة. إذ كان اتفاق الطائف مؤثرا وطنيا على صمود المقاومة، فلم يكن االتفاق للمصالحة الوطنية فحسب، وإنما للتأكيد على جبهة الصمود الوطني

ضد المؤامرة.

* * *

عندما مررنا بتلك اإلطالل وسط بيروت، كان صديقي الشاعر اللبنانيين ألزمتهم، حسين نصر الله يؤكد لي على حتمية عبور

Page 137: أصحاب المغيب

136

وبأن هذا المكب )نورماندي( الذي بقي شاهدا مثيرا على تلك الحرب، سيتحول قريبا إلى مكان جديد للمؤانسة بين األشقاء، أو بين ما كان عرف ـ آنذاك ـ ببيروت الشرقية وبيروت الغربية. وعندما أقلعت وصديقي الشاعر محمد العبد الله باحة األصدقاء في مقهى »الروضة« على »الروشة« في اتجاه »جونيا« أدهشتني رؤية »حي الزيتون« الذي كان انهار تماما تحت القذائف، لتشهد »ساحة الشهداء« هناك، بوسط بيروت، جلسة الغريبين الوحيدين بين األطالل.. فيما كانت الطريق إلى »جونيا« تمتد بارتفاعاتها في العمق، إلى حيث ال تعرف من تلك الحرب سوى ذكرى تلك

المواجهة لجيوش االحتالل..!

* * *

ربما كان االجتياح اإلسرائيلي عام 1982 هو ثمرة الخالص من العقدة الطائفية، وهو بالتالي المؤسس لليقين بأهمية الوحدة الوطنية. وهنا قلت لمحمد العبد الله في الطريق، أنا ال أخاف من عودة حرب أهلية جديدة، أنا أخاف على لبنان من وحدته الوطنية.. فقال وهو يخفف من سرعة سيارته في منعطف »جونيا« باتجاه البحر:.. نعم،

إنها إسرائيل..!

* * *

كانت أقدامنا الحافية على شاطئ »جونيا« تالمس الحصى الناعم الملمس، فيما النسيم عبر مواشير الضوء وضحكات المصطافين في الليل يأخذنا إلى أبعد من »صيدا« حيث غادرنا عباس بيضون وجودت

Page 138: أصحاب المغيب

137

فخر الدين، وأبعد من »بنت جبيل« حيث األصدقاء هناك يجمعون »كتابات الجنوب« التي خطها مبدعون لبنانيون وعرب، وكان لبعض

ما كتبناه آنذاك في قبرص، النصيب األوفر.

عدنا آخر الليل بذكريات جمعتنا ذات مساءات في ليماسول، وكنا اتفقنا على اللقاء حتما في بيروت، وقد التقينا فعال بعد تلك الحرب،

وافترقنا دون الوعد بلقاء قريب..

تركت بيروت تغفو من تعب الليل واألسرار، وعدت إلى قبرص بحرا وفي خاطري أن أسأل بيروت ماذا خبأت للعام الجديد..

* * *

كانت »قبرص« أثناء تلك األحداث في لبنان وفلسطين محطتنا األكيدة، وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية، خاطبت بوعيها التنويري عقل المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء صحافة مؤسسات النظام العربي التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك ة في تاريخ النضال العربي، وسقطت أمام األعداد المرحلة المهماألولى لصحف ومجالت السؤال العربي. فكان المكان« القبرصي« بمعناه االستثنائي في ذلك الزمن، هو العالمة الفارقة في حياتنا الثقافية والصحافية. ومع نهاية تلك الحرب، تضاءلت ظاللنا في الجزيرة المتوسطية، لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله، وعاد بعضنا إلى التعب من جديد في كساد األمكنة. تارة نعيب على تلك المرحلة التي منحتنا الكثير من الثقة في قدراتنا على

Page 139: أصحاب المغيب

138

تأكيد السؤال، وخسرنا ضمان وجودنا في المستقبل. وتارة نعيب التي قادتنا إلى ذات السؤال، وكنا الراهنة على المحنة العربية فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة.. والتارة األكيدة هي ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها معا، ككتيبة جة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي. نكتب حرب مدجلنا من شرفتنا الليلي الذي كاد يتراءى تحت شعالت القصف العالية في«ليماسول« وكأننا هناك، في بيروت، بين األصدقاء، نحتمي بجدار المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف ب في البريد. الطويل. ونستقبل في صباح اليوم التالي، الفزع المهروعلى رصيف الميناء، نستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب إلى مالذ الوجع العربي، للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على إثبات الوجود الستعادة المكان. وكبرت قبرص في عيوننا حين كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في الوقت العصيب.. وقلعتنا الصحفية الكبيرة تطلق سهام القلم الحر، في كبد الحقيقة الغائبة ـ

المغيبة ـ في كل مكان من العالم !

* * *

اللقاء اإلعالمي الذي جاء ات« في ذلك لقد انتصرت«الذعفويا، وكان سباقا إلى الفعل، في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف اللبنانية الحرب الخاسرة بين األشقاء، ودعم صمود المقاومة والفلسطينية في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه تنا بنهاية الحرب، لي(. وانتهت مهم المحترقة على )جسر األو

Page 140: أصحاب المغيب

139

وكأننا كنا هناك ـ جنود االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية ى األخبار بالوسائل الصعبة، ونكتب عن محنتنا من الجزيرة. نتلقفي الصور القادمة المغطاة بالدم، ونبكي استشهاد )كمال ناصر( الذي أفرغ« باراك« في فمه رصاص مسدسه، إسكاتا لصوت الشاعر المناضل. ونبكي خروج المقاومة الفلسطينية وجراح« حنظلة« في يد ناجي العلي.. ونبكي موت األطفال على ألعابهم

المحترقة.. !

تلك الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة )صبرا وشاتيال(. وخفت عليه ، هي ذاتها الحرقة التي كانت في صدري يوم من الموت بين ذراعيافترقنا. سافر هو إلى لندن، وعدت أنا إلى ليبيا. وليفترق بقية األصدقاء

عن مصدر اللهب الذي كان هناك وكنا نتوهج معه.

* * *

هاهي األحداث في لبنان وفلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في قبرص، ليكون الفراغ الذي تركناه هناك، بمساحة الوجع الذي نناله هنا بعيدا عن »قانا« و«بنت جبيل«. وقد كان الوجع رهين تلك الحالة الغائبة عن معتركها الطبيعي، الحتواء أزمة من هذا النوع، كادت قبرص أن تراهن عليها من جديد، بظهور صحافة حقيقية تجاور حقيقة المأساة، وتكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي بصوت

الجماهير.

ر، أن يعمد األشباه على لذلك كانت المحنة تفوق حد التصو

Page 141: أصحاب المغيب

140

اإلطاحة بنور األلق في البالد، ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح بين األمم. ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في اليائسة. وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في المحاولة ف المحاولة األكيدة. وكلما كان السؤال قويا وحرجا في صوت المثقاء، ال تسمع ـ كان الخطر كبيرا على ـ مؤسسة الثوري ـ واألذن صم

الوجود ـ من األساس؟!

صيف 2008

Page 142: أصحاب المغيب

141

على ورق اأبي�ش..!

.. ليست هي الفكرة وإن هربت منذ قليل مثل طير. ال الشجر هناك يعرفها، وال عين المرء تدركها.. أنا فقط أعرفها.

ليست هي الفكرة بأي حال، فهي الطالع في سؤال، وهي الباقية في السؤال.. وهي وإن غدت صعبة المنال، تبدو بعد وقت أيقونة

زمن غاب وطال في الغياب.

ليست هي الرؤيا وإن بلغت مداها، فهي تجئ كما الطيف تسكن الوعي وتقيم فيه كرنفالها البديع.

ليست هي الرؤيا بأي حال، فهي وإن كانت هناك، كما بقيت بعدي، وأنا هنا وحدي دون رؤيا تأخذني.

ليس على الورق شئ سوى هوامش اللحظة. ليس في البال شئ سوى هشاشة تلك اللحظة. ليس معي أحد سوى خيال القلم في الورقة.

* * *

Page 143: أصحاب المغيب

142

دون قصد أخذتها من بين صويحباتها على الرف. كانت بيضاء وناعمة مثل صويحباتها على الرف. وكانت جميلة لزهو اللون والحرف.

لكن القلم الذي وقع في حبها صار يرتجف، يهاب مالمستها في خجل. اختلس ارتيابي ونقش على جنبها يضع الرسم الخجول في

هوامش مبهمة.

سحبت القلم من روضته البيضاء وهمست فيه أن يبدأ الكتابة. صار القلم يرتعش أمام بياض الورقة ويمتنع عن الكتابة. باغتني في لحظة خيال ووضع خطا خجوال على يمين الورقة ووضع نقطة بعدها كأنها القبلة. كان القلم يرسم خطا لي ويضع قبلة لها. صارت الورقة

وردية اللون من أثر الخجل.

* * *

أخذت الخط الذي رسمه لي القلم وكتبت تحته: من أجلك أيتها . فامنحيني بهاؤك لكتابة الورقة أكتب عليك كما كتب الدهر علي

واحدة أنت سر وجودها.

توقف القلم على يمين الورقة يرسم جناح فراشة تطير. أخذني ل في شكل الرسم معه في الرسم. تركت مشروع كتابة المقال أتأم

وفي شكل الفراشة التي ستطير.

* * *

كانا في حالة عشق، هي تمنحه روح الزهرة، وهو يمنحها روح اهد الوحيد في الليل على هذا العشق المهيب. الفراشة.. وأنا الش

Page 144: أصحاب المغيب

143

لم أستطع منعهما من المزيد من الممارسة. فالورقة صارت روح الزهرة، والقلم صار روح الفراشة.. وأنا في الفكرة أتوقف عن كتابة

المقال ريثما ينتهيان من الرسم ويمنحاني مساحة صغير للكتابة.

غير أن الورقة صارت بستانا من الزهور والفراشات، فسألت القلم: لماذا تأخذ كل الورق للرسم وتتركني كل هذا الوقت بال كتابة؟!.. فقال القلم: هذا البياض لي، أنا الذي كنت أحرسه طوال الليل حتى جئت أنت لتأخذه من أمام عيني لتكتب عليه أوجاع من عبروا. هذا البياض لي أنا وحدي، أنا رب الكتابة، من أجله أرسم لحبيبتي الزهرات والفراشات. أرسم عليها الحياة لتنجو من كتابة أرهقتها السنين. كتابة عصية تجرف في طريقها بياض الروح وشغف الحنين.

* * *

استسلمت للدفاع، وتركت الورقة والقلم يمضيان في العشق الالمتناهي وصرت أنا حارس الضوء حتى الصباح.

في الصباح أيقضني صوت خرير المياه التي تجري بين الجداول، والفراشة تطير، والزهر يضئ بستان الورقة البيضاء..!

2009/8/28

Page 145: أصحاب المغيب
Page 146: أصحاب المغيب

145

ذاكرة ال�ضورة..!

عندما نصنع حدث الصورة ونغيب عنها، كانت تعود بعد زمن لتصنع الحدث من جديد. فالذاكرة التي خرجت من الصورة، بال قصد، تعود إليها، بقصد.. وتلك حالة بصرية عجيبة تصنع الماضي بترميم

جزء من الذاكرة كان مفقودا.

منذ أيام، نفضت الغبار عن ألبوم صور قديم، عاد بي سريعا إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي. بعض تلك الصور لم تكن لوا في ذاكرتي بال قصد. كانت صورا لوالدي لي، كانت ألناس تشكقرب، عن عرفتهم لي وألقرباء تي، ولجد ولوالدتي وألعمامي وآخرين أسمع بهم، لكنهم في »الصور« كانوا جميعهم في ذاكرة واحدة وإن تباعدت األزمان بينها. فسحر الصورة القديمة، أبيض اللونين لت مع ذلك ذاكرة تشك أكثر حضورا في وأسود، كانت تحديدا، المرتبطين بذلك الزمن، بعفويات الصورة الثابتة والمتحركة. فصورة »شارلي شابلن« الصامتة التي تعلقنا بها في سينما المركز الثقافي األمريكي، هي ذاتها صورة »شوشو« لبنان الناطقة التي تعلقنا

Page 147: أصحاب المغيب

146

بها بعد ذلك، في سينما أيام زمان. وهي ذاتها الصورة الثابتة التي »توريللي« العريبي« في ساحة مدرسة الفنان »فتحي لنا التقطها االبتدائية في مطلع الستينيات، فكانت حاضرة في ذاكرة الماضي

وشاهدة على ذلك الزمن.

* * *

صورة قديمة من ورق قديم، قد تكون أهم من مستقبل مجهول.. ألنه مستقبل خارج الذاكرة. فالصورة القديمة وإن صمتت زمنا في

د نفخ غبار السنين عنها. كراتين مهملة، تعود إلى الحياة بمجر

* * *

د إهمال قد أكتفي بتلك الصور ألنها جزء من ذاكرة بعيدة، وال أتعمصور أخرى تطرأ في الحياة مع أناس أعرفهم وال أعرفهم، فتلك قد يكون لها قيمة فنية وثقافية، وأيضا شخصية وترتبط في مستقبلها بماضيها. لكنني وقد أقفلت على ذاكرتي باب الذكريات الجميلة نة قد تسرق مع الزمن، فلم أعد أهتم كثيرا باالحتفاظ بأي صورة ملوتلك المتعة البصرية بالصورة القديمة التي نشبت في طفولتي وكانت

جزءا من تكويني في الحياة.

أذكر أنني التقيت بشخصيات كبيرة في حياتي المهنية لم أحلم يوما بلقائها، وأهملت صوري معها، أو كأني افتقدتها في مكان ما، بدون قصد. ومع مرور الزمن أحسست بأهمية تلك الصور، وبأنها قد تعني الكثير لمهنتي كصحفي، وشاهدة إثبات على لقاءات وحوارات

Page 148: أصحاب المغيب

147

ها الموت.. فكان ر ألسباب كثيرة، أهم ر، ولن تتكر ة لم تعد تتكر مهميأسي من بحثي عن تلك الصور، دافعا لالحتفاظ بما تبقى من ذاكرة تها في ألبوم قديم، احتفظت به والدتي زمنا، ثم احتفظت بعيدة وجد

به زوجتي زمنا، ويرعاه اليوم ابني »زياد« لزمن آخر قد يطول..

* * *

ة التي التقيتها في »قبرص« كان من بين الشخصيات العالمية المهممثال، وجمعتني بهم الصور، الدكتورة »أليدا« ابنة »تشي جيفارا« عام 1997، والكاتب األميركي »صموئيل هنتغتون« والزعيمة الباكستانية »بناظير بوتو« عام 1998 أثناء مؤتمر في »نيقوسيا« حول حوار األديان، وإن كنت عثرت على صوري بعد ذلك مع عدد من زعماء قبرص، مثل الرئيس »غالفكوس كليريدس« ورئيس الحزب االشتراكي الدكتور »فاسوس ليساريدس« وأيضا مع »رؤوف دنكطاش« زعيم القبارصة األتراك.. وهؤالء مثال تعبوا من الشقاء في الحياة السياسية، وتناقضوا في الزمن مع جوهر الصورة وذاكرتها. فـ«أليدا« بال كلل تبحث عن أمجاد جيفارا في مناطق سقطت فيها الثورات، و«بوتو« تخرج من حزب الشعب الباكستاني في انفجارت »راولبندي«، و«هنتغتون« يخرج من »صدام الحضارات« خاسرا الجسد والفكرة معا أثناء اإلبادة العبرية التاريخية ألطفال غزة، فيما تضيع مصلحة القبارصة اليونانيين واألتراك، بين المصالح الدولية وأجندتها اإلقليمية في

منطقة المتوسط.

* * *

Page 149: أصحاب المغيب

148

ترى لماذا تضيع صور وتبقى صور، مع أن درجة اإلحساس بقيمة أي صورة، تظل واحدة، مهما طال بها الزمن..؟!

ولماذا حينما نبحث في الصور عن صورة معينة، ال نجدها. وبال قصد نجدها حينما ال نكون نبحث عنها.

* * *

كثيرة هي صور اليوم، وتستطيع التصوير مع من تريد في الحياة، مع نجوم الفن واألدب والسياسة، ولكن تبقى القيمة في مدى احتفاظنا في ذاكرتنا بمناسبة هذه الصورة أو تلك، حتى إذا ما افتقدناها كصورة

قديمة في ألبوم، ظلت في الذاكرة »صورة« ال تمحوها السنين.

2008/4/16

Page 150: أصحاب المغيب

149

محمود دروي�شمن منفى إلى منفى تعود..!

ها هي المنافي التي منحتك الطمأنينة دهرا خذلتك وعدت إلى منفاك الجوهري ساكتا عن الكالم الذي منحتنا أجمله وغفوت بعده

دون قصد.

في منافيك، أيها الجميل، كان الورد أقل. وكان مديحك للظل العالي يأخذ مداه في الصبوات ويهتف في الحياة كيفما يشاء. لكنك أيها الصياد وأيها الطريد، أيقنت بعدها أن ال شيء يهرب منك، حتى الموت الذي كان هاجسك في الكالم وكان يسبق القصائد الختام

في الياسمين.

غمرك الموت أيها الغريب، و«ميموريال هيرمان« يبحث في القلب بجيشه األخضر عن »األبهر« العنيد الذي يختبئ بين األوجاع ويفتك بمفردات الحنين إلى قرية »البروة« أم الطفولة ومنشدتها األزلية في

الغياب.

Page 151: أصحاب المغيب

150

يشيخ ال الذي فلسطين« »فتى العنيد األبهر وجع في كنت وال يطيح، الفتى الواثق الرشيق، صانع العبارة ومعناها. وكنت حينها أمير الكالم وفارس القبيلة الذي لم يترك الحصان وحيدا في األرض اليباب، وكنت كما يصفك الضوء دوما، تتبع أثر الفراشة إلى النور..

كنت أيها العاشق الجميل تلعب النرد وتفوز على وحدتنا وتغمرنا بدفء المكان الذي حللت. فأنت وحدك من كان يخرج بيننا يافعا

فيترك البياض ناصعا في مساحات الكدر الشاحبة.

وحدك كنت هناك تمضي بالقناديل والمناديل وعبق الجليل، وكنت أنت الكبير الذي من أحالمه يسلك الحمام سماء القدس العتيق، وكنت أنت النبيل حد الهيام الذي يأخذ من السماء طلعة باح كي يستقيم الشمس ومغيبها ويرسم الوطن العليل بفرشاة الص

المعنى في صميم الكينونة.

كنت بارع النشيد ومنشده في »ديار عرب« خلت من العاشقين، ومرارا كنت ذبيح محنتنا، توقظ خطونا الثقيل في الفلوات، فيعلو

خطوك مزهوا ممشوقا في العبارات.

كنت أشقانا في لعب النرد وماهر ال سواك، وكنت المحظوظ في روابينا،علمتك المنافي مقارعة الوجع بالشعر، وكنت مجابها لمؤامرة

القلب على القصيدة..

وكنت البعيد أيها الحزين والقريب فينا. لكنك لم تكن تعرف أن منافيك ستأخذك يوما من سؤالك في الوجود إلى الخيمة العارية،

Page 152: أصحاب المغيب

151

صامتا في قفارها يتعقبك النحيب، بعيدا عن ورداتك التي زرعتها في حدائق الحنين.

فينا، الذي هناك قبرك منافيك ومنافينا. لكن أقصى الله رام يحرسه ظلك العالي وأكاليل األشعار، وال يعتليه الجدار العازل وال الخوف من عصابات »الهاغانا«.. فكن هناك بين بعضنا غافيا في المهد وثريات النشيد، وكن فينا، في معانينا الصغيرة، وكن في يتها، ولك الفوز دوما أسماء القصائد التي غنيتها والوردات التي سم

يا العب النرد الجميل.

* * *

تذكرتك البارحة قبل موتك بيومين، وأخرجت دواوينك التي أهديتني بعد موتك بيومين، وكنت في خالل اليومين الباقيين أقرأ خطك الجميل وأجهش بالبكاء، أشاطر لوعة األم التي انكسر تنورها

)لحظة الخبر( ولم يعد الحنين مجيبا على خبزها.

تذكرت وسامتك في القلب وقرأت ابتهالك بي حين كنت أفك لغز الكالم في صحافة بيروت منتصف السبعينيات، ورأيتك بعد ذلك كما أنت في لقائنا الطويل في طرابلس خريف 1976. حملت إلي شوق اللقاء مجددا في بيروت، لكننا لم نكن لنلتقي أبدا في أثناء تلك الحرب التي قسمت الزمن زمنين، وكدنا نلتقي في تونس وبعدها في نيقوسيا لو لم تكن دائم السفر بين محطتين أخريين. كنا دائما على عجل، نغادر ظاللنا اليائسة في اللحظة التي تنتصب فينا شمس الظهيرة، وكأننا في األرض نزرع ونذرع وال نبال بحكمة عباد

Page 153: أصحاب المغيب

152

الشمس في الحقول. نتقاسم العواصم وال نلتقي.. أبدا لم نعد نلتقي، فاكتفينا كما يكتفي اليتامى بالحنين.

كنا نترك السالم بين األصدقاء، في محطاتك المضيئة التي سرعان ما نغادرها أشتاتا ونلتقي كي نغادرها أشتاتا من جديد، فلم يبق لنا بعد بتنا سوى ذكرى كل تلك المحطات بتك وغر كل تلك السنين التي غر

المضيئة التي حتما أظلمت في غيابك.

* * *

سالمي إليك من »سليم« في ستوكهولم، ومن »صبحي« في باريس، ومن »أمجد ونوري وحسام« في لندن، ومن »عبد الرحمن« في نيقوسيا، وسالمي إليك من »الياس« في بيروت، ومن »سميح« ان ومنذر« في رام الله.. وسالمي إليك من في الناصرة، ومن »غسكل السنونوات المهاجرة وقد اشتاقت إليك عنوة، وسالمي إليك

من ألق كل المنافي.

سالمي إليك دوما، وسالمي إلى رام الله سيدة المنافي.

2008/8/15

Page 154: أصحاب المغيب

153

بيروت اآخر الليل

كانت )فيروز( فوق، تحت القمر، في بيتها على الجبل.. وأنا وزياد، تحت، في ليل بيروت أغسطس، حيث الماء البارد يهرب من الجسد ساخنا، وحيث الثلج يهرب في الكأس العابرة، وحيث

الحكاية تأخذ مداها من الروشة إلى رصيف مقهى الويمبي.

، الشاعر حسين نصرالله والفنان التشكيلي محمد كنت وصديقيشمس الدين، على موعد مع الليل وقناديل حانة اللوز في شارع الحمرا، تلك الحانة التشكيلية الحمراء التي يرتادها المثقفون ويسكنها

صوت »فيروز« ونمنمات زياد الرحباني.

لم يكن الكساد عاديا ونحن نخرج من مقهى الروضة على الروشة ونأخذ المشوار بخطى واهنة على الكورنيش بين البحر والسابحات

في الماء، والسابالت على االيس كريم في الجهة األخرى.

قد يكون خواء الروضة من األصدقاء في ذلك المساء سببا لتلك الحالة من الصمت الشعري التي أصابتنا وتقاطعت مع المشهد العام

Page 155: أصحاب المغيب

154

لكورنيش المزرعة وجعلتنا في الوجد ندندن مع زياد الرحباني في الالمعقول في بيروت.

كانت حالة بيروت في ذلك المساء بالذات كمثل حالة فينيسيا القديمة وجميلتها الحزينة التي ترسم على الرصيف ضوء القناديل ج في الماء. كانت فينيسيا مثلها تماما في الخيال الذي التي تتوهصنعه األخوين رحباني، غير أن بيروت التي عرفها زياد الرحباني كانت خالف ذلك، مدينة بها عربة ذهبية بال حصان، خيال الناس في الذهب، والحصان يمرح في المدينة ويصهل وحيدا في شارع الحمرا.

* * *

الليلة من شهر آب، فتحنا أبواب شارع الحمرا عنوة في تلك ال أحد بيننا في الحالة التالية. حملنا أعذار األصدقاء الذين غابوا في المالذات المجهولة، واعتكفنا ثالثتنا في حانة اللوز التي سبقنا إليها زياد. كان الصوت بيننا خفيفا تلك الليلة، كأننا نكمل كالما قديما عن »فيروز« حكيناه منذ ثالثين عاما، وكأننا اآلن نهمس في ليل بيروت

أن تغفو على أحالم جارة القمر.

خط نصرالله بدمع الشمعة األبيض مؤانسته الشعرية على الطاولة الحمراء، ورسم شمس الدين بذات دمع الشمعة األبيض ضوء وجه الملكة، ودندن زياد »موش فارقا معاك«.. فيما كانت أصابعي على

الطاولة الحمراء تصنع إيقاع الروح بتلك األغنية.

* * *

هرب األصدقاء في تلك الليلة عن المواعيد الجميلة، وخلت

Page 156: أصحاب المغيب

155

المقاعد من مثقفين حلموا كثيرا لبيروت وهجروا األحالم بال قصائد.. هرب الناس من أحالمهم وبقى قمر لبنان نادرا في السماء، تقرأه تلمسان وعسقالن والجليل، كما تقرأه صيدا وبكفيا وبعبدا، حينها

صارت القصائد لنا وحدنا في تلك الحانة المضوية في بيروت.

* * *

كان العجوز »ريمون« صاحب الحانة الحمراء العتيقة يراهن دائما على صوت المثقف الذي يرتاد حانة اللوز في الليل. وكان يعرف أن العوز الذي ينتاب المثقفين كثيرا، هو السبيل دائما للمستقر في حانته الصغيرة بليرات خجولة هي ثمن الوجع الذي يضعه اللبناني

في جعة باردة من فيض سنابل األرض الدافئة.

* * *

لم يزل الصبح بعيدا، والليل كان يأخذنا إلى بعيد، إلى جارة القمر التي نامت منذ قليل على رفيف الكالم.

غاب فينا الصوت الذي مأل الروح، حملتنا فيروز إلى أبعد من المكان، عدنا أطفاال عاشقين لألوطان، لعبنا مع البنات في ذاكرة تلك األيام، ومن وهج التوق رأيناها البياض الذي يكسو الليل بالنغمات. حينها عاد زياد إلى موسيقاه يبعث فينا كالم الليل الذي صار ينزل ناعما مع ضوء القمر..!

2009/9/9

Page 157: أصحاب المغيب
Page 158: أصحاب المغيب

كتب صدرت للمؤلف

الجدران ـ قصص قصيرة 1978. األفواه ـ قصص قصيرة 1984. الطاحونة ـ رواية 1985. عالقة صغيرة ـ حكايات 1985. أصابع في النار ـ قصص قصيرة 1986. دراسات في األدب ـ مع آخرين 1986. خرائط الفحم ـ رواية 1994. رصيف آخر ـ مقاالت 1994. الغابة ـ قصص للصغار 1996. ظالل نائية ـ قصص قصيرة 1999. عودة الولد الصغير )حكايات من بنغازي( 2004. حائط اليوم السابع )تأمالت في جهة الضوء( 2005. أوراق في رياح الشرق )مقاالت في السياسة( 2006.

Page 159: أصحاب المغيب
Page 160: أصحاب المغيب

صدر في هذه السلسلة

1 ـ )قراءات في السلم والحرب(، عبدالمنعم المحجوب.

2 ـ )حبر المنفى(، عمر الكدي.

3 ـ )خاليا نائمة(، محمود البوسيفي.

4 ـ )أوراق تاريخية(، مختار الجدال.

5 ـ )ما وراء الحجاب(، فتحي بن عيسى.

6 ـ )منفى(، ديوان شعر ـ عمر الكدي.

7 ـ )مفهوم القوة في السياسة الدولية(، خالد الحراري

8 ـ )على جوك(، قصائد محكية بلهجة ليبية، سالم العالم.

يق بودوارة. 9 ـ )موسوعة الجهل النسبي(، مقاالت، الصد

10 ـ )راهنية التأويل )2(-سؤال الكيان(، عبد المنعم المحجوب.

11ـ )الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية(، خيرية فرج حفالش.

12 ـ )من الذاكرة(، حسين نصيب المالكي.

13 ـ )اليد الواحدة(، عبدالباسط أبوبكر محمد.

Page 161: أصحاب المغيب