النعيرية.. قريتيالنعيرية.. قريتي

سليمان العيسى

النعيرية.. قريتي

شعر ونثر

5

سليمان العيسى والنعيريةسليمان العيسى والنعيرية

د. ملكة أبيض

، شهد نتاج الشاعر 1967عقب مأساة حزيران . سليمان العيسى منعطفا كبيرا

لقد صمت فترة، ثم قرر االلتفات إلى ذاته التي شغلته األحداث الخارجية عنها فيما مضى، ليبدأ

التعبير عنها بنبرة تأمل هادئة، يستجلي مشاعرها كما قرر أن يتجه إلى األطفال، وأحالمها وذكرياتها. الذين عدهم نافذة األمل في المستقبل، بعد أن احترق

الماضي.ولعل أول ما بدأ به الشاعر بعد عودته للكتابة،

مسلسل شعري بعنوان «أحكي لكم طفولتي يا 0TPصغار»

)P0T1TP0F

1(P1T وقصة طويلة عن الطفولة بعنوان ،

1TP«وائل يبحث عن وطنه الكبير»

)1F

2(P1T.

كتب الشاعر األثرين في وقت واحد تقريبا (عام )، ووجههما إلى األطفال واليافعين. وهما 1977

يتحدثان عن سنواته العشر التي قضاها في قريته «النعيرية» الواقعة شمالي سورية على نهر

سليمان العيسى، أحكي لكم طفولتي يا صغار (بالعربية والفرنسية)، )1(

.2001اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، أنظر: سليمان العيسى، أوراق من حياتي، (بالعربية والفرنسية)، وزارة )2(

.2003الثقافة، دمشق،

6

فالطفولة هي القرية ـ النعيرية ـ التي تضم العاصي. حارة الجبل، وحارة البطمة، والزيرة خمسة أحياء:

الفوقانية، والزيرة التحتانية، وحارة بساتين العاصي، مسقط رأس الشاعر، التي تؤوي منزله،

وقطع أرض صغيرة تزرعها أسرته وتجني ثمارها، وبضع شجرات عزيزة على قلبه وال سيما شجرتي

التوت والتين اللتين كتب عنهما الكثير، وأشجار الزيتون القليلة مصدر غذاء األسرة، وشجيرات الرمان التي تسور هذه الممتلكات المتواضعة،

والبقرة، والرفاق، واألهل األقربين..هذه هي القرية، في واقعها الذي عاينته بنفسي منذ خمسين عاما تقريبا ولكنها تعني للشاعر أكثر

من ذلك بكثير.إنها تعني له كيف تعلم في كتاب والده الشيخ أحمد العيسى الذي كان يحتل الطابق السفلي من منزله.. وكيف كان ينوب عن والده في مذاكرة

التالميذ في غياب الوالد..إنها تعني الصندوق الذي كان الشيخ أحمد

يحتفظ فيه بكنوزه من المراجع العربية الثمينة في األدب واللغة.. تلك الكنوز التي كان يفرض على

الطفل الشاعر أن يحفظ عددا غير قليل من نصوصها عن ظهر قلب؛ كما كان يحفظ في

الصندوق نفسه أعداد المجالت الشهيرة كـ «الهالل»التي تصدر في مصر، و«العرفان»التي

تصدر في صيدا، ومجلة «المجمع العلمي العربي»التي تصدر في دمشق، ويطلب من الطفل قراءتها وحفظ األشعار الجديدة الجيدة فيها. ذلك ما

7

كان يتصوره الشيخ ضروريا لثقافة ابنه الذي توسم فيه الذكاء والموهبة، لذلك صمم له برنامجا خاصا

يختلف عما يعلمه لبقية األطفال، وأصر على متابعته بنفسه.

إنها تعني نهر العاصي الذي كان يهرع للسباحة فيه بعد انتهائه من واجباته، واللحاق بالرفاق الذين

سبقوه إليه..... وتعني شجرة التوت التي تعلم كيف يقطف

أوراقها الخضر ويقطعها ليغذي دود القز الذي تربيه أسرته أسوة بأهل القرية، وتبيعه للحصول تلك الشجرة التي كانت مأواه على بعض المال..

خالل أيام الصيف الحارة يبني بين أغصانها خيمة صغيرة تحميه نهارا من الشمس، وترعى أحالمه

ليال، والتي كتب فيها وتحتها أولى قصائده.وتعني شجرة التين التي يتلذذ بثمارها طول الصيف، ويشارك في خزنها للشتاء بعد قطف الثمار، وسطحها على بساط من القصب حتى

تجف..وتعني أشجار الزيتون التي يشارك في التقاط

حباتها المتساقطة على األرض، ثم في قطافها، وإعدادها مؤونة للشتاء...

إنها تعني أيضا البقرة والخروف اللذين يقدمان بعض الرفاه لألسرة عن طريق توفير اللبن ومشتقاته.. ويذكر أن رعيهما كان إحدى المسؤوليات الموكلة إليه...

وتعني أيضا العصافير التي كان ينصب الكمائن الصطيادها مع رفاقه الصغار «الشياطين»،

والفراشات التي كانوا يطاردونها...

8

.. والشبابة.. وليالي السهر..، واألعراس..، وأنباء المدينة التي كان يحملها إليهم بعض الفالحين

الذين يذهبون إلى هناك لبيع المحصول..، أن 2000وهكذا حين قرر أصدقاء له عام

يجمعوا كتابا يتحدث عنه، خاطبهم، تحت عنوان: : ماذا تجمعون؟ قائال

أذكروا أني عشقت األرض أحببت الحياة

وترشفت ثماالت الغروب وأنا أبحث عن أولى زغاريد الصباح

* * أذكروا أني كاألطفال غنيت، وطاردت الفراشات طويال،

.. وتسل◌قت الشجروقطفت التين والرمان من بستان جدي،

والقمر كان جدي عاشقا للقمح والرمان

واألرض التي تعطي الثمر..في مسرحية «أحكي لكم طفولتي يا

يبرز الشاعر معالم طفولته في عشر صغار» حلقات:

بيتنا على نهر العاصي ـ أبي الشيخ أحمد ـ أمي ـ رفاق الطفولة في الضيعة (أو القرية) ـ خيمتي الصيفية في قلب شجرة توت ـ أرجوحة سلمى ـ

كنت صيادا صغيرا ـ ديواني األول الذي كتبته بقلم من قصب ـ بقرتنا البنية ـ مع الفقراء.

9

وبيت الشاعر منزل صغير من طابقين، بنته األسرة بنفسها مع مساعدة األهل وفيهم بعض

التالميذ السابقين للشيخ أحمد. صحيح أنهم عملوا بدافع الحب واالعتراف بالجميل، ولكنها كانت تقاليد

القرية أيضا، تلك التي تقضي بأن يتعاون الجميع وقت الحاجة. وما يميز المنزل قربه من نهر

العاصي الذي يمر بالقرية:1TPبيتي قرب مصب العاصي

)2F

1(P1T

جارته خطوات العاصي يسمعها صبحا ومساء

تقع «النعيرية»على بعد عشرة كيلو مترات من مصب نهر العاصي في )1(

خليج السويدية.

10

1TPيعرفها من دون عناء

)3F

1(P1T

وله ميزة ثانية وهي سقفه: بيتي سقف من قرميد

أحمر مثل جناح العيد مثل األحالم الوردية في رأس األطفال

وأبو الشاعر الشيخ أحمد فالح، مثله مثل غيره من أهل القرية، ولكنه معلمهم:

في الحارة الصغيرة في بيتنا القرميد

عاش أبي يكافح األيام يا صغار كان وديعا كنسيم الصيف، كاألشعار

يعلم الصغار والكبار في بيتنا يعلم القرآن والصرف والنحو،

وحسن الخط، والبيان شيخ يحب الناس مبصرين يقاتل الظالم بالحرف الذي يبين

من دون عناء: من دون تعب. )1(

11

* * وأنا في الدار تعلمت

أستاذي الرائع كان أبي جودت على يده القرآن وحفظت، حفظت عن العرب .. قصصا، وقصائد كاللهبلقد تعلم الشاعر الصغير على يدي والده، حتى

أنه حين دخل المدرسة في أنطاكية في سن متأخرة بعض الشيء، كانت معارفه األدبية واللغوية تفوق

ما لدى معلميه منها.. كما أن الجامعة لم تضف إليها ومن هنا يأتي هذا الشعور العميق لديه بأنه الكثير.

مدين بمسيرته الشعرية كلها لوالده، ذلك الشعور الذي عبر عنه في أكثر من قصيدة ونص نثري.

أما والدة الشاعر، فقد كانت امرأة بسيطة، أمية كجل نساء عصرها وبيئتها. على أنها كانت تعوض

ذلك بالحب الذي كانت تحيط به األسرة، والجهد لتوفير ما تحتاج إليه:

حلوة الطلعة كانت تعمر الضيعة حبا لم تكن تقرأ أو تكتب كان العلم صعبا عوضتنا عنه قلبا يسع الدنيا محبا

12

ابنة الريف التي ال تتعب إنها.. تسجر التنور

تطهو تحطب

تتلقانا صباحا ومساء بنشيد األمل

: بدروس العمل اعملوا واشتغلوا

! الحياة العمللن أقف عند الحلقات التي تتحدث عن الرفاق،

والخيمة الصيفية، وصيد العصافير. ولكن حلقة: ديواني األول الذي كتبته بقلم من قصب، جديرة

بوقفة نتابع فيها بدايات الشاعر في عمر التاسعة أو العاشرة كما يذكر. يقول سليمان في هذه الحلقة:

كتبت قصائدي األولى بظل التوت والتين من العاصي..

.. من األشجارمن صوت الحساسين

ومن موال فالح يغني في البساتين

13

سرقت النغمة األولى بدأت بها تالويني .. ويتابع:

غنيت تعاسة ضيعتنا سجلت تباشير الغضب وحملت إلى الغيم الشكوى : أنا عربي وهتفت، هتفتبقرتنا البنية، وسأقفز فوق الحلقة التاسعة:

ألتوقف عند الحلقة األخيرة: مع الفقراء، فهي تقدم صورة موجزة صحيحة، ال عن قرية الشاعر

فحسب، بل عن جميع القرى في بالدنا. يقول فيها الشاعر عن أهل القرية.. الفالحين:

الرجال الصالحون إنهم.. البناة الكادحون

الذين استعبـدوا عبر العصور حرموا كل نعيم وسرور وبنوا كل عظيم وجميل

وأقاموا كل مشروع نبيل .. وحموا هذا الوطن

ويعود الشاعر إلى حديث القرية:قريتي كانت فقيرة

يا صغاري

14

عرفت حر الظهيرة في النهار

عرفت برد الشتاء عرفت طعم الشقاء واستمر الناس فيها يكدحون حزنهم يقتسمون

فقرهم يقتسمون ورغيف الذرة الصفراء

فيما بينهم يقتسمونوإذا مر نهار ضاحك

يقتسمون

15

ويختم مع ذلك: يا شمس «بساتين العاصي»

يا لون التلة والجبل يا أيام الفرح األولى أتمنى لو لم ترتحلي

أتمنى لو لم ترتحلي! هذه هي اللوحة الشعرية للقرية، ولكن ماذا عن

اللوحة النثرية؟ وهل نستطيع تقديم بعض المقاطع منها، كما فعلنا مع الشعر؟

سنحاول ذلك، ولو بقدر أقل من النجاح ألن 1Tسليمان العيسى شاعر وناثر

)4F

1(1T .

وقد أصبح يرتاح للنثر ارتياحا كبيرا في فترة التحول التي نتحدث عنها. حتى أن الناقد د. عبد

السالم الكبسي رأى في بعض نثره «قصائد نثر»، 1Tولو لم يطلق الشاعر عليها هذه التسمية

)5F

2(1T.

أنظر: جهاد فاضل «سليمان العيسى: شاعر وناثر ومعلم أيضا»، في: )1(

سليمان العيسى: شاعر العروبة والطفولة، إعداد د. علي القيم، ود. ، ص 2011ملكة أبيض، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،

.334-344ص انظر مقال د. عبد السالم الكبسي: «سليمان العيسى والقصيدة )2(

عاما من الحلم واألمل، إشراف د. 80الشعرية»، في: سليمان العيسى، -368عبد العزيز المقالح، تحرير وتقديم د. إبراهيم الجرادي، ص ص

؛ وسليمان العيسى، شاعر العروبة والطفولة، إعداد: د. علي القيم، 359 .287-297ود. ملكة أبيض، ص ص

16

تتناول القصة النثرية مشاهد رئيسة من حياة الطفل الشاعر في قريته «النعيرية»، وفي مدينة

أنطاكية حين ذهب إليها لاللتحاق بالمدرسة االبتدائية...

وتبدأ مشاهد القرية بمنازل حارته «بساتين التي لم تكن تتجاوز العشرين، ونهر العاصي»

العاصي الذي يمر بها شتاء وهو يهدر كأنه عمالق جبار يهدد البيوت والبساتين المجاورة بالغرق.

ولكنه ينساب في الصيف رقيقا هادئا حتى يصبح صديقا للصغار، ويفتح لهم ذراعيه كي ينعموا فيه

بالسباحة والشمس من الصباح حتى المساء.هؤالء األطفال الذين لم يكن لهم من لباس إال

«القنباز»الذي يغطي أجسامهم النحيلة، كانوا يركضون حفاة إلى النهر، وهناك يخلعون قنبازهم أما من كانوا من المحظوظين الذين ويرتمون فيه. استطاع آباؤهم شراء حذاء أحمر لهم من المدينة،

فقد كانوا يفضلون أن يشكلوا الحذاء األحمر الجديد في «زنارهم»حتى ال يهترئ ويواصلوا الركض

على الدرب المتعرج غير مبالين بالحصى واألشواك التي ال يخلو منها. وهذا ما كان يفعله

الصغير سليمان..بيوت القرية التي ال تتجاوز .. يتابع الكاتب: العشرين كانت كلها مبنية من األحجار الصغيرة والطين، مسقوفة بجذوع األشجار اليابسة. ولكن

بيت اآلغا ـ وحده ـ كان من الحجر المنحوت. يرتفع عاليا على هضبة مجاورة ويلمع في ضوء الشمس

كالحمامة البيضاء.. ويتساءل: «لماذا ال تكون بيوت

17

الفالحين كلها مثله؟ لماذا ال يكون بيتنا أبيض المعا مثل بيت اآلغا؟».

كان وائل في السابعة عندما حفظ ..ويقول: القرآن الكريم وأتقن الخط، وتعلم عمليات الحساب

األربع، وأخذ يحفظ الجزء الثاني من «مبادئ العربية» في الصرف والنحو للمعلم رشيد

كان أبوه أستاذه األول، بل أستاذ القرية الشرتوني. كلها والقرى المجاورة. لم يكن في القرية مدرسة،

بل لم يكن في الريف كله مدرسة في تلك األيام التي نتحدث عنها.

... وذات يوم، وقع في يد الطفل كتاب في التاريخ، فقرأه وتأثر به أيما تأثر، وحاول ـ هو

ورفاقه ـ تقليد إحدى الشخصيات التاريخية، وهي شخصية الفاتح العربي العظيم عقبة بن نافع. ذلك الفاتح البطل الذي وصل بجنوده إلى شاطئ بحر الظلمات ـ المحيط األطلسي ـ وخاض بفرسه في البحر حتى بلغ الموج عنق الفرس، وقال كلمته

الشهيرة وهو شاهر سيفه: «يا رب، لو لم يقف هذا البحر بيني وبينك لمضيت مجاهدا في سبيلك إلى

آخر الدنيا»... كانت الفصول تتعاقب على القرية الفقيرة.. يأتي الشتاء بأمطاره الغزيرة فيخوض الصغار في الطين..

ويأتي الربيع فتكتسي البساتين بالعشب والخضرة وتمتلئ حافات الدروب الصغيرة بألوان غريبة من وكانت شقائق النعمان أقرب هذه األزهار البرية.

األزهار إلى نفس الفتى الصغير وأحبها إليه.

18

كانت األشجار المثمرة قليلة في القرية، ما ...عدا بعض البساتين التي يملكها «اآلغا» فقد كانت تغص بأشجار الكرمة والبرتقال والتفاح.. ولم يكن

األوالد يستطيعون أن يتطاولوا على كروم اآلغا المثقلة بالثمر.. ولكنهم كانوا بالتأكيد يشتهون هذه

الثمار،ويتمنون لو أصابوا شيئا منها.... لماذا يأكل «اآلغا» وحده المشمش؟ إنه ال

إن الفالحين هم الذين يزرعون، يقدم شيئا للقرية.. . ويحرثون، ويتعبون من أجله، وهو قاعد مستريحال بأس أن ننعم ليذهب هو وناطوره إلى الجحيم. مرة بالمشمش الذي تعب أهلنا فيه. هذا ما ردده

وائل في نفسه عندما وافق ذات مرة على أن يشارك .. كانت جيوب األوالد في عملية االقتحام. لحظات

مألى بالمشمش الناضر الشهي. وبسرعة البرق انطلقوا عائدين، واختفوا عن األنظار.

ال ينسى وائل غضبة أبيه الشيخ الهادئ ..الوديع في ذلك اليوم. ما كاد الصغير يدخل البيت

وجيبه الواسع المشقوق في الجانب األيمن من القنباز ممتلئ بالثمر، حتى لمحه أبوه، وعرف كل

شيء. وانهالت يد األب الهادئ الوديع بصفعة قوية على وجه وائل، ثم امتدت إلى الجيب الممتلئ،

وراحت تفرغ ما فيه بغضب شديد، وتلقي به خارج : البيت.. وهو ينذر الصغير قائال

«حذار أن تعود إلى مثلها.. حذار ثم حذار»..بهذا األسلوب الشائق نفسه يتحدث سليمان

العيسى عن تساؤل الطفل وائل عن سبب عدم ذهابه

19

للدراسة في المدينة أسوة بأخيه، وجواب الوالد بعدم قدرته على إرسال ولدين إلى المدينة.

كما يتحدث عن قصائده األولى التي كتبها وهو في التاسعة أو العاشرة، ومنها على ما يذكر:

أال يا أيها الفقراء موتوا

لكم في جنة الفردوس قوت لقد بنيت لكم ثم البيوت

وكوثركم بها يجري شهيا

ويعلق: هذه القصيدة تتحدث عن هموم الفالحين، ...

وبؤسهم، وكفاحهم في سبيل اللقمة. ال يدري وائل لماذا اختار هذا الموضوع قبل أي موضوع آخر. إنها تحمل بذور الثورة على الشقاء الذي ال يعرف أحد كيف حل

وال يجرؤ أحد على أن يناقش بهؤالء المساكين.. وهكذا كان وائل أول شرارة تنفجر بصورة أسبابه.

تلقائية ناقمة على هذا البؤس، ساخرة من الفقر.

في العام التالي يذهب وائل للدراسة في المدينة فيتسع أفقه، ويلقي الشعر في المدرسة أمام التالميذ

والمعلمين، وفي نادي العروبة أمام األستاذ زكي األرسوزي وجمهور غفير؛ وما يلبث أن يشارك به

في المظاهرات العامة ضد االستعمار ومؤامراته. ويجري إلحاق لواء اإلسكندرون كله بتركيا، فيغادر

قريته، وال يعود لزيارتها إال بعد خمسة وعشرين عاما، ولمرة واحدة فقط. إال أنها بقيت تمأل ذاكرته

وتوحي له:تينة وشاعر ـ ساقية الضيعة ـ منازل ـ رسالة

من نهر العاصي ـ إلى روح أمي ـ وفاء ألبي ـ

20

رغيف أم محمد ـ الغداء في الحقل ـ خط اليد حتى أن ضريحي األعرابي وذكريات الطفولة..

والخضر اللذين كان فالحو القرية يزورونهما في المناسبات كان لهما نصيب في هذه الذكريات.

2011 آذار 21 دمشق/

21

الشعر

22

23

لماذا الطفولة؟

إلى الصديق الذي قال لي:أنت شديد الرجوع إلى مالعب

طفولتك.

لماذا الطفولة؟ لماذا الجذور؟

لماذا الحنين إلى باهتات السطور؟ لماذا العناقيد والدالية؟ لماذا حصى الساقية؟

وحارتنا.. أم وحيي التي لم تكن حلوة ذات يوم وال زاهية

لماذا يعود إليها زمان الهرم يعود ليعصر بعض النغم

.. وجفت لهاة؟ إذا شاخ عود لماذا مالعبك الهامدات

.. والمكتب؟ لم التوتة الرمز مزامير للبوح ال تنضب

.. وال تتعب تخبئ جمرتها في الرماد

بـعاد طيوف هواها.. بـعاد.. ويهفو الفؤاد

وينهمر المطر المستعاد على ريشتينا.. وننسى الشروق

.. وننسى الغروب

24

.. الدروب الصغيرة وتبقى الدروب تضيق بأقدامنا الحافية

ويسكن في البال بيتي وقرميده األحمر.. وال يكبر ونهرم نحن

.. ال يكبر عصي على سطوة الدهر* *

يقولون: سوف تعود القصيدة لتصدح فيه.. تعود القصيدة

ويغمره حرفك األخضر وأسكر بالنبأ الحلو في غربتي، أسكر

رمادي إذا سوف يطفر عشبا ويورق شعرا، وضوءا، وحبا

سالم على شرر في الرماد تخبا.. سالم البداية

.. سالم الجذور.. هذا زمان النشور ويا موت

2005-7-29

25

في يميني قلب طفل

تنازعني الطفولة كل حرف أبدده على قلمي..

.. غناء

لماذا يستظل العمر فيها؟ وترسي كل أشرعتي

وراء؟.. ما يزال يجوب رأسي سؤال

سأتركه يدوم كيف شاء

وأمضي.. في يميني قلب طفل

أضم األرض فيه والسماء

2005أيلول:

26

أحكي لكم طفولتي يا صغار

مشاهد من طفولة الشاعر في مسلسل شعري غنائي لألطفال. ترجم المسلسل إلى الفرنسية واإلنكليزية.

27

مقدمة

أعزائي الصغار!.. طابت أوقاتكم

سأقص عليكم بإيجاز كيف كتبت لكم هذا المسلسل الشعري؟ ولماذا كتبته في حلقات شعرية، أشبه ما تكون باألناشيد الطويلة، الصالحة للتمثيل والغناء؟

جاءني يوما رفيق من رفاقكمجلس إلى جانبي . الصغار، اسمه إياد. كان إياد في البيت، ورحنا نتحدث يرتدي ثياب الطالئع الحلوة األنيقة،

ويحمل شارات المعسكر الصيفي . الذي عاد منه منذ أيام

حدثني طويال عن الفترة الرائعة التي أمضاها في المعسكر، مع مئات الرفاق. قص علي الكثير من ذكرياته

28

كان يتدفق حماسة ونشاطا، . الممتعة وهو يتكلم قلت، بعد أن استمعت : إليه في صمت وسرور

أنتم أحسن حظا منا يا إياد. نحن لم نعرف هذه المتع الحلوة في صغرنا. كانت طفولتنا لونا من ألوان الكفاح الصعب القاسي.

. وشعرت بابتسامة وصمت إياد حزينة تغطي وجه صديقي الصغير الجالس إلى جانبي.. وقاطعني : قائال

.. كيف كانت ولكن طفولتكم، أنتم الكبار؟

. حدثني عن طفولتك أنت بالذات كيف كنتم تمضون أيامكم؟ وماذا كنتم تفعلون؟

أين عشت؟ كيف لعبت؟ كيف تعلمت؟ وأين تعلمت؟

وانهالت أسئلة الصغير علي، كأنه يريد أن يعرف كل شيء في لمحة

29

. واحدة: مهال يا صغيري. خطرت قلت

. . سأعرضها عليك ببالي اآلن فكرة فإن وافقتني عليها فإني سأبدأ تنفيذها منذ اليوم.

: ما هذه الفكرة؟ قال إياد متحمسا . قلها، وأنا موافق

. دعني قلت لصديقي: ال تعجل . أعرضها أوال

خطر ببالي اآلن أن أكتب لكم مسلسال شعريا حلوا، يغنيه الصغار والصغيرات، ويمثلونه، ويحفظون منه ما يروقهم، ويحلو لهم. الشعر موسيقا العرب يا إياد.. موسيقا اآلباء . فلماذا ال نحرص على واألجداد هذه النعمة، ونستمتع بها؟

سأكتب لكم مسلسال شعريا أتحدث فيه عن قريتي الصغيرة في لواء اإلسكندرونة،عن البيت المغطى بالقرميد األحمر الذي ولدت فيه،

30

البيت الريفي الهادئ، القريب من ضفة نهر العاصي..

عن أبي الشيخ أحمد ـ نضر هللا ثراه، وعطر ذكراه:

أبي الذي حمل خيوط النور1Tاألولى

)6F

1(1Tإلى القرية البائسة األمية

المهملة، وما جاورها من قرى، .. وقضى حياته يعلم الصغار والكبار عن أمي القروية الطيبة التي لم . ولكنها كانت تكن تقرأ وال تكتب كنزا من الحب والحنان، والطموح الذي لم تستطع تحقيق شيء منه..

وعن رفاق الطفولة في الضيعة، رفاقي الطيبين الذين كبروا، وابتعدوا عني، و ابتعدت عنهم، وما زالوا يذكرون تلك األيام، ويذكرونني بها.

عن خيمتي الصيفية التي كنت أبنيها من العشب واألغصان في قلب شجرة التوت الضخمة التي كانت

خيوط النور األولى: تعني هنا خيوط العلم والمعرفة. )1(

31

تظلل باحة الدار، وأنام فيها، بعد أن أسهر طويال طويال مع الليل والقمر والنجوم..

عن مغامرات الصيد التي كنت أقوم بها مع رفاق الطفولة..

عن ديواني الشعري الذي نظمته وأنا صغير، وكتبته بقلم من قصب، وجلدته بقطعة قماش زرقاء..

عن بقرتنا البنية التي كانت عماد أسرتنا، ورفيقة طفولتي في

المرعى..

عن فقراء ضيعتي الذين يشاركون فقراء العرب وفقراء اإلنسانية كلها ! األفراح واألحزان، وما أقل األفراح سأكتب لكم عن هذا كله يا إياد. ولكن بلغة الشعر الحلوة، وليس أجمل وال أحلى من لغتنا العربية عندما تحمل أجنحة الشعر وتتكلم. وقاطعني إياد. وهو يفرك يديه . ألم : جميلة.. جميلة فكرتك فرحا

32

: أنا موافق؟ متى تبدأ أقل لك سلفا الكتابة؟

يا إياد، في مساء .. : اليوم قلت . هذا اليوم سأبدأ النشيد األول : وسيكون المسلسل بعنوان «أحكي لكم طفولتي يا صغار» وابتسم صديقي الصغير، وشردت عيناه في حلم بعيد كأنما كان يستعرض بخياله ما سأقوله في أناشيد هذه المجموعة وافترقنا.

فإلى صديقي الصغير.. وإلى أطفال العرب الذين في

سنه.. أهدي هذه األناشيد.

سليمان العيسى

كانون الثاني 1977دمشق:

33

الحلقة األولى

بيـتـنا على نهر العاصي

إياد الصغير: «في سن الطالئع مخاطبا صديقه الشاعر»:

وعدتنا أن تبدأ الغناء، أن تقص علينا طفولتك في أناشيد.

الشاعر:وأنا ما زلت عند وعدي يا إياد، على أن نبدأ .. أنا وأنت وديمة وصفوان.. ورفاقك الغناء معا

الذين يحبون أن يغنوا معنا. فراس:

«رفيق من رفاق إياد»ولماذا نسيت اسمي؟ أنا أحب الشعر، وأحب أن

أغني معكم. الشاعر:

لم أنس اسمك يا فراس.إنكم جميعا في ذاكرتي سأعود اآلن طفال مثلكم.

سأحكي لكم بعض ما أذكر من شريط حياتي األولى. سأبدأ الحديث عن بيتنا على نهر العاصي.

إياد: .. إلى الغناء.. واصدحي أيتها إلى الغناء

الموسيقا.جوقة أطفال تنطلق في الغناء مع صديقها الشاعر، ترافقها »

الموسيقا».

34

نهر العاصي هذا الولد الحلو الماشي

في سورية أرض الوحدة والحرية

يسقي، وهو يسير شماال يعرف في الدرب األطفاال

الشاعر: «بصوت عميق رخيم»

يمشي حتى أنطاكية حتى ضيعتنا المرمية خلف األسالك السوداء في حضن العاصي مرمية

نهر العاصي:يعيد المقطع السابق« :»يمثله رفاق إياد.

أعرف في الدرب األطفاال أعرف في الدرب األطفاال أمشي حتى أنطاكية حتى ضيعته المرمية خلف األسالك السوداء في حضن العاصي مرمية في حضن العاصي مرمية الشاعر:

35

1Tبيتي قرب مصب العاصي

)7F

1(1T

جارته خطوات العاصي يسمعها صبحا ومساء 1Tيعرفها من دون عناء

)8F

2(1T

علمني أحلى األشياء :»وهي تشير إلى نهر العاصي«جوقة األطفال

علمه األشعار العاصيعلمه أحلى األشياء الشاعر:

»تشاركه جوقة األطفال الغناء في بعض األبيات« بيتي سقف من قرميد

أحمر مثل جناح العيد مثل األحالم الوردية في رأس األطفال مثل أناشيد الحرية يكتبها األبطال :»ترافق الشاعر موسيقا أكثر عذوبة وبهجة في األبيات التالية

تقع «النعيرية»قرية الشاعر في لواء اإلسكندرونة على بعد عشرة )1(

كيلومترات من مصب نهر العاصي في خليج السويدية. والحارة التي ولد فيها اسمها «بساتين العاصي».

من دون عناء: من دون تعب. )2(

36

فيه ولدت مع العصفور1Tطفال ملهوفا للنور

)9F

1(1T

أبحث عن قلم ونشيد حلو يجهله العصفور في صوت واحد»«األوالد

حدثنا عن هذا البيتحدثنا عن هذا البيت؟ قصته أشعار

تحملها األوتار تصبح لألطفال

ملكا لألطفال الشاعر:

:»يتابع حديثه« بيت من حجر بالطين

عمرناه بعد عذاب ما زالت ضيعتنا الحلوة ما زالت صورته الحلوة في ذاكرتي خلف ضباب تخفى صورته وتبين ديمة الصغيرة:

ملهوف للنور: مشتاق جدا للعلم والمعرفة. )1(

37

»تقاطع الشاعر هاتفة« أتمنى لو زرناه

باألشعار غمرناه بطفولته ذكرناه

وبشاعره ذكرناه الشاعر:

»يتابع القصة وهو يبتسم مرحبا بفكرة ديمة« بين البيت وبين العاصي

كان صغير يا أوالد .. يلعب.. يسبح

.. يكتب شعرا.. يحلم

يشرد في األبعاد كان صغير كان صغير

يوشك باألحالم يطير »األوالد يرددون«

كان صغير كان صغير

يوشك باألحالم يطير

38

الشاعر: عن هذا الطفل العربي يحلم بالوطن العربي بالثورات وباألمجاد

عن هذا الطفل المسكون منذ طفولته بنشيد

في ظل السقف القرميد سوف أحدثكم في شعري فانتظروني يا أوالد

بين البيت وبين النهر انتظروني يا أوالد

األوالد: »جميعا«

إنا منتظرون إنا منتظرون

أخبار الطفل المسكون منذ طفولته بنشيد

سحري الترديد إنا منتظرون.

39

الحلقة الثانية

أبي الشيخ أحمد إياد:

عرفنا قصة بيتكم على نهر العاصي. سقف القرميد األحمر مثل جناح العيد، وخطوات النهر

التي توشوشه صبحا ومساء. األوالد:

فما موضوع النشيد الذي سنغنيه اآلن؟ ديمة:

يعني تتمة القصة، قصة الطفولة. الشاعر:

اللوحة الثانية التي سأعرضها عليكم أيها . موضوعها: أبي األعزاء لوحة غالية، عزيزة علي

الشيخ أحمد. إياد:

كل منا يحب أباه، ويعتز به. ونحن في شوق إلى سماع القصة وغنائها معك.

ديمة:سماع◌ القصة، وغنائها مع شاعر نعم..

األطفال. الشاعر:

. صديقتي الصغيرة تقلدني وساما رائعا شكرا يا ديمة.

40

األوالد:.. إلى النشيد.. إلى النشيد إذا

الشاعر: »ينشد بصوت هادئ رخيم.. يردد األوالد بعض المقاطع معه..«

في الحارة الصغيرة في بيتنا القرميد عاش أبي يكافح األيام يا صغار كان وديعا كنسيم الصيف، كاألشعار

يعلم الصغار والكبار في بيتنا، يعلم القرآن والصرف والنحو،

وحسن الخط، والبيان شيخ يحب الناس مبصرين

يقاتل الظالم بالحرف الذي يبين األوالد:

مرحى لمن شقوا لنا الطريق وقاتلوا الظالم

يبقون ضوءا رائع البريق حيا على الدوام

»الشاعر يتابع النشيد«

41

أبي الوديع الطيب الرصين أنفق كل عمره في الدار في بيتنا القرميد يا صغار يعلم الصغار والكبار يعلم البنات والبنين 1Tيرفضنا أنصاف مبصرين

)10F

1(1T

ديمة: ألم تكن عندكم مدرسة؟

الشاعر: ! المدرسة

بعيدة عن قريتي المسكينة بعيدة كالنجم في المدينة كانت ألهل الحظ في المدينة وأنا في الدار تعلمت أستاذي الرائع كان أبي جودت على يده القرآن وحفظت، حفظت عن العرب قصصا، وقصائد كاللهب أستاذي الرائع كان أبي

يرفضنا أنصاف مبصرين: ال يقبل بتعليم البنين فقط وترك البنات. )1(

42

كم كان يحب المتنبي ! 1Tويقلده ويغنيه

)11F

1( ما زالت تنبض بالحب

أشعار أبي، وأغانيه صفوان:

هل كان أبوك شاعرا؟ الشاعر:

.. يا صفوان. نعم كان رقيقا يكتب األشعار

يقرؤها ليال على السمار يجتمعون حوله في الدار على بقايا موقد من نار 1Tفي خاطري الشاعر والسمار

)12F

2(1T

ديمة: تمنيت لو كنت مثلك،أسهر مع السمار،

أستمع إلى القصص الحلوة، وأحفظ االشعار الجمي إياد:

المتنبي من أكبر شعراء العرب في الماضي والحاضر. توفي قبل أكثر )1(

من ألف عام. وما زلنا نحفظ أشعاره حتى اآلن.. وستحفظون الكثير من هذه األشعار عندما تكبرون.. أيها األعزاء.

السمار: الزوار الذين يجتمعون للحديث في المساء. )2(

43

ولكن دعي الشاعر يتابع نتمنى جميعا مثل هذا. . لنا الحكاية

وال تقاطعيه يا ديمة. الشاعر:

ال بأس أن تقولوا ما يخطر ببالكم يا إياد. وسأتابع الحديث عن أبي.

أشعر بأنه واجب علي، ودين في عنقي.

هو الذي أورثني النشيد1Tوالحلم المجنح

)13F

1(1Tالبعيد

القروي الملهم المحروميمد كفيه إلى النجوم

يريد أن يغترف الضياء ويحمل السماء

إلى عيون جيله المحروم إياد:

مرحى لمن يغترف الضياء ويحمل السماء

إلى عيون جيله المحروم األوالد:

المجنح: الذي يحمل أجنحة ويطير بها إلى البعيد. )1(

44

.»جميعا بصوت قوي« حكاية العطشان و المحروم

ستنتهي.. ستنتهي حكاية المظلوم

الشاعر: 1Tستنتهي، والفضل للرواد

)14F

1(1T

ال ننس يا أوالد الفضل للرواد

صفوان: هل تكمل لنا النشيد؟

ديمة:

نعم.. أكمل لنا النشيد. الشاعر:

.»يتابع النشيد بصوت يزداد عمقا ورخامة« هذا أبي العظيم يا أطفال

معلم األجيال في القرية الفقيرة

في دارنا الصغيرة1Tفي يده المحراث

)15F

1(1Tوالقلم

الرواد: مفردها: رائد، وهو الذي يأتي في الطليعة ويسبق غيره. )1(

45

والشعر والنغم إن ضاق فينا عيشنا ابتسم

أخفى وراء البسمة األلم هيا نفتح الطريق : وقال البد للقرية أن تفيق البد للنائم أن يفيق

كان الشيخ أحمد معلما وفالحا في الوقت نفسه يحرث أرضه ويزرعها )1(

بيده.

46

الحلقة الثالثة

أمي

ديمة:قرأته أمس ألبي. غنيت »أبي الشيخ أحمد«نشيد

كان سروره عظيما بسماع األبيات ما حفظته منه. التي حفظتها.

إياد:وأنا أيضا حدثت رفاقي عن هذا المعلم الكبير

الذي كان أول قطرة نور في عيون القرية المحرومة.

ديمة: ماذا سيكون موضوع نشيدنا اليوم؟

الشاعر:أقدس إنسان، وأغلى إنسان علينا سيكون

موضوع نشيدنا اليوم يا صغار. ديمة:

! . أؤكد أني حزرت أنا حزرت سيكون عن األم.

الشاعر:. لقد حزرت يا صديقتي الذكية. صدقت يا نعمديمة. سيكون نشيدي اليوم بعنوان: أمي. سأحدثكم

47

عن هذه القروية الطيبة التي تمثل كل أم يتسع قلبها . للحب، لألسرة، لإلنسانية جمعاء

األوالد: هيا.. لترافقنا الموسيقا. ولنبدإ الغناء..

الشاعر: األطفال.. والشعر.. والموسيقا..

هذا ما كانت تحلم به أمي القروية الطيبة الرائعة..

اسمعوا يا صغار: حلوة الطلعة كانت

تغمر الضيعة حبا لم تكن تقرأ أو تكتب كان العلم صعبا عوضتنا عنه قلبا يسع الدنيا محبا هذه أمي الحنون 1Tجادها الغيث الهتون

)16F

1(1T

1Tنضر هللا ثراها

)17F

2(1T

وسقاها أطيب الرحمة والذكرى سقاها

األوالد:

الغيث الهتون: المطر الغزير. )1( ثراها: ترابها. )2(

48

»بلهجة مؤثرة« نضر هللا ثراها

وسقاهاأطيب الرحمة والذكرى سقاها

الشاعر: »وهو يعود بذكرياته إلى الماضي البعيد، إلى أيام الطفولة..«

ابنة الريف التي ال تتعب تسجر التنور

تطهو،1Tتحطب

)18F

1( تتلقانا صباحا ومساء

بنشيد األمل: بدروس العمل

إعملوا واشتغلوا الحياة العمل

األوالد: »بصوت واحد«

الحياة العمل الحياة العمل

تسجر التنور: تملؤه حطبا وتوقده من أجل الخبز. تطهو: تصنع الطعام. )1(

تحطب: تجمع الحطب.

49

.. إن الحياة العمل صدقت الشاعر:

»يتابع حديثه عن أمه. األوالد يرددون معه بعض المقاطع..« ملء عينيها طموح ورجاء

ضاع في دوامة الفقر هباء عندما كانت ترانا نتعلم تبرق الدنيا بعينيها سرورا 1Tتمأل البيت حبورا

)19F

1(

وتضم الورقات في خشوع والدواة

حرمتها نعمة النور الحياة حرمتها نعمة العلم الحياة

وإذا حل الظالم هدهدتنا كي ننام بأغانيها الحزينة

آه، كم كانت حزينة هدهدات النوم في فصل الشتاء

عندما يلتف بالصمت المساء وينام المتعبون

حبور: فرح وسرور. )1(

50

أهلنا المنسحقون خلف أسوار الظالم! يا طير الحمام .. آه

األوالد: »يرددون بعض المقاطع مع الشاعر«

عاطر ذكرك حتى األبد ناضر في القلب حتى األبد

يا بنة الضيعة، يا أمي الحنون صورة هيهات تمحوها السنون

51

الحلقة الرابعة

رفاق الطفولة في الضيعة

األوالد: »يتجمعون حول الشاعر وهم ينشدون في صوت رخيم مرح«

حكاية الطفولة حكاية األوالد جميلة جميلة رحيبة األبعاد تابع لنا الحكاية تابع لنا الشريط ما زلت في البداية يا صاحب الشريط الشاعر:

»وهو يبتسم ويحيي األوالد« أصدقائي الصغار!

كتبت لكم عن الدار وعن قرميدها األحمر األوالد:

»يقاطعون الشاعر هاتفين«

52

لماذا يرحل القرميد؟ لماذا يرحل القرميد؟ عن بيوت الريف والمدن يا عشاش الطير في وطني يا جمال الريف والمدن الشاعر:

»يواصل الحديث« بيوت القرية الخمسون

وأطفال وفالحون وأشجار هنا وهناك

كنا تحتها نكبر1Tونلعب بالعصا والحاب

)20F

1( 1Tويلزم بعضنا الكتاب

)21F

2(

(1T»ربع ياسين«ليختم 22F

3( ويحفظ بعض أشعار

األوالد: كانت إذا طفولة سعيدة

العصا والحاب: من العابنا في الضيعة، و«الحاب»عود قصير تضربه )1( بالعصا فيطير مسافة. ولهذه اللعبة شروط عديدة يعرفها أبناء الريف.

الكتاب: مدرسة الضيعة القديمة. )2( ربع ياسين: جزء هام من القرآن.. كان بعض األوالد يكتفون بحفظه. )3(

53

يا شاعر الصغار الشاعر:

»بنبرة ألم« كانت حياة مرة شريدة

عزاؤها األشعار »يتابع الحديث«

وكان أبي معلمنا وكنت أنوب عنه أنا

إذا ناداه شغل شاغل أو غاب صغيرا كنت حين بدأت

1Tهذي المهنة الصعبة

)23F

1( صغيرا كنت حين أذبت نفسي

حبة حبة ويصرخ بي رفاق طفولتي

والشمس في الظهر إلى العاصي.. إلى العاصي!

ونبدأ قصة النهر ونبدأ لعبة النهر

عصافير تعوم تعوم

المهنة الصعبة: المقصود بها مهنة التعليم، صعبة ولكنها مقدسة. )1(

54

كأن الماء كرم نجوم ربينا فيه منذ سنين ولدنا فيه سباحين عرفنا كل سر فيه صار بحبنا يجري

»يردد األوالد المقطع السابق مع الشاعر« الشاعر:

»يواصل حديثه« وأحمل دفتري وأغيب

عن أطفال حارتنا عن العاصي الذي أهواه،

أول سابحيه أنا األوالد:

تغيب تغيب، أين تغيب؟

جناح أنت مشدود! بهذي األرض، أين تغيب

الشاعر:

:»ضاحكا« وتحت التوتة الخضر اء

أضيع بغيمة زرقاء

55

وأشرد في البعيد على جناح النهر محموال

وأكتب للحقول، وللطيور قصيدتي األولى

األوالد: »بصوت واحد«

.. ال تتعب .. أكتب أكتب من رحلتك الزرقاء

إبق الشاعر إبق الطفل،

يغنينا ما شاء الشاعر:

رفاق طفولتي كبروا وما زالوا على العهد تباعدنا.. ولكنا

. حفظنا سورة الود إذا سمعوا أناشيدي

تلقوها على البعد وغنوها على العاصي

وغنى الحقل والنهر

56

رفاق طفولتي كبروا1Tوتابع دربه الشعر

)24F

1(

الشعر: أي صاحب هذه األناشيد. )1(

57

الحلقة الخامسة

خيمتي الصيفية في قلب شجرة توت

هل يعرف األطفال مكان خيمتي؟

لن تحزروا السؤال في الجو خيمتي

األوالد: »في لهجة استغراب«

في الجو؟ في الجو؟

هل تقعد في الجو الخيمة؟ هل تسبح في الجو الخيمة؟ أتراها نسرا أم غيمة؟

أخبرنا عن هذي الخيمة حدثنا عن هذي الخيمة

58

الشاعر: »بصوت هادئ رخيم«

في حضن التوتة في قلب التوتة

.. في الجو كانت سقفها أغصان

جدرانها أغصان وأرضها أغصان في الجو خيمتي

األوالد: »يهتفون معجبين«

حلو حلو وطن الشاعر في قلب الفضاء

أبدا ساحر أبدا طائر

في قلب الفضاء الشاعر:

»يتابع حديثه عن الخيمة وعن شجرة التوت«

مثل المروحة الخضراء توتتنا في صحن الدار

أضخم من كل األشجار

59

كانت توتتنا الخضراء فيها، في هذي التوتة

كنت أمد األغصانا أنصب شيئا فتانا

1Tيسعفني

)25F

1(1Tفي ذاك أخي

أكبر مني كان أخي أبني عشا كالعصفور بين الظل وبين النور

أسكنه في فصل الصيف فيه أنام، وفيه أقيم

الشاعر: حلوا حلوا كان الصيف

في عرزالي حيث أقيم رملة:

حلوا حلوا كان الصيف في عرزالك حيث تقيم

1Tمثل معسكرنا في الصيف

)26F

2(1T

.. ونسيم .. وظالل ماء

يسعفني: يساعدني. )1( تقصد رملة معسكر الطالئع الذي يقام في الصيف ويقضي فيه األطفال )2(

أوقاتا مألى بالنشاط و البهجة والعمل الخالق.

60

الشاعر: »وكأنه شارد في حلم بعيد«

وعند المساء تمد النجوم إلي أصابعها الناعمة

وتسمع شعري وتغفو النجوم على سطح خيمتنا الحالمة

»بعد لحظات من الصمت تملؤها الموسيقا الناعمة«

وتمضي الليالي وتبقى ببالي

حكاياتنا في أعالي الشجر أنا وأخي ورفاق السهر وكانت على ثوتتي دالية

تعرش، تمتد مثل الحكاية تضيع بدايتها والنهاية تدلي عناقيدها الحالية

عناقيد حمر، عناقيد سود بأكرم ما في الدوالي تجود

»يردد األوالد بعض األبيات السابقة مع الشاعر« أحبك يا جارتي الغالية

61

1Tأحب عناقيدك الحالية

)27F

1(1T

أحب الصباح، أحب المساء أحبك يا خيمتي في الفضاء 1Tبعيدين صرنا

)28F

2( غريبين صرنا

وما زلت أرجوحة من ضياء تمر ببالي

تضيء الليالي. وأرجع طفال مع الصيف جاء

الحالية: الحلوة، الجميلة. )1( إشارة إلى هجرة الشاعر من وطنه الصغير إلى وطنه العربي الكبير. )2(

62

الحلقة السادسة

أرجوحة سلمى

الشاعر: األرجوحة!

ومن منا ال يحب األرجوحة؟ .. حلم الصغار الجميل

يطيرون بها أشبارا في الجو، فيظنون أنهم قد اخترقوا الفضاء

. ووصلوا إلى أعالي السماء األوالد:

.. إحك لنا عن أرجوحة طفولتك هل كانت لديك واحدة؟

الشاعر:! نعم، أيها الصغار

أرجوحتي.. كنت أنا الذي أصنعها بنفسي.

ولكنها شيء غريب طريف،. ما أظنكم سمعتم به، أو عرفتموه

63

األوالد: وكيف كنت تصنعها بنفسك إذا؟

حدثنا قليال عنها.. الشاعر:

إسمعوا يا أحبائي! كانت لي رفيقة صغيرة في القرية،

اسمها سلمى.. هي رفيقة . الطفولة

كنت أحبها كثيرا، ونلعب معا في الحقل، وفي باحة

الدار، طوال النهار

وكنت أكتب لها األشعار، وأغنيها لها..

فتبرق عيناها الجميلتان بسعادة طفولية ال حدود لها.

وفي ذات يوم، خطر لي أن أصنع لها أرجوحة

1Tمن لحاء

)29F

1(1T،أغصان التوت

اللحاء: قشر العود أو الشجر. )1(

64

أغصان التوت الطويلة، كنا نقشرها بأيدينا،

ثم نجمع اللحاء الطويل المتين، .. وهو طري ناعم

. ونجدله كما تجدل الضفائر »يصمت الشاعر لحظة، ثم يتابع«

كم كنت أتعب حتى تكون سلمى سعيدة حتى أنال رضاها

في لعبة أو قصيدة األوالد:

»في شيء من الحماسة« أكمل لنا قصة األرجوحة،

. المصنوعة من أغصان التوت الشاعر:

»بلهجة مرحة« أرجوحة سلمى يا أوالد

كنت أسميها من فرح تضفر، من أعياد

أحلى لحظاتي أعطيها أجدلها حتى تغدو أطول مني .. مرات مرات

65

ثم نعلقها في غصن ضخم، في إحدى الشجرات

نحتل كالنا األرجوحة وتطير، تطير األرجوحة

تطير بنا حلما .. في الجو وتعانقني فيها سلمى بغدائرها الذهبية،

بالجسم الطفلي البض ننسى أنا فوق األرض

ال أدري ماذا كنت أقول لها وأنا في قلب االرجوحة

مع سلمى.. نذهب ونعود في الجو، تشيل بنا نسمة

وتحط بنا نسمة وبأيدينا من كل سماء

. قمر أو نجمة ال أدري ماذا كنت أغني يا أطفال

للطفلة سلمى.. للحلوة كم كانت تبتهج الحلوة

وتدور بها الدنيا

66

إذ تسمع كلماتي النشوى تحكي عن لون محاجرها وتذوب هوى بضفائرها

ال أدري ماذا كنت أقول؟ »الشاعر كأنه يهمس لنفسه«

.. حب في الفجر حديثي عنه يطول

لم تهدأ بعد األرجوحة فلماذا تهدأ يا نغمي؟ سلمى أغنية ملء فمي ويداها نرجستان في كفي عالقتان يا حلم الطفل الورديا صب الدنيا في عينيا شعرا وغناء كي ترضى سلمى، وأباهي أني قدمت لها شيا األوالد:

»بصوت واحد« نتمنى لو كنا سلمى

67

نتمنى لو كنا سلمى نتسلق تلك األرجوحة ونطير، نطير بها نغما ما أجمله حلما!

ما أبدعه حلما! نتمنى لو كنا سلمى.

68

الحلقة السابعة

كنت صيادا صغيرا

األوالد: »في حماسة وبهجة«

نواصل نواصل

حديث القمر وظل الشجر

رملة: وأخبار شاعر أتى من بعيد

بأحالم ثائر◌ وفجر جديد

الشاعر: »في هدوء«

الحياة يا أوالد شجرة واألحالم أوراقها

كيف تكون الشجرة جميلة،

69

تمأل العين، بال أوراق؟

كيف تكون الحياة جميلة، بال أحالم وال أهداف؟ األوالد:

سنمأل حياتنا باألحالم الكبيرة، . سنملؤها باألهداف النبيلة

الشاعر: هذا ما ينتظره الجميع منكم أيها األعزاء دعونا من هذا اآلن. سأحدثكم اليوم عن هوايتي المفضلة في

صغري. إياد:

1Tهوايات الريف تستهوينا

)30F

1(1T

رملة: . إنها جزء من الطبيعة

األوالد: . خذنا إلى أحضان الطبيعة

. خذنا إلى أحضان الطبيعة الشاعر:

.»يبدأ الغناء وهو يتخيل شريط الضيعة والماضي البعيد« كنت صيادا صغيرا

تستهوينا: تستميلنا إليها، وتجعلنا نحبها. )1(

70

قبل أن يستيقظ العصفور قبل أن يمتد خيط النور فوق رأس الجبل

1Tكانبثاق األمل

)31F

1( كنت أنهض

فرحا كالموجة البيضاء أنهض1Tحامال جعبة قضبان صغار

)32F

2(1T

1Tإسمها الدبق، أو الدابوق

)33F

3(1T

قضباني الصغار »يردد األوالد بعض المقاطع مع الشاعر«

ويناديني رفاقي إبن عمي، وابن خالي الحارة السمر رفاقي»أشقياء«

كلهم يحمل جعبة علقت في الكتف

1Tعدة الصيد المرجى

)34F

4(

انبثاق األمل: شروقه، وظهوره بصورة مفاجئة. )1( الجعبة: وعاء صغير توضع فيه السهام، وقد استعمل هنا لقضبان الدبق. )2( الدبق: معروف، وهو غراء أخضر تطلى به العيدان، وتصطاد به )3(

العصافير. المرجى: الذي نرجوه ونأمله. )4(

71

علقت في الكتف ثم نمضي مسرعين

أصدقاء الفجر والعصفور، نمضي مسرعين األوالد:

»يهتفون مع الشاعر في صوت رخيم« يا أشجار الكرم العليا

يا حاملة الثمر تأتيك عصافير

وتروح عصافير لميها حولك وانتظري أبقيها فوقك، وانتظري يا أشجار الكرم العليا

يا حاملة الثمر الشاعر:

»يتابع وحده الغناء« وأوزع عيداني الخضراء

على األغضان، وانتظر وأطارد صيدي كي يأتي

صوب العيدان، وانتظر األوالد:

»يهتفون في حماسة كأنهم يشاركون في الصيد«

72

هيا هيا يا أطيار ينتظر الصياد 1Tعودي من أقصى األشجار

)35F

1(1T

كوني في الميعاد الشاعر:

»يصف كيف علقت العصفورة بالدبق«1Tوترن بأذني سقسقة

)36F

2(1T

في قضباني وصياح وتفاجئني رفات جناح

وعراك بين قضيب الدبق وبين حفيف جناح

! يا لألحالم المسحورة علقت في دبقي عصفورة وأطير بها فرحا

الصيد إذا نجحا األوالد:

»في حماسة ومرح« الصيد إذا نجحا الصيد إذا نجحا

أقصى األشجار: أبعدها. )1( السقسقة: هنا صوت العصفور. )2(

73

الشاعر: »في هدوء ونبرة عميقة«

كنت صيادا صغيرا وكبرت اآلن

أصبح العصفور طفلي ورفيقي اآلن

ينظم األشعار مثلي1Tيسكب األلحان

)37F

1( أنا أهواه كثيرا

إنه فنان األوالد:

نحن نهواه كثيرا إنه فنان إنه فنان

الحلقة الثامنة

ديواني األول الذي كتبته بقلم من قصب

األلحان: األنغام: والمقصود هنا: غناء العصافير. )1(

74

الشاعر:

أعزائي.. صباح الخير األوالد:

صباح الخير الشاعر:

سأحكي اليوم يا أطفال عن ديواني األول : عن الشعر الذي سميته ديواني األول هند:

وهل يسمى الشعر ديوانا؟ الشاعر:

.. يا طفلتي الحلوة نعم.. يا سامر .. يا هند نعم يسمى الشعر ديوانا يضم قصائد الشاعر هند:

ومتى بدأت تكتب الشعر؟ الشاعر:

صغيرا كنت حين بدأت

75

أكتب، أكتب الكلمة.. ملحنة منغمة تكاد تغرد الكلمة تطير، تطير كالعصفور فوق الدفتر الكلمة

األوالد: تطير تطير كالعصفور

فوق الدفتر الكلمة الشاعر:

هي الكلمة هي الكلمة

تصير فراشة حينا وقنديال على العتمة وقنبلة ترد كتائب العدوان منهزمة

إذا كانت بهم الناس، باألعصاب ملتحمة

األوالد: هي الكلمة هي الكلمة

الشاعر:

76

كتبت قصائدي األولى بظل التوت والتين من العاصي..

. من األشجار من صوت الحساسين

ومن موال فالح يغني في البساتين

سرقت النغمة األولى1Tبدأت بها تالويني

)38F

1( »األوالد يرددون األبيات السابقة مع الشاعر«

كتبت قصائدي وجمعتها في دفتر أزرق

بلون سمائنا الزرقاء1Tكان غالفه األزرق

)39F

2(1T

األوالد: »في بهجة ومرح«

التالوين: مفردها تلوين. والمقصود بها المالمح و الصفات األولى )1(

للشاعر الطفل. غالفه األزرق: كان قطعة من القماش األزرق المزهر، فصلتها بيدي، )2(

وغلفت بها الدفتر الذي جمعت فيه أشعاري.

77

بلون سمائنا الزرقاء بلون سمائنا الزرقاء 1Tقصيدتنا.. معلقة الحنين

)40F

1(1T..

سماؤنا الزرقاء قصيدتنا.. وتكتب

.. سماؤها الزرقاء بالنجوم الشاعر:

»يتابع الحديث« وكانت عدتي قلما

.. قلما من القصب أجل براه أبي.. وأبرع كاتب 1Tفي الريف كان أبي

)41F

2(1T

1Tوعنه أخذت هذا الدرس

)42F

3(1T

بعد الجهد والتعب

المعلقة: قصيدة طويلة من العصر الجاهلي سماها أجدادنا العرب هذه )1(

التسمية ألنهم كانوا يعلقونها ـ كما تقول الرواية ـ على جدار الكعبة تكريما للشعر والشعراء. والمقصود هنا: قصيدة: الحنين الطويلة.

تحدثت إليكم عن أبي الشيخ أحمد في الحلقة الثانية من هذا المسلسل يا )2( أطفال. فارجعوا إليه إذا شئتم.

هذا الدرس: أي طريقة بري القلم بصورة دقيقة ليكون الخط جيدا. وهي )3(عملية تحتاج إلى مهارة ودقة شديدة. ال تنسوا يا أطفال أن الخط العربي

فن رائع بحد ذاته فليكن خطكم جميال متقنا.

78

األوالد: ماذا سجلت بديوانك؟

ماذا غنيت بديوانك؟ الشاعر:

»وهو يبتسم« ماذا غنيت بديواني

وأنا طفل تحت الشجرة؟ ال أذكر كل قصائده كانت أزرارا منتثرة »ينظر إلى البعيد وتظهر على وجهه عالمات حزن عميق«

غنيت تعاسة ضيعتنا سجلت تباشير الغضب وحملت إلى الغيم الشكوى : أنا عربي وهتفت، هتفت إياد:

»في نبرة استغراب ممزوجة بالغضب« هل أصبحت جريمة

أن تذكر األشجار بأنها أشجار

ويهتف النهار بأنه نهار

هند:

79

هل كان صعبا أن تقولوا: إننا عرب

الشاعر: كان، وما يزال يا هند، ما يزال أعداؤنا األشرار يستعمرون الدار

ويسرقون األرض واألسماء يمحوننا لو استطاعوا محونا

من عالم األحياء األوالد:

»بلهجة غاضبة يهتفون«

لكننا أحياء لكننا أحياء

الويل للصوص الويل لألعداء

الشاعر: »يواصل الغناء«

قاتلت بأشعاري األولى قاتلت بديواني األزرق سمتني القرية شاعرها

80

وعرفت بها الحب األعمق ما زال صغار

في الريف صغار يتلون قصائد ديواني

ذي الجلد األزرق، ديواني وكبرت أنا

ونسيت أنا لكن أناشيدي األولى

ستظل ينابيعي األولى ستظل رفيقتي األولى

وسأبقى أول ديوانيردد األوالد بعض األبيات األخيرة مع الشاعر.. وهم غارقون «

»معه في حلم بعيد..

81

الحلقة التاسعة

بقرتـنا البنية

إياد: حكايات الضيعة تأسرنا أغانيها

. تذكرنا بكل ما هو جميل ونقي رملة:

»تقاطع رفيقها مازحة« إياد بدأ يتكلم، وكأنه قد أصبح شاعرا؟

إياد: وماذا يمنع أن أكون شاعرا؟

الشاعر: نعم. يا صغيرتي رملة. ماذا يمنع؟

كل طفل شاعر ولو لم يكتب قصائد وأناشيد.الطفولة نفسها شعر. األطفال قصائد الوطن

. الجديدة دائما إياد:

أسمعت يا عزيزتي. كل طفل شاعر ولو لم . يكتب

82

ولكني سأحاول أن أكتب في يوم من األيام. . سأحاول أن أكون شاعرا حقيقيا

األوالد:وسنكون من قرائك المعجبين. يا

ا إ رملة:

سأكون من قرائك المعجبين. إياد:

شكرا يا رملة.. شكرا أيها الرفاق. دعونا نكمل رحلتنا مع شاعرنا. األوالد:

أي نشيد من أناشيد الضيعة سنغني اليوم؟ .. نعم الشاعر:

أغنية اليوم طريفة، إنها بقرتنا البنية. أال يعجبكم هذا الموضوع؟

األوالد: »يصيحون في دهشة وسرور«

جميل، جميل. هل كانت عندكم بقرة؟ وهل تحولت إلى نشيد من أناشيد طفولتك؟

الشاعر:. نعم يا صغاري، كانت رفيقة طفولتي في القرية

. إسمعوا نشيدها الجميليبدأ الشاعر الغناء بصوت مرح بعد مقدمة موسيقية تشيع فيها «

»الحركة والحياة وكانت عندنا بقرة

83

1Tعماد األسرة

)43F

1(1Tالبقرة

رماديان قرناها وسوداوان عيناها وجلد أملس ناعم

بلون البن تفوق الفن

1Tوتستعصي على الحالم

)44F

2( طراوة جلدها الناعم

»األوالد يرددون مع الشاعر بعض األبيات مبتهجين«

وكنا نحرس البقرة من األخطار

ونربطها إلى شجرة بصحن الدار

ندللها.. نداريها ونطعمها ونسقيها

وأقتلع الحشيش لها من البستان طريا، أخضر الورق

عماد األسرة: الشيء الذي تعتمد عليه األسرة في حياتها. )1( تستعصي على الحالم: تصعب جدا على صاحب الخيال الواسع. أي أنه )2(

ال يستطيع أن يتصور أجمل منها.

84

1Tأجيء به على رهق

)45F

1(1T

: وأرميه على عجل.. كلي خذي.. هذا غداك

األوالد: »يقلدون حركة الشاعر«

خذي، هذا غداك، كلي خذي، هذا غداك، كلي الشاعر:

»يتابع النشيد وهو يبتسم للصغار«1Tوترمقني

)46F

2(1T بحب صادق

لمعت به العينان ويعلو صوتها، وتروح تشكرني على اإلحسان األوالد:

وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ الشاعر:

وفي الربيع األخضر الجميلآخذها إلى الجبل وكان جارنا الجبل

1Tترعى إلى الظهر، إلى األصيل

)47F

1(1T

على رهق: بعد جهد جهيد. )1( ترمقني: تنظر إلي بطرف عينها. )2(

85

األوالد: إلى الجبل إلى الجبل

خذنا إلى الجبل نسعى معك نرعى معك

خذنا إلى الجبل الشاعر:

»يتابع الحديث مسرورا من حماسة الصغار« ترعى وتستريح

1Tفي المرتع الفسيح

)48F

2( والشاعر الصغير

فراشة تطير بقربها تطارد الضياء

وتقرأ الغيوم في السماء؟ الشاعر الصغير

أنشودة تطير إلى مكان رائع بعيد

سر الحياة الرائع البعيد

األصيل: الوقت الذي يكون بين الظهر والغروب. )1( المرتع الفسيح: المكان المخصب الواسع. )2(

86

أحلى األغاني الشارد البعيد »يعيد األوالد المقطع السابق بصوت هادئ عميق«

الشاعر:مخاطبا بقرته البنية« »يتابع الغناء..

يا جارتي الوديعة البنية رفيقة الطفولة الوفية 1Tتحية على النوى

)49F

1(1Tتحية

1Tتذكري أحالمنا الوردية

)50F

2(1T

تذكري الطفولة الشعرية يا جارتي البنية تذكري..

الحلقة العاشرة:

مع الفقراء

األوالد:مع الشاعر في صوت واحد ترافقهم موسيقا قوية مؤثرة تذكر «

الجميع ينشدون :»بمشية الجنود إلى المعركة.

العطاء

على النوى: على البعد، أي أن الشاعر بعيد عن قريته ومالعب طفولته. )1( أحالمنا الوردية: أحالم الطفولة الجميلة كلون الورد. )2(

87

والبناء1Tكل ما فوق الثرى

)51F

1( كل ما تحت السماءمن عمارات ودور

1Tمن قالع

)52F

2(1Tوقصور

من حقول ناضرة وثمار فاخرة

هو صنع الفقراء الشاعر:

يا صغاري هو صنع الفقراء

القلوب الطيبة الوجوه المتعبة

األوالد:

الرجال الصالحون الشاعر:

الذين استعبدوا عبر العصور حرموا كل نعيم وسرور

الثرى: األرض. )1( القالع: مفردها قلعة، وهي المكان الحصين المعروف. مثل قلعة حلب )2(

وغيرها.

88

األوالد: وبنوا كل عظيم وجميل

وأقاموا كل مشروع نبيل وحموا هذا الوطن

الشاعر:1Tدمهم كان الثمن

)53F

1( يا صغاري..

دمهم كان الثمن

األوالد: إنهم كنز العطاء

أبدا كنز العطاء الشاعر:

فاهتفوا للحب والنبل معي: ! عاش عاش الطيبون الشرفاء عاش عاش المبدعون الفقراء األوالد:

لهم األرض جميعا والسماء لهم األرض جميعا والسماء الشاعر:

»يعود إلى حديث القرية«

دمهم كان الثمن: إشارة إلى شهداء الوطن الخالدين. )1(

89

قريتي كانت فقيرة يا صغاري

عرفت حر الظهيرة في النهار

عرفت برد الشتاء عرفت طعم الشقاء

واستمر الناس فيها يكدحون حزنهم يقتسمون فقرهم يقتسمون

ورغيف الذرة الصفراء فيما بينهم يقتسمون

وإذا مر نهار ضاحك يقتسمون

األوالد: إشتراكيين إشتراكيين

أهلنا بالفقر واألحزان كانوا إشتراكيين

الشاعر:.. يا أوالد نعم

90

أهلنا بالفقر واألحزان كانوا إشتراكيين

قبل أن يولد في األرض التي تحملهم هذا الرنين »يتابع الغناء عن أعراس القرية وأفراحها«

كانت أيام األعراس سلوى وعزاء للناس ننسى فيها الحرمان ونمر على األحزان 1Tالعرس لكل الناس هنا

)54F

1(1T

يتقاسمه كل الناس »يردد األوالد بعض األبيات مع الشاعر«

وتضج الضيعة بالفرح.. سبعة أيام أسبوعا يا أمطار الحب انسفحي 1Tوليبتل القلب الظامي

)55F

2(1T

غنيت، رقصت بعرس أخي وكتبت أناشيد الزجل

لكل الناس هنا: أي لكل أبناء القرية. )1( انسفحي: اهطلي وانسكبي. وليبتل القلب الظامي. ليشعر القلب العطشان )2(

بأنه قد ارتوى من الماء.

91

وسهرت، سهرت مع الشبان قضيت الليل بال ملل (1T»بساتين العاصي«يا شمس

56F

1(1T

يا لون التلة والجبل

)1( لدبساتين العاصي»: هي الحارة الصغيرة في قرية «النعيرية»التي و»

فيها الشاعر، صاحب هذه األناشيد وسميت كذلك ألن نهر العاصي يمر فيها، وقد مر ذكرها سابقا.

92

يا أيام الفرح األولى 1Tأتمنى لو لم ترتحلي

)57F

1(1T

أتمنى لو لم ترتحلي

ختام

أتمنى لو لم ترتحلي: أتمنى لو لم تذهبي وتبتعدي عني. )1(

93

طفولتي

إلى الصديقة التي سألت الشاعر شيئا عن طفولته..

! طفولتي.. من لهب الفقر، ومن ترابه

سخرت للثورة حرماني، وكل ما به .. حين كنت في األمس لقى ببابه لم أشك ! وال تحسست انتصارا لي في غالبه ! ما زال همي عالما أجد في طالبه * *

طفولتي، يا حلوة السؤال، حلم ثائر عاش به منذ أتى هذا الوجود شاعر في بيتنا الصغير طفل ساهم، وخاطر يهزه كما هوى بجانحيه الطائر ! .. كل ما حولك ليل عابر ال ترض شيئا * *

94

في قرية إن قلت، جرداء، فلست أكذب طفولتي.. فسحة بيت مهمل، وملعب في الطين بين صبية من عمري لم يذهبوا إن كنت اغتربت عنهم واغتربوا .. ما زلت.. ثورة جيل في دمي تلتهب أحملهم * *

على ضفاف التينة الشهباء كنت أجلس هناك.. راحت بالهوى أولى القوافي تهمس .. أحلى نغم وأسلس ديواني األول لم تتبدل خفقة كانت بصدري تهجس إال كما يضيع في وهج الصباح الغلس * *

واختطف الطفل من القرية فجر أسود على الهوان لم يزل يستأسد»غاصب«و ..

.. وهو المستعبد»القزم«يشمخ كالجبار

.. والتمرد .. والغربة واتصل الكفاح ! .. يغذو ناره التشرد ما أجمل العراك * *

95

. لم تبرح معي طفولتي.. يا حلوة السؤالفي بسمتي على الدروب الحمر أو في

في جلستي مع الرفاق حول كوب مترعفي السجن.. في انطالقتي عبر الوجود

األ

في كل نبض لم تزل طفولتي تحيا معي

1954

96

تينة وشاعر

بعد غربة ست وعشرين سنة زار الشاعر قريته الصغيرة التي تتكئ

، وتغفي بين )58F1(على زند العاصيالجبال. وتعرف أول ما تعرف بعد

األعوام الطوال أخاه، وأخته،وشجرة التين التي كتب تحتها أول ديوان له.

غريبين سلمنا، ولمت جناحها

ووشوش غصن جاره يسأل الغصنا نهر من سنين يشدنا .. غريبينحتى ينكر الوتر اللحنا .. إلى الصمت هنا فوق هذا الجذع مرت إلهة وألقت على شبابتي همسها اللدنا هنا خط طفل األمس أول دفتر وسبح في خدي رفيقته الحسنا هنا كنت ألقي للغيوم قصيدتي

على بعد خمسة عشر ميال من أنطاكية مدينة التاريخ والذكريات. )1(

97

لعاصفة في الغيب ترهقني سجنا هنا..

وتهاوت نسمة من ذؤابة

.. تعانقني سرا: تعارفنا تقول

98

ساقية الضيعة

إلى جوار البيت الذي ظلل طفولة الشاعر ساقية تصب في العاصي..

تهدر شتاء حتى تهدد البيوت المجاورة، وتجف صيفا إال من

قطرات هنا وهناك.. مر بها بعد غياب طويل، وترك على ضفتها هذه

األبيات..

أحس طعم حصاك البيض في قدمي يا سمفونية تسع غضة النغم يا جارتي... كلما أفلت من قفصي ورحت أهمس في أذن الحصى حلمي كنا على لسعات الماء قافلة من الصغار، بال درب، وال ألم نخوض صدرك أقداما مثلجة ونستطيب تحدي سيلك العرم ربما جلجلت غاضبة وربما.. فكنت ثورتي األولى تروض فمي كبرت يا جارتي،

مرت على طرقي

99

سواحل وبحار مرة الظلم وجئت ألقي شراع التيه محترقا في حضن داري،

على قرميدي الهرم.. فالتفتي كبرت

هل تسمعين صدى؟ هل تلمسين حصاك البيض في قدمي؟

100

إلى روح أمي

توفيت في أنطاكية.. كانت خطوات ابنها تمأل آخر لحظاتها.. كانت تصر وهي قانعة أن تراه، تلح أن يعود.. أن الموت يهدم كل الحواجز، يمحو ولم يستطع كل الحدود بين الناس.

الشاعر أن يزورها.. لم يستطع حتى الموت أن يهدم الحواجز.. ويمحو

ويأذن لألحياء أن يشيعوا الحدود.. موتاهم بنظرة.

روى ضريحك دافق النور

وسقتك عاطرة األزاهير أنا لم أزل طفال وأغنية

في منزل بالحب معمور ما زلت في عيني، وفي

ل

تنهار دونك ظلمة السور

ال الغربة السوداء تفصلنا

كال، وال حلك الدياجير

ما زلت طفال تفرشين له

ظال بضاحكة األسارير

تتحدثين إلي من درج

101

في الدار يطرق نصف

وتطل من أهداب دالية

أولى البراعم في مزاميري وتطير في اآلفاق ملحمتي

وأظل عندك ريش عصفور قاتلت بالكلمات شاردة

كالريح تخفق، كاألساطير ومضيت من غسق إلى غسق

وتعبت من سفري وتهجيري وأتيت ألقي رأس منهدم

في الظل، تعبث بي مقاديري سلواي قافية أقطرها

فتعيش في خلد األداهير وصدى الطفولة تنسجين لها

أحالمها بجدائل النور ما زلت في سمعي وفي

ويجسد النبضات تصويري

تتحدثين إلي، تحرسني

عيناك مشرقة األسارير

وأكاد أنشق ريح موقدنا

102

ولهاث جمر فيه مذرور وحكاية الليل التي اتصلت

وضجيج ساحرة ومسحور والريح في قرميدنا مزق

وشتاؤنا نفثات مصدور .. جمر موقدنا أنهي الحكاية

باق، وصوتك غير مبتور وابن الصباح على غرارته

في عالم بالدفء مخمور .. إن نبرتها أنهي الحكاية

كنزي الخصيب وسر تعبيري ال الغربة السوداء تفصلنا

.. وال حلك الدياجير كال زادي على األيام خافقة

خبأتني فيها، وإكسيري وخفوت آه قلتها عمرا

للريح أبقى من أعاصيري مسحت دموعك عبر غربتنا

ذنبا لدهري غير مغفور ووددت لو ألقاك تمتمة

103

قبل الضريح، وصمت مقهور يا ضيعة الغرباء في وطن

لليتم والتشريد منذور .. في بلد يا ضيعة الغرباء

كوجودنا أماه مهدور * *

تبقين منديال يلوح لي

خلف الدروب، وليل مأسور

1968 أيلول 1دمشق:

104

وفاء ألبي

إلى من يفكرون بتكريم شاعر «بساتين العاصي»

وقبل أن توقد لي شمعة

ويذكر اسمي في كتاب الضياء

وقبل أن تصدح أنشودة سكبتها طفال

بسمع المساء وقبل أن تزهو قرميدة

1Tفي ضيعتي

)59F

1(1T..

باسم صغير أضاء1Tعوجوا على قبر العظيم

)60F

2(1Tالذي

.. بليل العماء فجرنا نورا

قرية النعيرية. )1( الوالد الشيخ أحمد العيسى. )2(

105

ضعوا على مثواه إضمامة من أنضر الورد تكونوا الوفاء هو الذي قلدني نبرتي : كن للغناء وقال للعصفور

2005آب:

106

منازل

«حي المنازل إذ ال نبتغي بدال) 61F1(بالدار دارا وال الجيران جيرانا»

أفتش عنها في ركام طفولتي

.. ما لهن نضوب جداول شعر

.. طيوفا ملحة تحاصرني حينا فتطفو على األهداب ثم تغيب

.. عاشت في دمي وسقيتها منازل نشيدي، ويدعوها دمي فتجيب

م1997

البيت لجرير. )1(

107

طفل وشجرة

ألنها زرعتني.. في الزمان صدى

ألنها.. تركتني

نغمة بددا

أهدي إلى ظلها المحفور في عمري

.. بقيا النشيد

الذي في ظلها ولدا

م1999/10/27

108

خط اليد وذكريات طفولة

ورقتي تنداح فوق ركبتي.. وقلم القصب

يصدح في يدي.. يرشف من محبرتي السوداء

يرسي في يدي.. وأكتب

تهمي السماء مطرا على يدي.. وأكتب* *

.. بقلم القصب علمني الشيخ العظيم والدي

أن أنسخ القصائد الجميلة

قصائد العرب.. تمور باللهب

.. وأن يكون الخط هذا األلق الساطع في الورق

.. كغرة الصباح.. كالفلق

علمني الشيخ المجيد

109

أن يكون صلة النسب ما بيننا..

.. وبين من أبدعه أجدادنا العرب

* * ورقتي..

تنام فوق ركبتي.... وأكتب

: تهمس لي أنامل الطفولة الصفحة العشرون..

قل لي.. هل بدأت تتعب؟

.. طفال طفال صغيرا كنت

حين روض القصب يدي..

على قصائد العرب أنسخها.. أخطها..

كما يريد الوالد العظيم.. في قريتنا الصغيرة الشاعر الفنان

.. لكنها تضج بالكنوز فقيرة

.. قريتي الصغيرة كانت* *

.. قل ستون ديوانا خمسون.. من الروائع

110

.. نسخها أبي على ركبته بخطه الحلو األنيق الساطع

.. حزمة أقالم

براها الشيخ في براعة يحسده اإلبداع

على سمو يده في قطة اليراع علمني.. أن أترك الورق

ينام فوق ركبتي.. وأسفح األلق

.. عليه.. سطرا بعد سطر.. - قوم السطور

حذار أن تترك فيها صاعدا أو هابطا،.. على السطور إزحف

.. .. ال ترعش يدا كالسهم! ال تخش يا بني

.. تراثنا العظيم أمانة.. في يدي في يديك

.. لنحفظ األمانة إخاللنا بعهدها خيانة وخطنا البديع هذا..

صلة النسب ما بيننا.. وبين من أبدعه

.. آباؤنا العرب* *

.. ومنذ ذاك اليوم.. على الورق ما زلت

111

أخط كل كلمة أقولها.. أنقشها على الورق

هذا أنا.. هذا وجودي كله..

ما ظل منه صامدا،.. وما احترق

.. من ورقي القديم فوق ركبتي..

من أنملي انطلق أريد من عصري أن يجتازني..

ليكتبوا بالضوء وليرسلوا قلوبهم، أحالمهم،

على جناح الضوء ما كنت إال عاشقا للضوء

.. لكنه الحنين للخفقة األولى بصدري..

.. إنه الحنين للهمسة األولى التي سجلتها

112

.. بقلم القصب قصيدة صغيرة ضاعت

كما ضعت أنا.. وأهلي العرب

2004صنعاء: آذار

113

رسالة من نهر العاصي

إلى شاعره الصغير..

يا شاعري الصغير.. وأنا كبرت أنت كبرت

لكنني سأكتب الرسالة القصيرة.. غمغمة قصيرة

.. من حارتك الصغيرة إليك ومن جوار بيتك القرميد

لقد تحدثت طويال ـ قيل لي ـ عن بيتك القرميد

(1T»بساتينك«وعن 62F

1(1Tوهي بقع خضراء

أعبرها ـ ولم أزل ـ.. أشق هذي البقع الخضراء

بما تبقى من مياهي النزرة اليسيرة يا شاعري..

لم يبق مني للبساتين سوى غرغرة يسيرة* *

إني أنا النهر الذي ضمك طفال في ذراعيه الوديعتين

.. حين علمتك كنت صغيرا ما بين ذراعي الرقيقتين

حارة «بساتين العاصي» التي ولد فيها الشاعر في لواء إسكندرون. )1(

114

كيف تشق مائي المنساب.. ترف كالعصفور .. لضفة من ضفة

تعبر صدر مائي المنساب منتشيا بالفوز في الدقائق القليلة

وفي ظالل تينة، أو توتة، في الضفة الظليلة.. جميلة تكتب لي قصيدة جميلة

.. وأغنيها معه يكتبها طفلي الصغير آه.. لكم كنت أحب

.. ما يخطه شاعري الصغير في دفتره! وأشتهي أن أسمعه

* * .. وأنا كبرت أنت كبرت

لم يبق مني غير ذكريات من الشباب الناضر البهيج

.. بأطيب األريج عابقة.. والصفصافة المجنحة»دواري« القديم غاض

.. أيها الطفل الذي فارقنا وغاب كم ظللتك في لجج الضياع والعذاب

كم دللت شاعرها صفصافتي المجنحة شاعرها الطفل الذي غنى لنا

.. في لجج الغياب.. وما دندنه رباب أجمل ما غناه قيثار

* * .. وأنا كبرت أنت كبرت

كادت نواعيري التي تصدح في حماة تعرفها.. قصائدي البكر التي تعزف في حماة

.. أنشودة الدهر السحيق

115

قيل لي: قد أوشكت تنهار يكف عن غنائه نشيدها الجبار

.. أكاد أبكي ببقايا الدمع إذ تلقى إلي هذه األخبار

* * أنا الذي أعطيت روما

ذروة الفتنة والبهاء.. تدق جبهة السماء جعلتها يوما

الجميل»التيبر«بقبضتي.. تركت ماء .. يصب فـي

وأنا أنساب حتى بيتك الجميل.. الملقاة في الشمال في الحارة الصغيرة

.. على ذراعي أنا الجنوب والشمال

أسنى الحضارات التي أبدعها الخيال سقيتها أنا..

حرستها أنا.. وعدت ذكرى يا صغيري حلوة األثر

.. يحملها التاريخ مثل كل ما يحمل من عبر* *

دعني بقيثارك.. يا طفلي القديملحنا على الوتر .. رنة

أحلى عزاء لي نشيد عاشق،.. لحن على وتر

2004آذار (مارس)

116

موت رفيق الطفولة

عبر الهاتف تلقيت نبأ وفاته.ز في القرية، ملعب طفولتنا، في لواء إسكندرون..

.. مات محمد.. رحل محمد

.. رفيق صباي ابن العم

وأول راوية لي تحت التوتة،.. محمد عند ضفاف النهر* *

. مات رفيقي األول.. وشوشني النبأ عبر الهاتف

يا هذا العمر، الهارب بين الغربة واألحزان،

أليس لنا في ظلك مأوى.. متكأ؟.. ظمأ يلهث، الرحلة

إن يحلم بالقطرة رواه ظمأ اثنان أحبهما فجري

شهدا فجري.... في القرية

تحت ظالل التينة والصفصافة كانا أول من سمعا شعري

117

سلمى.. وابن العم محمد* *

كم كنت أحبهما.. كم كانا يقتنصان نجوم الليل

.. ويستبقان إلي ليحتفيا برفيقهما

ألغني آخر ما سجلت بدفتر أشعاري.. لهما

ويغني العرزال النشوان.. تردد ما أروي لهما. تغني الدالية الخضراء

* * .. أخبرني األهل عبر الهاتف

: الغرباء وراء األسوار السوداء رفيق طفولتك األول

وقصيدة دفترك األول حلم باألمس على شرفات الليل،

.. وتبدد تناثر حزنا.. رحل محمد

* * كم كان يحب النهر،.. يحب الجبل الوعر

يدا بيد نتسلقه

وعلى أعلى صخر نتوقف، نشرد في المجهول،

.. ويؤرقه يؤرقني حلم

118

ونعود بطاقة أزهار من بين الصخر لسلمى..

تحب الزهر النادر سلمى .. مثل الشعر.. تعشقه

كرمى للشعر، لعينيها،

.. ويقطف لي ولها، يتحدى الصخر أسرار الوعر،

وعطر الزهر البكر.. كم كان جريئا وشجاعا

هذا القروي الطالع، في أشواق األرض،.. النابت من أضالع الصخر

* * كان يغني..

كل الحور، الدلب، العشب، يردد مسحورا معه

في جنبات الليل ترن «عتابا» يدنو النجم ليسمعه

.. يجعل من شعري مواال! .. ما أروعه يرسله في األفق هوى

أبدع من غنى «يا ليل».. وهز القرية

.. كان محمد غاب إذن صداح الضيعة،

هزار الكرم، النبع، الوادي، .. غاب الصوت.. رحل محمد

* *

119

.. رفيق صباي ابن الع◌م.. يتبدد يسافر عمر

ويظل وراء الغيم صدى يطوينا.. ينشرنا أبدا

.. يتركنا لآلتين.. قطرات ندى ذكرى فرح

.. ال تحزن، ارحل في صمت

.. ستظل بديواني سافر إطاللة قافية نشوى

لن يقهرنا الزمن األنكد

م1999/9/9دمشق:

120

طفولتي على ضفاف النهر

إلى صديقي الدكتور علي عقلة عرسان.

على هامش االحتفال الذي أقامه األدباء العرب واألتراك في قريتي بصديقهم شاعر القرية. (النعيرية)

.. طفولتي.. على ضفاف النهر ما تزال يلفها العشب، وبعض الشوك، والشجر

منتشرا في حافة «العاصي».... يعشق القمر وطفل

يقطفه في يده كتينة، أو جوزة، ويكتب القصائد الطوال

1Tيكتب عن «حارته»

)63F

1(1Tعن مهده أجمل ما يقال

.. يحلم بالسفر.. وأرضه الفضاء والبشر في أرضه

ويحفظ «العاصي»غناء الشاعر الصغير ويذهب الصدى..

ولست أدري كيف راح يهدر الصدى.. مدويا

في الوطن الكبير في عمره، وشعره غنى

ـ وما زال يغني ـ الوطن الكبير

حارة بساتين العاصي. 1

121

وتطفر الدمعة في عيني، وأنتم في «النعيرية»تخطبون

وتعزفون قصة الحاضر والماضي،.. وتنشدون

! .. شكرا على اللقاء شكرا لكم بنبرتي األولى، على «العاصي»،

! .. والغناء وعاش الحب

م2007أيلول:

122

النثر

يواصل الشاعر كتابة طفولته وذكرياته التي ما تزال تنبض في

أعماق وجوده، بلغة النثر هذه المرة، النثر الذي يحمل أجنحة الشعر، ويظل

أكثر حرية وانطالقا في رأيه.

123

124

وائل يبحث عن وطنه الكبير

قصة طفولتي.. أهديها إلى األطفال في كل مكان.

سليمان

(1) لم تكن بيوت قريته الصغيرة تتجاوز

1Tالعشرين

)64F

1(1T..

يحفظها عن ظهر قلب، ويستطيع »وائل«كان أن يعدها بيتا بيتا، من بيت الفالح العجوز يوسف

حبيب الذي يجاور الساقية في الشرق إلى بيت الذي يقبع كالسلحفاة في الطرف »علي حمدان«

. كان نهر العاصي ـ وهو في أوج الغربي من القريةقوته وشبابه ـ يمر قريبا من قرية وائل الصغيرة، يهدر شتاء كأنه عمالق جبار، وتعلو مياهه حتى تغطي حافتيه، وتهدد البساتين والبيوت المجاورة بالغرق، وينساب في فصل الصيف رقيقا وادعا

حتى يصبح صديق الصغار والكبار، ويفتح ذراعيه لهم كي ينعموا فيه بالسباحة والشمس من الصباح

. إلى المساء.»وائل«كان يحب النهر والشمس والسباحة

اسمها: «بساتين العاصي»وهي في الواقع حارة. )1(

125

كان العاصي صديقه الحميم، ال يذكر متى تعلم . أن يسبح فيه كالسمكة الصغيرة

ربما كان يومئذ طفال في الخامسة أو السادسة من عمره، يذهب مع أخيه الكبير ورفاقه عندما تعلو

يحملونه أحيانا على . الشمس قليال في قبة السماءأكتافهم، ويركضون بين البساتين وهم يرتدون

الثوب الوحيد الذي يغطي أجسادهم »القنباز«النحيلة، يركضون حفاة على التراب الهش الناعم

. وما أكثر الذي يغطيه العشب يابسا وأخضراألشواك والحصى التي كانت تخز األقدام الصغيرة

وتعلق بها. ولكن األوالد لم يكونوا يبالون بها، أو . يهتمون لوخزاتها المؤلمة

والسباحة، هذا الحلم الممتع . العاصي ينتظرهمالجميل، كانت أهم من الشوك والحصى، أهم عندهم من أي شيء، حتى أن بعض الصغار الذين استطاع

أهلهم أن يشتروا لهم حذاء جديدا أحمر من المدينة كانوا يفضلون أن يشكلوا الحذاء األحمر الجديد في

«زنارهم» حتى ال يهترئ، ويواصلوا الركض على . الدرب المتعرج الضيق بين األشجار

ينعم من حين إلى آخر بحذاء وكان «وائل» . ولكنه لم يكن أحمر جديد يبتاعه أبوه له من المدينة

أقل من رفاقه حرصا على هذه «الهبة» الثمينة، فكان يشكلها بزناره أيضا، ويركض وراء الكبار،

وربما تقدمهم أحيانا حتى يصل إلى حافة النهر قبل الجميع، وما تكاد قدماه النحيلتان تالمسان الماء حتى

يخلع قنبازه ويرميه على الحصى األزرق الذي . ثم يلقي بنفسه في أحضان الماء . يفرش ضفة النهر

126

وتمتلئ صفحة النهر العريض الصافي بعشرات . األوالد يعومون فوقها عراة ال يستر أجسامهم شيء

ويغامر بعضهم فيجتاز العاصي من الضفة إلى وسرعان ما أصبح وائل قادرا . الضفة ذهابا وإيابا

على هذه المغامرة الرائعة، فكان يندس من حين إلى حين بين المتسابقين، ويقطع النهر مثلهم، بالرغم من

تهديدات أخيه الكبير وتنبيهه المتكرر له كي يبقى . على الشاطئ الرقراق حيث ال خطر من الماء

يذكر مرة أنه كاد يشرف على الغرق عندما علق . ولكنه استطاع أن بدوامة لعينة في وسط التيار

يصمد للتجربة، وظل يضرب الماء بقدميه الصغيرتين ويسبح حتى تغلب على الدوامة

. واجتازها برشاقة العصفوربيوت القرية التي ال تتجاوز العشرين كانت كلها

مبنية من األحجار الصغيرة والطين، مسقوفة . بيت «اآلغا» وحده كان بجذوع األشجار اليابسة

من الحجر المنحوت يرتفع عاليا على هضبة . مجاورة ويلمع في ضوء الشمس كالحمامة البيضاء«لماذا ال تكون بيوت الفالحين كلها مثله؟ لماذا

ال يكون بيتنا أبيض المعا مثل بيت اآلغا».كان وائل الصغير يلقي على نفسه هذا السؤال كلما مر بالقرب من «الحمامة البيضاء» الجاثمة

الحمامة البيضاء، هذا . على كتف الهضبة المجاورةهو االسم الذي أطلقه على بيت اآلغا.. هذا «اآلغا»

الذي كان يجهل القراءة والكتابة، ولكنه يملك ثالثة . أرباع القرية

127

«كيف استطاع أن يملك كل هذه األراضي سؤال آخر كان يتردد كثيرا في ذهن وحده؟»

. حدثته أمه الصغير، ولكنه لم يكن يجد له جوابامرة، وكانت تجمع بعض الحشائش من البستان لتطعم البقرة الوحيدة التي كانت تملكها األسرة : «يا بني، «اآلغا» رجل ال يعرف قلبه قالت

. لقد سرق هذه األراضي منا. كان جدك مثال الرحمة. وسافر في حرب يملك هذا البستان بالذات

(«السفربرلك»65F

ووضع اآلغا يده عليه، وعلى )1غيره من البساتين تساعده في ذلك «الحكومة». ولم

تكن أم وائل تدري من هي هذه «الحكومة».. وال تعرف شيئا عنها. كل ما تعرفه أن «الحكومة»

كانت تساعد اآلغا على اغتصاب أمالك الفالحين وأراضيهم، وأنها البد أن تكون ظالمة شريرة

مثله».(2)

كان وائل في السابعة عندما حفظ القرآن الكريم وأتقن الخط، وتعلم عمليات الحساب األربع، وأخذ يحفظ الجزء الثاني من مبادئ العربية في الصرف

كان أبوه أستاذه والنحو للمعلم رشيد الشرتوني. . بل كان أستاذ القرية كلها، والقرى المجاورة . األوللم يكن في القرية مدرسة، بل لم يكن في الريف كله

مدرسة واحدة في تلك األيام التي نتحدث عنها. المدرسة االبتدائية الوحيدة كانت في المدينة، ولذلك

وهب أبو وائل حياته لتعليم أبناء قريته الصغار منهم . والكتاب ـ كما تعلمون ـ . لقد جعل بيته كتابا والكبار

السفر برلك: كلمة عربية تركية تعني «الحرب العالمية األولى». )1(

128

. ولكن هو المكان الذي يتعلم فيه األوالد القرآنالشيخ أحمد كان يعلم إلى جانب ذلك الخط المتقن

. آه! كم كان الجميل، وبعض قواعد النحو والحسابفي الشتاء كان يقسم . هذا األب الشيخ رائعا وعظيما

غرفة منه لسكنى األسرة، وغرفة : البيت شطرينللكتاب، وفي الصيف كان الشيخ الهادئ الوديع

يجمع األوالد في ظل شجرة التوت الضخمة التي . كانت تمأل ساحة الدار

وفي الهواء الطلق كان يعلمهم، يسكب قطرات النور األولى في تلك العيون التي حرمت نور العلم

والمعرفة منذ قرون بعيدة.كان وائل يعاون أباه في مذاكرة بعض التالميذ، يتلون أمامه بعض السور التي حفظوها من القرآن،

. وكان ذلك يؤذي فإذا أخطأوا أصلح لهم الخطأبعض التالميذ الكبار ويغيظهم، ولكن وائال لم يكن

يأبه لغيظ هؤالء الكسالى، ونظراتهم الغاضبة، ألنه كان يحس أنه أقوى منهم، ولو بدا جسمه نحيال ال

تأخذه العين.كان وائل يحب الشعر، وكيف ال يحبه، وأبوه

شاعر، ينظم قصائده، ويكتبها بخط جميل، ثم يغنيها . لقد حفظ مساء عندما تجتمع األسرة على موقد النار

وائل أشعار أبيه عن ظهر قلب، كما حفظ عشرات وكان ديوان المتنبي ـ هذا الشاعر القصائد غيرها.

العربي العظيم ـ رفيق طفولته، يقرؤه على أبيه، ويستظهر كل يوم قصيدة أو جزءا من قصيدة منه،

ثم يغني ما يحفظ بصوت حلو رقيق:أرق على أرق ومثلي يأرق

129

(وجوى يزيد وعبرة تترقرق66F

1( : لم يكن الصغير يدرك معنى مثل هذه الكلمات

. ولكنه كان األرق، الجوى، العبرة التي تترقرقيحس إحساسا غامضا أنه يحفظ شيئا جميال جدا، وأن األمة التي أبدعت مثل هذا البيان الرائ◌ع

. وغرست محفوظاته حب البد أن تكون أمة رائعةاللغة العربية في أعماق نفسه وأصبح الصغير يقدس لغته، ويرى فيها معجزة من المعجزات، فانكب على القراءة والحفظ، يلتهم بشغف عجيب كل ما تقع عليه

يده من كتب قليلة، اشتراها أبوه بعد جهد كبير من المدينة، ووضعها في صندوق محكم الغطاء، حتى

ال يصيبها شيء من التلف واألذى.وذات صباح وقع في يد وائل كتاب من كتب

! ال يذكر عنوان الكتاب يا للمفاجأة الحلوة التاريخ. بدقة، ولكنه كان بالتأكيد يتحدث عن تاريخ العرب . أخذ الصغير الكتاب وضمه إلى وأمجادهم القديمة

صدره بحنان وإجالل ثم انطلق إلى البستان واختار ظل شجرة من أشجار التوت الوارفة األغصان،

.. ثالث ساعتان .. . ساعة وجلس تحتها، وأخذ يقرألم يشعر وائل بالوقت، وال أحس شيئا ... ساعات

لقد انتصف النهار، وما يزال . مما كان يدور حوله. إن أباه وأمه غارقا في الكتاب يقرأ بنهم ولذة

. وتابع . ولكنه لم يهتم لذلك سيفتقدانه إذا تأخر كثيرا. عندئذ طوى القراءة حتى مالت الشمس إلى المغيب

هذا البيت مطلع قصيدة جميلة للشاعر أبي الطيب المتنبي. )1(

130

الكتاب وضمه إلى صدره كأنه يضم كنزا صغيرا امتلكه فجأة، وعاد في صمت وشرود.

لم يسأله أحد أين كنت؟. كان أهله يعرفون شروده وحبه للعزلة أحياناوفي صباح اليوم التالي.. انطلق وائل بكتابه

العزيز إلى شجرة التوت، وواصل القراءة.وتوالت األيام.. والصغير يقرأ الكتاب ويعيده

حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب. ثم أخذ يجمع رفاقه الصغار في القرية، ويقص عليهم بعض الحوادث

والبطوالت العربية.كان اسم خالد بن الوليد يبهره، ويملؤه اعتزازا وكبرياء بماضي أمته العربية. لقد بدأ وائل يدرك

إدراكا عفويا أنه عربي، وأنه ينتسب إلى هذه األمة العظيمة التي ينتسب إليها خالد بن الوليد، هذا القائد

الذي لم ينهزم في معركة واحدة قط طوال حياته.كان اسم آخر يبهره أيضا، ويملؤه اعتزازا

وفخرا أكثر من سواه، وما أكثر أسماء األبطال التي هذا القائد الشاب، تهزه وتبعث النشوة في أعماقه! محمد بن القاسم الثقفي الذي قاد الجيوش الجرارة

بعبقرية عجيبة وفتح بالد السند البعيدة التي استعصت على غيره من األبطال، وما يزال ابن ست عشرة سنة، ابن ست عشرة سنة.. أكبر من يقود الجيوش بمهارة خارقة، ويفتح .. وائل قليالالسند، ويقيم العدل وينشر المساواة في تلك البالد الوعرة النائية. لماذا ال يعود اآلن لينقذ قرية وائل

الفقيرة البائسة، ويخلص هؤالء الفالحين من «اآلغا» ومن «الحكومة»التي تسانده؟

131

كان الصغير يلقي هذا السؤال على نفسه، وهو غارق بخياله في هذا الماضي العربي الرائع المجيد.أما الشخصية البطولية التي حاول أن يقلدها هو ورفاقه الصغار ـ وكانت أول مرة يحاول فيها تمثيل البطوالت ـ فقد كانت شخصية الفاتح العربي العظيم هذا الفاتح البطل الذي وصل بجنوده عقبة بن نافع.

إلى شاطئ بحر الظلمات ـ المحيط األطلسي ـ وخاض بفرسه في البحر حتى بلغ الموج عنق

الفرس، وقال كلمته الشهيرة وهو شاهر سيفه: «يا رب، لو لم يقف هذا البحر بيني وبينك لمضيت

مجاهدا في سبيلك إلى آخر الدنيا».قرأ وائل هذه الحادثة عشرات المرات، وقصها

على رفاقه أكثر من مرة. وفي ظهيرة يوم من األيام، انطلق األوالد جميعا إلى نهر العاصي هو عقبة بن نافع، وهم القريب، يتقدمهم وائل: كان الجميع يحملون أغصانا الجنود الفاتحون.

خضرا طويلة قطعوها من أشجار التوت، واتخذوها رايات وسيوفا وخيال في وقت واحد. كانت

األغصان الطويلة رمزا للعدة والسالح. ما يزال المشهد ماثال في ذاكرة الفتى الصغير. تقدم وائل في

67Fماء النهر مقلدا عقبة وقد شهر غصنه

األخضر في 1يده، وهتف هتاف القائد العربي القديم، وردد األوالد

من حوله الهتاف كلمة كلمة في قوة وحماسة وإيمان، وهم يشهرون أغصان التوت، ويلوحون بها كانوا جميعا مقتنعين ـ بدون أدنى تردد في الفضاء.

ـ أنهم قادرون على استعادة أمجاد الماضي العربي ـ

شهر غصنه: رفعه كما يرفع السيف استعدادا للقتال. )1(

132

وأنهم أبناء أولئك األبطال العظام، وأن نهر العاصي يمكن أن يكون بحر الظلمات بعينه في تلك

كانت هذه القصة، قصة عقبة بن نافع، اللحظات. كافية لتخلق من هؤالء الصغار جنودا مغاوير

مستعدين للموت، مستعدين للشهادة في سبيل كلمة . واحدة يقولها بطل

(3) ومرت األيام.. وتعاقبت الفصول على القرية

يأتي الشتاء الفقيرة التي ال تتجاوز بيوتها العشرين. بأمطاره الغزيرة، فيخوض الصغار في الطين..

ويأتي الربيع فتكتسي البساتين بالعشب والخضرة وتمتلئ حافات الدروب الصغيرة بألوان غريبة من وكانت شقائق النعمان أقرب هذه األزهار البرية.

األزهار إلى نفس الفتى الصغير وأحبها إليه. كانت األشجار المثمرة قليلة في القرية. ما عدا بعض البساتين التي يملكها «اآلغا». فقد كانت تغص

بأشجار الكرمة والبرتقال والتفاح. ولكنها أماكن محروسة حراسة شديدة، والناطور ساهر عليها، ال

. لم يكن األوالد يستطيعون أن تغفل له عينيتطاولوا على كروم «اآلغا»المثقلة بالثمر.. ولكنهم

كانوا بالتأكيد يشتهون هذه الثمار، ويتمنون لو أصابوا شيئا منها، وقد أعلنوا غير مرة رغبتهم في

اقتحامها على حين غفلة من الناطور، صاحب . ولكن وائال كان العصا الغليظة التي ال تفارقه أبدا

68Fيستهجن

هذه الفكرة، وإن كان يشتهي مثلهم في 1 قرارة نفسه أن يظفر بشيء من تلك الثمار اللذيذة.

يستهجن الفكرة: يراها سيئة غير مقبولة. )1(

133

وافق وائل على اقتحام شجرة مرة واحدة.. المشمش القريبة من الطريق. كانوا ثالثة... هو

واثنان من رفاقه الخفاف الحركة. لماذا يأكل «اآلغا»وحده المشمش؟ إنه ال يقدم شيئا للقرية. إنه

إن الفالحين هم الذين يزرعون، . ال ينفع أحدا . ويحرثون، ويتعبون من أجله، وهو قاعد مستريحال بأس أن ننعم . ليذهب هو وناطوره إلى الجحيممرة بالمشمش الذي تعب أهلنا فيه. هذا ما ردده وائل في نفسه عندما وافق على أن يشارك في

عملية االقتحام. لحظات... كانت جيوب األوالد . وبسرعة البرق مألى بالمشمش الناضر الشهي

انطلقوا عائدين، واختفوا عن األنظار.ال ينسى وائل على مدى الحياة غضبة أبيه الشيخ

الهادئ الوديع في ذلك اليوم. ما كاد الصغير يدخل البيت وجيبه الواسع المشقوق في الجانب األيمن من القنباز ممتلئ بالثمر، حتى لمحه أبوه، وعرف كل شيء. وانهالت يد األب الهادئ الوديع بصفعة قوية

على وجه وائل، ثم امتدت إلى الجيب الممتلئ، وراحت تفرغ ما فيه بغضب شديد، وتلقي به خارج البيت، وسقطت بعض حبات المشمش على األرض

فأخذ أبو وائل يدوسها بقدميه في عنف وهو ينذر : الصغير قائال

«حذار أن تعود إلى مثلها... حذار ثم حذار». كانت تلك هي المرة األولى واألخيرة التي أغضب

فيها وائل أباه الطيب الهادئ الرقيق في حياته كلها.. وإنه ليأسف على ذلك ويود لو يعتذر عن تلك

134

الحادثة كلما الح خيالها في أعماق الذاكرة حتى اآلن.

(4) 69Fذهب أخو وائل الكبير إلى المدرسة في المدينة

1 .استطاع الشيخ المتعطش للمعرفة أن يوفر بعض النقود من نسخ الكتب بخطه الجميل، ومن بعض

الهبات الزهيدة التي كان أولياء التالميذ يقدمونها له لقاء تعليم أوالدهم في الكتاب.

وراح وائل يحلم بالمدينة... والمدرسة. حدثه أخوه طويال عن األساتذة، والمدير، والدروس

المنتظمة والجرس الذي يقرع في بداية كل درس وفي نهايته، والتالميذ الذين يجلسون على مقاعد،

لكل مقعد درج يضع التلميذ كتبه وأدواته فيه. حدثه عن اللغة العربية، واللغة األجنبية التي يبدؤون

تعلمها إلى جانب لغتهم العربية، والكتب التي يستطيعون أن يستعيروها من مكتبة المدرسة متى

شاؤوا ويقرؤوها ثم يعيدوها إلى مكانها. وكان أخوه يصطحب معه بعض هذه الكتب إلى القرية في أيام

اإلجازات والعطل المدرسية. ديوان البحتري، ديوان أبي فراس الحمداني، األجنحة المتكسرة

لجبران خليل جبران، العبرات والنظرات للمنفلوطي... كانت تلك بعض الكتب التي قرأها

ولكن ديوان المتنبي، شاعر العرب وائل من أخيه. األول ـ في رأيه ـ ظل رفيقه األول، ومرجعه الذي

ال يضاهيه شيء عنده.

المقصود هنا: مدينة أنطاكية. )1(

135

لماذا ال يذهب هو أيضا إلى مدرسة المدينة مثل أخيه؟ سؤال كان يؤلم الصغير ويحز في نفسه كلما مر بالبال، ألنه يعرف الجواب. كان الوالد الطيب

الوديع يهز رأسه في بعض األحيان ويقول في نبرة حالتنا ال تساعد حزن لم تكن لتخفى على الصغير: «

اآلن يا بني على إرسال ولدين إلى المدينة. ربما تغلبنا على هذه الصعوبة في وقت قريب إن شاء هللا

وعندئذ ستلحق بأخيك.. وتدرسان معا».ويسكت الصغير على غصة في صدره، ويكتفي بجواب أبيه الذي يترك نافذة األمل خضراء مفتوحة

على المستقبل، ثم يحمل دفتره الصغير وكتابه وينطلق إلى البستان.

(5) - سلمى.. سلمى.. تعالي، اسمعي. كتبت اليوم

كانت سلمى، ابنة عم وائل، . نظمت قصيدة. شعراطفلة في التاسعة أو العاشرة. في سن الصغير تقريبا، شقراء بعينين خضراوين تشعان براءة

. أعاد وائل هتافه بصوت مؤثر خفيض كي وصفاء: تعالي. قلت لك.. تعالي اسمعي. ال يسمعه أحد

كتبت اليوم شعرا أريد أن أقرأه لك.كانت الشقراء الصغيرة تلعب تحت شجرة التين القريبة من بيت وائل ـ أشجار التين والتوت كانت

هي األشجار السائدة في القرية ـ وقفزت بخفة عصفور من عصافير الدوري حتى صارت إلى

جانب شاعرها الصغير الذي حمل إليها مفاجأته الجديدة قائلة: «كتبت شعرا مثل هذه األشعار التي

136

تحفظها ويقولها أبوك؟ أسمعني.. أسمعني .. يا وائل».

قالتها في لهفة وانفعال، وصدرها الصغير يعلو ويهبط، وهي ما تكاد تصدق أن وائال أصبح في

مقدوره أن يقول كالما عاليا مثل الكالم الذي يحفظه من الكتب، ويغنيه مع أبيه في السهرات التي يجتمع

فيها الكبار والصغار.كانت سلمى قد حفظت بعض السور في الكتاب عند عمها الشيخ أحمد، وتعلمت كيف تكتب بعض

الكلمات، وسمعت عشرات المرات وائال يغني قصائد المتنبي في أمسيات السمر، بتشجيع ودعوة

ولكنها لم تصدق أن فتاها الصغير يستطيع من أبيه. هو أن يكون شاعرا في مثل هذه السن المبكرة. كان

الشعر كالما عاليا جدا في نظرها، وفي نظر أهل كان الجميع ينظرون إليه نظرة إجالل . القرية جميعا

فال عجب أن تتأثر وإكبار تصل إلى حد التقديس. الصغيرة بهذا الجو، وأن تحمل النظرة ذاتها إلى هذا

الكالم الجميل الرفيع الذي يسمونه الشعر، ولو لم . تكن تفهم منه شيئا

وفتح وائل ورقته البيضاء التي مألتها الخطوط السود ـ الحبر األسود هو الحبر المفضل في الكتاب ـ وأخذ ينشد قصيدته الجديدة التي نظمها في صباح ذلك اليوم، تحت شجرة التوت الضخمة التي تظلل

باحة الدار. كانت القصيدة تتحدث عن هموم الفالحين، وبؤسهم وكفاحهم في سبيل اللقمة.؟ ال

يدري وائل لماذا اختار هذا الموضوع قبل أي كانت تحمل بذور الثورة على هذا موضوع آخر.

137

الشقاء الذي ال يعرف أحد كيف حل بهؤالء وال يجرؤ أحد على أن يناقش أسبابه. المساكين... كان وائل أول شرارة تنفجر بصورة تلقائية ناقمة على هذا البؤس، ساخرة من الفقر. كانت قصيدته

الجديدة تحرض الفالحين بصراحة على أن يتمردوا، ويرفضوا بؤسهم وشقاءهم، يرفضوا

التي تسانده وتقف إلى جانبه «اآلغا» و«الحكومة»ضدهم. كانت مفاجأة... بكل معنى الكلمة. مفاجأة . كل لسلمى الصغيرة التي لم تدرك من األمر شيئاما همها وأثار انتباهها أن رفيق طفولتها، وفتاها

. الصغير، قد أصبح فجأة شاعرا70Fوختم الشاعر الصغير قصيدته

، وأحس بالطفلة 1المدهوشة تطوق عنقه، وتنهال عليه بقبالتها تقديرا

. ثم تتركه وتركض إلى بيت وائل، وهي ال وإعجاباحتى إذا ما وقعت عيناها على تلتفت إلى شيء.

عمها الطيب الرقيق صاحت في دهشة ومحبة:«عمي.. وائل كتب شعرا، وقرأه لي اآلن. شعر

مثل الذي تقوله أنت وتغنيه».فوجئ األب الهادئ بالنبأ، وعلت وجهه ابتسامة

غامضة. ثم قال للصغيرة:وأين هو اآلن؟ اذهبي وناديه يا سلمى. قولي »له: أبوك ينتظرك لتقرأ له شعرك الجديد». وجاء

وائل بعد قليل يحمل ورقته البيضاء المألى بالخطوط السود، وقدمها لوالده، وأطرق صامتا

ما يزال الشاعر يذكر منها هذين البيتين: )1(

أال يا ايها الفقراء موتوا لكم في جنة الفردوس قوت لقد بنيت لكم ثم البيوت وكوثركم بها يجري شهيا

138

ينتظر رأيه في الموضوع الذي أشرق فجأة في حياته، وفتح صفحة جديدة أمامه.

ومرت لحظات.. وهز أبو وائل رأسه في سرور يمتزج باالعتزاز وقال للصغير: «ستكون شاعرا يا

بني. إنك منذ اآلن أحسن مني».ثم أعطاه ورقته في هدوء، وربت على كتفه

ستكون شاعرا يا وائل. إجمع .. وهو يتمتم: «شاعر كل ما تكتبه في دفتر خاص، وال تضع منه شيئا».

(6) في العام نفسه... دخل وائل المدرسة.. أعني

مدرسة المدينة. أخوه الكبير هو الذي اصطحبه إلى غرفة اإلدارة.

استقبله المدير ببشاشة، وقاده فورا إلى الصف أعتقد أنك تستطيع أن تكون من : الرابع قائال

المبرزين يا بني في أي صف وضعناك.كان أخوه الكبير قد تحدث إلى مدير المدرسة

عنه من قبل. وفي حفاوة بالغة، أمسك المدير المهيب الطلعة بيد القروي الصغير، وقاده إلى منبر

الصف، وقال للتالميذ، وعيونهم عالقة بالوافد الجديد الذي يحمل دفترا أزرق صغيرا في يده:

هذا رفيقكم، جاء من القرية ليدرس عندنا. إنه »شاعر يحمل ديوانه الصغير، وسوف يسمعنا بعض

«أغاريده»اآلن.سر وائل سرورا عميقا بهذا التقديم الذي ال

يظفر به تلميذ غيره، وأعجبته كلمة وعدها تكريما له، وتقديرا لشاعريته من «أغاريد»هذا الرجل المهيب الذي يسمونه المدير. ومن دون

139

أن يفتح دفتره، راح يقرأ شعره بصوت عال، ونبرة . واثقة

كان النبأ قد انتشر في في صباح اليوم التالي.. المدينة كلها أن شاعرا صغيرا من القرية قد دخل

البارحة المدرسة، وألقى فيها شعرا، وأدهش األساتذة والتالميذ بجرأته ولغته الجميلة المتينة.

قال معلم اللغة العربية للمدير وهو يمسك بيد وائل: «البد أن ندعوه غدا إلى «نادي

سيتلقاه الشباب العروبة»ليلقي فيه شيئا من شعره. هناك بحماسة بالغة، وسوف يسر به ـ األستاذ ـ

: نادي كثيرا». وشرد القروي الصغير قليالالعروبة.. الشباب.. األستاذ.. كلمات جديدة ترن في سمعه أول مرة منذ دخل المدينة، واستقر في غرفة

متواضعة مع أخيه الكبير في بيت أحد األصدقاء.سيكون شيئا رائعا أن يقف في «نادي

العروبة»هذا ويلقي قصيدة من قصائده.في مساء اليوم التالي.. كان «النادي»الذي سمع

اسمه من معلم اللغة العربية يغص بجمهور غفير من المواطنين معظمهم من الشباب والطالب. وما هي إال لحظات حتى انطلقت الحناجر تهدر هدير

العاصفة بهذا النشيد الذي سمعه للمرة األولى.. ربما كان أول نشيد سمعه في حياته تهدر به حناجر

: جمهور متحمسنحن الشباب

لنا الغد

ومجده

المخلد نحن الشباب

140

لنا العراق والشآم

ومصر والبيت الحرام نمشي على الموت

ا الز

.. إلى األمام إلى األمامنبني وال نتكل

نفنى وال ننخذل

.. والعمل لنا يد

.. واألمل لنا غدنحن الشباب

وواصلت الحناجر الهادرة نشيدها حتى النهاية وشعر وائل بقشعريرة من الفرح واالعتزاز تجتاح

.. العروبة التي كان يحفظ كيانه. هذه هي العروبة إذاأشعارها، ويقرأ أخبار أبطالها.. لقد عرفها اليوم.. رآها وجها لوجه تتجسد أمامه في هذا اليوم فقط. النشيد العربي الساحر، وفي هذه الحناجر القوية

الهادرة.نحن إذا لسنا قرية وال مدينة فحسب، نحن

نحن خالد العراق والشام ومصر والبيت الحرام.. بن الوليد، ومحمد بن القاسم وعقبة بن نافع.. والفرس الذي خاض البحر حتى عنقه.. بحر

الظلمات... البد أن ألقي اليوم قصيدة ونحن كل هذا إذا

لكنني سأكتب غدا قصيدة عن عن القرية.. «العروبة»أجمل وأقوى من كل ما كتبت.

وألقى وائل شيئا من شعره في ذلك المساء.. وحمله الشباب على أكتافهم وصافحه

«األستاذ»الذي كان الناس يجلونه، ويصغون إليه . وعرف وائل بعد أيام في محبة ولهفة عندما يتحدث

أن «األستاذ»هو قائد ثورة عربية وأن «نادي

141

هو مقر هذه الثورة التي أخذت نارها العروبة»تسري في المدينة والريف. وأن بلده الصغير مهدد

باالغتصاب من األجانب. ولذلك كانت الثورة، وكان «األستاذ».

فتح وائل الصغير عينيه على المأساة، فجأة.. مأساة أمته العربية.

كانت مدرسته التي يتعلم فيها معقال من معاقل التمرد، واالنتفاضة ضد المؤامرة التي كانت تحاك

لوطنه الصغير في الظالم.من رفاقه الكبار تعلم أن وطنه العربي كبير،

ولكنه مجزأ ممزق، يرزح كله تحت االحتالل واالستعمار األجنبي.

إنه يمتد من بغداد إلى تطوان.. ولم يكن يعرف أين تقع تطوان هذه؟ إلى أن شرح له أستاذه ذات

يوم النشيد اآلخر الذي يغنيه الشباب في «نادي العروبة»والذي يقول:بالد العرب أوطاني

من الشام لبغدان

ومن نجد إلى يمن

إلى مصر فتطوان وعندئذ عرف أن تطوان مدينة تقع في أقصى

المغرب العربي، وأنها ال تبعد كثيرا عن تلك البقعة التي خاض فيها عقبة بفرسه ماء البحر وقال كلمته التاريخية المشهورة، ومثلها هو ورفاقه على ضفة

هل يستطيع أن يصل إليها لو نهر العاصي. ولكن... أراد؟

إن وطنه الكبير، الكبير، مجزأ، ممزق، يحتله مستعمرون أجانب، يمنعونه من أن يتحرك في أي

142

مكان أو يزور أية بقعة عربية من أرض اآلباء واألجداد إال بإذن منهم.

يا للمجرمين األنذال!سيكون منذ اليوم مع رفاقه الثوار، ولو كان

صغيرا، وسيقاتل طوال حياته ليستعيد وطنه الكبير من مغتصبيه.

«تحيا العروبة.. تحيا الوحدة العربي◌ة. يسقط االحتالل».

كان هذا هو الهتاف الذي تعلمه من رفاقه الكبار، وهم يشقون به عنان السماء كلما اجتمعوا في «نادي

. العروبة»أو خرجوا في مظاهرة(7)

هل سمعت النبأ؟ البارحة اعتقلوا «وائل.. «األستاذ» وعددا كبيرا من الشباب في «نادي

العروبة»وزجوا بهم في السجن».همس غسان في أذن رفيقه بهذه الكلمات،

والتالميذ في باحة المدرسة والجرس يدعوهم إلى دخول الصفوف. كانت سحابة من الغضب واألسى

تمأل الباحة، وتنسحب على وجوه الجميع مديرا : وأساتذة وتالميذ. وأردف غسان

المدينة تستعد للقيام بمظاهرة ضخمة احتجاجا »إنهم سيهاجمون السجن، . يقولون: على هذه الحادثة

ليخرجوا منه «األستاذ»ورفاقه المعتقلين بالقوة. هيئ نفسك لقصيدة وطنية نارية، تلقيها في

المظاهرة. اليوم يومك يا وائل».كان صبيا رائعا كان غسان صديق وائل الحميم. من المدينة، نحيال، رقيق العود مثله. يحب المطالعة

143

ويطالع بال انقطاع حتى ليحرج والشعر، يقرأ.. . معلميه أحيانا ويدهشهم بكثرة ما يقرأ من كتب

وكان يعير صديقه الشاعر الصغير كل ما تصل إليه يده من هذه الكتب ليطالعها.

سأل وائل: «ومتى ستبدأ المظاهرة؟».. أال ترى؟ الجميع قال غسان: «اآلن بعد قليل

يستعدون لذلك؟»أجاب وائل: «في خالل ساعة فقط سأنظم

قصيدة حروفها من نار، وسألقيها أمام السجن»... كانت شوارع المدينة تغص بعد أقل من ساعة

باآلالف من المتظاهرين الغاضبين: شباب، ومعلمون وتالمذة، وعمال، وفالحون، ونساء، وشيوخ وأطفال. المئات منهم أتوا من الريف المجاور. كيف سرى النبأ، ووصل إليهم بهذه

السرعة؟ ال أحد يدري.واندفعت الجماهير الساخطة في اتجاه السجن

الذي يقبع إلى جوار دار الحكومة. وانطلقت الهتافات تشق الفضاء: «تحيا العروبة.. تحيا

. العروبة.. تعيش الوحدة العربية.. يسقط االستعماريسقط االحتالل». أمام باب السجن وقف وائل وألقى

قصيدته في الجماهير. كان رفاقه الكبار يحملونه .. على أكتافهم حتى يراه الناس ويسمعوه. وفجأة

لعلع الرصاص فوق رؤوس الحشد الغاضب لقد أمر الحاكم األجنبي بإطالق النار على المزمجر.

. المتظاهرين دون تمييزوصاح شاب من الحشد: «سقط كمال، قتل كمال

يا شباب».

144

ورأى الجميع فتى صغيرا يهوي من على جدار السجن الخارجي وهو يحاول أن يتسلقه ويقفز إلى الداخل، يهوي في باحة السجن مضرجا بدمه وهو

يهتف: «تحيا العروبة.. يسقط االحتالل».وزمجر الجمهور الغاضب، وأطبق المئات على باب السجن فحطموه، ثم اندفعوا إلى الباحة الداخلية بين أزيز الرصاص، وهم يحملون شهيدهم الشاب، ويحاول بعضهم إسعافه ولكنه كان قد فارق الحياة. . وسكت الرصاص فجأة، وساد صمت رهيب

الحاكم األجنبي نفسه يطل من شرفة السجن، ويعد المتظاهرين بإطالق سراح المعتقلين على الفور،

شريطة أن تتفرق المظاهرة، ويسود النظام. وخرج األستاذ ورفاقه من السجن بعد لحظات، وحملتهم

الجماهير وطارت بهم إلى «نادي العروبة». وكان يوم من أيام الثورة ال ينساه وائل ما عاش.

(8) أخمدت الثورة بعد عامين من اشتعالها في

المدينة والريف. وقرر األجنبي المستعمر اقتطاع بلد وائل الصغير من جسد األرض العربية وتقديمه هدية للغرباء. كانت مخالب الشر أقوى. كان وطن

وائل الكبير، الكبير مجزأ، ممزقا، يرزح تحت االحتالل األجنبي. وكانت األمة العظيمة التي أنجبت خالدا، ومحمد بن القاسم، وعقبة بن نافع، تبحث عن

.. هو بناء طريق الخالص.. والخالص هو الوحدة الدولة العربية الكبرى.

هكذا تعلم وائل في بلده الصغير الذي اقتطعوه من جسد األرض العربية، وقدموه هدية للغرباء.

145

وترك وائل مدينته وقريته الصغيرة، وانتقل إلى مدن عربية أخرى ما تزال تقاتل وتثور. انتقل هو وعشرات من رفاقه الطالب وقرروا أن يواصلوا

الكفاح على األرض العربية الواسعة بحثا عن وطنهم رفضوا أن يسموا ذلك هجرة، ألن الضائع الكبير.

اإلنسان ال يهاجر في أرض آبائه وأجداده. إنه ينتقل فيها من جبهة إلى جبهة.. ومن خندق إلى خندق..

ويواصل المعركة في سبيل الهدف النبيل العظيم. قرر هؤالء الشباب أن يكونوا رسل العروبة.. رسل الوحدة

في كل مكان... تركوا أهلهم وذوي قرباهم وراءهم، وانطلقوا في هذه الدنيا العربية متشبثين بحلمهم

الضخم: بعث األمة العربية، قوية حرة موحدة، بعد عصور طويلة من الركود والجمود والضياع.

فتح وائل عينيه على مصائب ونكبات كثيرة بعد ذلك حلت بوطنه الكبير، وبأمته العظيمة الصابرة.

ولكنه كان يزداد إيمانا على مر األيام بأن هذه األمة أقوى من الموت، وأنها ما تزال قادرة على تجديد

شبابها، قادرة على التضحية والبذل والعطاء، قادرة على أن تمحق االحتالل والمحتلين، والعدوان والمعتدين، تحت أقدامها الصلبة، الراسخة في

أعماق هذه األرض.. .. وتشرد كثيرا كبر وائل.. وتعذب كثيرا

وبقي متشبثا بحلم الطفولة العظيم الذي كبر معه وصار أوضح وأشد إشراقا في ذهنه.

... وكتب له قصائد وأغاني ال تحصى. غناههذا الحلم الرائع الذي يستحق أن يهبه اإلنسان

وجوده، ويقف له حياته: حلم الوطن العربي الموحد

146

القوي، الذي يشاطر اإلنسانية كفاحها يأخذ منها، ويعطيها الخير والحب والضياء.

قد تتكسر موجة على صخور الشاطئ وتموت. ولكن البحر باق ال يموت.

واألجيال العربية الجديدة قادمة كموج البحر.. والوطن الكبير الذي يبحث عنه وائل... قادم

كالشمس.واألمة المنكوبة العظيمة.. قادمة إلى الحياة.. تشاطر اإلنسانية كفاحها.. قوية، حرة، موحدة..

وأهدافها النبيلة، تأخذ منها، وتعطيها الخير، والحب، والضياء.

1977دمشق: آذار

147

حاشية:... ال القصة وقائع وأحداث من طفولة الكاتب

أثر للخيال فيها. أشخاص القصة الحقيقيون:

وائل: سليمان العيسى أخوه الكبير: محمد العيسى األب: الشيخ أحمد العيسى

الشيخ صالح الغانم مدير المدرسة: معلم اللغة العربية: محمد الغانم

األستاذ: زكي األرسوزي قائد االنتفاضة العربية في لواء إسكندرونة

غسان: صدقي إسماعيل كمال: الشهيد اللوائي الشاب كمال مقنص

ترجمت القصة إلى الفرنسية زوجة الشاعر *الدكتورة ملكة أبيض، ونشرت بالعربية والفرنسية

في كتاب «أوراق من حياتي».

148

هذا الصوت.. أيقظ قريتنا

«نشرت في الملف الخاص الذي أصدرته مجلة «الموقف األدبي»عن

المناضل الكبير المرحوم زكي األرسوزي».

نهر العاصي على قيد خطوات من بيتنا في

«بساتين العاصي». بيني وبينه دقيقتان أو ثالث إذا أردت أن أخلع حذائي الصغير، الجديد الذي اشتراه لي والدي من أنطاكية منذ أيام.. وأسلم قدمي للتراب الندي يغطيه عشب أخضر ما يكاد يجف العام كله..

وأنطلق راكضا إلى الماء.. بعد أن أحمل طرف ثوبي بيدي اليمنى، وحذائي الجديد باليد اليسرى.

لشد ما كنا نحرص نحن صغار القرية المحظوظين على هذا الحذاء األحمر الجديد نضعه في أقدامنا

مرة.. وفي جيبنا مرات.. وإال فأي ولد عاقل يتلف حذاءه األحمر بيوم أو يومين؟

لقد سبقني رفاقي الصغار إلى النهر.. إلى السباحة.

وليس لي أن أتأخر عنهم، أو أبطئ عليهم أنا السباح الماهر الذي طالما تحدى ماء النهر العميق

فقطعه أربع مرات ذهابا وإيابا من الضفة إلى الضفة.

كان صوت محمد ابن عمي آخر أصوات من فرسان القرية الصغار التي انطلقت «الكوكبة»

149

هتف بي وهو راكض دون أن يدير إلى العاصي. وجهه:

- ال تتأخر.. سنسبح اليوم في دوار «الصفصافة».

اسم ال يخلو من رهبة في ودوار «الصفصافة» نفوس فرسان القرية الصغار.. إنه أعمق وأخطر موضع في «العاصي» تناهت إلينا معرفته. وبلغ فالتفت إلي وهو يناول البناء الهتاف سمع والدي.

حجرا آخر يضعه ويركزه إلى جانب رفيقه في «المدماك». قال في هدوئه الذي لم يفارقه مرة:

- دوار «الصفصافة»؟ ال تذهبوا إليه. ستغرقون يوما وأنتم تقومون بهذه «الحماقات»خفية عنا. ال

تذهب إلى «العاصي» اليوم!تحت شجرة التوت التي تظلل ساحة الدار وقفت

أتابع بخيالي «كوكبة الفرسان»الصغار .. صامتاوهي تعدو.. وتتصايح.. حتى تتوارى هي

وضوضاؤها خلف األشجار.. امتثلت لألمر الهادئ الذي أصدره أبي وامتزج فيه الحزم بالرقة..

وشردت لحظات أعبث بورقة والقسوة بالحب.. توت خضراء.. اقتطفتها ورحت أمزقها بين

أصابعي دون أن أدري.كان ذلك في صباح يوم من أيام تموز. الحر

حارتنا الصغيرة شديد، ولكن «بساتين العاصي» التي انتثرت بيوتها العشرون بين األشجار، وعلى

مقربة من النهر، لم تكن لتخشى حر الصيف في يوم من أيام الصيف كله.

150

لقد أحاطت بالقرية جبال ثالثة.. وتركت لها نافذة من الغرب ينسرب منها النسيم عذبا باردا مهما حتى إذا بلغت األنسام ذروة كانت درجة الحرارة..

شجرة التوت التي تظلل ساحة بيتنا انحدرت إلى األرض كأنما تريد أن تستريح قليال من عناء

كنت أحس أصابع النسمة الباردة على الرحلة. وجهي وأنا شارد في الظل.. أمزق أوراق التوت

الخضراء بيدي دون أن أدري.«دوار الصفصافة.. ال تذهبوا إليه! ستغرقون

يوما وأنتم..».ظلت أصداء العبارة التي أرسلها أبي في هدوء

القديسين تتجاوب في سمعي فترة من الوقت.كوكبة الفرسان «العفاريت»تسبح اآلن في

«الدوار»الخطر المحظور.. ما في ذلك شك.. إني أكاد أراهم.. رفاقي الصغار.. محمد وصالح ونديم

تصغير اخترعناه لحسن».. وعلي وحسيسون «إنني أرافقهم بخيالي قفزة قفزة.. بدقيقتين صاروا على الضفة.. ألقوا بثيابهم على الحصى.. برشاقة

عصفور يلقي قشة من منقاره.. ثم انغمسوا عراة في الماء. «المايوه»اسم غريب سمعنا به بعد أعوام من

الثقافة والتحصيل. الشمس في الضحى.. و«العفاريت»يسبحون.. و«الحماقات»ستتصل وتتكرر كل يوم.. ولو أنذروا كل ساعة بأنهم

سيغرقون.تفتتت ورقة التوت الخضراء في يدي.. استحالت

. ويأتيني صوت مزقا صغيرة وأنا ما أزال شاردا أبي مرة أخرى في شيء من العتب هذه المرة:

151

.. .. قم - «قاعد هكذا.. في الظل.. ال تعمل شيئاناولني هذا الحجر الصغير.. ليس .. ساعدنا قليال

فيكم أي نفع.. هذا الجيل الجديد».ألقيت بقايا الورقة من يدي.. ونهضت إلى

.. ثم الحجر الذي كان قريبا مني.. ورفعته بين يديوقفت أنتظر من يتناوله مني، وأنا ما أزال على

شرودي.كنا نبني بيتنا الجديد في القرية.. «العلية» ذات الطابقين المتواضعين.. يغطيهما سقف من القرميد

األحمر.عشرون أو ثالثون من رجال القرية يأتون كل يوم إلى مساعدتنا، بما فيهم البناء، حتى يتم البناء

يأتون تبرعا لمساعدة الشيخ أحمد.. الجديد.. أستاذهم وأستاذ أبنائهم الذي أنفق عمره ويعلمهم، ويعلم أوالدهم القرآن الكريم.. والخط واإلمالء..

وعمليات الحساب األربع للمتفوقين.. قبل أن تعرف قريتنا المدرسة أو يسمع بها ريفنا المجاور.

كان بناء «العلية» يشارف النهاية في ذلك اليوم الحار من تموز.. القرية كلها تقدم المعونة والنجدة

يرد أحيانا أربعة كل صباح.. والشيخ أحمد والدي.. أو خمسة من الرجال يزيدون عن الحاجة قائال

بابتسامة القديسين:أمدكم هللا بالعافية يا شباب.. يكفينا اليوم ما -

ربما احتجنا إلى سواعدكم المفتولة غدا أو عندنا.. بعد غد.

البناء الوحيد الذي أتقن فن العمارة الشيخ علي.. في الضيعة.. والذي استفاضت شهرته في رصف

152

الحجارة، وشدها بعضها إلى بعض بالطين الممزوج «بالقصرين».. حتى بلغت سمعته القرى

كان على كتف الجدار الذي ارتفع ثالث المجاورة.. قامات.. يقص على زمالئه العمال قصة «السفر

التي أعادها بالصوت الجهير، وبالتفصيالت برلك» ذاتها، للمرة المائة بعد العشرين. الشيخ أحمد يسمع القصة وهو يناوله بعض الحجارة، ويبتسم من حين

إلى حين.. كأنما يريد أن يقول لي: «ال تأخذ بكل ما يقوله عمك الشيخ علي.. فالقصة ال تخلو من خيال خصب ومبالغات.. كلنا ساقونا إلى «سفر برلك»..

ثم عاد من كتبت له وتجرعنا هذه الكأس المرة. العودة منا، ليتخيل، ويقص ما يشاء..».

ارتفعت الشمس.. حتى تكبدت السماء.. وأخذت األكف المنهمكة في العمل تمسح عن الجباه حبات

.. وشباب العرق. كانت «العلية»ترتفع رويدا رويداالحارة من حولها أشبه بخلية النحل، يؤدون عملهم كأنما هو واجب مقدس، أو دين في أعناقهم يحبون من صميم قلوبهم أن يوفوه، يصغون مرة في غير

اهتمام إلى قصة الشيخ علي التي حفظوها عن ظهر قلب، وينصرفون عنه مرة إلى حديث خاص

يتبادلونه فيما بينهم: «فاطمة بنت شعبان.. أحلى بنات القرية.. يحوم حولها «حامد».. الخطبة ستتم لم ال؟ أنه زين بعد أيام.. سيظفر بها «الملعون». شجاع، كريم، ما في عينيه شيء شباب الضيعة..

ال تنسوا أنه صارع «علي من هذه الدنيا. ثم.. الخاروف»في العرس الماضي فصرعه في

153

أمام جميع الحاضرين.. وزغردت له الساحة.. الصبايا.. ومن بينهن فاطمة..».

كان حديث حامد وفاطمة يجتذبني.. ويثير اهتمامي أكثر من قصة عمي الشيخ علي التي

استظهرتها كغيري لكثرة ما ترددت على مسمعي.فال عجب أن أتظاهر بالتعب.. وانصرف إلى ركن مجاور.. التقط كل ما يصل إلى سمعي من

كان الحديث يدق بيديه حديث الرجال المهموس.. أبواب الدنيا الصغيرة التي ارتضيتها لنفسي.. دنيا

ربما تحولت العبارات الحلوة الشعر واألحالم. المقتضبة إلى قصيدة أكتبها اليوم قبل أن أنام..

ستكون قصيدة غزل.. تروي قصة فاطمة وحامد.. يتخيل فيها شاعر الضيعة الصغير كل ما يمكن أن يجول في خاطر هذين الشابين العاشقين.. دون أن

يدري أحد بما أعمل.الشمس تتكبد السماء.. واألكف المنهمكة في

العمل تمسح عن الجباه حبات العرق.. .. و«العلية»الصغيرة ترتفع رويدا

وفجأة.. يصل «عبد هللا»عائدا من المدينة.. من أنطاكية.

لم يعرج على بيته القابع في طرف «بساتين العاصي» كالمعتاد. وإنما توجه على الفور.. إلى

حيث يعمل الرجال.. إلى «العلية»التي تبنى.غير األنباء العادية كان في وجهه نبأ جديد..

التي ألف أهل القرية سماعها من كل من يذهب إلى المدينة قبيل الفجر.. ويعود منها ظهرا أو بعد

154

فلم تكن أنطاكية لتبعد عن قريتنا الصغيرة الظهر.. أكثر من ساعتين أو ثالثا مشيا على األقدام..

ومع ذلك فقد بكر «عبد هللا»في العودة هذا اليوم.

البد أنه يحمل في جعبته شيئا جديدا هذه المرة.. شيئا جديدا لم تألفه «بساتين العاصي» من قبل..بل لم يألفه هذا الريف الساكن، النائم في أعماق

التخلف والظالم.. منذ عهود طويلة.. من التخلف والظالم.

كان «عبد هللا»فتى في الثانية أو الثالثة والعشرين.. في سمرة وجهه نضج وهدوء يميزانه

عن وجوه أقرانه جميعا من الشباب. كان في نظرته شيء من العمق ـ أو هكذا كان يخيل إلى شاعر

القرية الصغير ـ لم أكن ألمحه في نظرات واحد من أهل «بساتين العاصي».. وما جاورها. كنت أحبه

ولعله أول إنسان في القرية قرأت عليه عددا .. كثيرامن قصائدي التي كنت أكتبها سرا، وأخفي معظمها عن الجميع.. حتى عن والدي.. الذي كان أستاذي لشد ما أخذني بين ذراعيه، ورفعني عاليا، األول.

ثم قال لي في ثقة واعتزاز:أنت شاعرنا الكبير في المستقبل.. أنت شوقي -

الصغير.لم يكن يعرف من شعراء العربية اسما أضخم أليس هو أمير الشعراء، وأشهر من اسم شوقي. وصاحب قصيدة «يا جارة الوادي»التي يغنيها

مطرب الملوك واألمراء محمد عبد الوهاب.. ويقلده

155

في أدائها «عبد هللا»نفسه كلما راق له أن يغني ويطرب؟

بالرغم من أن لم يكن «عبد هللا»قد تزوج.. معظم شباب الضيعة يتزوجون قبل أن يبلغوا

العشرين.كان هناك شيء ما يشغله أبدا عن حياة البيت

واألسرة واالستقرار.. شيء لم يكن هو نفسه ليعرفه أو يسبر أغواره وخفاياه.

لم يكن أحد من شباب الضيعة لينافسه في وسامته ورجولته غير صديقه األثير حامد. حامد..

هذا العاشق المسكين الذي تكفي نظرة من صبية حلوة لتذيبه. أما «عبد هللا»فإنه لم يكن يرى في مثل أكثر من عبث حلو ال يليق بالرجال هذه «األشياء»

أن ينفقوا فيه كل وقتهم، وأن يولوه همومهم كلها. وهتف أحدهم:

- لقد بكر «عبد هللا»في العودة هذا اليوم..هات ما في جعبتك من أخبار خير أن شاء هللا! -

البلد.قالها الشيخ علي.. وهو يجثم فوق كتف الجدار،

ويرص حجرا جديدا إلى رفيقه في «المدماك».. ويضربه ضربات خفيفة بمطرقته ليركز ويستقر

على الخيط المشدود.. حسب األصول.حدثنا عن المدينة. خير يا سيد «عبد هللا»! -

كان في نيتي أن أنزل اليوم إلى أنطاكية.. لوال - الواجب..

يقولون إن الحالة غير مرتاحة في هذه األيام.. -

156

- البلد «مخبوطة»وتالميذ المدرسة يخرجون إلى الشوارع وهم يهتفون بأصوات عالية.. عاش

يحيا األستاذ. العرب. تحيا العروبة.. شاهدت ذلك بأم عيني عندما هبطت المدينة في -

األسبوع الماضي ألبيع «سحارتي التين».في طرف الشارع اصطدم التالمذة العرب

وأخذوا يتراشقون بالحجارة.. بجماعة من األتراك.. ثم ما لبثت معركة الحجارة أن تحولت إلى معركة برصاص المسدسات. كان هؤالء التالميذ الصغار

يهجمون كالسباع على رجال أكبر وأقوى منهم. تمنيت من صميم قلبي لو أشاركهم القتال، فأرمي

بضعة أحجار معهم.. لوال حماري و«سحارتا اللتان غلتا يدي.. التين»

حمارك أرجل منك يا أبا علي.. لو - صدقني.. تركته لقاتل وحده.

كان الرجال يتبادلون هذه التعليقات، ويقاطع بعضهم بعضا حتى لتختلط العبارة بالعبارة، في

سرعة ومن غير أن يسمع الواحد ما يقوله اآلخر. ولم يكن الحديث ليخلو من نكتة الذعة أو ضحكة

ساخرة.لم يكن «عبد هللا»، حتى هذه اللحظة، قد فتح

ما عدا تحية ألقاها فمه بكلمة، أو نبس ببنت شفة.. عند وصوله في جد وهدوء.

وفجأة.. قطع لغط المتحدثين..اتخذ مكانا له في ظل شجرة التوت التي تكاد

وجلس على حجرة كبيرة تغطي ساحة الدار.. مستطيلة أعدت لتكون درجة من درجات البيت

157

ثم تناول من جيبه ورقة كبيرة سمراء اللون الجديد.. مطوية بعناية..

. كان أحد وجهي الورقة مطبوعا واآلخر فارغاوهتف بالحاضرين: نشر الورقة بين يديه..

تعالوا.. اسمعوا هذا المنشور..تعالوا.. أقرأ عليكم النداء الذي وجهه األستاذ

زكي األرسوزي إلى أخوانه عرب اللواء... أنه يخاطبكم جميعا

يخاطب العمال والفالحين والموظفين وتالميذ المدارس..

ينادي الكبار والصغار..يستصرخ ضمير كل عربي في هذا اللواء كي

.. للوقوف في وجه يكونوا يدا واحدة.. وصفا واحداالمؤامرة السوداء التي تحاك ضد هذه البقعة العربية

الغالية.. ضد لواء اإلسكندرونة. تعالوا.. اسمعوا هذا المنشور..

منشور.. نداء.. مؤامرة سوداء.. أستاذ مناضل يستصرخ الضمائر.. كانت كل كلمة من هذه الكلمات

نزلت فجأة على أهل القرية كأنها جديدة على األسماع.. زائر غريب.. ولكنهم يريدون أن يعرفوا هذا الزائر..

لكأن بينهم وبينه نسبا قديما ضاع مع ويتبينوا ما يريد.. ووشائج وأرحاما تقطعت مع األيام.. ثم الزمن..

استيقظت وأطلت برأسها فجأة.. تريد أن تعود إلى طبيعتها المطموسة، وحقيقتها الضائعة.

نداء الثورة الصادق يكشف الحقيقة.. يصل إلى أعماق األمة منذ الضربات األولى على الباب.. أشبه بقطرات المطر الضخمة التي تنهمر على

158

األرض العطشى فتبعث فيها الحياة، وتفجر كل استعدادها للخصب والعطاء، هذا ما أكدته كلمات الفتى القروي وهو يلفت انتباه الجماعة ويدعوهم

إليه.كان بناؤنا الشيخ علي.. أول من وثب عن

سالكا طريق الصقالة الداخلية. نفض يديه الجدار.. من غبار الحجارة وبقايا الطين.. واتخذ مكانه في

الظل.. إلى جانب «عبد هللا».. وراح يحدق في الورقة السمراء المطوية. إنها مطبوعة.. ال شك

أنهم وزعوا منها الكثير الكثير.. - هات لنرى..

كان الشيخ علي يعرف القراءة.. وال أغالي إذا إنه كان يجيدها.. فقد حفظ القرآن الكريم منذ قلت:

الصغر.. وتعلم الخط الجيد.. واإلمالء.. وكان حريصا على قراءة كل «قصاصة ورق»تقع عليها

كان يستعير من والدي أعداد مجلة يده. التي استطاعت أن تشق «العرفان»ومجلة «الهالل»طرقها إلى قريتنا بعد جهود جبارة واتصاالت عديدة

قام بها الشيخ أحمد مع أصدقائه في المدينة. أما وحسب الشيخ علي الكتب.. فقد كانت نادرة..

وأمثاله منها سيرة «عنتر»وقصة «الزير سالم»، وتغريبة «بني هالل». أما ديوان المتنبي الذي كان

فله وحده أن يقرأ مثل هذه يملكه الشيخ أحمد وحده.. األشعار العميقة العويصة التي تحتاج إلى من يعرف

الصرف والنحو لكي يفهمها.اختطف المنشور األسمر من يد «عبد هللا»..

وكان الرجال قد توقفوا عن العمل، كأنما يريدون أن

159

يتنفسوا، ويأخذوا بعض الراحة.. وتجمعوا حول الشيخ علي.. وصاحبه حامل المفاجأة.

كنت أنا قد حشرت جسمي الضئيل بسرعة بين الرجال، وزاحمتهم حتى صرت على ركبة الشيخ

وأصبح المنشور أمامي أستطيع أن أقرأه كلمة علي.. كلمة.. كما يقرؤه حامله.. وليس من شك عندي أني

استطعت أن أقرأ الورقة كلها، من أول سطر إلى آخر سطر، قبل أن يصل الشيخ علي إلى منتصفها.. فقد كان

يتعثر في بعض الكلمات التي كنت أمر عليها بسهولة مثل كلمة «مؤامرة»و«استصرخ ضمائركم».. وما

وربما قرأها على هواه.. ومضى. إليها.. كان أبي يصغي باهتمام إلى النداء الذي أصر

العم الشيخ علي على قراءته.. ونقله بصوته الجهير إلى الحاضرين.. وكان الجميع يصغون مثله من

دون تعليق.. إال من بعض همهمات االستغراب أو االستحسان من حين إلى حين.

ال أحفظ اآلن فقرات النداء.. بعد مرور ما يقارب سبعة وثالثين عاما على هذه األحداث.. لقد

بعد العهد بيننا.. وتطاول الزمن.. ولف الضباب الكثير من الذكريات والمواقف واألصداء.. ولكني ما أزال أذكر بعض جمرات النار العربية األولى

التي كانت تشتعل في تلك السطور.كان األستاذ زكي األرسوزي شابا في ريعان

الشباب آنذاك.وكأن النار العربية التي خبت منذ كان يتكلم..

قرون طويلة تجد طريقها على لسانه، لتشتعل بعثا قوميا شامال من جديد.. بعثا يتحدى بصدقه وصفائه

160

وإيمانه كل عصور التخلف وعهود االستبداد، وغياب األمة العربية عن مسرح الحياة والتاريخ.

كانت الورقة السمراء تقول:أخواني عرب اللواء.. من عمال وفالحين،

وتالمذة ومثقفين.. ومدنيين وقرويين.إن االستعمار األوروبي قد مزق وطنكم العربي

الكبير إلى دويالت متناثرة، تقاسمها اإلنكليز والفرنسيون فيما بينهم، بعد أن قمتم بثورتكم

العربية، وضحيتم بأرواح الشهداء، وسفحتم دماء المجاهدين، حتى تم لكم النصر.. وارتفع العلم

العربي في سماء هذا الوطن العزيز. ولم يكتفوا بهذا، بل راحوا يدبرون اليوم مؤامرة دنيئة في

الظالم لكي يسلخوا لواء إسكندرونة عن أمه سورية، ويعطوه غنيمة باردة إلى تركيا.

إن عروبة اللواء تستصرخ ضمائركم لكي تهبوا إلحباط هذه المؤامرة السوداء، وتثوروا لكرامتكم

وحقكم في الحياة الحرة العزيزة.. تحت الراية راية اآلباء واألجداد التي قاتلتم تحتها على العربية..

مر العصور. من أجل أوالدكم.. وأحفادكم..

.. من أجل أن يبقى اللواء عربيا سوريامن أجل حريتكم وكرامتكم التي تباع في

الخفاء.. من أجل األمة العربية

وحقها في الوحدة والعزة واالستقالل.. أناديكم، ويناديكم معي تاريخكم العربي المجيد.

ال تسكتوا على الضيم.

161

فما كنا إال شعبا يأبى الضيم، ويسترخص الموت من دون حقه السليب.

عاش لواء اإلسكندرونة عربيا إلى األبد. عاشت األمة العربية حرة عزيزة.

ولتحي العروبة..وليحي الشعب الذي تتحطم على صخرة صموده

كل المؤامرات.- «فلتحي يا أستاذ.. فلتحي يا أرسوزي.. يعمر

دينك!هذا إنسان يقول الحق.. يا جماعة بذمتي.. أنا

مستعد ألحمل البارودة وأحارب معه..».ختم الشيخ علي قراءة الصفحة السمراء

ألقاها وكأنها جزء ال المطبوعة بهذه العبارات.. يتجزأ من المنشور الذي كان يقرؤه في حماسة

واندفاع.وخيم على الحاضرين صمت مهيب بضع

ثوان.. ثم توالت التعليقات وردود الفعل من الجميع..

لم يكن الحاضرون جميعا على درجة واحدة من الحماسة واالنفعال.

بعضهم أعلن رأيه صريحا فيما سمع كالشيخ علي.. سواء بسواء.

وبعضهم اكتفى بهمهمة إعجاب شديد.وبعضهم الذ بالصمت.. ولكنه صمت مثير

محتدم يمور بألف سؤال وسؤال..كان الشباب من الحاضرين أشد تأثرا والتصاقا

بما سمعوا.

162

وكان الكبار في السن أقرب إلى الروية والتحفظ في التعليق.

واكتفى والدي بهذه العبارة «وفقه هللا»! يقصد صاحب النداء.. قالها من أعماق قلبه. أما أنا.. فقد

رجاء حارا خافتا أن يأخذ رجوت «عبد هللا»المنشور من عمي «الشيخ علي»بعد أن فرغ منه..

ويعطيني إياه. وقد لبى رجائي.. وأعطاني ما طلبت.

عاد عمال «العلية»إلى العمل.. وهم ما يزالون يتحاورون ويتبادلون الحديث حول النداء الحار

الجديد الذي سمعوه منذ لحظات.وانتحيت ركنا من الساحة.. وأنا متعلق بذراع

الفتى «عبد هللا».. ال أتركه يفلت من يدي.. والورقة السمراء تلتصق بشدة على صدري.

قلت بفضول األطفال الذين يريدون أن يعرفوا كل شيء:

- من أعطاك هذا المنشور؟ قل لي.. يا عبد هللا.. من أين حصلت عليه؟ البد أن تخبرني.. أستحلفك

بال! قال في نبرة جادة.. كان يكلمني دائما في جد:

. ولكن البد أنت شاعرنا.. وال أخفي عنك شيئا -أن تعدني وعدا قاطعا على أال تبوح بشيء مما

أقوله لك.أقسم لك أني ال يمكن أن أبوح بكلمة حتى : قلت

لرفاقي في السباحة. قال بلهجة اعتزاز وثقة بالنفس:

163

أنا واحد من جماعة األستاذ.. لقد أصبحت عضوا في الحركة الثورية العربية التي تقاوم سلخ

اللواء عن أمه سورية.. انضممت إليهم بعد أن التقيت بشاب من أنطاكية اسمه سالم، يشتعل

. أنهم يطلقون عليه اسم «سالم حماسة، واندفاعاوهو ال يقل شجاعة واندفاعا عن الزير الزير».. أبي ليلى المهلهل الذي نقرأ أخباره في القصة. لقد

حكى لي عن األستاذ .. حدثني صديقي الشاب طويالزكي األرسوزي، وكيف أعلن الثورة على

الفرنسيين في قلب المدرسة التي يدرس فيها.. وكيف غضب عليه الفرنسيون وسرحوه من

الوظيفة.. ولكن تالميذه ازدادوا تعلقا به.. وكثر عدد المؤيدين لألستاذ.. وانضم إليه جمهور من عمال

المدينة، وفالحي القرى المجاورة.. وانتشرت الحركة في جميع مدن اللواء وقراه.. حتى بلغت

الضائعة بين الجبال.. كما أخبارها قريتنا النائية.. ترى.

إنني ألتقي صديقي «سالم الزير»كلما نزلت إلى منذ أسبوعين كان يقوم مع عدد من رفاقه المدينة..

المناضلين بجولة في مدينة إسكندرون وناحية أرسوز، يوزعون المنشورات، وينشرون الفكرة العربية، ويحثون الفالحين على الوقوف في وجه

المؤامرة.. وفجأة انقض على صديقي «الزير»جماعة من األتراك، وطعنوه في كتفه

وعندما التفت إليهم شاهرا . فجرحوه جرحا عميقاسكينه كانوا قد تواروا عن األنظار واختفوا في أزقة

إنه ما يزال يعاني من البلدة الصغيرة الضيقة.

164

جرحه العميق، ولكنه ال ينقطع عن العمل مع رفاقه ليل نهار. لقيته صباح اليوم في المقهى العربي الذي

تعودنا أن نلتقي فيه، وأعطاني هذا المنشور، .. وأوصاني أن أقرأه على جميع أهل القرية علناوقد سبقني عمك الشيخ علي إلى هذه المهمة كما

لقد سررت جدا من هذه البادرة. بيني رأيت. األحسن أن يتحمسوا هم من تلقاء أنفسهم وبينك.. بدال من أن نحمسهم نحن. واآلن.. ما رأيك؟ هل

تنضم إلى حركتنا؟ أنت شاعر.. وتستطيع أن تكتب لنا قصائد حماسية، وتلهب بكلماتك المشاعر.. آه! لو كنت شاعرا مثلك.. لنظمت كل يوم قصيدة للعروبة

أهم وأطول من تغريبة «بني هالل».لم يكن «عبد هللا»ليتصور في تلك اللحظة أن

حياة هذا الشاعر الصغير الذي يتعلق بذراعه اآلن ستكون كلها قصيدة للعروبة.. قصيدة متصلة الدم

والنار.. واأللم والفواجع.. والحلم الضخم الذي تنام وتصحو عليه.. قصيدة ترعرعت وامتدت شهقتها

من شجرة التوت الخضراء، في ساحة البيت الصغير، في «بساتين العاصي».. إلى ظالل النخيل

في بغداد، والبصرة، وعدن.. إلى قمم «األوراس»في الجزائر.. إلى هدير الموج على

شاطئ «الدار البيضاء».لم يكن «عبد هللا»ليتصور أن البذرة التي

تتحرك في رحم األرض العربية في أنطاكية.. هي البذرة التي تتحرك في رحم األرض هي نفسها..

العربية كلها من اإلسكندرونة إلى مجاهل السودان

165

ومن البصرة إلى شاطئ بحر الظلمات في الجنوب.. في مغربنا الكبير.

البذرة ما تزال تتحرك.. يا عبد هللا.. تقتل هنا.. لتنبت هناك..

واألرض العربية ـ يا أنطاكية ـ ما تزال كلها مثلك ضائعة.. تتمخض.. وتنتظر ميالدها العظيم..

وتنتظر بالرغم من جميع أجل.. تتمخض.. الكوارث.. ميالدها العظيم.

كانت عيناي تتعلقان بشفتي الشاب األسمر، وهو يقص علي قصة األرسوزي، وسالم «الزير»، . ورفاقه، والحركة الثورية التي انضم إليها سرا

كانت نظراتي تجمد.. تتسمر على بعض الكلمات التي تنحدر من شفتي الفتى القروي لتسري

في جسد الطفل النحيل الضئيل قشعريرة ال أدري ماذا أسميها اآلن.

قلت له: لن أبوح بحرف مما سمعت.. ولكن هل تسمح لي بأن أتحدث عن هذه «الثورة»إلى رفاقي.. .. وكأنني أوالد الحارة.. من دون أن أذكر اسمك أبدا

أتلقى أنباءها من مجهولين. .. عنوانها «الثورة».ةسأكتب اليوم قصيدة جديد

.. وأمام الكبار من سأنشدها أمام رفاقي جميعاأهل القرية عندما يجتمعون غدا للسمر في ساحة

الحارة.. تحت «السنديانة».وابتسم «عبد هللا».. كأنما تلقى مكافأة.. وربت

على كتفي.. ثم انصرف لشأنه.. تاركا المنشور األسمر في يدي، يلتصق بشدة على صدري.

* *

166

لم أندم على غيابي عن «العاصي»ودوار «الصفصافة»، والسباحة.. في ذلك اليوم.. أحسست أن نهرا جديدا قد فتح فجأة أمامي، وأمام جيلي من

نهر عريض، واسع، عميق.. الصغار. يدعوني وأترابي إلى صدره العريض، الواسع،

العميق..فلنهيئ أنفسنا للرحلة الحلوة المرة.. عبر

األمواج.... رحلة تجعل لحياتنا طعما

ولوجودنا معنى على هذه األرض... ال أكاد أتبينه أو .. غريبا كان اإلحساس غامضا

أعي شيئا منه.. ولكني واثق من أنه كان يغزو كل ذرة من ذرات وجودي النحيل الضئيل في ذلك اليوم

القائظ من تموز.في مساء ذلك اليوم نفسه نظمت القصيدة الثورية

التي وعدت بها صديقي «عبد هللا».القصيدة الطفولية التي استنفرت كل محفوظاتي

من المعلقات ومن ديوان المتنبي.. لتعينني على قوافيها ومفرداتها العنيفة.. إنني ما أزال أحفظ

مطلعها الذي يقول:يا توتة الدار.. يا عصفورها

الشا

ردي إلي فتوحاتي وأمجادي عروبتي في دمي.. ال تيأسي أبدا غدا أحطم أغاللي وأصفادي كانت طويلة.. قصيدة الطفولة الثورية.. ال أدري

أين طواها الزمن فيما طوى، وال أذكر شيئا من

167

أبياتها التي تحدثت عن زكي األرسوزي، قائد ثورة اللواء، قبل أن يرى شاعر القرية الصغير أستاذه األرسوزي ويعرفه أول مرة، في نادي العروبة

بأنطاكية، بعام أو عامين.عندما اجتمع الشباب والشيوخ في مساء اليوم

التالي في ساحة القرية.. تحت «السنديانة»..لم تخل أحاديثهم من كلمة أو كلمتين عن األرسوزي، وحركته الجديدة، ومنشور البارحة الذي غزا

القرية. ولكن أنباء «بساتين العاصي»وهمومها المحلية كانت مدار السمر الذي ينعقد كل يوم بعد

ثم يمتد فما يكاد عقده ينفرط حتى الغروب.. منتصف الليل..

* * مضى يومان على قصة المنشور.

كنت قد نقلت حديثه إلى كوكبة «الفرسان الصغار».. إلى رفاقي.. جمعتهم تحت شجرة الجوز

الكبيرة هذه المرة، في ركن من أركان الحارة، ورحت أقص عليهم أنباء زكي األرسوزي،

وحركته الجديدة في المدينة، وجماهير الناس الذين التفوا حوله، والمنشورات الثورية التي توزع في

كل مكان. كان األوالد يصغون إلي مشدوهين، مأخوذين بسحر القصة، وأعترف أني كنت أضفي

عليها من خيالي ما يسعفني به خيال شاعر يدق أبواب المجهول بجناحي عصفور أزغب. علمتهم

الشعار الجديد الذي سمعوه ألول مرة: «تحيا كانت هذه العبارة هي تحية عرب اللواء، العروبة».

منذ بدأ األرسوزي المعركة من أجل عروبة اللواء.

168

ولم يفتني في نهاية اجتماع «شجرة الجوز»أن ألقي على الرفاق الصغار قصيدتي الجديدة: «يا

يا عصفورها الشادي». توتة الدار.. كان محمد ابن عمي أشد األوالد حماسة لها.

حفظ معظم أبياتها.. وكان أعظم بيت في رأيه: «عروبتي في دمي.. ال تيأسي أبدا»

بل لقد بدل ياء المخاطبة في هذا الفعل وجعله: «ال تيأسوا أبدا».. وراح يهتف به.. كأنما يخطب

في جمهور حاشد مجهول.* *

الشمس في الضحى مرة أخرى.. والشيخ أحمد وعدد من الرجال يعدون العدة ليسقفوا «العلية»التي

تم بناؤها.. وأهل القرية الصغيرة منصرفون إلى شؤونهم. كانت مهمتي في ذلك الصباح أن أسحب

عشرين إلى ثالثين دلوا من ماء البئر المحفورة في فناء الدار، أسقي بها «الحاكورة»الصغيرة التي

كادت شجيراتها تيبس عطشا، فقد شغلنا عنها «بالعلية»زمنا غير يسير.

وهتف فالح من أقصى الحارة: - كامل آغا.. يا إخوان.. جاء كامل آغا..

تركت الدلو تسقط في البئر.. وهرعت مع عدد من األوالد إلى حيث أشار الهتاف. مجيء

«اآلغا»على فرسه األحمر، وخرجه المزركش، كان حدثا يثير االهتمام.. وال سيما اهتمام األوالد.

في أقل من ربع ساعة.. كان أهل «بساتين العاصي»قد تجمعوا على الطريق.. ووقفوا يستقبلون

169

«اآلغا»عند طرف الحارة الشرقي.. عند بيت «يوسف حبيب».

التحية تبدأ بتقبيل يد «اآلغا».. وهو ما يزال على فرسه.. لم يترجل. موكب الفالحين يحف به وهو يشق الطريق إلى ساحة الحي.. في الساحة

، وأعطى عنان الفرس الصغيرة ترجل «كامل آغا»واحدا من «المرابعين».. ثم اتخذ مقعده على كرسي من القش ال أدري من أين أعد له بلمحة عين.. هجم

أحدهم على ركبته فقبلها مبالغة في التوقير لم يخف كثير من شباب القرية امتعاضهم والتعظيم.

من هذا «الفالح»المتملق الذي يبتدع هذه «التحية»غير المألوفة. وشوش أحدهم زميله:

«وضاعة!».كان «كامل آغا» رجال في األربعين.. بدينا،

مربوع القامة ال يخلو وجهه من وسامة لو لم يكن هذه المرة عابسا مقطبا ما يكاد يحرك شفتيه إال

بكلمات مقتضبة، متقطعة األحرف، يرد بها التحية من حين إلى حين. همس أحدهم:

على غير عادته. - «اآلغا»غضبان هذه المرة.. أجابه جاره بصوت خافت:

انتظر قليال نسمع ما يريد أن - عسى خير.. يقول.

أميا ال يحسن حتى كتابة اسمه. كان «كامل آغا»أكثر من مرة ـ أذكر ذلك جيدا ـ اجتاز األميال

األربعة أو الخمسة التي تفصل بين مزرعته وبين ، وجاء الشيخ أحمد ليقرأ له «بساتين العاصي»

170

رسالة ترده في شأن من الشؤون.. ولكنه ـ إلى ذلك ـ كان رجال ذكيا، يحسن الحديث، ويعرف كيف

يختار الكلمات التي يهيمن بها على سامعيه.. يشهد له بذلك حتى أبي الشيخ أحمد نفسه، ومن يقرأ مجلة

«الهالل»، وشعر «المتنبي» البد أن يكون هو المرجع والحكم في مثل هذه األمور.

لحظات من الصمت عدت استراحة نفض بها عن نفسه عناء الطريق.. ثم ما لبث أن «اآلغا»

باشر الحديث من دونما توطئة وال تمهيد.اتجه إلى الحاضرين في نبرة هادئة، ولكنها حادة

ساخطة أشد ما يكون السخط: أشد ما تكون الحدة.. بلغني أن أناسا في هذه القرية يوزعون »

«منشورات» ضد الحكومة.. ويقومون بالدعاية لزكي األرسوزي.

لقد جئت ألنبهكم إلى خطر مثل هذه «األشياء».. يا إخوان.. وأحذركم من العواقب

الوخيمة التي يمكن أن تجرها عليكم.هل تعرفون من هو األرسوزي الذي يبعث إليكم

بهذه «الدعايات»؟ رجل طائش متهور.. تعلم في باريز شيء، ونحن باريز األفكار، وجاء ليطبقها علينا.

إنه يلعب بالنار.. والبد أن يخرب شيء يا إخوان. بيوتكم إذا استمعتم إليه. إنه يحرض الشعب كله ليثور

وماذا تستطيعون أن تفعلوا أنتم؟ عين ال على الحكومة. . يا إخوان.. انصرفوا إلى أعمالكم تقابل مخرزاواضمنوا لقمة أوالدكم.. وإال انتهيتم جميعا إلى

الحكومة غاضبة عليه، وعلى كل من يؤيده، السجون. وسوف تنزل بهم جميعا أشد العقاب، ولن يجنوا من

171

وراء هذا «الجنون»إال الخراب والدمار لهم ولنا األرسوزي يدعي الوطنية، وينادي بالعروبة.. . جميعاكلنا وطنيون يا إخوان. ولكن الوطنية ليست بالتهور، والعنف، واألعمال الطائشة. سمعت أن من بينكم من يتحمس لألرسوزي.. ويحمل أفكاره ومنشوراته إلى القرية.. إني أحذره من مغبة هذه «الحماقة».. وقد

يندم على ما فعل حين ال ينفع الندم».ألقى «كامل آغا»خطابه هذا دفعة واحدة، من

دون أن يترك فاصلة يلتقط بها أنفاسه. كان واضحا أنه جاء إلى القرية هذه المرة منذرا متوعدا بعد أن

بلغته أنباء «المنشور»الذي أتى به «عبد هللا».كان الشاب «عبد هللا»قد اتخذ مكانه واقفا بين

جمهور الفالحين، على ميمنة الحشد، غير بعيد عن كرسي القش الذي يقتعده «اآلغا».. ولم يكن من

العسير عليه، وعلى الحاضرين جميعا أن يدركوا أن نظرات «اآلغا»إنما كانت تتركز عليه.. على هذا الفتى المغامر الذي حمل الجمرة األولى إلى

الحطب النائم.كنت أنا، ورفاقي «كوكبة الفرسان»، قد تجمعنا على مقربة من الحشد.. فلم يكن من الالئق أن يدنو

الصغار كثيرا حتى يشاركوا الكبار ندوتهم المعقودة، وال سيما ندوة يتصدرها «كامل

ولكننا حرصنا في تلك الساعة أشد آغا»نفسه. الحرص على أال تفوتنا كلمة من كل ما سيدور في

ذلك االجتماع غير العادي.لم يحاول أحد أن يعلق على خطاب «اآلغا»

بكلمة.

172

قدموا له كأسا من الماء، فشربها.. .. هنيئا هنيئا يا آغا.. هنيئا -

بين همهمات الفالحين بكلمة «هنيئا»المألوفة في مثل هذا المقام.. ارتفع فجأة صوت «عبد هللا». بدأ

هادئا، خافتا، ولكنه واضح كالمه كما بدأه «كامل آغا» وضوح النهار، واثق النبرة في كل حرف.

قال، وعيوننا جميعا مشدودة إليه:زكي األرسوزي ليس رجال طائشا، وال »

متهورا «يا آغا»! إنه أستاذ متعلم يحمل أرقى الشهادات من باريز. يعرف ذلك «اآلغا» أحسن

مما نعرف نحن... وال يخرب بيت وهو ال يريد أن يؤذي أحدا

أحد..يريد أن نخرج إنه يوقظنا من نومنا الطويل.. من جحور الظالم الذي نحن فيه إلى حيث الحرية

والنور.يدلنا عليها، ويعلمنا كيف لنا حقوق مهضومة..

ندافع عنها. ليس في هذا الريف كله مدرسة واحدة. ليس في هذا الريف كله ولد واحد يتعلم.

إننا نموت بعلتنا يا «آغا»ولم ير فالح منا طبيبا في حياته.

األرسوزي يحضنا على العلم.. يريدنا أن نتقدم.أهل باريز بشر مثلنا يا «آغا».. تعلموا

وصاروا راقين.ويمكن في يوم من األيام أن نتعلم.. ونترقى..

ونصبح مثلهم.

173

هذا ما يقوله األرسوزي لتالميذه.. ولكل من يتصل به.

نحن عرب يا «آغا»ومن الطبيعي أن يذكرنا األرسوزي بأمتنا وأمجادنا.. ليشد عزيمة هذا

الشعب، ويدفعه إلى األمام.الحكومة الفرنسية تريد أن تسلبنا حريتنا،

وتحرمنا لغتنا، بعد أن كافح العرب طويال، وضحوا بأرواح اآلالف من الشهداء، ليتحرروا، ويصبحوا

سادة أنفسهم. هذا ما يقوله األرسوزي، وتالميذ األرسوزي.

وهو كالم حق.. يا «آغا»..األرسوزي يريد أن يرفع النير من أعناقنا، وغيره يريدنا عبيدا، جهاال، أرقاء.. إلى األبد».ال يدري أحد كيف انثالت العبارات الواعية،

الرصينة، الجارحة كحد السكين على لسان الفتى «عبد هللا». لم يكن أحد يتوقع مثل هذه البالغة..

وهذا النضج.. في الحديث يلقي به في وجه «كامل آغا»شاب لم يتعلم في حياته إال «ربع ياسين»وشيئا

يسيرا من الخط واإلمالء، في كتاب الضيعة، عند عمه الشيخ أحمد.

لكزه فالح كان يقف إلى جواره بطرف يده، وأسر إليه دون أن يدير وجهه:

- أنت مجنون، كيف تقول هذا أمام «اآلغا»؟أال تعلم نفوذه ومكانته في الحكومة؟ يدخل على

المندوب الفرنساوي نفسه، ويطلب منه ما يريد.. فال يرد له طلب.

سيخرب بيتك يا عبد هللا!

174

.. فسوف نرى من - إذا جرب أن يعتدي علي يخسر.

كانت هذه آخر كلمة وشوش بها عبد هللا جاره الذي ابتدره النصيحة. ثم ساد صمت مهيب.. دقيقة

أو دقيقتين.. لم تسمع في الندوة نأمة.لم يعقب «كامل آغا»بحرف واحد على خطاب

عبد هللا..ولم يجرؤ أحد من الحاضرين على أن يقطع

الصمت بكلمة.في هذه اللحظة وصل إلى الساحة الشيخ أحمد..

كان مشغوال بسقف «العلية»مع عدد قليل من الشباب الذين أبوا أن يتركوه وحده للعمل.. ولم

ينضموا إلى االجتماع.نهض «اآلغا»فصافح والدي.. كان الجميع يعرفون أن للشيخ أحمد مكانة خاصة تفرض

احترامها على «اآلغا»وغير «اآلغا»في تلك البقعة من األرض. إنه المثقف الوحيد في المنطقة.

وسؤال عابر عن لم يتبادال أكثر من تحية.. الصحة.

ولم يكن أبي ليعرف شيئا مما دار في تلك «الندوة»الحافلة.

انصرف «كامل آغا» إلى فرسه. قدم له 1Tالمرابع

)71F

1(1T الذي أوكل إليه أمر الفرس عنان الدابة

بيد، والركاب بيد. اعتلى «اآلغا»متن الفرس.. وشد

المرابع: فالح كان يعمل بمزارع «اآلغا».. ويأخذ في نهاية العام لقاء )1(جهده وعرقه حصة من الغالل يفترض أن تكون الربع. ولكنها لم تبلغ

الربع وال الخمس في يوم من األيام.

175

ثم لكزها برجله لكزة خفيفة، وهم لجامها.. وقبل أن ينطلق التفت إلى الحاضرين، باالنصراف.

وختم الزيارة بالتحذير القاطع التالي: - زكي األرسوزي سيخرب بيتكم.

لم يخرب بيتنا غير االستعمار، وأذناب - االستعمار.

كان صوت «عبد هللا» هو الذي انطلق بهذا الجواب الجريء الحاسم الذي أنهى اللقاء التاريخي.

لم تعرف قريتنا الصغيرة، وربما لم تعرف القرى المجاورة لقاء أهم..

لم يكن «كامل آغا»قد خطا بفرسه أكثر من خطوة أو خطوتين، حين انفجرت «كوكبة الفرسان في هتاف أشبه ما يكون بمظاهرة صاخبة الصغار»

لم تعرفها القرية حتى اآلن:«تحيا العروبة.. تحيا العروبة.. يعيش زكي

األرسوزي.. يعيش زكي األرسوزي..».وانطلق األوالد.. إلى العاصي.. إلى السباحة..

إلى دوار «الصفصافة».. وهم يوالون الهتاف.. ويرددون العبارات التي حفظوها من «المنشور».

عاشت األمة العربية.. تحيا العروبة..

يحيا األرسوزي.كنت هذه المرة في مقدمة «كوكبة الفرسان

الصغار».. أرفع بيدي «الورقة السمراء» التي حرصت عليها في جيبي حرصي على كنز ثمين.

كأنها علم النصر.. يتقدم موكب الظافرين.

176

ولم يصدر الشيخ أحمد أمره إلي بعدم الذهاب إلى «دوار الصفصافة»هذه المرة..

لقد كان مشغوال بأهل القرية. يقصون عليه ما دار بينهم وبين «اآلغا»في ذلك اللقاء التاريخي

الغريب المشحون باالحتماالت والمفاجآت.

177

األعرابي

من دفتر الطفولة أيضا

على قمة الجبل الذي تقع ضيعتنا على سفحه

كان يحتل مقامه.

لم أزره قط.. ولم أره مرة واحدة.. ولكنه كان يمأل طفولتنا رهبة وإجالال في آن

كنا نسميه «األعرابي»..

نحلف األيمان باسمه ونخصه بالنذور كلما ألم بنا المرض

أو أصابنا أذى أيا كان..

تفتح الوالدة يديها.. وتتجه إلى قمة الجبل وتخصه بنذر إذا شفاني من الحمى

التي نزلت بي منذ يومين.

.. لم أزره قط ألن الطريق إليه كان وعرا،

ال يكاد أحد من أبناء قريتي يفكر بارتقائه. حسبنا أن نعرف أن «األعرابي»يحتل قمة

الجبل الذي تقع «النعيرية»على سفحه وأن نتجه إليه، نلتمس منه العون والشفاء

178

كلما ألمت بنا نازلة. األعرابي.. هذا المزار المجهول

الذي لم يرو لنا أحد شيئا عنه حتى الوالد الشيخ أحمد الذي يعرف الكثير

لم يخبرنا يوما بشيء من قصته.

كنت أحلم وأنا في التاسعة أن أتسلق الطريق الوعر،

طريق الجبل، حتى أصل إلى هذا «األعرابي»، وأتأمل «المزار»الذي يملؤنا رهبة وإجالال،

وألمسه بيدي، وربما أتيح لي أن أعرف شيئا من أسراره.

ولكنا كنا نكتفي، أنا وأسرتي، وبعض سكان قريتي،

أن نصل إلى العين الصافية الرقراقة «عين موسى»

التي كانت تتفجر من حضن الجبل، نلقي رحالنا عندها،

ونقضي نهارا ممتعا حولها، ويظل األعرابي يحتل قمة الجبل، غير بعيد عنا، دون أن يفكر أحد منا باختراق المسافة الوعرة التي تفصلنا

عنه. حسبنا «عين موسى»ـ نلفظها بإمالة األلف المقصورة ـ الصافية الرقراقة، والسنديانة الضخمة التي تمأل الفضاء فوقها، والوادي

األخضر الجميل الذي يجاورها. وقد علمت فيما بعد أن بعض أهالي ضيعتنا

179

كانوا يصرون على زيارة «المقام الجليل»، غير عابئين بوعورة الطريق، ويقضون سحابة نهارهم إلى جواره، يلتمسون منه

البركة والرضا. وعلمت أيضا من الوالد الشيخ أحمد أن لألعرابي هذا مزارا آخر في أنطاكية،

ولكنا لم نعرف مكانه، ولم نره في يوم من األيام.

ظل األعرابي لغزا من األلغاز في حياة شاعر «بساتين العاصي»الذي هو أنا.

كان يقال لنا بين حين وآخر أن نورا يهبط من المساء على هيئة نجم خاطف، يزور

المقام الجليل، مقام األعرابي، في قمة الجبل، يطوف به سبع مرات، يباركه، ثم يهبط إلى

بعض األضرحة التي كان أهل القرية يجلونها. وكنا نصدق األسطورة فيباركها أيضا

الجميلة، ونسر بسماعها من أهلنا.

هناك إذا من توليهم السماء عناية خاصة، وتهبهم قدسية ال يبلغها إال قلة من

عباد هللا الصالحين، وكان الشاعر الصغير يهمس في سره: من يدري؟ ربما كنت

منهم في يوم من األيام.* *

كنت يوما في خيمتي الصيفية، في قلب شجرة التوت..

180

الخيمة التي تحدثت عنها في المسلسل الشعري الذي كتبته لألطفال: (أحكي لكم

؛ كان الليل الشاعر الهادئ طفولتي يا صغار) يلف الخيمة، والنجوم تلقي إلي بألالئها

الساحر من بعيد... .. فنمت وغلبني النعاس

ورحت كعادتي أمأل نومي باألحالم. ما أكثر األحالم التي تراودني في نومي

وما أغربها! يقال إن كل ما نمر به من أحداث في يقظتنا

يتكدس في أعماق الالشعور، وينقلب أحالما في نومنا.

ال بأس بالفكرة.. إني مقتنع بها إلى حد بعيد.

سأقص اآلن قصة الحلم الغريب الذي طاف بي، وأنا غارق في النوم،

في خيمتي الصيفية، في قلب شجرة التوت التي تظلل باحة الدار.

حلم ما أزال أحفظ دقائقه وتفصيالته

كأنه مر بي منذ ل◌حظات.

كنت على ضفة العاصي القريبة، تحت شجرة التين التي تتكئ على الضفة،

أتأمل غيمة رمادية، يرقشها البياض، تعبر الفضاء

وقد خرجت لتوي من السباحة.

181

وما لبثت الغيمة الرمادية أن انقلبت رجال أسمر، ممشوق القامة، راح يقترب مني وهو يرتدي ثوبا أبيض، رائع البياض، يجره

وراءه. ودنا الرجل المهيب مني.. وأومأ إلي بتحية من يده.. وسألني في صوت خفيف:

أنت شاعر القرية الصغير، وما أظنك اآلن إال قد بدأت كتابة قصيدة جديدة.

هل تقرأ لي شيئا مما كتبت؟ إني أحب أن أسمعك..

وانتابني شعور بالطمأنينة

وأنا أنظر إلى هذا الرجل المهيب الذي بادرني التحية،

وطلب إلي أن أسمعه شيئا من شعري، كأنه يعرفني منذ زمن بعيد..

ولم أنبس إال بكلمة واحدة: أهال وسهال يا ! عم

ولم يلبث أن أختار بعض العشب األخضر

وجلس إلى جواري، تحت شجرة التين، وراح ينتظر ما أقول.

في ذلك اليوم، كنت قد كتبت

ـ في يقظتي طبعا ـ قصيدة طويلة أتحدث بها عن هموم الفالحين

182

وبؤسهم في قريتي المهملة، النائية، الضائعة وراء األودية والهضاب. وخطر لي أن ألبي رغبة

الشيخ األبيض المهيب، الذي يجلس إلى جواري،

وأن أقرأ له بعض أبياتها:أال يا أيها الفقراء موتوا

لكم في جنة الفردوس قوت لقد بنيت لكم ثم البيوت وكوثركم بها يجري شهيا ويبتسم الرجل األبيض المهيب، ويربت على

كتفي، وهو يبدي سروره العميق بما سمع، ويعلق : قائال

هؤالء الفقراء الطيبيون، أبناء قريتك، هم أقرب . لطالما شاطرتهم همومهم ومتاعبهم، الناس إلي

وعملت جاهدا على تخفيف آالمهم كلما حلت بهم نازلة.

كنت أتقبل نذورهم التي يتوجهون بها إلي، وأدعو هللا أن يبعد عنهم األذى

ويقيهم كل سوء. وفتحت عيني دهشة، وأنا أسمع كلمة

«أتقبل نذورهم»، ولم ألبث أن جمعت أطراف شجاعتي، وسألت

الشيخ األبيض المهيب الذي يجلس إلى جواري:

ومن أنت إذا؟

183

ومن تكون أيها الزائر الجليل؟

ابتسم الزائر الجليل، وأجابني ومرة أخرى.. في هدوء وحب:

كنت أنتظر سؤالك هذا يا بني، أنت الشاعر الصغير الذي حلمت بي طويال، ولم

تعرف شيئا عني.

أنا جاركم األعرابي.. الذي يحتل قمة الجبل.. الجبل

الذي تقع ضيعتكم «النعيرية»على سفحه..! .. يا بني أجل

أنا جارك الذي أقيم منذ قرون طويلة. لقد اخترت هذا المكان الرائع، ذروة الجبل

الذي يشرف على (العاصي)، العاصي الذي تحبونه

. لطالما وتنعمون بمياهه صيفا وشتاء أسعدني منظر األطفال وهم يعومون في

مياهه، ويطفرون فوق سطحه كالفراشات الصغيرة، وأنت واحد منهم.

أنا جاركم األعرابي.. الذي تحلفون باسمه..

وتخافون كثيرا أن تحنثوا بالقسم إذا ما مر اسمي على شفاهكم.

أعرف ذلك.. ويتملكني شيء من الزهو أن تكون لي كل هذه المكانة

في نفوس أهلك القرويين الطيبين.

184

ولكن لي قصة طريفة.. كيف طوفت في اآلفاق

حتى وصلت إلى هذا المكان الرائع وقررت أن ألقي عصا الترحال فيه.

ويبدو أن هذا الريف، ريفكم الساحر، قد اجتذب قبلي بعض الصالحين. أعرف

أن قلعة (القديس سمعان) ال تبعد كثيرا عني. أعود إلى قصتي..

هل تريد أن تسمعها يا بني؟: نعم أريد أن أسمع القصة قلت بلهفة

التي ال يعرف أحد من أبناء قريتي شيئاعنها، حتى الوالد الشيخ أحمد نفسه يجهل كل

شيء عنك.: ويقاطعني قائال

الشيخ أحمد.. هذا القروي الرائع الذي أكن له في نفسي أعمق الحب.

.. إنه أقرب الناس إلي إسمع يا شاعري الصغير:

أنا ابن الصحراء.. صحرائنا العربية

التي أنبتت صناديد الرجال وهي ال تملك غير الريح والرمال..

أنا من بادية نجد.. وكنت في مطلع شبابي أتفجر حيوية ونشاطا

وكنت من فرسان البادية الذين ال يشق لهم غبار.

185

أحب الشعر وأرويه.. أختار أجمل مقاطع الغزل..

وأذهب بها إلى سعدى سمرائي البدوية الفاتنة التي كنت أحبها

وأتلو على مسمعها مثل هذه األبيات الساحرة:

منى.. إن تكن حقا تكن أحسن المنى .. وإال

فقد عشنا بها زمنا رغدا

أماني من سعدى رواء كأنما

سقتك بها سعدى.. بردا على ظمأ ولشد ما كانت سعدى، سمرائي البدوية

الفاتنة، تحمر خجال، وتغرورق عيناها بالسعادة حين تسمع اسمها يتردد في مثل هذا

الشعر الجميل، وما تلبث أن تستزيدني من هذا الغزل الساحر فأقول لها:

.. ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني..

186

وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف ألنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

آه! كان الحب والشعر! أجمل ما في حياتنا يا بني* *

وتمرض سعدى الجميلة ذات يوم.. ويخطفها القدر من يدي

.. فتظلم الدنيا في عيني وأزهد بالحياة كلها.

ال شيء يطيب لي في هذه الدنيا بعد سعدى..

أترك كل شيء ورائي.. وأضرب في األرض زاهدا متصوفا

ملقيا مصيري في يد المجهول. ويتحول حب سعدى في أعماق نفسي

إلى حب للناس.. وال سيما الفقراء أبحث عنهم في كل مكان..

أواسيهم، وأهدهد آالمهم، وأشاطرهم حياتهم في كل شيء.

ولم تزل الدروب تقذف بي من مكان إلى

187

آخر.. حتى بلغت مدينة أنطاكية..

لكم كانت أنطاكية بالغة السحر والروعة آه! في ذلك العهد.

كانت جزءا من دولة بني حمدان آنذاك، الدولة التي يتولى أمرها ذلك الرجل الشجاع

الذي يحمل لقب سيف الدولة.

كنت أحب هذا القائد العظيم.. وأكبر فيه همته العالية، وحماسته للذود

عن حياض هذه األمة التي أخذت تتمزق، ووقوفه في وجه الطامعين الذين يتربصون

بها، ويعدون لها الغزوة بعد الغزوة من الشمال.

أقمت زمنا في أنطاكية.. مدينتك الجميلة،

وأحببت ناسها وأحبوني.. ورحت أجول في ريفها األخضر الجميل حتى بلغت قريتك هذه، وكانت

صحتي قد اعتلت، واشتد بي المرض، حتى وافاني األجل في هذا الجبل الذي يشرف على قريتك،

ودفنوني هنا، وأصبحت مع الزمن مزارا يؤمني الناس التماسا للبركة كما ترى.

لكم أحببت الناس وأحبوني في هذه الربوع ! إني سعيد أن أكون بينكم ربوع أنطاكية يا بني

طوال هذه العصور، وأن أحمل لقب (األعرابي) الذي ال أعدل به لقبا آخر..

إن رمال البادية ما تزال عالقة بقدمي يا صغيري،

188

وسأظل أحمل إرث البادية في هذه الكلمة التي توجزه وتوجزني معه.. (األعرابي).

.. وعيناي ويصمت الشيخ األبيض الجليل فجأةما تزاالن عالقتين به طوال الحديث الذي ملك علي

كل جارحة من جوارحي.

وأفيق من حلمي.. ألهبط من خيمتي..

وأهرع إلى الوالد الشيخ أحمد.. أقص عليه قصة هذا الطائف العجيب

الذي طاف بي..: وما يلبث الوالد الوقور أن يبتسم قائال

لقد خصك األعرابي بواحدة من أعظم بركاته يا بني، حين روى لك هذه القصة..

التي لم يسمع بها أحد قبلك.

2005آب:

189

رغيف أم محمد

الذكرى مهداة إلى روح الوالدة أم محمد

في قرية النعيرية.

أنا إلى جانبها.. أنتظر أول رغيف ذهبي

سيخرج من التنور المسجور ألتناوله بكلتا يدي

.. ال أشهى وال أمتع. وألتهمه قضمة قضمة

ذهب خارج من التنور ! أي نعمى في قضمه وسرور

هو سر الحياة.. نعدو ونشقى

ثم نأوي إلى حماه األخير

كان حلم الورى وما زال حلما يتناهى إليه كل مصير

الوالدة أم محمد مكبة على التنور الحامي. تتناول بيدها كل رغيف ينضج تخرجه في لمحة خاطفة ثم تلقيه في طبق القش الملون الذي أعدته إلى جانبها.

كنت في الثامنة أو التاسعة آنذاك. لم تكن تفوتني فرصة تعد فيها الوالدة أرغفتها الذهبية دون أن

190

أكون إلى جوارها، أنتظر الرغيف األول اللتهامه.. ولم تكن تبخل به علي بالطبع.

يا للذكرى التي ال تبهت على الزمن! التنور مشيد من اآلجر الصغير األحمر الذي أسهمت في إحضاره من التالل المجاورة لقريتنا، ومقام إلى

جوار البيت.. إننا ال نستخدمه إال في فصل الصيف.

في الشتاء، فصل البرد والمطر، تصنع أم محمد أرغفتها المستديرة البيضاء داخل البيت، على

«أثفية»تعلوها قطعة مستديرة من المعدن الرقيق نسميها «الصاج».

ولم تكن أرغفة الصاج المستديرة البيضاء أقل الرغيف الذي كنا نتناوله في البيت، على متعة لنا.. مدار السنة، مصنوعا بيدنا، كان يتألف ـ في الغالب ـ من الذرة البيضاء والقمح. إنه مزيج البد منه لكل

أبناء القرية الذين كانوا يزرعون القمح والذرة البيضاء ليكون منها رغيفهم المنتظر وعماد حياتهم

األول.* *

كيف كنا نصل إلى رغيف التنور ولكن.. الذهبي، أو رغيف (الصاج) األبيض المستدير؟

تلك قصة معروفة ال أحب أن أعرضها هنا، قصة الحرث والزرع والحصاد والعرق.

إنها جزء ال يتجزأ من طفولتي، طفولة هذا الشاعر الصغير الذي كتب القصيدة وشارك في

صنع الرغيف وهو دون العاشرة

191

أنا ولد من الريف.. كما ذكرت غير مرة.. ولعل طفولتنا في الريف كانت أغنى وأحفل بالتجارب

الحية المبتكرة من أية طفولة، في أي مكان آخر.. يعرف كل من عاش مثلي بين الشجر والحجر،

والتراب، وكفاح القرية المر لتأمين العيش.ولم تكن هذه الحياة تخلو من حب، وشعر،

وغناء ومرح.وطموح إلى األجمل واألرحب، عند بعضنا على

األقل.* *

سقى هللا مثواك يا أم محمد!ما يزال مذاق رغيفك الذهبي ونكهته يعطران هذه اللحظات التي أستعيد فيها واحدة من ذكريات

الطفولة األولى.لقد غادرت هذه الدنيا.. دون أن أتمكن من

الحضور لوداعك.تلك حادثة ما زالت تحز في نفسي. أذكر أنني

رثيتك من بعيد بقصيدة صغيرة شجية. إئذني لي أسجل بهذه المناسبة بعض أبياتها:

روى ضريحك دافق النور وسقتك عاطرة األزاهير أنا لم أزل طفال وأغنية .. بالحب معمور في منزل وتطير في اآلفاق ملحمتي وأظل عندك ريش عصفور

192

* * قاتلت بالكلمات شاردة

كالريح تخفق، كاألساطير ومضيت من غسق إلى غسق وتعبت من سفري وتهجيري وأتيت ألقي رأس منهدم في الظل تعبث بي مقاديري .. تبقين منديال

يلوح لي خلف الدروب.... وليل ماسور

2005تشرين األول:

193

الغداء في الحقل

أراني أطير في لمحة عين إلى مرة أخرى.. مرابع طفولتي.. إلى حقلنا في «بساتين العاصي».

كان أبي معلما للقرية.. شيخ «كتابها»الذي زرع قطرات الضوء األولى في عيون أطفالها وأطفال

القرى المجاورة، ولكنه كان في الوقت نفسه فالحا يحرث األرض ويبذرها، ويزرع فيها القمح

ويعرف جيدا كيف يغرس فيها أشجار والذرة.. التين، والزيتون، والدالية.

كان يخرج بمحراثه مع الفجر «والطير ما تزال في وكناتها»كما يقول شاعرنا القديم. ويظل يعالج

األرض البور التي تعطي بعد الجهد والعرق ما يقيم فإذا ما علت الشمس حتى قبة األود، ويدفع العوز.. السماء نادتني الوالدة، وحملتني طعام الغداء للشيخ

أحمد، ولمن يعمل معه.. كان بعض األقارب اثنان أو ثالثة من الذين يساعدونه أحيانا في الحقل.. علمهم الشيخ أحمد القرآن والخط وشيئا من اإلمالء مجانا، يتبرعون بمعاونته في أيام الفالحة والزرع

وفي مواسم الحصاد.- احمل هذا الغداء إلى أبيك ومن معه.. فقد صرنا في الظهيرة. والبد أنهم تعبوا وجاعوا.

بعض أرغفة الخبز مع إناء وأحمل صرة الطعام.. من اللبن الذي مازجه الماء حتى غلب عليه، وحتى

كاد مذاقه يضيع في هذا «اإلناء»المترع حتى

194

. وإلى جانب أرغفة حافته بالسائل الذي سميناه لبناالخبز تقبع صرة من التين المجفف منذ الموسم الماضي، وقلما رافقها بعض حبات من الزيتون

األسود.أحمل صرة الطعام وانطلق إلى األرض التي تجاوز الساقية، وتحتل سفح الهضبة القريبة. أرض (ابن نور

الدين).وما أن يراني الشيخ أحمد حتى يأمر البقرتين اللتين تجران المحراث بالوقوف. يخاطبهما في هدهدة وديعة

تعودتاها.. وصارتا تعرفانها منذ زمن بعيد.. كأنما يخاطب صديقين قديمين زالت بينه وبينهما كل أسباب الكلفة والمجامالت.. ثم يركز المحراث العتيق بقوة في التراب وينفض يديه مما علق بهما، ويأتي ظل شجرة

قريبة فيجلس هو ويبدأ طعام الغداء ومن معه من الشباب الذين تبرعوا بمساعدته في ذلك النهار..

شبابة الشاعر

البد من كلمة عن الشبابة.. زاوية صغيرة.. ولكنها مضيئة وبهيجة،

فلم ال يكون لها نصيب في شريط العمر؟منذ سمعت أغاني سيد درويش ومحمد عبد

الوهاب في قريتي الصغيرة.. كنت أحلم أن أكون موسيقيا، وعازف كمان أو «كمنجة»، كما تسمى

عادة، بالذات.

195

ولكن أنى لطفل منسي في قرية صغيرة، ضائعة بين األودية والهضاب، أن يتاح له تحقيق مثل هذه

األحالم!كل ما استطاع الطفل الشاعر أن يحققه من حلم الموسيقا هو «الشبابة».. أعني: هذا الناي الصغير

من القصب أو الخشب بثقوبه السبعة والذي يسميه ويشتهر بها الرعيان أخوتنا في لبنان «المنجيرة»..

خاصة فيقولون عنها: منجيرة الراعي.

كان في قريتنا عازف مزمار بارع. ذاع اسمه في القرى المجاورة كلها على أنه أمهر من داعب

بأنامله ثقوب مزمار «مجوز». وأصبحنا صديقين.. فأنا شاعر وهو العب مزمار.. والشعر والمزمار

في رأيه من أسرة واحدة.كنت أختلف إليه من حين إلى حين وأرجوه أن

يعلمني شيئا من براعته التي تبهرني حقا في التالعب بثقوب هذه اآللة الصغيرة وإخراج أجمل

األلحان منها، وال سيما األلحان الشعبية التي كانت تعقد عليها األعراس و«الدبكات» كلما أقيم في

الريف عرس أو تجدد فرح.: المزمار صعب..! حسبك هذه قال لي مرة

القصبة البسيطة «الشبابة».. وسأجعل منك أمهر عازف عليها في أيام.

وأخذت برأيه، وقنعت بالقصبة الصغيرة الرقيقة، وراح صديقي، الموسيقي المعلم، يدربني بعيدا عن نظر الوالد الشيخ أحمد، فلم يكن الشيخ

196

الوقور يرضى البنه بأية حال من األحوال أن يكون «نافخ مزمار».

وما هي إال أيام حتى كان الشاعر الصغير يعزف على شبابته الرقيقة أجمل ما يعرف الريف

من ألحان شعبية ما زالت تتردد في أعراسنا وأفراحنا وليالينا الساهرة حتى اآلن.

الميجنا.. والعتابا.. وأبو الزلف.. واليادي اليادي.. والروزنا.. ومرمر زماني.. وليا ليا.. إلى آخر شريط األغاني التي ورثها ودلعونا..

األبناء عن اآلباء، وغنوها ـ وما يزالون ـ جيال بعد كلها راحت تسيل على «شبابتي»الصغيرة جيل.. أنغاما حلوة صافية كنت، وما أزال حتى الساعة،

أعيش معها لحظات من العذوبة والشعر والصفاء ال أكاد أعدل بها شيئا من المتع.

كانت سلمى رفيقة الطفولة في القرية أشد الناس إعجابا بهذه القصبة وأكثرهم التصاقا بها، تجلس

إلى رفيقها الصغير قائلة أسمعني عاليادي اليادي.. والروزنا..

وأتناول «قصبتي»وأسمع الرفيقة الصغيرة كل ما تريد ونحن بعيدان عن األنظار، في ظل شجرة

من أشجار البستان.وتعددت أنواع «الشبابة»التي رافقتني.. فهي

وأخرى من خشب األبنوس وتارة مرة من القصب.. من المعدن..

ولكن شبابة القصب تظل أبدا هي األصفى لحنا، واألعز مكانة عندي.

197

الكثير من األصدقاء يذكرون أن شاعر «أعاصير في السالسل» و«رمال عطشى» و«الدم

والنجوم الخضر»هو في الوقت نفسه عازف «شبابة»جدير بالسماع وحتى التسجيل. ولكن مثل

كانت تبقى أبدا بين الشاعر هذه «األشياء» وأصدقائه فقط.

198

الشيخ أحمد والتيتانك

(1) «بساتين العاصي..»

هذه الحارة المهجورة في ركن من أركان الريف المحروم، المنقطع عن الدنيا، في شمال سورية تستقبل المساء في عتمة تطبق عليها، فال تكاد تسمع فيها نأمة،

المطر ينهمر بغزارة منذ الصباح، وال تحس حركة. والطين يمأل دروب الحارة الضيقة، والبد أن تغوص قدماك فيه، إذا شئت االنتقال من بيت إلى بيت. الغيوم

المطبقة على القرية ما تزال◌ ترعد وتبرق.. ولكن الفالحين يأنسون بهذا الرعد والبرق، ويرون فيه خيرا

وبركة ألرضهم العطشى، التي تنتظر مثل هذا القرميد األحمر الذي يغطي سقف بيتنا يستقبل الري.

المطر المتساقط فيحيل أصواته إلى موسيقا كانت تمأل . أعماقي، أنا الصبي الصغير بهجة وفرحاوال أحسن التعبير عنه. فرح أحسه..

الظلمة التي تلف الحارة وبيوتها.. والطين الذي يمأل الطرقات..

المطر الذي لم يهدأ منذ الصباح..كل هذا لم يكن ليمنع جيراننا ـ ولو كانوا في .. وأن يلتفوا أقصى الحارة ـ أن يأتوا بيتنا مساء

حول الشيخ أحمد، ليستمعوا إلى آخر أحاديثه . وأشعاره

199

كانت هذه األحاديث، وهذه األشعار، التي يرويها من محفوظاته مرة، ومن ديوانه المخطوط بخطه

الجميل مرة أخرى، هي سمر القرية الممتع، وندوتها المفضلة، التي ال غنى عنها، في نظر

البسطاء الطيبين ومعظمهم من األقارب واألعمام.(2)

حول مدفأة حفرت في أرض «العلية»،وامتألت بالحطب الجزل، وراحت نارها تتقد، فتمأل البيت

دفئا في هذا الشتاء القارص، كنا نتحلق جميعا، عشرة إلى عشرين من الصغار والكبار..

المصباح المحاط بأربعة جدران من الزجاج (الفانوس) ينتصب على منضدة مستديرة من

الخشب الجميل تتوسط الحشد الساهر، ويبعث . بضوئه الحميم إلى الحاضرين جميعا

.. البد أن يبدأ السمر بالشعر الشيخ أحمد شاعر..

وابنه الصبي الصغير قد أخذ يقول الشعر، كما يؤكد الشيخ للحاضرين. ويومئ الوالد إلي أن أنشد

السامرين قصيدة من آخر ما حفظت للمتنبي أو .. في لشوقي، أو للوالد الشاعر نفسه، وألبي الدعوةشيء من الرضا والزهو، وأغني القصيدة باللحن

الذي اختاره أنا:ليالي بعد الظاعنين شكول

.. وليل العاشقين طويل طوال أغنيها كلها.. أو بعض مقاطع منها..

ويغمر الفتى الصغير سيل من الثناء، ثناء الحاضرين،وفي مقدمتهم عمي الشيخ عيسى، الذي

200

كان يطرب إلنشادي، فما أكاد أفرغ من القصيدة حتى ينهال علي بهذا الدعاء، يرسله من األعماق:يا بن أخي! - طيب هللا حسك (يعني صوتك)

(3) ويصمت الشيخ أحمد.... ويصمت معه الجميع

ثم يعتدل في جلسته على حشية الصوف، ويواصل

. حديث المساءكان حديث المساء هذه المرة، عن «التيتانك»،

الباخرة الهائلة التي «ال تحرق وال تغرق».تلك هي العبارة التي كان الوالد الشيخ يؤثر أن

. يفتتح بها حديثه في ثقة وإعجابفقد جاء الباخرة الهائلة قدرها .. ومع ذلك

المحتوم، وغرقت، وتحطمت، وغاصت في قلب المحيط.

بعد خمسة وستين عاما أرقب على .. أنا اآلنشاشتي الصغيرة «بعض المشاهد التي تعرض عن شريط «تيتانك».. الذي مأل الدنيا وشغل الناس في

هذه األيام.وتنخطف بي الذاكرة إلى حارة «بساتين

إلى المدفأة التي تتقد نارها.. إلى الشيخ العاصي».. أحمد الذي يتحدث إلى الساهرين في بيتنا عن غرق

الحدث الذي هز العالم يومئذ، وهز «التيتانك».. القرويين البسطاء الذين كانوا يشربون الحديث

بعيونهم وآذانهم.

201

من أين وصلت أنباء الباخرة العظيمة وغرقها إلى الشيخ أحمد، حتى راح يرددها في معظم حلقات السمر في بيتنا، حول المدفأة التي تتقد نارها، وكلنا

معلقون بكلماته؟ من أين جاءته كل هذه التفاصيل؟

ـ الجبل العظيم الذي كان يمخر البحر ـ هكذاكان يشبهها ـ يصطدم بجبل أعظم من الجليد

العائم في المحيط، المغمور بالماء، وتنشطر السفينة التي «ال تحرق وال تغرق»إلى شطرين، وتبتلعها، .. ومن فيها، أعماق المحيط الهائل، وتكون الكارثة

عروس البحار األولى.. تواجه .. سيدة المحيطمصيرها المحزن، الفاجع، في أول رحلة لها فوق

الماء.(4)

سيلين ديون.. مطربة العالم تغني أمامي مقطعا الذي مأل الدنيا، وشغل الناس، من أغنية «الشريط» في هذه األيام.. «تيتانك» وأنا حول المدفأة.. أستمع

إلى حديث الشيخ أحمد.. سيلين ديون.. تغني، يتحدث، وأنا موزع بين طفولتي، والشيخ أحمد..

وبين نبرات .. مطربة العالم تنشد للحب الذي سينتهي بالكارثة

بعد لحظات. أي شريط أغلى؟

وأي اللحظات أجمل وأغنى؟هل كان شيخ القرية الشاعر ـ أعني والدي ـ يعلم

التي شغلته قبل خمسة وستين عاما، أن «التيتانك»في حارة «بساتين العاصي» ستتحول إلى قصة

202

للحب، والموت والكارثة.. تشغل العالم كله في هذه األيام؟ موزعا بين طفولتي، وبين مشاهد الحب والموت والفاجعة تقتطفها الشاشة الصغيرة من

أعود إلى دفتري، ألسجل هذه القصة المصورة.. اللمحات، وأنا أهمس في سري:

أي شريط أغلى؟ وأي اللحظات أجمل وأغنى؟

م1998

203

رمضان والطفل الشاعر

كان يهبط من قرميدنا األحمر كخيوط الندى..

يداعب أجفاني قبيل السحر.. ضائعا في أرجوحة وأنا ما أزال راقدا

األحالم.كنت في التاسعة أو العاشرة ـ ال أذكر بالضبط ـ قريتي ـ قل حارتي التي ال تتجاوز بيوتها العشرين

غارقة مثلي في السكون الذي يكاد يعزلها عن الكون.

هذا الزائر، الناعم، الهادئ، الرقيق، رمضان.. يستقبله الطفل الشاعر بأبيات من الشعر، شعره طبعا، يتمنى لو يذكر شيئا منه اآلن، كما يستقبل

ضيفا عزيزا يحل على األسرة.أما أبوه الشيخ أحمد فقد كان يستيقظ قبل الجميع.

كان أسعدنا بهذا الزائر السماوي الذي تفتح له السماء أبوابها، ليهبط على قرميدنا األحمر، على بيتنا الريفي الوديع.. كخيوط الندى.. أو وشوشات الطيف الذي تأنس به القرية وتحس رفيف أجنحته

الشيخ أحمد يستيقظ قبل السحر، دون أن تراه.. وآيات من قصار السور تترقرق في أرجاء البيت

من صوته الرخيم الخفيض، يسارع إلى إيقاد المدفأة.. التي تتوسط (العلية).

204

البد أن نبعث شيئا من الدفء .. كان البرد شديداالطفل الشاعر يسبق أباه إلى المدفئة.. في البيت.

يحاول أن يعينه في تقديم الحطب اليابس، وإيقاديريح الشيخ الجليل ابنه من هذه المهمة، النار.

يأمره، بدال من ذلك، أن يتلو عليه سورة من سور القرآن التي يحفظها، بكل ما يستطيع من تجويد

الطفل الشاعر يحفظ القرآن.. الشيخ أحمد هو متقن. 1Tمعلم القرية كلها

)72F

1(1T.ومعلمه أيضا في الكتاب

الطفل الشاعر.. ينطلق في التالوة، محاوال أن يقلد والده صاحب الصوت الجميل، الرخيم.

كان يحب سورة القمر: اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية

يعرضوا، ويقولوا سحر مستمر. وكذبوا واتبعوا ولقد جاءهم من األنباء ما أهواءهم وكل أمر مستقر.

فيه مزدجر..النار تعلو رويدا رويدا في المدفأة، تبعث الدفء

فيالبيت المقرور، والطفل يواصل التالوة، مقلدا الوالد، صاحب الصوت الجميل،الرخيم، والشيخ

. أحمد يهز رأسه راضيا،مرتاحا* *

وما إن يطمئن إلى انتشار الدفء في البيت حتى يأخذ مكانه على حشية من الصوف، إلى جوار المدفأة، ويأخذ هو في التالوة، هذه المرة، مقلدا

الشيخ محمد رفعة، أشهر مقرئ عرفه ذلك الزمان. وتستيقظ األسرة كلها.. لتجتمع حول الوالد، وتستمع

قرية النعيرية، في شمال سورية، في لواء إسكندرون. )1(

205

إلى التالوة الجميلة، تشق سكون القرية الوديعة،الهادئة، قبيل السحر.. وكانت سورة

الرحمن اختياره األول.كان الطفل الشاعر يحس أن موسيقا السماء كلها

تنهمر عليه.. وهو ينصت إلى الوالد الشيخ يعطر فضاء الليل بهذه اآليات:

الرحمن. علم القرآن. خلق اإلنسان. علمه .البيان..

إلى أن يصل إلى هذه الذروة الرائعة:فبأي آالء ربكما تكذبان.

كانت األسرة كلها تحاول أن تردد وراءه بصوتخفيض ما ينطلق به الصوت الفخم الجميل،

صوت الشيخ أحمد، ثم ما تلبث التالوة أن تهدأ ليقيم الشيخ صالته.. ونحن من حوله خاشعون.

206

أخي الكبير

محمد العيسى

يجيئني نبأ وفاته من الالذقية.. وأنا في أعماق اليمن.

أطوي البرقية بين يدي، وأشرد بعيدا في الزمن..

إنه أخي الكبير محمد، الذي عرف بكنيته بين األصدقاء والزمالء «أبو بسيم».

أوجز األعوام الطوال في لمحة، وأعود إلى ضفة «العاصي»في حارتنا الصغيرة، في لواء

إسكندرون.كان يحب السباحة، وهو الذي علمني أولى نخرج من الماء معا دروسها العملية في النهر.

لنتخذ لنا مكانا في ظل أقرب شجرة، ثم يبدأ تعليمي أولى الخطوات في هذه اللغة الجديدة التي فرضها

االنتداب الفرنسي على سورية: اللغة الفرنسية.كان محمد العيسى أول طالب من الريف كله

يلتحق بالمدرسة في المدينة. لقد أصر الوالد الشيخ أحمد أن يفتح أبواب التحصيل والعلم أمام أوالده،

وأن يكون بهذا رائدا وقدوة في ريفنا المهمل الفقير كله.

.. وأدخل معه المدرسة في المدينة بعدئذ وتكون محنة اللواء.. وننزح معا إلى سورية.

207

وبالشهادة الثانوية األولى التي كان هذا الريفي المكافح يحملها يحصل على وظيفة معلم ابتدائي،

ونعيش معا أعوام الهجرة والغربة العجاف.من قرية.. إلى قرية.. في جبال الالذقية كان

يتنقل، وأتنقل معه.ويستقر أخيرا في الالذقية نفسها، وأعيش أنا في حلب ودمشق، ولكن خيوط الطفولة بيننا ال تنقطع.. أزوره ويزورني ما أتيحت لنا الفرص، ويحس أبدا

أنه الوصي على أخيه الصغير الذي شب عن الطوق.

* * وتكون له أسرته.. وتكون لي أسرتي أيضا من

أوالد وأحفاد.. ولكن «أبا بسيم»كان يشعر في أعماقه أنه هو الراعي الكبير لألسرة كلها.. معنويا

على األقل.يقرأ كل ما أكتبه وأنشره من شعر ونثر.. ويهز رأسه من حين إلى حين إعجابا ـ ربما ـ بهذا األخ

الصغير الذي علمه أولى دروس السباحة في «العاصي»، وأولى دروس اللغة الفرنسية.

* * يا أبا بسيم! فقد كنت في طليعة رحمك هللا.. الذين شاطروني حلو الحياة ومرها في الزمن

العصيب الذي اقتلعنا أشواكه بأيدينا في كل خطوة خطوناها على طريق العمر.,

م1994تعز:

208

الخضر..

على شاطئ السويدية

قبيل الفجر.. تستيقظ الوالدة أم محمد وتأخذ في إعداد «الصرة» التي ستكفينا مؤونة الطعام حتى

صباح الغد..األسرة كلها تستيقظ معها. الوالد الشيخ أحمد يتلو

ثم يلتفت إلينا، عشرا من القرآن، يؤدي صالته.. مباركا نشاطنا عند الفجر، مسرورا بحماستنا للرحلة

التي ما زلنا نحلم بها منذ أسابيع..

خيوط الفجر األولى تغمر الهضاب المجاورة «لبساتين العاصي».. أنسام الصيف الحلوة النقية تمأل

البيت.. تعبره من كل النوافذ. وإن هي إال لحظات.. حتى نكون قد غادرنا المنزل وأخذنا طريقنا بين أشجار التوت والتين إلى ضفة «العاصي»القريبة، متجهين إلى شاطئ البحر، الشاطئ الرملي الناعم الرحب في ميناء

نفسه.السويدية.. الذي ينتهي فيه العاصيعدد كبير من أبناء القرية، والقرى المجاورة،

سيلحق بنا عما قليل..كلنا على الشاطئ سنزور «مقام الخضر»

الرملي الناعم في ميناء السويدية.. نلتمس بركاته، ونقضي إلى جواره نهارنا وليلنا، ولن نعود إال في

صباح اليوم التالي.* *

209

إنها «نزهة القرية» المألوفة في الصيف وربما تكررت أكثر من مرة في فصل الصيف الجميل.

مزار الخضر أو مقامه البد أن تؤمه القرية من حين إلى آخر تلتمس منه البركة، وتفي له نذورها، وتنام

إلى جواره، مفترشة الرمل الناعم حتى الصباح وقلما كانت األغطية تستخدم فالثواب البد أن يكون

أعظم إذا لم يكن هناك أي واق من البرد.لماذا اختار الخضر مقامه هذه المرة .. ولكن

على الرمل الناعم، الممتد أمياال على شاطئ البحر، في ميناء السويدية؟ لقد عودنا أن يحتل قمم الروابي

الخضر أو صدر الغابات الصغيرة على الشاطئ السوري كله.

ولم يبق السؤال بال جواب..فقد أنبأنا الشيخ أحمد فيما بعد أن الخضر ـ عليه السالم ـ البد أن يكون في كل مكان، يوزع بركاته على الناس، وال سيما الفقراء الذين يحتاجون إليه

من أمثالنا.* *

بعد مسيرة ساعتين.. على طريق ضيق، تملؤه الحجارة المفتتة، واألشواك نصل إلى السويدية..

البلدة الصغيرة التي تنتثر حوانيتها البائسة هنا وهناك، ثم ما نلبث أن نتركها وراءنا ونمضي إلى الشاطئ الرملي الناعم الذي كان يغمرنا بالسعادة

والفرح، ونتحلق حول «مقام الخضر» الذي يتوسط الرمل.

قبة بيضاء.. تنتصب مهيبة، صامتة، في هذا المدى من الرمل الضارب إلى الصفرة، كنا نعلق

210

ونعدها ـ يعدها بعضنا على األقل ـ عليها أحالمنا.. مالذا قادرا على أن يدفع عنا كل ألوان األذى

والبالء..

الشمس في الضحى.. وأمواج البحر القريبة منا تدعونا إلى صدرها، نحن الصغار. وما هي إال

حتى نكون قد تجردنا من أثوابنا البسيطة لحظات.. التي تستر أجسامنا، وألقينا بأنفسنا في أحضان

الموجالذي يتمازج فيه األزرق واألخضر

والالزوردي واألبيض والداكن والشفيف..يا لروعة الشاطئ، شاطئ السويدية الهادئ،

! ويا الذي يترامى مدى البصر عن يمينك وشمالكلسعادة هؤالء األطفال، أطفال نهر العاصي، الذين

ينتثرون كحبات اللؤلؤ فوق األمواج التي لم تكن تخيفهم، فقد كان العاصي قد روضهم على خوض

مياهه، والسباحة فيه،من الصباح إلى المساء.الكبار من أهلنا ما يلبثون أن يلحقوا بنا ليتفقدوا

هؤالء «العفاريت» الذين ألقوا بأنفسهم في مياه الشاطئ منذ أكثر من ساعتين.

إنهم يخشون أن يوغل بعضنا بعيدا في الماء .. ويعرض نفسه للغرق

ولكن (عفاريت العاصي) كانوا أرشق حركة

وأجرأ من أن يخيفهم هذا األزرق الفاتن الذي ينتثرون على صدره كحبات اللؤلؤ.

* *

211

ونرتدي أثوابنا البسيطة التي كنا ونترك البحر.. قد ألقينا بها قريبا منه على الرمل.

لم نكن نعرف شيئا اسمه لباس السباحة ذلك شيء عرفناه ـ كما ذكرت مرة ـ بعد (المايوه).

زمن طويل.

نعود إلى أهلنا المتحلقين جماعات حول الخضر، لنصيب بعض الشطائر، تكون بمنزلة غداء لنا، ثم

ندعهم يهيئون أنفسهم لجلسة المساء الممتعة.

وجلسة المساء كانت حدثا ال ينسى.. جمهور حاشد من أبناء الريف، يعرف بعضهم بعضا،

يمدون أمامهم ألوان الطعام والشراب ثم يبدؤون السمر.. وترتفع األصوات بعد قليل، تطلب سماع

الحنجرة الرائعة، الصوت الفخم، العذب الذي يأخذ باأللباب صوت الشاب القروي أحمد العزازي الذي كنت أعرفه جيدا، ويعدني صديقه الصغير، ويطلب إلي، من حين إلى آخر، أن اختار له بعض المقاطع الجميلة من الشعر العربي يحفظها ويغنيها بالطريقة

التي تحلو له..

هذا الريفي البسيط، لم أسمع في أحمد العزازي.. طفولتي صوتا أجمل وال أعذب من صوته. كنت

يختار كرسيا يجلس عليه، ثم أسميه: عطاء السماء. يبدأ غناء «يا جارة الوادي»التي كان مطرب الملوك واألمراء محمد عبد الوهاب قد غناها

وأطلقها في العالم العربي من عهد قريب.

212

وأكاد حتى الساعة أجزم أن مطربنا أحمد العزازي لم يكمن أقل روعة من مطرب الملوك واألمراء في أداء الرائعة الفريدة لشوقي أمير

لكم كان الوالد الشيخ أحمد ـ وهو الشاعر الشعراء. الذواقة ـ يترنح طربا وهو يستمع إلى بيت الختام

من (جارة الوادي)،ال أمس من عمر الزمان وال

غ

جمع الزمان فكان يوم رضاك .. يا أبنائي. هذا البيت ليس غزال : كان يعلق قائال

هذا من أبيات التصوف العميق، يتحدث عن اللحظة التي تصلك بال، حيث ينصهر الزمان في

وقفة واحدة هي وقفة االتحاد بالخالق، والمؤنث هنا فلسفة خاصة بالشيخ ليس إال رمزا للذات اإللهية.

أحمد.. كنا ال نملك إال أن نعجب بها ولو بقي الغزل هو الذي يستهوينا ويأسرنا.

تصدح بها حنجرة .. وتتوالى األغاني بعدئذ

مطرب الريف الساحر ابن «حارة القلعة».. التي تجاور حارتنا «بساتين العاصي»، وينتشي

. وما تلبث «الدبكة»أن تعقد بعد الجمهور طرباعقد من الصبايا والشباب يدقون الرمل الناعم قليل. بأقدامهم على صوت المزمار والطبل.. وإذا جلسة

السمر قد تحولت إلى عرس بديع من أعراس يظل الفرح فيه يغمر الجميع حتى ساعة الريف..

متأخرة من الليل. كل هذا.. والقبة البيضاء إلى جوارنا ترف بأجنحتها حولنا، وتنثر بركاتها علينا،

213

أو هكذا كان يخيل إلينا نحن الذين جئنا من قرانا لننعم بليلة سمر وغناء وفرح ننسى بها متاعبنا وهمومنا التي كنا نرزح تحتها على مدار السنة.وما إن يطلع الصباح حتى تكون أم محمد قد بدأت تعد العدة للعودة إلى القرية، إلى البيت،كما

يفعل جيرانها.بعد قليل.. سنودع «مقام الخضر»ـ عليه السالم ـ وآثار الرمل الناعم، رمل شاطئ السويدية البديع

ترافق خطواتنا طوال الطريق، ونحن عائدون. حاشية:

أتيح لي أن أزور بعد أكثر من ربع قرن.. شاطئ السويدية مرة واحدة.. وأنا أحمل ذكرياتي القديمة في كل جارحة من جوارحي،فماذا رأيت؟ فندق أنيق من أحدث الفنادق قد أقيم على الشاطئ

إلى الجوار.. وبدا صديقي القديم «مقام الخضر»قبة صغيرة باهتة ال تأخذها العين.

وحز المشهد في نفسي، وتمنيت لو أن قبة صديقي القديم حظيت بشيء من االهتمام لتبدو أبهى

وأنضر مما شاهدتها في تلك الزيارة الفريدة.

2005آب

214

الطفولة وحالق تعز

.. أدخل إلى دكان الحالق كالمعتاد.. ألقي رأسي على حافة الكرسي العالية، واستسلم للموسى واليد

الخفيفة الحاذقة.تواجهني فجأة إلى الجانب األيمن من المرآة

ورقة كبيرة بال إطار، علقت بعناية، تحمل ثالثة أبيات من الشعر، خطها خطاط ماهر، وضبطها

بالشكل، من دون أن يذكر شيئا عن موضوعها أو عن قائلها.

على الجدار صور وزينات عديدة، علقت كيفما ولكن أبيات الشعر كانت تبدو وكأنها هي اتفق.

وحدها التي تلفت النظر وتستحق االهتمام، وربما اهتمام األخ «محمد»نفسه، قبل اهتمام أي من

. الزبنكانت األبيات تنسكب في عيني، ثم تتغلغل في

األعمال ذكرى بعيدة، بعيدة، تضيء فجأة أعماقي، وتردني طفال في السابعة أو الثامنة ـ ال أستطيع أن أحدد ـ في «كتاب»الشيخ أحمد في حارة «بساتين

العاصي».ورقة بيضاء تلمع اآلن أمامي، أراها بأشد ما يكون الوضوح، بل إني أكاد ألمسها بيدي. ورقة

بيضاء ناصعة يخط عليها أبي الشيخ أحمد، خطاط البارع المجيد، هذه األبيات الثالثة «أقالم القصب»بالذات، ويضبطها بالشكل، كما فعل زميله الخطاط

215

ثم يناولني إياها، أنا ابنه الصغير، العربي في اليمن. : قائال في نبرة حازمة ال تخلو من حب عميق

انسخ هذه األبيات من خمس إلى سبع مرات.. وإياك أن تنحرف بكلمة من كلماتها، أو حرف من

حروفها، عن األصل.لتكن السطور التي تكتبها مستقيمة ال تنزل إلى أسفل، وال تصعد إلى أعلى. قلد جيدا كل حرف، . خطنا وحاول أن تكون «كتابتك»كاألصل تماماالعربي كنز من كنوزنا الثمينة، وعلينا أن نتقنه

ونفخر به.حكمة كان الوالد الشيخ أحمد يحرص على

ترديدها في كل مناسبة من مثل هذه المناسبات. وقد كلفته أن ينسخ ـ على امتداد العمر ـ عشرات

الدواوين لشعراء العربية البارزين بخطه المتقن الجميل.

وآخذ الورقة البيضاء، تـزين رأسها األبيات الثالثة، وأبدأ التمرين.

تمرين شاق يبذل فيه الطفل الصغير جهدا يرهقه ويحمله أكثر مما يطيق، ولكنه في أعماقه راض

بهذا الجهد كل الرضا، وسعيد كل السعادة.: كانت األبيات الثالثة تقول

إذا رمت أن تحيا سليما من األذى وذنبك مغفور، وعرضك صين لسانك ال تذكر به عورة امرئ فكلك عورات، وللناس ألسن

216

.. إن أبدت إليك معايبا وعينكيا عين، للناس أعين فدعها، وقل: حكمة رصينة لإلمام الشافعي، يصوغها في هذا

السبك الرصين، ثم تتناقلها األجيال في طول العالم العربي، وعرضه، تتخذ منها مثال وقدوة في الفكر،

وفي السلوك، وفي النظم.. وحتى في تعليم الخط للصغار.

سر من أسرار التراث الذي يقاوم الزمن، ويتسرب إلى خاليا األمة، عبر تاريخها الطويل،

فيصبح جزءا منها، وتصبح جزءا منه، شعرنا بهذا أو لم نشعر به في معظم األحيان.

كان لكل من أبيات الحكمة المأثورة منزلة خاصة عند الشيخ أحمد. في المرتبة األولى كانت

تأتي أبيات المتنبي، من مثل:ال يسلم الشرف الرفيع من األذى

حتى يراق على جوانبه الدم ومثل:

تريدين لقيان المعالي رخيصة والبد دون الشهد من إبر النحل ثم أبيات من مثل تلك التي ذكرناها لإلمام

الشافعي، ثم تتدرج الحكم أقل وزنا ـ في رأيه ـ : فأقل، حتى تصل إلى مثل قول ابن الوردي

ال تقل أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل

217

وربما كان في هذا بعض الظلم لحكمة ابن .. ذلك كان رأيه. .. ولكن الوردي* *

رأسي ما يزال عل حافة الكرسي العالية.. واألخ «محمد» المعلم يكاد يفرغ من مهمته..

واألبيات ما تزال تنسكب في عيني،ثم تتغلغل في .. متوهجة.. .. حية .. مضيئة األعماق

«المزين» الرصين الوقور يحس أني مشغول بالورقة المخطوطة أمامي. يسألني في هدوء:

هل أعجبتك؟كانت العبارة الوحيدة التي نطق بها في هذه

الفترة كلها.: قلت

هي أبيات من شعرنا العربي القديم. أعادتني إلى طفولتي.

ورحت أقص عليه قصتها، وهو يصغي إلي في اهتمام شديد.

: ثم أردفت قائال أتعرف من قائل هذه الحكم؟

ال، أحد الخطاطين تركها لي، وعلقتها : أجاب هنا للذكرى.

ذكرت له اسم قائلها.. ثم قرأتها أمامه بنبرة واضحة، وإلقاء عربي يليق بالشعر، وشرحت له

بعض مفرداتها الصعبة. كان يتابعني في شيء من الزهو واالعتزاز.

. إنه يعلق في حانوته شيئا ثمينا هذا ما كانت نظراته تقول..

218

البد أن أكتب شيئا عن هذه «اللوحة»ذات : قلت يوم، يا أخ «محمد»!

هز رأسه برصانته، ووقاره المعهودين، وكأنه يحثني على ذلك.

تناولت «حقيبتي»من الركن الذي تركتها فيه.. ثم ودعته.. وانصرفت.

م1993/1/7تعز:

219

من مرفأ الذاكرة

اللغةلن تخرج إلى اللعب مع رفاقك، قبل أن تحفظ -

قصيدة: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي

للمتنبي، عن ظهر قلب..يأتيني صوت الوالد الشيخ أحمد من أقصى البيت

(العلية).رفاقي الصغار يملؤون ساحة القرية، وهم

يصيحون ويتواثبون في ضوء القمر، ما أروع أن يلعب األوالد على بيدر القرية ـ وهو ساحتها في

الوقت نفسه ـ في ليالي الصيف المقمرة! بي رغبة جامحة ألن أكون معهم اآلن.

أنا صبي مثلهم في التاسعة أو العاشرة. ما لي ولقصيدة: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي.. للمتنبي؟ ليذهب هو وقصائده الصعبة المرهقة إلى الجحيم.

إني أريد أن ألعب، أن أصرخ، أن أركض، أن محمد وعلي وحسين وصالح، أبناء .. أسبقهم جميعاعمي.. أنا أسرعهم جميعا في الجري، وأخفهم في

الوثب.ولكن أبي الشيخ أحمد، النافذ الكلمة، ال يطيب له

أن ينام قبل أن يسمع من صغيره قصيدة محفوظة عن ظهر قلب.. مرة للمتنبي، وأخرى لشوقي (أمير

ـ كان يتعمد أن يلفظ اللقب بشيء من الشعراء)

220

التوقير والفخامة ـ وثالثة البن الفارض ـ الوالد يحب أشعار المتصوفة ـ ورابعة ألبي فراس الحمداني..

وهكذا يصر على أن يقيدني إلى جانبه في البيت، وأن يأمرني بإبقاء ديوان المتنبي مفتوحا

على ركبتي، ثم يعيد إلي أمره الصارم الذي لم يكن يخلو من نبرة حب:

لن تخرج إلى اللعب مع هؤالء (العفاريت) قبل أن تفرغ من حفظ القصيدة جيدا، ثم تغنيها لي غدا

حين يجتمع الجيران واألقارب في بيتنا.وأعيد أبيات القصيدة الصعبة الجميلة المرهقة.

هذه األبيات المترعة اعترف أنها كانت جميلة.. أناقة وقوة، وبيانا عربيا كنت أحسه يتغلغل في

أعماقي، دون أن أعيه بوضوح، ومع ذلك فقد كنت أحب هذه اللغة العالية التي تنغرس في كل ذرة من ذرات وجودي الغض، وال يهمني في أي موضوع

كانت:لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي

وللحب ما قد ذاب مني وما بقي وما أنا ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق وغضبى من اإلدالل، سكرى من

ا ال

شفعت إليها من شبابي بريق وأفرغ من حفظها، وأحس أنه ما يزال لدي

بعض الوقت لالنعتاق من سجني، ويأذن لي الوالد،

221

فأمرق كالسهم إلى الساحة، أغيب بين العفاريت الصغار.

أخلو إلى نفسي تحت شجرة وفي اليوم التالي.. لشد ما أحببتها، شجرة التوت، صديقتي األولى..

التوت هذه التي كانت تظلل باحة دارنا في القرية، وأمسك بيدي ورقة وقلما، ثم أحاول أن أقلد المتنبي، وأن أقول شعرا مثله، ولم ال؟ إني أحس في رأسي شيئا يلح علي أن أتحدى، أن أبدأ هذا الطريق، أن

أقذف نفسي في المجهول.الشعر.. هذا الكائن الغريب المجهول، الذي كان كل من حولي من أبناء قريتي، الفالحين البسطاء،

ينظرون إليه نظرة تقدير وإجالل تصل إلى حد التقديس.

أن تكون شاعرا، يعني أن تكون عاليا متميزا، قد خصك هللا بهذه الهبة التي ال ينالها إال النادرون. الشيخ أحمد نفسه شاعر.. ولهذا كانت له مكانة ال

تدانيها مكانة في طول الريف وعرضه.وفي أقل من ساعة، ونصف الساعة، تكون بين

يدي قصيدة من بضعة عشر بيتا، نظمتها على وزن قصيدة شاعر العرب العظيم، واخترت لها الروي

نفسه، ما أزال أذكر مطلعها:أال يا أزاهير الحديقة أشرقي

ألنهل شيئا من شذاك واستقي كانت أزاهير الحديقة الصغيرة (الحاكورة) التي

تحيط بالبيت أقرب شيء إلى خيال الشاعر الصغير،

222

فال عجب أن يختارها موضوعا لتجاربه األولى، ويستلهمها باكورة شعره.

وكان أول من قرأتها عليه رفيقة طفولتي الصغيرة سلمى، والتي ما أن سمعتها حتى أسرعت إلى الوالد تخبره، وهي تكاد تطير من الفرح، أن سليمان يكتب

شعرا مثله، وأنه يريد أن يسمعك ما كتب.وأسمع الوالد ما كتبت، ويهز رأسه، ثم يصمت

أنت منذ اآلن شاعر مثلي يا بني، قليال ويقول: وربما كنت أحسن مني. إحفظ كل ما تكتبه في دفتر،

وال تضع منه شيا، ألم أقل لك إن حفظك لقصائد الشعراء العظام سيعود عليك بنفع عظيم؟

ترتيلي للقرآن على يديك وأنا في الوالد الجليل! السابعة، وحفظي للمعلقات (جمهرة أشعار العرب ألبي زيد القرشي التي رافقت طفولتي، ما زالت

تحتل صدر مكتبتي) ومئات القصائد لشعرائنا الكبار، كل هذا كان حجر األساس الذي بني عليه وما أظنني أضفت إلى هذا األساس بعد مستقبلي.

ذلك إال ما وسعه وأغناه فقط.أيها الشيخ الجليل ـ سقى هللا مثواك، ونضر ذكراك ـ لقد كنت أستاذي األول، أنت و(كتابك) الرائع، في حارة بساتين العاصي، في شمالي

سورية، وكنت تصر أن تسميه المكتب ال الكتاب، وما أظنك عدوت الصواب.

.. وشكرا لصديق طفولتي األوفى: شكرا لك ديوان المتنبي.

223

أحالم شجرة التوت

من دفتر الطفولة.

قفز إلى خاطري هذا العنوان حين كنت أهم بطباعة ثماالتي الثالثة.. لماذا شجرة التوت؟

في باحة بيتنا القرميد، وفي حارة «بساتين العاصي»من قرية النعيرية، كانت شجرة توت

ضخمة تنتصب في الباحة حتى لتكاد أغصانها العليا تالمس قرميد البيت. هذه الخضراء المهيبة رافقت

.. طفولتي، وكانت مأواي في فصل الصيف كله ولكن كيف؟

كنت بمساعدة أخي الكبير أنصب خيمة لي في قلب الشجرة، نصنعها من بعض األخشاب الصغيرة واألغصان، وأجعلها غرفة نومي وسمري في ليالي والطريف في شجرتي هذه أن دالية كبيرة الصيف. كانت تتسلقها، وتمد عناقيدها حولي، أقطف منها ما

أشاء، ساعة أشاء.وقد تحدثت عن هذا المأوى الشاعري في قصة

طفولتي التي كتبتها شعرا لألطفال، بعنوان: «أحكي لكم طفولتي يا صغار»ـ ترجمت القصة إلى اإلنكليزية والفرنسية ـ.. فلماذا ال أنقل بعض

المقاطع من هذه الملحمة الشعرية التي تحدثت عن خيمتي الصيفية في قلب شجرة التوت؟

.. في حضن التوتة

224

.. في قلب التوتة .. في الجو كانتسقفها أغصان جدرانها أغصان وأرضها أغصان في الجو خيمتي.. مثل المروحة الخضراء ثوتتنا في صحن الدار أضخم من كل األشجار فيها.. في هذي التوتة أبني عشا كالعصفور بين الظل وبين النور أسكنه في فصل الصيف

.. .. وفيه أقيم فيه أنامحلوا حلوا كان الصيف في عرزالي، حيث أقيم * *

وعند المساء تمد النجوم إلي أصابعها الناعمة وتسمع شعري، وتغفو النجوم

225

.. على سطح خيمتنا الحالمةوكانت على توتتي دالية .. تعرش

.. تمتد مثل الحكايةتضيع بدايتها والنهاية تدلي عناقيدها الحالية

.. عناقيد حمر عناقيد سود

.. بأكرم ما في الدوالي تجود * *

أحب الصباح أحب المساء أحبك يا خيمتي في الفضاء بعيدين صرنا..

غريبين صرنا..وما زلت أرجوحة من ضياء

تمر ببالي تضيء الليالي

وأرجع طفال مع الصيف جاء وتشاء األقدار أن يغادر الطفل قريته وخيمته

.. الصيفية.. ويرحل بعيدا

226

ولكن صورة شجرة التوت الضخمة تظل تمأل خياله وذاكرته، حتى تصبح جزءا من حياته

وطفولته، فال عجب أن يتردد ذكرها في العديد من قصائده، وأن تصبح عنوانا إلحدى مجموعاته

الشعرية بعد ذلك، وهي الجزء الثالث من الثماالت الذي يحمل عنوان: أحالم شجرة التوت.

* * إنها ليست شجرة.. بل جزءا ال يتجزأ.

من حياة شاعر.

م2009/1/2دمشق:

227

صديقي الجريح

على هامش معرض لوحات فنية..

... وقفت أمام لوحة «العودة»، أتأمل القروي الطيب، وزوجته المثقلة بحمل من أعشاب الحقل على كتفيها، وهما يدفعان أمامهما ما يملكان من ماشية لم تكن أكثر من عنزين وخروف صغير.

مثلهما.. كنت أعود إلى القرية قبيل المغيب أكثر أيام الصيف.

ومثلهما كنت اصطحب الخروف الوحيد الذي كانت األسرة تمتلكه، اصطحبه إلى المرعى، إلى أرضنا التي تجاور الساقية، وأقضي معه سحابة النهار.. هو يقضم العشب.. وأنا أقرأ فصلين أو

ثالثة من «تغريبة بني هالل»، ثم استظهر قصيدة من ديوان قديم أمرني الوالد باستظهارها قبل النوم..

ثم أشرد في السماء الزرقاء، وقمم الهضاب المجاورة حتى تنحدر الشمس إلى الغروب وراء التالل الخضر التي تحيط بقريتي.. عندئذ أنادي الخروف، صديقي الوديع الجميل، فيرفع رأسه،

ويتوقف عن قضم العشب وكأنه يقول: أنا معك.. لقد حان وقت العودة فعال إلى البيت.

شردت في السماء الزرقاء، وفي ذات اليوم.. وفي قمم الهضاب المجاورة أكثر مما ينبغي، وعدت متأخرا بعد أن لمت الشمس آخر ذيولها عن الحقول.

. كان المساء قد بدأ يهبط على الدرب رقيقا شفافا

228

ورحت أسرع الخطى، فقد كان للظالم رهبته في قلب الفتى الصغير في ذلك الطريق الموحش الذي

خال من المارة منذ الغروب.وكان الخروف، صديقي الوديع الجميل الذي أحببته وأحبني حتى خلته يشاركني ما أقرأ وما

أحفظ من أشعار، كان يمشي ورائي، ويتبعني في صمت وهدوء، وأسمع وقع خطواته غير بعيد عني،

فاطمئن إليه، ويطمئن إلي، ويأنس كالنا باآلخر، ويدفع شيئا من رهبة حلول الظالم عن نفسه.

وفجأة.. يعترض طريقنا سلك من تلك األسالك الشائكة التي اعتاد بعض الفالحين أن يسوروا أرضهم بها،والتي كنا نعرف كيف نجتازها في

ضوء النهار من فجوات معروفة، دون أن نعرض أنفسنا لألذى.

وقفزت بخفة فوق السلك الشائك..وتبعني صديقي الوديع الجميل.. فقفز من فوق

ولكنه ما لبث أن أطلق صراخا حادا .. السلك أيضاوأخذ يجر رجله وهو يهم باللحاق بي، والدم .. مؤلمايسيل من باطن رجله الجريح على األرض. أذهلتني

المفاجأة.. فتلقيت صديقي المخضب بالدم، بكلتا يدي، ورحت أبحث عن موطن الجرح.. وإذا السلك الشائك اللعين قد انغرز بقوة في جلد المسكين، وشق

. باطن رجليه الخلفيتين شقا بالغا عميقاوبسرعة.. عمدت إلى كم قميصي الذي ارتديه

فانتزعته بجذبة عنيفة من حذاء الكتف، ومزقته قطعتين، ورحت أعصب رجلي الصديق الجريح المسكين، وهو مستسلم لي في لهفة ورجاء. وأنا

229

أحاول أن أشد قطعة القماش على الجرح، وأوقف النزف المخيف.

ال أدري كيف وصلت مع صديقي الجريح إلى البيت، ولكن بقع الدم التي كانت تزرع دربنا ما

وما تزال سحابة حزن هادئ تزال ماثلة أمام عيني. شفيف تمر في البال، كلما تذكرت الحادثة، بعد كل

هذه السنين. لم أعرف طعم النوم في تلك الليلة.

بقيت ساهرا إلى جانب صديقي الوديع الجريح حتى الصباح..

في اليوم التالي.. ذبح أهلي الخروف..إنهم يريدون أن يريحوه من العذاب.. قالوا لي:

ولكني بقيت زمنا اختلف إلى شجرة في البستان كان الخروف ينام في ظلها، وأقضي هناك الساعات

الطوال في غم، وحزن عميق.

انتزعت نفسي من أمام اللوحة.. وفي هدوء.. وانتقلت إلى استعراض اللوحات األخرى.

230

سليمان العيسى في سطورسليمان العيسى في سطور

م، في قرية 1921- ولد الشاعر سليمان العيسى عام ـ الواقعة غربي مدينة ــالنعيرية ـ حارة بساتين العاصي

. أنطاكية التاريخية على بعد عشرين كيلو مترا- تلقى ثقافته األولى على يد أبيه المرحوم الشيخ أحمد

العيسى في القرية، وتحت شجرة التوت التي تظل باحة الدار، حفظ القرآن، والمعلقات، وديوان المتنبي، وآالف

األبيات من الشعر العربي، ولم يكن في القرية مدرسة غير (الكتاب) الذي كان في الواقع بيت الشاعر الصغير، والذي

كان والده الشيخ أحمد يسكنه، ويعلم فيه.- بدأ كتابة الشعر في التاسعة أو العاشرة. كتب أول ديوان

من شعره في القرية، تحدث فيه عن هموم الفالحين وبؤسهم.

- دخل المدرسة االبتدائية في «مدينة أنطاكية»ـ وضعه المدير في الصف الرابع مباشرة ـ وكانت ثورة اللواء العربية قد اشتعلت عندما أحس عرب اللواء بمؤامرة

فصله عن الوطن األم سورية.- شارك بقصائده القومية في المظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد االغتصاب وهو في الصف

الخامس، والسادس االبتدائي.- غادر لواء اإلسكندرونة بعد سلخه ليتابع مع رفاقه الكفاح

ضد االنتداب الفرنسي، وواصل دراسته الثانوية في ثانويات حماة والالذقية ودمشق. وفي هذه الفترة ذاق

مرارة التشرد وعرف قيمة الكفاح في سبيل األمة العربية ووحدتها وحريتها.

- دخل السجن أكثر من مرة بسبب قصائده ومواقفه القومية.

231

- شارك في تأسيس البعث منذ البدايات وهو طالب في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق ـ كانت «التجهيز األولى»في

ذلك العهد ـ في أوائل األربعينيات من القرن الماضي.- أتم تحصيله العالي في دار المعلمين العالية ببغداد،

بمساعدة من العراق الشقيق.- عاد من بغداد وعين مدرسا للغة واألدب العربي في

ثانويات حلب.م، يدرس ويتابع 1967-1947- بقي في حلب من سنة الكتابة والنضال القومي.

- انتقل إلى دمشق موجها أول للغة العربية في وزارة التربية.

- كان من مؤسسي «اتحاد الكتاب العرب» في سورية عام م.1969

[معن - متزوج له ثالثة أوالد: معن، وغيالن، وباديةطبيب جراح، غيالن مهندس طيار مدني، بادية طبيبة

ياثولوجيا].- يحسن الفرنسية واإلنكليزية إلى جانب لغته العربية، ويلم

بالتركية.- زار معظم أقطار الوطن العربي وعددا من البلدان

األجنبية.- اتجه إلى كتابة شعر األطفال بعد نكسة حزيران عام

م.1967- شارك مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض في ترجمة عدد

من اآلثار األدبية، أهمها آثار الكتاب الجزائريين الذين دكتوراه دولة من ضكتبوا بالفرنسية (زوجته ملكة أبي

فرنسا وأستاذة في جامعة دمشق وجامعة صنعاء).- شارك مع زوجته وعدد من زمالئه في ترجمة قصص

ومسرحيات من روائع األدب العالمي لألطفال.حصل على جائزة 1982- في تشرين األول (أكتوبر)

«لوتس»للشعر من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.

232

م حصل على جائزة المنظمة العربية 1984- في عام للتربية والثقافة والعلوم (الكسو) ألدب األطفال.

م انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية 1990- وفي عام بدمشق.

م حصل على جائزة اإلبداع الشعري، 2000- في عام مؤسسة البابطين.

233

أعمال الشاعر: أ- - األعمال الشعرية (في أربعة أجزاء) عن المؤسسة 1

العربية للدراسات والنشر في بيروت ـ الطبعة األولى م. 1995

- على طريق العمر: معالم سيرة ذاتية، عن المؤسسة 2العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة األولى

م. 1996- الثماالت ـ بأجزائها الثالثة ـ الهيئة العامة للكتاب، 3

م. 2001صنعاء، م.2002- الكتابة بقاء، مؤسسة اإلبداع، صنعاء، 4 م.2004 ، وزارة الثقافة ـ صنعاء،4- ثماالت 5- الديوان الضاحك (جزءان)، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 6

م.2004- وأكتب (قصائد صغيرة لي ولها)، وزارة الثقافة، 7

م.2004صنعاء، م.2005- كتاب الحنين، وزارة الثقافة ـ دمشق، 8 م.2006، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 5- ثماالت 9

م.1983- باقة نثر، دار طالس ـ دمشق، 10 .2007- همسات ريشة متعبة، دار الحافظ ـ دمشق 11- رحلة كفاح (قصة حياة سليمان العيسى وملكة 12

.2007أبيض)، دار الحافظ، - مدن وأسفار، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 13

2009. - كي أبقى مع الكلمة، الهيئة العامة للكتاب، دمشق، 14

2009. - قطرات، تحت الطبع.15

مجموعات شعرية مستقلة: ب-

234

م.1980- حب وبطولة (مختارات)، دار طالس، دمشق، 1 م.1980- موجز ديوان المتنبي، دار طالس، دمشق، 2 م.1995- ديوان الجزائر، وزارة الثقافة ـ الجزائر، 3 م.1996- ديوان فلسطين، دار فلسطين، دمشق، 4 م.1998- المرأة في شعري، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 5 م.1999- ديوان اليمن، صنعاء، الهيئة العامة للكتاب، 6 .2002- بيت وفكرة، وزارة الثقافة، دمشق، 7 م.2004- ديوان عدن، جامعة عدن، 8 م.2004- ديوان صنعاء، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 9

م.2004- دمشق حكاية األزل، وزارة الثقافة ـ دمشق، 10 م.2004- من رحلة الظمأ، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 11 م.2006- أنا وحلب، وزارة الثقافة ـ دمشق، 12 م.2006- أنا وساحلنا العربي السوري، وزارة الثقافة ـ دمشق، 13 م.2006- ديوان لبنان، وزارة الثقافة ـ دمشق، 14 .2006- أنا ومصر العربية، مصر، 15 .2006- أوراق المشتى، 16 .2007- أنا وجزيرتنا العربية، الرياض، 17- دمك الطريق (عمر المختار)، الجماهيرية الليبية 18

2007. .2008 أنا ودمشق، دار الحافظ، دمشق،- 19 .2009 أنا والقدس، الهيئة العامة للكتاب، دمشق،- 20 .2010- ديوان العراق، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 21 - النعيرية قريتي..، تحت الطبع.22- أنا والعروبة، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق، 23

2007. - أنا والطبيعة، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق، 24

2008. - الديوان الضاحك موجزا، الهيئة السورية العامة للكتاب، 25

.2009دمشق، .2010- أنا واألصدقاء، الهيئة العامة للكتاب، دمشق، 26

235

.2011- السفر الجميل، دار جداول، بيروت، 27

أهم أعماله لألطفال: جـ- الشعر

م.1999 ديوان األطفال، دار الفكر ـ دمشق، -1 م.2006- فرح لألطفال، دار الحافظ ـ دمشق، 2- مسرحيات غنائية لألطفال، دار الشورى ـ بيروت، 3

م.1980- الشيخ والقمر (مسرحية)، دار طالس ـ د مشق، 4

م.1987 م.1981- قصائد لألطفال، مكتبة لبنان ـ بيروت، 5 م.1986- أغاني النهار، مكتبة لبنان ـ بيروت، 6 م.1986- أغاني المساء، مكتبة لبنان ـ بيروت، 7 نشيد 200- كتاب األناشيد (جزءان)، يضم الجزء األول 8

ملحن، مع نوطاتها الموسيقية، باالشتراك مع كامل القدسي (قرابة نصف أناشيده لسليمان العيسى).

ويضم الجزء الثاني اللوحات الغنائية والموشحات مع نوطاتها الموسيقية، وزارة التربية ـ دمشق.

م 2005- كلمات خضر لألطفال، وزارة الثقافة ـ دمشق 9 (بالعربية والفرنسية).

م.2001- أغاني الحكايات، أبو ظبي، 10- أحكي لكم طفولتي يا صغار، دار الحكمة لندن، 11

م (بالعربية واإلنكليزية).1993م (بالعربية 2001، الجزائرأحكي لكم طفولتي يا صغار،

ة).فرنسيوال- ما زالوا الواحة، اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق، 12

م.1985 .2009- أراجيح تغني لألطفال، دبي، 13

236

.2009- حدائق الكلمات، بيروت، 14

النثر- شعراؤنا يقدمون أنفسهم لألطفال، دار اآلداب ـ 1

م.1978بيروت، - وائل يبحث عن وطنه الكبير، قصة نثرية نشرت في 2

«أوراق من حياتي»، بالعربية والفرنسية، وزارة الثقافة ـ م.2003دمشق،

- قصص نثرية من التراث: لبيك أيتها المرأة، الحدث 3 الحمراء، ابن الصحراء، دار اآلداب، بيروت.

- قصص مزيج من الشعر والنثر: الفرسان الثالثة، 4وضاح وليلى في وطن الجدود، سرب البجع األبيض، دار

األهالي ـ دمشق.- قصتان من ألف ليلة وليلة، علي بابا واألربعون لصا، 5

وعالء الدين والفانوس السحري، مكتبة لبنان ـ بيروت.

القصص المعربة جزءا) دار طالس ـ دمشق 27- قصص بهيجة (1

(باالشتراك مع بهيج البدين). جزءا)، دار طالس ـ دمشق، 28- كل يوم حكاية (2

باالشتراك مع صالح مقداد. قصة قصيرة)، دار طالس ـ 100- لكل حكاية لعبة (3

م، باالشتراك مع صالح مقداد.1994دمشق، - شجرة ندى (مجموعة قصص قصيرة)، دار الفكر ـ 4

م، باالشتراك مع صالح مقداد.1994دمشق، قصص)، دار يمان ـ عمان، 10- أحلى الحكايات (5

باالشتراك مع د. ملكة أبيض. - سالسل عديدة هي:6

237

الحديقة المعلقة، قصص يحبها الجميع، يحكى أن، حكايات الجني المرح، حكايات السلحفاة، حكايات ملونة، روائع من

القارات الخمس، مسرحيات عالمية لألطفال؛ دار الفكر ـ دمشق، باالشتراك مع الدكتورة ملكة أبيض زوجة

، قصص وحكم من قديم الزمان، وحكايات من الشاعرتراث األمم، دار الحافظ، دمشق، باالشتراك مع د. ملكة

أبيض.

ما ترجم له: د- - الفراشة وقصائد أخرى: نقلتها إلى اإلنجليزية الشاعرة 1

م.1984برندا ووكر، دار طالس، دمشق - رائحة األرض: نقلها إلى الفرنسية الشاعر اتاناز 2

م.1987فانشيف دو تراسي، دار طالس، دمشق، - الشجرة: ديوان شعر لألطفال، ترجم إلى الروسية 3

م.1984وصدر في موسكو - أحكي لكم طفولتي يا صغار: نقله إلى اإلنكليزية عبد 4

هللا كامل، وصالح مقداد، صدر عن دار الحكمة في لندن م.1993

- أحكي لكم طفولتي يا صغار: نقلته إلى الفرنسية 5الدكتورة ملكة أبيض، طبع في الجزائر ـ العاصمة ـ

م، وفي وزارة الثقافة بدمشق ضمن «أوراق من 2001 م.2003حياتي»،

- وائل يبحث عن وطنه الكبير، نقلته إلى الفرنسية د. 6 م.2003ملكة أبيض ضمن «أوراق من حياتي»،

- قصائد مختارة: نقلتها إلى الفرنسية الدكتورة ملكة 7أبيض بالتعاون مع مبروك مبارك، وزارة الثقافة ـ صنعاء

م.2004م، 2003- اليمن في شعري، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 7

ترجمته إلى الفرنسية د. ملكة أبيض.

238

م، 2003- أوراق من حياتي، وزارة الثقافة ـ دمشق، 8 ترجمته إلى الفرنسية د. ملكة أبيض.

م، 2005- كلمات خضر لألطفال، وزارة الثقافة ـ دمشق، 9 نقلته إلى الفرنسية د. ملكة أبيض.

م، نقلته 2006- قصائد حب، وزارة الثقافة ـ صنعاء، 10 إلى الفرنسية د. ملكة أبيض.

أهم ما كتب عنه: هـ- - مع سليمان العيسى: مجموعة من الكتاب ـ دار طالس، 1

.1984دمشق، - سليمان العيسى ـ ثمانون عاما من الحلم واألمل، 2

الجرادي، إبراهيم، تحرير وتقديم ـ المقالح، عبد العزيز، م.2000إشراف عام، دار الرائي، دمشق،

- وقفات مع سليمان العيسى، أبيض، ملكة، الهيئة العامة 3 م.2001للكتاب، صنعاء،

- رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة نابولي، إيطاليا، 4 م.1995كاالبريزي، آناماريا،

- الشاعر سليمان العيسى، األرناؤوط عبد اللطيف، 5 .2004وزارة الثقافة، دمشق،

- سليمان العيسى في لمحات، أبيض ملكة، وزارة الثقافة، 6 .2008دمشق،

- سليمان العيسى منشد العروبة واألطفال، البقاعي، 7 .1993إيمان، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،

- سليمان العيسى بين جدية الرجال وفرح األطفال، 8الخطيب، خليل إبراهيم، ، الخطيب للطباعة، دمشق،

2005. سليمان العيسى في ديوان األطفال، أبيض، ملكة، دار -9

.2006الحافظ، دمشق،

239

سليمان العيسى شاعر العروبة والطفولة، إعداد. د. -10علي القيم ود. ملكة أبيض، الهيئة العامة السورية للكتاب،

.2011دمشق،

240

المحتوىملكة أبيض ملكة أبيضسليمان العيسى والنعيرية: د. 55 .......................................................................... سليمان العيسى والنعيرية: د.

23 الشعر................................ 25 .........................لماذا الطفولة؟

28 ...................................................في يميني قلب طفل 29 ...............................أحكي لكم طفولتي يا صغار (مسلسل)

98 ...............................................................طفولتي 101 ..........................................................تينة وشاعر

103 ........................................................ساقية الضيعة 105 ........................................................إلى روح أمي

109 ............................................................وفاء ألبي 111 ................................................................منازل

112 .........................................................طفل وشجرة 113 ............................................خط اليد وذكريات طفولة 119 .............................................رسالة من نهر العاصي

123 ..................................................موت رفيق الطفولة 128 ..........................................طفولتي على ضفاف النهر

131 النثر 133 ........................................وائل يبحث عن وطنه الكبير

164 ...........................................هذا الصوت.. أيقظ قريتنا ................................ 201 .............................األعرابي

217 ......................................................رغيف أم محمد 222 .....................................................الغداء في الحقل

224 ........................................................شبابة الشاعر 228 ................................................الشيخ أحمد والتيتانك

................................ 234 .............رمضان والطفل الشاعر................................ 238 ...........................أخي الكبير

241 ..............................................................الخضر 249 .................................................الطفولة وحالق تعز

255 .....................................................من مرفأ الذاكرة 260 ..................................................أحالم شجرة التوت

264 ......................................................صديقي الجريح ................................ ................................سليمان العيسى في سطور 268268 ......................سليمان العيسى في سطور

241